مقدمة

كانت الأسئلة تتزاحم في رأسي عبر السنوات، حتى أمسيتُ عاجزاً عن تجاهلها، وباتت الأجوبة لا تكفيني، ومن هذه الأسئلة: لماذا لا يرفع الله عنا الظلم ونحن ندعوه ليلَ نهار؟ لماذا نحن في ذيل الأمم ونحن أكثر أمة ملتزمة دينياً، ولِمَ طال هذا النصر مئات السنين؟ وأين تكمُن المُشكِلة بالضبط؟ وإذا كان الرسول محمد قد سُحر فكيف بباقي الناس! ومتى سيقوم العالم بحل غايات هذا الدين المتغيرة؟ بل وما الغاية من عدم حلّها إلى الآن؟ وهل بسبب خطأٍ بسيطٍ في نهاية حياتي سيعذُبني الله في أسفل السافلين خالداً مخلداً أبداً في النار! وهل حقيقةً أنا مسؤولٌ عن أفعالي؟ أم أنّ الخيرَ من عندِ الله والشرَ منّي؟ وكيف سيحاسبني الله وهو من منحني هذا العقل الناقص؟ وهل الإيمان قلبيٌّ أم عقليّ؟ فلو كان قلبياً فهو من عند الله، وكيف سيدخلني النار وهو لم يمنحنِ الإيمان؟ وإن كان الإيمان عقلياً؛ فهو أيضاً من منحني هذا العقل الناقص الذي لم يتوصل إلى ما يريده، هل يمكن الاستدلال على وجود الله من خلال العقل؟ وماذا عن التطور والاكتشافات العلمية وأنّ الإنسان وُجِدَ صدفةً؟ أطنان من الأسئلة الأخرى؛ التي لا يمكن لعقلٍ أن يرتاح ما دامت متراكمة بلا أجوبة، وقد فتحتُ بابَ البحث، وباب معرفة الصواب والحقيقة، فكلُّ الأنوار مبدؤها لماذا، وكيف، ومتى!

فالإنسان كلما ازداد علماً، ازدادَ حُريّة

بينوكيو

استيقظ بينوكيو على هذا العالم ليجدَ نفسَه مُقيداً في جسدٍ خشبيٍّ مليءٍ بالعيوب، لم يُعجَب بينوكيو بهذا الجسد وظلَّ يراوده شعورٌ غريب؛ بأنه سيحظى يوماً ما بجسدٍ حقيقيّ من لحمٍ ودم كما يأمل كلُّ كائنٍ خشبيٍ ناقص، لا يعلم كيف ذلك ولا متى، ولا يعلم ما هو اللحم والدم بالضبط، ولِمَ هو سعيد وينتظر هذه اللحظة، كل ما يعلمه أنه ينتظرها بحياته.

سار بينوكيو باحثاً عن إجاباتٍ لتساؤلاته الكثيرة، إذ تساءل عن علة وجوده، ولماذا لا يصل إلى والده الذي صنعه؟ لماذا لا يملك عقله هذه الإجابات؟ وما السبب الحقيقي الذي جعل والده يصنعه! هل والده يحبه؟ وهل سيحبه أكثر؟ وكيف يجعله يحبه أكثر؟ هل سيعاقبه والده إذا أخطأ؟ وغيرها من الأسئلة.

كان بينوكيو كلما تفكر، تصعبت الأمور أكثر، وغرِقَ في دوامةٍ أوسع من الأسئلة التي هو بحاجة إلى إجاباتها، لماذا وماذا وكيف ومتى.

كان بينوكيو في هذا العالم وحيداً، لا يوجد من يجيبه ويؤنس وحشته، ولكنه استمر بتساؤلاته؛ فهل امتلك خياراً آخر!

الفهرس

مقدمة 1

بينوكيو 2

الفهرس 3

كيف تقرأ هذا الكتاب 10

المصطلحات 11

الباب الأول: الكون 12

التجرد 12

نيوتن 14

الفيزياء الحديثة 18

صورة الكون 20

نشأة الكون 22

ظاهرة الانزياح الأحمر 22

المُتفردة والانفجار 24

قوانين الديناميكا الحرارية 25

المليار 27

تشكل الكون 29

الجسيمات والقوى 31

ميكانيكا الكم 32

الاحتمال المُستحيل 35

من وإلى 36

مفارقة فيرمي 37

لوحة فوياجر الذهبية 39

كون منظم 41

الموقع المميز 42

كوكب الأرض 45

النطاق الصالح للحياة 48

نظرية كل شيء 49

الماء 50

المبدأ البشري 53

وما الخلاصة! 54

الباب الثاني: الحياة 55

الخلية 55

مقدمة 55

التكوين 58

جزيء الماء كيميائياً 58

مكونات الخلية 60

الكربوهيدرات 60

البروتينات 63

الإنزيمات 63

الليبيدات 64

الأحماض النووية 65

الأحماض الأمينية 65

التناظر 67

شكل البروتينات 69

تركيب الخلية 72

غشاء الخلية 73

الأُنيبيبات الدقيقة 75

الليسوسومات والبيروكسيسومات 78

الميتوكوندريا 79

دورة حمض الليمون 80

الريبوسومات 81

العمليات ليست كيمياء 82

إنتاج الدهون 83

النواة 84

مقدمة 84

المسامات النووية 85

الدنا 88

الأحماض النووية 90

النسخ والمضاعفة 93

إصلاح الدنا 96

الجينات 97

فوق الجيناتEpigenetics 99

تفعيل الجينات 101

البيضة أم الدجاجة 103

مشاكل الدنا 105

لبنات البناء 105

تفسير الدنا 106

حجم الدنا 107

الخردة 109

البروتينات 110

بناء البروتينات 110

احتمالات البروتين 112

احتمال رسم الموناليزا 114

الكائنات الدنيا 118

البكتيريا 118

السياط والأهداب 120

التطور 123

نظرية التطور 123

الانتخاب الطبيعي 125

الطفرات 127

انسياب المورثات 129

التطور الصغروي والكبروي 129

شجرة الحياة 135

التفسير التطوري 138

عقبات في وجه الارتقاء 139

السجل الأحفوري 139

الانفجار الكبير 141

سمكة الكهوف الشوكية 144

طائر الأركيوبتركس 147

تناظر الكائنات 153

تطور أجنحة الحشرات 156

تطور الثدييات 156

العث الإنجليزي المنقط 167

الأعضاء الأثرية 168

نظرية التلخيص 170

تطور الإنسان 171

القردة العليا 174

تزاوج الإنسان والشمبانزي 178

الإنسان 180

تميز الإنسان 180

الجنس 181

العملية الجنسية 182

الشُذُوذ الجنسي 187

الاضمحلال 190

الانحلال الجيني 191

التنوع الجيني 192

الإنتروبيا الجينية 193

تغير الكائنات 194

قاعدة بيانات الطفرات البشرية 195

الخلية الأولى 195

القرار 201

البناء الدقيق 204

نظام الدفاع 206

القلب والأوعية 207

الكلى 211

التعقيد غير القابل للاختزال 213

الكيمياء الواعية 221

الأمراض الجينية 226

تخزين وحرق السكر 228

تجلط الدم 233

تحول الكائنات 236

السُلُوك المبرمج 239

تعقيد الكائنات 241

الحيوان الزومبي 243

دببة الماء 245

الملاريا والبلهارسيا 247

خلد الماء 249

محار المياه العذبة 251

ضفدع الخشب 252

مساكن الطيور 252

الأخطبوط المقلد 254

التعايش والتطفل 255

الخاتمة 257

الباب الثالث: فلسفة 259

مسيرة الفلسفة 259

تطور علم النفس 264

المنطق 268

الاستدلال 271

السببية 274

الحتمية 279

الوجودية والعبثية 280

تاريخ الفلسفة 283

العقل 285

العقل والدماغ 286

حُريّة الإرادة 290

تفسير الحُريّة 293

الإبداع والابتكار 296

الحواس 299

كيف تعمل الحواس؟ 300

العقل والحواس 305

الغريزة 307

حقيقة العقل 308

الأخلاق 310

اللُغة 315

دور اللُغة 317

مشكلات اللُغة 321

المغالطات والمفارقات 325

العلم 326

مُشكِلة العلم التجريبي 328

العلم والتجربة 329

النظريات العلمية 334

تحسين النسل 335

الجمال 339

بحث عن الإله 342

الإله 346

الموت 348

معنى الحياة 351

الإنسان 353

الجنس 354

الوجود 362

الخلود 364

المرأة 366

برنامج العالم 369

خاتمة 370

الباب الرابع: إيمان 373

مقدمة 373

الأديان 375

ما الدين 376

الحاجة إلى الدين 378

الدين والحياة اليومية 382

الرسل 384

مبادئ 386

دين أم فلسفة 387

القرآن والسنة 388

مُشكِلة قديمة 390

حدود الدين 393

الدين والأزمات 395

لماذا ليس قوانين؟ 397

الأخلاق مرة أخرى 398

ظاهرة الرق 401

سنة العصر 403

تفسير القران 405

الفهم الخطأ 407

الإسلام والتعقيد 410

إعمال العقل 411

تقديس الموروث 414

أزمة الوعي الديني 417

السنن الكونية والتوكل 419

الإزعاج العلمي 423

الإيمان 424

النار وعذابها 427

العذاب 427

الحسنات 433

أنا حر، أنا إنسان 434

تقبل الآخرين 436

هل الدين كافٍ؟ 440

الزمن 441

الدم الملكي 443

الاستهزاء الأعمى 445

بول البعير 447

الأسد 448

المواسم والنزهات 449

المرأة 450

المساواة 454

الحجاب 455

الزواج 458

مشكلات المُسلمين 458

المس 460

السحر 462

مدة الحمل في الإسلام 469

الدعاء والقضاء 470

فقه اللُغة 471

الموت مرة أخرى 472

الدين والتقدم 474

اليقين 478

الخاتمة 479

إهداء 481

المراجع 482

نبذة عن الكاتب 492

هذا الكتاب 493

كيف تقرأ هذا الكتاب

يَضُم هذا الكتاب أفكاراً مبسطةً قدر المستطاع، مُرفَقَة بصورٍ توضيحية تساهم في إيصال الفكرة، ومزوداً أيضاً بصور كيو آر QR، ليسهل عليك الوصول إلى الروابط الدفينة عبر هاتفك الذكي بدلاً من كتابة الروابط الطويلة يدوياً.

تستطيع تحميل تطبيق QR Reader من متجر التطبيقات، أو عبر نظام تشغيل الويندوز أو الماك وذلك من خلال البحث في متجر التطبيقات أو نفس برنامج QR Reader، لا تقلق ليس أساسياً مشاهدة الروابط، ولكنني أُفضل هذا لِما لها من دورٍ مهم في توضيح المسائل المطروحة.

كذلك يحتوي الكتاب على مراجعَ علميةٍ يُمكنك العودة إليها في حال رغبت بالحصول على المزيد من المعلومات حول الموضوعات التي تُثير اهتمامك، مع الملاحظة أن الكتاب غير مليء بالمراجع حتى لا يمسي كتاباً أكاديمياً، ولم يترك كل المراجع حتى لا يصبح كتاباً تجارياً.

سيأخذك الكتاب في جولة بحثية مرَّ بها صاحبه، وسيضع لك الشواهد التي مرّ بها، في محاولة لإخبارك أنّ هذا الطريق سار الكاتب بها قبلك وكانت نهايتها هكذا، إن رغبت بالإكمال بعدها فهذه خطوة سعيدة، وإن أردت التعديل في المسار والانطلاق، فهذا فتحٌ علميٌ جديد.

يمكنك قراءة الكتاب بالكامل من بدايته، أو يمكنك انتقاء فصول بعينها من فصول الكتاب الأربعة، أو يمكنك قراءة النصف (الجزء) الأول تحت مسمى علم، أو قراءة النصف (الجزء) الثاني الفلسفي الديني تحت مسمى نظام، كل الخيارات مفتوحة لك عزيزي القارئ.

المصطلحات

المصطلح

الترجمة أو التعريب

التوضيح

Ribonucleic acid) RNA)

الرنا

الحمض النووي الرايبوزي.

Deoxyribonucleic acid (DNA)

الدنا

الحمض النووي الرايبوزي منقوص الأكسجين.

Genes

المورثات،

الجينات

أصغر جزء في المادة الوراثية يحمل صفة معينة أو دور وظيفي في بناء جزء في الكائن الحي.

Chromosome

الصبغي،

الكروموسوم

حزمة من شرائط الحمض النووي الدنا في نواة الخلية

Transcription

النسخ

تحويل تسلسل الدنا إلى تسلسل رنا.

Metabolism

الأيض

كافة عمليات الهدم والبناء التي تحدث في الكائن الحي.

mRNA

مرنا

يقوم بنسخ أجزاء الشفرة الوراثية، إذ ينقل تلك الأجزاء إلى الريبوسومات والتي هي مصانع البروتين.

الميتافيزيقيا

ما وراء الطبيعة

الأشياء التي لا تخضع لقوانين الطبيعة.

الأنطولوجيا

علم الوجود

مجال فلسفي يبحث في طبيعة الواقع.

الأبستمولوجيا

نظرية المعرفة

مجال فلسفي يبحث في علم المعرفة.

الميثولوجيا

علم الأساطير

علم يختص بدراسة الأساطير ومنشأها.

الميكانيكا

علم الآليات

علم يبحث في القوى المحركة والساكنة.

فسيولوجياً

عضوياً أو تشريحياً

تستخدم للحديث عن أمر على مستوى العضو.

بيولوجياً

حيوياً

تستخدم للحديث عن أمر على مستوى الخلية.

الفينومينولوجيا

علم الظواهر

الاعتماد على الحدس لتفسير الظواهر.

الأيديولوجيا

فكر، مذهب، عقيدة، معتقد

مجموعة من الأفكار والمعتقدات الكامنة في أنماط معينة وتظهر في سلوك الإنسان.

الباب الأول: الكون

التجرد

وفي رحلة التساؤلات، ينبغي للباحث أن يتجرد للوصول إلى الحقيقة، وألا يلتفت لِما وجد عليه آباءه وأجداده، بل يجب عليه أن يتحرر من كل فكرٍ وقيد، ويقف عند كل كبيرةٍ وصغيرةٍ، مهما كانت سابقاً خطاً أحمراً لا يمكن تجاوزه، أعترف أنّ محاولات التجرد الكامل صعبةٌ نوعاً ما، فالإنسان نتاج بيئته الثقافية وما تم نقشه في وجدانه ووعيه كما يقول إبراهيم البليهي:

“إنّ الإنسانَ يولد بقابلياتٍ وليس بقناعات، وقابليةُ ما ترسمه البيئة في العقل هي ما يجعل ذلك قناعةً عنده تصل إلى أن يموت لأجلها سواء كانت صائبة أم خاطئة”.

هذا التجرد سيأخذنا إلى الأسئلة الأولى: مَن أنا؟ ومِن أينَ أتيتُ؟ وماذا أُريد؟ وما هو الكون؟ وكيف أتى؟ ومن أوجَده؟ وهل أوجد نفسَه بنفسِه؟ وغيرها من الأسئلة كالتي يطرحها الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة الطلاسم:

جِئتُ، لا أعلَمُ مِن أَين، ولكِنّي أتَيتُ ….. وَلَقَد أَبصرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشيتُ

وَسَأبقى مَاشياً إن شِئتُ هذا أم أبيتُ ….. كَيفَ جِئتُ؟ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي؟

لَستُ أَدري!

أَجَديدٌ أَم قَديمٌ أَنا فِي هَذا الوُجود ….. هَل أَنا حُرٌّ طَليقٌ أَم أَسيرٌ في قُيود

هَل أَنا قَائد نفسي في حَياتي أم مَقُود ….. أتمنّى أنّني أدري وَلَكن…

لَستُ أَدري!

وَطَريقي، مَا طَريقي؟ أَطويلٌ أم قَصير؟ ….. هَل أنا أَصعدُ أَم أَهبِطُ فيهِ وأغُور

أَأَنا السّائرُ في الدّربِ أمِ الدّربُ يَسير ….. أَم كلاّنا وَاقفٌ وَالدّهر يَجري؟

لَستُ أَدري!

أَتُراني قَبلما أصبحتُ إِنساناً سَوِيّاً ….. أَتُراني كُنتُ مَحواً أَم تُراني كُنتُ شَيئاً

أَلِهذا اللُغزُ حَلٌ أَم سَيَبقى أَبَدِياً ….. لَستُ أَدري، وَلِمَاذا لَستُ أَدري؟

لَستُ أَدري!

لم تكُن الإجابة على تلك التساؤلات سهلةً أبداً؛ فقد انقسم العالم إلى رأيين مُختلفين: يرى أصحاب الرأي الأول أنّ الكون قد أوجد نفسَه بنفسِه، وأننا وصلنا إلى ما نحن عليه بواسطة مجموعة من العمليات مصدرها العشوائية والصدفة، في حين يؤمن أصحاب الرأي الثاني بأنّ هُنَاك قوةً عظيمةً هي من أوجدت هذا الكون وأوجدتنا، ولكل أصحاب رأي نظريتُهم الخاصة وعالمهم الخاص، وعليك أن تأخذ كل ما فيه دفعةً واحدةً، إذ لا يمكن الجمع بينهما.

ومن البديهي أنّ مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، إلا أنّ هذا المشوار انقسم إلى طريقين توجب السير فيهما على انعكاسهما، قد لا يكفي ضعف ضعف عمري للسير فيهما؛ لذلك كان لزاماً عليّ السير مُسرعاً وقراءة كتب السابقين، وهذا كله في محاولة للوصول إلى نهاية الطريق، حيث أجد الراحة.

الطريق الأول: طريق الكون الذي أوجد نفسَه بنفسِه، وهو ما يُسمى بطريق الطبيعة، أو طريق المادة، ويُسمي أصحاب هذا الطريق أنفسهم بالعقلانيين، ويُطلق عليه أصحاب الطريق الثاني طريق الإلحاد، أو الكفر، وغيرها من المُسميات، ونحن سنتنقل بين هذه المسميات المُختلفة للإشارة إلى طريق الصدفة هذا.

الطريق الثاني: طريق القوة العظمى التي أوجدت الكون، وهي ما تُسمى بطريق الخالق، أو طريق الألوهية، ويُسمي أصحاب هذا الطريق أنفسهم بالمُؤمِنين وأصحاب الديانات، وغيرها من المُسميات، ونحن سنتنقل أيضاً بين تلك المُسميات المُختلفة للإشارة إلى طريق الخلق هذا.

يعتقد من يُؤمن بالفلسفة المادية أنّ الكون المادي هو الحقيقة الوحيدة الموجودة، وأنّ الكون سرمديٌ؛ لا بداية ولا نهاية له، ولا خالق أو غاية، وأنّ وجودنا حدث نتيجةً لتفاعل القوانين الكونية الفيزيائية، وقد تطور الكون شيئاً فشيئاً إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه.

وما كل ما في هذا العالم الفسيح من تكوّن المجرات، وحركة النجوم، ونشوء الحياة، ووجود الإنسان، وغيره، ما هو إلا نتاجٌ للعالم المادي عبر سلسلة من التفاعلات والقوانين المادية البحتة، دون الحاجة إلى خالق أو قوة عليا أو تصميمٍ أو غاية، فكل الكائنات نشأت نتيجة لعمليات المادة، ومفاهيم مثل الوعي وحُريّة الاختيار ليست حقيقية كما نعتقد، وما أفكار الإنسان وقراراته وحركاته وتفاعلاته مع ما يدور حوله إلا نتيجةٌ لتفاعلاته الكيميائية وقوانين الطبيعة في تلك اللحظة.

شكل 1 مفترق الطريق

أما من يؤمن بالفلسفة الإيمانية فيعتقد وجود قوة أكبر من الكون والطبيعة، وأنها صانعة الكون بإرادة ذكية ولهدف مُحدد، وتَعتبِر أغلب الفلسفات الأُلوهية أنّ الإنسان مخلوق من جزأين: جزء مادي وجزء غير مادي (الجسد والروح). إذ يُعَد الجسد جزءاً من هذا العالم المادي يتفاعل معه ويتأثر به، وتعطي الروح للإنسان طبيعة متعالية عن المادة، والروح هي صاحبة القرار الحقيقي في الإنسان.

هذا لا ينفي وجود من يؤمن بالفلسفة المادية مع إيمانه بوجود خالق أو غيره على سبيل المثال، لكن في الصورة المجردة، توجد هاتين الصورتين، كما أنّ هذا قد يكون مدعاة للتداخل بين المفهوم المادي الفلسفي والفيزيائي العلمي.

ولمعرفة الحقيقة علينا أن نفهم وآلية عمل هذا الكون، ولا سبيل لفهمه دون فهم علومه، ويأتي على رأسها علم الفيزياء، وهي الخطوة الأولى في طريق البحث نحو الحقيقة

شكل 2 التطور أم الخلق

نيوتن

من البديهي أن ننطلق مما قَدَّمه نيوتن من إضافات في علم الفيزياء، لأن هذه الإضافات كانت مُنطلَق كلّ الفيزياء الحديثة لاحقاً، وما نعتبره اليوم أمراً عادياً، كان في ذاك الزمان عظيماً، على الرغم من أنّ نظرة نيوتن للمادة في ذلك الزمان كانت قاصرة، إذ اعتقد أنها عبارة عن جُسيمات كبيرة ومتحركة وصلبة ولا يُمكن اختراقها، كما اعتقد أيضاً أنّ الزمان والمكان حقيقتان مُطلقتان؛ أي أنهما سيظلان موجودين حتى لو فنيت كل المكونات المادية في الكون، لكن على الصعيد الآخر حين أعلن نيوتن أنّ القوة التي تجذب التفاحة نحو الأرض هي القوة نفسها التي تحفظ القمر في مداره حول الأرض وسمّاها قوة الجاذبية، أنتج طفرةً علميةً في زمانه لم يتقبلها العُلماء، وفي زمانه لم يُفسر نيوتن الجاذبية ولم يفهم كيف تعمل وهذا ما دفع العُلماء من بعده للتساؤل عن معنى الجاذبية وكيف تعمل وهو ما فتح أبواباً شتى. وهذه طبيعة العُلماء المعتادة في التساؤل عن التساؤل والتساؤل إلى ما لا تساؤل.

كانت قوانين نيوتن تُطبَق على كل شيء يتحرك تقريباً، إلا في بعض العقبات البسيطة التي أدّت إلى حضور النسبية، فقد حققت مفاهيم نيوتن له العلو حين شرح ظواهر الحركة والضوء والكهرباء والحرارة، وهذا النجاح أشعل لدى العلماء رغبةً جامحة لتوسيع نطاق هذا الأسلوب العلمي في التطبيق، وأنه يجب أن يمتد إلى جميع حقول المعرفة بما فيها علوم الأحياء والاقتصاد والنفس والتاريخ. وقد أسفر الكشف عن أسرار العالم الطبيعي عبر الاعتقاد بوجود المادة وحدها إلى اعتبار العُلماء تدريجياً المادية مكوناً من الأسلوب العلمي نفسه، إذ أمسى الباحث العلمي يفترض في أطروحاته العلمية أنّ المادة وحدها هي الحقيقة المطلقة أو أنها على الأقل كل ما يمكن معرفته بطريقة علمية بصرف النظر عن معتقداته الشخصية، من الواضح أنّ نيوتن نفسه لم يكن من أنصار المذهب المادي، إذ لم يكن يأمل أن يُشرح عن طريق أفكاره في الميكانيكا جميع الأشياء [2]، ولكن كُتب لهذه النظرية البقاء مع تعليق آمالٍ مرتفعة عليها لدى العُلماء، فقد كان لدى العُلماء في القرن التاسع عشر كل ما يدعوهم إلى الاعتقاد بأنّ القرن العشرين سيكمل بناء الصورة الكاملة عن الكون ومعرفة نظام سيره بالتفصيل، بل واعتقد كثير من العلماء أنّ دورهم قد اكتمل في تقديم هذا التفسير.

وبينما انهمك علماء الفيزياء في بذل المحاولات لحل أسرار الكون، كان علماء الكيمياء كذلك يفعلون، ففي عام 1803م كان العالم جون دالتون يضع المفاهيم الأساسية لعلم المادة والذرات في تكوّن المادة من هذه الذرات، وكذلك قوانين التفاعلات الكيميائية وقانون حفظ الكتلة الذي أطلق الشرارة لاحقاً لكل اكتشافات الفيزياء الذرية ما تلاها من معجزات في مجال الكهرباء والضوء.

وعلى صعيد آخر، كان علم الأحياء يسير بخطى ثابتة في طريق البحث عن الحقيقة، وقد أحدث العُلماء انعطافات عنيفة في هذا العلم منهم: لويس باستور، وتشارلز داروين وابن سينا؛ إذ فجّروا أساسيات علوم الأحياء بالكامل، وذلك بعد أن شدد ابن سينا على ضرورة فحص الأمراض فحصاً عملياً، وعبر أعراض المرض نستطيع أن نحدد المرض، ولا يوجد هُنَاك أي قوة خارقة أو سحُريّة في المرض، وكانت هذه الخطوة الأولى نحو طبٍ صحيح، بعد ذلك بقرون طويلة حصل الانتقال الكبير بعد أن ألّف تشارلز داروين عام 1859م كتاب أصل الأنواع، معتمداً على نظريته السابقة في الانتخاب الطبيعي بعد رحلته على متن سفينة البيغل لعدة سنوات، إذ شاهد داروين التنوع البيولوجي (الحيوي أو الأحيائي) ولاحظ اختلاف الكائنات في خصائصها، ولاحظ دلائل انقراض بعض الحيوانات، ودوّن بعض الملاحظات المرتبطة بالفجوات العلمية التي كانت سائدة في زمانه والتي كانت بحاجة إلى ردم، وسواء اتفق العالم مع داروين أو اختلف معه إلا أنه عالم له كل التقدير على اكتشافاته ومحاولته إجابة الأسئلة بطريقة علمية بناءً على مشاهدات ذلك الزمان، وقد فتحت اكتشافاته نافذةً من السماء على العالم بما لم يتوقعوه، فكثير من اكتشافات الوراثة والكيمياء الحيوية وعلوم الخلية كانت نتيجةً غير مباشرةٍ لما أحدثه هذا العالِم.

وفي خضم صراع العالم حول التطور، كان علم الأحياء في أوج صراع آخر بين شقين من العُلماء كل منهم كالطود المنظور، فقد كان علماء الأحياء مُختلفين حول نشوء الحياة، فهل تنشأ الحياة من الحياة؟ أم أنها تنشأ من العدم؟ من البديهي أنّ هذا في زماننا أمرٌ محسوم، لكن في ذلك الزمان لاحظ العُلماء خروج الدود من اللحم بعد التعفن، وكذلك لاحظوا ظهور الذباب على الطعام في غرف مغلقة رغم عدم وجوده مسبقاً فيها، وكذلك ظهور فئران وحشرات وحيوانات فجأة في الأطعمة، وقالوا إنّ الحياة يمكن أن تنشأ من العدم، الحياة يمكن أن تنشأ من لا حياة، وعُرفت هذه النظرية باسم نظرية التوالد التلقائي، وقد أنهى خلاف هذه التساؤلات العالم لويس باستور عام 1862م وأثبت بالتجارب أنّ الجراثيم والحشرات والحيوانات لا تنشأ من العدم، بل تنتقل إلى الطعام من كائنات تزرعها أو تبيضها، وتوّجَ عمله بعملية البسترة لإنهاء هذا الصراع كلياً إلا أنه من المؤسف أن تجد بعض البشر يؤمنون به علمياً إلى يومنا هذا.

هذا الاكتشاف فتح الأبواب على مصراعيها لعلوم التطعيم والمناعة والميكروبات، وبعدها المضادات الحيوية، ثم التعقيم وحفظ الطعام وانتقال المرض وعلاجه وغيرها من التطورات العلمية المرتبطة بالطب، وقد أضاف العالم روبورت كوخ عام 1890م فرضياته الأربع حول الميكروبات وكيفية انتقال الأمراض عبرها، وبذلك طُوِيت صفحة التخلّف والخُرافة المتعلقة بالطب إلى الأبد.

نعود إلى علماء الفيزياء مرة أخرى، ومع اكتشافات متتالية أدت إلى تدحرُج كرةَ الثلج إلى أن اصطدمت بقوانين نيوتن ودمرتها للأبد، أرجو منك الآن عزيزي ربط حزام الأمان، فمركبة العلم ستسير بسرعة، إذ سيصعب على العُلماء أنفسهم اللحاق بها، وهذه الجولة السريعة بدأت عام 1831م باكتشاف مايكل فاراداي الحث الكهرومغناطيسي وتأكيده على وجود علاقة ضمنية بين الكهرباء والمغناطيس، وهذا ما سهّل التعامل مع هذين العلمين لاحقاً، وقد بيّنت ظاهرة المجال الكهرومغناطيسي عام 1864م للعالم جيمس ماكسويل أنّ الكهرباء والمغناطيس والضوء كلها صور لظاهرة واحدة، ثم في عام 1895م مهَّد العالم فيلهلم رونتغن باكتشافه الأشعة السينية الطريق للعالمة ماري كوري في اكتشاف النشاط الإشعاعي، وذلك بتقديمها تقنيات عزل النظائر المشعة، كما اكتشفت وزوجها بيار كوري العناصر المشعة كالراديوم والبولونيوم، وهذا ما سرّع لاحقاً انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة اليابان، ومكنت العالَم من بناء المفاعلات النووية للحصول على طاقة نظيفة تُهيؤنا للسفر إلى مسافات بعيدة دون الحاجة إلى حمل كميات هائلة من الوقود.

في عام 1897م، قام العالم طومسون بإثبات وجود جُسيمات سالبة في أشعة الكاثود بحجم أصغر من الذرة سماها الإلكترونات، وسجلها تحت أنموذج حمل اسمه (أنموذج طومسون للذرة Plum Pudding Model)، هذا الاكتشاف المذكور في سطرين أدى إلى شرخ عقول العُلماء حول النظرة السطحية للذرة بأنها جُسيم صغير غير قابل للانقسام، وأنها غير قابلة للتجزئة، وأنّ هُنَاك ذرات أصغر من الذرة التي نعرفها، فلم تعد الذرة ذرة بعد 2000 عام من غرورها وتربعها على عرش الجُسيم الأصغر، وكان من البديهي ضرورة وجود شحنة موجبة في جسيم الذرة، فوجود شحنة سالبة (الإلكترون المكتشف) في جسيم متعادل كهربائياً بلا شحنة، يعني بالضرورة وجود شحنة موجبة تعادلها، وهذا قد أطلق سباق البحث بين العُلماء، وقد شغل هذا الاكتشاف العالم كما نرى في الأبحاث الذرية حتى يومنا هذا، وكانت جوائز نوبل للفيزياء على الأغلب لاكتشافات هذا المجال، وبدأت فكرة أخرى تتكون لدي العُلماء في ذلك الزمان، وهي وجود تشابه بين شكل الذرة وشكل النظام الشمسي، خصوصاً كوكب زحل، إذن يجب أن يكون هُنَاك قانون مُشترك يفسر حركة هذه الظواهر.

3 تطور أنموذج الذرة

لقد تطور أنموذج الذرة عبر عدة مراحل، ولكن أشهرها:

  1. 1808: أنموذج دالتون المصمت.
  2. 1904: أنموذج طومسون الذي أكّد وجود إلكترونات سالبة داخل الذرة.
  3. 1911: أنموذج رذرفورد الذي أكّد فيه وجود نواة موجبة داخل النواة.
  4. 1913: أنموذج بور الذي بيّن فيه أنّ الإلكترونات تدور في مسارات دائرة حول النواة.
  5. 1926: أنموذج شرودنجر الذي بيّن أنّ الإلكترونات لا تدور حول النواة في مسارات بل في سحابة احتمالات.

هُنَاك نماذج أحدث تختلف في طرحها بالمجمل عن الشكل الدائرة والتقليدي هذا.

الفيزياء الحديثة

في عام 1900م، أظهر ماكس بلانك أنه عند قيامنا بتسخين جسم ما حتى يتوهج فإن الذرات تهتز بقوة كافية تمكننا من قياس الطاقة الناتجة في وحدات غير مترابطة، وسمى هذه الحزم من الطاقة بالكمات (الفوتونات)، وفي عام 1904م تمكن العالم تيودور وليام ريشارد من تحديد الوزن الذري للذرات معتمداً على معادلة أفوغادرو Avogadro.

وقد أدت تجارب العالم روذرفورد عام 1911م إلى اكتشافه أنموذجاً يشبه أنموذج المجموعة الشمسية في قلب النظام الذري، فهُنَاك إلكترونات كما الكواكب تدور حول جسم كبير وثقيل أسماها النواة، وقد قام في تجربته بقذف نواة الذرة بأشعة ألفا، فما كان من بعض جُسيمات أشعة ألفا الموجبة إلا أن انحرفت عن مسارها، فقال على الأغلب أنها تصادمت مع شيء ضخم في منتصف الذرة، واستطاع بذلك أن يرى عملياً ما بداخل النواة، ثم أقرَّ لاحقاً أنّ وزن الذرة الأكبر يقع في النواة، وأنّ الجُسيمات الموجبة للذرة موجودة في نواتها فقط، وهذا ما أدى إلى تنافر جُسيمات ألفا معها وانحرافها عن مسارها، بالإضافة إلى أنّ تجاربه بيّنت وجود مساحات شاسعة من الفراغ بين النواة والإلكترونات.

ومع كل اكتشافٍ علميٍ جديد يحاول تصحيح النظريات السابقة له، نراه يضع عقبات أكبر للباحثين من بعده، إذ تعارضت رؤية رذرفورد مع القوانين الكهرومغناطيسية، والتي تفترض أن يلتصق الإلكترون في النهاية مع النواة ويتعادلا كهربائياً وتنتهي هذه الحالة من المشاحنة، حاول العالم بور عام 1913م حل هذا الخلاف بوضعه أنموذجاً ذرياً ساعد العُلماء من بعده، إلا إنه تورط أكثر وسبّب أنموذجه قُصوراً في جوانب كثيرة.

بدأت الصور تكتمل عام 1905م بواسطة ألبرت أينشتاين عندما وضع النظرية النسبية التي شكّلت درة تاج العلم في فهمنا للكون؛ إذ قام بنشر ورقة علمية (النسبية الخاصة) تنصّ على أنّ كل قياساتنا في الكون نسبية إلا سرعة الضوء، فهي ثابتة دائماً، وأنّ الزمن يثبت عند سرعة الضوء وتصبح الكتلة لا نهائية. ثم نشر عام 1916م النظرية العامة للنسبية، التي تفسر طبيعة المكان والزمان والجاذبية، وتُثبِت أنّ الجاذبية ما هي إلا تأثير يحني المكان والزمان.

بعد نظريات أينشتاين، ظهر علم الكم ومبدأ عدم اليقين uncertainty للعالم هايزنبرغ، وهو أحد الأركان الأساسية لميكانيكا الكم، وينص على أنه لا يمكن تحديد كلٍ من موضع وسرعة الإلكترون بدقة في اللحظة نفسها، يمكننا تحديد أحدهما فقط لأن تدخلنا سيؤثر على القيمة الأخرى، ثم أضاف العالم إروين شرودنجر فكرة أنّ الإلكترونات تتصرف كالموجات في محاولة منه تفسير الظواهر التي نتجت عن تجاربه.

شكّل ما عرضه أينشتاين صدمةً للعالم والعُلماء، إذ كانت نظرياته تشبه الخيال العلمي، فتصديق أنّ الفضاء مُقوّس وأنّ أقرب بُعد بين النقطتين ليس الخط المستقيم! وأنّ الخطوط المتوازية ستتلاقى أخيراً هو ضربٌ من الجنون، وأنّ الضوء لا يسير في خطوط مستقيمة، بل منحنية! والكون محدود لكن بغير حدود، وأنّ ما نعرفه عن الزمن مُجرَّد أوهام، فالزمن ليس مطلقاً ولكنه نسبيٌ، ويختلف من موضع إلى آخر في الكون بناءً على عوامل مُختلفة، وأنّ ما نعرفه عن الأبعاد غير دقيق، فقياس الأطوال يختلف باختلاف السرعة، وما نعرفه عن الكتلة أيضاً غير دقيق، فالكتلة هي الأخرى تعتمد على السرعة، وحينما يتحرك أي جسم فإن حجمه ينكمش ولكن كتلته تزداد، ومن ثَمّ أمسى الزمن بُعداً رابعاً بعد الطول والعرض والارتفاع، والجاذبية عبارة عن موجات من الجذب لها تأثيرٌ مستمر، وقد أضاف أينشتاين مساهمات كثيرة لا تعد ولا تحصى في العلوم كلها من فيزياء ورياضيات وفلك قلبت العالم بالكامل، بل وفي مجال السياسية، ففكرة أنه يمكن تحويل الطاقة إلى مادة والعكس جراء نظريته، جعلت من الممكن للإنسان لأول مرة في التاريخ أن يستخدم طاقة لا تأتي من الشمس، وقد قادت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية عبر اختراع الولايات المتحدة الأمريكية للقنابل النووية في مشروع مانهاتن وتفجيرها في هيروشيما وناغازاكي.

يستحق أينشتاين أن تكون نظريته الأعظم في تاريخ البشرية، ولا تكفيها كتب لشرحها وتوضيح آثارها على العلم لاحقاً، فمن منا كان يعتقد أنّ الزمان والمكان أمراً واحداً وليسا أمرين مُختلفين، هذا تغييرٌ كافٍ وحده أضافه أينشتاين، لقد غيّرت قوانين أينشتاين نظرتنا للعلم، وآمل أن تتغير نظرتنا بعدها لهذا العالم.

وكما نرى فإن العلم ينتقل من مرحلة إلى مرحلة ومن نظرية إلى أخرى، فنظريات نيوتن كانت هي المسيطر الأساسي في مجال الجاذبية والحركة إلى أن أتى أينشتاين وغير كل النظريات بنظريته النسبية، وذلك بعدما فشلت ميكانيكا نيوتن في الجمع بين إطارين مرجعيين مُختلفين يتحرك أحدهما بسرعة قريبة من سرعة الضوء، إذ لم تعد قوانين نيوتن تُجدي نفعاً؛ لأن الزمن اختلف في كل واحدة منهما، وقد ظهر ذلك جليّاً حين فشلت حسابات بعض حركات كوكب عطارد، بعد 300 عام من كون قوانين نيوتن هي الدستور في قوانين الحركة ظهر أينشتاين وغيّر كل شيء، ويؤكد هذا أنّ العلم ليس ثابتاً، فقوانين أوصلتنا إلى القمر اتضح أنها خاطئة في جوانب أخرى، وهذا ما سنناقشه في الكتاب.

لعبت الكنيسة دوراً مهماً في عرقلة تقدم الاكتشافات والعلوم، فهي من أعدمت غاليليو، وهي من منعت نشر كثير من الكتب، وقتلت العديد من النظريات لأنها تتعارض مع معتقدها، ولو ألقينا النظر على تطور الجانب الاجتماعي على مدار العقود على يد علماء مثل جون لوك وفولتير وغيرهم، لرأينا الأمر نفسه، مشاكل مع الكنيسة لا تنتهي، وهذا الأمر تكرر بدرجة أقل عند المُسلمين.

فبينما كان العالم يقفز قفزاتٍ كبيرةٍ في العلم، كان المُسلمون ينحدرون إلى الكهوف مرة أخرى، فقد أصدر الخليفة العثماني تحت ضغط الفقهاء والرأي العام أمراً بهدم المرصد الفلكي بحجة الشعوذة، وتفكيك أول مطبعة بحجة أنها تفسد المصحف، بل وصدرت فتاوى تحريم في كل شيء تقريباً مثل شرب القهوة، لا يمكننا حصر تلك الفظائع والإقصاءات المتكررة كالإعدام والنفي والسجن بحق المخالفين وقيامهم بحرق كتب ومؤلفات عديدة، مثل مؤلفات أستاذ الفلسفة ابن رشد، وكذلك الطرق البشعة التي ارتُكِبت بحق المخالفين كما فعل العباسيون عبر صور متطرفة، من المؤسف أنّ كثيراً من هذه التصرفات كانت بمباركة العُلماء، فعلى سبيل المثال، بعد أن خاض الإمام أبو حامد الغزالي في علوم الكلام نراه بوضوح في كتاب إحياء علوم الدين، قد وضع علوم الدين في كفة، وباقي العلوم في كفة أخرى، ولكن جعل كفتها أدنى من كفة علوم الدين، وهذا ما جعل إقبال الناس على العلوم الدنيوية ضعيفاً، فقد ترسخت في عقل المُسلم أنها أقل أهمية في الدراسة من العلوم الدينية، وتم اعتماد لقب الفقيه للشخص العالم بعلوم الفقه والدين، أما الفقيه -من يفقه- الفيزيائي أو الكيميائي أو القانوني فلا مكان لهم، بل واحتقر الغزالي الفقهاء (الذين يختصون بالفقه الإسلامي) بسبب انشغالهم بمسائل الدنيا المرتبطة بالمعاملات اليومية ولم يتفرغوا للدين بشكلٍ كامل.

في حين تقدمت أوروبا ببطء في وجود الدين، وانطلقت بخطى سريعة بعد تركه، كان المُسلمون واقفين لا يعرفون ما العمل، فهم لا يزالون في منتصف خلافاتهم الدينية، فمن أبسط الأمور مثل طول الجلابية وحف الشارب والسلام على المرأة، إلى أكبرها كبناء الدولة وأصول الحكم واختيار الحاكم، لا يزالون مُختلفين ولا تظهر علامات قرب نهاية الخلاف.

دعونا نبدأ رحلة البحث عن الحقيقة، البحث في هذا العالم، ولنبدأها من البداية، من الحجر الأول حينما تم بناء الكون، حينما كانت الخلطة ما زالت في الخلاط، قبل أن يتم صبها في قالب الكون، وصباح الخير يا كون.

صورة الكون

لمحاولة فهم هذا الكون بشكل أفضل، يتحتم علينا فهمه عبر قوانين الفيزياء والكيمياء وعلم الفلك (الكوزمولوجي Cosmology) والنظريات العلمية التي يحاول العُلماء إثباتها يوماً بعد يوم، وما بين أيدينا من تطوراتٍ علميةٍ غير مسبوقة حول فهمنا لهذا الكون ترجع إلى نهايات القرن التاسع عشر، وفهم الكون بهذا الشكل الواضح هذا اليوم مرتبط بنظريات متعددة مُختلفة من تخصصات مُختلفة، ودعني أصطحبك في هذه الجولة البسيطة للعلم في القرون الأخيرة، لنَر كيف وصلنا إلى ما نحن عليه من مفاهيم وحقائق، ولا بد فيها من المرور على الصراع الذي كان قائماً بين العلم والدين، بين الفلسفة المادية والفلسفة الألوهية التي قد ثارت في القرن العشرين بسبب هذه الاكتشافات، بعد بدء تكون صورة أوسع للكون أدت إلى تكون أدلة لكل فريق أقوى من السابق. وقبل القرن العشرين، كان العُلماء يميلون إلى الفهم المادي بشكل كامل، فكل القوانين والشواهد معهم ولا شك، دعونا ننطلق في هذه الجولة.

تمتلك الحضارات القديمة تصوراتٍ كونية للعالم؛ في محاولات لفهم ما يدور حولها، وهذه التصورات كانت بمثابة الإجابة على الأسئلة الدائمة مثل: ما هو القمر؟ ما هو الكسوف؟ ما هو المطر؟ كيف رست الجبال؟ إلى أن تصل كيف أتى هذا الوجود؟ كيف تشرق الشمس، كيف تهب الرياح … إلخ، وقد امتلكت كل حضارة تفسيراً خاصاً بها. فقديماً في الهند كان لديهم تصور أنّ الكون مكون من ماء وأنّ هُنَاك بيضة ذهبية فقست فيه أنتجت ما نراه، أما فلاسفة اليونان في القرن السادس قبل الميلاد وما بعده، كان لديهم تصور أنّ الكون سرمديٌ لا بداية له ولا نهاية، وبعضهم آمن أنّ الكون يتكون من أربعة عناصر: الماء، والنار، والهواء، والتراب، ثم أضافوا لاحقاً الأثير، في حين قال فلاسفةٌ آخرون أنّ أصل العالم هو الذرات وليس المكونات الأربعة، تصوراتٌ عديدة مُختلفة تعتمد على ثقافة كل حضارة وفكرها ونمو شعبها وحبهم للحيوانات والأساطير، لكن العُلماء كما اعتدنا، لا يقبلون بهذه التفسيرات، لأنها لا تحقق تجربةً أو نظرية علمية.

إنّ مسيرةَ العلم مسيرةٌ طويلة، بدأت منذ اللحظة الأولى لاستخدام العقل، وقد مرت هذه المسيرة في محطاتٍ لامعةٍ مع مفكرين وجهوا دَفَّة العالم إلى اتجاهات جديدة، وأول من برز فيها هو المعلم الأول أرسطو عام 300 ق.م إذ كان حديثه يحمل فكرة أنّ الكونَ أزلي، وأن هُنَاك قوة مفكرة خلف ستار الكون توزع النظام فيه، لأن المادة لا يمكن أن تحرك نفسها، بالإضافة إلى أنه من الصعب ضبط الكون بهذه الدقة بالصدفة، وقد كانت أغلب النقاشات في ذاك الزمان نقاشات فلسفية بحتة تركز على المفاهيم مثل مفهوم الذاتية والمكتسب وقانون العلة، هذه النقاشات لا تستند للعلم كما هو اليوم، وبناءً على هذه النقاشات قام الفلاسفة بإرساء قواعد فلسفية جرّت البشرية إلى تأخيرات علمية ذات تأثير مستمر إلى يومنا هذا، مثل مركزية الأرض، فالأرض هي مركز الكون بالكامل، والنجوم والكواكب والشمس تدور حول الأرض، بالتأكيد لا نلومهم كثيراً، فقد رأوا العالم من منظور المراقب على كوكب الأرض وكانت الإمكانات العلمية بسيطة متواضعة في ذلك الزمان، ثم تبع أرسطو بطليموس وقام بتأسيس مدرسة عُرِفت بالمدرسة البطليموسية، طورت هذه المدرسة الأفكار السابقة قليلاً، وقد سادت أفكارها حتى عصور حديثة.

التطور الكبير اللاحق حدث بعد ذلك بسبب الأديان، إلا أنّ الدين المسيحي بناءً على سفر التكوين كان يُفسر دائماً أنّ الأرض مسطحةً، وهي مركز الكون مُتماشياً مع بطليموس، وقد تماشى معه التفسير الإسلامي بشكل كبير لاحقاً، وتم ذلك عبر اللاهوتي توما الأكويني الذي دمج فهم أرسطو للكون مع الدين المسيحي، وأصبحت هذه التعاليم جزءاً من اللاهوت المسيحي تحت مسمى المدرسة التوماوية، وقد كان لها تأثيرٌ هائلٌ على الفلسفة الغربية، وهذه هي بداية الأزمة التي لا يمكن تخيل أثرها لاحقاً على العلم والدين، فهي أصبحت الأساس في الدين وأي علم يخالفها هو هرطقة، ومن هنا نشأ الانقسام بين العلم والدين، بعد أن تبين للعلم أنّ الأرض ليست مركزاً للكون، وغيرها من المفاهيم الحديثة، وكان على العالم أن ينقسم إما مع أفكار الراهب توما، أو ضدها.

في ظل هذه النظرة السائدة ومحاولات لترقيع النظرية للمحافظة عليها، وبعض الآراء الشاذة هنا وهُنَاك، مثل مدرسة المراوغة الإسلامية التي أثبتت أنّ الأرض تدور وليست ثابتة كما في أنموذج بطليموس، جاء العالم نيكولاس كوبرنيكوس وبدأ بقلب العالم الذي كان آمناً لآلاف السنين، ففي عام 1543م نشر كتابه الذي صرّح به أنّ الأرض والكواكب تدور حول الشمس، والشمس هي المركز وليست الأرض، ورغم كثرة الثغرات في أفكاره؛ لافتراضه أنّ مدارات الكواكب حول الشمس دائرية بالكامل، إلا أنها كانت البداية القوية لدك أساسات معابد الأفكار المستندة إلى الدين في ذاك الزمان، ثم أتى بعده غاليليو غاليلي واخترع التلسكوب (المقراب)، ورأى القمر وأقمار المشتري تدور حول المشتري، وأضاف قانون التسارع الثابت عند سقوط الأجسام، أي أنه إذا سقط جسمٌ وزنه 100 كيلوجرام، وجسمٌ آخر وزنه 2 كيلوجرام من مسافة مرتفعة، فسيصل كلاهما إلى الأرض في اللحظة نفسها، وهذا ما كان له تأثيرٌ كبيرٌ على النظريات الفيزيائية لاحقاً.

وفي عام 1610م، وضع غاليليو تخيلاً واضحاً لدوران كوكب الزهرة حول الشمس، وكانت هذه مقدمة المبادئ الأساسية لعلم الديناميكا، ثم أكمل العالم الدانماركي تيكو براهي حسابات كوبرنيكوس بدقة أكثر، لكي يأتي العالم كبلر بعده ببضع سنين ويقوم بوضع القوانين الثلاثة لحركة الكواكب على أسس واضحة، وأكد في قانونه الأول أنّ مسارات حركة الكواكب بيضاوية، والشمس ثابتة في مكانها، والقانون الثاني يعتمد على الأول، فكما أنّ دوران الكواكب بيضاوي فإن هذا يعني أنّ الكواكب لا تدور بسرعة منتظمة، وسرعة الدوران هنا تعتمد على قرب الكوكب أو بعده عن الشمس، أما القانون الثالث فيقول إنّ مدة دوران الكوكب حول الشمس تعتمد على بعد المسافة، وكانت قوانين الحركة الثلاثة مُنطلقاً للعلماء لاحقاً، فوجود قانون واضح أوجد قاعدة علمية يمكن تطبيقها وتوسيعها والبناء عليها أو حتى دحضها، وقد أدّت القوانين الثلاثة إلى تطابق حسابات الأرصاد الفلكية بدقة كبيرة.

في هذه الأثناء قام رينيه ديكارت بوضع مبدأ الشك في الفلسفة التجريبية، الذي كان له أثرٌ كبيرٌ في توجيه دفة التجارب العلمية، ثم تتوالى الاكتشافات في علوم الميكانيكا، والديناميكا الحرارية، والطب، والفيزياء وغيرها إلى بزوغ وميض العالم إسحاق نيوتن عام 1687م، إذ قام بوضع قانون الجذب العام الذي قدم تفسيراً لدوران الكواكب حول الشمس، ووضح الكثير من المشاهدات بناءً على ثلاثة قوانين ميكانيكية قوية لا تزال تستخدم إلى يومنا هذا، وكان لهذه القوانين في الفيزياء والرياضات أثرٌ كبيرٌ على تقدم البشرية، فكل ما نراه من بنيان وتقدم علمي كان بسبب هذه القوانين ومفاهيم نيوتن المُختلفة، ويُمكن القول أنّ كوبرنيكوس هو مؤسس الثورة الفلكية ومغير نظرتنا للعالم، ثم يليه نيوتن مؤسس الثورة الفيزيائية ونظرتنا لقوانين الكون، ثم لاحقاً تشارلز داروين مؤسس الثورة الحيوية، ولربما فرويد مؤسس الثورة النفسية.

نشأة الكون

يتفق أغلب علماء الفلك -إن لم يكن كلهم- على أنّ الكون نتج جراء حدث عظيم أدى إلى تكونه، يُطلقون عليه تسمية الانفجار العظيم Big Bang، وقد بدأ هذا الحدث العظيم قبل ما يقارب 13.8 مليار عام، وهو ما أدّى إلى تكوّن الكون ووجود ما نراه حولنا اليوم من كل شيء، ولكن كيف تم تحديد هذا الرقم؟ حسناً، الأمر بسيط، فالعلم يحاول دائماً أن يجد الإجابات بأسهل الطرق المُمكنة، ما دامت قوانين الفيزياء واحدة في كل الكون، والقانون الذي يسري على الأرض يسري بنفس الظروف على أورانوس وهكذا، فيمكننا إجراء الحسابات نفسها على أي مكان في الكون واستنتاج نفس النتيجة. لنرَ كيف تم تحديد هذا الرقم.

ظاهرة الانزياح الأحمر

لا شك أنّ طلاب المرحلة الابتدائية هذه الأيام يعرفون ظاهرة دوبلر، والتي تنص على أنه إذا كان هُنَاك جسم يتحرك مبتعداً عنك، فإنّ الصوت الذي يصدر عنه سيمتد طوله الموجي أكثر (تتوسع الموجة)، وذلك لأنّ تردده سيقل، والعكس صحيح، ولعلك تسمع سيارة الإسعاف مقبلةً عليك فتسمع دويها بسرعة، وي وي وي وي وي وي، وحين تدبر عنك وتبتعد تبدأ الأصوات تتمدد وتتباطأ؛ فتسمع ويي وييييي وييييييييي ييييييييييي إلى أن يختفي الصوت تدريجياً بالكامل. وينطبق الأمر من جهة أخرى على الضوء، فضوء السيارة حين تبتعد عنك يبدو أكثر احمراراً عما لو كانت السيارة ثابتة أو قريبة منك، وذلك لأنّ الضوء ذو طبيعة موجية، فكلما كان الضوء أقرب للطيف الأحمر، كان تردده منخفضاً، ولو قمنا بوضع منشور لتحليل الضوء فإنّنا سنتمكن من معرفة الضوء الذي يبتعد أو يقترب بناءً على الظاهرة نفسها [3].

لاحظ العالم إدوين هابل أثناء مراقبته للسماء عام 1928م أنّ لبعض النجوم البعيدة تأثير اللون الأحمر المُزاح Red Shifting، وأنها تبتعد عنا بسرعات عالية، وفي اتجاهات مُختلفة، وهذا هو مقياس ظاهرة دوبلر، فالقوانين الكونية واحدة ولا فرق، ولاحظ هابل أنّ تمدد الكون يتبع نمطاً خطياً تتناسب فيه المسافة وسرعة الانتشار.

حقيقة، كانت هذه لحظة مذهلة في العلم؛ لأنّ العُلماء كانوا يعتقدون أنّ الكون ثابت وأزلي، وقد حاول أينشتاين أن يبرهنَ على ثبوت الكون عن طريق وضع ثابت كوني، لأن الأمر كان يشكل معضلة كبيرة للعلماء، لكن مع اكتشاف هابل هذا الأمر تغيرت تلك النظرة السائدة، وبدأت النظريات تتوالى.

فإذا كان العالَم يبتعد بسرعة كبيرة ويتمدد ويتوسع كما لو أنّ انفجاراً ما قد حدث وجعل الكون يتناثر في كل مكان، فمن المؤكد أنّه حسب سرعة تمدد الكون يمكننا إجراء بعض العمليات الحسابية لتقدير المدة التي يتوسع بها، ومن ثَم تحديد اللحظة التي بدأ بها الانفجار، واحتساب أيضاً كمية المادة التي بدأت الانفجار بناءً على سرعة التوسع، فسرعة التوسع مرتبطة بالجاذبية، والعناصر تجذب بعضها لذا تتوسع بهذه السرعة وغيرها من المؤثرات، يمكننا احتساب كل شيء، وبعد انتهاء قوة دفعة الانفجار سيثبت الكون، ثم بعد هذا التباطؤ سينتهي التوسع، وستبدأ قوة الجاذبية بالعمل وستتقارب العناصر (المجرات، المادة، الطاقة) وستنكمش مرة أخرى وسيحدث الانسحاق الشديد وهو عكس الانفجار العظيم.

في عام 2003م، استطاع المسبار الفضائي والمرصد الدوار “وماب WMAP” أن يُؤَدِّي دوره بدقة عالية، عبر قياسه الأشعة التي خلفت بداية الكون، وذلك بعد عامين من انطلاقه في الفضاء، وقد تم رسم خريطة إشعاع للخلفية الميكرونية للكون بدرجة عالية من الدقة والوضوح، وهي تعبر عن أفضل صورة لمراحل نشأة الكون منذ أكثر من 13.75 مليار سنة مع نسبة خطأ لا تتعدى 1%، كما في (شكل 4 صورة مسبار ويلكينسون لقياس التباين الميكروي).


شكل 4 صورة مسبار ويلكينسون لقياس التباين الميكروي

كثُرت النظريات حول تفسير نشوء الكون، فقد حاول بعض العُلماء إثبات أنّ الكون سرمدي؛ لا بداية ولا انتهاء له، في حين حاول آخرون القول أنّ العالم نتج عن انفجار وانحسر عدة مرات، والبعض حاول إثبات عدم حدوث ذلك، كل تلك النظريات وغيرها تم الرد عليها علمياً، وما زالت أكثر نظرية مقٌبولة حالياً هي نظرية الانفجار العظيم، وهي تعد نظرية علمية راسخة أجابت عن أكثر الأسئلة المطروحة حول الكون، لا نظرية الكون السرمدي ولا نظرية الأكوان المتوازية ولا غيرها كلها تبقى محاولات علماء، وبعض هذه النظريات للأسف أيديولوجية غير مقبولة علمياً، أما نظرية الانفجار العظيم فهي الوحيدة التي صمدت في تفسير الكثير من الظواهر، مع إضافة تحسينات دائمة عليها من ناحية الوقت، ولمسات أخرى في تسلسل الأحداث، ولقد تنوعت واختلفت إثباتات النظرية على مر الزمان، بعضها كان نظرياً وتم تأكيده مثل الأشعة الكونية، وهذا ما نرى أثره من تشوش حينما تقوم بتشغيل تلفزيون دون جهاز التقاط، وكذلك ما أثبته مسبار ويلكينسون WMAP، وغيرها من البراهين المحسوبة والمُكتشفة على هذه النظرية.

شكل 5 أثر الإشعاعات الكونية المتبقية من الانفجار العظيم

حينما تفتح التلفزيون دون جهاز لاقط، فإنك ستشاهد هذه الصورة، هذه الصورة ناتجة عن أثر الإشعاعات الكونية المُتبقية من الانفجار العظيم، هذه الصورة ألهمت العُلماء لإجراء دراسات أوصلتهم إلى تأكيد ما كانت تقوله نظرية الانفجار العظيم.

المُتفردة والانفجار

يرى العُلماء الآن أنّ الكون قد بدأ من نقطة مُتناهية الصغر، مُترامية الكتلة، أطلقوا عليها تسمية المتفردة Singularity، وهذه النقطة الصغيرة جداً، والتي حجمها صفر، وكتلتها لا نهائية، قد انفجرت وأنتجت الكون الذي أمامنا، وإذا كنت شخصاً متديناً ستقول لي هذه هي نقطة العدم التي يتكلم عنها الدين؛ لأنها نقطة حجمها لا شيء وكتلتها كل شيء، وهي الفكرة الدينية نفسها التي سمعنا عنها أنّ الله خلق الكون من لا شيء، حسناً، دعني أخبرك أنك مخطئ! وفي الفصول التالية ستعرف السبب.

إنّ اللاشيء هو لا شيء، قل لأي إنسان ما هو اللاشيء، فسيخبرك إنّه لا شيء ببساطة، يحاول بعض العلماء تفسير كتلة اللاشيء وحجم اللاشيء بأنها شيء ما، ولكن هذا تفسيرٌ أيديولوجي، استمع إلى السيد ريتشارد دوكينز وهو يحاول تفسير اللاشيء بأنه شيء وستصاب بالذهول، فهو تفكير أهل الدين نفسه في امتلاكه أيديولوجيا واضحة، لأن محاولة إقحام إسقاطات وتفسيرات غير منطقية هي ما يحاربها العلم.

قبل المتفردة لا يوجد شيء، ولا يعلم العُلماء أيَّ شيءٍ قبلها، المتفردة هي البداية، هي بداية الكون، هي اليوم دون الأمس، هي بداية كل البدايات، والانفجار العظيم هو ما نعرف عنه شيئاً، أما قبله لا يملك العُلماء أي معلومة مُفيدة، كلها محاولات دون جدوى، يحاول بعض العُلماء أن يخبرونا بأن الانفجار هذا هو انفجار متكرر حدث سابقاً، وسيحدث في المستقبل، لكن علماء الديناميكا الحرارية أثبتوا أنّ هذا غير صحيح، ولتعلم عزيزي ما هي الديناميكا الحرارية دعني أخبرك بقوانينها الأربعة البَدَيهية في زماننا، ثم نخوض قليلاً فيما توصل إليه العُلماء حول كيفية تشكُّل الكون الحالي بعد الانفجار العظيم.

قوانين الديناميكا الحرارية

يدرس علم الديناميكا الحرارية آلية تحول الطاقة إلى أوجه أخرى منها، مثل تحول الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية أو تحول الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربائية ويحاول هذا العلم أن يضع لها القوانين والنظريات، ونبدأ بقانونها الأول:

القانون الصفري:

يَنُص هذا القانون على أنه إذا كان النظام أ في حالة توازن حراري مع نظام ثانٍ ب، وكان النظام ب في توازن حراري مع نظام ثالث ج، فإن النظامين أ و ج أيضاً في حالة توازن حراري.

على سبيل المثال لو كانت درجة حرارة كوب الشاي الأول تساوي درجة حرارة كوب الشاي الثاني، وكانت درجة حرارة الكوب الثاني تساوي درجة حرارة الكوب الثالث، فإن درجة حرارة الكوب الأول تساوي درجة حرارة الكوب الثالث.

تبدو الفكرة بسيطة ولكنها مهمة وتعد من المُسلمات التي يعتمد عليها علماء الديناميكا الحرارية ليشيّدوا عليها ما هو أكبر.

القانون الأول:

الطاقة في نظام مغلق تبقى ثابتة.

أي لو جلبنا كوباً من الشاي ووضعناه في نظام مغلق، مكان لا تصله طاقة ولا يتصل بأي مادة، في مكان فراغ ما، فإن درجة حرارته ستبقى ثابتة لا تتغير، لا تزيد ولا تنقص، لأنه لا شيء يؤثر عليه في كسب أو فقد الطاقة، ونستطيع أن نستخرج منه القاعدة المشهورة التي تقول الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم، أيضاً نستنتج أنّ الحرارة تنتقل من الجسم مرتفع الحرارة (الساخن) إلى الجسم منخفض الحرارة (البارد) وليس العكس.

القانون الثاني:

وهذا القانون يَهمُنا كثيراً في هذا الكتاب لما بُني عليه الكثير في علم الفيزياء والكيمياء، وهو ينص على أنه لكل نظام كمية من العشوائية تسمى الإنتروبيا، وفي حالة وجود نظامين منفصلين وكل منهما في حالة اتزان حراري وحركي (ثيرموديناميكي) منفصل، وتمكنا من التلامس وأمكن لهما تبادل المادة والطاقة، فسيصلان إلى حالة توازن متبادلة، ويكون مجموع عشوائية (الإنتروبيا) النظامين قبل التلامس أكبر من أو مساوية لإنتروبية النظامين بعد اختلاطهما وحدوث التوازن الثيرموديناميكي بينهما، أي أنّ الإنتروبيا الكلية تزداد أو على الأقل لا تتغير عند وصول النظام إلى حالة توازن ثيرموديناميكي جديدة.

لو قُمتَ بإحضار محلول ملحي في وعاء، ويُقابله في وعاء آخر الكمية نفسها ولكن ماء عادي، ثم قُمت بخلطهم، فإنك ستحصل على محلول ملحي متجانس الملح في كل جزيئات الماء، أي إنّ ملوحة الوعاء الأول ستقل، وملوحة الوعاء الثاني ستزيد، لأن الملح توزع في الوسط بشكلٍ متساوٍ، ويتبع هذه القاعدة البسيطة الكثير من القواعد المهمة جداً، مثل أنّ العمليات الطبيعية التلقائية تزيد من إنتروبية النظام، أيضاً لا يمكن بناء آلة تعمل بحركة أبدية، ولا يوجد تغير تلقائي لأي حالة يمكن فيها نقل الحرارة من جسم بارد إلى جسم ساخن، وأي عملية تتم من تلقاء نفسها تكون غير عكسوية، كذلك لو قمت بتفريغ غاز ما في وعاء مفرغ فإن الغاز سينتشر في كل الإناء بشكلٍ متساوٍ؛ لتصل الإنتروبيا إلى أقل قيمة لها، فالإنتروبيا هي مقياس لعدم النظام في نظام.

ينطبق هذا القانون على كل شيء في الكون تقريباً، وهو قاعدة أساسية مهمة وتطبيقاته كثيرة لا تنتهي، ولكنه في الأنظمة الحيوية يلعب دوراً خاصاً في فهم تطور الحياة، فهذا القانون لا ينطبق مباشرة على الأنظمة المُعقَّدة والمتكاملة مثل الكائنات الحية، ففيها مثلاً يتم نقل الطاقة بطريقة دقيقة لا فقد فيها، بعكس ما هو كائن في الأنظمة البسيطة، جرب أن تحمل كوباً من الشاي الساخن -وليس القهوة الساخنة- وسر به مسافة 100 متر من منزلك إلى منزل صديقك، ستجد أنها فقدت حرارتها على الرغم من تغطيتك لها ومحاولتك الحفاظ على حرارتها، هُنَاك فقد في الهواء مع النظام المغلق المحيط بالكوب، وهُنَاك فقد في تلامس جدار الكوب مع جدار المادة العازلة وغيرها من مناطق التلامس التي ستقلل بشكل كبيرة من كفاءة النظام المغلق حول الكوب ليحميه من فقد الطاقة، وهذا ما لا يحدث في عالم الأحياء، فكفاءة بعض أنظمة نقل الطاقة في الكائنات الحية أعلى بعدة أضعاف مما أنتجتها عقول العُلماء قاطبة، ولو كان لدى البشر نظام احتراق وقود في مركبة واستطاع العُلماء نقل كفاءته من 20% إلى 25% لكان إنجازاً علمياً، فما بالك بنظام حيوي نسبته تزيد عن 60% وأحياناً أكثر، أو تصل إلى 100% كما في سوط البكتيريا.

من هذا القانون نتفهم لماذا حدث الانفجار العظيم ولماذا توسع الكون، ولماذا سيحدث انسحاق عظيم، كذلك كان هذا القانون المصدر الأساسي لحسابات أثبتت أنّ الكون انفجر للمرة الأولى، لأن الطاقة الحالية في النظام الحالي لو كانت في المرة الثانية لما كانت كافية لتكوين مجرات وجزيئات المادة، بسبب الإنتروبيا العالية وفقدان الطاقة في كل عملية انفجار وانسحاق.

القانون الثالث:

ينص هذا القانون على أنه لا يمكن أن نصل بدرجة الحرارة إلى الصفر المطلق، وهي صفر كلفن، لأنه نظرياً سيكون حجم الجسم صفر، وهذا ما لن نعقب عليه في كتابنا.

قوانين الديناميكا الحرارية هذه هي أساس عمل كل ما في الكون، وهي أساس بناء العُلماء للأنموذج الكوني الحالي الناتج عن الانفجار العظيم، لكن نتيجة محاولة فهم العُلماء للانفجار العظيم وبناء أنموذج كوني موحد أدّت بالعُلماء في نهاية المطاف إلى الخروج بنظريتين مُختلفتين لتفسير الكون، النظرية الأولى هي ميكانيكا الكم، وفيها قوانين تمنحنا إطاراً لفهم العالم على المستوى الكمومي (الذرات، الإلكترونات، الميزونات، الكواركات.. إلخ)، والنظرية الثانية هي النظرية النسبية العامة لأينشتاين إذ تفسر العالم في إطار قوانين واضحة على غير المستوى الكمي، أي شيء أكبر من الذرة (النجوم، الكواكب، المجرات، حركة الأجسام.. إلخ).

صحيح أنّ النظريتين لا يمكن الجمع بينهما لغاية اللحظة، وهذا ما يحاول العُلماء حله، وسيتوصل العُلماء إلى قوانين موحدة لكل الكون عاجلاً أم آجلاً، وسيكون بإمكانك أن تطبق القانون نفسه في كل مكان ولا تشعر بأن هُنَاك عالمين منفصلين، رغم أنه نظرياً في المتفردة (وحقبة بلانك أيضاً) يمكن تطبيق النظريتين عليها لأنها بكتلة فائقة، لذا فالنسبية العامة تسري عليها، وكذلك حجمها صفر فهي ذرية نظرياً، وعلى هذا فإنه يمكن تطبيق نظريات ميكانيكا الكم عليها إلا أنّ الأمور لم تَسرِ على ما يرام للأسف، ويحاول العُلماء ذلك باستخدام نظرية الأوتار الفائقة التي ما زالت لم تحل كل شيء بعد.

المليار

لو كنت أملك المليار لتفرغت للجلوس على شاطئ بحر المالديف أحتسي أي شيء عدا القهوة، ولكن ها أنا هنا أتحدث معك عن الكون، وفي محاولة فهمنا آلية نشوء الكون وتكونه سنصطدم بأرقام كبيرة ومخيفة، ولكي نستطيع أن نتصورها يجب أن نفهم ماذا تعني، فماذا يعني المليون، وماذا يعني المليار، ولنرَ كم نستغرق من الوقت حتى نعد للمليون!

لنفترض أننا نعد في الثانية الواحدة رقماً واحداً، وكل رقم سيستغرق عده ثانية فقط، وهذا أمرٌ فرضي، لأن الأرقام الكبيرة ستستغرق أكثر من ثانية بالتأكيد، مثلاً، مليون وسبعمئة واثنين وعشرين ألف وتسعمئة وواحد وخمسين، لكننا سنفترض أنها ثانية، أي لكي نعد إلى المليون في البداية وليس المليار نحن بحاجة إلى مليون ثانية، ولنرَ كم يساوي المليون بالأيام!

كل دقيقة هي 60 ثانية (معلومة خطيرة)، وكل ساعة 60 دقيقة، وكل يوم 24 ساعة، أي أنّ المليون ثانية هي: 1000000 ÷ 60 ÷ 60 ÷ 24 = 11 يوم ونصف تقريباً.

أي أنّ الإنسان الطبيعي لو أراد أن يعد من رقم 1 إلى المليون دون توقف ليل نهار سيلزمه 11 يوم ونصف لينهي العملية على افتراض أنه لن ينام أبداً، وأنّ كل رقم بحاجة إلى ثانية واحدة.

قام رجل أمريكي يدعى جيمي هاربر بالعد حتى المليون في 18-يونيو-2007 مباشرة عبر الإنترنت مع وجود متفرجين وعلى مدار 16 ساعة يومياً، 7 أيام أسبوعياً، استغرقه الأمر 89 يوماً للانتهاء! ونحن افترضنا أنها 11 يوم فقط.

ولكن، ماذا عن المليار؟ حسناً، كي لا نعيد العملية الحسابية مرة ثانية، فالمليار هو ألف مليون، أي أننا بحاجة لأن نضرب الناتج بـ 1000 فيصبح لدينا ١١,٥٧٤ يوم أي تقريباً 32 سنة(نظرياً)! يمكنك متابعة العد عبر هذا الموقع www.countonemillion.com، لكن حاذر أن تدفع بنساً!

تخيل يرعاك من يرعاك أنك لكي تعد حتى المليار، ثانية بثانية لكل رقم دون نوم سيلزمك 32 سنة لتنهي العد! أي أنك لو بدأت العد من الآن حتماً ستفنى قبل أن تنهي العد، لأنه مفترض 32 سنة دون أكل أو نوم فقط عد متواصل، وهذا يعني مضاعفة العدد 3 أضعاف الوقت المطلوب لإنهاء مسألة العد.

ولكن ماذا عن مليار مليار؟ هذا الرقم يعني 100 ألف سنة من العد! أي قبل عمر البشرية كلها، لذلك لا تستهِن بالرقم مليون أو مليار حينما تمر عليه مرور الكرام وتقول “ماذا يعني مليون”، أو إنّ المليار لا شيء يُذكر، أو أن تقول إنّ احتمالية 1 من مليار ليست بالشيء الكبير، إنها ممكنة، أو تقول إنّ تغيير 1 في المليار قد يكون أمراً ممكناً، ولكن تخيل أنّ آلية كبيرة لديها مدخلات من مليار مليار مليار شيء، ولكنها دقيقة جداً في عملها لدرجة أنّ 1 من مليار مليار مليار إذا تغير عليها سيُؤَدِي إلى تدميرها!

حينما نعرف أنّ الكون مكون من مليارات المجرات، وكل مجرة مكونة من مليارات النجوم، والمسافة بين كل نجم ونجم هي ملايين السنوات الضوئية، والنجوم أكبر بآلاف المرات من كوكب الأرض، وكوكب الأرض أكبر من بيتك ملايين المرات، وجسمك يحتوي على مليارات الخلايا، وكل خلية مكونة من مليارات الذرات، يجب عليك أن ترى الأرقام تتطاير أمام عينيك وتشعر بالخوف والضآلة وأنك لا شيء في هذا الكون.

Table 1 فيديو يوضح كم أن حجم الكون كبير، ليساعدنا في تخيله أثناء القراءة

Universe Size Comparison 3D

http://bit.ly/38f6vqE

Star Size Comparison 2

http://bit.ly/2S7tlLb

Star Size Comparison 3 (Vortex V1)

http://bit.ly/39gQK2y

got balls – planet size comparison, 12tune

http://bit.ly/2UDfjme

انتظر! إنك شيءٌ في هذا الكون، لقد انطوى فيك العالم الأكبر، فكل هذه الأرقام المخيفة يجب أن تكون في سياقٍ ما لكي تمسك هذا الكتاب الآن وتقرؤه بهذه الصورة الذهنية المضيئة!

تشكل الكون

الجدير بالذكر أنّ جميع النظريات أو الأحداث لتكوين الكون غير نهائية، ويتم إجراء تغييرات رياضية وهندسية عليها من حين إلى آخر، حسب الاكتشافات الجديدة والتي تعمل على تعديل الأنموذج الأصلي في لحظة وقوع الانفجار وما تبعه من تسلسل وأحداث.

بعد الانفجار العظيم (ليس انفجار بقدر ما هو توسع) وبعد عصر بلانك في الثواني الثلاثين الأولى (تقريباً)، أصبح الكون أكثر استقراراً، وبدأت الكواركات في التجمع وتكونت البروتونات والنيوترونات، وانفصلت قوة الجاذبية عن القوى الثلاثة الأخرى (النووية القوية، والضعيفة، والكهرومغناطيسية)، وبعد ثلاث دقائق من الانفجار العظيم كانت درجة حرارة الكون مناسبة لتكون جُسيمات أكبر، وكان الكون مليئاً بالفوتونات التي بدأت تتفاعل مع البروتونات وبدأ يحدث الاندماج النووي بين البروتونات والنيترونات ولكن دون الإلكترونات، وهذا أدّى لتكوين أنوية حقيقية للعناصر الأساسية لهذا الكون مثل الهيدروجين والهيليوم والليثيوم وبنسب متفاوتة، واستمرت هذه المرحلة لغاية الـ 380 ألف سنة التالية.

وبسبب تمدد الكون أكثر فأكثر، استمرت كثافة الكون في الانخفاض وبدأت أنوية الذرات تتحد مع الإلكترونات وباتت الذرات متعادلة كهربائياً، وبهذا يمكن أن ينفصل الإشعاع عن المادة وينطلق في الفضاء دون عوائق، وهو ما كون الخلفية الإشعاعية للكون التي قاسها مسبار ويلكنسون WAMP.

منذ ما يزيد عن مائة وخمسين مليون عام، بدأت تتكون أشباه النجوم الأولى جراء الانهيار الذي سببته الجاذبية، امتازت هذه النجوم بدرجة حرارة مرتفعة جداً؛ لاحتوائها على عنصري الهيليوم والهيدروجين بصفة أساسية، فقد كانت النجوم في ذاك الوقت كبيرة وساخنة جداً نتيجة لاستهلاكها الشديد للهيدروجين والهيليوم، وبهذا بدأت تتحول هذه العناصر في قلب النجوم إلى عناصر أثقل مثل الكبريت والصوديوم والبوتاسيوم والحديد والنيكل والكوبالت، ثم تجاذبت المناطق الأكثر كثافة من المادة والموزعة بتجانس ونمت بكثافة أكثر، ومع تجمع المزيد من الهيدروجين مع المادة المظلمة اكتمل تكوين المجرات والنجوم، وتكونت مجموعتنا الشمسية بعد 8 مليار سنة.

لاحظ العُلماء أثناء دراسة حركة المجرات أنّ حركتها لا تتوافق مع كتلتها، فمن المفترض حسب كتلة المجرات الحالية أن تتحرك هذه المجرات بسرعة أكبر، وهذا ما دفع العُلماء إلى إعادة حساباتهم مع افتراض وجود مادة مخفية أطلقوا عليها فيما بعد تسمية المادة المظلمة، وقد نجحت هذه الافتراضات وتوافقت نتائجها مع أرقام أخرى في الكون، مثل عدم تجانس خلفية الكون الإشعاعية، وفي حسابات انخفاض سرعة عناقيد المجرات وقياس الأشعة السينية لها ودراسات عدسة الجاذبية وتوزيع بنية الكون، وتم تأكيد تأثيرها الجذبوي على مجرات الكون بدقة، إنّ المادة المظلمة شيءٌ لا نراه ولكننا نرى أثره ونشعر به! ولكن يا تُرى أين سمعت جملة كهذه، هممم، لقد سمعت بها وإنها فكرة ضد العلم والمنطق!

وقد بيّنت نتائج المُحاكاة الحاسوبية أنّ للمادة المظلمة دوراً رئيساً في تكوين المجرات، وأنها عبارة عن جُسيمات ذات جاذبية إلا أنها ضعيفة التفاعل مع المادة التي نعرفها، ولا تقوم بامتصاص الضوء ولا تقوم بإصداره، وقد نتجت عن دراسات المادة المُظلمة دراسات الطاقة المُظلمة، والتي تضبط إيقاع الحسابات الرياضية، ولكن طبيعة الطاقة المظلمة لا يزال واحداً من أسرار الانفجار العظيم التي بحاجة للكشف عنها، وقد أكد مسبار WMAP أنّ الكون يتكون من 4% مادة عادية و23% مادة مظلمة و73% طاقة مظلمة وأقل من 1% نيوترينوات [4] كما في (شكل 6 مراحل تطور الانفجار العظيم حسب تأكيدات مسبار WMAP).


شكل 6 مراحل تطور الانفجار العظيم حسب تأكيدات مسبار WMAP

بعد انفجار الكون حدثت الكثير من الأمور على المستوى الكمومي في كل المراحل لم نذكرها وذكرنا فقط كيف تكونت الذرات، لكن ما يقوله العُلماء أنّ الانفجار أدى إلى تمدد الكون بسرعة عالية تَفُوق سرعة الضوء مليار مليار مرة (1000000000 * 1000000000 * 299,792,458 = 299792458000000000000000000 متر في الثانية)، وما هو معروف أنه لا شيء في الكون أسرع من الضوء مطلقاً والضوء سرعته ثابتة حتى بالنسبة للمراقب، وعلى الرغم من شدة هذه السرعة إلا أنها سرعة دقيقة جداً، ويحاول العُلماء فهم كيف لهذا الانفجار الدقيق أن يحدث بدقة متناهية لا يتخيلها عقل لكي يكوّن الكون، فلو كانت سرعة تشتت المادة بعد الانفجار أقل أو أعلى قليلاً لما تكوّن هذا الكون الذي نراه! ووجود هذا الأمر يشعرني بالحيرة فأنا لا أؤمن بالصدف أو أتقبلها في إطار معين، وأؤمن بالعلم والتخطيط، وأن يدعوني صديقي مرتين على حسابه في أسبوع دون سبب هو أمرٌ مُستحيل ولا مجال للصدفة فيه.

الجسيمات والقوى

كما هو ملاحظ، فالحديث عن الذرات يأخذنا حتماً إلى الحديث عن النجوم، فالكون ذو إطار مرجعي واحد ومُنبثقٌ من مادة واحدة، ومن المُفترض أن تكون القوانين واحدة، إلا أنه كما رأينا لم يستطع العُلماء بعد توحيد النظرية الكمومية والنسبية في نظرية واحدة، لكن هذا لا يعني ألا نحاول أن نفهم الكون بما لدينا من قوانين، ولقد اعتقد الإغريق أنّ المادة مكونة من أجسام متناهية في الصغر لا يمكن قسمها أكثر أطلقوا عليها تسمية الذرات، إلى أن وصلنا في القرن العشرين ونجح العُلماء بتفتيت الذرة واكتشفوا أنّ الذرة التي نعرفها ليست هي الذرة المقصودة كونها أصغر شيء في الوجود لا يمكن تجزئته، بل هُنَاك ذرة أصغر يجب البحث عنها، فالذرة المعروفة تحتوي على عناصر أصغر مثل البروتونات والنيترونات والإلكترونات، ثم في عام 1968م في المعجّل أو المسرع الخطي في ستانفورد اكتشف العُلماء أنّ هذه الجسيمات بدورها تتكون من جزيئات أصغر تسمى الكواركات Quarks، وأثناء محاولات العُلماء فهم الانفجار العظيم عبر دفع الذرات والجسيمات في مسارع الجسيمات إلى صدم بعضها البعض والبحث من خلال الشظايا الناتجة، اكتُشِف أنّ هُنَاك عدة أنواع من الكوراكات، واكتشف جسيم التاو والميزون والنيوترينو والميون.

والميزون -على سبيل المثال- جُسيم يشبه الإلكترون إلا أنه أثقل بـ200 مرة منه، كما اكتشف العُلماء أنّ لهذه الجُسيمات جُسيمات مضادة، وإذا تلاقى كل من الجُسيم مع جُسيمه المضاد فسيختفيان من الوجود وستنتج طاقة جراء هذا الاتحاد [4]، فالإلكترون له جُسيم مضاد مشابه له في الكتلة اسمه البوزيترون، لكن شحنته موجبة بعكس الإلكترون ذو الشحنة السالبة، والجُسيمات المضادة (المادة المضادة) بالإضافة إلى الطاقة المظلمة يسعى العُلماء إلى فهم لغزها الغامض في هذه الأيام لحل لغز الكون، إلا أنّ دراستها تنبع فيها الكثير من العقبات لأنها تختلف عن المادة التي نعرفها.

نتيجةً لأبحاث العُلماء المُتزايدة، وجد العُلماء ما يزيد عن 100 جُسيم مُختلف الشكل والكتلة والشحنة، وقاموا بتصنيفها في عائلات لتسهيل دراستها، وهذا ما أضاف المزيد من الأسئلة بدلاً من أن يقلّصها، كانت لدينا عشرات الأسئلة ونحن نعرف البروتون والنيوترون والإلكترون فقط، ولكن الآن، بعشرات الجسيمات سيكون لدينا مئات الأسئلة، لماذا كل هذا العدد من الجسيمات؟ وما فائدتها الحقيقية في تشكيل الكون؟ وأين دورها؟ ولماذا توجد 3 عائلات منها وليست 4 عائلات؟ ولماذا تختلف في كتلتها وشحنتها؟ ولماذا يزن جسيم التاو 3520 مرة وزن الإلكترون؟ وغيرها من الأسئلة المحيرة التي جعلت بعض العُلماء يفكرون جدياً بإراحة ضميرهم والاعتراف بأن هذا خَلقٌ إلهي، ودعونا نبحث في شيء آخر.

مهما تنوعت عمليات هذا العالم، من حركة سيارات أو تفاعلات حيوية أو نبضات حاسوبية إلا أنها تبقى محصورة في أربع قوى أساسية حددها العُلماء هي: القوى المغناطيسية، القوى النووية الضعيفة، القوى النووية القوية، والجاذبية، والجاذبية هي أضعفها، أما القوى النووية القوية هي المسؤولة عن ترابط الجُسيمات داخل الذرات، وهي ذات تأثير هائل في المسافات تحت الذرية، وتُعَد أقوى أنواع القوى، والقوى النووية الضعيفة مسؤولة عن الانشطار النووي والاضمحلال الإشعاعي للعناصر.

يتساءل العُلماء، لماذا توجد أربع قوى أساسية وليست أكثر أو أقل؟ ولماذا تتباين خواص هذه القوى بهذا الوضوح؟ ولماذا تُعتبَر قوة الجاذبية ضعيفة وغيرها أقوى؟ ولماذا لا تؤثر الجاذبية في المستوى الذري بعكس القوى النووية القوية؟ ولماذا لا تطغى قوة على أخرى؟ فلو كان في يدك اليمنى إلكترون وفي يدك اليسرى إلكترون آخر وحاولت الجمع بينهما، فستعمل قوى الجاذبية على ذلك بينما سيقوم التنافر الكهرومغناطيسي بمحاولة إبعادهما عن بعضهما البعض، ولكن، من الأقوى بين هاتين القوتين؟ إنّ قوى التنافر الكهرومغناطيسية أقوى بمليون مليار مليار مليار مليار مرة أي 10^42 مرة من قوى الجاذبية، ولو كانت قوة الجاذبية هي المسافة بين كف اليد إلى كوع اليد، فلا بدّ للقوى الكهرومغناطيسية أن تتسع مسافتها لتملأ الكون ولن تكفيها، هذا للتقريب بين الرقمين؛ لنرَ ضخامة الفرق بين القوتين، وإنّ أغلب الأشياء ذات القوى المغناطيسية موجودة في الكون بشكل متعادل كهربائياً.

القوى النووية أقوى من القوى الكهرومغناطيسية بمئة مرة، وهي أقوى من القوى الضعيفة بمئة ألف مرة، إنّ وجود هذه القوى بهذا الشكل الدقيق يسمح للذرات بأن تُوجد بشكل ثابت؛ فعناصر الجدول الدوري ثابتة ومستقرة بسبب هذه الفروقات في الأرقام، فلو زادت كتلة الإلكترونات عدة مرات فلن تكون هُنَاك احتمالية لتكوّن الذرات المكونة للنجوم، وهذا ما دفع العُلماء للمزيد من الجنون، لماذا وكيف ومتى، ولماذا قوانين الكون بهذا الشكل، وليست بشكل آخر!

ميكانيكا الكم

أجرى العالم توماس يونغ عام 1801م تجربةً كان الهدف منها دراسة طبيعة الضوء، سُميت بتجربة الشق المزدوج، فنيوتن كان قد افترض أنّ الضوء ذو طبيعة جُسيمية؛ أي يتكون من جُسيمات، أما تجربة يونغ فقد أثبتت أنّ الضوء يتكون من موجات، لاحقاً، تم استخدام هذه التجربة لإثبات أنّ الإلكترونات وباقي الجُسيمات الذرية ذات طبيعة موجية أيضاً.

على الرغم من بساطة تجربة الشق المزدوج إلا أنها لا تزال بلا حلٍ نهائي إلى يومنا هذا، وتعتمد التجربة على وضع مصدر ضوء أمام حاجز به شقين مفتوحين يسمحان بمرور الضوء، ويوجد خلف هذا الحاجز لوحة رصد يتم استقبال الضوء المار من الشقين.

من المُفترض أن يظهر على لوح الاستقبال خطان واضحان من الضوء نتيجة مرور الضوء من خلالهما كما نرى في (شكل 7 تجربة الشق المزدوج نظرياً)، لكن ما نتج عن التجربة هو مجموعة من الخطوط التي توحي بأن الضوء يسير بطريقة موجية نتيجةً لتداخل الموجات كما مرور موجات الماء من خلال شقين وتداخلهم خلف الشقين، ولكن لو كان في الحاجز شقٌّ واحدٌ فقط، فإن النتائج ستظهر على اللوح كما لو أنّ الضوء ذو طبيعة جُسيمية وسيظهر خط واحد فقط كما في (شكل 8 نتاج تجربة الشق المزدوج)!


شكل 7 تجربة الشق المزدوج نظرياً

نتيجة تجربة الشق المزدوج نظرياً، لو أنّ الضوء ذو طبيعة جسيمية


شكل 8 نتاج تجربة الشق المزدوج

بعد هذه التجربة بمائة عام حاول العالم ماكس بلانك حل مُشكِلة تجربة الجسم الأسود، التي كانت لا تتفق مع قوانين الفيزياء الكلاسيكية، إذ قام بتوضيح أنّ الطاقة يتم إطلاقها من الأجسام على شكل حزم طاقة مُحددة تسمى بالكمات، ولكي تنتقل هذه الكمات من مستوى طاقة إلى آخر فإنها تحتاج إلى كمية مُحددة من الطاقة للانتقال، وإلا فإنها ستعود إلى مستواها السابق، فلا مجال لنصف كمّة أو ربعها، بل كمّة ومضاعفاتها، وقد أطلق بلانك شرارة البحث في علم ميكانيكا الكم وهو لا يعلم.

لاحقاً، تم إعادة تجربة الشق المزدوج على الإلكترونات، وقد أُثبت أنّ الإلكترونات تتصرف كالضوء، وأنها ذات طبيعة موجية، إلا أنّ هذا يتعارض بالكامل مع النظرية الفيزيائية الكلاسيكية، والتي ترى أنّ الإلكترون ذو طبيعة جسيمية، وهذا أمر مُثبتٌ علمياً، فما كان من العالم لويس دي بروي إلا أن صدم العالم في افتراضه العجيب بازدواجية الإلكترون وأنه ذو طبيعية موجية وجُسيمية في آن واحد، وقد استطاع أن يبرهن على فرضيته هذه، وقد تم إثبات أنّ هذه الفرضية تنطبق أيضاً على جميع جُسيمات المادة الأخرى، مثل البروتون والنيوترون وغيرها، وهذا ما دفع أينشتاين للقول: “لدينا صورتان متعارضتان للواقع، إن كانتا منفصلتين لا تشرح أي منهما ظاهرة الضوء بشكل كامل، ولكنهما معاً يشرحانها بصورة مثالية” وهو يقصد الطبيعة المزدوجة للجُسيمات، إذ تسلك الجُسيمات مسلكاً موجياً في حركتها!

ومع استمرار التجارب والنظريات في بدايات القرن العشرين، ظهرت المزيد من التناقضات في قوانين الفيزياء الكلاسيكية عندما تم تطبيقها على المستوى تحت الذري (الكمي)، ومنها أنّ التصور لشكل الذرة الذي يشابه شكل مجموعتنا الشمسية، والذي فيه تمركز النواة في الوسط والإلكترونات في المدارات، يجب ألا يستمر بهذا الحال في ظل قوانين الفيزياء الكلاسيكية؛ لأن الإلكترونات يجب أن تتسارع نحو الجذب المركزي باتجاه النواة، مما سيُؤَدِي إلى بثّها لإشعاع كهرومغناطيسي، وهذا يُحتّم على الإلكترونات أن تفقد طاقتها شيئاً فشيئاً، ونتيجة لذلك تقترب من النواة حتى تصطدم بها في جزء من الثانية، وهذا ما لا يحدث في الواقع، بل تستمر الإلكترونات بالدوران حول النواة بلا توقف، بالإضافة إلى تجربة الجسم الأسود الذي يمتص كل الإشعاع الساقط عليه، ومن ثم يعيده مرة أخرى في آلية تعارض الفيزياء الكلاسيكية.

هذا ما دفع العُلماء إلى استنباط نظريات جديدة مخالفة للنظريات الفيزيائية التي تعمل على الأجسام فوق الذرية، وأسموها النظريات الكمومية في محاولة منهم لتفسير الظواهر على مستوى الذرة والجُسيمات دون الذرية، وقد حاول العُلماء بإعادة تجربة الشق المزدوج مع وضع مصدر لإطلاق الإلكترونات بدلاً من الضوء، مع وضعهم جهاز كاشف بعد الحاجز الذي يقف بين مصدر الإلكترونات ولوح استقبالها، لدراسة شكل الإلكترونات الموجية الخارجة من الشقين، فتفاجأ العُلماء بتغير شكل الإلكترونات الظاهرة على لوح الرصد كما لو أنها أمست ذات طبيعة جسيمية، وظهر خطين من الإلكترونات بشكل واضح، وحصلوا على مناطق ذات شدة إلكترونية ومناطق محرمة على الإلكترونات ما كانت لتظهر لولا أنّ الإلكترونات سارت في طريقة موجية.

حيرت هذه التجربة العُلماء في نتيجتها، وهذا ما دفع العالم هايزنبيرغ إلى إطلاق مبدأه الشهير الذي يُعرف بـ مبدأ الشك أو مبدأ عدم اليقين أو الارتياب، وينص هذا المبدأ على أنه لا يمكننا أن نقيس خاصيتين فيزيائيتين (كالمكان والسرعة) في لحظة معينة لأي جسم كمومي مثل الإلكترون دون وجود قدر من عدم التأكد من إحدى الخاصيتين أو كلتيهما، وإذا قمنا بتحديد سرعة الإلكترون مثلاً، فإنه سيصبح مُستحيلاً علينا تحديد مكانه بدقة، وهذا يعني أنه ما دامت القوانين الأساسية للفيزياء لا تسمح لأي مشاهد أن يُجري تجربةً مهما كانت ظروفه مثالية، فلا يمكننا أبداً أن نحصل على أية معلومات مؤكدة من أي تجربة، وكل ما يمكن أن يكوّنه المشاهد في التجربة هو أن يكوّن تنبؤات إحصائية، فعلى سبيل المثال يمكن للعالم الذي يدرس الإشعاع أن يتنبأ بأنّه من بين كل ألف مليون ذرة راديوم سوف يصدر إشعاع غاما في اليوم التالي من مليونين فقط، كما أنه لا يستطيع أن يتنبأ أي هذه الذرات بالضبط ستصدر الإشعاع، وكلما زادت عدد الذرات، زاد عدم اليقين وهكذا.

لقد أدى هذا الشك المرعب إلى رفض أينشتاين لهذه النظرية في البداية، على الرغم من أنّ ميكانيكا الكم لا تعطينا تنبؤاً دقيقاً بنتيجة رصد أو قياس جسيم كمي، وإنما تعطينا فقط مجموعة من النتائج الممكنة والمُختلفة لكل منها احتمال وجود معين، إلا أنّ العُلماء قبلوا فيها مضطرين لأنها تفسر الموجود، فلم يستطع أي من العُلماء تحديد طبيعة الجسيم إن كانت جُسيمية أو موجية وهي تتغير حسب تدخل الراصد نفسه، فحينما يحاول عالم ما قياس الخاصية الموجية للجسيم تظهر النتائج كما لو أنه ذو سُلُوك موجي، والعكس صحيح.

لم تتوقف عجائب تجربة الشق المزدوج للإلكترون عن إدهاش العالم وحثهم على البحث عن تفسيرات جديدة لحل مشكلاتها، وهذا ما حذا بالعالم فاينمان أن يطلق نظريته التي يرى فيها أنّ الإلكترون ومنذ لحظة خروجه من منبعه حتى وصوله إلى لوح الرصد، يسلك كل المسارات الممكنة له في آن واحد، وبذلك يستطيع الإلكترون المرور من كلا الشقين في وقت واحد، وعلى الرغم من ظهور تفسيرات عديدة، إلا أنها باءت بالفشل في توضيح هذا السُلُوك غير المنطقي للإلكترون، ولكن هل يوجد أعجب من تفسير فاينمان!

وما تراه ميكانيكا الكم اليوم أنّ الإلكترون والجُسيمات الأخرى لا تسير بمسار مستقيم كما نتوقع، بل هُنَاك جُسيمات مُرتبطة بالإلكترون تنتقل مكانياً بطريقة لا نعلمها، فقد تشعل الضوء في غرفتك فيخرج فوتون ما فيلمس القمر، ثم يعود إلى غرفتك لتراه في اللحظة نفسها التي يجب أن يظهر فيها، على الرغم من سُلُوكه مساراً غريباً إلا أنه يصل في اللحظة نفسها مع إخوته الفوتونات، وهذا ما قد يكون مرعباً في العلوم إذ لم تستطع أن تفسر عدم الانتظام أو العمليات غير المنطقية على المستوى الكمومي بهذا الشكل، ويتركنا في لا حتمية أو لا منطقية يراها المُؤمِنون أنها طلاقة قدرة الله وحده.

الاحتمال المُستحيل

في علم الاحتمالات، حين يتم دراسة إمكانية حصول حدث عشوائي، يتفق الرياضيون على شيء اسمه الاحتمال المُستحيل، لدينا عملة نقدية تحمل وجهين، صورة، وكتابة، ما هو احتمال إذا رمينا العملة في الهواء وسقطت أن تكون النتيجة هي صورة؟ الاحتمال هو 1 من 2، أي خمسون في المئة، ولو رمينا القطعة النقدية مرتين في الهواء، ما هو احتمال أن نحصل على صورة مرتين متتاليتين؟ الإجابة سهلة، هي ربع الاحتمالات أي 25%، ولو كان لدينا 10 عملات فإن الحساب يكون 2 أس 10، أي أن الاحتمال 1 من 1024 وهكذا، ولو كان لدينا نرد بستة وجوه فإنّ احتمال الحصول على الرقم 2 مثلاً هو 1 من 6، أي سدس القيم المتوقعة وتساوي 16%، واحتمال الحصول على الرقم 1 أو 5 هو سدسين، أي 2 من 6 أي الثلث وتساوي 33%، واحتمال الحصول على الرقم 1 و 5 هو احتمال مُستحيل، لأن النرد سيسقط على وجه واحد، ولكن ما احتمال الحصول على الرقم 3 عدة مرات متتالية تصل إلى 8 مرات مثلاً؟ سيكون الرقم قليلاً جداً، ولكن ما هو الرقم الذي يمكننا القول عنده أنّ هذا الاحتمال مُستحيل، ولا يمكن أن يحصل بأي حالٍ من الأحوال؟

في الديناميكا الحرارية يُعدُّ الاحتمال المُستحيل هو احتمال حصول أمر ما من الرقم 10 أس عدد أفوجادرو، أي 1 من 10^23[5]، وبشكل عام يتفق العُلماء أنّ الاحتمال المُستحيل هو أي احتمال فوق الاحتمال 1 من 10^50. وبذلك علمياً أو رياضياً أي شيء فوق هذا الاحتمال لا يمكنك اعتباره ممكناً، بل هو مُستحيل أو خارق للعادة.

يُفيد فهم نظرية الاحتمالات هذه متى يمكننا التوقف عن الأمل في أي احتمال في هذا الكون، ومتى نستطيع القول إنّ هذا ممكن، وإنّ هذا غير ممكن وخارج عن المألوف، وخارج عن نطاق هذا الكون.

ويجب الانتباه إلى أنّ للاحتمالات معنىً في ظل وجود هذا الكون، ولولا وجود الكون لما كان للاحتمالات معنى، فاستخدام الاحتمالات في توقع إمكانية حدوث الكون أمر لا معنى له، لأن الاحتمالات والزمان والمكان هي نتاج انفجار الكون، ولم تكن قبله.

من وإلى

بعد إرساء أسس العلوم الطبيعية على العقل والتجارب العلمية والمشاهد الحسية، أمسى العُلماء يؤمنون في القرنين الثامن والتاسع عشر أنّ الكون ماديٌ بحت، وفور أن أثبت كوبرنيكوس أنّ الأرض تدور حول الشمس حتى انقلبت الموازين، وقد كان قرن كوبرنيكوس والقرن الذي يليه قرنين ماديين، يحاول العُلماء فيهما أن يفسروا كل حادث بعيداً عن العواطف والمعتقدات، وكان نتيجة ذلك فقدان الإنسان لقيمته العليا، فبدلاً من كون هذا الإنسان قد صنعه الله، قال علماء الطبيعة أنه نتيجة الصدفة، وبدلاً من أن يكون الكون مخلوقاً رأى العُلماء أنه أزلي، وبدلاً من أن تكون مجموعة الإنسان الشمسية مركز الكون، اتضح أنّ الكون مليء بالمجرات والنجوم، وبدلاً من أن يكون كوكب الإنسان مركز الكون، اتضح أنّ كوكبه كوكبٌ بسيطٌ يدور حول الشمس، إذن هذا الإنسان صدفة قد تتكرر في أي كوكب وفي أي مكان ولا شيء فيه مميز، هو حيوان ناطق أرقى من القرد قليلاً في بعض الأمور، لكنه يبقى حيوان.

وقد ذهب بعض العُلماء إلى ما هو أبعد من ذلك، مثل كارل ساجان الذي آمن بأن هُنَاك ملايين الحضارات المشابهة لنا على كواكب أخرى وفي أنظمة على مجرات بعيدة، وذلك استناداً إلى مساحة الكون الشاسعة، وتقول فكرة ساجان أنّ احتمالية تكوُّن شروط الحياة الملائمة في موضع آخر غير كوكب الأرض ممكنة، فما دمنا نتحدث عن كون يحتوي على أعدادٍ لا يمكن إحصاؤها من المجرات والكواكب، وكان بعض علماء الطبيعة بشكل عام يعتقدون أنّ أي كوكب يحتوي على ماء وطاقة وبعض المواد العضوية سيكون عليه كائنات مثلنا نحن البشر، ولربما بعضهم أرقى منا بكثير، فما زلنا نحن نتاج تفاعلاتنا الكيميائية ومصيرنا حتمي مكتوب في الدنا DNA ولا مفر من المكتوب.

لكن، ما لبث أن خرج التخطيط من العبث، والتفرد من التشابه، وكون من مصمم، وبدأت الأسئلة، وعلى رأس هذه الأسئلة السؤال الذي طرحه العالم فيرمي وسُمي لاحقاً بمفارقة فيرمي Fermi Paradox؛ إذ يتساءل العالم فيرمي عن فرص وجود حياة أخرى في هذا الكون الشاسع، وأين الحضارات الذكية، أين الكائنات الفضائية، ومنذ ذلك الوقت في العالم 1950م قامت العديد من المحاولات وحتى معاهد كاملة مثل SETI Institute؛ للبحث عن الحياة الذكية خارج الكوكب Extraterrestrial intelligence، وتم مسح الكون وذلك بمعدل ملايين الترددات في الثانية ولأكثر من ٥٠ عام، في محاولة جادة للإجابة عن هذا السؤال البسيط.

مفارقة فيرمي

إذا كان هُنَاك المليارات من الكواكب التي تُشبه الأرض في مجرات لا متناهية، فعلى الأرجح هُنَاك احتمالات أن توجد حياة وحضارة مثلنا أو أرقى منا، هذه الفكرة لمعت في ذهن العالم الإيطالي فيرمي أثناء تناوله الغداء، وقد كلفت البشرية لاحقاً الكثير من الطعام في محاولة التفكير لحلها، يوجد في مجرة درب التبانة بين 100 و400 مليار نجم، ويحتوي الكون على ما يقارب هذا العدد من المجرات، أي أنّ كل نجمة في مجرتنا أمامها مجرة كاملة تحتوي على عدد نجوم تقريباً مشابه، وهذا يعني أنّ عدد النجوم في الكون مساوٍ لعدد حبات رمال كل شواطئ الكرة الأرضية مضروباً ب10000!

ولو افترضنا أنّ 1% من الكواكب تشبه كوكبنا، وعلى الأقل كل حبة رمل في كوكبنا تماثل كوكباً شبيهاً في إحدى مجموعات النجوم، فهذا يعني أنه هُنَاك 10 مليون مليار حضارة ذكية في هذا الكون الفسيح، ولكن لماذا لم نسمع عنهم أو نراهم حتى هذه اللحظة؟! الإجابات التي قد نحصل عليها ستكون ضمن الآتي:

  1. الحضارات الفضائية موجودة إلا أنهم لا يمكنهم التواصل معنا.
  2. الحضارات الفضائية موجودة وترسل إشارات لنا، لكن لا يمكننا فهمهم.
  3. الحضارات الفضائية كانت موجودة في وقت لم نكن نحن فيه.
  4. الحضارات الفضائية موجودة لكن الناس لا تدرك ذلك.
  5. اختفت الحضارات الفضائية لأنهم تدمروا لسبب ما.
  6. لا يهتمون بنا، فهم إما حضارات متطورة لمستويات تجعلنا في نظرهم كالنحل مثلاً بالنسبة لنا نحن البشر، فهل فكرنا ذات يوم بالتواصل مع النحل؟ رغم أننا نراهم يعملون طوال الوقت وينظمون أنفسهم!

ومع عمر الكون الكبير توفر الكثير من الوقت، فقد يكون قد بدأ أول الأجناس المتقدمة -على الأقل- بإرسال مركبات فضائية لاستعمار الكواكب، فلو أنّ أول حملة استعمارية من حضارة ما استغرقت مليون عام، فإن المستعمرة الجديدة مع الحضارة الأصلية، يمكن أن تقوم بإرسال كل منهما بعد ذلك رحلات لاستعمار كواكب أخرى، مما يضاعف عدد المستعمرات كل مليون عام، أي أنه بعد ١٠ مليون عام سيكون هناك ١٠٢٣ مستعمرة جديدة، وبعد ٢٠ مليون عام، سيكون هُنَاك ملايين المستعمرات وخلال ٤٠ مليون عام سيكون تم إنشاء مليار مستعمرة، أما بعد ١٤ مليار عام، فسيكون الكون مكتظاً بالحضارات الفضائية وبهذا ستتكون أجناسٌ أخرى.

هذه الاحتمالات والأرقام واحتمال وجود 100 ألف حضارة في مجرتنا وحدها، دفعت العالَم إلى البحث الجدي عن هذه الحضارات، أو هذه الكائنات، خاصةً بعد التطور في مجال الاتصالات في القرن العشرين، ومحاولة استعمال إشارات الراديو في الاتصال والتواصل مع هذه الحضارات كما في فيلم Contact أو الوافد The Arrival ولربما حينما يعرفون أننا حضارة ناشئة سيأتون ويحتلوننا كما في Mars Attacks أو Edge of Tomorrow أو يتسلّون معنا كما في Predator ولربما يعيشون بيننا والحكومة تخفي هذا عنا Men in Black أو ربما تفاهمنا معهم مسبقاً The Day the Earth Stood Still أو لربما هزمناهم Independence Day، أو لربما يأتون ويعلموننا لنحميهم في المستقبل كما في Arrival وغيرها من مئات السيناريوهات، ولكن بعد كل هذه المحاولات لم نحصل على شيء بعد، صحيح أنها ما زالت موجودة في بعض العوالم مثل عالم هوليود، وعالم مارفل، وعالم دي سي، وقد قابلت ريبلي حضارة منها في سلسلة أفلام Alien، إلا أنه في عالم الأرض 616 لم نجد شيئاً بعد، ولكن لماذا يا تُرى؟ دعني أخبرك أنّ الأمر ليس بسيطاً كما يبدو، ففي القرن الماضي والذي يسبقه كان العُلماء يؤمنون جدياً بوجود هذه الكائنات والحضارات، وبذلوا الكثير في سبيل ذلك من دراسات وأبحاث كثيرة منها ما هو شائع مثل رسالة أريسيبو ولوحة فوياجر الذهبية ومشروع فينيكس وإشارة واو في عام 1977م التي حيرت العُلماء وما زالت تحيرهم.

في محاولة الإجابة على احتمال وجود هذه الكائنات أو لا، حاول العالم فرانك ديريك الرد بلُغة الحسابات الحقيقة وذلك باقتراحه معادلة سميت باسمه (معادلة ديريك Drake equation) وصيغة هذه المعادلة:

N = R* × fp× ne × fl × fi × fc × L

  1. N هو عدد الحضارات في مجرتنا التي يمكن أن نستقبل إشاراتها الكهرومغناطيسية.
  2. *R هو عدد النجوم التي تتكون كل عام في مجرة درب التبانة.
  3. FP هي نسبة عدد النجوم التي تحتوي على كواكب.
  4. ne هو عدد الكواكب في كل نظام شمسي، يمكن للحياة أن تنشأ فيها.
  5. FL هي نسبة الكواكب الصالحة التي نشأت عليها حياة بالفعل.
  6. fi هي نسبة الحياة على الكواكب التي باتت فيها حضارة واعية.
  7. FC هي نسبة الحضارات التي شيّدت تكنولوجيا ذات إشارات تكشف عن وجودها.
  8. L هي المدة الزمنية لإطلاق الحضارات إشاراتها ليتم كشفها.

لا نستطيع الجزم بأيٍّ من قيم هذه الوسيطات بشكل قاطع، ولكن يمكننا تطبيق المعادلة بما نملكه من معرفة، وما أدّى إليه تطبيق هذه المعادلة مع معادلات أخرى هو الحصول على نسبة تقارب الصفر من حضارات ذكية، ولم تشِر الحسابات إلا إلى كوكب واحد فقط، هو كوكب الأرض!!! ولكن دعونا نتساءل ما هي التفسيرات لهذه النسبة الضئيلة، أين هم العُلماء عن هذه الأرقام المتدنية؟ ماذا قالوا؟ وكيف فكروا؟

ولنبدأ بالتفسيرات الدينية على عدم وجود حضارات فضائية مكتشفة بعد، إذ يعتقد العالم شوستاك بأننا نحن البشر قد نكون حضارة بدائية تحاول الاتصال بحضارات أقدم وأكثر تقدّماً منهم، وهو ما يشبه قرع إحدى القبائل في الغابات على الطبول وانتظارها استماع الرد القادم من أشخاص متحضرين يتواصلون من خلال الهواتف المحمولة في دولة ما بعيدة، واسمح لي أن أخبرك أنّ هذا ليس تفسيراً دينياً حقيقياً، بل هو تفسيرٌ علميٌ ولكنه كما ترى أشبه بالديني، لأنه أشبه بقصص ما قبل النوم دون دليل علمي، لأن بعض العُلماء لديهم أيديولوجيا تدخل حتى في العلم، وحتى تستمر رحلة الخرافة العلمية. وقد ابتكر العُلماء شيئاً يُسمى مقياس كارداشيف وهو مقياس يصنف الحضارات الذكية إلى حضارات حسب كمية الطاقة وتنقسم إلى ثلاثة أنواع:

  1. النوع الأول: حضارة تستطيع استخدام كل الطاقة المتوفرة على كوكبها، والبشر ليسوا من هذا النوع، إلا أننا نكاد نصل إليه.
  2. النوع الثاني: حضارة تستطيع استخدام كل طاقة نجمها، إلا أنّ عقول البشر لا يمكنها تخيل هذا النوع من الحضارات، ولك أن تتفكر في جملة “وأدمغتنا ضعيفة جداً لتخيل مثل هذا النوع” كي لا نفكر في هذه الخرافة، فاقترح العالم أنّ أدمغتنا ضعيفة ولن نستطيع تخيلها.
  3. النوع الثالث: حضارة تستطيع استخدام طاقة المجرة كاملة، وهذا مستوى من الرقي العلمي لا يمكننا تصديقه، ولو قلت لي سيأتي تنين ويبتلع الشمس كما أصحاب الديانات السابقة لما وجدت أي فرق بين المحاولتين، ونحن نتكلم هنا عن علم ونظريات، لا تكهنات شامان.

ثمة تفسيرات أيديولوجية أخرى أيضاً رغم طرحها على أنها محاولات علمية، فقد تكون هُنَاك حضارة ذكية قد زارتنا بالفعل قبل أن يوجد البشر على الأرض، فالبشرية تدرك نحو ما يصل إلى 50 ألف سنة، كما أنّ التاريخ المدون 5500 سنة فقط، وربما شهدت بعض القبائل القديمة جزءاً من زيارة هذه الحضارات الذكية ولكن لم يتمكنوا من تسجيل هذا الحدث للبشر مستقبلاً، أو لعل العالِم شاهد فيلم Prometheus، ثم نسمع العالِم يقول: أنا لا أؤمن إلا بالعلم التجريبي!

وننظر إلى تفسيرٍ آخر يقول حتماً إنّ مجرتنا قد تم استعمارها، إلا أننا نقطن في منطقة ريفية مهجورة من المجرة، وربما يوجد حضارات راقية تسكن بين النجوم لا نستطيع التواصل معها، ونُذكّر أنّ مهمة العُلماء هي تقديم تفسيرات علمية وليس محاولة تقديم تخيلات سنيمائية.

لوحة فوياجر الذهبية

مع أنّ احتمال العثور على أناس عاقلين خارج كوكب الأرض ضئيل جداً، إلا أنّ مجموعة من العُلماء وبعض رواد الفضاء قاموا بتصميم لوحة من النحاس المطلي بالذهب أُطلق عليها مسمى لوحة فوياجر الذهبية، وقد تم تثبيتها على مسبار فوياجر، وإرفاقها برسالة صوتية ترحيبية من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جيمي كارتر لعام 1977م تقول: “هذه هدية من عالم صغير، تُعطي شيئاً من أصواتنا ومن معلوماتنا، وصور وموسيقى، ومن فكرنا وأحاسيسنا. نحن نحاول البقاء وعليه فربما نعيش بعض الوقت من الزمان ونعاصركم” وذلك في محاولة للتواصل مع العالم الخارجي وإثبات وجودنا، والتواصل مع الكائنات الفضائية المحتملة التي قد يقابلها المسبار.


شكل 9 صورة إسطوانة فوياجر

يحمل المسبار لوحة مغطاة بطبقة من الذهب (شكل 9 صورة إسطوانة فوياجر)؛ حتى تحميها من عوامل النحت والتعرية، نُقِش عليها معلومات عن الأرض، وموقعها، وسكانها، وتتضمن صوراً للبشر، وتسجيلات صوتية، وتظهر اللوحة وضع الشمس بالنسبة إلى 15 نجماً نابضاً، كما تحتوي اللوحة على صور فوتوغرافية تُوضح شكل الإنسان وطوله، ورسوماً بيانية من بينها صوراً لسيناء ووادي النيل كما تظهر من القمر الصناعي، وكذلك صور المجموعة الشمسية والدنا DNA، وصور أعضاء جسم الإنسان.

كما اهتم العُلماء بإضافة صور لحيوانات وحشرات ونباتات ومناظر عن تضاريس الأرض، وإضافةً إلى صور عن غذاء البشر وعن الفن المعماري على الأرض، وصورٍ عن الأشغال اليومية للبشر، كذلك احتوت الأسطوانة على صور لعدة مناطق عشوائية من العالم، كسيدة في متجر أو طريق سريع، وصور لمركبات كيميائية ومعلومات عن الحجم والزمن والكتلة.

كما تم إرفاق مجموعة من أصوات البشر في عبارات تحية بأكثر من 55 لُغة، مع موسيقى من كل مكان بالعالم تقريباً، مروراً ببيتهوفن وباخ وموزارت، وأصوات لعصافير، وكلب ينبح… إلخ، الأسطوانة مُصممة لكي تعيش لأكثر من 500 مليون سنة، عسى أن تستطيع في يوم ما مقابلة حياة عاقلة، والجملة المنطوقة بصوت عربي هي: “تحياتنا للأصدقاء في النجوم، يا ليت يجمعنا الزمان”.

رغم كل هذه المحاولات المضنية، لا توجد أي إشارات علمية أو رياضية على وجود حضارات أخرى، والعلم يصادق على الموجود، لا على المرغوب.

كون منظم

يستعرض العالم بول دافيس والعالم جورج جرينشتاين كثير من النقاط المُدهشة في بناء الكون، والتي تنال درجةً عاليةً من الدِّقة والتنسيق الهائل، منها الاحتمالات الضعيفة لتكون الكربون والهيليوم بالطريقة التقليدية؛ لأنّ تكوينهم يتطلب مسارات متوازية وإلا ستفشل العملية برمتها، ويوضحان أنّ أي انفجار ينتج عنه تشتت للمادة بطريقة عشوائية، لكن الكون بعد الانفجار العظيم تشتت بطريقة منتظمة في كافة الأنحاء، فضلاً عن دقة أرقامه الفيزيائية، فمثلاً قوة الجاذبية مناسبة لتشكل الكون وإلا لو تغيرت قليلاً لَمَا تكون الكون بعد الانفجار، ولو كانت أقل قليلاً لَمَا تكونت الذرات، ولو كانت أعلى قليلاً لتلاصق الكون واندمج بطريقة عجيبة، وكذلك القياسات نفسها تنطبق على باقي القوى الضعيفة والقوية.

كذلك غرابة بعض الأرقام التي تجعلها غير منطقية، فمثلاً النقطة المتفردة أصغر من طول ثابت بلانك وهذا أمرٌ مُستحيلٌ في مفاهيم الكون، وثابت بلانك ثابت دقيق ولو اختلف أيضاً قليلاً لما حدث الكون، والنسبة بين شحنتي الإلكترون والبروتون دقيقة جداً جداً فلو اختلفت واحد من مليار جزء لانتهى الكون، وغيرها من الأرقام التي تزيد عن 100 رقم دقيقة بشكل خيالي، 1 من مليار من مليار أي اختلاف في أي هذه الأرقام سيجعل تكوّن الكون أمراً مُستحيلاً، وأستشهد بما قام به عالم الرياضيات البروفيسور روجر بنروز إذ قال: “إنّ نسبة دقة العوامل والثوابت الكونية لكي يتشكل الكون صدفة هي 1 من 10^123 “، أي احتمال واحد من 10 أمامها 123 صفر وهذا رقم كبير لا يمكننا تخيله، كما أسلفنا العد للمليون يتطلب 86 يوم، وهو ذو 6 أصفار، العد للمليار وهو ذو 9 أصفار يتطلب حد أدنى 50 سنة، ألف مليار يعني 1 وأمامه 12 صفر يتطلب 50 ألف سنة، فما بالك بواحد أمامه 123 صفر، إنّه رقم يفوق قدرة حتى الحواسيب على حسابه [6] وهو عدد يفوق بكثير عدد الذرات في الكون التي تقريباً تساوي 10^80، يعني 10 أمامها 80 صفر، وهو أيضاً أكبر من عدد البروتونات والإلكترونات في الكون، احتمال مرعب لا أتجرأ على التفكير في تخيله.

يرى مجموع كبير من العُلماء أنّ التوافق الدقيق للكون عبر توافر أرقام دقيقة معينة من ثوابت فيزيائية بدرجة معينة أدّت إلى قيام الحياة في الكون، ويرون أيضاً أنّ أقل تغيير في هذه الأرقام أو الثوابت الكونية كان سيُؤَدِي في النهاية إلى تغييرات هائلة في هيكلية الكون ستؤول إلى عدم تكونه، أو على الأقل انعدام الحياة فيه، وهذا ما يصفه ستيفن هوكينغ في كتابه تاريخ موجز للزمن إذ يقول: إنّ قوانين العلم كما نعرفها الآن تحتوي على الكثير من الأرقام المهمة مثل حجم شحنة الإلكترون الكهربائية، والنسبة بين كتلة البروتون إلى الإلكترون، وغيرها من الأرقام، والحقيقة المُدهشة أنّ هذه الأرقام تبدو وكأنها قد ضبطت لتتطور الحياة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ سرعة تمدد الكون من الثوابت المهمة في تكوينه وتعرف بالحد الحرج، التي لو تغيرت بنسبة ضئيلة جداً بنسبة تصل إلى درجة من 10^-17 (وهذا رقم يصعب فهمه أيضاً) لانهار الكون بالكامل، هذا الثابت مع غيره من الثوابت الكثيرة والتي تصل إلى 30 ثابت منها ثابت بلانك، وسرعة الضوء، ودرجة حرارة الصفر المطلق، تجعل استحالة وجود الكون بهذا الشكل دون هندسة، وفي حين ذكر الهندسة، ماذا لو تكون الكون بنظام ثنائي الأبعاد وليس ثلاثياً من الأساس؟ لن يكون لكل ما نكتبه معنى، وثَمّة أسئلة مُشابهة يمكن طرحها في سياق نشوء الكون.

ومن كل الكلام السابق توصلنا إلى الآتي:

  1. إنّ الكون ليس سرمدياً، وليس مُوغلاً في القدم، بل حدثٌ عارض له بداية ونهاية، هيوستون أكرر، الكون حادث وليس أزلياً أو سرمدياً!
  2. الكون نشأ من العدم، ومن عدة ظواهر لا تتقبلها الفيزياء الحالية.
  3. سار الكون بطريقة منظمة ليظهر بالشكل الحالي.
  4. الشكل الحالي للكون مقصود حتى نخرج – نحن البشر – بهذه الكيفية،

وهذا ما دفع العُلماء إلى التفكير للأعلى قليلاً، والتفكير في خصوصية الأرض وموقعها المميز والتفكير أيضاً في المبدأ البشري.

الموقع المميز

لا أعلم إن كانت تلك التفسيرات مقنعة أم لا، لكن كما يبدو أنّ العلم لا يقدم إجابات جاهزة، وإنك إذا لم تُعمل عقلك في العلم، فأنت حتماً أحد الأتباع المنقادين، التفسيرات السابقة صعبة القبول لأن العقل يميل إلى التفسير المنطقي الذي وضعه كثير من العُلماء والكتب، كما كتاب الكوكب المميز [7] إذ يبرهن الكتاب على أنّ كوكبنا في الكون قد صمم لكي يتم اكتشافه، فلا يوجد في الكون إلا كوكب واحد عليه الحياة، ولا يوجد إلا موزارت واحد وحيد، والأسباب كثيرة ولعلنا نسردها هنا.

في البداية هُنَاك ثلاثة أنواع من المجرات في الكون، ويؤكد العُلماء أنّ واحدة منها فقط تدعم الحياة، وهي المجرة الحلزونية، مثل مجرتنا، مجرة درب التبانة، إنها تمتلك مركزاً كروياً، وأذرع حلزونية تدور حول مركز المجرة، وبين هذه الأذرع مسافات شاسعة وبعض المجموعات النجمية، ومنتصف كل المجرات مليء بالثقوب السوداء، ومن ثم فالمنتصف هو مقبرة جماعية، ويتزاحم بين أذرع هذه المجرات نجوم السوبرنوفا، فقد تكون الأمور غير مستقرة، ويجب التأكيد على أنّ الكثافة في الأذرع أقل من وسط المجرة [8].

أما المجرات الصغيرة فلا تتزاحم بها ذرات الهيليوم والهيدروجين، لذا يصعب بناء الذرات ذات الوزن الذري الأكبر مثل النيتروجين والكربون الأساسيين للحياة.

رسم توضيحي 1 موقع المجموعة الشمسية في مجرة درب التبانة.

ولكي يكون خيار تَكوُّن حياة أمراً ممكناً، فإنّه يجب أن يقع الكوكب على حافة إحدى أذرع المجرة، فلا المنتصف مناسب، ولا الأذرع نفسها مناسبة، بل الموقع المشابه لموقعنا، وموضع مجموعتنا الشمسية هو الموضع المناسب لكي تتكوّن عليه الحياة، وهذه النتيجة تُقلل بشكل دراماتيكي إمكانية وجود حياة في مجرتنا والمجرات المجاورة، فواحد من ثلاثة أنواع من المجرات يصلح للحياة، وعلى منطقة حافة الذراع لا بعيد كلياً عن مركز المجرة فقط، ولا قريب منه كلياً، ولا مجرة صغيرة جداً ولا مجرة كبيرة مزدحمة جداً.

أيضاً، وقوعنا في هذه المنطقة تحديداً، يجعلنا كمن يقف على نافذة المجرة، فهذه المنطقة الوحيدة التي تسمح لنا باستكشاف الكون بالوضوح الذي نراه، ولو كنا في مجرة مزدحمة أو أقرب إلى المركز لما تمكنّا من رؤية سماء الكون بشكل واضح على الإطلاق، وستقول لي صدفة وجودنا على الشباك، ولكن أقول وجودي على نافذة في فرنسا الساعة 12 ليلاً في مدينة ما في فندق ما وأرى مونيكا بلوتشي على شرفة النافذة التي أمامي وترمقني بغمزة، لهي قوة شيطانية وليست مُجرَّد صدفة، فلا يوجد محظوظ مثلي في كل المجرة.

ولكن المجرات تتحرك، وهذا يعني أنّ موضعنا يتغير في المجرة نفسها، ويتغير في الكون، وهذا صحيح، لكننا على هذه الحالة منذ 4.5 مليار عام في المنطقة نفسها، وهذا الثبات يعود إلى موضع الشمس النادر، فهي إحدى النجوم المميزة التي تقع على نصف قطر الدوران المُشترك للمجرة وكأنّ هذه الصدفة أن أجد مونيكا تنتظرني منذ 10 سنوات على الوقفة نفسها حتى آتي وأراها.

هذا الموضع للمجموعة الشمسية في منتصف القطر، لا قريبة من المركز، ولا بعيدة، إضافةً إلى تحركها بنفس سرعة دوران الأذرع الحلزونية يجعلها متميزة عن مليارات النجوم في مجرتنا من ناحية السرعة أو الموقع.

لكن، ماذا عن تصادم النجوم، وتداخلها، وتجاذبها وانفجاراتها ورياحها وتأثيرها الشديد على بعضها البعض في أماكن الازدحام؟ لا تقلق فنحن في مكان آمن بعيداً عن كل هذه التجاذبات وكأن في كل مدينة باريس لا يوجد إلا مونيكا بلوتشي وأنا فقط، المدينة كلها في رحلة، ولا يوجد مصدر لأي إزعاج حينما أذهب لمونيكا للحديث معها.

لك أن تتخيل بقاء الأرض 4.5 مليار سنة رغم كل هذه العوامل في هذه المنطقة بين مليارات النجوم ومليارات المجرات لكي تتهيأ للحياة لاحقاً، لا تنسَ كم هو المليار كبير، ولا تنسَ كم تأثير ملايين النجوم الأكبر، ولا تنسَ الدقة بين كل هذه العوامل التي تتميز بها أمنا الأرض، ولكن هل هُنَاك المزيد؟

نعم، هُنَاك المزيد، فبالإضافة إلى نوع المجرة وحجمها وكثافة عناصرها وشكلها ومكان المجموعة على الأذرع وسرعتها وثباتها، هُنَاك عوامل أخرى، مثلاً نوع الشمس، فليست كل الشموس سواء، فشمس الأرض ليست كشموس الكون، وهل تتساوى شمس.. حجمها كان لك بشمس حجمها أثْكَلك!

هُنَاك أنواع مُختلفة من النجوم، هُنَاك الزرقاء والبيضاء والصفراء والبرتقالية والحمراء، وهي مرتبة حسب توهجها وعمرها، فالنجوم الزرقاء هي الأشد حرارةً وتوهجاً، وهُنَاك النجوم الكبيرة والمتوسطة والصغيرة والقزمة والعملاقة والمستعرة والنيترونية وغيرها، لكن شمسنا هي من النوع الذي يشكل 10% فقط من نجوم مجرتنا المناسب لتشكيل حياة، فدرجة حرارتها، ونوع إشعاعها مثل الأشعة فوق البنفسجية، والأشعة تحت الحمراء بدرجة معينة حتى لا تفنى الحياة فلا تتبخر المياه ولا تموت النباتات، ولا تتجمد المياه لو كانت درجة الحرارة أقل قليلاً، بل لو كانت الشمس أصغر حجماً لقلّت سرعة دوران الكوكب، وبذلك سيطول الليل والنهار، ولطالت فترات الحرارة والبرودة، ولن تصمد الحياة، حتى دورة البقع الشمسية sunspot cycle لنجمنا وعزيزتنا الشمس متوسطها 11 سنة وهي لا تتغير إلا بمقدار ضئيل يصل إلى 1 من 1000 درجة، وهذا يعادل احتمال أن تكون مونيكا على تلك الشرفة حينما أقف على النافذة وتكون في مكان ليس بعيداً عني فأتحسر، أو قريباً مني فأخجل، ولا يكون مبناها عالياً كثيراً، ولا أكون أنا عالياً كثيراً، وتكون الإضاءة مناسبة، فلا أقع من التحديق ولا أضطر إلى استراق النظر.

حسناً، إنّ بُعد الأرض عن الشمس يُشكل قيمة مناسبة ونادرة لتكون الحياة، فلو كانت الشمس أبعد لكانت الأرض أكثر برودةً، ولو كانت الشمس أقرب لكانت الأرض أكثر حرارةً، وسرعة دوران الأرض حول نفسها والشمس يمنعان من ابتلاعها أو طيرانها بعيداً في الفضاء، بل حتى موضع الكواكب الأخرى وحجمها لهو أمرٌ مُثير كلياً، فحجم كوكب المشتري وموضعه مناسبان لحماية الأرض وجذب الكويكبات والمذنبات بعيداً عن الأرض طوال تلك السنوات، وكذلك يفعل المريخ، المشترى وحده يمنع اصطدام المذنبات أكثر بألف مرة أثناء وجوده من عدمه.

ودعونا لا ننسى فضل قمرنا الصغير، القمر الوحيد الذي يدور حولنا، وإلا لكنا مثل عطارد أو الزهرة، صحيح أنّ الكواكب الأخرى لها ما لنا مثل قمر المشتري جانيميد، ولكن ليس بالدرجة التي يحظى بها كوكب الأرض، فبالإضافة إلى مسؤوليته في عمليتي المد والجزر المهمة على الأرض، فهو يحافظ على دوران المياه في المساحات الشاسعة، وكذلك يوزع الحرارة فيقلل من فرق درجات الحرارة على هذا الكوكب المميز، ويساعد الكائنات البحرية في الحصول على طعامها بطريقة غير متوقعة.

الجدير بالذكر أيضاً دور القمر في ميل محور دوران الأرض 23 درجة، الذي جعل أمر تشكُّل الفصول ممكناً، وكذلك تنوع درجات الحرارة، ولو كانت نسبة الميل أكبر أو أصغر قليلاً لاختلف الأمر كثيراً، كذلك لو كان القمر أكبر أو أصغر لاختلف التأثير، فلو كان قمرنا أكبر لزادت حدة المد والجزر، ولغمرت المياه مناطق أوسع من اليابسة، وهكذا دواليك، ويبدو الموضوع بسيطاً لأني لا أستخدم كلمات مثل، التناسق العجيب، المكان النادر، المسافة المعجزة، السرعة المُدهشة، الحجم المنفرد، التصميم العبقري وغيرها من الكلمات الرنانة، لأنني أسرد بهدف الفكرة، ودليل واحد منهم يكفي لتحطيم فكرك وجعله أشتاتاً في كل مكان، ولكن، ماذا عن كوكب الأرض؟ هل هو مميز للحياة؟

كوكب الأرض

إنّ كوكب الأرض ليس كأي كوكب آخر، بل هو كوكبٌ يكاد يكون فريداً لو لم يمسسه البشر، ولدى هذا الكوكب ما يميزه عن باقي الكواكب، فكوكب الأرض ليس كوكباً مصمتاً من الداخل، ونجد داخل الكرة الأرضية طبقات مُختلفة وصولاً إلى نواة الكوكب المكونة من معادن منصهرة، هذه المعادن تجعل باطن الكوكب له ضغط يعادل ثلاثة ملايين مرة الضغط على سطحها، والبوصلة لا تعمل إلا لأن الأرض عبارة عن مغناطيس ضخم قلبه حديد ونيكل في صورة منصهرة، ولهذا الأمر فوائد كثيرة في استمرار الحياة على سطح الأرض وتدفق الرياح والمياه وامتصاص الإشعاعات.

يدور قلب الأرض المنصهر بسرعة معينة ودرجة حرارة معينة، ومن البديهي أنه لو زادت أو نقصت لاختلف سير العمليات على الأرض، فمثلاً لو زادت درجة لعمّت الزلازل والبراكين الأرض مثل قمر المشتري أيو، ولو نقصت لتصلب باطن الأرض ولاحتجنا لعملية إنعاش كما في فيلم The Core، ولو توقفت مغناطيسية الأرض لمتنا منذ زمن طويل، بالإضافة إلى أنّ المجال المغناطيسي للأرض يحمينا من الرياح الشمسية وذلك بإزاحته لجُسيمات ريحها المشحونة بعيداً عن الأرض كما في (شكل 10 التأثير الواقي لمجال الأرض المغناطيسي)، وهي جزئيات مشحونة من الشمس ضارة جداً، ولا تحمي الإنسان فحسب، بل تحمي الحيوان والنبات بالقدر نفسه [9]، وهذا المجال كبير جداً لحمايتنا يصل مداه إلى 36 ألف ميل في الفضاء الخارجي، ولعل ظاهرة الشفق القطبي نراها بسبب هذه الرياح.

لا ننس أنّ كثيراً من الدراسات تفيد بأن الحيوانات تستفيد من هذا المجال المغناطيسي بشكل كبير، فمثلاً هجرة الطيور والأسماك تعتمد عليه، فكيف تعرف الطيور الصغيرة طريق عودتها، وكذلك أسماك السلمون، فلم يُعطِها والديها خريطة جوجل للعودة، ستستغرب وتقول إنّ للحيوانات حساسات مغناطيسية، سأقول لك نعم! وهذا ما هو ظاهر للعلماء.


شكل 10 التأثير الواقي لمجال الأرض المغناطيسي.

جاذبية كوكب الأرض جاذبية مميزة، فهي مناسبة كي يكون لنا غلاف جوي، ولا داعٍ للتعريف بغلافنا الجوي الذي يحمينا ويجعلنا نتنفس ويجعل عشرات الأمور ممكنة وحده فقط، فلو كان الغلاف الجوي أكثر كثافةً لكانت الأرض أشبه بفرن مستعر، والعكس صحيح، ونحن نعلم أنّ الجاذبية مرتبطة بحجم الكوكب، فلو كان حجم كوكب الأرض أكبر قليلاً لازدادت جاذبيته، ومن ثَمَّ سيزداد وزن الكائنات الحية، والوزن هو حاصل ضرب الكتلة في عجلة الجاذبية الأرضية، ولازداد الضغط الجوي بشكل كبير لأن الغلاف الجوي سيكون مضغوطاً، ولرأينا الكائنات الحية سمينة وقزمية، ولنسينا فكرة القفز كلياً.

ولو كانت الجاذبية أكثر كثافةً، لتشكلت سحب من غاز الميثان كما في قمر زحل تيتان، وكما غلاف تيتان فإن غلافنا هو الوحيد المكون بدرجة أساسية من النيتروجين، ولو زادت نسبة الأكسجين بدرجة معينة لما كانت الحياة، ولو نقصت كذلك لفنيت الحياة، ولو زاد ثاني أكسيد الكربون لحدث الأمر نفسه، والأمر مرتبط بدرجة الحرارة على الكوكب وبقدرة الكائنات على التنفس، وبعمليات الاحتراق كذلك (سواء احتراق الوقود أو الاحتراق الحيوي)، وبسبب هذه الجاذبية المناسبة ندور على كوكب الأرض بسرعة 110 كيلو متر في الساعة ونبقى كما نحن ويبقى غلافنا العزيز كما هو، ولعلنا نمر مرور الكرام عن الغازات مثل النيتروجين والأكسجين وثاني أكسيد الكربون ونسبهم المتفاوتة، ولكن كل نسبة منهم دقيقة وخطيرة، فمثلاً كل ما يتكلم عنه العُلماء من أثر الدفيئة على كوكب الأرض بسبب التقدم الصناعي هو زيادة طفيفة في نسبة ثاني أكسيد الكربون من 300 جزء في المليون إلى 400 جزء في المليون أي 100 جزء في المليون فقط.

ولو اختلفت سرعة دوران الأرض ربما رأينا يومنا أطول من سنتنا كما في كوكب الزهرة إذ يعادل يومه 243 يوم أرضي، وسنته 242 يوم أرضي، وهذا يعني ظلاماً دامساً وموت النباتات وبرودة قارسة، ولو حدث العكس لكان لدينا شروق وغروب كل ساعة وساعتين ولشعرت زوجتي بالملل من تكرار إعداد الفطور لي.

بالإضافة إلى نظام طبقات الأرض، فإن للصفائح التكتونية التي تشكل القارات والجبال والأنهار والبحار والمحيطات دور كبير في تشكيل سطح الكوكب وسير العديد من العمليات المتوافقة مع حركة الصفائح، ولها دورٌ مهم في بناء القارات وبقاء الحياة، فلو كانت أقل سُمكاً لحدثت الزلازل والبراكين، ولو كانت أكثر سُمكاً لفقدت الأرض الكثير من مزاياها القارية ولفقدت دورها في تنظيم الغازات على الكوكب أيضاً! وكذلك بُعد مسافة الأرض عن الشمس، ولو كنا أبعد عن الشمس لكنا مثل باقي الكواكب من حيث البرودة، وكانت المسطحات المائية مجمدة وبلا حياة، ولو اقتربت أكثر قليلاً لتبخر الماء وانعدمت الحياة.

الغلاف الجوي

شكل 11 معدلات ثاني أكسيد الكربون.

منذ عام 1950م، ارتفعت نسبة ثاني أكسيد الكربون إلى فوق 280 جزء في المليون، وزادت عن 340 حتى وصلت إلى 400 جزء في يومنا هذا، وهذه الزيادة البسيطة تعادل ذوبان ثلاث ملاعق من السكر في طن من الماء، هذا الأمر الذي أدى إلى رفع درجة حرارة الكوكب درجة مئوية واحدة، ولعلك تعتقد أنّ هذا أمر ٌهيّن، فدرجة واحدة تعنى ذوبان الجليد، وغرق الشواطئ والجزر واختلاف الحياة البحرية والنباتية والحيوانية، وموت بعض النباتات أي موت الحيوانات التي تتغذى عليها لذا فالعملية مُعقَّدة جداً ومتراكبة.

فوائد الغلاف الجوي للأرض كثيرة لا يمكن حصرها، وتغيير أبسط مكون من مكونات الغلاف الجوي يهدد الحياة على كوكب الأرض مثل اتساع ثقب طبقة الأوزون، الأمر الذي جعل العالم يقف متكاثفاً لحمايته؛ فلطبقة الأوزون فوائد جمة، إنها تحمينا من الأشعة فوق البنفسجية الضارة التي تُسبب السرطان، وكذلك تحافظ على درجة حرارة الكوكب، ويحمينا الغلاف الجوي من الشهب والنيازك التي تصيب الأرض، فكم كبير منها يحترق في الغلاف الجوي قبل أن يصلنا.

بل وحتى تكامل كثافة الغلاف الجوي ومكوناته مع الجليد ومع المحيطات يحافظ على عكس كمية مُحددة من ضوء الشمس بما هو معروف بتأثير ألبيدو تحت معامل 0.39، لأنه لو قلت نسبة انعكاس الإشعاع الكهرومغناطيسي أو زادت فإننا سنتجمد أو سنتبخر، بل حتى كثافة الهواء الحالية مناسبة للتنفس ومناسبة للرئة لكي تقاوم الهواء وتقوم بعملها بشكل صحيح، ولك أن تتخيل أن تملأ بالوناً بالهواء، أو أن تملؤه بالعسل، هُنَاك فرق كبير جداً، ولو كان الغلاف الجوي أقل كثافة من الحالي، لما تشكلت الغيوم ولما وُجدت المياه على سطح الأرض، بل لتبخرت وطارت في الفضاء كما حدث مع كوكب الزهرة قبل ملايين السنين، إذ تبخر الماء وانتهى من الكوكب.

النطاق الصالح للحياة

إنّ النطاق الصالح للحياة Circumstellar Habitable Zone هو المنطقة المحيطة بأي نجم وتصلح لتكوين حياة عليها، إذ يجب توفر شروط معينة في كل من الكوكب والنجم لجعل الحياة ممكنة، على سبيل المثال النجوم من النوع المُستعر الأعظم تُطلق أشعة قاتلة تجعل من الحياة أمراً مُستحيلاً، وكذلك تتأثر درجة حرارة النجم بعمره ولونه، فالنجم الأحمر قد قارب على الفناء، وبذلك تكون له درجة معينة من الإشعاعات والحجم والحرارة وهي لا تصلح للحياة، وباقي النجوم كذلك عدا النجوم البرتقالية كما شمسنا، فحرارتها وإشعاعاتها مناسبة للحياة عند مسافة معينة، والحسابات كثيرة ودقيقة جداً، وهي مُرتبطة أيضاً بعوامل في الكوكب نفسه كما أسلفنا مثل الغاز والماء والكثافة والغلاف الجوي وغيرها، وتحددها عوامل أخرى مثل الكويكبات والكواكب المحيطة والأقمار، وثمّة أهمية عالية لكوكب المريخ والمشتري كما ذكرنا تجعل الحياة على الأرض ممكنة.

تبعد عنا الشمس مسافة 8 دقائق وثانية ضوئية، ويبعد عنا القمر ثانية ضوئية واحدة، ولو اختلف بُعد القمر لما حدثت الظواهر المرتبطة به مثل المد والجزء، ولو اقترب لاصطدم بنا كما سيحدث مع قمري المريخ فوبوس وديموس يوماً ما، مع العلم أنّ قمرنا يبتعد عنا 2 سم سنوياً، ولو كبر حجم القمر أو صغر فستختلف الكثير من الأمور مثل المد والجزر، وسيتباطأ دوران الأرض حول نفسها، مما سيُؤَدِي إلى اختلاف مواعيد الليل والنهار وكذلك اختلاف في ميل محور الأرض، وبهذا سيحدث اختلاف الفصول واختلاف تنوع الكائنات.

ولكن، ماذا عن الضوء الصادر من النجوم! فالأطوال الموجية للإشعاعات الضوئية ما بين قيمة عليا ودنيا متباعدة جداً (10^25) وهو رقم واسع وله تأثير على الحياة، والأطوال الموجية القادمة من الشمس تتنوع وتختلف، لكنها ضمن إطار ضيق هو 0.2 – 1.50 مايكرون وهو رقم ضئيل جداً جداً بالمقارنة بالأطوال الموجية، وبالمناسبة هذا هو الرقم المناسب للحياة.

وماذا عن صلاحية هذه العوامل على باقي الكائنات الحية؟ كالنباتات التي تعد مصدر الغذاء والحياة على الأرض، نعم السؤال صحيح والإجابة نفسها، فعملية البناء الضوئي متوافقة بدقة مع ضوء الشمس، وليست أي شمس، شمسنا العزيزة، وكأن مهندساً واحداً صنع القفل وصنع مفتاحه، ويقول البروفيسور جورج جرينشتاين: إنّ النباتات لم تكن لتنجح أو تتأقلم أو تتطور مع ضوء آخر بموجات أخرى، فاقطع عن نفسك التفكير هذا، وكذلك هذا الضوء مناسب لنباتات البحر، يبدو أنّ المهندس لم ينسَ شيئاً من خريطة الإنشاء.

مهلاً، أليس من التعليمات المهمة في يوم الكسوف ألا ننظر للشمس مباشرة لأنّ إشعاعها سيؤذينا؟ ألا يعني هذا أنّ ضوء النجوم ضار للعين ومؤذٍ؟ هذا الكلام صحيح وأحييك لو فكرت فيه، إذ يرى العُلماء أنّ الأطوال الموجية الملائمة لحاسة البصر لدى الكائنات الحية هي الأطوال الموجية من الطيف الشمسي الخاص بنا مع وجود الغلاف الجوي الحالي مع وجود الطبقات المُختلفة التي تسمح بدخول جزئي للأشعة فوق البنفسجية وغيرها من الأطوال المُختلفة.

هذا كله يجعل كوكب الأرض كوكباً فريداً؛ فحجمه وموقعه ومحيطه وخصائصه لا يمكن أن تتكرر في هذا الكون مرة أخرى، ومن بين ملايين ملايين الاحتمالات المُستحيلة، ظهر كوكب الأرض بهذه المزايا، بل وعلى ما يبدو أنه متوافق مع الحياة التي ظهرت عليه وكأنه صُمم خصيصاً لهذا الغرض، ولهذا عزيزي كوكب الأرض، عليك بالفخر مرة أخرى، والشعور أنك لست كأي كوكب، فأنت الكوكب المميز الوحيد.

نظرية كل شيء

في الحقيقة، رغم التقدم الكبير في مجال علوم الكون إلا أنه لا شيء نهائياً فيها، فثَمّة اختلافات بين العُلماء في النظريات، مثل معضلة المعلومات Information Paradox، فالنظرية النسبية تقول إنّ المعلومات تختفي في الثقب الأسود، وعلى الجانب الآخر تقول نظرية الكم إنّ البيانات لا تختفي وتبقى في أفق الحدث، هذا يدفع العُلماء إلى العمل الدائم في محاولة البحث عن حل لهذه المعضلات.

نظرية كل شيء هي حلم العُلماء منذ عصر نيوتن، في كل فترة كانوا يعتقدون أنهم أطبقوا القبضة أخيراً عليها إلى أن يأتيهم من يقض مضاجعهم بنظرية جديدة، نظرية M أو نظرية كل شيء هي أمل العُلماء في حل كل هذه المشاكل، وهي تعتمد على نظرية الأوتار الفائقة في أساسها، هي تفسر أنّ الكون في أدق جزيئاته مكون من أوتار مُختلفة مثل وتر العود، هذه الأوتار تهتز بطريقة معينة فتنتج الجُسيمات الأولية التي نعرفها مثل الميزون والبوزون وغيرها، ولكن بنسب معينة.

تفسر هذه النظرية بعض المفاهيم الحالية، ولكنها تضع عقباتٍ أكبر في مواضع أخرى، وهُنَاك تعقيدات تَفُوق حتى عقول أكبر العُلماء، فنحن بالكاد تخيلنا كون من 4 أبعاد، فما بالكم بتخّيل كون من 14 بعداً، مشاكل التناظر المرآتي في أشكال كلابي ياو تجعلك تدخل في جحر أليس ولا تخرج منه، أما أكبر مُشكِلة لا يستوعبها العقل ببساطة هي الأكوان المتوازية التي أنتجها العلماء لحل مشاكل في النظرية، فأنتجوا عقبات غير مقبولة، لكن الحق يقال إنّ العالم ستيفن تراجع عن فكرة أنه يمكن للثقب الأسود أن يقذفك في كونٍ آخر، وتراجع كذلك عن وجود نظرية M واعترف بعدم جدواها.

إنّ التناظر العجيب في الكون في أبسط صوره يجعلنا نفكر بعمق؛ فالبروتون موجب والإلكترون سالب، وكلاهما يحملان الشحنة نفسها مع أن كتلة البروتون أكبر بما يزيد عن 1800 مرة عن كتلة الإلكترون، قد يخرج من يفسر هذه الصدفة العجيبة أنها صدفة واحدة تحدث في مليارات الأكوان المتوازية المُختلفة، وهي فرصة بعيدة بل خيالية، وبعيدة عن كونها علم، فالعلم جاء ليفسر ويبسط، لا ليضع نماذج مُستحيلة، وقد يخرج من يقول إنّ هذا التشابه في تكوين الذرة يساوي التشابه بين دوران الكواكب حول الشمس، وهذا دلالة على مصمم واحد لهذا الكون، كلها أفكار، ما الجدوى منها؟ لا أعلم حقيقة، لكن أشعر أنّ جدواها قريب من جدوى الكلام المكتوب هنا عن نظرية كل شيء.

أَتُراني كُنتُ يَوماً نَغَماً في وَتَرِ ….. أَم تُراني كُنتُ قَبلاً مَوجَةً في نَهرِ

أَم تُراني كُنتُ في إِحدى النُجومِ الزُهرِ ….. أَم أَريجاً أَم حَفيفاً ….

لَستُ أَدري

الماء

لو كنتَ درستَ الفيزياء الطبية في الجامعة ورسبت بها، لعلمتَ مدى أهمية الكتب التي تتحدث عن الجُزيء المُعجزة، جُزيء الماء، نعرف أنّ حالات المادة الثلاثة المشهورة هي الصلبة والسائلة والغازية، في حالة المادة الصلبة تكون ذرات المادة شبه ثابتة ولا تتحرك، وكذلك في الوسط الغازي تكون المسافات بعيدة جداً وتتحرك بطريقة لا تسمح بتكون تفاعلات كيميائية حيوية، لكن الوسط السائل هو الوسط المناسب لحدوث التفاعلات الكيميائية، حاول أن تشرب الشاي بالسكر دون سائل، لحظة! لا معنى أصلاً لكلمة تشرب دون الحالة السائلة!

الذوبان هي إحدى خواص السوائل، ذوبان الملح في الماء عملية مُدهشة جداً، فجزيئات الملح تختفي بين فراغات جزيئات الماء بطريقة كيميائية مخططة، وهذا أمرٌ يجعل التفاعلات الكيميائية مُمكنة، ولولا الذوبانية لما رأينا التفاعلات الحيوية التي تحدث بالمليارات كل ثانية داخل جسم الإنسان، تخيّل ترعاك عشتار لو أنّ الكون حينما انفجر وانطلق ليبلغ لاحقاً قد تكونت فيه حالات المادة وكانت الحالة الصلبة والسماقية والغازية، والحالة التي كنت تعرفها باسم الحالة السائلة لم تتكون فيه، أليس هذا احتمال كبير جداً في كون يسير بالصدفة كما يقول علماء الطبيعة ونظرية M!

هذا السائل الذي لا طعم ولا لون ولا رائحة له، مميزٌ عن كل السوائل الأخرى التي غالباً لها لون أو طعم أو رائحة، هذا المذيب العالمي الذي يعتبر من المواد الرخيصة على الأرض، لهو أغلى المواد في باقي الكون، يعد الماء حالة خاصة مُختلفة عن بقية السوائل؛ فالسوائل حينما تنخفض درجة حرارتها كباقي الحالات الأخرى يتقلص حجمها، وحينما تتقلص وتنكمش تزداد كثافتها، وهذا يعني أنها تصبح أثقل، وبذلك يجب أن تهبط للأسفل، إلا عزيزنا الماء، إذ يتقلص حجماً وصولاً إلى درجة حرارة 4 مئوية، ثم يبدأ حجمه بالتمدد! لذلك نرى الثلج يطفو فوق سطح الماء وليس العكس، ولتعلم مدى أهمية هذا الأمر البسيط الذي قد تقول عنه صدفة، انظر للمحيطات والبحار! وتخيل ترعاك عشتار مرة أخرى لو أنّ الماء حينما يتجمد يهبط للأسفل، أخبرني كيف ستعيش الكائنات؟ وكيف ستتحرك في مكان كله مجمد؟! إنّ تجمد سطح الماء عند درجة 4 مئوية يمنع تجمع المحيطات ويمنع وصول حرارة مياهها للصفر في عملية دقيقة ومصممة في عدة خطوات وكأنها خوارزمية برمجية كتبتها المهندسة أمل، ولعلّك تفكر هنا عن فوائد تمدد الماء حين التجمد في الصخور والمساهمة في تفتيتها ونقل المعادن المُختلفة في الكائنات الحية.

في الفيزياء هُنَاك شيء يُسمى السعة الحرارية Heat Capacity، وهي ببساطة قدرة المواد على حفظ وتخزين الحرارة، والماء من أكثر السوائل التي تحفظ الحرارة، إذ يغلي عند درجة حرارة 100 درجة مئوية، سوائل أخرى تغلي عند درجة حرارة 30 مئوية وبعضها عند 40 مئوية، الكحول مثلاً تراه يتطاير بمُجرَّد وضعه على الجلد، هذا لأن درجة غليانه ليست بعيدة عن درجة حرارة الجسم، السعة الحرارية العالية للماء تجعله يحتفظ بالحرارة لمدة طويلةً جداً مقارنة بباقي المواد، وتجعله يسخن ببطء مقارنة بباقي المواد، مثلاً مقارنة بقطعة المعدن، فنرى الغلاية تسخن بسرعة وتبرد بسرعة، أما الماء بها فيتأثر أقل من المعدن، هذه الحرارة النوعية للأجسام المليئة بالماء لها تأثيرات على الكوكب لا يمكن تخيلها.

فنسيم البحر للمدن القريبة من الشاطئ أمرٌ ملحوظٌ جداً، في النهار تخزن البحار كميات كبيرة من الحرارة وتبدأ تفقدها تدريجياً في الليل بعكس رمال الشاطئ، فلو جلست على شاطئ البحر ليلاً ستجد أنّ الماء أكثر دفئاً من الرمال، وفي النهار تجد أنّ أشعة الشمس قد سخنت الرمال أسرع من ماء البحر أو ماء المحيط، لذلك في المناطق الساحلية تجد عدم تقلب شديد لدرجات الحرارة كما المناطق القارية، وذلك بسبب نسيم البحر، نسيم البحر له دور هائل في حفظ الحياة في الكوكب، ولولاه لتحولت الكرة الأرضية إلى مكان متقلب الحرارة، ولما استطاعت الكائنات من العيش بما في ذلك النباتات، إنّ حفظ المناخ وتيسير التحولات المناخية هي إحدى اللمسات الهندسية المُمكنة بسبب الماء فقط.

لنكتفي بهذا عن النسيم ونعود إلى جسم الإنسان، تخيّل لو أنّ السائل الأساسي الذي يجري في جسم الإنسان هو الكحول، وتخيّل أنك خرجت في ليلة باردة من ليالي الشتاء لشراء حاجيات للأستاذة جينا بعد أن أصرّت عليك، ماذا سيحدث لك؟ لن تتخيل! إنك ستتجمد بسرعة، ستفقد حرارة جسمك بسرعة شديدة ليست كما لو كان جسمك مكون من ماء، ولنفترض أنك عدت قبل أن تتجمد وجلست بجانب المدفئة، فحينها ستغلي مكونات جسمك بسبب غليان السائل الأساسي لو كان كحولاً، أو لنقل لو كان أي شيء غير الماء، فالماء يلعب دوراً لا يمكن وصفه في حفظ درجة حرارة الجسم وتغييرها ببطء حتى لا نفنى ونموت.

التوتر السطحي

ماذا عن التوتر السطحي للماء؟ هل هو أمرٌ مُهم؟ دعني أخبرك أنه أمر بالغ الأهمية؛ فالتوتر السطحي هو الطبقة التي تتكون على سطح السوائل نتيجة جذب الجزيئات لبعضها البعض، فتكون سطح يبدو كما لو أنه جلد، هُنَاك سوائل لديها توتر سطحي عالٍ وهُنَاك سوائل لديها توتر سطحي منخفض، والماء من السوائل ذات التوتر السطحي المرتفع، لو نظرت إلى أي كأس ماء بخط مستقيم بين عينيك وسطح الماء، ستجد أنّ هُنَاك خط ظاهر، أخبرني هل هو مُحدب أم مُقعر، لنِرَ حس المغامرة والاستكشاف لديك.

هذا الجلد له مشاهدات عديدة، فترى الحشرات تمشي على الماء مثل البعوضة بل وتضع بيضها بطريقة هندسية كأنها درست الفيزياء، ويمكنك أن تضع ورقة شجر فتطفو أو حتى إبرة، وهنالك تطبيقات عملية مثل الملابِس المضادة للماء، وهو ما يجعل كائن مثل الباسيليسق (الحقحق أو Basiliscus) لديه قدرة الجري على الماء، لا تكن بسيطاً وتخبرني أنه عرفها صدفة عبر تجريبه أن يجري فاكتشف التوتر السطحي، أرجوك، لا تجعل البيسيلسك أذكى منك، ولا تخبرني أنه رأى المسيح فتعلم منه، آآآه علمنا الآن لماذا سار على الماء يسوع المسيح، لقد كان خبيراً في الفيزياء!.

تعلم الآن لماذا الصابون يُنظف الأوساخ، لأن الصابون يخفف التوتر السطحي للماء، وهذا الأمر أدى لاحقاً إلى صناعة المؤثرات السطحية Surfactants المشهورة اليوم التي تنظف أصعب الأوساخ، وتدخل في مجالات فيزيائية كثيرة.

لنعود إلى الفائدة الأهم للتوتر السطحي، إنها الفائدة التي تجعلنا أحياء! فلولا التوتر السطحي المرتفع للماء مع المواد المحيطة به لما استطاعت النباتات نقل الماء إلى الأعلى، لعلك تنتبه كل يوم إلى الأشجار العالية التي تنقل الماء إلى أمتار طويلة بها دون مضخة مياه، وتساءلت حتماً عن السبب، لأنك تملك عقلية المستكشف والباحث، دعني أخبرك أنّ السبب يعود إلى التوتر السطحي للماء وخاصية هنا تسمى الخاصية الشعرية التي يدرسها الأطفال في المدرسة، عبر جلب أنبوبين زجاج أحدهما أرفع من الآخر فنرى الماء يرتفع في الأنبوب الرفيع أكثر من الأنبوب الآخر، ويستمتع الأطفال بفكرة الأواني المستطرقة وفكرة نقل الماء إلى المنازل في هذا الدرس الجميل، بالتأكيد للتوتر السطحي فوائد حيوية كثيرة، لا يتسع نقاشها هنا، فقط عرضنا مثالاً واحداً بالغ الأهمية.

ولكن ماذا عن انسيابية الماء؟ ماذا لو كانت انسيابيته كالعسل أو كالكحول؟ هل سيكون له تأثير على جسم الإنسان؟ هُنَاك أبحاث تخبرنا أنّ مريض السكري حينما تزداد لديه نسبة السكر في الدم، فإن الدماء تصير أقل انسيابية، مثلاً السكر في الماء يجعله كثيف وغليظ أكثر ويشبه قطر العسل، وهذا ما يُؤَدِي إلى زيادة أمراض القلب والشرايين، وسيصبح انتقال الدم في الشعيرات الدموية عملية صعبة ولها تبعات أخرى، وهذا على المستوى المرئي، أما على مستوى الخلايا والتفاعلات الكيميائية فسيصبح الأمر شبه مُستحيل؛ لأن حركة الجزيئات ستكون صعبة جداً، أي أنه لن تكون هُنَاك حياة لو كان سائل غير الماء هو الأساس، لعلك تعلم الآن لماذا أغلب جسمك مكون من الماء، ولماذا الدم وحده مكون فيما يزيد عن 95% منه من ماء.

إن انحلالية (ذوبانية) الأكسجين في الدم تعتمد على جُزيء الماء وخصائصه، ولهذه الذوبانية نسبة نادرة تكاد تكون 1 من مليون بالنسبة للغازات الأخرى، ولو كانت النسبة أقل أو أكثر لكانت هُنَاك صعوبة في حفظ الأكسجين ونقله في الدم، فحينها إما سيصل الأكسجين إلى الدم بكمية أقل وبذلك فناؤنا، أو سيصل بكمية أكبر وبذلك فناؤنا أيضاً، نحن نعلم أنّ الأكسجين يشكل عبئاً على الخلية، وهذا ما تقوم به دورة كريبس للتخلص منه دورة حمض الليمون، ولعلك سمعت بالاختناق بالأكسجين ذات مرة، سنعود إلى الماء مرة أخرى في الفصل القادم حين الحديث عن الحياة، أبحاث علمية كثيرة تتكلم عن هذه الجزئية البسيطة من العالم المحيط بك، الماء! سيُدهشك جزيء الماء المعجز إن يحق لي استخدام هذه الكلمة، جزيء الماء المعجز في كل جزء من جزئياته، مُعجَز في تفاعل جزيئاته ببعض، مُعجَز في ذوبانيته، مُعجَز في نقله للإلكترونات، مُعجَز في كل شيء.

والماء من الجوانب الجميلة التي يتفق فيها العلم مع الدين، إذ يقول الكتاب المقدس “وروح الله يرف على وجه المياه” (تك2:1)، وقال أيضاً: “لتفض المياه زحافات ذات أنفس حية، وليطر طير..“، ويقول القرآن بوضوح “وجعلنا من الماء كل شيء حي” فلا حياة لأي كائن إلا بالماء، وهذا ما يقوله العُلماء، فحينما يبحثون في أي كوكب عن حياة أو إمكانية الحياة، تراهم يبحثون عن الماء، لعلك الآن تعلم أكثر من السابق لماذا دائماً يهتمون بالماء وبالماء تحديداً، بالتأكيد أنت لا تعتقد أنّ العُلماء فجأة أصبحوا كلهم مُؤمِنين لكن هذه الحقيقة البسيطة للمتدينين كشفها العُلماء بحل لغزها الكيميائي والفيزيائي بدقة كبيرة، وإن بقينا نذكر دقة كل مادة أو كل كوكب أو كل مكون في الكون لما انتهبنا.

المبدأ البشري

يعتقد أينشتاين أنّ مصمم الكون لا يلعب فيه بالنرد، بل ويريح أينشتاين الاعتقاد بأن العالم يسير وِفق قوانين منتظمة مترابطة ولا يسير بشكل عشوائي. حينما يخبرني أحد العُلماء أنه من الممكن أن يكون هُنَاك نسخة مني في كوكب آخر، وتكون زوجتي غير زوجتي الحالية، ولي عدوي لدود هو المعلم رشدان، هذا أمر لا يجعلني مرتاحاً، ولا يجعلني أقول أَعظِم بالكون! يريحني التفكير بأن هُنَاك نظام وتناغم، وجود التناغم Fine Tuning أمر يجعلك ألا تخاف يوماً من الاستيقاظ وإيجاد نفسك على كوكب آخر من قبيل الصدفة، هذا التناغم بالكامل يبدو وكأنّه مخصص للإنسان سيد الكون الحالي، المجرة مبنية لتكون نافذته، والكوكب مصمم ليكون قصره، وباقي مكونات المكون مفصلة على هواه، وهو ما يراه عالم الفيزياء فريمان دايسون، مع أنّ الإنسان لا شيء في هذا الكون، إلا أنه يملكه بالكامل للأسف وهو لا يستحق.

ساد في القرن الثامن عشر جوٌّ من الاعتقاد بأنّ الكون مادي بالكامل، وأنّه أزليٌّ والعلم سيفكك كل شيفراته، وهذه النظرة القديمة تلاشت في القرن العشرين حين بدأت الاكتشافات تهل على كل الأصعدة، وظهرت نظرة جديدة منطلقها المبدأ البشري، وملخصها أنّ الكون قد صُمم خصيصاً للبشر، ليلائمهم ويستكشفوه، ذكرنا سابقاً أنّ ظروف المادية نشأت بدرجة أساسية نتيجة الصدام مع الكنيسة، وبعد أن فازت المادية بدأ العُلماء إرساء أسس القوانين الطبيعية وتكوين صورة أوسع، وقد ظهرت هذه النظرة للعلماء في جو من الصفاء.

وعلى هذا بعد أن كان الإنسان كائناً يعيش في كوكب متواضع يدور حول نجم عادي مثله مثل ١٠٠ مليار نجم آخر كما في النظرة القديمة للعلم، أصبح الآن في النظرة الجديدة يقوم بدور المشارك في مسرحية كونية عظيمة، إلى جانب المبدأ الإنساني والتأكيد على أنً جميع الأحداث الكونية منذ بداية الانفجار العظيم وما تلاه من أحداث قد صُممت لتسمح بوجود كائنات واعية في مكان ما في هذا الكون الشاسع، وفي فصل من فصول مسرحه، لكي يمارس الحياة فيه ويبدأ باكتشافه، كل هذه الأدلة حملت في طياتها الإقناع الكافي بنشوء تصور كوني جديد للعالم [2].

إنّ الصراع بين النظرة المادية والنظرة الإيمانية للعالم قد اقتربت من التلاشي في هذا القرن، الخلاف الذي كان دائراً سابقاً بين العلم والدين قد اقترب من الزوال، فالعلم متصالح مع نظرية الانفجار العظيم، ومتصالح مع عظمة جسم الإنسان، ومتصالح مع الأفكار التي تقول إنّ هُنَاك عقل ودماغ، والعقل ليس هو المادة الدماغية، وهذه النقاط كانت سابقاً أساس المشكلات، إنّ المبدأ البشري لكارتر ينص على أن الكون وثوابته الجوهرية لا بُدَّ أن تكون لتسمح بقٌبول مراقبين داخله في مرحلة ما، بمعنى آخر ما معنى وجود هذا الكون دون وجود أحد يفهمه ويستوعبه، ولا أحد يستوعب هذا الكون أقل من الإنسان.

وتذهب النظرية النسبية أبعد من ذلك، فالمُشاهد في النظرية هو أساس التجربة، وليس العكس، فالتجربة تتم لأنّ المُشاهد هو الذي ينفذها، بحواسه وعقله وإمكانياته وتأثيره، ولولا المُشاهد لما كان لأي تجربة أو عملية في هذا الكون أي معنى!

وما الخلاصة!

من الواضح حسب العُلماء أنّ الكون قد نتج عن انفجار عظيم، تكونت بسببه الذرات والمادة، ثُم المجرات ثم الكواكب والأرض، ومن ثَم تكونت الأرض بشكلها الحالي، وتم كل ذلك وفق نظام مُحدد ودقيق، إذا كنت مادياً ستجد أنّ هذا محض احتمال، وإذا كنت مُؤمِناً ستقول سبحان الله، ثم تخبرني أنّ الله بعد ذلك قال للإنسان اهبط على الأرض وهي جاهزة بعد أن أنهى بنيانها، أي أنّ جزءاً تكون عبر الزمن، وجزءاً آخر هبط جاهزاً من السماء، ويرى أنصار الطبيعة أنّ كل ذلك تمَّ بلا هدف أو غاية مُحددة، ويرى المُؤمِنون أنّ هذا تم لهدف معين وواضح وبخطوات مدروسة من مهندس الكون لنحصل على كوكب صالح للحياة، وهي الغاية من كل هذا السرد، وهذا الباب المتواضع سيفتح لنا أول أبواب التفكير، باب الحياة.

صورة 1 حوار في فيلم دكتور سترينج بين مُؤمِن ومادي:

المعلم الأقدم: أنت رجل تنظر للعالم من منظور ضيق، وقضيت حياتك بأسرها محاولاً توسيع منظور رؤيتك له؛ لترى أكثر؛ لتعرف أكثر، والآن لا تتقبّل احتمالية صحة الأمر؟

دكتور سترينج: لا، إنما أرفض تقبّلها لأنّي لا أؤمن بالقصص الخرافية عن القوة الروحية وقوة الإيمان، نحن مصنعون من المادة ولا شيء غيرها، ما نحن إلا قطرة ماء ببحر عالم لا يُبالي بوجودنا حتى.

الباب الثاني: الحياة

ومن المُفترض أن تكون النظريات والقوانين على المستوى الحيوي أفضل من نظيرتها على المستوى الكمي والكوني، إذ يجب توفر قوانين ثابتة وواضحة على الأقل، إلا أننا سنرى أنه مستوى مليءٌ بفجوات كبيرة لم يُغطِها العلم، هذه الفجوات تجعل العُلماء حائرين كما لو أنهم في ميكانيكا الكم الحيوية، سيركز هذا الفصل عن الحديث عن نظرية التطور بشكل واسع، ومحاولة تفسيرها وفهم آلياتها وكيف نشأت الحياة من لا شيء أو كيف نشأت الحياة من الحياة.

وإذا أردنا الحديث عن المواضيع المتعلقة بالخلق والتطور بدقةٍ واضحةٍ وفهمٍ كافٍ لاستيعاب كل الأفكار، فإنه يجب النزول إلى المكون الأساسي لكل الكائنات الحية ألا وهو الخلية، وحينما نذكر الخلية يتوجب الإشارة إلى طريقة عملها ومحتوياتها وتفاعلاتها الكيميائية وموضوعات الوراثة والجينات، فدون فهم هذه المواضيع، لن يمكن رؤية إلا جزء صغير جداً من الصورة الكبيرة، ولعلي في هذا الفصل أتكلم عن الخلية الحيوية وجزء صغير من علم الخلية Cell Biology، ثم علم الأحياء الجزيئي Molecular Biology، انتهاءً بمواضيع في علم الجينات Genetics، وإذا كنت مختصاً يمكنك تجاوز هذه المواضيع والانتقال لما بعدها مباشرة، لكني أدعوك للمرور عليها وتذكر جزء من ذكريات الدراسة الجميلة.

ثَمّة مُشكِلة حقيقية في فهم أو تخيل أي موضوع يتعلق بالكائنات الحية دون فهم مواضيع الخلية، فحينما يتحدث شخص تخصصه مثلاً علم اجتماع، يخبرك أنه يمكن للمادة الحية أنّ تأتي من المادة غير الحية! ويضرب مثال ظهور الدود في اللبن، مستشهداً بذلك فكرة أنّ الحياة تنتج من اللاحياة، وهذا ما كان مُختلف عليه في زمن لويس باستير (التوالد التلقائي) وانتهى قبل 200 عام، فأنت تعلم حجم الأزمة الموجودة لديه والفرق العلمي الكبير، فكيف لشخص لا يعرف أنّ التوالد التلقائي انتهى أمره علمياً في يومنا هذا ويفكر أن يفهم شيئاً عن التطور، أي شخص يعرف عن علم الخلية والانقسام الخلوي والزايجوت وتعقيد الخلية، يفهم أنّ الحياة يصعب أن تأتي من لا حياة، لذلك إذا كنت غير مختص فأرجو منك الاهتمام بهذا الفصل، سأحاول تبسيطه قدر المستطاع، إذ يحتوي هذا الفصل أيضاً على مصطلحات ومبادئ لازمة لاحقاً لفهم التطور، فأرجو تجرعه بالكامل.

لا يمنحنا الدين إجابات كاملة، كيف تشكلت الأرض، كيف كان شكلها قبل مليون سنة أو مليونين، هل نزل الإنسان على الأرض وكانت هُنَاك الحيوانات، أم نزلت الحيوانات بالتدريج ومن ثم نزل الإنسان، ليس من واجبات الدين تقديم الإجابات كما يقدم نفسه، بل هي من واجبات العلم، وعلى العلم أن يكون علماً وليس خيالاً علمياً أو روايةً ترقيعيةً.

الخلية

مقدمة

حينما أطلق تشارلز داروين نظرية التطور في القرن التاسع عشر، كان العُلماء لا يزالون يؤمنون بالتوالد التلقائي، وكانوا بعيدين 5 سنوات عن تجربة لويس باستور، وكان كل تصور العُلماء في ذلك الوقت عن الخلية أنها جسم هلامي دائري مثل الفقاعة يُؤَدِي وظيفة بسيطة، مكونات الخلية وآلية عملها أمرٌ لم يكونوا يعرفونه كما يعرفه أقل طالب في الابتدائية في أيامنا هذه، أما علوم مندل الخاصة بالوراثة فقد تم البدء بدراستها في بداية القرن العشرين، أي بعد داروين بـ50 عام بالمتوسط، لذلك كان يمكن في تلك الحقبة بناء آليات وسيناريوهات عظيمة بكل سهولة، وبعد أن نخرج سوياً في جولة بسيطة مختصرة في ملاهي الخلية، سترى كم هي الخلية أعقد من أعقد مدينة في العالم، جسور وممرات وبنايات ومؤسسات ومهام متنوعة وشرطة ومهندسون وبناؤون ومنظمون وحانوتية ومقابر وبوابات وحراس، وكل ما تتطلبه مدينة كاملة؛ لكي تستمر في العمل، وهذا كله في خلية واحدة ذات دور واحد في جسم يتكون من آلاف الخلايا المُختلفة والتي يزيد عددها عن المليارات، ولعلك يجب أن تراجع الحديث عن الرقم مليار كما أشرنا الحديث عنه.

بعيداً عن الفايروسات، تُعتبَر الخلية أصغر شيء حي نعرفه، وهي أصغر مكون في الحياة، فالحياة عبارة عن خلايا مترابطة ومتشابكة، على الأقل هذا ما يقوله العُلماء إلى هذه اللحظة، تختلف الخلايا في الشكل والحجم حسب نوعها ووظيفتها، لتناسب الشكل الذي صُنعت له، مثلاً كريات الدم الحمراء لها شكل معين ودرجة عالية من المرونة تناسب انسيابها ومرورها من الأماكن الضيقة في الأنسجة، كذلك الكائنات الحية الصغيرة وحيدة الخلية مثل البراميسيوم والتي هي كان حي متكامل مكون من خلية واحدة، لديها مواصفات خاصة بها تسمح لها مثلاً بالحركة عبر الأهداب، وتكاثرها بما يلائم حالتها الحية، ولو تطرقنا إلى شكل كل خلية في جسم الإنسان وملاءمة هذا الشكل مع وظيفتها لاحتجنا إلى نقاط حبر كثيرة، وبشكل عام فإن الخلايا الحيوانية أكبر من الخلايا البكتيرية، وبشكل عام خلايا الإنسان أكبر من خلايا الكائنات الأخرى في الحجم، مثلاً الخلايا العصبية في الإنسان أكبر من الخلايا العصبية في الفئران، لكن في بعض الأجزاء من الكبد والكلى نرى نفس حجم الخلايا في الكائنات أجمع، المُختلف هو عدد الخلايا لتكون عضواً أكبر.

الخلية هي مصنع متكامل، كائن حي وحده، يتكون هذا الكائن الحي من عناصر الأرض الأساسية الستة للحياة وهي: الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين والفسفور والكبريت، ويشكل الماء الذي هو هيدروجين وأكسجين 79% من الخلية الحية، والماء مرتبط بإتمام عمليات الخلية وليس مُجرَّد وسط عادي، كما عرضنا في الفصل السابق، وكما سنعرض في هذا الفصل.

صورة 2 الخلية من الداخل باستخدام مجموعة تقنيات تصوير مُختلفة، المصدر www.digizyme.com

يتكون الجسم البشري من مئتي نوعٍ مُختلف من الخلايا، تشكل تقريباً 37 تريليون خلية في جسمه وبعض المصادر ترجعها إلى 100 تريليون خلية [10]، وارجع مرة رابعة إلى فصل المليار لتفهم معنى العدد المذكور والتريليون هو ألف مليار أو مليون مليون، ويُسعدني أن أخبرك أنّ مقابل كل خلية في جسم الإنسان، تعيش 10 خلايا بكتيرية، أي أنّ جسم الإنسان يحتوي على 370 تريليون خلية بكتيرية على أقل تقدير، تعيش بطرق شتى ولها دور أساسي في حياته.

لو أردنا عد هذه الخلايا كلها بفرضية أنّ كل رقم يحتاج إلى ثانية في عده، فإن تريليون ثانية ستساوي 31 ألف عام، أي أنّ 37 تريليون خلية هي 31000 * 37 عام، أي 1.15 مليون عام، وأنا أعلم أنك عزيزي القارئ ستمر على هذا الرقم مرور الكرام ولن تقول واو، أو تقف للحظات لتر كم هو الإنسان كائنٌ بسيط، لأنه سيصدق لاحقاً رجل بنظارات سميكة يلبس معطفاً أبيضاً حينما يخبره أنّ هذه الأرقام مُجرَّد عشوائية مع القليل من الصدفة يمكن أن تتحقق في الواقع! ولعمري ما سلّمت بكلام عالِم مباشرة، سواء كان عالم علم أن عالم دين، وفي كل موقف أعملت عقلي قدر المستطاع لأميز بين هالة العالِم أو الشيخ وقلب المنطق، فقد يكون ما عرضه العالم أو الشيخ من تجربة صحيح، لكن استنتاجه خاطئ، والعقول تتفاوت في تفسير الحدث، ومن حقي أن أفسر بما أملك من منطق.

ويرى العُلماء أنّ أي جسم تتوافر فيه على الأقل المتطلبات الثلاثة التالية نستطيع أن نعتبره خليةٌ حية [10]: أن يكون كياناً منفصلاً يحاط بغشاء سطحي، ثم أن يتفاعل مع البيئة المحيطة ليستخلص طاقة تكفيه للبقاء والنمو، وأن يتكاثر هذا الجسم. لهذا لا يتم اعتبار الفايروسات أحياناً ككائنات حية، لأن كل الفايروسات تنقصها جزء أو أكثر من هذه الصفات المهمة [11].

قد تكون الخلية كائناً كاملاً كالكائنات أحادية الخلية، وقد تكون جزءاً من كلٍ تمارس عملية مُحددة في آلة أضخم هي النسيج، والنسيج مجموعة من الخلايا المتناسقة المشابهة تقوم بعمليات مُحددة، ومجموعة الأنسجة تكون عضو في جسم الكائن الحي، ومجموعة الأعضاء تكون أجهزة، ومجموعة الأجهزة تكون كائن حي كامل، وتتكاثر الكائنات البسيطة عبر انقسام الخلايا، ويمكن أن تنقسم بعض أنواع البكتيريا كل 20 دقيقة، أي أنها بعد 11 ساعة ستكون قد أنتجت ما يصل إلى 8 مليار عملية نسخ كاملة.

التكوين

تتكون الخلايا من أجزاء أصغر منها لها وظائفها المُحددة، وهذه الأجزاء تتكون من لبنات أساسية أصغر هي البروتينات والكربوهيدرات والدهون، والتي بدورها تتكون من أجزاء أصغر وصولاً إلى مركبات ومجموعات كيميائية معروفة مثل البنزين والكحول والاستر والأمين والماء وغيرها، الصفحات التالية قمت بقصها من كتاب الكيمياء الحيوية ولصقتها في هذا الكتاب، وكان يجب ذكرها لضمان تشكل صورة جيدة لدى القارئ عما نحن مقبلون عليه، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره لا محالة، قد تمل من الكيمياء ولكنها أساسية لفهم الحياة، لأن الحياة على المستوى الحيوي هي كيمياء بمستوى عالي جداً، والعلم الذي يبحث هذه التفاعلات الكيميائية على المستوى الحيوي اسمه الكيمياء الحيوية، على الرغم أنني نجحت فيها بصعوبة في الجامعة، إلا أنها علمٌ مدهشٌ وعبقري ويستحق الرسوب فيه.

تُشكل المكونات العضوية للخلية سلاسل طويلة مكونة من وحدات مكررة متصلة مع بعضها عبر روابط كيميائية يُطلق عليها مسمى الوحدات الأحادية مونومر Monomer، بينما يُطلق على الجزيئة الكبيرة جراء تكرار الوحدات الأحادية الوحدات المتعددة بوليمر Polymer، إنّ اختلاف عدد الوحدات المتعددة التي تُكوّن جزيئة كبيرة يُؤَدِي إلى تكوين جزيئات ذات صفات مُختلفة [12] لها خصائص مُختلفة عن بعضها البعض.

سنبدأ من الدرجات الدنيا للخلية وصولاً إلى أعلى الدرجات، سنبدأ بمكونات الخلية الكيميائية، مروراً بالمكونات الأعلى مثل النواة والغشاء وغيرها، وصولاً إلى شرح تعقيدات معينة في أجهزة جسم الإنسان، ثم وصولاً إلى الجهاز الكامل ألا وهو الإنسان نفسه، ولعلك تستغرب بأي مستوى سنبدأ، سنبدأ بالماء!

جزيء الماء كيميائياً

لماذا حينما ذكرنا الماء سابقاً كان بهذه الروعة؟ ولماذا يبدو وكأنه غير كل السوائل الأخرى؟ حتماً هذا لأمر مهم وليس اعتباطياً، إنّ جزيء الماء المُدهش يعمل كيميائياً بطريقة جميلة وعجيبة متكاملة مع تصميم الخلية.

من المعروف أنّ الماء من المواد التي لا حمضية لها، هو متعادل، فلا هو قلوي ولا حامضي، ولذلك الماء النقي على مقياس الحمض الهيدروجيني pH هو 7، في درجة حرارة 25 درجة مئوية، ولكن هذا على المستوى المنظور، أما على المستوى الجزيئي فالأمر يختلف كلياً، فالماء القطبي على المستوى الجزيئي ينقسم إلى قسمين، قسم حمضي، وقسم قلوي، كيف يحدث هذا إليك هذا التفصيل:

صورة 3 شكل الماء على حرف V هو ما يعطيه جزء كبير من خصائصه الفيزيائية النادرة.

من الخصائص المميزة للماء: شكله، ولعلك تجد كلمة V-Shape منتشرة في هذا المجال، ووجود جزيء الماء بهذا الشكل يمنحه المزايا الكيميائية الرائعة به، فالماء المكون من عنصري الهيدروجين H والأكسجين O بنسبة 2 إلى واحد يُوجد في حالة ليست كما هو مكتوب H2O بل في حالة HOH،منقسم في شكلين هما OH و H3O، وهذا ما يمنحه شقين، شق حمضي وشق قلوي، ويحمل بذور تعادله بنفسه، وهو ما يُسمى بـ Self-ionization أي التأيين الداخلي كما في (شكل 12 التأيين الذاتي للماء) في عملية انتقال لحظية للبروتون Autoprotolysis، وتحدث عملية انقسام الماء إلى هذين المركبين الحمضي والقلوي في أجزاء صغيرة جداً جداً من الثانية في كل لحظة حسب معادلة هندرسون هاسلباخ، تتفكك جزيئاته وتعود وتتجمع فيكون على المستوى الذري ناقل جيد للتفاعلات، وعلى المستوى المرئي مادة متعادلة لا قلوية ولا حمضية يكاد تعادلها يخطفك.


شكل 12 التأيين الذاتي للماء

معادلة1 تحلل الماء الذاتي

H2O + H2O ⇌ H3O+ + OH

H3O+ + OH → 2H2O

وتسمح قطبية الماء بأن يكون مذيب عالمي يذوب في حبه كل من المركبات الهيدروكسيلية والأمينات ومركبات الثيول والإسترات والكيتونات، وعدد كبير من المركبات العضوية الأخرى المُختلفة، وهذا لأن الماء على المستوى الذري قلوي وحمضي، ومرة أخرى عملية تفككه وإعادة تكوين جزيء الماء تحدث في أجزاء بسيطة من الثانية، ليعود إلى وضعه المتعادل قبل أن يبدو عليه ذلك! هذا ما يجعله وسطاً مناسباً كمحلول منظم Buffer Solution أي يمنع انزلاق الوسط بسرعة من قلوي إلى حامضي أو العكس، عظمة على عظمة يا ماء، صحيح أنّ هذه الميزة موجودة في مواد أخرى، لكنها مع المزايا الأخرى للماء تجعله فريداً حقاً.

هذه الميزة الفريدة للماء تسمح له بتكوين روابط هيدروجينية بسهولة، وهذا ما يجعل سعته الحرارية مرتفعة، فتكسير الروابط الهيدروجينية H-Bonds يتطلب حرارة عالية نسبياً وهو ما يحفظ الجسم كما ذكرنا من التجمد أو الغليان، وتلعب هذه الروابط الهيدروجينية دوراً أساسياً في تكوين الأحماض الأمينية والبروتينات في جسم الإنسان كما في (شكل 13 مجسم البروتين)، لا أتكلم عن التفاعلات الكيميائية في السوائل، بل أتكلم عن شكل البروتين ثلاثي الأبعاد في الفراغ.


شكل 13 مجسم البروتين

شكل البروتين في الفضاء مع مكوناته الكيميائية، وهو أمر أساسي لكي يقوم البروتين بدوره الوظيفي، ويعتمد هذا الشكل بدرجة كبيرة على الروابط المُختلفة على رأسها الروابط الهيدروجينية.

مكونات الخلية

الكربوهيدرات

تنتج المواد العضوية من عملية تثبيت ثاني أكسيد الكربون المتوفر في الغلاف الجوي عبر تحويله إلى كربوهيدرات Carbohydrates من خلال عملية البناء الضوئي كالسكروز والنشا والسليلوز، وتشترك هذه المواد في عملية توليد الطاقة أثناء عملية التنفس، والطاقة المتولدة هي المحرك الأساسي لجميع التفاعلات الكيميائية في الكائنات الحية.

تقدم الكربوهيدرات لجسم الإنسان الكثير من الفوائد؛ إذ تُعتبَر مصدراً أساسياً للطاقة، وهي تخزن الطاقة الكيميائية على هيئة مركبات غنية بالطاقة مثل GTP,ATP والجلوكوز-1- فوسفات، وتدخل الكربوهيدرات في تكوين بعض محتويات الخلية مثل: الأحماض النووية والبروتينات والدهون وتدخل كذلك في بناء جدار الخلية.

رسم توضيحي 2 التركيب الكيميائي للسيليلوز وهو عبارة عن تجمع جزيئات جلوكوز

تتكون الكربوهيدرات على المستوى الجزيئي من ألديهيد أو كيتون متعدد الهيدروكسيل لها صيغة (CH2O)n، وتُصنف الكربوهيدرات إلى عدة تصنيفات حسب عدد ذرات الكربون في الحلقة الأساسية، أو حسب نوع المجموعة الكيميائية إذا كانت كيتون أو ألدهيد أو حسب نوع التحلل، وتُصنف الكربوهيدرات بناءً لقابليتها على التحلل المائي ونتائجه الى:

  1. السكريات الأحادية:

هي الكربوهيدارت التي لا يمكن أن تتحلل إلى أشكال أخرى أبسط بواسطة مادة حمضية أو قاعدية، وتدخل في التركيب الكيميائي للنيوكليوتيدات Nucleotides، فمثلاً السكر خماسي رايبوز يوجد في الحمض النووي الرايبوزي (RNA)، أما السكريات السداسية مثل سكر دي جلوكوز الذي يوجد في عصير الفواكه يُعد مصدراً مهماً للطاقة.

  1. السكريات الثنائية:

وهي الكربوهيدرات التي ينتج عن تحللها المائي جزيئان من سكر أحادي، ومن هذه السكريات سكر اللبن (اللاكتوز) الذي يتحلل مائياً إلى وحدتين من السكريات الأحادية هما الجلوكوز والجالاكتوز.

رسم توضيحي 3 التركيب الكيميائي للسكريات المتعددة ونلاحظ التصميم الهندسي في علاقتها ببعض حين حدوث عملية البلمرة أو التجميع

  1. السكريات المتعددة:

تتكون السكريات المتعددة من سلاسل أطول من جزئين من وحدات السكريات، محتويةً على وحدات بنائية من السكريات الأحادية المتكررة، ومن هذه السكريات النشا الذي يخزنه النبات في الدرنات والبذور، والجلايكوجين الذي يخزنه الكبد، والسليلوز الذي تتركب منه معظم جدران الخلايا والأصماغ النباتية، وهذه المواد تتحلل مائياً لينتج منها وحدات متعددة من السكريات الأحادية.

رسم توضيحي4 تراكب وتداخل السكريات الأحادية لتكوين سكر متعدد من سكريات أحادية إلى ثنائية إلى متعددة

البروتينات

تُعتبَر البروتينات Proteins المُكون الأساسي للكائنات الحية، إذ تُشكل 80% تقريباً من الوزن الجاف للخلية، وتشمل مركبات عضوية ونيتروجينية تدخل في تركيب بروتوبلازم (المادة الحية) جميع الخلايا [13]، وتكثر نسبة المواد البروتينية في الأنسجة الحيوانية عنها في الأنسجة النباتية، ولا يمكن للحيوان الاستمرار في الحياة دون الأغذية البروتينية.

الوظيفة الأساسية للمواد البروتينية هي بناء الأنسجة، فلا يتم تخزين المواد البروتينية إلا في حالات خاصة كما في البقوليات كالفول والعدس، ويختلف الوزن الجزيئي للبروتينات فنجد بروتينات تبدأ من عدة أحماض أمينية وبعضها ونجد وزن بعضها من 5000 إلى عدة ملايين، كما وتحتوي بعض البروتينات على الفسفور وعناصر أخرى مثل الحديد والمنغنيز والنحاس واليود، وتتكون جزيئة البروتين الطبيعي من سلسلة واحدة أو أكثر من السلاسل الببتيدية التي تتكون من الأحماض الأمينية Amino Acids التي ترتبط مع بعضها البعض عبر روابط ببتيدية، ويحتوي جسم الإنسان على ما يزيد عن 150 ألف بروتين مُختلف تقوم بوظائف تضمن بقاء الإنسان على قيد الحياة.

الإنزيمات

هي محفزات مصنوعة من البروتين تُبنى داخل الخلية الحية، وتعمل كعوامل مساعدة لتسريع التفاعلات الكيميائية، وهي ذات تخصص عالٍ في استهداف نوع محدد من الجزيئات، وتحوي الخلية الواحدة ما يصل إلى 1000 نوع من الإنزيمات المُختلفة، وهذا السبب الذي يجعل الخلية تعمل بكفاءة عالية، ولولا الإنزيمات لاستغرقت بعض العمليات مليون ثانية لتتم بدلاً من ثانية واحدة!

تتألف الإنزيمات من الأحماض الأمينية نفسها الموجودة في البروتين، وتستطيع العمل باستقلال خارج الخلايا الحية، وتعود الأشكال المجسمة الخاصة للإنزيمات إلى وجود التسلسل المعين للأحماض الأمينية التي تؤلف كل إنزيم، وهي ذات شكل هندسي مُحدد ثابت، هذا ما يصنع الإنزيم ويضمن له الدور الفعال المتخصص في عملية التحفيز، مثل القفل والمفتاح، وهُنَاك أنواع مُختلفة من الإنزيمات تقوم بعمليات مُحددة في الخلية، مثلاً هُنَاك الإنزيمات المؤكسدة والمختزلة والناقلة والمحللة والمقسمة وغيرها، وهي تعمل بكفاءة كيميائية كما لو أنها مختبر كامل من الكشف والتحديد والانتقاء والتفاعل.

الليبيدات

الليبيدات Lipids أو الدهون مُكوِّن أساسي في جسم الإنسان، تتكون من الأحماض الدهنية ذات الوزن الجزيئي العالي ومواد أخرى مثل الفوسفوتيدات والإستيرولات والكاروتينات، تعمل الدهون على تزويد الجسم بالطاقة، وهي المصدر الثاني بعد الكربوهيدرات، مع العلم أنّ نفس الكمية من الدهون تعطي طاقة أكثر من نفس الكمية من الكربوهيدرات، وهذا يرجع إلى الروابط الهيدروجينية (تذكر جزيء الماء)، كما تعمل الدهون كعازل للحرارة في الجسم، وتدخل في تركيب أغشية الخلايا المُختلفة.

رسم توضيحي 5 بعض أشكال الدهون في جسم الإنسان

إنّ الجهاز العصبي غنيٌّ بالمادة الليبيدية والمواد الدهنية التي تقوم بتجهيز الجسم بمواد تُعرف بالأحماض الدهنية والتي لها دور أساسي في تكوين أجزاء من الخلايا، وعند ارتباط الليبيدات مع البروتين الليبوبروتينات Lipoproteins، وهي مُكوِّن مهم لعدد من الأغشية مثل أغشية الخلايا، إذ يتكون غشاء الخلية من طبقتين من الليبيدات تحيط الخلية بالكامل، وتوجد الليبيدات في كافة أجزاء النباتات بما في ذلك الجذور والسيقان والأوراق والأزهار وكذلك الكثير من المواد في جسم الإنسان مثل الكوليسترول والستيرويدات وفيتامين دال والكورتيزون وأحماض الصفراء.

رسم توضيحي6 الغشاء الخلوي للخلية مكون من طبقتين من الليبوبروتين

الأحماض النووية

وهي الجزيئات التي تحمل المعلومات الوراثية في الخلايا، وتلعب الدور الرئيسي في نقل المعلومات الخاصة ببناء البروتينات، وتُصنف الأحماض النووية Nucleic Acids على نوعين هما.

  1. RNA: الحامض النووي الرايبوزي (RNA) RiboRucleic Acid، إذ يحتوي على سكر الرايبوز Ribose.
  2. DNA: وهو يتكون من سكر الرايبوز منقوص الأكسجين DeoxyriboNucleic Acid (DNA).

وكلا النوعين يتكون بشكل أساسي من بوليمرات خيطية مكونة من وحدات بناء تعرف بالنيوكليوتيدات Nucleotides، وترتبط النيوكليوتيدات مع بعضها عبر روابط فوسفاتية ثنائية الإستر، إذ ترتبط مجموعة الفوسفات المرتبطة مع ذرة الكربون 5 للسكر المكون للنيوكليوتيد الأول مع مجموعة الهيدروكسيل المرتبطة مع ذرة كربون رقم 3 للسكر المكون للنيوكليوتيد التالي له، وسيتم الحديث عنهم أكثر بعد قليل.

الأحماض الأمينية

هي مركبات عضوية تحتوي على مجموعة الأمين (NH2)، ومجموعة حمض الكربوكسيل (COOH)، وسلسلة جانبية متصلة تسمى R والتي يتفرد بها كل حمض أميني، والأحماض الأمينية هي الحجارة الأساسية في بناء البروتينات، فالبروتينات تتكون من سلاسل من الأحماض الأمينية كما في )شكل 16 تكون الرابطة الببتيدية بين الأحماض الأمينية(، الأحماض الأمينية عليها الكثير من العلامات المُدهشة، فهُنَاك 500 حمض أميني مصنفين لغاية اللحظة في الطبيعة، يدخل تقريباً 20 منها في بناء جسم الإنسان، 20 نوع مُختلف تتراكب وتشكل الحياة التي نعرفها، منها الجليسين glycine، والألانين alanine، والأرجينين arginine، والهيستيدين histidine، واللايسين lysine، والفالين valine، والليوسين leucine، مرة أخرى كل الكائنات تتكون من تراكب هذين ال20 حمض أميني كما في )شكل 13 مجسم البروتين(، كل عضو في جسمك أو كل خلية أو كل نسيج من ملايين الأجزاء هو عبارة عن تسلسل الأحماض الأمينية الـ20، نصف هذه الأحماض الأمينية تقريباً لا ينتجها الجسم، وهو بحاجة لها من مصدر خارجي، وتُسمى الأحماض الأمينية الأساسية.

شكل 14 الأحماض الأمينية في جسم الإنسان

ليقوم الجسم بإنتاج ما يحتاجه من أحماض أمينية، فإنه يعمل على هضم البروتينات من الغذاء؛ فيحلل البروتين إلى أجزائه الصغرى وهي أحماض أمينية حتى تتمكن الأمعاء من امتصاصها، فيعيد الجسم تركيبها من جديد ويبني بها المنشآت التي يحتاجها كما في )شكل15 سلسلة من الأحماض الأمينية متصلة فيتكون بروتين(، مع العلم أنّ ما يهضم هذه البروتينات هي بروتينات أخرى، وهُنَاك أحماض أمينية غير موجودة في النباتات وهي موجودة فقط في الحيوانات، لذلك الإنسان بحاجة إلى تناول كميات من اللحوم ولو ضئيلة لكي يحصل على الفائدة الكاملة.


شكل15 سلسلة من الأحماض الأمينية متصلة فيتكون بروتين

تتحد الأحماض الأمينية ببعضها البعض لتكون سلاسل طويلة تسمى البروتينات، نهاية كل حمض أميني يتصل ببداية حمض أميني آخر فتتكون رابطة تُدعى الرابطة الببتيدية، إذ يخرج من هذا التفاعل جزيء ماء، وهذه الرابطة هي الرابطة الأساسية في تماسك سلاسل البروتينات.


شكل 16 تكون الرابطة الببتيدية بين الأحماض الأمينية

من بين كل مجموعات التكوين الأساسية لجسم الإنسان، حازت الأحماض الأمينية برعاية خاصة بسبب تكوينها البروتينات، ويعتقد العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنّ سر بداية الحياة ينبع من الأحماض الأمينية، لكن الأحماض الأمينية مُعقَّدة أكثر مما نتصور وهذا ما سيتم نقاشه.

التناظر

في الكيمياء العضوية، أي ذرة كربون يتصل بها أربع ذرات مُختلفة Asymmetric يطلق عليها اسم الذرة النشطة Chiral، ويُصبح لهذه الذرة خاصية التمايز الضوئي Optical Isomer، إذ تعكس الضوء باتجاه اليسار أو اليمين (مع أو عكس عقارب الساعة)، ويمكن فحص هذه الخاصية في المركبات باستخدام أجهزة الاستقطاب الضوئي Polarimeter، وتُسمى المواد التي تقيس خاصيتها هذه الأجهزة بالمواد ذات الخاصية التماكبية Stereoisomers.

هذه المركبات التي تحتوي على ذرة الكربون النشطة، يمكن أن تُوجد فيزيائياً في الفراغ في شكلين، الشكل الأول ويسمى مركب أيمن (يميني Dextrogyre) ويُرمز له بحرف D، أما الشكل الثاني فيسمى مركب أشمل (أعسر Levogyre) ويُرمز له بحرف كما لو أنّ كل مركب يقف أمام المرآة فيرى انعكاس صورته عليها، ويُطلق على المركبين في هذه الحالة متمابكان Enantiomers.

رسم توضيحي 7 شكل المركبات في التماثل الضوئي، هو نفس المركب كيميائياً، إلا أنّ له خواص فيزيائية مُختلفة

مرة أخرى المركب الكيميائي نفسه يمكن أن يُوجد في صورة اتجاهها يمين أو أن يكون في صورة اتجاهها شمال كما في (شكل 17 التماثل الضوئي كما لو أنّ المركب هو يدك أمام المرآة)، وهذا الأمر له تأثير كبير على فعالية المركب كيميائياً، فبعض المركبات حينما تكون يمين تملك فعالية كيميائية أكثر بعدة مرات مما لو كانت شمال، فالمورفين أحد أفضل المخدرات التي تُسبب إمساكاً شديداً، فقط الصيغة العسراء منه هي الفعالة في إحداث تسكين الألم، أما الصيغة اليمين فليست كفاعلية الصيغة العسراء، أي أنك ستفحص المورفين اليميني كيميائياً فستجده مورفين، إلا أنه غير فعال! وللعلم كل بروتينات الإنسان مكونة من اتجاه واحد وهو الاتجاه الأعسر، الشمال.


شكل 17 التماثل الضوئي كما لو أنّ المركب هو يدك أمام المرآة

شكل البروتينات

تحظى البروتينات بأهميّة عُظمى في بناء الحياة على هذه الأرض، إذ تُشكل أساساً للكثير من العناصر البنيوية في الخلية، وتُساهم تقريباً في كل عمليات الجسم، في الواقع لا توجد عملية بسيطة لا تتم دون بروتينات، تبدأ هذه المركبات من تركيبات بسيطة من عدة أحماض أمينية، وصولاً إلى بروتينات مُعقَّدة من آلاف الأحماض الأمينية، وربما تصل الملايين أحياناً، وإنّ أبسط خلية حية بحاجة إلى 300 بروتين مُختلف لكي تعمل، وتعد سلاسل الأحماض الأمينية الطويلة بناء هندسي خاص مُختلف، فهي تتشكل في الفراغ بشكل معين وطريقة معينة تسمح بترابطها لتقوم بوظيفتها على أنسب وجه، ويُحدد شكل جزيئة البروتين بمستويات أساسية هي:

التركيب الأولي Primary Structure

وهو ترتيب تتابع الأحماض الأمينية عبر الروابط البيبتيدية المكونة للبروتين، وفي حال أصاب التركيب الأولي أي خلل لبروتين ما فإنه قد يحدث تأثيرات مرضية أو فيسولوجية عديدة، فعند حدوث خلل ما في تركيب بروتين الهيموجلوبين يظهر مرض فقر الدم المنجلي، والسبب في هذا الخلل يعود إلى استبدال الحمض الأميني جلوتاميك أسيد Glutamic Acid بالحمض الأميني فالين Valine إذ ينتج خلايا منجلية الشكل تعمل على انسداد الأوعية الدموية الصغيرة، وتوقف نقل الأكسجين إلى الأنسجة المُختلفة، وتؤدي عادةً إلى الموت قبل البلوغ.

شكل 18 التركيب الأولي للبروتينات من الرابطة الببتيدية من الأحماض الأمينية

التركيب الثانوي Secondary Structure

وهو التركيب أو الشكل الذي يظهر على السلاسل الببتيدية عندما تُنتج حلقة على شكل حلزوني إما حول نفسها أو حول سلاسل أخرى، وتعمل هذه الروابط على تثبيت بناء هيكل البروتين وتأتي الرابطة الهيدروجينية على رأس هذه الروابط المكونة لهذا التركيب، وتأخذ السلاسل الببتيدية ثلاثة أشكال مُختلفة، هي أنموذج ألفا إذ تحتوي على سلسلة ببتيدية واحدة تلتف على نفسها وتلتف على طول السلسلة التفافاً حلزونياً، وأنموذج بيتا وهو التركيب البسيط غير الملتف، ويحتوي على سلسلة ببتيدية واحدة تمتد ذهاباً وإياباً مكونة صفائح، وتعمل الروابط الثانوية (الروابط الهيدروجينية) على تثبيت هذا التركيب، وأخيراً الشكل جاما إذ يجتمع الأنموذجان ألفا وبيتا معاً بالإضافة إلى ترتيبات عشوائية لا يحددها نظام معين.

التركيب الثالثي Tertiary Structure

يحدد هذا التركيب منحنيات في السلسلة وليست السلاسل لولبية الشكل، ترجع هذه المنحنيات في أغلب الأحيان إلى تركيب السلاسل الجانبية للأحماض الأمينية وفي هذا التركيب تُشكل السلاسل الببتيدية حلقة ملتفة على بعضها، ويصبح للبروتين شكل كروي وشكل ثانوي ليفي عبر تكوّن سلاسل ببتيدية متوازنة مع بعضها تظهر على شكل كتل ملتفة حول بعضها، ولها صفة مرونة الشكل، ويعتمد نشاط الإنزيمات في جسم الإنسان بشكل أساسي على التركيب الثالثي للبروتين، ويثبت التركيب الثالثي للبروتين بواسطة الروابط التالية: جسور ثنائي الكبريت، وروابط إلكتروستاتيكية، وروابط هيدروجينية، وروابط كارهة للماء وللنهايات غير القطبية.

التركيب الرابعي Quaternary Structure

هذا التركيب الذي يُحدد مستوى التجمع أو البلمرة في جزيء البروتين، فجزيئات البروتين في العادة تتكون من وحدات صغيرة متجمعة مع بعضها لتكون المركب الكلي للبروتين، ومثال على ذلك إنزيم الفوسفوريلز الذي يحتوي على أربع وحدات ثانوية متماثلة لا يظهر نشاطها الإنزيمي إلا بتجميعها مع بعضها، والروابط التي تعمل على تثبيت التركب الثالثي للبروتين هي نفسها التي تدخل في تثبيت التركيب الرابعي للبروتين، وإنّ وجود الروابط الهيدروجينية يسمح بتكون شكل البروتين الأساسي لعمله.


شكل 19 شكل الروابط في تكوينات البروتين

أشكال التركيبات المُختلفة للبروتين في الفضاء ثلاثي الأبعاد والروابط المكونة لكل منها.

نلاحظ في الصورة (شكل 19 شكل الروابط في تكوينات البروتين) أنّ الروابط الهيدروجينية تسمح بتكوين روابط معينة تلوي شكل البروتين، وهذا الشكل المنحني للبروتين يسمح له بمُمَارسة مهامه العادية، يجب أن يندهش عقلك الآن حينما تعرف أنّ كل الإبداع الهندسي في الماء لغاية عظيمة واضحة وهي السماح بتكون البروتين! وكل هذه العظمة السابقة لنصل لتكوين روابط هيدروجينية في البروتين.

إنّ الحياة مُعقَّدة في كافة نواحيها، إنها مُعقَّدة على الصعيد الجزيئي كما هي على الصعيد الحياتي، تُعَد فكرة استبدال الكبريت في الروابط بمادة السيليكون -على سبيل المثال- أمراً مُستحيل كلياً، وإنّ فكرة بناء عناصر للخلية مغايرة للمخطط الذي صممت له هو أمر مُستحيل، وفكرة أن تقوم الخلية على سبيل الخطأ بإحلال مادة مكان مادة على سبيل المثال لهو عيبٌ خَلقي كبير سيمنع استمرار حياة الخلايا؛ فكل تركيب في الخلية مبني على ما هو قبله وبذلك يستحيل أن تكون أي عملية تغييرية ذات فائدة، نحن نتكلم عن مليارات المكونات في الخلايا المترابطة، وتغيير واحد سيهدم كل شيء، ففكرة وجود خلل جيني في شمشون الجبار جعل جسمه يستبدل الكربون بالحديد في خلاياه لهو أمرٌ نابعٌ من أفلام الخيال العلمي لا أكثر.

تركيب الخلية


تتكون الخلية من عدة منظومات مستقلة تُؤدي أدواراً مُختلفة، تسبح هذه المنظومات في مادة تكون تقريباً 50% منها تُسمى السيتوبلازم إذ تحتوي على العصارة الخلوية (السيتوسول)، كما وتحتوي الخلية على شبكة طويلة ممتدة من صفائح غشائية مسطحة تسمى الشبكة الإندوبلازمية، تحتوي هذه الشبكة غير الملساء على الريبوسومات التي تقوم ببناء البروتين، في حين تقوم الشبكة الإندوبلازمية الملساء بدور رئيسي في أيض الدهون، وهذه الشبكة عبارة عن أخاديد طويلة ومنتظمة الترابط.

رسم توضيحي 8 تركيب الخلية النباتية والحيوانية

غشاء الخلية

رابط 1 علم الأحياء: تركيب الخلية

https://bit.ly/3cnXApE

يمكنك الاستزادة أكثر عن تركيب الخلية من هذا الفيديو، لتتصور أكثر ما نحن مقبلون عليه.

إنّ حدود العالم هي حافة الكون، وحدود العقل هي لغته، وحدود الخلية هي غشاؤها المحيط بها، لخلية الإنسان غشاء مُعقَّد في بنائه يسمى الغشاء البلازمي، وهذا الغشاء مكون من طبقتين فوق بعضهما من الدهون (الليبيدات) Phospholipid Bilayer يُسمى الغشاء الخلوي، ويضُم أماكن مخصصة للارتباط والاتصال والإدخال والإخراج، إذ يدخل الأكسجين من الخارج وتخرج الفضلات من الداخل، ولكل نوع من الفضلات آلية مُحددة للخروج ولكل نوع من المدخلات آلية مُحددة للدخول أيضاً، حيث هناك شيفرة خاصة تسمح بدخول المادة أو خروجها.

يحتوي سطح الخلية الواحدة على ما يقارب 5 آلاف بوابة لدخول وخروج المواد، وتدخل المواد عبر 3 طرق رئيسية هي الطريقة المجانية إذ لا تخسر الخلية أي طاقة وتُسمى النقل السلبي Passive Transport، وهُنَاك مواد يتم نقلها باستخدام بذل الطاقة إذ تدفع الخلية ATP لتسمح بدخول المواد عند الحاجة وتُسمى النقل النشط Active Transport، وهُنَاك طريقة ثالثة تسمى النقل المساعد Facilitate Transport إذ تتحايل الخلية وتنقل المادة بمساعدة مادة أخرى ستدخل الخلية بسهولة دون طاقة كما في (رابط 2 علم الأحياء: النقل في الخلية)، فتجعل الخلية المادة الأخرى تتصل بها وتدخل معها.

تحتوي الخلية الحيوانية على ما مقداره 1 على 20 من تركيز الصوديوم بداخلها عما هو خارجها، وحسب الضغط الأسموزي فإنه يجب أن يكون التركيز على جانبي غشاء نفاذ متساوي، وبسبب عدم التساوي يجب أن تُوجِد الخلية آلية لدفع الصوديوم خارجها، وهذا يتطلب طاقة كثيرة، والحقيقة ثلث طاقة الخلية تذهب في هذه العملية، ولو لم تتم العملية هذه لانفجرت الخلية.

تحتوي النباتات على جدار يُحيط بها يُسمى جدار الخلية يختلف في تركيبه عن الغشاء الخلوي بالكامل، وهو أقوى منه ويحفظها من الجفاف والصدمات، تحتوي بعض الكائنات أحادية الخلية مثل البكتيريا على الغشاءين معاً، غشاء خلوي وجدار خلوي، الجدار الخلوي أقوى من الغشاء الخلوي ويحفظها في ظروفها الصعبة، إذ تكون هذه الكائنات معرّاة في مواجهة العالم الخارجي بعكس خلية جسم الإنسان التي يحميها الجلد وعوامل أخرى، والجدير بالذكر أنّ الجدار الخلوي للخلية هو ما يجعل بعض المضادات الحيوية فعالة ضد البكتيريا ولا تضر الإنسان، مثل مضادات عائلة البنسلين Penicillin والسيفالوسبورين Cephalosporin والفانكومايسن Vancomycin، إذ لا تحتوي الخلية البشرية على جدار خلوي فلا ضرر عليها، مع العلم أنّ حجم الخلية الحيوانية يصل إلى 1000 مرة حجم الخلية البكتيرية.

رسم توضيحي 9 تركيب جدار الخلية


رابط 2 علم الأحياء: النقل في الخلية

https://bit.ly/35WJSJk

يظهر على غشاء الخلية مجموعة كبيرة من البروتينات تُدعى المستقبلات تصل إلى 10 آلاف نوع، هذه المستقبلات هي نقاط اتصال الخلية مع العالم الخارجي، أو مرابط للعالم الخارجي ليتصل بالخلية، مثلاً يريد جسم الإنسان إرسال هرمون معين أو أمر ما للخلايا، فيبدأ بإفراز مادة مُحددة من مئات المواد المُختلفة (الهرمونات على سبيل المثال) فترتبط بسطح الخلية على أحد المستقبلات ثم يبدأ تأثير المادة فيفهمها المستقبل ويقوم بإرسال إشارة إلى داخل الخلية حسب نوعها، كذلك فإن هذه المستقبلات هي ما ترتبط بها الفيروسات والبكتيريا كالمفتاح والقفل فيبدأ تأثير الفايروس، وهُنَاك علاج جديد للفايروسات يمنع اتصال مستقبل الفايروس مع مستقبل الخلية فلا يحدث المرض، وقد صنف العُلماء مستقبلات وحددوا وظيفتها وقاموا بالتأثير عليها، مثل مستقبلات ألفا وبيتا بأنواعها المُختلفة، وجاما وكابا وميو ومئات الأنواع المخصصة في كل موضع في جسم الإنسان ذات وظيفة مُحددة.

هُنَاك حالات من ارتباط القفل والمفتاح في المستقبلات، فبعض المستقبلات يتصل اتصالاً كلياً بالمادة، وبعضها يتصل اتصالاً جزئياً، وبعضها حينما يتصل يجعل الخلية ترسل إشارات للداخل مستمرة وبعضها متقطع، وبعضها اتصاله بالمستقبلات دائم وأبدي، وبعضها مؤقت، وبعضها اتصاله بها يجعل التأثير يبدأ، وبعضها لا يجعل التأثير يبدأ بل يشغل المكان دون تأثير Agonis, Antagonist, Partial Agonist، وهذا ما يجعل أدوية مثل النالوكسون Naloxone مُفيد في علاج إدمان الهيروين والأفيونات، فهو يتصل بالمستقبلات نفسها ويمنع اتصال الهيروين، لكن اتصال النالاتاكسون لا يجعل الخلية ترسل إشارات، وهُنَاك الزغيبات التي تجعل مساحة سطح الخلية يزداد إلى 30 ضعفٍ، فيصبح سطح الخلية ملعباً واسعاً مستعداً لآلاف الإشارات الداخلة والخارجة في كل لحظة، ولو شبهنا الخلية بالمصنع، لكانت النواة هي مكتب التنسيقات، والأغشية هي الطاولات والمكاتب التي توضع عليها الأعمال المُختلفة.

لا تقتصر الأغشية على خارج الخلية، بل يوجد بداخل الخلية أغشية لكل عُضَيَّة (تصغير عضو)، إذ تسمح بترتيب المواد والمكونات حتى لا يصبح تداخل وتصادم في العمليات، وفي الحقيقة حجم الأغشية داخل الخلية يساوي حجم الغشاء المحيط بها مضروب بمائة، بل ونجد أنّ للميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء غشاءً مزدوجاً بالإضافة إلى وجود أجزاء من الدنا فيهم.

الأُنيبيبات الدقيقة

كلمة أُنيبيات Microtubule هي تصغير لكلمة أنابيب، وإن كان الغشاء الخلوي هو جدار المنزل، فهذه الأنابيب هي أعمدة المنزل، والأُنيبيات هي شرائط ديناميكية تشكل هيكل الخلية وتمنح السيتوبلازم بعض الصلابة وبعض الشكل حتى لا تنكمش الخلية، وهي الطرق التي ترتبط بها المكونات لكي تسير من وإلى عُضيّات الخلية المُختلفة، فكيف للغشاء أن يرسل مادة معينة دخلت إلى النواة، أو كيف يحدث العكس، أو كيف تتم عملية نقل المواد بشكل عام في الخلية، كله يتم عبرها.

يتكون هذا الأنبوب من بروتين يُدعى تيوبولين، كل جزيئان متصلان من التيوبولين يكونان دايمر (ألفا تيوبولين + بيتا تيوبولين)، وهو اللبنة الأساسية لبناء الأنابيب، ويتم بناء الأنابيب وفق نظام مُحدد وهو وجود ألفا وبيتا من التيوبولين متراصين في دائرة مكونة من 13 بروتين على امتداد طولي، لاحظ 13 وحدة، لا 12 ولا 14، 13 كما لوحة العشاء الأخير كما في (شكل 20 تكوين الأنيبيات الدقيقة).


يبدو الأمر كما لو أنّ طوب من نوع 1 يتصل بطوب من نوع 2 ويتكون جدار، لكن الأمر مُعقَّد أكثر، فهذا الطوب ليس بطوبٍ تقليدي، بل بروتين مشوه الشكل يتصل ببروتين مشوه الشكل في فضاء ثلاثي الأبعاد تنشأ بينهم رابطة معينة، ويتم الترتيب بالترافق لآلاف البروتينات، بل والملايين لتشكيل هذه الخيوط الطويلة، ولو أنّ كل عملية تتم فكرنا بها بهذه الطريقة لعرفنا كم هي الخلية مُدهشة.

هُنَاك حركة في الأهداب والسياط تتطلب وجود مكوّن آخر يتيح الحركة وهو بروتين يدعى الداينين، إذ يسمح هذا البروتين للأُنبيبيات المتجاورة بالارتباط ببعضها ثم الانزلاق بطريقة متناسقة لتحدث الحركة في السوط وهي مثل السلسلة الموجية، إذ يقوم الجزيء الخلفي بدفع الجزيء الأمامي فتحدث عملية متسلسلة لتحدث الحركة ويتمكن هذا البروتين من مشي 220 خطوة في الثانية الواحدة!


شكل 20 تكوين الأنيبيات الدقيقة

رسم توضيحي10 بعض أنواع وأحجام الأنيبيات الدقيقة

هذه العملية مسؤولة عن عمليات كثيرة في الكائنات الحية، ففي بعض الأمراض إن حدث خللٌ ما في ذراع الداينين فإنه لن يحدث الانزلاق؛ ولن تحدث الحركة؛ ومن ثَمَّ سيموت الحيوان المنوي، ونحن نعلم أنّ الحيوان المنوي يحتاج إلى تحريك سوطه ليصل إلى البويضة، لك أن تتخيل أنّ خطأً واحداً سيُؤَدِي إلى فناء الجنس البشري، لا أعلم كيف تطورت هذه العملية المُعقَّدة في الحركة لتكون بهذا الاتساق وتُحدِث حركة على مدى كل الأنبوب دون أي خطأ في الـ 13 * 2 بروتين في مليون دائرة! تخيّل أنّ تطوير عملية كهذه نتيجة العشوائية يتطلب ما لا يقل عن مليون مليون احتمال يجريها بشري في مختبر وليس نتاج الصدفة في مستنقع من الماء، وفي حالة قيام إنسان عاقل نحن بحاجة إلى 60 سنة، أما في حالة المستنقع نحن بحاجة إلى 100 ألف سنة، ستموت كل الأجناس البشرية ولن يبقى لها أثر، هذا فقط للحفاظ على خطوة من خطوات حركة الحيوان المنوي المسكين.

ولو حدث هذا الخلل في المراحل الأولى من تكوين الجنين (خلل في الأسواط) لظهر خللٌ مسجل باسم مُتلازمة كارتاجنر Kartagener syndrome ويحدث فيها مضاعفات مثل عدم القدرة على التنفس بسبب عدم قدرة الرئة على التخلص من المخاط، ومشاكل في الأذن الوسطى وعقم عند الرجال والنساء، كما وتُسبب حالة مرضية تسمى بانقلاب وضع الأحشاء Situs inversus، وحينما نستعرض بعد قليل قاعدة الطفرات الجينيةGenetic Degeneration عند البشر التي تزيد فيها الأمراض عن 200 ألف مرض، ستفهم لماذا يعتبر هذا الرقم بسيطاً، فنحن بتنا نعرف أنّ أي نقص بسيط في وظيفة بروتين سيسبب أمراضاً لا حصر لها، بشكل عام للأهداب دورٌ عظيمٌ في الجسم وثَمّة مجموعة أمراض مرتبطة بمشاكلها تُسمى الاضطرابات الهدبية ولها دراسات واسعة وتُصنف كمُتلازمات مُنفصلة وهي كثيرة وعجيبة ومتنوعة [10].

بالإضافة لهذه الأنابين التي تكوّن الأهداب، هُنَاك أنابيب متحركة لها عمليات مُعقَّدة أكثر لأنها عبارة عن أعضاء حسية، إذ تستخدم كمستقبلات ميكانيكية وكيميائية وتساعد في عملية الشم والإبصار، أي أنّ الجسم يُعيد استخدام الأجزاء نفسها لتقوم بوظائف أخرى، وهذا في عالم البرمجة أو عالم الهندسة الصناعية يُسمى Reusability، وهي تنم عن تخطيط فائق للموارد، ولعلي أزيدك من الكنافة قطعة أخرى أنّ هذه القابلية لإعادة الاستخدام أعلى مما نتصور، فيمكن لأنابيب طويلة أن تتفكك في ثوان ويعاد تركيبها في ثوانٍ أيضاً، وهذه الخاصية الديناميكية أشبه ببناء حائط من 100 صف في ثوانٍ، وإعادة تفكيكه واستخدامه في مكان آخر، وهي أساس نقل المواد في مواضع الخلية المُختلفة، ولا تبقي الخلية هذه الأنابيب ممدودة طوال الوقت، لأنها تجعل الخلية صلبة أكثر من اللازم، وتجعل مواردها غير كافية، لذلك يجب عليها أن تُعيد استخدامها من موضع إلى آخر، ولهذا وجب تفكيكها ونقلها دائماً، ولك أن تتخيل سير العملية بالكامل، فهُنَاك آلات مسؤولة عن التفكيك، وآلات تمسك بالقطع المفككة، وآلات تنقل القطع وآلات تسلم القطع لتتجمع حسب المخطط، في حين وُجود مواد معينة يُؤَدِي إلى إيقاف كل العملية، فمادة مثل الكوليشسين تجعل التيوبولين لا يُربط ببعضه، وهو ما استُخدِمَ سابقاً كعلاج لالتهاب المفاصل، ويُستخدم اليوم في الطب بكثرة، بالإضافة لمادة التاكسول التي تُستخدم كعلاج للسرطان، وكلاهما مُستخلص نباتي.

بالإضافة إلى قدرة الأُنيبيات على مسك هيكل الخلية، فإنها تُستخدم كسكك حديد للحركة، سنتطرق إلى آليتها في فصل المسامات النووية، وهُنَاك آلية حركة لبروتين الكينسين إذ يتم الانتقال بالقفز وليس بالسير على سكة الأنيبيات، ويقفز البروتين في خط مستقيم، كما يأخذ هذا البروتين شكل الحرف Y مقلوب، فالقدمين لأسفل، ويقفز هذا البروتين على الخيط الرفيع كما يقفز البهلوان على خيط مشدود ويحمل فوقه بالونة كبيرة من الفجوات العصارية ينقلها من مكان لآخر كما في (رابط 3 آلية سير الكاينسين)!

رسم توضيحي 11 شكل الأنيبيات الدقيقة ممتدة إلى النواة


رابط 3 آلية سير الكاينسين

https://bit.ly/2RQ53Vd

هُنَاك نوعان آخران من الأُنيبيات أو الخيوط أو الألياف الصغيرة، وهما الخيوط المتوسطة والخيوط الدقيقة، فالخيوط المتوسطة أكثر متانة من الأنيبيبيات الدقيقة وهي مسؤولة عن متانة الخلايا وتشكيل الهيكل الخاص بها، تسمى الخيوط المتوسطة بهذا الاسم ذلك لأن قطرها ١٠ نانومتر وقطرها يقع بين قطر الخيوط الدقيقة بسمك ٦ نانومتر والأنيبيبات الدقيقة بسمك ٢٥ نانومتر [10]، وإنّ عملية تنظيم الخيوط الدقيقة وتشييدها تتم عبر جهاز مستقل مخصص في الخلية يُدعى الجسيم المركزي (السنتروسوم) وهو الذي ينظم الأُنيبيبات الدقيقة حسب مُتطلبات شكل الخلية أو حركتها أو انقسامها.

أما الخيوط الدقيقة فتتكون من بروتين مُختلف يُدعى الأُكتين، وهو بروتين كروي الشكل، يمتلك آلية مُختلفة في تكوين الخيوط عن آلية بروتين التيوبولين الموجود في الأُنيبيات الدقيقة، كما وتكون هياكل العضلات، وللعضلات آلية هندسية مُعقَّدة في انقباض وانبساط خلاياها، وهي آلية يكرهها طلاب الأحياء، والأنيبيات الدقيقة واحدة من العناوين التي سنتطرق لها مرة أخرى في عملية النسخ والمضاعفة، وهي من المواضيع القليلة التي سنستفيض في توضيح عظمتها، لأنها من أبسط المواضيع، وهي تعد مثالاً على تعقيد أبسط جزئيات الحياة، أما مواضيع الخلية الأخرى فسنذكرها للاطلاع ولن نتعمق فيها.

الليسوسومات والبيروكسيسومات

تنتمي الليسوسومات والبيروكسيسومات إلى مجموعة الأجسام الدقيقة، مثل الكلايوكسيسومات، والسفيروسومات، والميلانوسوم، إذ تقوم كل منها بمهام مُختلفة، فالليسوسومات تشبه معدة الخلية، وهي عبارة عن فجوات عصارية تحتوي على إنزيمات تحلل المادة المهضومة أو بقايا الخلايا الميتة، كما يمكنها أن تساهم في عصر الخلايا الدخيلة كالبكتيريا، وكذلك تفعل البيروكسيسومات، لكن الفرق هنا أنّ الليسوسومات توجد في الخلايا الحيوانية فقط، أما البيروكسيسومات توجد في كل حقيقيات النواة (الخلايا التي يحاط نواتها بغشاء)، مع فرق آخر أنّ الليسوسومات لها دور أوسع في عملية التكسير والتحليل، والبيروكسوم Peroxisome يُجري عمليات تحليل عبر الأكسدة، و البير أوكسيد هو فوق أكسيد الهيدروجين وهو مادة ضارة جداً من نتاج التكسير، لكن تحتوي البيروكسيسيدات على إنزيم حفّاز يقوم بتكسير الماء الثقيل، مع العلم أنّ البيروكسوم في خلية الإنسان يحتوي على 50 إنزيم على الأقل، وهي بيئة مناسبة لتوليد العديد من الإنزيمات، ونستحضر هنا المادة الصفراء في الغدة الصفراوية التي تكسر الدهون.

يتم إنتاج البروتينات الخاصة بمحتويات الليسوسومات والبيروكسيسومات في أغشية الشبكة الإندوبلازمية، ويتم شحنها لاحقاً إلى جسم مخصص لهذا الأمر اسمه جهاز جولجي، وهو مجموعة من الحويصلات الغشائية المنبسطة التي تستقبل البروتينات المخلقة حديثاً من الشبكة الإندوبلازمية، وتجمع البروتينات الجديدة في فجوات عصارية لتوزيعها أو تعديلها لاحقاً، الأمر أشبه بالمخزن إذ يمتلك غرفاً مخصصة مثل الأكياس المسطحة، كما يلعب جهاز جولجي دوراً في تكوين البروتينات السكرية وكذلك في تصنيع الأنسولين والعصارة المعدية، ولهذا الجهاز آلية خاصة لتجميع البروتينات وترتيبها، ولكن حتى لا يصبح كتابنا كتاب أحياء سنكتفي بهذا الجزء البسيط عنه.

الميتوكوندريا

رابط 4 كيف تنتج الميتوكوندريا الطاقة

https://bit.ly/33UwDpH

تُعتبَر متقدرة الطاقة (الميتوكوندريا) ثاني أكبر عضو في الخلية بعد النواة، هي مكان إنتاج الطاقة في الخلايا الحية، وتحتوي المتقدرة على شريط وراثي من الدنا يحتوي على ريبوسومات لإنتاج البروتينات من هذا الشريط، وإنزيمات خاصة بها تزيد عن 50 إنزيم، وهي تنقسم أحياناً لتنتج متقدرتين، وتلتحم في أحيان أخرى لتنتج متقدرة كبيرة، وإن كانت المولدات في منازلنا تنتج الكهرباء لكي نستخدمها، ففي الميتوكوندريا يتم إنتاج ثلاثي فوسفات الأدينوسين Adenosine Triphosphate ATP، وهو العملة التي يتم إرسالها في الخلية للقيام بعمليات تحتاج إلى طاقة، وتتم هذه العملية في الميتوكوندريا عبر أحد معجزات الخلية في دورة متكاملة تُدعى دورة حمض الستريك، أو كريبس سايكل Krebs cycle كما هي مشهورة في المعاهد العلمية نتيجة إلى مكتشفها، إذ يتم التخلص من العنصر الضار (الأكسجين) للحفاظ على الحياة، يتم استهلاك الـATP وإنتاج جزيء ماء ومركب ADP ثنائي فوسفات الأدينوسين، ثم يتم إعادة استهلاك الـADP وتحويله إلى ATP وهكذا، وفي هذا المقام لا بد من شرح دورة كريبس كأنموذج من بين آلاف النماذج على آلية عمل الكيمياء في الجسم.

رسم توضيحي 12 مكونات الميتوكوندريا

دورة حمض الليمون

دورة كريبس، أو دورة حمض الستريك، أو دورة tricarboxylic acid، هي عملية تحدث في كل الخلايا التي تحتوي على ميتوكوندريا لتوليد الطاقة (كريات الدم الحمراء مثلاً لا تحتوي على ميتوكوندريا)، إذ يتم استخدام الكربوهيدرات والدهون وبعض الأحماض الأمينية وحرقها باستخدام الأكسجين لاستخراج طاقة نقية، وينتج ثاني أكسيد الكربون وماء كمخلفات للعملية، وينتج أيضاً الـATP الذي يمكن استخدامه في كل مرافق الخلية لتوليد الطاقة.

تبدأ العملية كلها بارتباط Acetyl CoA مع Oxaloacetate في ظل وجود إنزيم Citrate Synthetase فينتج عنها ستريت [14]، وهذه خطوة رقم 1 كما في )معادلة 2 خطوة رقم 1 في دورة كريبس(


معادلة 2 خطوة رقم 1 في دورة كريبس

Condensation

ثم تتبعها عملية Isomerization تنقسم إلى عمليتين كيميائيتين، ثم عملية نزع هيدروجين ثم نزع مجموعة كربوكسيل فينتج ثاني أكسيد الكربون، إلى أن تنتهي بالعملية رقم 10 إذ يرتبط الـ NADH2 & FADH2 بنظام نقل الإلكترونات لكي يتكون الـATP من عملية الفسفرة [15].


شكل21 مخطط كيميائي لدورة حمض الليمون

ونرى في هذه العملية الطويلة الترابط والترافق كما في )شكل21 مخطط كيميائي لدورة حمض الليمون(، فكل عملية مرتبطة بالعملية التي تسبقها، ولو حدث خطأ بسيط في أي خطوة من الخطوات فستتوقف العملية وتشتعل الميتوكوندريا ومن ثَمَّ تفشل عملية توليد الطاقة، ومن الملاحظ في العملية أنها تتم فقط في ظل وجود تنفس هوائي، إذ لا يمكن أن تتم دونه رغم أنّ الأكسجين عنصر ضار في بناء الخلايا. هذه الدورة مستمرة ولا تتوقف إذ ترتبط المخرجات النهائية بالمدخلات وتبدأ مرة أخرى من جديد، ومن المُدهش حقاً أنّ هذه العملية لا تهدر طاقة تُذكر، لا يوجد عنصر ATP واحد مستهلك من المجموع الإجمالي، أي أننا نولد طاقة دون أن نخسر شيئاً، ففي العادة نحن نبذل طاقة معينة لتوليد طاقة أكبر، لكن في دورة كريبس نُولّد طاقة دون بذلها، وهذا يعيدنا للتصميم الهندسي العبقري للميتوكوندريا لإنشاء طاقة غير مكلفة، في العادة لو وصل جهاز للاستفادة ما نسبته 30% من الطاقة فإنه سيكون جهازاً خارقاً، فمثلاً في السيارة أقصى ما يمكننا أن نستفيد من حرق الوقود فيها هو ما نسبته 20% فقط من الطاقة المولدة.

وهنا نتساءل عن دورة كريبس التي تمثل عملية واحدة من ملايين العمليات المُعقَّدة داخل الخلية، وفي كل ثانية تتم ملايين المرات داخل جسم الإنسان، وبعد الشرح الكيميائي من 10 خطوات لإتمام العملية، هل من الممكن أن تكون هذه العملية بهذا الإتقان والتتابع والطاقة المهدرة شبه الصفرية قد تمت بين جزيئات كيميائية دون تخطيط مسبق، حينما تضع في حساء آلاف المركبات الكيميائية وتتم به عملية مكررة 3 مرات بانتظام وترافق،

https://bit.ly/2EtwZLn

رابط 5 شرح دورة كريبس

يتجه تفكيرك إلى أنّ هذا الأمر مُستحيل إتمامه دون تدخل، فما بالنا ب 10 عمليات مترافقة في بناء متخصص، كأن العملية تتم وفق خط إنتاج متكرر إلى ما لا نهاية.

هذه العملية الكيميائية بحاجة إلى خبير كيميائي لكي يصممها، ونحن البشر لم نستطع تصميم مثلها حتى هذه اللحظة، بل وجدناها هكذا في الطبيعة فدُهشنا حينما اكتشفناها، لم أجد من يوضح لي بخطوات معقولة كيف يمكن لهذه العملية أن تتم كيمائياً، ويتم حفظها في سجلات الخلية لتجريها الخلية لاحقاً دون خطأ، ولعلي أدعوك بعد هذه الفقرة إلى رؤية كيف تقوم البلاستيدات الخضراء في النباتات بتوليد الطاقة من الشمس، في عملية كيميائية أطول من دورة كريبس، أو أن ترى كيف يقوم أي كائن حي بتوليد عمليات الكيمياء الحيوية في جسمه، سترى العجائب إذا تابعت مواد مرئية تحاكي الحياة، وستعلم لِمَ الحياة مُعقَّدة فعلاً!

الريبوسومات

تُوجد الريبوسومات على جدار الشبكة الإندوبلازمية التي تنتج ما تتكون منه الحياة بالكامل، فهي تنتج البروتينات من الأحماض الأمينية، بعض الخلايا تنتج يومياً ما يزيد عن عشرة مليون ريبوسوم، بمعدل سبعة آلاف ريبوسوم كل دقيقة، وكل منها له نحو ٨٠ بروتيناً؛ الأمر الذي يتطلب إنتاج نصف مليون بروتين كل دقيقة في السيتوبلازم [10]، تُستجلب هذه البروتينات إلى النواة بمعدل ١٠٠ بروتين لكل مسام في الدقيقة، أعلم أنّ الأرقام ضخمة، وهذا للخلية الواحدة من مليارات الخلايا في جسمك الآن، ولا نريد أن نجري عملية حسابية مرعبة مرة أخرى، فالأرقام الكبيرة تذكرنا بالنقود التي لا نملكها.

إنّ عملية تصنيع البروتينات عملية مُعقَّدة، فيتوجب على الأحماض الأمينية أن تأتي للريبوسومات، وبعد أن يتم ربط كل حمضين برابطة ببتيدية يجب أن تبقيهم مخزنين ومثبتين للربط بحمض ثالث وهكذا لحين الحصول على السلسلة الصحيحة الطويلة للبروتين، علاوةً على تعقيد تنظيم عمليات الإدخال والإخراج لهذه المواد في الريبوسومات، أصعب من إدخال المواد عبر غشاء الخلية، وهذه الريبوسومات بحاجة إلى دليل إجرائي، وهذا الدليل الإجرائي من العمليات التي تحدث داخل الخلية وتشعرك كما لو أنّ لها عقلاً يفكر، لنتخيل أننا نمتلك مصنعاً يقوم بإنتاج دمى أطفال يومياً، وهُنَاك عامل على خط الإنتاج مهمته أن يأخذ أصابع الدمية من زميله ويركبهم في يد الدمية، ومن ثم تسليم اليد لشخص آخر ليكمل سلسلة الإنتاج، ستكون الآلية كالتالي:

  1. سيذهب العامل إلى الدليل الذي كتبه مهندس العملية.
  2. سيقوم بفتح الصفحة التي تُعني بعملية تجميع الأصابع.
  3. ثم يكتب الخطوات بدقة (ينشئ نسخة) إذ هو ينفذ المكتوب ولا يحفظ الخطوات.
  4. سيعود إلى خط الإنتاج ويتأكد من أن كل شيء في مكانه.
  5. سيقوم بقراءة التعليمات سطراً سطراً، وينفذ كل سطر وينتقل إلى السطر الذي يليه.
  6. سيتأكد أنّ العملية تمت بنجاح، إذ يعيد القراءة ويتأكد من كل خطوة (عملية فحص أخيرة).
  7. سيسلم اليد التي بها الأصابع لمن بعده في خط الإنتاج.
  8. يكرر العملية.

هذه الخطوات في المثال السابق تحدث في كل مرة يتم تصنيع فيها بروتين في الريبوسومات، الجدير بالذكر أنّ النوية (نواة بداخل النواة) تقوم ببناء الريبوسومات (بالإضافة إلى صناعة الرنا)، وذلك باستخدام جينات مخصصة لهذا الغرض باستخدام الرنا ريبوسوم الذي سيتم ذكره لاحقاً، والجدير بالذكر أيضاً أنّ النُّوية تنتج ما يصل إلى 10 مليون ريبوسوم في اليوم الوحد في حالة حدوث انقسام للخلية، مرة أخرى 10 مليون وحدة مصنعية للبروتينات دون خطأ، مرة ثالثة 10 مليون وحدة مصنعة للبروتينات في اليوم للخلية الواحدة، عند حدوث انقسام للخلية، 10 مليون وحدة مصنعية وكل واحدة فيها مكونة من آلاف البروتينات.

العمليات ليست كيمياء

كل عملية كيميائية في الخلية تتكون من 3 أقسام وهي:

  1. قسم موضع حدوث التفاعلات الكيميائية، إذ يتم وضع مرّكب أ على مرّكب ب، ثم ج على ب.
  2. قسم خط الإنتاج، إذ يتم تسليم المادة أ إلى القارورة 1 ووضع المادة ب بجانب المادة أ في القارورة 1، والمادة المستخرجة من القارورة رقم 1 يتم وضعها مع المادة ج في قارورة رقم 2، مع وجود عوازل ومحيط معين وجدران وخطوط سير لتسليم المواد وأخذ المواد وإخراج الفضلات.
  3. كُتيب التعليمات، إذ يُدوّن فيه أنه يجب وضع المادة أ على المادة ب قبل أن نضع المخرج على المادة ج، وأنه يجب أخذ المُخرج وتسليمه للحاج رشدي ليقوم بدوره ببيعه في السوق وهكذا.

في كل العمليات التي نقوم بوصفها نكون في الغالب نصف جزء فقط من التفاعلات الكيمياء الحيوية، وهي فصل واحد من العمليات، ولا نصف الفصل رقم 2 أو الفصل رقم 3، ففي دورة كريبس المُعقَّدة لم نذكر إلا التفاعلات الكيميائية الخاصة بالدورة، لم نذكر كيف تتم حسب دفتر التعليمات، ولم نذكر كيف تستلم الخلية كل مادة من المواد الخارجة، ولم نذكر كيف تسلم الخلية كل مادة من المواد الداخلية، وغيرها من العمليات السابقة واللاحقة، وهذا يُعيدنا إلى التفكير في تعقيد العمليات الكيميائية وأننا يجب ألا نستهين بأي جملة تُقال لنا في عالم الأحياء، بل يجب أن نفكر فيها لأنها حتماً أكثر تعقيداً مما نتخيل.

رسم توضيحي 13 تحتاج أبسط التجارب الكيميائية إلى بيئة منعزلة وحجرات وأنابيب ودرجات حرارة مُختلفة، هذه الدوارق والأنابيب موجودة في كل تفاعل كيميائي من مليارات التفاعلات التي تحدث في جسم الإنسان كل ثانية.

إنتاج الدهون

لا يوجد جزء في الخلية لا يقوم بمهام متعددة، كل جزء هو نتاج هندسة دقيقة ليحفظ المساحة ويقوم بتقليلها عبر قيامه بعدة مهام كانت ستحتاج إلى أجزاء أخرى تشغل حيزاً من مساحة الخلية لتنفذ مهام الخلية، الشبكة الإندوبلازمية مثال آخر على هذا التصميم العبقري، فبالإضافة إلى دورها في صناعة البروتين، نجدها تعمل كمخزن خلوي للكالسيوم، وتعمل الشبكة الإندوبلازمية أيضاً على بناء إنزيمات زميلتها الشبكة الإندوبلازمية الملساء، وهي مسؤولة أيضاً عن بناء وصناعة الدهون (الليبيدات)، ويتم إنتاج الدهون في الخلايا الفردية على سطح الشبكة الإندوبلازمية على هيئة قطرات صغيرة، ومع أنّ الدهون التي نراها موجودة حول حواف شرائح اللحم أو حول محيط الخصر تبدو ككتل صلبة متجانسة، إلا أنها في الواقع توجد في شكل قطرات دهنية محاطة بغشاء داخل خلايا فردية تسمى الخلايا الدهنية أو الشحمية Adipocyte أو Lipocytes.

إنّ تناول المزيد من المواد الغذائية سيُؤَدِي إلى تراكم الخلايا الشحمية عبر إنتاج المزيد من القطرات الدهنية التي تتحد مع جيرانها فتصبح أكبر حجماً، مكونةً النسبة الأكبر من حجم الخلية الذي قد يزيد ١٠٠ مرة عن الحجم الطبيعي، وهكذا فإن السُمنة خللاً في توازن الطاقة الذي يَنتج عن التراكم المستمر للقطرات الدهنية داخل الخلايا الشحمية، لكن لا تقلق، فالجسم مُهيَّأ ومُبرمج للتعامل مع هذه الحالة.

على الرغم من نظرتنا للقطرات الدهنية باعتبارها مُجرَّد مستودعات تخزين بسيطة، إلا أنّ الدراسات الحديثة بينت أنها عُضيّات بارزة، وأنها ليست مُجرَّد كتل من الدهون بأي حال، كل حقيقيات النواة تملك القدرة على تكوين الدهون التي تُنتج كل الزيوت والشحوم المتكونة طبيعياً، فمن زيت بذور اللفت إلى زيت الزيتون في الخلايا النباتية، إلى دهون الحليب واللانولين ودهون الخنزير في الخلايا الحيوانية، وتتركز هذه الجزيئات الدهنية على سطح الشبكة الإندوبلازمية، ثم تنضغط مكونة قطرة تكون محاطة بغشاء دهني وحيد الطبقة، وتظل ملاصقة للشبكة الإندوبلازمية؛ حيث توجد الإنزيمات التي تحفز تكون الدهون [10]، ولأنّ عملية بناء الدهون تحتاج إلى طاقة وفيرة، فإننا نرى بوضوح ارتباط الميتوكوندريا بأماكن بناء الليبيدات، إذ ترتبط الميتوكوندريا حرفياً بسطح الشبكة الإندوبلازمية بواسطة مجموعة من البروتينات الغشائية، في خريطة هندسية لتوفير نقل الطاقة وتسريع البناء.

النواة

مقدمة

على الرغم من كون نواة الخلية أكثر مكونات الخلية تعقيداً ومع ذلك فهي أكثرها تنظيماً، فالتعقيد الشديد في العمليات يتطلب تنظيماً شديداً لمنع حدوث الأخطاء، وتحتوي نواة الخلية على العنصر الأهم في بناء الخلية، ألا وهو شريط الدنا، الذي يحتوي على المعلومات المهمة في كيفية بناء الخلية وهو قاعدة بيانات توضح مخطط بناء الخلية وكيفية قيام الخلية بأنشطتها الحيوية المختلفة، وتنقسم الأنوية في الكائنات الحية إلى حقيقيات النواة كما خلايا الإنسان، إذ تكون النواة في مكان مخصص محاطة بغشاء تحتوي على الكروموسومات، وإلى بدائيات النواة، إذ تكون محتويات المادة الوراثية عائمة في الخلية غير محاطة بغشاء [10].

المسامات النووية


شكل 22 بروتينات المسامات NPC

تحتوي الخلايا حقيقية النواة على غشاء مزدوج يُحيط بها، والغشاء الخارجي مكون من خيوط الشبكة الإندوبلازمية ثم يتبعه فراغ نووي يليه غلاف آخر داخلي مكون من بروتينات ليفية يعرف باسم الصفيحة النووية تحمي الخلية من الانضغاط الميكانيكي، ونقاط ربط وارتكاز بين غشاء الخلية ومكونات السيتوبلازم، وأي خلل في هذه الركيزات سيُؤَدِي إلى أمراض عديدة مسجلة ومشهورة مثل أمراض ضمور العضلات.

يسمح هذا الغشاء بدخول المواد وخروجها بطريقة منظمة وصارمة جداً، وهذا الدخول والخروج يتم عبر بوابات معينة تُدعى المسامات النووية Nuclear Pore، وكما نعلم أنّ اللبنة الأساسية لكل شيء في الخلايا هي البروتينات، وآلة البروتين المسؤول عن البوابة هي بروتينات مجتمعة اسمها The nuclear pore complex (NPC) كما في )شكل 22 بروتينات المسامات NPC) وهي المسؤول عن دخول المواد وخروجها من النواة إلى السيتوبلازم في الخلية، وتتكون هذه الآلة من 500 إلى 1000 بروتين مجتمعة تقوم بمهمة دقيقة، وهذا ما يجعله أحد أعقد الآلات الخبيرة في الخلية، ولعلك تستغرب أنّ في الثانية الواحدة تصل عمليات الدخول والخروج إلى ما يزيد عن 1000 عملية، 1000 عملية في ثانية واحدة! في كل خلية في الـ37 تريليون خلية دون خطأ واحد، أي أننا نتكلم في اليوم عن رقم مهول في أقل الظروف سيكون عدد العمليات اليومي هو 10^27 عملية في اليوم دون أخطاء تذكر، 1 أمامه 27 صفر، ولو كانت نسبة الأخطاء 1 في المليار لما كانت هُنَاك حياة من أصله، ولعلنا نستطرد في شرح هذه الآلية كي لا ننسى كم أنّ الخلية مُعقَّدة!

إنّ هذه القناة مُعقَّدة جداً في آلية عملها، أغلب المواد لا يمكنها أن تدخل عبر النقل المجاني Passive Diffusion أي دون طاقة، فهي بحاجة إلى بذل طاقة لكي تدخل الخلية، وحتى تدخل البروتينات عبر المسامات يجب عليها أن تصطف وفق آلية معينة، إذ يجب على البروتينات التي تدخل المسامات أن تمتلك تسلسل حمض أميني معين يسمىNuclear Localization Signals، ويتم التعرف عليها بواسطة ناقل مُحدد اسمه Importin، إذ يفحص البضاعة المراد نقلها عبر mRNA cargo، ويتأكد من أنّ تسلسلها صحيح، وكأنه يفحص نصاً لغوياً للتأكد من سلامة قواعده النحوية، ثم يلتصق به مثل المفتاح والقفل ويأخذه عبر المسامات التي بها الـ NPCعبر اتصال تسلسلي بالبروتينات الموجودة بالـ NPC إلى أن يدخل إلى الخلية.

أضحى الطرد بداخل الخلية، يجب أن نقوم بفك وإخراج الناقل Importin؛ لكي يبقى في الخارج وينقل بروتيناً جديداً، ولهذا يأتي ناقل آخر اسمه Ran به GTP فيتصل بالناقل Importin ويقوم بالارتباط به ويجعله ينفك من البروتين المنقول، فيصبح الاتصال بين الـImportin والـRan، ويبقى البروتين المنقول وحده في النواة، ثم ينتقل الـ Importin والـRan المتصلين سوياً مرة أخرى من المسام عبر آلة الـ NPC بطريقة تسلسلية تتابعية، إلى أن يخرجا خارج الخلية، فيأتي بروتين آخر موجود في السيتوبلازم اسمه Ran به GAP فيحول الـGTP في الـRan إلى GDP فينفك الـRan عن الـImportin، الآن بقي أن نُعيد إدخال الـRan الذي يضم الـGDP إلى داخل النواة مرة أخرى وتحويله إلى Ran به GTP، ليكون جاهزاً للاتصال والإخراج لاحقاً، وهذه العملية تتم عبر ناقل آخر اسمه NTF2 يتصل بالـRan الذي به GDP ويدخل أيضاً عبر المسامات بآلية معينة تتفهمها [16] البروتينات الموجودة في الـNPC.

في داخل الخلية ثَمّة بروتين يُدعى Ran به GEF يحفز الـRan الذي به GDP لكي يُطلق الـGDP ويربط بدلاً منه GTP فيعود الـRan به GTP جاهز للاتصال من جديد، وهذه العملية المُعقَّدة جداً جداً والمدروسة بتخطيط هندسي عالٍ لا يمكن أن تتم إلا عبر تصميم متكامل عبقري، فلا يمكن أن تتم مثلاً دون أي بند من بُنود هذه السلسلة المتكاملة، ووجود أي عنصر ناقص يجعل العملية تفشل برمتها، إنّ بقاء الـRan المحمل بـ GTP داخل الخلية والـRan المحمل بـ GAP خارج الخلية أمر مهم للعملية، ولو حدث العكس لما تمت العملية من الأساس، هل انتهت العملية هنا؟ لا، لم تنتهِ؛ لأنّ هُنَاك نواقل لم نكمل ماذا حصل بها مثل الـ NTF2 وغيرها، وهذه المركبات هي كيمياء عمياء لا تعي.

ماذا عن عملية إخراج المواد من النواة إلى السيتوبلازم، أي العملية العكسية لما فوق، فلو كان هُنَاك بروتين نريد إخراجه، سنعيد الآلية نفسها، فهُنَاك ناقل mRNA cargo يفحص الأحماض الأمينية ويتأكد من أنّ تسلسلها صحيح تحت مسمى Nuclear Export Signals، وهذا كله عبر ناقل يُدعى Exportin فيتصل الـRan المحمل بـ GTP فيرتبط بالبروتين الخارجي والبروتين الناقل وتتحرك الثلاث عناصر سوياً عبر المسامات إلى الخارج بطريقة تتابعية، ثم يحصل تحلل مائي لـGDP فتنفصل العناصر، ثم يأتي ناقل آخر ليعيد الـ Exportinعبر المسامات إلى داخل النواة.

هذه الآلية المُعقَّدة التي يفحص بها Exportin أو الـImportin تسلسل الأحماض الأمينية بين ملايين الاحتمالات ويسمح فقط لأنواع بروتينات معينة كي تلج إلى داخل النواة أو خارجها وكأنه آلة ذكية مصممة بطريقة تَفُوق قدرتنا على المستوى الجزيئي لفحص هذه الشيفرات، لا يمكن أن نفكر بعدها إلا في تصميم هندسي متكامل، من المُستحيل أن يكون هذا النظام المُعقَّد قد جاء نتاج العشوائية، العقل لا يتقبل هذا الافتراض، هذا النظام وُضِع هكذا مرة واحدة، وضعه المصمم على خريطة ثم نفذه وقال له انطلق، هذا تعقيد غير قابل للاختزال فلا يمكن لأجزاء أن تبدأ ثم نضيف عليها أجزاء أخرى بعد 1000 عام، ثم نقول أننا قد أضفنا جزءاً آخراً بعد 4 آلاف عام إلى أن باتت بهذا الشكل، وإنني على استعداد لأن أدعو أي شخص على فرشوحة شاورما ليخبرني كيف لهذا النظام أن يكون قد أتى عبر مراحل متتابعة منذ آلاف أو ملايين السنين!

طبعاً، لعدد الثقوب وآلية توزيعها وترتيبها وحجمها في الغلاف وتكوينها، وترميزها بل وحتى أنواع النواقل المُختلفة للبروتينات المُختلفة تصاميمها الخاصة عجائب أخرى يمكن أن نستغرق عشرات الصفحات لشرحها، فعلى سبيل المثال يملك الـ NPCدورٌ مُساعدٌ في إصلاح تسلسل الدنا المعطوب عبر آلية كيميائية دقيقة بالاعتماد على بروتينات الميوسين الناقلة، والسؤال هنا، كيف تميز الـNPC الدنا التالف وتميز بينه وبين الرنا وتقرأ تسلسل قواعده بدقة وتحدد بعدها الفرق بين آلاف البروتينات المُعقَّدة في البناء!، والاحتمال هنا احتمال مُستحيل في هذا الجزيء الضئيل، الاحتمال هو 1 من 10^202 أي واحد من 10 أمامها 202 صفر وهو أكبر من كل احتمالات الكون فهو رقم أكبر من كل الجُسيمات في الكون، لأن بروتيناً واحداً فقط غير مناسب قادر على تدمير النواة وتخريبها، فليفسر لي شخص مرة أخرى هذا النظام الفائق بكلمات مفهومة!

هذا يكشف الدور الطبيعي للدنا كونه غير فعال بنفسه، إذ يجب أن يُقرأ ويُفسر أولاً إلى رنا RNA ليصبح ذا فائدة في الخلية، وهذا يجعلنا نتساءل، أين الطفرات في الدنا؟ إنّ الخلية لا تقبل الطفرات، ولا تقبل الدنا التالف لأنه بلا معنى، فيجب أن تقوم بإصلاحه أولاً لتستفيد منه وتقوم بقراءته لاحقاً إلى رنا ذو معنى للخلايا، وهذا ما سنوضحه في دور الدنا وآلية عمله.

هُنَاك آليات عديدة وطويلة للنقل بين الخلية ومحيطها الخارجي، وبين نواة الخلية وأجزاء الخلية، ولكل آلية خطواتٌ طويلة مُدهشة تَسُر الباحثين المتأملين، لا يسعني هنا إلا أن أذكر قفص الكلاثرين Clathrin (شكل 23 قفص الكلاثرين لنقل المواد ) الذي يقوم بحمل الجزيئات ونقلها داخل الخلية كما لو كانت خزنة مصفحة تنقل النقود من الخزينة العامة إلى خزينة البنك.


شكل 23 قفص الكلاثرين لنقل المواد [1]

الدنا

عند ذكر الدنا DNA الخاص بالحياة، فإننا نتطرق إلى شيءٍ كبيرٍ وعظيمٍ جداً، وهذه جملة اعتيادية في مقدمة شيء غير اعتيادي، تحتوي النواة على المادة الوراثية للكائن الحي، مرتبة في مجموعة من اللوحات تسمى الصبغيات (الكروموسومات)، يمكن تبسيط الفكرة بالقول أنه -نظرياً- لو تمكنا من زراعة أي نواة خلية فيمكننا أن نحصل منها على الإنسان الكامل نفسه، لأن الدنا عبارة عن مركز تخزين المعلومات وهو مثل القرص الصلب الذي يحتوي كل بيانات الكائن الحي، وبالمناسبة هو بمساحة 455 مليار جيجا بايت، كل خلية فيها دنا في النواة بهذه المساحة التخزينية! وهذا ما يجعل الباحثين يعملون دائماً على محاولة صناعة أقراص تخزين حيوية من هذه الشرائط الكيميائية.

إنّ الهدف الأساسي لنواة الخلية الحية هو إنتاج وبناء وإصلاح هذه الأشرطة التي تحتوي على المورثات (الجينات أو الشيفرات) التي تحتوي على بُنود وتفاصيل وعمليات حياتنا بالكامل، فضلاً عن قيام النواة بتخزين هذه الشرائط، إلا أنها مسؤولة عن نسخها بالكامل حينما تنقسم، وهي مسؤولة عن تسيير كل عمليات الخلية بناءً على التعليمات المخزنة فيها.

يُطلق على مجموع المُورثات في الكروموسومات بالجينوم أو المجموع الوراثي، ومن المفترض أنه يشكل خريطة مفصلة لبناء الإنسان وسير حياته من المهد إلى اللحد، كيف تتكون الخلية الأولى، كيف تنقسم، كيف تتكاثر، كيف يصبح طفلاً، كيف ينمو ليصبح إنساناً بالغاً، ما لون عينيه، ونوع بشرته، كيف ترسل كل خلية إشارات إلى غيرها، وكيف كيف كيف كل شيء، بل وتحتوي الخلية على لحظة فناء الإنسان البيولوجية سواء من أمراض أو من نهاية طاقة انقسام الخلايا النهائي (نظرياً).

تحتوي الكروموسومات على الصفات والعمليات في أشرطة من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA هذه الشرائط تحتوي على كل ما يلزم لكي يعمل جسمنا بالكامل [17]، وتحتوي كل خلية حية على ما يزيد عن متر ونصف من هذه الشرائط متصلة، مهمة هذه الشرائط هو حفظ كل المعلومات الخاصة بالكائن الحي ونقلها ونسخها وقراءة تسلسلها لاستمرار الحياة، أتَفهّم أنّ هذه الأسطر بسيطة، لكن ما تقوم به شرائط الدنا هو الحياة بأكملها، هيّا نحاول الغوص في الأعماق أكثر الآن، أرجو إضافة المزيد من الرصاص.

تحتوي نواة الخلية البشرية على 46 كروموسوماً مصطفة في 23 زوج من الكروموسومات تحتوي على المادة الوراثية، والكروموسوم موجود في الخلية على شكل الحرف X، وكل كروموسوم تقريباً لديه طول وانحناء مُختلف عن الآخر، في داخل هذه الكروموسومات خيوط ملتوية من الدنا، هذه الخيوط مرتبة ومكونة من فقرات معينة أشبه بالتعليمات تُدعى المورثات (الجينات)، وإنه من المفترض أنّ لكل جين بداية ونهاية وهدف معين، مثل طريقة صناعة بروتين معين، هذا الجين مكتوب بأحرف كيميائية هي الأحماض النووية، (شكل 24 الدنا في نواة الخلية)


شكل 24 الدنا في نواة الخلية

يحتوي كل كروموسوم على جينات مُختلفة لبناء أجزاء مُختلفة وتفسير عمليات مُختلفة، وهُنَاك من 20 ألف إلى 25 ألف جين مسؤولين عن بناء البروتينات (الرقم ٢٣٦٠٠)، وهُنَاك تقريباً العدد نفسه من الجينات غير مرتبطة ببناء البروتينات، وهي جينات لها علاقة بتفسير بناء البروتين عبر الرنا RNA، أي أنّ خلاصة عدد الجينات تقريباً في جسم الإنسان قد يصل إلى 50 ألف جين مرتبة في سلاسل الحمض النووي الدنا مكتوبة بأحرف الأحماض الأمينية، وملفوفة في شرائط تسمى بشرائط الكروموسومات، مرة أخرى نصف الجينات توضح كيف نبني البروتين، ونصفها الآن يوضح كيف نقوم بتفسير بناء البروتين.

تحتوي كل خلية في نواتها على الجينوم البشري كاملاً والجينوم هو كتاب تعليمات الإنسان، وتم تنفيذ مشروع ضخم لدراسة وتفكيك الجينوم البشري تحت مسمى Human Genome Project، وقد أدى هذا إلى الحصول على كتاب مكون 3.3 مليار حرف هو محتوى كل الدنا البشري، والجدير بالذكر أنّ ترتيب المُورثات في الكروموسومات هو ترتيب مُحدد وواضح وله هدف، وكل كروموسوم يحتوي على مورثات تقوم بوظائف معروفة، ومرة أخرى نظرياً لو أخذنا نواة خلية وزرعناها في بويضة، يفترض أن نحصل على إنسان كامل.


تحتوي كل خلية في أجسادنا على مركبين من المواد الوراثية وهما الدنا DNA والرنا RNA وهذين المركبين هما المسئولان عن قراءة وتخزين المعلومات الوراثية الخاصة بكل إنسان، وهما مسئولان عن إنتاج خلايا الجسم الجديدة وإنتاج البروتين اللازم للحياة، وكل كائن حي لديه جيناته (مورثاته) الخاصة التي يعتمد وجوده عليها، فمثلاً ميكوبلازما جينتاليوم Mycoplasma genitalium أحد أبسط أنواع البكتيريا الموجودة لديها ٥٠٠ جين تقريباً، وبكتيريا الإيشريشيا كولاي Escherichia coli أشهر أنواع البكتيريا التي تعيش في الأمعاء لديها ٤٣٠٠ جين، في حين أنّ فيروس الإنفلونزا (أصغر الفيروسات) الذي يسيطر على الخلايا التي يصيبها حتى يتكاثر لديه ١١ جين فقط.

عندما ننظر إلى هذين الحمضين نجد أنّ لهما وظيفتين، فعلى المدى القصير يقومان بتشفير جميع معلوماتنا الوراثية ويقومان بنسخ الجينات اللازمة للبناء، أما على المدى الطويل فيقوم الدنا بتخزين المعلومات الوراثية لنقلها عند انقسام الخلية إلى خلية أخرى، أما الرنا فوظيفته قراءة وفك تشفير المعلومات الموجودة في الدنا.

رسم توضيحي 14 تركيب شريط الدنا

الأحماض النووية

يتكون الدنا من شريطين ملتفين حول بعضهما البعض بشكل حلزوني، يحتوي هذين الشريطين على تعليمات مكتوبة وواضحة يمكن قراءتها في أي وقت، أما الرنا فيتكون من شريط واحد، والمكون الأساسي لهذه الأشرطة شيء يُدعى النيوكليوتيدة، هذه النيوكليوتيدة عبارة عن مركبات كيميائية تتكون من ثلاث وحدات بنائية هي:

  1. سكر خماسي.
  2. مجموعة فوسفات ³(PO4) مرتبطة بجزيء السكر عبر ذرة الكربون الخامسة.
  3. قاعدة نيتروجينية ويمكن اعتبارها الحرف الذي يكتب فيه التمايز بين المركبات، وتحتوي الحياة على 4 أحرف (مركبات كيميائية)، وهما في الدنا: أدينين ويرمز له [A]، ثايمين [T]، غوانين [G]، سايتوسين [C] [18]، وعلى سبيل المثال فإن TTA هي شفرة الحمض الأميني الليوسين، و TTT هي شفرة الفينيلالانين.

ترتبط النيوكليوتيدات مع بعضها في سلسلة عبر روابط تساهمية (مثل بناء البروتينات من الأحماض الأمينية) بين سكر أحد النيوكليوتيدات وفوسفات النيوكليوتيدة التالية لتكون العمود الفقري للدنا، ترتبط قواعد سلسلتي عديد النيوكليوتيد النيتروجينية مع بعضها وفق قواعد مُعينة مُسبقاً تُدعى قواعد الترابط الزوجي (A مع T وG مع C) وذلك عبر روابط هيدروجينية بسلسلتين ضد متوازيتين (الاتجاهات المتعاكسة) [19]، ولتحزيم هذا التشكيل الكيميائي آلية طويلة وروابط وهيكليات مُعقَّدة مثل هيكليات وروابط البروتين كما تم ذكرها.

والحقيقة أنّ محاولة تفسير أو فهم لماذا يظهر الدنا بهذا الشكل الكيميائي الخاص وليس بشكل آخر يقودنا لذهول يُؤَدِي إلى خروج العقل عن طوره، ولو أننا وقفنا عند كل مركب كيميائي ودرسناه من ملايين المركبات الكيميائية في الخلية لعرفنا عظمة الحياة، فمثلاً الهيكل الأساسي المكون من مجموعة الفوسفات الذي يربط النيكليوتيدات قادر على ربط النيوكليوتيدتين مع بقائه مؤيناً، والشحنة السالبة الناتجة من هذا التأيين تسمح بتثبيت المفاصل الفوسفاتية وحمايتها من التحلل المائي، مع الإبقاء على الجزيئات داخل الأغشية، ولا يوجد مركب آخر يُلبي الأدوار المُختلفة للفوسفات في الكيمياء الحيوية، وفي هذا الصدد نشر العالم فرانك ويسثايمر بحثاً بعنوان لماذا اختارت الطبيعة الفوسفات Why nature chose phosphates [20] لتوضيح هذه العظمة في هذه الجزئية غير المذكورة من جزيئيات الحياة الأخرى، ويوحي العنوان كما هو ظاهر أن الطبيعة المكونة من رمال وأنهار لديها الوعي لخلق الكائنات بما يناسبها بعد أن درست العناصر الكيميائية واختارت الفوسفات بعد التأكد من فعاليته.

أما الرنا فيختلف في دوره قليلاً عن الدنا ولتوضيح ذلك لننظر إلى أنواع الرنا:

  1. الرنا الرسول Messenger RNA (mRNA): أو اختصاراً المرنا، يقوم بنسخ أجزاء الشفرة الوراثية، إذ ينقل تلك الأجزاء إلى الريبوسومات والتي هي مصانع البروتين، ولكي يُصنع البروتين في الريبوسومات هو بحاجة إلى دليل إجرائي، وهذا دور الرنا، نسخ التعليمات من الدنا ونقلها إلى الريبوسومات.
  2. الرنا الناقل Transfer RNA (tRNA): بعد أن جلبنا الدليل الإجرائي نحن بحاجة إلى عامل يجلب لنا الأحماض الأمينية من السيتوبلازم لبناء البروتين، لعلك تذكر أنّ البروتينات مصنوعة من طوب اسمه الأحماض الأمينية، ولعلنا نذكر أنّ لكل حمض أميني ناقل خاص، وهذه العملية تسمى الترجمة Transcript.
  3. الرنا الريبوسومي Ribosomal RNA (rRNA): وهو المُكون الرئيسي للرنا الكلي في الخلية ويمثل نسبة 80-85% [18]، والذي أيضاً يمر على عُضيّات خاصة في الخلية مثل السبليسوسومات والسنيربوسومات.

حينما تنقسم الخلية فإنّه يجب عليها مضاعفة الدنا في نواتها لكي تنال الخليتان الناتجتان على المعلومات نفسها الموجودة في الخلية الأصلية، وللقيام بهذه العملية الطويلة السريعة تقوم إنزيمات التوبوإيزوميراز topoisomerase بفك تحزيم سلسلة الدنا أولاً ثم تقوم بفك السلسلة المضاعفة، ثم تقوم إنزيمات أخرى كعامل مساعد مثل إنزيم الهيليكاز helicase الذي يحل الروابط الهيدروجينية بين النيوكليوتيدات ويفصل السلسلتين عن بعضهما، ثم يُنتج سلسلتين متكاملتين عبر إنزيم بوليميراز الدنا DNA polymerase، ثم تبدأ عملية النسخ، حرف بحرف إلى أن ننسخ الـ3.3 مليار حرف في كل الكروموسومات وترتيبها بنفس الشكل وبنفس محتويات الخلية الأخرى مثل جهاز جولجي والميتوكوندريا التي يجب أن تكون متساوية تقريباً في الخليتين، الأمر أشبه بنسخ مكتبة وذلك عبر قسمها لقسمين، إذ نقوم بتصغير المبنى واستخدام مواده الخاصة لبناء آخر ولكن بصورة مصغرة، وكذلك نقوم بنسخ كل الكتب حرفاً حرفاً، ولعلي أذكر أن لكل نوع من أنواع الرنا آلية نسخ خاصة ومواضع خاصة لنسخه ولك أن تتخيل تعقيد العملية هذه بالمجمل والتي لا أنوي ذكر شيء آخر غير نسخ 3.3 مليار حرف بطريقة مرتبة، وهي أكثر تعقيداً من نسخ الكتب في المكتبات وترتيبها في موضع جديد دون أي خطأ، إذا لم يدهشك هذا، فلا داعي لإدهاشك بالشرح.

رسم توضيحي 15 شرح لعملية الانقسام، نجد في كل خطوة من الخطوات التخطيط العجيب والدور الوظيفي لأجزاء الخلايا المُختلفة في عملية الانقسام.

النسخ والمضاعفة

تهدف عمليتا النسخ Transcription والمضاعفة Replication إلى إنشاء نسخة من الدنا وإنتاج أجزاء جديدة بالاعتماد على الأحماض الأمينية، لكن عملية النسخ تهدف لإنشاء نسخة من الدنا إلى الرنا، أما عملية المضاعفة فهي إنشاء نسخة من الدنا إلى الدنا، عملية النسخ هدفها بناء البروتينات، وعملية المضاعفة هدفها انقسام الخلية.

في عملية النسخ (شكل 25 عملية النسخ) والتي تبدأ من داخل النواة، يجري أولاً نسخ تسلسل قواعد النيوكليوتيدات المكونة لشفرة بروتين معين من قالب الدنا مما يُؤَدِي إلى إنتاج جزيء جديد من الرنا الرسول والذي ينتقل خارج النواة، وأثناء ذلك يخضع لعملية تعديل تُسمى التضفير، وما أن يصل هذا الرنا الرسول إلى السيتوبلازم حتى تتحد معه الريبوسومات، إذ يعمل بعدها كقالب للربط بين الأحماض الأمينية في البروتينات، في عملية تُسمى الترجمة.

يقوم الرنا الناقل بنقل الأحماض الأمينية إلى الريبوسوم وبعد انتهاء هذه العملية تدخل البروتينات المُتكونة على الشبكة الإندوبلازمية الحيّز الموجود بين أغشية الشبكة الإندوبلازمية في عملية طي أخيرة قبل تمريرها لمواقع أخرى مثل أجهزة جولجي، وقد تدخل السكريات أيضاً في هذه العملية المعروفة باسم الارتباط بالجليكوزيل، وتخضع البروتينات المخلقة حديثاً لمراقبة جودة صارمة، وإن حدث أن وُجد بها عيب من أي نوع، فإنها توسم بواسطة جزيئات اليوبيكيتين كي تتعرض للانحلال السريع، وما أن يتم بناء البروتينات الجديدة وتُطوى حتى تصبح بحاجة إلى الوصول إلى وجهتها الأخيرة داخل الخلية بين مليارات جزيئات البروتينات الأخرى التي تُخلّق وتتحلل على نحو دائم، وقد تحتاج بعض البروتينات أن تمر عبر حاجز غشائي أو حاجزين قبل الوصول إلى المكان الذي ستؤدي فيه وظيفتَها [10].

والجدير بالذكر أنّ الخلية تنسخ 100 قاعدة نيوكليتيدية في الثانية الواحدة ويمكن أن يصل هذا العدد إلى 1000 قاعدة في الثانية، وهذا كله دون خطأٍ واحد وذلك بوجود إنزيمات لمراجعة وتصحيح أي نيوكليوتيد غير مطابق، مع احتمال حدوث خطأ واحد فقط في الغالب في كل مليار نيوكليوتيد [10]، ويقوم بعملية توزيع الحصص بين الخليتين عُضية مُختصة ودقيقة تُدعى المريكز Centriole، سأترك لك المجال لتحسب كم عملية نسخ تحدث يومياً في جسم الإنسان، لأنّ الرقم لن يكون لطيفاً.


شكل 25 عملية النسخ

إذ يتم فك الشريط المزدوج وقراءته قراءة حرفية في الرايبوسوم

وحتى نقوم ببناء نسخة من الدنا الجديد، يقوم إنزيم يُدعى الرنا بوليميريز RNA polymerase بنسخ محتويات الدنا قطعة بقطعة ولتسهيل العملية يجب فصلها في خطوات مُبَسطة:

  1. تنفصل شرائط الدنا المزدوجة، إذ يعمل أحد الشرائط كقالب للنسخ، وتقترن نيوكليوتيدات الرنا مع نيوكليوتيدات الدنا للقالب ويبدأ هنا دور الرنا الرسول الذي يقرأ ويفسر.
  2. تقترن النيوكليوتيدات مع بعضها البعض وفقاً لقواعد مُحددة وهذه القواعد منها: أزواج الأدينين (A) مع الثيمين (T) أو اليوراسيل(U)، وأزواج السيتوسين (C) مع الجوانين(G).
  3. يحتوي الرنا الرسول على المعلومات اللازمة لتحديد تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين لتبدأ عملية نقل الأكواد الجينية وفق آلية مُحددة وكأن الرنا الرسول إنسانٌ واعٍ.
  4. يتصل الرنا الرسول بمنطقة على الشريط تُدعى المُحفز وهي نظرياً بداية الجين المراد نسخه وهي عملية طويلة بحاجة إلى أدوات خاصة تدعى عوامل النسخ، فأنت لكي تنسخ مجلدات يجب أن تحدد بداية المجلدات والصفحات، وإلى أين تتوقف وهذه العملية بحاجة إلى أدوات.
  5. تبدأ عملية طويلة من النسخ والفحص والتأكيد، ويتم صنع نسخة لكل شريط من الدنا ويصبح جاهزاً، ويتحكم في هذه العملية ما يقارب 3000 بروتين مُختلف.

شرح مرئي أكثر عبر هذين المقطعين:

رابط 6 استعراض لعمليات الدنا

https://bit.ly/3hW8uEd

رابط 7 شرح ثلاثي الأبعاد لعملية مضاعفة الدنا

https://bit.ly/331eY0g

ولك أن تتخيل أنّ الفايروس الذي يُعد أبسط الكائنات غير الحية يفهم هذا الأمر المُعقَّد بدقة شديدة! إي ومونيكا، يا من تشكو من صعوبة مادة علم الخلية عدة مرات، عليك أن تخجل من نفسك، فالفايروس يفهمها بدقة عالية تَفُوق فهمك، فهو يدخل الخلية ويحقن الدنا الخاص به بدقة عالية في عملية النسخ، ويخدع الخلية ويجعلها تنسخ الدنا الخاص به لتصنع فايروسات كاملة وبذلك يقتلها ويسيطر عليها، وليس نوع واحد من الفايروسات، بل كل الفيروسات على هذا المنوال العبقري، كل الفايروسات هي كائنات لا تعيش إلا بداخل الخلايا Obligate intracellular parasites، ولعلي أدهشك بأن هُنَاك بعض أنواع البكتيريا كذلك، لا تعيش إلا داخل الخلايا مثل الكلاميديا والريكيتسيا، بالإضافة إلى بعض الحيوانات الأولية protozoa والفطريات، جميعها يفهم الخطوات بدقة عالية، أيّ تخطيط هندسي متكامل هذا!


رابط 8 عملية حقن فايروس سارس لأشواكه

https://bit.ly/2M8rqpf

وقد ذكرنا أنّ العُلماء لا يرون الفايروسات أحياناً ككائنات حية، لكن دعونا ننظر فقط إلى آلية ارتباط الفايروس بالخلية ولنحكم بأنفسنا، ليتسنى للفايروس إطلاق شيفرته الوراثية، تقوم الخلايا بنسخ الجينوم الخاص به، كما في (رابط 8 عملية حقن فايروس سارس لأشواكه)، إذ ترى أنّ الفايروس كائن لديه غاية، يعرف جيداً تصميم الخلية، ويعرف كيف يتصل بها، ويعرف كيف يخدعها ويُدخل فيها أشرطته الجينية لتقوم الخلية بصناعة ملايين النسخ منه، بجينوم كامل وغشاء خلوي وبروتينات مُختلفة، إذ يمتلك إنزيمات مخصصة لنقل جينومه، كذلك تقوم هذه الإنزيمات في بعض الأحيان بتعديل شكل الجينوم لكي يتقبله الكائن الضحية، فقد تقوم بلف شريط الرنا المستقيم إلى دائرة حتى تستطيع إدخاله في النواة! وبروتين S الموجود على سطح الخلية في آلاف المواضع، يتكون العنصر الواحد منه من 1160–1400 حمض أميني على حسب نوع الفايروس! إنه أعزائي العُلماء كائنٌ واعٍ لما يفعل، وليس كائناً غير حي!

إصلاح الدنا

إنّ عملية إصلاح الدنا التالف من العمليات المهمة التي تمارسها الخلية في كل لحظة، فلا يمكن النسخ من شريط تالف، ويتطلب الأمر إصلاح ذات الشريط قبل بدء النسخ، فلكل جزء في الدنا دور وظيفي مهم، والمهام الوظيفية هذه لم تكن مفهومة سابقاً وليست مكتملة حالياً، لكن لا يوجد هُنَاك دنا دون وظيفة حسب مشروع إنكود كما سنتطرق له، كله موجود لدور مهم ومحفوظ، ولكي تبدأ العملية تعثر الخلية على شريط دنا تالف فتبدأ سلسلة من العمليات على رأسها بناء خيط Filament من النواة للشريط وفي عملية أيضاً طويلة يتصل بروتين الحركة ميوسين Myosin بهذا الخيط ويتصل بالشريط التالف، ويبدأ بعملية السحب )شكل 26 آلية سير الميوسين على قدمين(.

ولبروتين الميوسين قدمان ينقلان الشريط إلى الكروموسومات، وتبلغ كل خطوة ١٦ نانومتراً؛ مما يتطلب ٦٢ خطوة لكي يتحرك مسافة ميكرومتر واحد، ويمكن لهذا البروتين قطع عدة ميكرومترات في بضع دقائق وهي مسافة منتصف الخلية، يحاط كل جزيء ميوسين بأسطوانة من ٦ جزيئات أكتين (البروتين المكون للخيوط الدقيقة)، فقد يسمح للجزيئات بأن تنزلق بعضها فوق بعض. وهُنَاك أكثر من ٤٠ نوعاً مُختلفاً من الميوسين في الثدييات وهي مع بروتين الأكتين الخيطي توفر القوة الحركية الخاصة بانقسام الخلية وحركتها وحصولها على مواد خارجية، هذه العملية البسيطة هذه في الشرح، مكونة –بدورها- من عشرات البروتينات والنواقل والتفاعلات الكيميائية لكي تتم.


شكل 26 آلية سير الميوسين على قدمين

وكل جزيء طاقة ATP يحرك الميوسين بمقدار 37 نانومتر

نلاحظ أنّ للميوسين قدمين يرتبط بهما عبر الخيوط، فيمسك الحمولة ويسير بها إلى أن يوصلها إلى بر الأمان، إذ يحمل الدنا الجريح على ظهره كإنسان عاقل ويسير به عبر المسام نحو غرفة الصيانة في النواة.

صورة 4 سيارة النانو

لقد تطلب من مجموعة علماء أنتجوا مركباً بسيطاً على المستوى النانوي يتحرك بطريقة بدائية أن يقدموا ما يزيد عن 280 صفحة من البيانات والرسومات دليلاً على صحة تجربتهم وكيفية عمل مركبهم البسيط [21]، فقد احتوت على عشرات التفاعلات الكيميائية الدقيقة في درجات حرارة مُختلفة وتحت تأثير مؤثرات فيزيائية متنوعة، لكننا سنرى أنّ العُلماء في التفاعلات على المستوى الحيوي يقولون، لقد تطورت اليد إلى جناح، بكل بساطة! هذا الاستشهاد لتوضيح أنّ جزئية الحركة في الميوسين هي أمر على المستوى الكيميائي مُعقَّد ومُعقَّد جداً، لكننا في شرح الأحياء نستخدم كلمات بسيطة مثل: تحرك الميوسين!

الجينات

الجين هو تسلسل مُعيّن في شريط الدنا له بداية مُحددة ونهاية مُحددة، ومن المفترض أن يحدد عملية ما (افتراضياً)، سبق وأن ذكرنا أن هُنَاك تقريباً 23600 جين في شريط الدنا الكامل في كل خلية، وللتأكيد فإن الجين ليس بروتيناً، إنه مُجرَّد وصف تسلسل للأحماض الأمينية لكي يقرؤه الرنا في عملية النسخ أو المضاعفة.

 وهُنَاك نوعان واضحان من الجينات –كما سبق الذكر– الجينات المسؤولة عن تعليمات بناء البروتين protein-coding genes، والجينات المسؤولة عن باقي العمليات الأخرى اسمها noncoding genes، وفي شيفرة الجينات نجد أنّ هُنَاك نقاط مُحددة تبدأ فيها تعليمات تنفيذ الأوامر ونهاية التنفيذ وتوضيح عملية النسخ في الانقسام الثنائي للخلية، وهذا ما سيتم توضيحه، ومع تطور العلم وتقدمه لم تعد فرضية ]جين واحد-إنزيم واحد[ صحيحة في هذا العصر one gene—one mRNA—one polypeptide، فحين تمت تجارب هذه الفرضية على عين ذبابة الفاكهة كانت مناسبة في ذاك الوقت، أما الآن فالموضوع مُعقَّد، الجينات تتداخل بالإنزيمات وبالمرنا، جين واحد، بولي بيبتايد واحد، إنزيم واحد، مرسال واحد، كلها تغيرت [22]، وقادنا هذا إلى علم جديد يُدعى علم فوق الجينات Epigenetics.

إنّنا بالبحث بشكل أكثر عمقاً وجدنا أنّ جيناً واحداً قد ينتج عدة مرنا، كما يمكن أن يكون الجين الواحد جزءاً من عدة عمليات نسخ إنزيمية تحت مسمى Alternative Splicing، كذلك هُنَاك مفهوم بدأ يطفو بعنوان Protein Moonlighting، إذ تؤدي سلسلة ببتيد واحدة عدة سياقات بيولوجية في سياقات مُختلفة، وبذلك يتضح أنّ مفهوم الجين هو وحدة التوريث unit of heredity قد تغيّر بالكامل، لأنّ الأمر مُعقَّد أكثر بكثير من الحالة العلمية السابقة، والأمر مرتبط بعملية تصميم هندسية وليس تجميعاً بسيطاً، فمثلاً في حقيقيات النواة لا توجد حدود واضحة بين الجينات في عملية النسخ الإنزيمي، ما يجعل من المُستحيل تحديد عملية ربط بسيطة بين عمليات النسخ الإنزيمي الأساسية وبين ما ينتج من هذه العمليات.

حتى في محاولة رسم الجينوم، كانت النسخ الإنزيمية متداخلة بشكل كبير، إذ يستحيل ربط علاقة واحد إلى واحد بين تسلسل دنا عادي وبين نسخ إنزيمي له أو وظيفة مُحددة [22]، وتوجد أمثلة عديدة على عمليات نسخ إنزيمية تتم عبر أكسونات من مواضيع جينية مُختلفة بعيدة عن بعض مئات آلاف النيوكليتيدات، الخلاصة أنّ الجينات مرة أخرى أمراً مُعقَّداً جداً يرجع إلى التصميم الذكي والمُعقَّد.

بالعودة مرة أخرى إلى Alternative Splicing وهي عملية يُمكن فيها بناء أكثر من بروتين من جين واحد، لا شك أنّ الثدييات وخصوصاً البشر أكثر تعقيداً من الديدان الأسطوانية، لذلك كان الأمر بحاجة إلى دراسات أكثر في البشر، على الرغم من أنّ حقيقة علم فوق الجينات والـ Alternative Splicing لا تزال أدوارهم غير مكتشفة بالكامل في حقيقيات النواة، لكن هُنَاك حقيقة واضحة هي أنّ الـAlternative Splicing مهم جداً للتنوع الجيني وتوليد التنوع البروتيني.

وللتوضيح نسأل: كم عدد البروتينات المُختلفة التي يمكن تكوينها من سلسلة دنا واحدة؟

الجواب باختصار: كثير.

للعلم، يمكن للخلية الواحدة إنتاج 38,016 بروتين عبر إعادة تعديل واستخدام pre-mRNAs، والرقم الأقرب حالياً للجينات المرمزة للبروتين هو 19600 جين موثقة في الإنسان، في حين أنّ دودة الأرض لديها 20470 جين موثقة لترميز البروتين! وهذا يعني الأمور التالية:

  1. ليست الجينات من تصنعنا.
  2. لو أنّ التطور دقيق، فالدودة التي في بداية سلم التطور يجب أن يكون لديها جينات أقل لحدوث طفرات جينية أو جينات خردة.
  3. ينتج الجسم ملايين البروتينات المُختلفة، وعلى هذا فالـ19600 جين لترميز الملايين هذه لا تكفي للتفسير، ونحن في حالة أعمق مما يبدو عليه الحال.

ثَمّة ظواهر أخرى غريبة في عالم الجينات، نذكر واحدة منها فقط، فلو تم إتلاف أو إزالة جين لأي سبب من الأسباب (طفرة مثلاً) وحذفه من كل السجل الجيني، فيمكن لعدة عمليات معينة في الخلية أن تقوم بإعادة استحداث هذا الجين في عملية تُسمى Genetic compensation أو Genetic robustness [23] وقد تم رصد هذه الظاهرة في كائنات مُختلفة مثل الفئران والأسماك والنباتات.

فوق الجيناتEpigenetics

حسناً، الأمر مُحير قليلاً، فنحن بتنا نعتقد أنّ خصائصنا الكاملة من مظهر وسُلُوك ومعتقد مكتوبة حرفاً حرفاً في الجينات، وأنّها المسؤولة عن سير حياتنا وتصرفاتنا، فنحن نرِثها من آبائنا، وعلى هذا فستنتقل إلينا صفاتهم في حياتنا، لكن للأسف هذا غير صحيح، هذا ما يقوله علم فوق الجينات Epigenetics، وهو علم حديث موثق ويميل إليه العُلماء في الفترة الحالية لما له من أدلة واضحة في مواضيع الصحة مثل السرطان واختراع أنموذج دواء Temozolomide وتطبيقات أخرى في مجال الخصوبة ووراثة الأبناء، بل حتى تطور الدماغ وتطور أمراض مثل الانفصام ثنائي القطبية [24]، وبعد فهم كثير من المواضيع الأخرى التي كانت عالقة، مثل فهم تكيّف سكان التبت في ظروف حياتهم [25]، أو استيعاب أجساد سكان شعب الباجاو في قدرتهم على الغوص، ويمكن ببساطة أن نقرب الفكرة بأنّ الجينات هي مكونات الطبخة نجدها موضوعة على الطاولة، ولكن الـ Epigenetics هي الطاهي، وهي من تختار ما يجب أن يكون داخل الطبخة، حسب الظروف المحيطة.

وما يقوله العلم هو أنّ العوامل الخارجية المحيطة بنا هي التي تؤثر على آلية عمل الجينات وطريقة تفعيلها أو تعطيلها، هذه العوامل لا تؤثر على تسلسل النيوكليتيدات، ولكنها تؤثر على تمثيل الجينات Gene Expression دون التعديل في الدنا نفسه، أمثلة العلم هذا وحقيقته في كل مكان، مثلاً في نمو الكائن الحي وانقسام الخلايا الجذعية، الأمراض النادرة، تغيير لون الفئران بناء على طعامهم، بل في التوائم البشرية هذا الأمر واضح، فالسكن والمأكل المُختلف يغير كل شيء فيهم بالكامل، فلا يمسون توائماً، بل وطوال الفترة الماضية فشل العُلماء في ربط الصفات الإنسانية بالجينات.

نحن نعلم أنّ الجسم مُكون من بروتينات، والبروتينات هي المسؤولة عن عمل الجسم وأنها من تقوم بنسخ الدنا وشيفرتها مكتوبة في الدنا الذي نحصل عليها من آبائنا [24]، تملك الخلايا في الكائن الحي الدنا نفسه، ولكنها تنقسم عبر العوامل فوق الجينية Epigenetics إلى خلايا عصبية وخلايا دم وخلايا عضلية وغيرها، وذلك عبر تقنيتين معروفتين في هذا العلم وهما إضافة مجموعات ميثايل methyl أو تعديل في بروتينات الهيستون كما في (شكل 27 عملية مثيلة جينات الأغوطي)، ولهاتين التقنيتين دوراً في تمثيل الجينات، وتشكيل الخلايا، فعلى سبيل المثال، الفئران التي حصل لها مثيلة methylation في جينات الأغوطي (نوع من القوارض) كانت سمينة وذات لون أصفر، وعلى الوجه الآخر النوع الذي لم يحدث له مثيلة كان لونه بني وغير سمين مع العلم أنها تملك الدنا نفسه عند الفحص.


شكل 27 عملية مثيلة جينات الأغوطي

الأمر نفسه تم على ذبابة الفاكهة (الدروسوفيلا) إذ تم إجراء التجارب على الدنا لهذه الحشرة، فقد كان لدى الحشرات الدنا نفسه ولكن بلون عيون مُختلف [26].

تعد بكتيريا Helicobacter pylori من النماذج العالمية التي تتكيف بناء على الظروف المحيطة، ولديها تنوع جيني كبير، وهي البكتيريا المشهورة المسببة لمشاكل المعدة، وتُعالج الآن بالعلاج الثلاثي والعلاج الرباعي لأنها تتغير باستمرار، وفي دراسة بينت أنّ ما يزيد عن سلالة من هذه البكتيريا تتغير لمواءمة البيئة ويتم التغيير عبر عوامل فوق جينية [27] وليس عبر تغيير الدنا.

العديد من العوامل قد تؤثر في آلية عمل الجينات وخلال فترات مُختلفة من حياة الكائن، وعلى الرغم من وجود عوامل كثيرة ما زالت مجهولة إلا أنّ هُنَاك شواهد واضحة على دور عوامل البيئة، والضغط النفسي، والشيخوخة كعوامل سلبية على تأثير فوق الجينات، ودور واضح لعوامل أخرى ذات طابع إيجابي مثل الرياضة والأكل الصحي.

بل وتُشير دراسات حديثة إلى أنّه قد يكون عدد أنواع الكائنات الحية أقل مما هو موجود، ففي دراسة حديثة على كائنين من المفترض أنهما أحافير حية من جنس النوتيلوس Nautilus هما Nautilus stenomphalus و Nautilus pompilius(شكل 28)، اتضح أنّ الدنا لكلا الكائنين المصنفين مُختلفين هو دنا واحد متطابق! وتعود كل هذه الاختلافات الظاهرة إلى عوامل فوق جينية! بل وتشير دراسات أخرى حديثة إلى أنّ كلاً من الماموث الصوفي Columbian mammoth والماموث الكولومبي Woolly mammoth هما نوع واحد وليسا نوعين، فقط الاختلاف بينهما في العوامل فوق الجينية [28]، وهذا يعني أنّ النبي نوح حينما أخذ في سفينته كل الأنواع، كان عليه أن يأخذ سلفاً واحداً ويترك الباقي للعوامل فوق الجينية، اللعنة، كم أحب العلم!


شكل 28

Nautilus Stenomphalus Nautilus Pompilius

ونجد تطبيقات عديدة في الحيوانات والكائنات الحية لتأثيرات العوامل فوق الجينية، فالتحول في الكائنات هو مثال مباشر على تأثير فوق الجينات، لأنّ الدنا نفسه يتحول إلى يرقة ويتحول نفسه إلى شرنقة، ويتحول نفسه إلى فراشة، كذلك اختلاف النملة العاملة عن النملة الجندي هو فقط لعوامل فوق جينية سببها الغذاء فقط، وكلا الدنا واحد رغم الاختلاف الهائل في الشكل والوظائف بين أنواع النمل، والأمر نفسه في دنا النحل، وكذلك دراسات حديثة تشير إلى أنّ اختلاف مناقير عصافير داروين هو ناتج فقط لعوامل فوق جينية، لأنّ الدنا واحد بينهما.

تفعيل الجينات

دعونا نعود إلى عام 1944م، تحديداً إلى الشتاء القارس في أوروبا، حينما كانت ألمانيا تحتل هولندا وتفرض عليها حصاراً شديداً في تلك الأيام، مما اضطر الناس إلى تقليل الطعام والاقتصاد فيه لأعلى المستويات وصولاً إلى مرحلة المجاعة في مناطق كثيرة، وقد اضطر الناس إلى أكل العشب ونباتات التوليب، بالإضافة إلى قيامهم بحرق الأثاث للحصول على بعض التدفئة، وعرفت هذه الفترة باسم شتاء الجوع الهولندي أو شتاء الجوع أو المجاعة الهولندية Dutch famine، جميعنا نعلم أنّ الجوع ونقص التغذية يؤثران سلباً على صحة الإنسان، ولكن ما تأثير ذلك على صحة أبناء هؤلاء الجوعى؟ وأبناء أبنائهم؟ أي كل سلالتهم من بعدهم؟

نتيجةً لدراسة السجلات الصحية الجيدة في هولندا، تمكن العُلماء من ملاحظة هذه السلسلة من التجارب الحية للمواليد وأوزانهم وصحتهم بعد عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتهاءً بنتائج مذهلة وغريبة، ما وجده العُلماء هو أنّ الأطفال الذين كانوا في أشهرهم الأولى في الحمل من هذه الفترة المليئة بالجوع كانت ولادتهم بأوزان طبيعية، لكنهم عانوا من سمنة في سنوات حياتهم اللاحقة، أما الذين عانوا من المجاعة في أشهر الحمل الأخيرة، كانت ولادتهم بوزن أقل من المتوسط، واستمروا كذلك لبقية حياتهم، وبمستوى أقل من متوسط الوزن للناس من حولهم.

العجيب أيضاً أنّ هذه الصفات تم توريثها إلى أبنائهم أيضاً، أي الأحفاد (الأجيال التالية) من الأمهات التي عانت من الجوع، مع أخذ الاعتبار أنّ طبيعة أكل الناس عادت إلى ما كانت عليه قبل الحصار، وأنه لم تعد هُنَاك مُشكِلة في التغذية، ويُشير العُلماء إلى أنّ التغييرات هذه في متوسط الأوزان عائدة إلى تأثيرات البيئة في جينات الناس وليس إلى مشكلات التغذية، وفي وصف آخر إنّ الظروف الخارجية على الجينات أدت إلى تغييرات طويلة موروثة على الأحفاد، لحظة، أليس هذا ما كنا نعتقده بأنه تطور؟

من المنطقي أيضاً أنّ التغييرات البيئية لا تملك القدر الكافي لتغير ترتيب الدنا، إذ لا يزال الأبناء قد حصلوا على جيناتهم من آبائهم وأمهاتهم في فترة قصيرة، أي أنه يجب أن يكون هُنَاك مفهوماً آخراً ما دامت الجينات هي نفسها، يجب أن يكون هُنَاك عوامل أخرى أثرت على شكل الجينات التي يجب أن تتفعل في هذه الظروف القاسية، يقول العُلماء أنهم حددوا هرمون شبيه بهرمون الأنسولين الشبيه بهرمون النمو على أنه الهرمون المسؤول عن هذا الأمر [29].

يقول الدكتور Bas Heijmans أنّ العوامل فوق الجينية هي الآلية التي يتم من خلالها مواءمة أو تطوير الأشخاص للظروف السريعة المحيطة، ومن الممكن أنها السبب الرئيسي المؤثر على أطفال شتاء الجوع الهولندي، أما عالم الأعصاب Oded Rechavi يقول أنّ هؤلاء الأطفال بدا عليهم التأثير الكبير الوراثي من خلال جوع آبائهم.

تكمن المُشكِلة في دراسة هذا العلم هو أنّ ملاحظة تأثيره لا تتم على الجيل الحالي، بل تتم على الأجيال اللاحقة، الأمر الذي لا يعطي نتائج واضحة ودقيقة، كذلك حداثة هذا العلم فقد بدأ تسجيل ملاحظاته منذ وقت قريب، تُشير الدراسات على عظام أبقار البيسون في منجم الذهب الكندي إلى أنّ العوامل فوق الجينية كان لها أثر كبير على التغييرات الظاهرية في أجسام هذه الأبقار لتواجه تغييرات المناخ وتتكيف معها، وهذه التغييرات أسرع بكثير من التغييرات التقليدية التي يرسمها أنموذج التطور في الانتخاب الطبيعي، وهذا ما تقوله دراسات جامعة Adelaide عبر دراسة العظام ودراسة تفعيل بعض الجينات وتعطيل أخرى في الدنا نفسه دون وجود تغيير على تسلسل الدنا نفسه، دون وجود عملية تطور كما هو التطور لقياسي الذي يفرضه التطور.

سبق وتحدثنا عن فئران الأغوطي، فقد تم تفعيل بعض الجينات في سلسلة الدنا نفسها وتعطيل أخرى، ونتج ولادة فئران مُختلفة الشكل واللون؛ مع أنها تتبع تسلسل الدنا نفسه، وذلك عبر تزويد الأم بفيتامين بي 12، يقول التطور في الدارونية الجديدة أنّ الطفرات والانتخاب الطبيعي هما السبب الأساسي للتنوع الحيوي على الأرض، وهذا ما يجعلهم يعارضون بشدة ما توصل إليه علم فوق الجينات، وما زالوا يصرون على أنّ التطور عملية بطيئة وطويلة، وأنّ الطفرات العشوائية هي المسؤولة عن هذه التغييرات الهائلة.

يضيف علماء فوق الجينات أنّ الأمر ليس له علاقة بالتطور، بل هو موجود فعلياً داخل تسلسل الدنا الحالي، هناك مجموعة كبيرة من الجينات الداخلية التي تنتظر عوامل معينة من البيئة لتتفعل أو تتعطل داخل الكائن الحي، وهو يشبه وجود صفحات مطوية في كتاب، تنتظر أن تصل إلى فصل معين لتُفتح للقارئ حسب ظروف معينة يحددها الكاتب.

وهذا ما يقود العُلماء إلى أنّ هذه جينات موجودة ومكتوبة في دليل الكائنات تتفعل أو لا تتفعل بناءً على أمر ما، وليست أموراً إضافيةً لم تكن موجودة في تسلسل الدنا وفجأة ظهرت عليه [29].

وقد أكّد الدكتور دينيس نوبل أنه بعد ما توصل إليه العلم في علم فوق الجينات، يجب على التطوريين إعادة كتابة نظريتهم بطريقة جديدة لأنها كانت تعتمد على الطفرات والانتخاب قبل معرفة تأثير العوامل فوق الجينية ودورها، بل يضيف أنه بعد فهمنا للجينات، تأكدنا أنها في الحقيقة غير ذات قيمة واقعية، وهي معلومات مجهولة Passive إلى أن يقوم جزء آخر من الجسم بتفعيلها مثل بروتين ما، كما سنوضح.

ونستذكر هنا العالم الفرنسي لامارك إذ كان يتبنى فكرة أنّ الصفات الوراثية مكتسبة من الصفات الأبوية، مثل أنّ طول عنق الزرافة مكتسب من أباء الزرافة التي أطالت رقبتها لتصل إلى الأشجار الطويلة، وهذا ما رفضه العُلماء من بعده في أماكن كثيرة، ولكن العالم دينيس نوبل يرى أنّ ما يقوله لامارك أقرب إلى الحقيقة من باقي نظريات التطوريين الجديدة، وذلك بالاعتماد على علم فوق الجينات الذي بين أيدينا.

يقول البرفسور آلان كوبر ما خلاصته أنّ التغييرات السريعة في الصفات الوراثية للتكيف مع تغييرات المناخ السريعة ليست ناتجة من عملية تطور تعتمد على الانتخاب الطبيعي والطفرات، بل هي أقرب لما يقوله علم فوق الجينات، وهذا يجيب أسئلة كثيرة كنا نطرحها وننتظر الإجابة عنها، وهذا ما يبين أن المصمم قد كتبها وكانت إحدى التقنيات التي أودعها في خلقه لمواءمة التغييرات البيئية الكبيرة [29].

البيضة أم الدجاجة

بات لدينا معلومات بسيطة عن التعقيد الكبير في بناء الخلية وآلية عملها وتصنيع الدنا والرنا، وبتنا نعرف أنّ الرنا بوليميريز RNA polymerase هو الإنزيم المسؤول عن بناء الدنا أو الرنا، وهذا المركب مكون من البروتينات، والبروتينات لا يمكن أن تصنع إلا من رنا بوليميريز، والذي يتم صناعته أساساً من الدنا، والدنا يصنع عن طريق الرنا والرنا يصنع عن طريق الدنا، فمن أتى أولاً، الرنا أم الدنا؟

رغم توفر الأدلة على أنّ الدنا أتى أولاً، إلا أنّ كمّاً من العُلماء المُؤمِنون بالتطور لا يزالون يعتقدون أنّ الرنا أتى أولاً، لأنّ الرنا أسهل في تركيبه من الدنا، أيضاً الرنا موجودٌ في بدائيات النواة، إذ أنّ النواة دون غشاء، ويعتقد التطور أنها أساس الخلايا حقيقية النواة لاحقاً، كما أنّ الرنا يُؤَدِي أدواراً أخرى بعيدة عن النسخ مثل كونه عاملاً محفزاً في عمليات كيميائية مُحددة، أي أنه يتصرف كالإنزيمات وفي أحيان أخرى كالبروتينات.

ولكن، إن كان كل شيء على ما يرام، فلماذا تطور الدنا إذا كان الرنا قائماً وكافياً؟ نعلم أننا كبشر لا نطور أجنحة لأنها لا تلزم، ولم نطور مدخل USB لأنه لا يلزم، لكن، لماذا تُطور الخلية شيئاً إضافياً ما دامت تعمل بكفاءة!

الجواب الحالي هو أنّ الدنا يملك شريطين والشريطين أفضل في حماية الشيفرة الجينية، فلو حدث تلف في شريط فالشريط الآخر يحميه ويحفظه وهذا أفضل في الحماية والتعديل، وهذا الجواب الجميل أشبه بقصص ألف ليلة وليلة، كيمياء غير واعية تُنتج كل هذه الآليات العظيمة نتاجاً عشوائياً، وكأنها ذات عقلٍ يفكر ويبتكر هذه الأجهزة التي تَفُوق تخيل البشر، وفي كتابنا ذكرناها في بضع صفحات استرقناها من عدة مجلدات حتى نستوعب جزء منها وبالكاد فهمناها، أما الطبيعة الذكية فتقوم بما هو أعظم، نريد إجابة أعمق أعزاءنا العُلماء، وهُنَاك شواهد أخرى منها:

  1. هُنَاك عملية مُعقَّدة وطويلة لإصلاح الدنا التالف وهذه العملية تحتاج إلى إنزيمات عديدة وعلى فرضية أنّ الحياة نشأت في بحيرة ماء وقليل من أشعة الشمس، دون وجود بروتينات وإنزيمات الصيانة والتصليح فإن الدنا الطويل هذا -وحتى في الفايروسات- لم يكن ليكون لو تكون صدفة دون هذه البروتينات.
  2. بات واضحاً أنّ الدنا وحده لا يكفي، دون العوامل فوق الجينية ودون بيانات فوق الجينات التي تبيّن هيكلية بناء البروتين وكثير من الأمور مثل هيكلية تصليح الدنا.
  3. لا يمكن للكائن أحادي الخلية أن يتطور إلى كائن ثنائي الخلية، لأنّ المعلومات (الجينات) المسؤولة عن تمييز الخلايا عن بعضها وتكوين أنظمة جديدة تأتي من الآباء وليس من الأبناء، فمثلاً الدودة المسطحة flatworm C. elegans يحتوي ذكرها على 1031 خلية تحتاج إلى معلومات دقيقة لتمييز خلاياها القليلة نسبياً لتخصيص كل نوع من الخلايا، وهذه المعلومات تأتي من الأسلاف السابقين لها بواسطة دنا غير مرمز، وهذه المعلومات حتماً لم تأت من الفراغ أو وليدة الصدفة من الأب الأول.
  4. على الفرضية القائمة أنّ البكتيريا على الأغلب كانت أول الكائنات الحية على الأرض، البكتيريا بشكل عام عمرها ما بين دقائق معدودة إلى بضعة أسابيع دون وضع الخمول الذي تكون فيه عمليات الخلية متوقفة، فكيف يمكن للخلية الأولى في هذا الوقت القياسي تكوين هذه الأنظمة المُعقَّدة للانقسام، والتكاثر، والنسخ والمضاعفة والنواة والكروموسومات والهيستونات والشكل الثلاثي والرباعي للبروتين وغيرها؟ مع الجدير بالذكر أنّ هذه العمليات إما تأتي سوياً أو لا تأتي، فلا معنى للدنا دون الرنا والعكس، فكلاهما يعتمد على الآخر وكلاهما معتمد على البروتين وكلاهما يعتمد على الجدار الخلوي والريبوسومات، وفقد عنصر واحد من الألف عنصر يجعل الخلية غير قادرة على أن تعيش حتى في أبسط صورها، فإمّا أن يقوم الجدار الخلوي بإدخال العناصر المهمة وإمّا الموت، إما أن تقوي الألياف والخيوط هيكل الخلية أو تنضغط وتموت، وإما أن تصنع الريبوسومات مجموعة متنوعة من البروتينات وتُوجدها في وقت واحد أو لا خلية من الأساس، وإما الرنا يقوم بالنسخ والقراءة وإما فلا استمرار، وإما الرنا يعرف عمله مع وجود الإنزيمات الأخرى والنقل والتخزين وإما الموت، كل جهاز من هذه الأجهزة هو جهازٌ مُعقَّد وكامل ولا يمكن أن يعمل دون الأجهزة الأخرى، ولا يمكن لخلية فرصة نجاتها في مياه راكدة وملايين العناصر حولها تهددها بالخطر أن تستعير من هذه البيئة ميتوكوندريا كاملة وترتبط بها عبر مدخل USB فائق وتنقل الكهرباء منها وسبحان دوكينز تكون في الخلية مصابيح موجودة بالصدفة سابقاً تعمل على كهرباء الميتوكندريا بكفاءة ودون استهلاك وأسلاك التوصيل جاهزة، كأن أسافر إلى المريخ وأجد أكلتي المفضلة على طاولة في كوخ جميل، وموسيقى رومانسية مشغلة وبالتأكيد زوجتي تكون جالسة فبدونها لا معنى للرومانسية وللعملية ككل.

حسناً، هُنَاك أمور أكثر غرابةً من الدنا في الكائنات المُختلفة، فهُنَاك مثلاً الدنا ذو الأربعة أشرطة بدلاً من اثنين، وهُنَاك دنا به زرنيخ بدلاً من الفسفور، وهُنَاك رنا به شريطين أيضاً وهو موجود في بعض الفايروسات مع بعض التغييرات الطفيفة حينما يصيب الفايروس حقيقيات النواة، وهُنَاك الفايروسات العكسية التي تصنع الدنا من الرنا بدلاً من العكس، هُنَاك أمور مُختلفة كثيرة ولذلك لا يمكننا بناء آلية واضحة لتحديد من أتى أولاً، لكن الأمر الحتمي أنّ البروتين والرنا والدنا والريبوسومات والغشاء والخيوط وجهاز جولجي وغيرها من الأجهزة كانت موجودة دفعة واحدة.

مشاكل الدنا

لبنات البناء

تعددت أوصاف الدنا مثل كونه عقل الخلية، أو الحاسوب المحرك، لُغة البرمجة العليا فيه، مخطط عمل الخلية، وغيرها من الأوصاف الكبيرة الضخمة التي تجعل الدنا يلبس عباءة أكبر من حجمه، وبتنا نعرف أنّ الدنا لا يتكون من بروتينات وكيماويات مختلطة ليقوم بتشكيل دور لُغة برمجة، إنما هو ترتيب لبعض القواعد النيتروجينية وبعض المواد الأخرى غير البروتينية، إنه لا يحتوي على ذاكرة الخلية ولا خط سير الحياة.

نستطيع القول أنّ الدنا قاعدة بيانات مرتبة تحتوي على بُنود جسم الكائن الحي، تلجأ إليها آلات الخلية لأخذ البيانات اللازمة لها لإنتاج البروتينات، وتصنيع الجسور، وتشييد المباني، ويرجع السبب في وصفها كقاعدة بيانات إلى أنّ لُغة بناء الدنا ليست لُغة ذات قواعد برمجية أو نحوية، فمثلاً لو أردت أن ترسم مُجسماً سُداسياً، فستقوم برسم نقاط مُحددة وقياس المسافات بينها ثم تبدأ بتحديد الخطوط من النقاط لبناء المجسم الثلاثي على نحو مخطط وواضح، أو مثلاً أردت بناء بيت، فستقوم بإنشاء خريطة تحتوي على خطوات بناء البيت مفصلة، لكن هذا الأمر مفقود في لُغة الدنا، قاعدة البيانات لا تحتوي على الخطوات اللازمة لهذا الأمر، أو يمكن القول أنّ هذا ما اكتشفه العُلماء لغاية اللحظة، نحن نعلم أنّ الدنا مكون من أربع قواعد نيتروجينية تصف ترتيب الأحماض الأمينية في بروتينات الجسم، ولا شيء آخر لكيفية بناء البروتين.

لنضرب مثالاً لتوضيح الفكرة، لنفترض أنك ولدت في بيت يتكلم 40 كلمة فقط، والكلمات هي أنواع طعام مُختلفة، ولا يملك أي أحد في البيت كلمات أخرى وصفية لأفعالهم، لديكم 40 كلمة فقط، والكلمات هي كلمات أطعمة أساسية مثل خيار، خبز، خس، لحمة، بطاطس، وإذا أردت أن تخبر أمك بأنك تريد ساندويتش هامبرجر فكل ما عليك إلا قول التالي:

  1. خبز
  2. خيار
  3. لحمة
  4. خس
  5. بطاطس
  6. خبز

لكنك لن تستطيع وصف عمليات صنع الساندويش، أنت تملك كلمات البناء الأساسية فقط ولا تملك كلمات التخطيط.

تتكون لُغة الدنا من 24 كلمة فقط، 20 منهم أسماء لبنات البناء، و4 كلمات هي أفعال: ابدأ، توقف، استخدم، تجاهل.

هذا على سبيل المثال ما هو مكتوب في الدنا:

  1. لايسين، برولين، فالين، سيرين، ثايروسين، توقف.
  2. ثايروسين، فالين، فالين، سيرين، فالين، ثايروسين، توقف.

بالنظر إلى هذا التوضيح نفهم بالضبط أنّ الدنا مُجرَّد قاعدة بيانات لا توصف بناء كامل ولا مخطط هندسي متكامل، مُجرَّد ترتيب لعناصر البناء، أي حجر أضعه فوق أي حجر، لكن الحائط هذا أين موضعه في المجسم ككل، والحائط ذاك ارتباطه بحائط آخر فوقه أو تحته أو عن يمينه أو عرضي أو طولي وغيرها من الصفات البنائية غير موجودة فيه، بل وحتى الشكل الثلاثي للمكونات وكيف يتم تشكيلها، وغيرها من هيكليات تخطيط البناء غير موجودة فيه [30].

في الدنا لا يتم تحديد شكل البروتين، إنما يتم تحديد مكوناته فقط، مع أننا رأينا أن تركيب البروتين مُعقَّد جداً وآلية إعداد البروتين غير متوفرة في الدنا، ولو أردنا بناء حقيقي بلُغة هيكلية حقيقية سنقول مثلاً:

  1. كرر هذه الخطوة 8 مرات.
  2. تابع هذه العملية 4 مرات إلى حين أن يتقاطع نهاية السلسلة مع السلسلة الفلانية التي بنهايتها كذا.
  3. تابع هذه العملية ثم احني الخط حينما يمس العنصر باء العنصر جيم.
  4. اجعل موضع العنصر ص يرتبط بموضع 6 في العنصر س.

سنرى هذه المُشكِلة بشكل حقيقي في فصل تحول الكائنات، لكن هذه الفقرة الصغيرة تضعنا أمام تحدٍ حقيقي مرعب، هل الدنا وهم؟ ويعطي معلومات مجهولة ولا قيمة لها! فمن الذي يبني هذا الكائن العظيم الذي يقرأ الكتاب؟ من الذي يصمم مليارات الخلايا والروابط والعمليات فيه؟

تفسير الدنا

حتى لو كان الدنا يَصِف هذه اللبنات البنائية، فإننا كبشر لا نملك أي آلية أو فهم لكيفية التدخل ومقاطعة عمليات البناء التي تحدث بالشكل الذي نريده، هذه اللبنات بحاجة إلى مصمم ذكي يقوم باستخدامها وفهمها، هذه الآليات موجودة في العضيات الأخرى وليست موجودة في الدنا كما يبدو، فبمُجرَّد أننا نعرف مقادير كعكة البرتقال، لا يعني ذلك أنه يمكننا صنعها، بل نحن بحاجة إلى طباخ يعرف الخطوات، حتى في الحاسوب ولغات البرمجة، فلو لدينا كود برمجي متقن الصنع، فإن الحاسوب لا يمكنه فهمه إلا بوجود برنامج وسيط يُسمى المفسر أو المترجم.

وفي ظل وجود لبنات بنائية وعدم وجود تعليمات واضحة للبناء كما سبق التوضيح مثل تعليمات بناء ثلاثي الأبعاد مثلاً، وعدم وجود شخص ماهر يفهم العمليات كالمفسر، فإنّ عملية بناء الخلايا أمرٌ مُستحيل بالشكل الحالي، الأمر يحتاج إلى بحث أكثر من قبل العُلماء، لأن ما هو موجود الآن يرجع إلى قوى عظمي، شئت أم أبيت أن تصدق هذا، لكن هذا العلم يا عزيزي، وإلى أن يأتي علم آخر، عليك أن تؤمن بوجود هذه القوى الخارقة، لا تريد أن تسميها الإله، سمِها مايكل جاكسون، لكن يجب أن تقر بوجودها.

بعد البدء في مشروع ENCODE في عام 2003م، لم يعثر العُلماء في الدنا على آلية واضحة لبناء إنسان كامل واعٍ مفكر على الشكل الذي نراه، لا يوجد هيكل ثلاثي ولا مخطط واضح لبناء الإنسان، هي مُجرَّد لبنات وطوب لا أكثر، لكننا نعلم أن الطوب ليس المنزل، هُنَاك المخطط وهُنَاك خراطيم المياه وهُنَاك السباكة والحديد المسلح وهيكلية الأرضية والمغاسل والهدف من كل جزء وغيرها، وعلى الرغم من ظهور محالات تفسير هذا النقص مثل جينات النحت hox genes إلا أن كل المحاولات كلها لا تزال ضعيفة جداً لتفسير هذا السُلُوك.

حجم الدنا

ولو كان الدنا يَصِف أعضاء الجسم بدقة كاملة، لتوجب على حجم الدنا أن يكون أضعاف أضعاف الحجم الحالي، ولكن التشابه الغريب في حجم الدنا الخاص بالإنسان وبعض النباتات والحيوانات التي تصغره حجماً أمر لا يمكن تفسيره، فعلى سبيل المثال من المفترض أن تكون عدد أوراق مخططات بناء ناطحة سحاب أضعاف أوراق مخطط بناء منزل، هذا أمر بديهي جداً، لكننا نلاحظ العكس! فحجم الدنا على ما يبدو نسبي مقارنة بحجم الكائن وتعقيده كما في (شكل 29 حجم الجينوم مقارنة بتعقيد الكائنات)، ومُختلف جداً في عدد قواعده، وعلى الرغم من تقدم وتعقيد الثدييات، إلا أننا نجد حجم الدنا الخاص بها أقل من حجم الدنا الخاص بالبرمائيات أو حتى النباتات المزهرة! بل، لو قمنا بمقارنة بيانات دنا البرمائيات والنباتات المزهرة بالإنسان لوجدناها أكثر بعشر مرات على أقل تقدير.

المُضحك أنّ عدد جينات نبات الأرز يتراوح ما بين 32 ألف جين إلى 50 ألف جين، في حين أنّ الإنسان الذي يُعتبر أكثر المخلوقات تعقيداً يصل عدد جيناته إلى 23 ألف جين فقط، أي من المفترض أنّ الأرز أكبر منا بضعفين ونصف على الأقل، ويفوق عدد جينات سمكة الينفوخة Tetraodontidae ونبات الخردل كذلك عدد جيناتنا، أما السلمندر فله 10 أضعاف ما لنا! يا لفضيحتنا بين الكائنات، ولكن، ماذا عن الزهور؟ لعلي أصدمك بزهرة باريس جابونيكا Paris japonica التي تتميز بامتلاكها 149 مليار زوج من القواعد النيتروجينية، أي أنها أكبر منا ب50 ضعف [31]، يعني حبيبي الإنسان وكنت تحسب أنك جرم صغير! وفعلاً أنت جرم صغير، انصرف أيها الإنسان من أمامي، وإيتوني بزهرة الجابونيكا.


شكل 29 حجم الجينوم مقارنة بتعقيد الكائنات

دائماً ما افترض العُلماء أنّ حجم شريط الدنا الحالي هو الحجم الكافي لبناء الإنسان، كل ما يلزم لبناء الإنسان موجود في ذلك الشريط الطويل، ولكن لم توجد دراسة كافية لتوضح أنّ حجم الدنا الحالي كافٍ لهذه العملية، صحيح أنكم تسمعون البعض يقول أنّ 90% من الشريط لا قيمة له، كأن تقول إنّ المال المطلوب لشراء هذه السيارة يجب ألا يقل عن 100 ألف دولار، فيسلمك أحدهم مبلغ 5 آلاف دولار! أتخبرني أن 90% منه غير لازم، وهو لو كان كاملاً لا يكفي!

هُنَاك المزيد من العمل على العُلماء لتحديد إجابات هذه الأسئلة، وتحديد ما هو الجزء المسؤول عن ترجمة الدنا وتحديد سيره ووضع المخطط لعملية البناء، هُنَاك محاولات لربط هذا الأمر أثناء تكوين الجنين، لكن هذا غير ملائم كما يبدو، فتكوين الجنين أيضاً يحتاج إلى معلومات تَفُوق حجم الدنا الحالي [32]، بل حتى العُلماء لديهم معضلة كبيرة في تفسير تلقيح الخلية وتحولها إلى طفل في معضلة اسمها problem of morphogenesis [33] [34] فمن الواضح مرة أخرى أن شيفرة الدنا لا تسمح إلا بتشفير بنية الإنزيمات والبروتينات، لكنها لا تحفظ الخطط والعمليات والهياكل الشكلية، على سبيل المثال يداك وقدماك مُختلفتان بالشكل وفي الأداء وفي الهيكلية، ولكن كيميائياً كلاهما مكونان من التركيب نفسه، الخلايا نفسها، الأعصاب نفسها، الجلد نفسه، الشعر نفسه، والدنا نفسه في كل خلية، في الواقع الدنا نفسه في كل خلية، وهو لا يفسر هذا الاختلاف في الوظيفة أو الشكل [35].

الخردة

في بداية اكتشاف الدنا كانت هُنَاك مناطق في الجينوم البشري لا يُعرف الهدف منها، وما هي العمليات المرتبطة بها، وهي نسبتها كبيرة جداً تزيد عن 90% من المساحة الإجمالية ولعلها سميت بصحراء الحمض النووي، وقد أدّى هذا بسرعة إلى إطلاق اسم Junk – DNA عليها، أي الأحماض النووية الخردة التي لا لزوم لها، وقد كتب ريتشارد دوكينز كتاب عنها وقال بأنها نتاج تطور الإنسان من الأسلاف السابقة، وتحمل مهام سابقة حينما كان قرد أو حوت أو دودة، ولا داعي لها، وانتبه إلى أنّ هذا تخمين وليس علماّ ناتجاّ عن تجارب كافية، لكن لنمضِ.

حسناً، الصورة الحالية تقول عكس ما قاله دوكينز في القرن الماضي، فالعدد الآن يزيد عن كون 80% من الجينات فاعلة ونعرف الهدف منها وليس العكس[36]، في كل الأحوال فإن العدد النهائي للجينات التي ترمز البروتينات لا يزال غير معروف ومُختلف عليه، ومرة أخرى هذا الكلام قد تغير بعد عام 2012م بالكامل بسبب مشروع إنكود Encode بعد عمل 440 عالم و32 مختبر حول العالم، إذ توصل المشروع إلى خلاصة مهمة هي أنّ الجينوم البشري به 4 مليون مفتاح لتفعيل وتعطيل الجينات كانت تسمى سابقاً “خردة”!

ويستكمل المشروع أنّ لهذه المفاتيح دورٌ حيوي في عمل الخلايا، وعمل الأنسجة والأعضاء الحيوية واعتبر هذا الاكتشاف اكتشافٌ فارق وقاطع في مجال العلم لما له دور مستقبلي من كشف الأمراض وتحسين حياة المرضى وغيرها من الأمور المرتبطة بفك لغز الحياة [37]، وحسب البروفيسور جوب ديكر عالم الأحياء الجزيئية في كلية طب جامعة ماساتشوستس يرى أنّ العظمة تكمن في كون كل جين يحيط به مجموعة من العناصر التنظيمية في هيكل ثلاثي الأبعاد مُعقَّد للغاية ولم يتم حتى الآن إلا وصف واحد في المئة منه فقط، وعلينا الاستمرار لكشف الـ 99% المتبقية.

بعد عام 2012م، لا شيء من نصوص الجينات الخردة يمكن أن يكون ذا قيمة أكبر، لا دراسات الحيوانات ولا دراسات البشر، لا يوجد دنا خردة، كنا فقط نجهل ما نراه، وحسب أيوان بيرني المشرف العام لمشروع إنكود [38]، فإن لفظة الدنا الخردة يجب أن تصبح من الماضي ولا يجب استخدامها مرة أخرى بل ويجب شطبها، وهذا بعد عشرات الأبحاث منذ الاكتشاف الهائل في الدنا في مشروع إنكود، فهو مصطلح عتيق منذ السبعينات، وعلى ما يبدو أن نسبة 80% من الوظائف المكتشفة في الدنا ستصل إلى 100%، ويرى أستاذ التطور الجزيئي دان جراور أنه إذا كان مشروع إنكود على صواب، فإنّ التطور خاطئ، وحسب عالم الأحياء بي زيت مايرز فإذا كان أكثر من 3% من الجينوم البشري له وظيفة، فإنّ التطور يمسي عملية مهدومة، ونحن عزيزي لدينا للأسف رقم بعيد بعيد عنك حياتي عذاب.

يمكن اعتبار عصر السبعينات بالنسبة للدنا مثل عصر الديناصورات بالنسبة لنا، ولعلي أُخطّئ من تسرع في خياله ليقول دنا خردة بدلاً من أن يقول لا أعرف، لكن حدث ما حدث، هذا يعيدنا مرة أخرى إلى أنّ العلم يدخل فيه الخيال أحيانا بدلاً من كونه علوم مُجرَّدة، العلوم لا تتسرع ولا تحكم إلا بعد التجربة، لكننا هنا نرى حكم على 90% من الجينوم البشري أنه خردة لمُجرَّد أنّ من وصف ذلك لا يعلم، وعلى ما يبدو فإن الدنا الخردة كان مهماً جداً للتطور فكان لابد من التمسك به إلى الرمق الأخير مهما قال العلم.

يقول البروفيسور Antony Jose أستاذ علم الخلية وعلم الوراثة الجزيئية في جامعة ماريلاند أنّ الدنا هو قائمة المكونات فقط ولا يوجد به تعليمات أو آلية صناعة العضيات، التعليمات موضوع مُعقَّد أكثر، هي مخزنة في الجزيئات التي تنظم عمل الدنا، والدنا ليس خريطة حياة الإنسان ولا يفسر سير العمليات، فإن مثلاً جينات لون عيون الإنسان موجودة في كل خلية من خلايا الكائن الحي، وإنّ عملية قراءة هذه المعلومة من الدنا واستخراجها في مرحلة ما، في مرحلة صناعة العين لهي عملية أخرى مسؤول عنها جزيء آخر، ومعلومات هذه العملية مخزنة في مكان آخر غير الدنا، وهذا ما سبق ذكره فصول الكتاب.

إنّ العُلماء غير قادرين على تحديد المكان المسؤول عن التعقيد في شكل أي عضو كالعين مثلاً، أو حتى تحديد أنّ كائناً ما لديه عين أو شيء يشبه العين عبر قراءة الدنا، هذه الأمور موجودة في مكان غير الدنا [39].

سؤال في هذا السياق يقول: لماذا لم يتخلص التطور من الجينات الخردة، أليست شيئاً لا فائدة منه؟ فلماذا لا يتخلص الانتخاب الطبيعي منها كما تخلص من مئات الأمور الأخرى، 90% خردة وباقية؟ لو كانت 10% لقلنا مقٌبول بقاؤها، لكن 90% من الدنا في كل خلية يتم نسخها بلا جدوى طوال ملايين السنين! لا يستطيع أن يحذف سطرين، ألا توجد معه ممحاة مثلاً! الفكرة نفسها حول أنّ الإنسان مثلاً يستخدم 10% من دماغه، لماذا لم يتخلص من الـ 90% المتبقية خلال فترة التطور، لماذا يستهلك مساحة وطاقة وهي من أهم بُنود التطور ويدفع فيها دون أن يقوم بالتخلص منها، أم أنّ التطور يستطيع أن يصنع جناحين من لا شيء وغير قادر على مسح شيء، مع العلم أنها أرقام غير صحيحة، لا أرقام الدنا، ولا أرقام الدماغ، فقط نحاول أن نتساءل بمنطق.

البروتينات

بناء البروتينات

كما رأينا فإنّ البروتينات هي لبنات بناء الحياة، وعلى هذا إذا أردنا بناء حياة جديدة أو فهم كيف نشأت الحياة، فإننا يجب أن نبحث في البروتينات ثم الأحماض الأمينية بشكل أعمق من ناحية التكوين والتركيب والتجميع، ولنرَ احتمالية إنشاء الحياة من خلال تفاعل الأحماض الأمينية ببعضها وتضاربها.

ذكرنا في فصل الأحماض الأمينية أنّ كل البروتينات الموجودة في أجسام الكائنات الحية تستخدم 20 نوعاً فقط من أنواع الأحماض الأمينية، هذه الأحماض الأمينية مكتوب آلية تصنيعها في ملف وصفي مكون من 4 حروف، فاحتمالية أن تخرج كلمات مُختلفة من 4 حروف هي 64 احتمال، ولو افترضنا أنّ الأحماض الأمينية هي قوالب بناء أو حتى هي شيفرات برمجية لكتابة أكواد برنامج حاسوب؛ فهذا يعني أننا نحتاج إلى 20 دالة من دوال لغتنا الكيميائية لبناء 20 حمضاً أمينياً تدخل في تكوين نحو 30 ألف برنامج مُختلف يصنع البروتينات للكائن البشري، أي تقريباً أننا سنستخدم دالة أو قالب بناء ما يصل إلى 8 مليار مرة، ولكن هل هُنَاك شروط معينة لبناء البروتينات في جسم الإنسان؟ والإجابة: نعم، وهي كالآتي:

  1. يجب اصطفاف الأحماض الأمينية المطلوبة في بناء سلسلة البروتين من النوع الصحيح وبالتتابع الصحيح.
  2. يجب أن تكون جميع الأحماض الأمينية في السلسلة عسراء، لا يمكن أن تكون يمينية، بل عسراء فقط! أمر مدهش!، أي أنّ الجسم فيزيائياً وكيميائياً عبر طرق مخبرية يحدد التناظر المرآتي للحمض الأميني وينتقي نصف الاحتمالات الموجودة! واو!

ثَمّة شروط أخرى مثل: تكوين الروابط الببتيدية وغيرها، ولكن ستكون لدينا أرقام احتمالات مخيفة بعد قليل، لذلك سنكتفي بهذين الشرطين، وبذلك فإنّ احتمال تكوين بروتين ما هو حاصل ضرب احتمال حدوث كل هذه الشروط مجتمعة، وبالنسبة لجزيء بروتين يتكون من سلسلة أحماض أمينية يبلغ طولها 500 حمضاً، فإنّ الحسابات كالتالي:

  1. احتمالية اصطفاف أحماض البروتين المطلوبة لبناء سلسلة البروتين من النوع والتتابع الصحيحين هي:
  2. 20 حمض أميني.
  3. احتمالية اختيار كل حمض أميني بالشكل الصحيح هي 1 من 20.
  4. احتمالية اختيار الـ 500 حمض بالشكل الصحيح هي 1 / 20 مرفوعة للأس 500 أي أن الرقم النهائي هو 1 من 10^650.
  5. احتمالية أن تكون جميع أحماض البروتين في السلسلة عسراء:
  6. 20 حمض أميني.
  7. إما أن يكون الحمض أعسر أو أيمن (كما وضحنا سابقاً في التناظر المرآتي).
  8. احتمالية أن يوجد الحمض الأميني الواحد في الحالة العسراء هي 1 من 2، أي النصف، إما صورة وإما كتابة.
  9. احتمالية أن يتم اختيار الـ 500 حمض عسراء في الوقت نفسه هي 1 / 2 مرفوعة للأس 500 أي أن الرقم النهائي هو 1 من 10^150.

لذا ستكون المحصلة النهائية للاحتمالات هي 1/ (10^650) × 1/ (10^150) = 1/ (10^800).

حسناً، الرقم 1 من 10 أمامها 800 صفر هو رقمٌ مُخيفٌ وهو أكبر من كل الأرقام التي استعرضناها في الكتاب، وهو بحاجة إلى أكوان كثيرة حتى يمكن احتمال حدوثه بالصدفة، وهو في علم الاحتمالات كما وضحنا سابقاً في فصل الاحتمال المُستحيل، هو احتمال فوق فوق فوق فوق المُستحيل، فـ 1 من 10^50 أمرٌ مُستحيل، فما بالك بـ 1 من 10^800، هذه الأرقام غير مفهومة في علوم البشر، ولا حتى في أعتى الحواسيب الحديثة، والفكرة تكمن أنه لو أردنا إعادة تجربة الصدفة في توليد بروتين ما، فإننا يجب أن نأخذ الاحتمالات بالأشكال التالية:

  1. يوجد في حوض ماء 20 حمض أميني جاهزين من الطبيعة وهذا شبه مُستحيل لكن لنفترض.
  2. الـ 20 حمض موجودين بكميات ليست بسيطة وبنسب مُختلفة.
  3. توجد بعض المواد المساعدة مثل الفسفور والكبريت، لتساهم في تكوين الشكل الثالثي للبروتين مثلاً.
  4. لا تتفاعل هذه المواد المساعدة مع الأحماض الأمينية.
  5. لا يوجد في حوض الماء هذا مواد سامة تتفاعل كيميائياً مع الأحماض الأمينية الـ 20.
  6. درجة الحرارة مناسبة، الضغط الجوي مناسب، ولا وجود للأكسجين بكثرة.
  7. حدوث عملية الترابط في فقاعة مغلقة حتى لا تفسد عمليات الترابط الببتيدي.
  8. درجة الحامضية pH مضبوطة حتى لا تتفتت الأحماض الأمينية أو الروابط الببتيدية المكونة.
  9. بعد تكون البروتين يتم نقله في مكان على جانب الحوض حتى لا يتفاعل معه مادة أخرى وتحلله.
  10. ترك هذه العملية تحدث مئات ملايين مليارات المليارات ملايين التريليونات الجوجليونات المرات بشكل عشوائي حتى يحدث في لحظة ما هذا البروتين.

فلنأخذ في عين الاعتبار أنّ الاحتمالات لا يجب أن تحدث كلها، فقد تتكرر العمليات العشوائية وقد لا تحدث من الأصل، نحن نتخيل أنّ حوض الماء وسط ذكي يلتقط الأحماض الأمينية ويقوم بتجريبها حسب دفتر الاحتمالات احتمال وراء احتمال ويضع على الدفتر علامة صح أنه جرب هذا الاحتمال وينتقل إلى الاحتمال التالي ويضع صح، حسناً، لا عزيزي هذا لا يحدث في الواقع.

كل هذا لتكوين بروتين واحد من مئات البروتين في أبسط الخلايا، بالإضافة إلى باقي المكونات المُرعبة مثل: الدنا أو الرنا أو غشاء الخلية أو الميتوكوندريا، الأجزاء المصممة عبر هندسة اصطناعية معمارية، علاوةً على التركيب والتداخل الوظيفي في المهام والنقل والتخزين والإشارات وغيرها في بناء بيت، كل ما نحسبه فوق هو بناء حائط من 500 طوبة فقط، ولم نتكلم عن باقي المنزل من كهرباء وتمديدات مياه وحماية وأجهزة إنذار واتصالات وسلالم وأماكن حرق وأماكن تدفئة ومخازن … إلخ، صدقاً يصعب التفكير.

احتمالات تكون البروتين

لا تنسَ أنّ العد للمليون يستغرق وقتاً كبيراً جداً والعد للمليار يحتاج عقوداً طويلةً، ولو أردنا ترك هذا الحساء لمليارات السنين لن يكفيه، ولو امتلكنا مليارات المليارات من الحاسبات الذكية بسرعات مذهلة موجودة لتحاكي تفاعل المواد في حوض الماء هذا، فلن يكفيها عمر الكون لإنتاج بروتين واحد بالاحتمالات العشوائية.

ولنتمكن من تخيّل استحالة هذه الأرقام، لنبيّن الأمر باستخدام ما في أيدي البشر من إمكانيات فجهاز حاسب يحتوي معالج CPU يعمل بسرعة 3 جيجا هرتز أي 3 مليار نبضة في الثانية، يحتاج إلى نحو 126 مليون مليون سنة لمُجرَّد العد من صفر إلى 10^30، أي أنّ هذا الحاسب لكي يعد إلى الاحتمال ذو 800 صفر، فإننا يجب أن نضع على يمين الزمن 126 مليون مليون سنة، أي 770 صفراً أخرى، مرة أخرى هذا فقط مع أننا فرضنا شرطين فقط، ولم نفرض باقي الشروط لأنّ الأرقام لن يتحملها الدماغ حينما نفكر بها، المُشكِلة أنّ الأرقام هنا تفقد معناها، ولو كنت مبرمجاً للُغة برمجة ما، ستعلم أنّ كتابة الشيفرة البرمجية (الكود) لبرنامج يعد الوقت المطلوب لإجراء أي احتمالات لا يتعدى 5 أسطر برمجية، إذ تحسب الوقت لكي يعد جهازك لـ10^10 وذلك بطرح وقت بدء العد بوقت نهاية العد، وبعد ذلك تضرب الرقم في 10^790، وهو أمر لا يستطيع فعله حاسوبك ولا أي حاسوب في العالم، جرب أن تضرب الرقم في 10^20 بدلاً من ذلك وستجد أن 10^30 مثلاً هو وقت فوق ال100 مليون مليون سنة، وهو رقم أكبر بكثير من عمر الكون وليس الكرة الأرضية فحسب، فعمر الكون 13.8 مليار سنة وهذا رقم صغير مقارنة باحتمالية العد من 10^30، فما بالكم ب10^800 لتصنيع بروتين واحد في بيئة مُعدّة له، وما بالكم بتصنيع باقي البروتينات وأجزاء الخلية، لاحظ أننا نتكلم هنا عن برنامج يجعل الحاسوب يعد عداً ولا يُجري تجارباً، نحن نتحدث عن برنامج عداد يضرب الأرقام فقط، أرقاماً أقل من الرقم 10^30، حقيقة بصفتي مبرمجاً أستسلم وأُسلّم بوجود قوة عظمى جداً فوق هذه الاحتمالات فلا مجال إلا لذلك.

في الحقيقة هذه الفكرة يؤمن بها كل الماديين الذين شاهدتهم، إلا مُحبّي البوب سينس والتيك أواي الذين شاهدوا عدداً من المقاطع على اليوتيوب مُعتقدين أنّ نشوء الخلية الأولى بالصدفة في إناء به بعض الحساء أمراً ممكناً حسب تجربة يوري ميلر، إذا استمعت لكارل ساجان أو لريتشارد دوكينز فسترى أنهم يعرفون صعوبة وجود الخلية الأولى من العدم بمحض الصدفة، وهم يعزون وجودها إلى مخلوقات ذكية أتت من كوكب آخر، سبحان المصممين الأوائل، سبحان المخلوقات الذكية التي ممكن أن تكون أي شيء إلا أن تكون الله، في الحقيقة أحترم العُلماء الذين يقولون أنه من الصعب وجود الخلية بالصدفة، وينتقلون إلى الحديث عن التطور بعد الخلية الأولى وليس قبلها، وكل ما يجري لمحاولات تفسير الحياة الأولى على الأرض هو محاولات فقط لتوضيح مقتطفات من عمليات الخلية وليست حبكة كاملة بعد، لو أردنا الحديث عن بروتينات أكبر قليلاً فالموضوع يأخذنا إلى أرقام مخيفة أكثر.

هذا يقودنا إلى فكرة أنّ العُلماء يؤمنوا قبل أن يكتشفوا، فحينما نرى أنّ الأرقام تقول أنه لا يمكن إلا أن يكون هُنَاك قوة فوق هذه الاحتمالات، ويؤكد العُلماء أنه من غير الممكن مستقبلاً أن نكتشف شيئاً آخراً ساعد الصدفة، فنحن هنا ندخل في مرحلة الإيمان كما الأديان، العُلماء مُؤمِنون بوجود حجاب سيُكشف عنه مستقبلاً، وهذا ما يؤمن به المُؤمِنون أنفسهم، فهُنَاك في المستقبل توضيحات ومكاشفات من الإله لهم في الدنيا والآخرة، وعلى هؤلاء العُلماء المُؤمِنين أن يتخلوا عن العلم، فالعلم يعترف بالموجود ولا يعترف بالإيمان، وحينما يؤمن العُلماء نستطيع أن نقول أنهم والمُؤمِنون سواء، فهذا العالِم يؤمن بوجود قوة سيتم الكشف عنها مستقبلاً ولا يتقبل الحقائق التي بين يديه، والمُؤمِن يؤمن بوجود قوة خارقة ستكشف عن نفسها بطرقٍ شتى وصولاً إلى يوم الحساب ولا يتقبل بوجود خالق غيرها، في كل الأحوال هذه الأرقام تدفعني إلى أن أفكر بوجود قوة عاقلة يجب البحث عنها.

رابط 9 مقطع يوضح تكون الدنا من البروتين

https://bit.ly/34EEKJ3

ولنفرض جدلاً بطريقة ما قد تكون بروتين في وسط بحيرة ماء من حساء الحياة، نحن نعرف أنّ قوانين الديناميكا الحرارية وخصوصاً القانون الثاني الذي عرضناه في الفصل الأول يحيلنا للتفكير إلى أنّ محيط البروتين المتكون مليء بالكثير من الإنتروبيا وبهذا سيتفكك البروتين وسيتكسر، إذن الخيار الأمثل هو أن يرجع خطوة للخلف وألا يتقدم للأمام، فنحن حينما نضع سيارة في الصحراء لا نتوقع بسبب العوامل المحيطة أن تتحول إلى طائرة، وما نجده بعد أشهر من تركها أنّ عجلها قد نقص منه الهواء، وزجاجها أمسى مخدوشاً من دفع الرمال، وطلاؤها قد تساقط من الأكسدة، ومحركها قد تلف وغيرها من الأمثلة، وفي الأحياء سيكون القانون نفسه، فالبروتين الأول أو حتى الخلية الأولى لو بقيت في وسطها ستتحلل وتموت لأنّ جميع العوامل حولها ستحاول قتلها وليس دفعها للأمام، فأين من يفسر هذه النقطة ويوضحها!

احتمال رسم الموناليزا

وبصفتي أعمل مُبرمِجاً منذ سنوات طويلة، أتفهم موضوع الاحتمالات وقدرات الحاسوب والتوليد العشوائي بشكل كبير، لذلك في هذا الفصل الجميل المقتبس من فصل أبدع حاسب وأبدع نظام تشغيل للمهندس محمد غانم، سنحاول أنّ نتفهم الأرقام الكبيرة التي ظهرت لنا فوق وذلك بالمنطق والماوس والكيبورد.

لنفترض أنّنا نريد كتابة برنامج بسيط يحاول أن يرسم الموناليزا عشوائياً، ولنأخذ شاشة حاسب بأقل دقة ممكنة حتى نجري تجربتنا، وأقل دقة شاشة يمكن أن نجرب عليها هي دقة فيها 480 × 640 نقطة، أي أنّ هذه الشاشة تحتوي على 307200 نقطة، البرنامج سيقوم بتوليد كل النقاط عشوائياً وحتماً ستكون إحدى التوليدات هي صورة الموناليزا.

صورة الموناليزا ملونة كما نعلم ورسمها سيكلف الكثير من الاحتمالات، لذلك سنخفض الألوان إلى 256 لوناً بدلاً من ملايين الألوان، اممم! دعنا نبسطها أكثر، لنبقيها على 16 لون حتى تنجح التجربة، أتعلمون سنكتفي بالأبيض والأسود فقط لتبسيط الأرقام، جيد! نريد خياراً أبسط، لأنّ أي خيار آخر ستنتج عنه أرقام مزعجة.

ما بين أن تكون كل نقاط الشاشة بيضاء، أو أن تكون كلها سوداء، فإن عدد من التباديل يساوي عدد الأرقام الثنائية التي يمكن وضعها في 307200 خانة، أي أنّ الاحتمالات المتاحة هي 2^307200 = 1092000^ احتمال وهي أكثر بكثير من الاحتمالات التي استعرضناها من مجموع كل احتمالات الكتاب للآن.

لو نجحنا في تجربة كلّ هذه الاحتمالات، فسنحصل بالأبيض والأسود على جميع اللوحات التي رُسمت أو لم ترسم بعد، وعلى كل صور الأشياء والأشخاص التي نتخيلها أو لم نتخيلها، وستظهر حتماً لوحة لمونيكا بيلوتشي مع ريناتو، هذا الكلام جميل وبسيط، لكن المُشكِلة تكمن في أنّ تجربة هذه الاحتمالات يحتاج إلى عمر يفوق عمر الكون بمليارات مليارات المرات، كيف ذلك؟ إليك التوضيح.

لنفترض أنّ لدينا حاسباً يستطيع رسم كل احتمال من هذه الاحتمالات في جزء من مليار جزء من الثانية وهذا أمر مُستحيل عملياً بأجهزة اليوم لكن سنفترضه، هذا يعني أنه يستطيع أن يرسم في عام واحد:

مليار × 60 ثانية × 60 دقيقة × 24 ساعة × 365 يوم = 22118400 مليار لوحة في العام، وهو ما يساوي تقريباً: 1018^.

وهذا يعني أننا نحتاج لكي نرسم كلّ اللوحات الممكنة، إلى عدد من الأعوام يساوي: 10^92000 تقسيم 10^18، أنت تعرف من الرياضيات أنّ قسمة الأسس تتم عبر طرح الأسس، وفي الواقع طرح العدد 18 من 92 ألفا سيعطينا رقم لا يبتعد كثيراً عن سابقيه.

دعنا نفترض أنّنا نستخدم مليار حاسب (10 أس 9) في تجربتنا، هذا سيعطينا (10^18) × (10^9) = 10^27 لوحة في العام، أعلم أعلم لا يزال الرقم تافهاً.

دعنا نفترض أنّ هُنَاك مليار كوكب مثل الأرض على كلّ منها مليار حاسب تشارك في العملية، هذا سيرفع العدد إلى (10^36) لوحة في العام، لا تقلق فأنا أعلم أنّ الرقم لا يزال غير مجدياً!

هذا يعني أننا نحتاج في سبيل رسم كل اللوحات إلى زمن يساوي 10^(92 ألفا – 36) من السنوات، أي نحو مليار مضروباً في نفسه 10 آلاف مرّة من السنوات، أعلم أنّ الرقم خرج من دماغك وأنك تخاف من هذا التفكير لذلك قرأته مسرعاً، لذلك نحن بحاجة إلى إعادة تبسيط الأمور، لنكسر الشاشة ذات الأبعاد 480 × 640، ولنستخدم شاشة دقتها 80 × 80 نقطة فقط، هذا سيجعلنا ننتظر 10^2000 من السنوات، أوبااا، ما زلنا لا نفهم الأرقام المرعبة هذه، إذن فلنقلص الشاشة إلى: 20 × 20 نقطة، أي نحو 5% فقط من أبعاد شاشة الحاسب الأولى القديمة، أي شاشة قطرها أقل من بوصة، هذا غير كافٍ لرسم لوحة واضحة المعالم والتفاصيل، لكن نتجاوز الأمر، وهذا يعني 2^400 = 10^120، وهذا ما يحتاج إلى أكثر من (10^80) عاماً لتجربتها، أي مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار سنة.

سنفترض أنّ لكل لوحة مليار نسخة مقاربة ناتجة عن اختلاف مواضع بعض النقاط، إذ يمكن مطابقتها بالصورة الحقيقية لكن باختلافات طفيفة، هذا مُستحيل مع لوحة حجمها 20×20 نقطة لكن لأجل الأخوّة سنتجاوز، هذا لن يغير شيء يُذكر في الأرقام السابقة، سننتظر 10^71 عاماً، بدلاً من 10^80 عام.

رابط 10 فيديو توضيحي لشرح النظام

https://bit.ly/34qD9Gg

رابط التحميل

http://bit.ly/37LtpYH

تكرم، مرة خامسة لأجل عيون مونيكا، لنكن كرماء، ونفترض أنّ لكل لوحة مليار مليار احتمال، هذا سيجعلنا ننتظر 10^62 عام، أنت لا تصدق هذا الكلام، حسناً لا مُشكِلة، هاك الرابط بالأسفل به الشيفرة البرمجية لتجربة الأمر بنفسك.

لو قمنا بتشغيل هذا البرنامج العشوائي لرسم اللوحات بافتراض أنه لن يكرر أي لوحة -وهذا لن يحدث في الواقع- فما هو احتمال أن نحصل على اللوحات الموجودة في متحف اللوفر، أو حتى على لوحة الموناليزا فقط؟ لو جربت البرنامج السابق، فلن تحصل إلا على فوضى من النقاط البيضاء والسوداء.


شكل 30 برنامج المتاهة

يمثل (شكل 30 برنامج المتاهة) برنامج اسمه Maze يحاول حل متاهة تتكون من ٢٠×٢٠ خانة، عند الضغط على زر “متاهة عشوائية” سيرسم البرنامج الصورة الصغيرة التي تكلمنا عنها هنا وذلك بتلوين الخانات عشوائيا بالأبيض والأسود، حاول أن تجرب إلى أن تمل، وانظر هل ستحصل على كلمات أو على صور لها معنى أم لا، لا تنسَ أن تلاحظ أننا تحكمنا في عشوائية الأبيض والأسود، فقد تكون النقاط السوداء أقل من ثلث النقاط البيضاء، ليجد الإنسان الآلي طرقاً يمشي فيها لأنّ البرنامج يعتبر الخانة السوداء عائقاً، أيضاً لاحظ أنك لا تستطيع فعلياً كتابة البرنامج الذي يحفظ الصور العشوائية في ملفات، لأنك لو فعلت هذا فستستهلك كل مساحة القرص الصلب قبل أن تحصي من الاحتمالات عدداً ملموساً.

وماذا لو علمت أنّ عدد أنواع الأحياء على سطح الأرض يقدر بنحو 4.5 مليون نوع، فما هو احتمال أن نحصل على لوحات ثنائية البعد من اللونين الأبيض والأسود لأيّ من هذه الأحياء عبر برنامجنا للرسم العشوائي!

هذا الاحتمال سيساوي 4.5 مليون من (10 ^120) أي 1 من (10^113).

دعنا نفترض أنّ لكل لوحة مليار مليار نسخة مقاربة، أي أنّ الاحتمال سيكون 1 من (10^96)، وإنّ كمية الاستحالات التي توضحها لنا الأرقام يظهر عبثية التفكير في خيار الاحتمالات عبر الصدفة، هذا ونحن نتكلم عن لوحة بحجم صغير 20 نقطة × 20 نقطة وثنائية البعد أي مسطحة بلونين فقط هما الأبيض والأسود، فما بالنا عندما نتكلم عن مجسمات ثلاثية البعد، وما بالنا لو لم تكن هذه المجسمات مُجرَّد رسوم، بل كائنات حية من لحم ودم تحمل تركيباً تقنياً مُعقَّداً، يستغرق الكلام عنه آلاف المجلدات من حصيلة بحوث العُلماء عبر القرون.

لعلك تعلم أنّ الكائنات الحية يمكن تشبيهها بالبرامج التشغيلية في الحاسوب فالجينوم الخاص بها يشابه عدد أسطر الشيفرات البرمجية، هذا لو افترضنا أنّ شيفرة الدنا كافية في بناء نظام الإنسان الكامل، وما استعرضناه يبين أنها غير كافية، ولكن افترض أنها كافية، وإنّ تغيير حرف واحد من الكود البرمجي قد يُؤَدِي إلى دمار البرنامج بالكامل، نسيان فاصلة واحدة قد توقف المشروع بالكامل، وتغيير شيء واحد في سطر ما سيجعل البرنامج يعمل بطريقة سيئة تجعل العملية فاشلة برمتها، وهذا ونحن نتكلم عن برنامج بعدة أسطر، فما بالكم ببرنامج بألف سطر، أو مليون سطر؟ أو بلايين الأسطر المتداخلة.

كل خلية في الكائن الحي تحتوي في نواتها على الكود البرمجي لكل الكائن يمكن نقلها والقراءة منها، في جسم الإنسان في كل خلية يُوجد هذا الكود البرمجي بالكامل، ولو قمنا بمقارنة هذه الشيفرات الحيوية مع الشيفرات البرمجية سنرى مدى تعقيدها، وهناك من عمل على هذا الأمر كما في (شكل 31 عدد أسطر شيفرات الكائنات)، نلاحظ فيها أنّ الفأر يمتلك 120 مليون سطر برمجي في نواة كل خلية من خلاياه، وأنّ تغيير سطر واحد في البرنامج ينتج عنه أخطاء في البرنامج تؤدي إلى تلفه، وما حدث أبداً أنّ خطأً برمجياً في أحد البرامج أدى إلى حصول البرنامج على ميزة جديدة لم تكن موجودة فيه، مثلاً برنامج يقرأ ملفات صوتية، أمسى يقرأ ملفات صوتية وفيديو كليب بسبب خطأ ما، والخطأ في برنامج الحاسوب يساوي الطفرة في الكائنات الحية.

رابط 11 كم مليون سطر من الكود يستغرق الأمر

https://bit.ly/33UfYmk


شكل 31 عدد أسطر شيفرات الكائنات

ونلاحظ أنّ محرك الألعاب كراي انجين 2 يقارب في حجمه حجم البكتيريا، وكيرنال اللينكس القديم يحتوي على ضعف حجم البكتيريا

الكائنات الدنيا

كثيراً ما يتم ذكر البكتيريا والبراميسيوم والبروتوزووا وغيرها أنها من الكائنات الدنيا وأنها كائنات بسيطة وبدائية، ومع تقدم العلم أكثر في دراسة هذه الكائنات، وُجد أنها كائنات كاملة واعية لها مخططها في الحياة وهدف مُحدد وآلية عمل منتظمة، ولنأخذ مثالين لتوضيح الفكرة المرتبطة حول أنها كائنات مُعقَّدة.

تُعتبَر البكتيريا من أبسط الكائنات الحية وأولها حسب التطور، البكتيريا موجودة تقريباً في كل مكان على الأرض وهُنَاك أنواع عديدة جداً منها، وهُنَاك تصنيفات حسب معيشتها، وتصنيفات حسب شكلها، وهُنَاك حسب العائل مثل الإنسان أو النبات، فالبكتيريا التي تصيب الإنسان مصممة له وكأنها وجدت معه، لكن من المفترض أنّ الأشكال المُعقَّدة من الحياة (كالإنسان) قد تطورت من أشكال الحياة البسيطة (كالبكتيريا)، إذن، كيف صممت البكتيريا نفسها لكي تصيب الإنسان القادم منها بعد ملايين السنين؟

لا يهم هذا لدى التطور، كيف للبكتيريا أن تفهم جسم الإنسان ومستقبلاته وترتبط بها وكيف للفيروسات أن تفهم الشيفرة الوراثية الكاملة للإنسان الآتي بعد ملايين السنين بعدها، لنرَ هذه البكتيريا وبساطتها بعد رؤية حواسها التي تثير الدهشة والغرابة، وسنذكر فقط أجهزة الاستشعار التي بواسطتها تستطيع هذه البكتيريا الإحساس بالبيئة المحيطة والتفاعل معها، لكي تحافظ على نفسها وتبقى على قيد الحياة، وتحتاج البكتيريا أن تبحث عن الطعام، وأن تتعايش مع بيئات عدائية في أغلب الأحيان وغيرها من سيناريوهات الحياة القاسية.

تُعد الأوليات أكبر مجموعة من الحيوانات وحيدة الخلية وعلى رأسها في الشهرة هي الأميبا، ولُوحظ أنّ الأميبا تطارد وتمسك بأوليات أخرى مثل البراميسيوم، الأمر أشبه بأسد يطارد حماراً وحشياً، هُنَاك أيضاً مجموعة من الأوليات التي تسمى المصيصيات لا تطارد غيرها للحصول على الطعام، بل تُلحق نفسها بأسطح متعددة وتمد مجساتها وتنتظر مرور كائن غير محظوظ من الأوليات مثل البراميسيوم بالقرب منها، وإذا لامسته بمجساتها فإنّ الفريسة ستُصاب بشلل على الفور، وتقوم بامتصاص جسمه عبر المجس، مما يحول الفريسة إلى غلاف منكمش في غضون دقائق، والطريقة الفعلية لنقل محتويات الفريسة غير معلومة، لكنها مدفوعة بمجموعة مدهشة من الأنيبيبات الدقيقة التي توجد داخل مجسات المصيصيات.

بعد الحصول على وجبة جيدة، ربما تُقرر المصيصيات أن تتزاوج، وهي عملية تتطلب اتصال المجسات المتحورة مع بعضها البعض مما يسمح بتبادل النوى لديها، وهي تمتلك نواة كبيرة واحدة وثلاث أنوية صغيرة، وتعيش هذه الكائنات متصلة بصفائح الخياشيم لنوع من القشريات يعيش في الماء العذب وهو الجاماروس، إذ يطرح الجاماروس قشوره باستمرار، ويخاطر المصيص بالبقاء على قشرة خالية، وفقدان الدفق المستمر من المياه على صفائح الخياشيم وما تجلبه من فرائس [10].

غير أنّ الدندروكوميتس (أحد أنواع المصيصات هذه) يدرك المراحل الأولى لعملية طرح القشور ويتحول إلى شكل يحمل أجزاء تعرف بالأهداب، تسمح له بترك هذا الكائن والعثور على مجموعة جديدة من صفائح الخياشيم، وهكذا، فإنّ للكائنات وحيدة الخلية نمط حياة على درجة التعقيد نفسها الموجودة في العديد من الكائنات متعددة الخلايا.


يوجد في النباتات وحيدة الخلية مثل الطحالب الخضراء مثل النوع كلاميدوموناس بقعة عينية داخل البلاستيدة الخضراء تظهر تحت الميكروسكوب الضوئي، والبقعة العينية هي كتلة متشابكة من الأغشية تضم صفوف من الحبيبات التي تحتوي على نحو ٢٠٠ نوع مُختلف من البروتينات، بما في ذلك الرودوبسين الموجود في شبكية العين لدى البشر، و تجعل الإشارات الصادرة من البقعة العينية الحساسة للضوء السياط الموجودة على سطح الطحالب تتحرك في أشكال مُختلفة، إذ تسبح الطحالب باتجاه الضوء، ولكن بعيداً عن الضوء الشديد، وعلى الرغم من أنه قد يُنظر إلى البقعة العينية على أنها عين بدائية، إلا أنه لا يوجد هُنَاك آلية لتكوين الصور، وليس هُنَاك حاجة لذلك؛ إذ توفر البقعة العينية جميع المعلومات المطلوبة لاحتياجات الكائن، مما يساعده على تمييز إيقاع الليل والنهار والقيام بالنشاط الخاص بالتمثيل الضوئي على أفضل نحو ممكن [10].

أثناء دراسة احتمالات تكوين البروتينات لخلية الخميرة البسيطة توّصل كلٌّ من البروفيسور بيتر تومبا وجورج روز [40] إلى أرقام إحصائية مدهشة، فاحتمالية تكوّن سلسلة من رفات الإيثانول كانت احتمال واحد من 10^95 احتمال، ثم قام العالمان بجمع الاحتمالات كلها معاً ليظهر لنا رقم مرعب وهو 10 مرفوعاً للأس 79,000,000,000 مع العلم أنّ عدد الجزيئات في الكون يقارب من 10 مرفوعة للأس 79 دون باقي الأصفار [41]، وهذا ما يغير الفكرة عن الكائنات التي يُقال عنها أنها بسيطة، حيث يتضح أنها كائنات شديدة التعقيد.

بالمجمل هُنَاك الكثير من الأمور المُدهشة التي تقوم بها الكائنات البدائية وعلى رأسها البكتيريا مثل:

  1. تستطيع البكتيريا أن تشعر بالصوت وتميزه وتتصرف بناء عليه، أي أنّ للبكتيريا آذاناً كيميائية.
  2. تستطيع البكتيريا شم المواد الكيميائية وتتقرب إليها أو تبتعد عنها، وبناء على توافر معادن معينة في البيئة المحيطة تستطيع البكتريا أن تستشعر بها وتقترب منها أو تبتعد عنها.
  3. بعد أن تشم المواد، تتذوق البكتيريا هذه المواد وتميز ما يناسبها.
  4. تستجيب البكتيريا للضوء كما لو أنّ لها عينين، وتتصرف بناء على درجة الضوء.
  5. تشعر البكتيريا بالجاذبية.
  6. وتشعر كذلك بالمجال المغناطيسي.
  7. وتشعر كذلك بالضغط الأسموزي Osmolality وبالضغط الملحي Osmolarity وتميزه وتتصرف بشكلٍ واعٍ بناءً على ذلك.
  8. تُميّز وتشعر بالأس الهيدروجيني pH الذي له دور كبير في تحرك البكتيريا وعملياتها، ولديها مستقبلات إلكترونات، فهُنَاك بكتيريا تلتهم الإلكترونات.
  9. تُميّز تغييرات درجة الحرارة في الوسط المحيط.
  10. تحتوي على رادار يُميز الفيروسات المحيطة وتتصرف بناء على ذلك.
  11. ورادار آخر يُميز وجود مصادر طاقة قريبة لتتغذى عليها.

كل عملية من العمليات السابقة كلّفت البشرية عشرات الاكتشافات ومئات العُلماء لبناء أجهزة استشعار لها في هذا القرن المتطور، فضلاً عن مئات العمليات اليومية التي تقوم بها البكتيريا مثل تصنيع البروتينات والانقسام الثنائي والحماية وإدخال المواد وإخراج المواد والأكل والهضم والموت … إلخ، فلا أعلم كيف يمكن اعتبار البكتيريا كائن بسيط في ظل كل هذه العمليات!

السياط والأهداب

تتحرك هذه الكائنات البسيطة في الأوساط السائلة وتنتقل من مكان إلى آخر بتوجيه مُعين حسب رغبات المستشعرات عبر المحرك الحيوي الخاص بها، فعادة ما يحرك واحد أو اثنان من الذيول أو السياط الخلية عبر وسط مائي من خلال إحداث سلسلة من الموجات، أيضاً تتم الحركة نفسها عبر الأنسجة الطلائية التي تُبطِن بعض الأعضاء مثل الرئتين، والخلايا المغطاة بالعديد من السياط تسمى أهداب، وهي عادة ما توجد بأعداد كبيرة كالتي تحرك طبقة سطحية من المخاط في القصبة الهوائية، إذ تتحرك الأهداب جيئةً وذهاباً منتجةً طبقة مخاطية تتحرك بشكل منتظم لأعلى اتجاه الحنجرة، مما يمنع أي تراكم للعوامل المعدية المحتملة في مجرى التنفس.

رسم توضيحي 16 تركيب السياط في البكتيريا

تمتلك بعض أنواع البكتيريا سياطاً للحركة، وهذه السياط في وصف بعض الكتاب أكثر تعقيداً من طائرة بوينج 747! لاحظ أنّ السوط وحده أعقد من طائرة، وليست الخلية ككل، تتكون السياط من ذيل حلزوني صلب يعمل كجهاز دفع يدور عند قاعدته بواسطة محرك جزيئي، تكون السياط والأهداب في حقيقيات النواة مثبتة داخل الخلية بواسطة بنية تدعى الجسم القاعدي، وتنتج حركتها الشبيهة بحركة السوط داخل السوط نفسه بواسطة منظومة من الأُنيبيبات الدقيقة المنتظمة في بنية تسمى الخيط المحوري، في كتاب الخلية يقول دون فاوسيت، قليلة هي الأنشطة الخلوية التي أذهلت مختصي علم الخلايا أكثر مما أذهلتهم حركة السياط والأهداب، إذ يتكون خيط السوط المحوري من زوج مركزي من الأُنيبيبات الدقيقة محاط بتسعة أنابيب صغيرة محيطية وفي داخل الخلية يتكون الجسم القاعدي بفعل أسطوانة قصيرة مكونة من تسع مجموعات ثلاثية من الأُنيبيبات الدقيقة بلا زوج مركزي [10]، ولكن ما الذي يجعل هذه الحركة ممكنة؟ ما هو المحرك الرئيسي لها؟ في عام 2012 أحرز اثنان من العُلماء في جامعة أوساكا تقدماً في حل هذا السؤال بالاعتماد على تقنية التصوير Electron cryotomography، إذ وجدوا مصدر الطاقة الذي يجعل بكتيريا MO-1 marine bacterium قادرة على السباحة بكفاءة وهي واحدة من أقدم أنواع البكتيريا،

رابط12 شرح حركة السوط

https://bit.ly/2FTZumm

كان هُنَاك 7 محركات مرتبة بشكلٍ سداسي، مرتبطة بتروس تتفاعل مع 24 ترس بينية للحركة، إذ تتحرك التروس السبع في اتجاه، وتتحرك التروس الصغيرة في اتجاهٍ معاكسٍ لتضخيم عزم الدوران ولتقليل الاحتكاك، وسرعة هذا السوط عالية جداً مقارنة بحجم جسم البكتيريا حتى أُطلق عليه لقب سوط الفيراري، فهو ينقلها من مكانها 100 مرة طول الخلية في الثانية الواحدة، مع العلم أنّ الفهد الصيّاد أسرع المخلوقات يتحرك 25 مرة طوله في الثانية الواحدة، وهذا يجعلها بكتيريا طائرة وليست سابحة، ويقول العُلماء أنّ إيجاد بروتينات مصممة كما محرك الطائرة منذ القدم بحجم 50 نانوميتر وتتحرك 100 ألف مرة في الثانية لهو أمر محير جداً، وأزيدك من الشعر بيت أنّ كفاءة هذا النظام حسب قوانين الديناميكا تصل إلى 100% وهذه كفاءة مُستحيلة، لم يصل البشر بأعتى عقول مهندسيها إلى ربعها في صناعة أي محرك أو آلة، أي أنّ فقد الطاقة في هذا المحرك هو صفر، كل قرش طاقة يتم الاستفادة منه، وهذه قدرات فوق بشرية بمراحل، سبحانك يا صدفة ما أعظمك، ألم تستطيعي جمعي حينما كنت في أوروبا بمونيكا!

رسم توضيحي 17 تركيب سوط MO-1 marine bacterium

التطور

صورة 5 صورة تعبيرية عن كائن يتطور

نظرية التطور

نظرية التطور عبارة عن مجموعة من الفرضيات التي تحاول تفسير وجود الحياة على كوكب الأرض، وتؤكد النظرية على أنّ كل الكائنات الحية قد تطورت من سلف مُشترك عاش في الماضي السحيق، هذا الكائن أشبه بالبكتيريا أو أبسط منها، ثم تم إضافة تغييرات على الكائنات نتيجة عدة عوامل أدّت إلى انتقال الصفات إلى الأبناء، ثم تستطرد النظرية في العملية التطورية إلى أن تقول أنّ هُنَاك سلف ما شبيه بالقرود تطور منه الإنسان، ليس خلافنا أنّ السلف هذا تطور منه الإنسان أو تطور الإنسان والقرد على حد سواء، المهم أنّ كل الأسلاف بدورها انحدرت من كائنات أكثر بدائية، وبعد زمن طويل من سلاسل التطور، حدث الانحدار الحيوي وظهرت أنواع جديدة أكثر ذكاءً وقوة وأفضل من السابقة والزمن المذكور هنا زمن طويل وليس عاماً أو عامين بل ملايين الأعوام.

الكثير قيل وأقيل حول التطور وآلياته ومن واقع ما هو موجود ينقسم العُلماء المُؤمِنون بالتطور إلى عدة مدارس واتجاهات، فمثلاً هُنَاك التطوريون الذين يؤمنون بإمكانية نشوء الحياة من الصفر على الأرض، وهُنَاك من يؤمن بالتطور الموجه، أي أنّ الله أو الكائنات الفضائية أو ثانوس قد صنع الخلية الأولى أو أحد الأشكال البدائية ثم تطورت لاحقاً، أو أنّ الطبيعة أو الكائنات الحية لديها قوة ضاغطة نحو التطور، وهُنَاك نظرية التطور القديمة، وكذلك النظرية الحديثة، وهُنَاك النظرية الأحدث إذ تتعدل كل فترة وأخرى، لكن في كل المدارس أو الصور نجد أنّ نظرية التطور تعتمد على بعض المفاهيم الأساسية لتفسير نشوء الأنواع، أساسها التكاثر والتوريث Heredity، التنوّع Variation، والانتقاء Selection وبالمختصر:

  1. الطفرات Mutations العشوائية أو الذكية التي تمنح الكائن ما يعينه على ضغوطات الحياة.
  2. هُنَاك سلف أو أسلاف مُشتركة للكائنات انحدرت منها كل الحيوانات (النشوء والارتقاء).
  3. الاصطفاء أو الانتخاب الطبيعي Natural Selection إذ يتكاثر الأصلح ويحدث تهجينات تساهم في تأقلمه وتحسين الجنس، والزمن الطويل كافي بكل التغييرات هذه، ويُؤَدِي هذا الأمر إلى مفهوم آخر هو الانحراف الوراثي Genetic drift.
  4. انتقال المورثات أو هجرتها Migration أو انسيابها Gene flow، إذ يساهم هذا الانتقال إلى تداخل المورثات.

نحن الآن أمام خيارين لا ثالث لهما لتفسير نشوء الحياة، الخيار الأول: هو ظهور الحياة بسبب الخالق، أو الخيار الثاني القائل: إنّ الحياة ظهرت من لا شيء ثم بسبب الصدف والاحتمالات حدث التطور، وهُنَاك فريق يحاول أن يوفق بين هذين الخيارين، فينادي بالتطور الموجه، إذ لا نعلم كيف ظهرت كائنات دنيا، قد يكون شيء اسمه الله خلقها أو تطورت، نحن لا ندري بالضبط، لكنها تطورت وانحدرت إلى الأجناس العليا، بل حتى التطور الموجه به نظريات مُختلفة ومتضادة، مثل التطور البطيء، أو التطور السريع القافز، أو التطور المتوازي أو التطور المتباعد، والعديد من النظريات الفرعية الأخرى، وما زال العُلماء يتناحرون بلا اتفاق حتى يومنا هذا.

إنّ فكرة التطور ليست وليدة أفكار داروين، فقد تكلم في عصره علماء آخرون، وقبله أيضاً وقبله بفترات طويلة، بل وتكلم فيها علماء مُسلمون كُثُر مثل الجاحظ وابن خلدون، وتعود الفكرة في طرحها إلى زمن فلاسفة اليونان، وهذا أمرٌ منطقي فحينما ترى تقارب أشكال الكائنات يبدو أمامك نمطاً جلياً بوجود تطور من وإلى، فحينما تنظر إلى سلالات القرود وتقارنها ببعضها ثم بالإنسان، ترى حقاً أنّ هُنَاك شبه تسلسل وكأنك تنظر إلى الأقدم ثم الأحدث، وهذه ميزة كل عين ناقدة ثاقبة تحاول رؤية الأمور كما هي ومن ثم تحاول أن تفسرها، إلا أنّ تشارلز داروين في كتابه أصل الأنواع جمع كل الأفكار وأطلقها وكانت البداية، وألحقه بكتاب ذي أثر كبير اسمه أصل الإنسان The Descent of Man.

يتحدث كتاب أصل الأنواع عن مشاهدات داروين في رحلته على متن البيجل، ومن ثم قام بتدوينها على شكل نظرية بسيطة، كما يفكر كل طفل أو كل عالم حين يدون أفكاره البسيطة على الورق حتى يحفظها ثم يبحث فيها لاحقاً، وليس الهدف منها تثبيت حقائق علمية في المجمل، وفي كل كتابات داروين تراه يتكلم عن نظرية، نظرية وليس حقائق، مثلاً أن يقول إني رأيت حيوان أ، يشبه حيوان ب في كذا وكذا، فعلى ما يبدو أنّ حيوان أ كان سابقاً حيوان ب، وهكذا، ولا يؤكد داروين ما يشاهده وإنما يطرح أفكار.

ويجب التنبيه إلى أنّ كلمة تَطَوُّر كلمةٌ فضفاضة، فهي تعني الكثير، فالتطور يُستخدم في وصف التغيير الجيني عبر الزمن، وهذا ما يتفق عليه الجميع، ولكنهم يدعونه بالتطور مجازاً، والانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح يطلقون عليه تطوراً وهو التطور الذي لا يتفق الجميع على لفظته وهذا ما نتحدث عنه هنا، ومن المهم أيضاً التنويه على أنّ نظرية التطور قد مرت بتغييرات جذرية في مبادئها، فأيام لامارك قبل علم الوراثة تختلف عن أيامنا هذه، وعلى هذا كان يجب تغيير فكرة الانتخاب الطبيعي وتغذيتها بأفكار العلم الحديث، وظهرت الدارونية الحديثة التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، ولهذا تجد اختلافاً في تفسير بعض النقاط في الكتب القديمة عن الحديثة.

ثَمّة فرق بين مفهوم التطور ومفهوم التكيف، ففي الغالب حينما يذكر التكيف في سياق التطور فهو يُقصد به تطور حدث فعلياً على الكائن، في حين ذكر كلمة التكيف من المفترض أن تعني أنّ الكائن الحي يتفاعل مع بيئته فيقوم الدنا بتفعيل جينات معينة موجودة به سابقاً لتحاكي الظروف التي تعرض لها في البيئة، إذاً التكيف آلية موجودة مسبقاً في جينات الكائن وليست أمراً طارئاً عليه، وربط التكيف بالانتخاب الطبيعي أمر غير صائب، ولا يجب التطرق له خصوصاً بعد ظهور علم فوق الجينات وانتهاء هذه الفكرة القديمة.

وبقي أن نذكر قضية التهجين، فالتهجين ناتج عن اختيار صفات معينة مناسبة في الكائن من النوع نفسه، وتنتج عنها صفات مُفيدة لكن لا تنتج عنها صفات جديدة، فتزاوج إنسان طويل مع إنسان أزرق العينين ينتج عنه إنسان طويل وأزرق العينين، ولو زاوجنا طويل مع طويل يفترض أن ينتج إنسان طويل، لكن لا يمكن أن تنتج صفة جديدة كصفة الطيران، كل هذه الصفات موجودة ضمن حوض الجينات Genetic Pool وفي شيء آخر يطلق عليه الاختلافات فوق الجينية Epigenetic variation ولا توجد خصائص جديدة، كأن تقوم بخلط لون أصفر مع لون أحمر ويعطيك برتقالي، ظهور اللون البرتقالي موجود مسبقاً في النظام وليس أمراً جديداً خارقاً.

إنّ مناقشة نظرية التطور ومعارضة أي شيء فيها لا يعنى نبذ العلم، بل هي محاولة علمية كما سنرى لعرض العلم والرد على العلم بالعلم.

الانتخاب الطبيعي

في الغابة هُنَاك الأسود والغزلان، وفي جنس كل منهما أفراد يمتلكون صفاتٍ متباينة، ففي الغزلان تتوفر صفات القوة والمرونة العضلية في بعض الأفراد وأيضاً هُنَاك صفات الضعف والبنيان المتواضع في أفراد أخرى، تبقى الصفات متوزعة في القطيع دون مشاكل إلى أن يهاجمهم قطيع الأسود بشكل يومي، فسيتم اصطياد الغزلان الضعيفة بشكل أكبر، وسيتعايش أفراد الغزلان القوية وستتزاوج وتتكاثر وستختار الطبيعة بهذا الشكل الأفراد الأقوى والذين بدورهم سيتكاثرون مع الأقوياء وبهذا سيبقى نظرياً الأصلح أو الأكثر قدرةً على التكيف.

سادت هذه النظرة القديمة حول الانتخاب الطبيعي حتى ظهور النسخة الحديثة من نظرية التطور التي أكدت أنّ هذا لا يكفي لحدوث التغيير في الكائنات والسبب هو أنّ الانتخاب الطبيعي بشكله البسيط هذا لا يحدث، فالضعفاء لا ينقرضون بل يقل عددهم في فترة ما، ثم يعاود ظهورهم من جديد في فترات أخرى كما لو لم يتغير شيء، كذلك الجينات تبقى مخزنة لأجيال في الدنا وتظهر لاحقاً حتى لو مات كل الضعفاء في القطيع، والشواهد كثيرة مثل ظاهرة الفراشات البيضاء والسوداء في بريطانيا، والأهم من كل هذا أنّ الانتخاب الطبيعي لا يُؤَدِي إلى ظهور صفات جديدة، كأن تطير الغزالة أو تركب دواليب ويدفعها صاروخ، الانتخاب الطبيعي يُميّز الصفات من حوض الجينات فقط ولا بيانات إضافية تلحق بالدنا، لديك خزانة معدة مسبقاً بشتى أنواع الملابس، أنت تلبس اللباس المناسب لك في كل مناسبة، الملابس هذه موجودة في خزانتك وليست ميزة تطورية في جلدك، أنت تستخدم المتوفر غير الظاهر للجميع في خزانتك، وهذا ما يقوله العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنفسهم، أيضاً من المفترض ألا ينتج الانتخاب الطبيعي صفات مُفيدة فحسب فالقوي قد يكون لديه أمراض وراثية تنتقل إلى الأجيال اللاحقة، لذلك من المهم النظر للانتخاب كأنه عملية عادية وليست يد ذكية تنحت في الصخر، إنها عملية بلا هدف أو وعي.

رسم توضيحي 18 آلية الانتخاب الطبيعي

في الانتخاب الطبيعي يكون الأمر أقرب إلى الحصول على مزايا التهجين، فقد نستبعد صفات ونركز على صفات، وكل العاملون في مجالات إثبات حقيقة الانتخاب الطبيعي استطاعوا بعملهم أن يصلوا إلى نقطة معينة لا يمكن تجاوزها، إذ تعود الحيوانات والنباتات إلى نقطة البداية، برغم ما بذلوه من جهود جبارة طوال قرنين، فليس من الممكن الحصول على وردة زرقاء أو على شقائق نعمانية سوداء، ولم نرَ هذا حصل سابقاً ولن يحصل يوماً في الطبيعة رغم محاولات المهجنين، مرة أخرى لا يمكن أن ينتج أي أحد نوعاً جديداً بواسطة آليات الانتخاب الطبيعي، وهذا ما أدّى إلى تحديث هذه الفكرة وإضافة ملحقات مثل الطفرات وغيرها من المبادئ، لكن الموضوع بحاجة إلى المزيد من البحث، فالدراسات الحديثة تبين أنه حتى الحيوانات لا يلزمها التدافع والتمايز والتنافس لتعيش وتتكاثر [42]، فثَمّة أشخاص حينما تراهم تتعجب وتتساءل كيف تزوج هؤلاء، ليس هُنَاك ما يميز أحدهم، لكن ماذا نقول، الحب أعمى.

إنّ التقارب في الشكل أو في الدنا بين الكائنات لا يفسر لماذا توجد كل هذه الاختلافات بين الأجناس لاحقاً، فما سبب هذه الاختلافات في شكل الكائنات أو أجناسها، وما هي الميزة التطورية للبقرة عن الخنزير، لا يفسر الانتخاب الطبيعي هذا الأمر، لذلك لجأ العُلماء إلى إضافة فكرة الانتخاب الجنسي، إذ يفترض التطور أن يختار الذكر والأنثى في عملية التزاوج الأفضل، فينتج سلالات أقوى، ولكن هذه مرة أخرى فكرة غير دقيقة، فيتزاوج الأقوى مع الأجمل مثلاً في عالم الحيوان، فيبقى الأضعف يتزاوج مع الأبشع، ومن المفترض أن ينقرض ويتناقص الأضعف، لكن كما نعلم يجب على الضعيف أن يتزاوج، وفي عالم الإنسان نجد أنّ معايير الجمال مُختلفة، ومعايير القوة مُختلفة، فشخص قوي قبيح قد يكون غبي يتزوج من فتاة جميلة وغبية، وينتج سلالة قبيحة غبية، أو فتاة جميلة جداً تتزوج من غبي قد ورث مالاً، أو حتى شخص ذكي وقوي يتزوج من قبيحة لكن ذوقه هكذا، أو أنها أغرته بحركاتها .. إلخ، الجمال نسبي بين الناس، والقوة كذلك.

هُنَاك العديد من الأسئلة التي هي بحاجة إلى إجابة في الانتخاب الطبيعي، منها أنّ أي عضو جديد في الكائن الحي من المفترض أن يبدأ بسيطاً وغالباً معطوباً غير مكتمل فلماذا يختاره الانتخاب الطبيعي كصفة مُفيدة وهو تالف، فلا فائدة من نتوء في عظمة لتكوّن اليد مستقبلاً، لماذا يحافظ عليها الانتخاب الطبيعي وهي زائدة لا فائدة منها، أم أنّ الانتخاب الطبيعي لديه خريطة معمارية للبناء والهيكل، فيقول، دعوا هذه الزائدة، فهي ستكون حسب الخريطة المطبخ بعد آلاف آلاف السنين!

الطفرات

إنّ التطفر أو حدوث الطفرة عبارة عن عملية تغيير في تسلسل الأحماض الأمينية في خريطة الدنا، وتغيير تسلسل الدنا من المُفترض أنّ يغير في وظيفة الجين المسؤول عن شيء ما، نحن نعلم أنّ الدنا يتكون من 4 رموز ولنفترض أنها حروف كلمة أبجد، وكان الدنا مرتب لدينا بالشكل الحالي:

أبأببجداًأأأجدجأأأدجدأدأدأدأدأجبجبجبجبجبجب

وحدثت طفرة ما بسبب إشعاع أو مادة كيميائية، وأمسى الدنا منقوصاً بهذا الشكل.

أبأببجداًأأأجدجأأأدجأدأدأدأجبجبجبجبجبجب

فمن المُفترض حسب التطفر أن يعني هذا شيئاً ما، تغيير جين معين، تغيير شكل بروتين معين، أو ما شابه.

يُمكن للتطفر أن يكون مُفيداً أو ضاراً أو بلا أي تأثير للكائنات الحية، فالتطور لا يحاول أن يقدم للكائن الحي ما يريده على طبق من ذهب، هو عملية عشوائية فلا كوابح ولا خرائط له، وأغلب الطفرات لا تقدم فائدة في عملية التطور، هُنَاك نقطة مهمة هو أنّ في كل خلية دنا كامل لجسم الإنسان، ولو حدثت الطفرة في خلية جسدية Somatic cell في الجلد على سبيل المثال، فهذا سيؤثر على الخلية الأخرى المنقسمة منها، ولكن هذه الطفرة لا تنتقل للأجيال القادمة، ولكي تنتقل الطفرة للأجيال القامة يجب أن تحدث في خلايا التكاثر Reproductive cells، الحيوان المنوي في الذكر والخلايا المسؤولة عنه، والبويضة في الأنثى والخلايا المرتبطة بها، وذلك لتنتقل للأجيال القادمة، وإلا فلا هدف تطوري حقيقي من الطفرة.

الطفرات التي تحدث على الجينات تشبه طرق اللابتوب بالمطرقة، ستضره لأنك تمارس عملية هدم إلا إذا حالفك الحظ وهذا أمر نادر الحدوث، بشكل عام الطفرات المُفيدة إما هدّامة Constructive أو بنّاءة Destructive لكن على الأغلب فإن الطفرات هدّامة وليست بناءة، وإنّ التطور يرى خسارة أي جين مُفيد قد يُعد أمراً مُفيداً! كأن أقطع يدك وأخبرك أنك أصبحت أفضل لأنه لا يمكن الآن أن يتم تقييد كلتا يديك خلف ظهرك من قبل حكومتك الدكتاتورية!

مثال آخر على الطفرات الهدّامة هو ما يحدث في مريض الثلاسيميا المصاب بالملاريا، على الرغم من أنّ طفرة الثلاسيميا قد غيّرت في جسم الإنسان كثيراً، لكنها للأسف ليست مُفيدة، على الرغم أنّ مريض الثلاسيميا محفوظ من الإصابة بالملاريا، ولكن انظر إلى صحته ومتى يموت! والثلاسيميا مرض واحد من آلاف الأمراض الأخرى المرعبة التي تقلب حياة الإنسان رأساً على عقب، والتطفر في البشر يشابه التطفر في الكائنات الأخرى، الطفرات مسؤولة عن تغييرات كما حدث في مناقير عصافير داروين، فهي مثال على الطفرات الهدّامة (دراسات حديثة تحيله إلى عوامل فوق جينية كما أشرنا) ولكنها لم تقم بإضافة بيانات جديدة، أيضاً على الرغم من حصول ذبابة الفاكهة على أقدام في رأسها أثناء عمليات التطفر، واعتبر العُلماء أنّ هذا دليل قوي على قوة الطفرات، إلا أنه ما فائدة أرجل في الرأس! من أين تأتي البيانات الجديدة للكائنات الحية، مثل اليد أو العين أو السونار، علاوةً على أنّه لا يفترض أن يكون للصدفة علاقة بما قبلها، فطفرة جيدة ممكن هدمها أو إهدارها بطفرات لاحقة.

بالإضافة إلى أنّ أي تغيير غير محسوب في دنا الكائنات الحية قد يُؤَدِي إلى هلاكها، أبسط الأخطاء من تغيير شكل بروتين أو حذفه أو تعطيله ستكون كارثية على الكائن، فملايين الطفرات لن ينتج عنها ملايين الكائنات الطبيعية، بل سينتج آلاف الموتى، وآلاف الأمراض القاتلة، التي ستجعل الكائن غير قادر على التنافس.

لدينا لوحة الموناليزا، أطلقنا عليها طلقة نارية، هل نتوقع أن تتحول إلى لوحة أفضل! التطفر يفعل الشيء نفسه، طلقة إشعاعية ستثقب الصورة، ومادة كيميائية ستذيب اللون، كتاب من 1000 صفحة قمنا بتمزيق 5 صفحات عشوائية، أو قمنا بنقل 20 صفحة إلى مواضع مُختلفة هل سيبقى الكتاب مفهوماً؟ هل الكتاب الذي يتحدث عن الفيزياء النووية بعد التمزيق سيصبح يتحدث عن حياة الطيور في القطب الشمالي! هذا لا يحصل للأسف.

جرب برنامج يقوم بأخذ حروف من كلمات ويقوم بتبديلها في كلمات أخرى وانظر هل سنحصل على شيء مُفيد؟ ما هي احتمالات أن نقلب الأحرف لنحصل على شيء ذو قيمة، أو حتى الحصول على 3 كلمات متتالية مفهومة، لو افترضنا أن كل كلمة مكونة من 5 أحرف بالمتوسط، ولدينا 28 حرف، فإن الاحتمالات أمامنا هائلة للحصول على ثلاث كلمات متتالية مفهومة وذات معنى مرتبط.

يَفترض دوكينز في كتابه صانع الساعات الأعمى أنّ احتمالية أن يقوم قرد واحد بطباعة هذه الجملة ME THINKS IT IS LIKE A WEASEL هي 1 من 10^40 ولكنه يضيف أننا لو استطعنا حشد 10^40 قرد، ومع كل قرد منهم آلة كاتبه فإنّ حتماً أحدهم سيقوم بطباعة الجملة، ويا لذكاء القرد، فكيف ستضمن أنّ كل قرد لن يكتب ما قد كتبه القرد الآخر في محاولاته! حتماً سيجرب كل قرد كل احتمال، ولن يكون الأمر متتابع، فما قد كتبه القرد الأول قد يكتبه القرد الثاني، وسيجرب احتمال آخر، مع العلم أنه حينما سئل دوكينز عن جلب مثال واحد لطفرة أضافت معلومات وراثية لم يجد إجابة وقطع السؤال!

انسياب المورثات

إنّ انسياب المورثات Gene flow أو هجرتها من البُنود التي تكمل فكرة التطور، فانتقال الأفراد من تجمعات إلى تجمعات أخرى من الممكن أن يساهم حسب التطور في تحسين الصفات وتحديثها، وانتقال البذور إلى بيئات جديدة، أو انتقال البشر إلى مدن جديدة مُختلفة عن السابق من الممكن أن يُظهر نُسخاً من الجينات كانت غير موجودة (حسب

التطور) وهو من العوامل المهمة في الاختلافات الجينية حسب (شكل 32 انسياب المورثات).


شكل 32 انسياب المورثات

لنتساءل مرة أخرى، من أين تأتي المعلومات الجديدة؟ فحوض الجينات يحتوي على المعلومات الوراثية في الأصل، ولا يتم إضافة معلومات جديدة، فاليد قد تصبح أضخم أو أصغر، والذراع قد تصبح أطول أو أقصر أو ربما منحنية قليلاً، لكن لا تتحول الذراع إلى جناح، لا يوجد أي تفاصيل إضافية يمكن إضافتها على أيّ جزءٍ صغير في الكائن الحي، وهذا ما سيُوضحه التطور الصغروي.

التطور الصغروي والكبروي

التطور الصغروي

حسب نظرية التطور لقد تطور عصفور الدويري ليناسب المناخ في أمريكا الشمالية، وتطور البعوض ليناسب التغييرات المناخية في العالم، وتطورت الحشرات فأصبحت مقاومة للمبيدات الحشرية ومقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، ومن المفترض أنّ هذه أمثلة على التطور الصغروي أو الميكروي أو المجهري أو Microevolution، والذي من المُفترض أنه التغييرات التطورية التي تحدث في النوع الواحد في إطار محدود من القطيع.

من أمثلة التطور الميكروي الشائعة حسب نظرية التطور هي طفرات الملاريا، إذ كان هُنَاك طفرات هدّامة فأصبح كائن الملايا مضاداً للمضادات الحيوية، فقد حدث هذا الأمر مع الإنسان في الثلاسيميا، لكن لا أحد يمنحك تفسيراً على المستوى الحيوي أو الجزيئي كيف تطورت جينات الدويري لتناسب البرد مثلاً، أو كيف تغير جسمه بدقة وكيف أنتج مواداً جديدة وغير في هيكلية عمله بشكل يسمح له بالقيام بهذه العملية، أو كيف للحشرات أن تطور نفسها عبر الطفرات لكي تصبح منيعة ضد مواد معينة دون التغيير في جسمها والتأثير على عمل الأعضاء الأخرى، هذه النقاط البسيطة هي مربط الفرس حينما أريد أن أفهم، يخبرك التطور أنّ الأمر يعود إلى الأيائل فهي كانت كذا وأمست كذا في الكروموسومات، لكن ليس هُنَاك توضيح متكامل مترابط، ولا سجلاً واضحاً للتغييرات، إنها أشبه بفكرة تخيلية وليس هُنَاك أي دلائل عليها، ولو كنت مُؤمِناً وأردت الانتقال للتطور لما قبلت بأنصاف الحلول، أنصاف الحلول موجودة في الدين، أما العلم فيفترض به أن يقدم حلولاً كاملة لأنه يرفض أنصاف حلول الدين. يسأل شخص ما لماذا السماء زرقاء، فيجيبه آخر لأنه اللون الذي تحبه الطبيعة! وأتساءل لماذا يجب أن يتم تفسير كل شيء لم نعرف إجابته بهذا الشكل غير العلمي، هل لرغبتنا بحدوثه أي علاقة بالحقيقة؟ ما هي العلاقة الاستنباطية في هذه الفكرة الألمعية، بل الواضح في صور ما يسميه العُلماء بالتطور الصغروي هو بروز فكرة التكيف والتخطيط المُعَد مسبقاً.

وتظهر هذه الصورة بوضوح في مقاومة البكتيريا، وهي الآلية التي سنحاول فهمها وتحليلها لتوضيح جدوى التطور فيها، فمقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية يمكن أن تتم عبر آليات كثيرة منها:

  1. تقوم البكتيريا بإضافة مجموعات كيميائية للمضاد الحيوي أو إلى مستقبلات المضاد الحيوي، فيصبح المضاد الحيوي غير قادر على إجراء تأثيره ويصبح بلا قيمة، مثلاً تقوم البكتيريا في مستقبلاتها بإنتاج بروتين مُختلف عن الذي ترتبط به المضادات الحيوية وتكمل عملها بهذه الخطة رقم B، أو أن تقوم بتغيير هيكل غلافها الخارجي بالكامل.
  2. تقوم البكتيريا بإنشاء مضخات Efflux pumps تقوم بضخ المضاد الحيوي بعيداً عن الخلية، لكي يبقى تركيزه داخل الخلية في الحد الأدنى قدر المستطاع، لتقليل خطر المضاد الحيوي على عضيات الخلية.
  3. تقوم البكتيريا بتقليل نفاذية الغشاء الخلوي، فيقل دخول المضاد الحيوي إليها.
  4. تنتج البكتيريا إنزيمات تقوم بتدمير المضاد الحيوي وتكسرّه، كما يحدث في مقاومة البنسيلينات عبر إنزيم البيتا لاكتاميز β-lactamase الذي يؤرق الطب والعُلماء حول العالَم لما للبكتيريا من مقاومة سريعة حتى في أحدث المضادات الحيوية.

تملك بعض أنواع البكتيريا عدة آليات لمقاومة المضاد الحيوي وليست آلية واحدة، وبعضها يقوم بنقل خطة المقاومة إلى خلية أخرى عبر عدة طرق سجل العُلماء منها ثلاثة وهي:

  1. الاقتران Conjugation: ترتبط الخلية بخلية أخرى كما التزاوج، وتنقل الدنا الخاص بالمقاومة عبر جسيم صغير يسمى البلازميد Plasmid.
  2. التحويل Transformation: يمكن للخلية أن تجمع الدنا من الوسط المحيط وتضيفه في جينومها، مثلاً تأخذه من خلية أخرى ميتة متحللة.
  3. التوضيح Transduction: تنقل الخلية الدنا إلى خلية أخرى عبر فايروسات مخصصة Bacteriophage وهذا ما فتح آفاقاً واسعة في الطب الحديث، لأنّ هذه الفايروسات تصيب البكتيريا وهي لا تملك القدرة على مضاعفة الجينوم الخاص بها بنفسها.

رسم توضيحي 19 نقل مقاومة المضادات الحيوية عبر الطرق الثلاث المعروفة، المصدر Nature, Furuya and Lowy

هذه الطرق الهندسية المُتقنة في كشف المضاد كيميائياً عبر مُستشعِرات خاصة، وتمييز نوعه وفحصه وتحليله في مختبرات البكتيريا، ثم أن تقوم البكتيريا عبر خطة كاملة في جينومها بصناعة إنزيم مكون من مئات الأحماض الأمينية التي يتم إنتاجها بآلية دقيقة ونقلها وفق آلية دقيقة إلى مواضع مخصصة لتقوم بتكسير المضاد الحيوي تكسيراً لم يستطع العُلماء في كل المختبرات التوصل إلى فهمه إلا بصعوبة بالغة، لهو أمرٌ لا يمكن أن يعزوه صاحب منطق إلى صدف عشوائية، بل هي آلية مترابطة متكاملة مُعقَّدة أتت كما هي في لحظةٍ واحدة، بل وأن تملك البكتيريا الواحدة عدة طرق مُختلفة لمواجهة المضاد وأن تغيّر من حوائطها وبواباتها وهيكلها وغيرها، وأن تقوم البكتيريا نفسها بإفراز مضاد مُختلف حسب المضاد الحيوي الموجه لها، بالإضافة إلى قدرتها على نقل هذه الميزة إلى خلايا أخرى بطرق تخاطبية متقدمة لهو أمر يفوق التخطيط البشري مجتمعاً، فما بالك بمن يقول إنها صدف! والصدف التي ستأتي بإنزيم واحد فقط مخصص مكون من 270 حمض أميني من هذه العملية لا تكفيها احتمالات الكون كله، بالإضافة إلى أنّ فقدان أي جزء في هذا السيناريو الكامل سيُؤَدِي إلى عدم مقاومة البكتيريا ومن ثَم موتها!

لقد اكتشف العُلماء بكتيريا مقاومة محفوظة منذ مئات السنين، أي قبل ظهور مضاداتنا الحيوية، وهذا يعني أنّ المقاومة الحالية أمرٌ أصيل في البكتيريا وليس دخيلاً عليه، وكل ما في الأمر أنً البكتيريا الضعيفة تموت، وتبقى البكتيريا المقاومة لتنمو، وهذا التعقيد المُهيَّأ مسبقاً دفع علماء البكتيريا إلى التصريح بأن ما يقال حول تطور المقاومة أمرٌ ناقص ولا يجب تكراره، أمثال البروفيسور إرنست تشين الحاصل على جائزة نوبل في إنتاج البنسلين مع ألكسندر فيلمنج، وكذلك أشار الدكتور سيلمان واكسمن مكتشف مضاد الستربتومايسين الحيوي والحاصل على جائزة نوبل بقوله: إنّ ربط التطور بآليات المقاومة البكتيرية هو محض خيال علمي، وهذا ما أكده البروفيسور فيليبس سكيل مطور المضادات الحيوية بقوله: إنه ليس هُنَاك علاقة بين نظريات التطور الدارونية والمقاومة البكتيرية، ولماذا نقحم التطور في هذا الموضوع من الأصل!

التطور الكبروي

إنّ أي تغير فوق مستوى الأنواع Species، أي على مستوى العائلات Families أو الشُعب Phylum أو الجنس Genus، يُسمى بالتطور الكبروي Macroevolution وقد ينتج لنا حسب نظرية التطور نوعين مُختلفين من الكائنات الحية، إذ يحدث تغير في نسبة ظهور جين ما داخل مجموعة من الكائنات الحية وذلك بالتركيز على القطيع ككل وليس على أفراد مستقلين، ويبدو هذا ظاهراً على الكائن الحي.

ويمكن حسب التطور أن نلاحظ هذا الأمر بالنظر إلى شجرة الحياة أو السجل الأحفوري للكائنات، والسبب الرئيسي لحدوث هذا التطور هي مبادئ التطور مجتمعة التي ذكرناها بالأعلى، فمثلاً التطفر عملية صغيرة وبسيطة، لكن بدمجها مع العمليات الأخرى عبر ملايين السنين يحدث أن يتطور الحوت إلى دب، كما يقول التطور.

والنوع Species هو مجموعة من أفراد الكائنات الحية التي يمكنها من التزاوج فيما بينها وإنتاج نسل خصب، وهذا أبسط تعريف للنوع، ويتشارك أفراد هذا النوع فيما بينهم بحوض الجينات Gene Pool فقد تختلف الأفراد بصفاتها الظاهرة لكنها مخزنة في أشرطة الدنا، وحينما يحدث تزاوج يتم تهجين للصفات فينتج صفات جديدة لأفراد النوع.

رسم توضيحي 20 آلية عمل التطور الكبروي

هذا الكلام يشبه أن أجلب لك حوضاً مليئاً بالأحرف العربية وأقول لك اغرف منه، فتغرف أحرف فيكون لديك كلمات مثل ثصقي لبافثقف ؤرءرءؤيس، وكلما غرفت خرجت بكلمات جديدة من الأحرف نفسها، لكن أن تغرف ويخرج لك كلمة فيها حرف انجليزي هذا مُستحيل، كل الكلمات ستكون من سياق الأحرف الموجودة في الحوض، إنّ التطور يفسر اختلاف النسل، لكن لا يوضح كيف أتت صفات جديدة، من أين ظهرت صفة الطيران لدى الخفاش، من أين ظهر حرف ال E وحرف ال Y متقنين النحت في الحوض، الآلية الوحيدة في كل آليات التطور هي الطفرات، والطفرات كما عرفنا هي هدامة وضارة، ودمج ملايين السنين مع العمليات الأخرى لا ينتج لنا شيئاً.

إنّ تطور بروتين واحد من مجموعة أحماض أمينية كما رأينا يكلف ملايين ملايين الاحتمالات وكلما تعقد بات الأمر مُستحيلاً أكثر، فـ500 حمض أميني أعطتنا أرقاماً لا يمكن استيعابها وهي تَفُوق جداً احتمالات الكون الممكنة، فما بالكم ببروتين يحتوي على 2000 أو 20000 ألف حمض أميني، ونحن نعلم أنّ ال500 حمض أميني لو أصبحت 501 فقط، لتضاعفت الأرقام بصورة مرعبة، ناهيك بعد أن تحاول الطبيعة بالصدفة ملايين المرات ولا يموت الكائن الحي بمنتجات ضارة تتوصل الطبيعة لآلية ذكية، فتقول هذا البروتين الذي أنتجناه مُفيد، امسحوا ال 254896325 تجربة الأخرى الفاشلة من السجل، ودعونا نقوم بكتابة هذا البروتين في الدنا، تفضل أيها الرنا هذا المركب الجديد، وقم بتسليمه إلى الدنا، وأخبره أنه بروتين جديد ومُفيد، وقم بتدوينه في سجلاته، وسجل أين سنستخدمه، وكيف نستخدمه ومتى نستخدمه وهيكليته الثلاثية سجلها أيضاً، وقم بترتيب الموضوع مع مجموعات الريبوسومات والنواقل وغيرها لكي يصنعوه بدقة ويُلحقوه بالنظام ككل.

بعد إجراء نماذج المحاكاة الحاسوبية وجد كل من العالم دوريت والعالم شميت أن المدة الزمنية اللازمة لتثبيت طفرة واحدة في أسلاف الرئيسيات (البشر والقرود وغيرها) هي 6 ملايين سنة [43] وذلك في بحث قاما بنشره عام 2008م في مجلة علم الوراثة لفهم وتقدير المدة الزمنية المطلوبة لتثبيت الطفرات داخل المجموع السكاني للنوع، وأضافا أنّ الحصول على اثنتين فقط من الطفرات وتثبيتها عبر التطور في البشر بمجموع سكاني صغير سيحتاج إلى 100 مليون سنة، 100 مليون سنة لتُثبِت طفرتين، وليس مليون طفرة، أي أنّ تثبيت طفرتين في الجنس الواحد هي أكبر من العمر الزمني لتطور البشر، وهذا يتوافق مع الحديث السابق عن بناء البروتينات، إذن ستفشل كل المحاولات لتفسير ظهور الصفات الجديدة، وهنا يجب التذكير أنّ عدد الأجناس الموجودة في الكائنات الحية يقدر بمئات الآلاف، وكل جنس منها من المفترض أنه تطور بالطفرات المُفيدة والضارة في مسار متكامل لتخرج ملايين الأنواع بهذا الشكل، هُنَاك 2400 نوع من جنس الأفاعي المُختلفة في الشكل والخصائص والمزايا كما لو أن كل منها وجد بهذا الكمال المتقن!

هُنَاك نقطة إضافية، إنّ الحديث في سياق التطور نراه في سياق تطور الخلايا والمعدات الحيوية، لكن ماذا عن نظام التشغيل الذي يربط الأجزاء ويشغلها سوياً، كيف تطور أو كيف أتى إلى الوجود، فوجود قطع عتاد الحاسوب أو جوال حديث مع بعضها لا يعني أنها ستؤدي وظيفتها، بل يجب وجود نظام تشغيل أكثر تعقيداً من العتاد لينظم العمليات ويربط هذه الأجزاء بكفاءة، كل الحديث يتم في تطوير المعدات ولا أحد يذكر كيف تطورت عقلية عمل النظام.

تجارب

حاول العالم ريتشارد لينسكي اختبار التطور على المستوى الحقيقي في المختبرات، فقام بتنفيذ تجربة في 24 فبراير لعام 1988م لتأكيد التطور واستمرت التجربة سنوات طويلة (30 سنة تقريباً) كافية لتوالد68,000 جيل من بكتيريا الإشريشيا كولاي، توصل فيها إلى أنّ التطور ليس كما كان يُعتقد [44]، بل والطفرات التي سجلت في البكتيريا دائماً وأبداً هي طفرات هدامة (تقريباً 30 طفرة)، ولم توجد طفرات بناءة.

كُتبت العديد من الأبحاث لتوضيح حدوث تغيير في بكتيريا التجربة تحت مسمى التطور، لكن الحدث الأهم أنه لم يتم إضافة جين واحد على الـ 68 ألف جيل، جين واحد فقط كل ما كنا نريده، للأسف لم نَرَه، هذا يقودنا إلى الاستنتاج السابق أنّ التطور لا يضيف بيانات جديدة، بل يقلل منها، بل وهُنَاك 12 سلالة قد ماتت أثناء التجربة نتيجة لفقد الجيناتGenetic degradation فقد فقدت بعض صفاتها من ثَمَّ لم تستطع التكيف في الوسط المحيط، وهو ما سنتطرق له أيضاً في الانحلال الجيني.

وكما نحن معتادون على أنّ العُلماء المُؤمِنون بالتطور يدعون حدوث تطور، فقد أعلن بعضهم ذلك في عملية تنظيم النيتروجين في البكتيريا، إلا أنّ الأبحاث الأخرى أكدت أنّ هذه الخصائص موجودة في جينات البكتيريا، وكل ما تم هو تفعيل للجينات الموجودة نتيجة لعوامل فوق جينية، وبعض هذه التغييرات تم نقلها من سلالة إلى أخرى عبر البلازيمد، وهي طريقة موجودة في الخلايا البكتيرية وليست حادثة جديدة، لا أعلم ما هو أكثر من 68 ألف جيل أثبتت عدم وجود أي جين جديد، بل وأثبتت فقد للمعلومات، لنستنتج بذلك أنّ فكرة التطور الكبروي مُجرَّد فكرة في عقول العُلماء وليست حقيقية.

في تجربة أخرى لمحاكاة التطور، تقدم الورقة المنشورة عام 2015م أنموذجاً حاسوبياً لحساب الوقت اللازم للحصول على سلسلةٍ قصيرة للغاية من القواعد النيكليوتيدية مُحددة الوظيفة، وتثبيتها في أجيال من القردة العليا عن طريق الآليات الداروينية بالطفرات والانتخاب الطبيعي، إذ يحاكي برنامج Mendel’s Accountant عملية الطفرة والانتخاب الطبيعي عبر تحديد بداية ونهاية مستهدفة من سلاسل النيوكليوتيدات فلا يقل عدد الجيل عن 10 آلاف فرد، مع عمرٍ للجيل يبلغ 20 عاماً وفرض انتخاب قوي للغاية (انتقاء بنسبة 50٪).

تم إنشاء طفرات استبدال عشوائية ضمن سلسلة البداية، وكلما نشأ جزء في السلسلة المستهدفة تم تعيين ميزة إنجابية مُحددة لجميع الأفراد الذين يحملون هذا الجزء، وبوصول السلسلة المستهدفة إلى درجة التثبيت في الأجيال تم إيقاف التجربة، ومن ثم تم جدولة إحصائيات الوقت اللازم، وكانت النتيجة أنّ الأفراد من هذا النوع سيحتاجون إلى فترات زمنية طويلة جداً لإنشاء حتى أقصر سلسلة من النيوكليوتيدات الوظيفية.

وكان الوقت اللازم لإنشاء سلسلة من اثنتين فقط من النيوكليوتيدات المطلوبة في المتوسط هو ​​84 مليون سنة، أما الوقت اللازم لإنشاء تتابع من خمس نيوكليوتيدات هو في المتوسط ​​2 مليار سنة، وحتى مع زيادة معدلات التطفر وافتراض زيادة الطفرات المُفيدة وزيادة عدد الأفراد في الجيل فإن الأرقام ما زالت مرعبة [45]، ثم تستخلص الدراسة أنّ الوقت اللازم لحصول الطفرات بالاعتماد على الآليات الداروينية تشكل عائقاً كبيراً أمام التطور الماكروي (الكبروي) للرئيسيات، وإنّ عملية إنشاء أي سلاسل مُفيدة مُحددة من اثنين أو أكثر من النيوكليوتيدات بالآليات الداروينية تصبح مُشكِلة كبيرة [46].

ولم تنجح إلى الآن أي نظرية أو مجموعة نظريات في تفسير كيف يمكن للتطور أن ينتج عضواً متكاملاً في أي كائن، ولا أعلم كيف يمكن في عالم التجربة والمعرفة الاعتماد على شيء لا أصل له لتشييد أبراج علمية به.

شجرة الحياة

هي رسمة نظرية وضعها داروين يعتقد فيها تاريخ تفرع الكائنات من أسلاف سابقة (العلاقة الفيلوجينية)، يوضح فيها كيف تفرّعت الحياة وتطورت من كائن إلى آخر ومن سلف إلى سلف، تفيد هذه الشجرة في دراسة الأنواع وعلاقاتها الجينية والأبوية ببعضها البعض، وكان يأمل داروين دائماً أن تتضح الصورة باكتمال السجل الأحفوري، ولكن ما حدث لاحقاً هو أنّ السجل الأحفوري لم يأتِ بأي اكتمال فلقد كان العصر الكامبري في أيام داروين هو أقدم العصور المكتشفة في عام 1859 [47].

ما يبعث على الضيق أنّ لشجرة الحياة صوراً مُختلفة ومسارات متشابكة وعدة رسومات، ولا شيء ثابت فيها، وهي تتغير شبه سنوياً، قد أتقبل هذا الأمر على أنه نظرية، لكن ما لا أتفهمه هو اعتماد العُلماء المُؤمِنون بالتطور هذا الأمر كمُسلمة علمية ثابتة، نحن في التطور ما زلنا في مرحلة النظرية، ولم نعتمد قواعد نهائية بعد.

ويطالب العُلماء المُؤمِنون بالتطور ممن ينتقدونها أن يقدموا شجرة أفضل! والحجة دائماً على من ادّعى وليس على الطرف الآخر، يخبرني صديق أنه كان مع مونيكا بالأمس، فأخبره لا أصدقك، بل وأطلب منه أن يعطيني دليل، هل رآكم أحد، هل هُنَاك صور؟ لا أتوقع منه أن يخبرني أعطني دليلك على أنني لم أكن برفقة مونيكا، هذا غير منطقي، ولا هزل فيه.

حاول العُلماء المُؤمِنون بالتطور لاحقاً الاعتماد على التحليل الجزيئي والساعة الجزيئية في الكائنات كعمادة لشجرة التطور، كذلك بعد فهم الشفرة الوراثية لأول مرة أتت فكرة أنه من الممكن استخدام تسلسلات الدنا ومقارنات البروتين لبناء الأشجار التطورية، ويا حبذا لو كانت الأشجار المبنية على الأدلة الجزيئية تطابق تلك الأشجار المبنية في الخصائص التشريحية، سيكون أفضل دليل متاح على حقيقة الأنموذج الشجري للتطور الكبروي، لكن لم يتفق العُلماء بعد على أي شيء يساهم في دفع شجرة الحياة إلى الأمام.

والساعة الجزيئية Molecular clock هي تقنية تحليل وراثية تعتمد على الفكرة القائلة أنّ الطفرات تحدث بتتابع وبنمط مُنتظم على فترات طويلة من الزمن في جينوم الكائنات الحية، ولهذا يمكن اعتمادها كطريقة رياضية ليتمكن العلماء من محاولة تقدير الزمن الذي انفصل فيه نوعان عن سلفهما المشترك أثناء التاريخ التطوري [48].

صدقاً، كيف يفعل العُلماء هذا الأمر؟ كيف يقومون ببناء الشجرة بالاعتماد على الجينات، وعلى فرضية أنّ هذا أفضل ما توصل إليه العلم، تتم الطريقة ببساطة بأن يختار العُلماء جيناً ما أو مجموعة من التسلسلات الجينية الموجودة في العديد من الكائنات، ويتم تحديد تسلسل النيوكليوتيدات داخلها، ويتم بناء الشجرة التطورية لاحقاً بمبدأ أنّ الأنواع الأكثر تشابهاً في تسلسل النيكليوتيدات الأكثر قرابة وارتباطاً ببعضها البعض، يبدو الأمر سهلاً نظرياً، لكنه صعب عملياً.

نشرت مجلة نيو ساينتيست [49] مقالاً بعنوان: لماذا كان داروين مخطئاً بخصوص شجرة الحياة تبين فيه ظهور مشكلات عديدة حين قام علماء البيولوجيا الجزيئية بتحليل الجينات لأشكال الحياة الأساسية الثلاثة وهي البكتيريا والبكتيريا القديمة وحقيقيات النواة، فلم تسمح هذه الجينات لهذه الأشكال الأساسية للحياة أن تنتظم في شكل شجر، فقد توقع الجميع أنّ قياس تسلسلات الحمض النووي سيؤكد الشجرة المبنية على الرنا لكن ذلك نجح في مرات قليلة وفشل في أغلب المرات، ولتوضيح النتيجة فقد حصلت التحليلات على تحليل الرنا للكائن أ أقرب إلى الكائن ب من الكائن ج، ولكن الشجرة المبنية على الحمض النووي تشير إلى العكس.

ويوضح التقرير أنّ الأبحاث تشير إلى أنّ تطور الحيوانات والنباتات لا يشبه الشجرة، هذا النوع من التضارب دفع عالم الكيمياء الحيوية التطوري فورد دوليتيل إلى أن يقول: “التطور السلالي الجزيئي قد فشل في إيجاد الشجرة الحقيقية، ليس بسبب عدم ملاءمة الطريقة العلمية أو اختيار الجينات الخاطئة، وإنما يرجع ذلك إلى أنّ تاريخ الحياة لا يمكن أن يُمثَّل في شجرة بشكل ملائم [50]”، وتشير إحدى الدراسات التي تمت في 2009م إلى أنّ التحدي الرئيسي في دمج الكميات الكبيرة من المعلومات في الاستدلال بأشجار الأنواع هو أنّ تاريخ الأنساب المتضاربة في كثير من الأحيان موجود في جينات مُختلفة في جميع أنحاء الجينوم [51].

قرد التارسير

صورة 6 قرد التارسير

التارسير Tarsius هو أحد أنواع القردة البدائية الذي ينتمي إلى رتبة الرئيسيات التي ينتمي إليها الإنسان والقردة العليا، ومن المفترض أن تتوافق العلاقة الفيلوجينية بين التارسير وباقي القردة حسب شجرة الحياة أو السيناريو المكتوب في كتب التطور، لكن المُقاربات الجزيئية والجينية للتسلسلات الهرمية داخل شجرة التطور أظهرت شيئاً يختلف عن شجرة القرابة التشريحية المُفترضة، وذلك بعد دراسة المقارنات بين الجينات المسؤولة عن السيتوكروم بي التابع للميتوكوندريا، ويا للغرابة! وُضع التارسير ضمن أنواع مُختلفة بالكامل لا تربطها أي علاقة تطورية قريبة مع القرود، كما وأظهرت قرابة وطيدة تربطها بالحيتان والقطط والفئران، ليبدو أنّ التارسير أتم انفصاله عن باقي القرود قبل الحيتان والقطط بدلاً من أن تُظهِر المقاربة علاقة مباشرة للتارسير برتبة الرئيسيات وباقي القردة [52] [53].

ولكن ما هو هذا السيتوكروم؟

السيتوكروم هي مجموعة من البروتينات التي تُوجد في كل الأحياء داخل المملكة الحيوانية وتعمل كعوامل حفازة في عمليات الكائنات الكيميائية، وتتكون من 100 حمض أميني في تركيب بالغ التعقيد وهي متنوعة ومُختلفة ومن أشهرها السيتوكروم سي Cytochrome C، وقد كان العُلماء يُعلقون آمالاً كبيرة على دراسة تسلسل السيتوكروم سي باعتباره دليلاً جزيئياً على التطور في القرن العشرين، معتقدين أنّ متابعة التغيرات الطفيفة في تسلسلات الأحماض الأمينية المكونة له سيُؤَدِي إلى تتبع العلاقات التطورية وشجرة القرابة.

في البداية قدّم العلماء السيتوكروم سي كدليل على التطور، وكمثال فإنّ الاختلافات بين الإنسان والكلب ظهرت بفارق أقل مقارنةً بالاختلافات بين الإنسان والأسماك، تتماشى هذه الأدلة مع نظرية التطور إذ يجب أن يكون الإنسان أكثر ارتباطاً بالكلب منه للأسماك، لاحقاً، امتلك العُلماء مكتبة هائلة من البيانات عبر فحص تسلسل أحماض الأنواع المُختلفة بدءاً بالبكتيريا انتهاءً بالإنسان لغرض إعادة تتبع التغيرات وغيرت كل شيء، فقد قامت الدكتورة مارجريت دايهوف في مشروع أطلس بالتوصل إلى نتائج مخيبة للآمال بعد شراكة وأبحاث عديدة، وكانت نتائج مقارنة مصفوفات الأحماض مُخالفة لما يتوقعه الباحثون في مجال التطور.

وفقاً للعُلماء المُؤمِنون بالتطور، فإنه عبر تحليل الفروقات في تركيب بروتينات السيتوكروم سي؛ يمكن إنشاء البروتينات مثل سيتوكروم سي؛ لإنشاء شجرة تتطابق مع الأشجار التي تم إنشاؤها بالاعتماد على أدلة تصنيفية من كائنات مختلفة، أشار عالم البيولوجيا الجزيئية مايكل دينتون إلى أنه عند قياس نسب الاختلاف في تركيب السيتوكروم سي بين نوع محدد وأنواع أخرى فإنّ التغيرات تكون منتظمة، فمثلاً الاختلاف بين سيتوكروم سي في الحصان وسمك الكارب والأرنب والسلحفاة والضفدع والدجاجة يكون ثابتاً بحدود الـ 13%، وكذلك فإن الاختلاف بين سيتوكروم سي في البكتيريا وفي الحصان والتونا والخميرة والحمامة والقمح والعثة يتراوح بين 64% إلى 69%.

وهذا يناقض الفكرة التطورية بأنّ الأسماك أسلاف الضفادع، والضفادع أسلاف الزواحف، والزواحف أسلاف الثدييات، وإلا أليس من المفترض أن يكون الاختلاف بين السمكة والضفدع والزاحف والثديي في تركيب سيتوكروم سي تصاعدياً؟ أيضاً تُظهر المقارنات الجزيئية مسافات متقاربة جداً بين الأسماك والبرمائيات إذا ما قمنا بمقارنتها مع الزواحف والثدييات وهذه مشاهد معاكسة للتصور التطوري على مستوى درجات القرابة الجزيئية.

وعند التوغل أكثر سنجد المزيد، فالسيتوكروم سي في السلحفاة أقرب إلى الطيور مما هو عليه للثعبان، وهو من فصيلة الزواحف نفسها رغم علاقة القرابة التطورية، وليس هذا فحسب، بل وُجد أن الثعبان أقرب إلى الإنسان في 14 اختلافاً، مما هو عليه للسلحفاة (قريبته في شجرة التطور) إذ وُجد أنه يملك معها 22 اختلافاً.

وكان من المفترض أنّ البشر والخيول أكثر قرابة لأن كليهما من الثدييات المشيمية، ومُشتركين في سلف تطوري مزعوم أقرب من الكنغر الجرابي، إلا أنّ السيتوكروم سي في الإنسان يختلف عن الحصان في 12 موقعاً لكنه يختلف مع الكنغر في 10 مواقع فقط، ويبدو أنّ الدجاج والبطريق أكثر قرابة فيما بينهما من قرابتهما مع البط والحمام، والسلاحف أكثر قرابة مع الطيور منها للأفعى، والقرود والإنسان تختلف عن الثدييات المشيمية أكثر من الكنغر من الثدييات الجرابية بعيدة الصلة.

كثيرون من علماء البيولوجيا الجزيئية مثل ريتشارد إي ديكرسون مدير معهد البيولوجيا الجزيئية في جامعة مينيسوتا والبروفيسور الإيطالي جيوسيبي سيرمونتي أستاذ علم الوراثة يرفضون دلالة البيولوجيا الجزيئية على التطور، إذ يُعلق جوسيبى في مقاله قائلاً: “من وجهة نظر الكيمياء الحيوية فإن الحصان هو نفسه حشرة الحصان [54] [55] [56] [57] [58] [59] [60]”، أي أنّ جينات الحصان هي نفسها جينات أي حشرة، ولا يمكننا تحديد عبرها من هو الحصان من الحشرة، كذلك هُنَاك العديد من الدراسات الواضحة عن عدم وجود شجرة الحياة، إذ يحاول العُلماء معرفة العلاقات الشجرية لـ 1.8 مليون نوع، لكن لا يمكنهم تصنيف 23 نوعاً من الخميرة [61]، وسلسلة إخفاقات شجرة الحياة طويلة لا تنتهي.

التفسير التطوري

في الحقيقة، تُثَار قضايا التطور منذ سنوات في كل المحافل ودائماً ما يرتبط نقاشها بقضية الدين والإلحاد، فالمتدينون يرون أنّ الله خالق الكون والإنسان، والماديون يرون أنّ الطبيعة بالاعتماد على التطور والنشوء هي من أوجدت الإنسان، والتطور كما قال كارل ماركس أساسي في تفسير أسس التاريخ الطبيعي لآراء الماركسية، وهو بعيداً عن ماركس أقرب للكتاب المقدس أو للقرآن لمن لا يسلم بالإيمان الإلهي، ولكن ماذا عن العلوم والتقدم العلمي في مجال الطب والتشريح والكيمياء الحيوية وغيرها من العلوم؟ هل للتطور دور كبير وهائل فعلياً؟ للإجابة عن هذا السؤال ننظر ماذا يقول البروفسور مارك كيرشنر رئيس قسم البيولوجيا كلية هارفرد للطب، إذ يقول: “في الواقع، وعلى مدى السنوات المئة الماضية، وقد تقدمت أغلب فروع البيولوجيا باستقلال عن التطور إلا البيولوجيا التطورية نفسها! البيولوجيا الجزيئية، والكيمياء الحيوية، علم وظائف الأعضاء، كلها لم تتخذ التطور في الاعتبار”.

أعلم أنّ هُنَاك المقولة التي تقول بأنه لا يمكن فهم الحياة بعيداً عن التطور، لكن للأسف هذه المقولة غير صحيحة، فمئات الأبحاث وضحت أنّ تفسيرنا للأمور من وجه نظر تطورية أنتجت مُشكِلة وأعاقت تقدم العلوم، ولعلي أذكر في علم التشريح والوظائف الإنسان الأعضاء الأثرية -سنتطرق لها– والتي دمرت الملايين وأعاقت حياتهم وأفسدت الأبحاث لتأكيد النظرية رغم اتضاح أنها خطأ بالمطلق، وتأخير مثلاً تسجيل المساريق Mesentery وغيرها من الأعضاء ذات الوظيفة الأساسية، وكذلك في علم النفس إذ أدى الاعتماد على التطور إلى حدوث فجوة كبيرة أخرت العلوم لفترات لا بأس بها، ويمكن أن نقول أنّ الاعتماد على التطور وحده لتفسير الظواهر مُشكِلة، وقبول جميع التفاسير هو الحل، لماذا نفسر أن الجوع يحسن من عمل الخلايا بسبب تطور الإنسان في الغابة، ولا نفسره بعشرات التفسيرات الأخرى، بل إنّ وضع التفسير بهذا الشكل المباشر دون بحث وتأكيد لهو أشبه بالتفسير الديني، فكل شيء جاهز ولا يمكنك إعمال عقلك، وبعدها بعقود نكتشف خطأ التفسير بعد أن يكون البشر قد خسروا المزيد.

على مدار الـ 150 عام السابقة، تم وضع قوانين كثيرة للتطور، وذلك لتبيان أنّ التطور حقيقة علمية تخضع للقوانين والقواعد، وسنتناقش في الباب القادم فكرة هل نضع القاعدة بعد المشاهدة، أم نضع القاعدة قبل المشاهدة ونجري التجربة للتأكد وذلك في نقاش فلسفي علمي.

عقبات في وجه الارتقاء

السجل الأحفوري

إنّ السجل الأحفوري من الأعمدة المهمة في نظرية التطور، وتكمن فكرته في أنّ الكائنات السابقة بعد موتها قد دفنت في الأرض، وحتماً أنّ الأرض قد حفظت عدداً كبيراً منها في طبقاتها، وإذا قمنا بالتنقيب في طبقات الأرض السابقة سنجد هذه الكائنات، هذه الكائنات تحتوي بالتأكيد على حلقات وسيطة ظهرت أثناء تطور الكائنات المختلفة، على سبيل المثال حينما انتقل الحوت إلى اليابسة وبدأ يتحول إلى دب، على الأغلب ترك بقايا كائن ما بين الدب والحوت، مثلاً حوت يمشي على رجلين، أو حوت له بداية ظهور رجلين وبه بعض أجزاء التنفس الهوائي واستقامة القامة وغيرها، بل ومن المفترض أن نجد آلاف الأشكال الانتقالية أثناء تحول الحوت إلى دب، وقِس على ذلك باقي الكائنات الحية أثناء تحولها لكل كائن حي، يجب أن نجد لها آلاف الأشكال الوسيطة، وآلاف الحلقات ما بين انتقاله من كائن إلى آخر، أي أننا أمام ملايين ملايين الكائنات الانتقالية التي يجب أن تكون موجودة في الأرض، وهذا هو السجل الأحفوري.

كان داروين يأمل كثيراً في كتابه أصل الأنواع في السجل الأحفوري بأنه سيكون هُنَاك على الأقل آلاف الشواهد فيه إن لم يكن أكثر، وكان يؤمن بأن السجل الأحفوري سيكتمل يوماً ما وسيكون دليلاً على نظريته، وهو ما فتئ يقول: إذا كانت نظريتي صحيحة فسيكون هُنَاك الكثير من الحلقات الوسيطة الضائعة أثناء التطور والانتقال [62, 63]، وهو فعلاً ما يُمليه المنطق، وهذا ما شجع العُلماء من بعده إلى تكثيف البحث أملاً في إيجاد هذه الحلقات، وإيمانهم بأن الطبقات الجيولوجية المُختلفة ستكون ككتاب تاريخ حاضر على التطور، لكن ما وجده العُلماء لاحقاً كان عكس ما توقعته النظرية [64].

وجَديرٌ بنا أن نذكر ما قاله داروين عن المتحجرات، بالإضافة إلى جملة لو كان افتراضي صحيحاً فإننا سنجد آلاف الأشكال الانتقالية، فقد قال أيضاً عن عيون المخلوقات أنها شيءٌ مُبهر، إذ آمن داروين بأنّ العين تجعل نظريته في مهب الريح، فالكمال في عيون الكائنات أمرٌ مُدهشٌ في الإنسان وفي حيوانات قديمة كثلاثيات الفصوص، فالكمال هذا مُدهشٌ لدرجة أنه يجب أن تكون العين موجودة بهذا الشكل مرة واحدة، ويقول وكأنّ خالقاً قد أوجدها، ذكر بالضبط ما يشير إليه العلم الحديث عن التعقيد غير قابل للاختزال Irreducible Complexity، ما يُدهشك هو تجاوز هذه الصفحات من كتاب أصل الأنواع وإهمالها، لكن لا بأس.

إنّ وجود عظمة أ في طبقات الأرض ظهرت قبل عظمة ب لا يعني أن العظمة ب تطورت حتماً من العظمة أ، حينما تحفر وتجد في الأرض عظمة ترقوة بشرية، وتحفر أكثر وتجد عظمة ساق لكائن البيسون، فهذا لا يعني أنّ الترقوة ظهرت من عظمة البيسون، لأنّ التتابع لا يعني الترافق، وحتى الترافق لا يعني التتابع، وهذا ما سنعرضه في فصل الاستدلال، أنت بحاجة إلى دلائل كثيرة قبل أن تخرج بحكم أو نظرية.

نقطة مهمة أخرى وهي وجود أحفورة في طبقة قبل مليون عام، لا يعني أنّ الكائن لم يكن موجود قبلها بمليوني عام، لا يعني أنّ هذه الأحفورة هي بداية ظهور النوع نفسه، فقد يكون هُنَاك أحافير أخرى مندثرة لم نكتشفها بعد، أو أنّ هُنَاك طبقات قد طُمست من السجل الأحفوري لأي سبب كان، إنّ الأحافير لا تُثبِت شيئاً، بل تستطيع أن تنفي شيئاً، هي تنفي أن يكون هناك كائن موجود قبل 100 عام، لأننا وجدنا أحفورة لكائن قبل 500 عام، ولكنها لا تُثبِت أنّ ثَمّة كائن قد ظهر قبل 1000 عام في أول وجود له، هي أداة ناقصة فقط تفيد في توضيح تسلسل في منتصفه إن وجد، لكنها لا تُثبِت أي ابتداء.

هُنَاك 9 مليون كائن حي تقريباً، لكل كائن 1000 صورة انتقالية تطورية على الأقل، ولكل صورة 10 أحافير، أي من المفترض أن نجد 9 مليون * 10000 أي 90 مليار أحفورة، هذا الرقم سينقص جرّاء عوامل التعرية والضغط وما لم نكتشفه، ولكن ماذا اكتشفنا من كل هذه الأرقام في النهاية، اكتشفنا نسبة لا تكاد تذكر، لا تنسَ أننا وجدنا أحافير للبكتيريا القديمة فما بالك بكائنات كبيرة لم نجد لها أثر.

ناهيك بأنّ الأحافير لا تعطينا تصوراً عن سُلُوك الكائنات، فالهيكل العظمي للشمبانزي يشبه بشكل كبير الهيكل العظمي للبونوبو إلا أنّ الاختلاف السُلُوكي بينهما شاسع، ويتم تصوير أحافير البشر بهذا الشكل، فأحافير عظمية تشبه الهياكل الحالية للبشر يتم تشبيهها على أنها كانت بسيطة التفكير وأقرب إلى تفكر الحيوان، وهذا كله علمياً لا يصح.

إنّ متابعة موضوع الحفريات أمرٌ مُتعبٌ وشائكٌ لأنه يحتوي على كثير من التضارب والتلاعب، فمن حفرية أيدا Ida للليمور [65] التي أشار فيها العُلماء بأنها حلقة وسيطة ثم اتضح أنها مُجرَّد ليمور عادي، إلى حفرية لوسي للقردة التي بعد أن صدقنا أنها حلقة وسيطة اكتشفنا أنها مُجرَّد قرد مُنقَرِض وغيرها مما سنراه في الفصول التالية، ولكن بشكل عام السجل الأحفوري حالياً يمكن الاعتماد عليه بسبب وجود المنحنى التحصيلي، ولدينا أحافير تمكننا من الحكم حول تسلسل الحياة على كوكب الأرض وبخطية سيرها.

يمكن أن نلاحظ في السجل الأحفوري ظاهرة موثقة في الأبحاث تسمى بالثبات Stasis إذ تظهر الأنواع أنها تحافظ على شكلها الأصلي دون تغيير رغم ملايين السنين التي مرت عليها، وآخر ما تم توثيقه في جامعة هارفارد هو سلطعون عمره 99 مليون عام محفوظ في كهرمان في حالة ممتازة سمحت بإجراء دراسة تشريحية على خياشيمه وأعينه وأجزاء أخرى باستخدام تقنيات المسح والتصوير، وخرجت بنتائج أنّ السلطعون يبدو كما لو أنه سلطعون حديث Modern-Looking Crab كما في (شكل1 أحفورة السلطعون بعمر 99 مليون عام)، في حين أنّ السلطعونات حسب نظرية التطور والمستحاثات السابقة قد اعتمدت على أحفورة بعمر 50 مليون عام، وهذا يعني أنّ السلطعونات تسبق ما هو مكتشف ب50 مليون عام أخرى على الأقل، لأننا قد نجد أحافير بعمر 150 مليون عام بل ولربما ضعف هذا الرقم، من يدري، لا قاعدة لدينا لنفي هذا الأمر.


شكل1 أحفورة السلطعون بعمر 99 مليون عام [66]

الانفجار الكبير

في زمن داروين، كان العصر الكمبري هو أقدم عصر مكتشف (العصر كان قبل 544 مليون عام)، وكان هذا العصر يحتوي على مُشكِلة سميت لاحقاً بالانفجار الكمبري، فقد ظهرت حفريات وآثار ومتحجرات أغلب الطوائف الرئيسية في الكائنات الحية فجأة في السجل الحفري وبشكل مماثل لما هي عليه إلى اليوم، هذا الأمر حيّر داروين في كتابه أصل الأنواع [63]، ولحله اقترح داروين أنّ هُنَاك طبقات كانت قبل العصر الكمبري سنكتشفها لاحقاً وسنرى أنّ فيها كائنات أكثر وأعم من كائنات الطبقة الكمبرية لأنّ ما اكتشفناه من سطح الأرض شيئاً بسيطاً مقارنة بما سنكتشفه لاحقاً، وبالفعل بعد داروين اكتشف العُلماء المزيد من الأحافير والطبقات في الصين وكندا وجرينلاند، لكن بعكس ما توقعه داروين، فقد كانت الطبقات السابقة لا تظهر فيها كائنات كثيرة وقد ظهرت الكائنات فجأة كلها في العصر الكمبري كما لو أنها سقطت من السماء بالشكل الحالي نفسه، ولو أنّ أحدنا جالس يراقب الوضع في تلك الأيام، من المُفترض أن يرى كائنات تتساقط من السماء! وكعادة العُلماء المُؤمِنون بالتطور بخيالهم الواسع في محاولة منهم لحل هذا الأمر اقترحوا شيئاً سُمي بالتوازن المُشكل والذي يفترض حدوث تغيير سريع على الكائنات في مدة زمنية قصيرة ثم ركود بلا تغيير لمدة طويلة، ثم اخترعوا مفهوم التوازن المتقطع أو القفزات المفاجئة، والذي يفترض ظهور أنواع جديدة في سجل الحفريات فجأة بلا تدرج، ثم استقرارها لملايين السنين بلا تغيير، وكما يبدو هذا أمر غير دقيق، فأين ملايين السنين لحدوث طفرات جديدة، فضلاً عن ظهور كائنات جديدة!

حينما تفاجئ العلماء بأي فكرة تصدمهم، تلاحظ أنهم يقولون نحن نعرف هذا الأمر مُسبقاً فلا داعي للقلق، ثم يطلقون عليه لفظة مثل التوازن المشكل، أو الحبل المتقطع، وكأنهم بهذا المصطلح قد وضعوا حلاً للمُشكِلة وأجابوا علمياً عن التساؤلات، وهذه المشكلة تتكرر في كل المواضع التطورية.

 

رسم توضيحي 21 اقتراحات التطور لحل مُشكِلة الانفجار الكبير

يتفق الجيولوجيون على وجود ترسيبات عمرها 3 مليارات سنة في كل من أستراليا وأفريقيا، تحتوي هذه الطبقات على بكتيريا مُتحجِرة أحادية الخلية قادرة على البناء الضوئي، والطبقات من حينها إلى العصر الكمبري لم يحدث أي إضافة لها تُذكر مرتبطة بكائنات العصر الكمبري، وما وجده العُلماء قبلها هو بعض الكائنات المتعددة الخلايا التي لا علاقة لها تطورياً بالكائنات المُعقَّدة في العصر الكمبري، وبقيت هذه الصورة البسيطة إلى أن انتقلنا إلى الصين في ثمانينيات القرن العشرين واكتشف العُلماء أحد أقدم الطبقات في العصر الكمبري، إذ استغرب العُلماء من التشابه الكبير بينها وبين الكائنات الموجودة في يومنا هذا، ومن الغريب أنّ الكائنات كلها ظهرت في هذا العصر في مدة 10 مليون سنة فقط، وهي غير كافية لظهور طفرتين متتالين وتورثيهم للأجيال السابقة، فضلاً عن ظهور أنواع كاملة، والمقصود هنا بكاملة أي لها عيون وقلوب وأجهزة مُعقَّدة، هذه الدهشة دفعت العُلماء للإيمان أنّ الحياة ظهرت فجأة بهذا الشكل المُعقَّد فعلاً، وهُنَاك من استطرد منهم وقال إنّ فهمنا للتطور خاطئ، مُنبهاً على أنّ الأفرع في التطور وصلت من الأساس إلى أكبر تفاوت شكلي في وقت مبكر من تطورها [67]

حينما يقسم العالم الكائنات، يعتمدون غالباً على التقسيم السائد ألا وهو تقسيم لينيوس، إذ يقسمونها إلى ممالك مثل مملكة الحيوان ومملكة النبات، ثم يقومون بتصنيفها إلى شعب مثل شعبة الحبليات، ثم إلى طوائف مثل الثدييات، ثم إلى رتب مثل الرئيسيات، ثم رُتَيبة مثل النسناسيّات بسيطة الأنف، ثم رُتَيبة صُغرى مثل نسناسيات نازلة الأنف ثم فصيلة عليا مثل القردة العليا، ثم قبيلة مثل أشباه البشر، ثم جنس مثل الهومو، ثم نوع مثل الإنسان، هذا التقسيم الطويل الدقيق من المفترض أنه تطور على مدار ملايين السنين لتظهر الشعب ثم الرتب ثم الفصائل ثم الأنواع، لكننا رأينا في العصر الكمبري أنه كان جاهزاً! الأنواع والشعب موجودة منذ ذلك الوقت ولم تظهر لاحقاً.

وهذا كلام العالم جيفري شوارتز أحد منظري التطور حينما قال: إنّ المجموعات الحيوانية الرئيسية تظهر في السجل الأحفوري كما تظهر أثينا من رأس زيوس، تامة النضح متحمسة للانطلاق [68]، لذلك يؤمن العديد من العُلماء المُؤمِنون بالتطور اليوم بأن شجرة الحياة وآلية تطور الكائنات حسب الشجرة هي أمور غير دقيقة، ويجب حذف الشجرة بالكامل لأنها فشلت في كل بند من بُنودها، وإلى أن يحدث أن نجد اختراق ما قوي، سنقوم ببناء شجرة أو شجيرات من جديد [68].


شكل 33 كائنات ظهرت في العصر الأوردوفيشي

ثلاث كائنات ظهرت فجأة في العصر الأوردوفيشي، وهي 1- نجوم البحر Starfish، 2- عريضات الأجنحة Eurypterus، 3- المرجانيات المجعدة Tetracorallia

هُنَاك مشكلات كثيرة في السجل الأحفوري غير مرتبطة بالانفجار الكمبري منها مثلاً أدلة تطور أجنحة الحشرات، وتطور الفراشات ودخولها في الأطوار البينية، وأدلة تطور أجنحة الطيور أيضاً، بل وأجنحة الخفافيش وأجنحة السمك الطائر! فكيف أمسى للأسماك جناح والطيور ظهرت بعدها من المفترض، بل وتطور البكتيريا وتطور الزهور، فكل هذه الصور وجدت بضربة واحدة كاملة، وفي (شكل 33 كائنات ظهرت في العصر الأوردوفيشي). تظهر ثلاثة كائنات ظهرت من العدم في العصر الأوردوفيشي الذي يلي الكامبري مباشرة.

رسم توضيحي 22 من المفترض أن نجد ملايين الأشكال الانتقالية للنوع الواحد، فاستطالة القدم تحتاج لآلاف المراحل الانتقالية، فضلاً عن الأشكال الأخرى التي ستنتج من الطفرات ولن يكتب لها البقاء.

مرة أخرى إنّ الانفجار الكمبري يُبين أنّ الكائنات ظهرت فجأة إلى الوجود ولم تتطور، وهذه النقطة كافية لدحض كل مزاعم السجل الأحفوري، لكن لنكمل.

سمكة الكهوف الشوكية

تُعَد سمكة كويلاكانث من الأسماك الكبيرة والقديمة التي يقول العُلماء أنها من قبل زمن الديناصورات، وهي سمكة مُنقَرِضة عثر على بقايا لها في المستحاثات، وقال عنها العُلماء أنها حلقة الوصل بين كائنات البحر وكائنات البر، فهي تحتوي على صفات انتقالية بين الأجناس المُختلفة، وقد حدث هذا التطور العجيب قبل 70 مليون عام، وقد اعتدنا هذه الأرقام الكبيرة هذه التي لا معنى لها في تفسير المراحل الانتقالية.

يبدو أنّ العُلماء يحبون دائماً إكمال أحجيتهم مثل وجود سمكة في مراحل انتقالية كان يجب أن تعيش بالقرب من سطح الماء للانتقال لليابسة، وأبسط الطرق غير العلمية لدى العُلماء هو اتباع الأسلوب غير العلمي، فقالوا هي سمكة مُنقَرِضة وذيلها وزعانفها هي أقدام بدائية، وبعض أحشائها هي بداية نشوء رئة ولديها دماغ كبير، وهذا كله من آثار عظام لا يمكن الجزم بأجزائها الرخوية، لكن السمكة غير موجودة ولا أحد يرانا يا حبيبتي فدعينا نمارس ما نحب، لك أن تتخيل أنّ بناء صرح ضخم يتم عبر هذه الآلية البسيطة، وجد العُلماء آثار عظام فقالوا أنها حلقة وسيطة للانتقال إلى اليابسة قبل 70 مليون سنة، وتحولت هذه السمكة إلى عصفور اسمه الوينستكنون ثم إلى كائن يشبه القنفذ اسمه الششمونتوخ وهكذا، هذا ليس علم، أو هذا هو أحد عيوب العلم التي يجب ألا تجعله إله، سنتطرق إليه في الفصل القادم.

هذه النظرية العلمية أمست قاعدة في التطور منذ عام 1839م إلى أن وصل الصيادون إلى أعماق أكثر في المحيطات مع تطور التكنولوجيا المستخدمة، ثم حدثت المفاجأة في نهايات عام 1938م؛ إذ اصطاد أحد الصيادين سمكة كانت لغرابة الصدفة هي سمكة الكويلاكانث المُنقَرِضة!

صُدم العُلماء جداً في ذلك الوقت، وهي حسب قول العُلماء كالعثور على ديناصور حي في هذا الزمن، هي أحفورة حية تسبح في أعماق المحيطات، وهذه صدفة أخرى أنها لم تكن قريبة من السطح بل كانت في الأعماق، فهذا يعني أنها لم تكن أبداً مقربة من فكرة الانتقال إلى اليابسة، بعد تشريح السمكة أظهرت النتائج أنّ السمكة دماغها صغير لا يتعدى 1.5% من حجم تجويف الجمجمة وباقي ال98.5% هي دهون، والرئة هي مُجرَّد مثانة هوائية [69]، وأنّ الأقدام المزعومة هي لزعانف تمتد بعيداً عن الجسم لا أكثر.

عثر العُلماء بعد ذلك على أسماك كثيرة من هذا النوع، أكثر مما كانوا يتوقعون، بل وقاموا بتصنيف نوعين منها، ولكل منها اسم علمي مستقل ومنفصل، وكان سبب عدم ظهور هذا النوع هو أنها من أسماك الأعماق، ويعتقد العُلماء أنه قد يصل عمرها إلى 60 عام، ووزنها إلى 90 كليو جرام، وطولها قد يزيد عن 2 متر، صحيح أنّ السمكة معرضة للانقراض، لكن لحسن الحظ أو لرعاية المولى أو لرعاية الطبيعة مشكورة أظهرتها لنا قبل انقراضها لكي نناقش آلية نظرية التطور.

صورة 7 سمكة كويلاكانث المصدر: Simon Maina/AFP.

عثر صياد كيني على سمكة كويلاكانث عام 2011م، والصورة من عمال في المتحف الكيني يستعرضون السمكة الأحفورة الحية.

لاحقاً، أظهرت الحفريات أنّ السمكة يرجح عمرها إلى 410 مليون عام، وهذا رقم آخر لا معنى له في شجرة التطور لأنها غير دقيقة، فشجرة التطور تخبرنا أنّ الأسماك ظهرت قبل 470 مليون عام، وظهور سمكة مُعقَّدة جداً بعد 60 مليون عام من ظهور الأسماك أمر لا يمكن حصوله! إلا أنّ هذا الرقم يُعطينا انطباعاً أنّ الكائنات كانت بهذا الشكل منذ وجدت مرة واحدة ولم تتطور تدريجياً [70].

هذه السمكة كانت تحتوي على صفات وخصائص لربما سبقت الثدييات في شجرة التطور المتخيلة، فقد يكون لها مشيمة تغذي بها صغارها وتوفر لهم الأكسجين، ولديها عمليات إخراج الفضلات، كذلك فإن صغارها تخرج من أمها إلى الحياة كاملة النمو تقريباً جاهزة للانطلاق، كما وهُنَاك دراسات تخبرنا أنّ السمكة تميّز المجالات الكهرومغناطيسية، بل وقد تتواصل عبر الإشارات الكهربائية فيما بينها، أيضاً المُدهش في هذه السمكة أنّ جميع الأسماك العظمية Osteichthyes ما عدا الكويلاكانث تسد احتياجاتها من الماء عبر شرب ماء البحر المالح، ثم تتخلص من الملح الزائد عن حاجتها، بينما جسم الكويلاكانث المُعقَّد في نظامه يُحاكي نظام سمكة القرش الذي يصنف ضمن الأسماك الغضروفية Chondrichthyes.

وبعد تحليل دنا هذه السمكة، بات يُعتقد أنها أقرب إلى الأسماك الرئوية من باقي التصنيفات الأخرى، والجدير بالذكر يُعتقد أنّ هذه الأسماك الرئوية قد ظهرت قبل 270 مليون عام لكن سمكتنا ظهرت قبل 410 ملون عام! وفي الأسماك الرئوية تتنفس الأسماك الأكسجين الموجود في الماء فتتحور مثانتها الغازية إلى ما يشبه الرئة ثم يتم تحويل النشادر إلى بول، ويحبس هذا البول ذو المستويات المميتة -مقارنة بالإنسان- في دم السمكة، ثم يتم ضبط معدل هذه المواد الموجودة في الدم وفقاً لمعدل ملوحة الماء المحيط بها، ويسمح فك السمكة لها بأن تأكل أسماكاً كبيرة، كذلك أسنانها مناسبة لهذه العملية، كما أنّ عمودها الفقري معبأ بسائل، وسمكة الكويلاكانث تملك الإنزيمات اللازمة لإنتاج البول أي أنّ لها خصائص ليست موجودة في أي نوع آخر في الطبقة التي تندرج تحتها، وهي الخصائص نفسها لدى أسماك القرش التي تُصنف ضمن طبقة مُختلفة تماماً.

الكثير يقال حول هذه السمكة، ولكن ما قيل كافٍ، وكل هذا الإسهاب لنعلم أنّ كل بند صغير في شجرة التطور أو في المستحاثات تم بسببه تشييد مبانٍ ضخمة وهو محض خيال علمي، وإنّ الحفريات أو المتحجرات التي بنى عليها العُلماء وجود مخ كبير ورئة وأقدام وغيرها من الصور التي تبدو حقيقية هي نتاج خيال وليس علم، فالأجزاء اللينة الرخوة من الجسم بعكس العظام مثلاً لا يمكن أن تظهر بشكل نصف قطعي في الأحافير لكي نبني عليها فرضيات، أو أن نقوم برسم إنسان كامل مع زوجته وكوخه بسبب العثور على ضرس! كما فعل التطور في سن نبراسكا، ثم يقولون لك هذا علم! والعُلماء المُؤمِنون بالتطور يحاولون دائماً سد الفجوات الانتقالية، ولكن كيف يسدوا فجوة وهذه السمكة القديمة بقيت حية لهذا اليوم بعكس نظرية التطور، فتراهم يقولون، هي تتطور من يومها ببطء شديد لا نكاد نراه بسبب عدم وجود ضغط تطور واقع عليها كوجود عدو أو نقص في التغذية، لكن الحقيقة أنّ السمكة الحالية تقريباً هي السمكة نفسها التي عاشت قبل 410 مليون عام ولا تطور لافت حدث لها، وهذا ما يجعل العُلماء في حيرة من أمرهم، ورغم هذا لا يغيرون نظريتهم!

طائر الأركيوبتركس

في عام 1861م، اُكتشفت حفرية لريشة في منطقة سولنهوفن في جنوب ألمانيا وكانت أول حفرية لريشة يتم العثور عليها، وفي العام نفسه تم اكتشاف حفرية الآركيوبتركس Archaeopteryx التي اُعتبرت إحدى أيقونات التطور، وعلى خلاف آثار الريش الذي كان محفوظاً في بعض حفريات الآركيوبتركس، فإن الريشة المعزولة تم حفظها في غشاء داكن بصورة جيدة.

يُوجد في يومنا هذا عشرة أحافير أركيوبتركس تقريباً، الحفرية الأولى كانت في عصر داروين وكتب عنها، وهُنَاك حفرية عام 1877م التي عرفت باسم عينة برلين وهي الأكثر حفظاً واكتمالاً، ثم اكتشفت حفريات أخرى عامي 1993م و2003م.

 

رسم توضيحي 23 حفرية طائر الأركيوبتركس

السيناريو المعتمد في التطور هو أنّ الأركيوبتركس جد الطيور كلها، وأنه ديناصور تطور وأصبح لديه أجنحة ثم تطورت منه الطيور، دون دليل قطعي افترض العُلماء أنه جد الطيور لمُجرَّد أنهم وجدوه في طبقات سفلى ببعض الأجنحة، وأسنان كما الزواحف، وفعلياً لا يمكن بدقة رسم شكل الكائن من خلال عظام المستحاثات، فعن طريق الأحفورة لا تستطيع تأكيد وجود الغضاريف أو الجلود أو الشعر … إلخ؛ لأنه لا يبقى لها أثر، وكل ما نراه مُجرَّد محاولات نتغاضى عنها، ومن المُفترض أن نجد ملايين الأشكال الانتقالية في فترة ما بين الزواحف والطيور، مُفترض أن يحدث تطور في يد التمساح فتصبح جناحاً، ومرة في ذيله، ومرة في منقار، ومرة ريشة على أذنه، ومرة ريشة على ظهره ومرة أخرى ستتطور ساقه وتطول، ومرة ومرة ومرات، ومن المفترض أن يحدث الشيء نفسه لكائنات أخرى مثل السحلية والأفعى وغيرهم في مراحل تطورهم، لكن حتى الآن لم نجد 100 أحفورة في أفضل الحالات ولا واحدة منها تدل على مرحلة انتقالية من كائن لكائن، وحسب النظرية يجب أن نجد ملايين الأحافير الانتقالية لكننا لم نجد إلا 100 أحفورة وليس بينها أحفورة واحدة تُؤكد عملية انتقال حقيقة.

رسم توضيحي 24 صور مُختلفة لجماجم الكلاب مع الذئب، سيصعب تخيل شكل الكائن منها، جرب أن ترى صورة كلب البكيني، وتقارنها مع كل البلدوغ، كلاهما يختلف في الشكل، إلا أن الجمجمة متطابقة.

رسم توضيحي 25 صور جماجم كائنات مُختلفة تتشابه فيما بينها، سيصعب تخيل الشكل الحقيقي للكائن بناء على شكل جمجمته، علاوةً على تخيل باقي أعضاء جسمه من بعض العظام غير المترابطة.

وقد تم تصنيف الأركيوبتركس على أنه مرحلة انتقالية لسببين: الأول وجود أسنان في فكه، والثاني وجود مخالب يتمسك بها في الشجرة، وهاتان هما الركيزتان الأساسيتان لدى العُلماء المُؤمِنين بالتطور، لكننا نعلم أنه يوجد في الوقت الحالي طيور تمتلك الميزتين هاتين نفسيهماّ مثل طائري Touraco و Hoatzin، وهذا حسب نظرية التطور مُفترض ألا يكون صحيحاً، المراحل الانتقالية يُفترض ألا تعمّر ملايين السنين، كيف أنّ للطيور الحالية هذه المزايا الأصيلة فيها، سؤال بحاجة إلى إجابة من العُلماء، وهُنَاك سؤال مهم آخر كيف تطور الطيران في الطيور Avian flight؟ هذا يقودنا إلى أن نفكر كيف يمكن لزاحف أن يطير، والجواب: عبر طريقة من طريقتين وقد وضع العُلماء بعض النظريات في هاتين الطريقتين ونذكر النظريات أولاً ثم الطريقتين:

  1. نظرية الهبوط أو القفز من الأشجار، والذي قال بهذه الفرضية هو أوثونيل شارليز مارش عام 1880م
  2. نظرية القفز لأعلى أو أنموذج العدو السريع، والذي قال بهذه الفرضية صمويل ويندل ويلسون عام 1879م.
  3. نظرية الانقضاض، التي تحدث عنها التطوريون الثلاثة جارنر وتيلور وتوماس عام 1999م.
  4. نظرية الانحدار السريع بمساعدة الجناح، وهو تحديث لأنموذج العدو السريع وظهر في 2008م.

فالزاحف إما كائنٌ كان على الأشجار وهرب من فريسته أو لاحقها، أو كائنٌ كان على الأرض قفز وراء الفرائس أو هرب منها فتطورت قدرته على الطيران، ولو كان الزاحف قد بدأ التطور من الأعلى (الأشجار) فهو حتماً طور شيئاً أشبه بالمظلات، ولو كان الزاحف قد بدأ التطور من الأسفل (الأرض) لساعدته عضلات الساقين في القفز، وهنا نرى أنّ الطريقة الأولى أسهل، فتطوير جلد أشبه بالمظلة أسهل من تطوير عضلات قوية بحاجة إلى غضاريف وأوردة وشرايين معينة وآلية قفز مخصصة، وهذا يعني أننا نبحث عن كائن منتصب أكثر منه يسير على أربع.

هذا الكلام مهم لتحديد السلف السابق، فلو كانت النظرية الأولى الخاصة بالأشجار، فهذا يعني أنّ السلف المُشترك للطيور كائن زاحف يسير على أربع، أما لو كانت نظرية القفز صحيحة، فنحن بحاجة إلى كائن يسير على طرفين بدلاً من أربعة أطراف، ويستخدم الطرفين (اليدين) لاصطياد الفريسة.

في السجل الأحفوري نجد أنّ الزواحف التي تسير على أربعة أرجل كانت تسبق الأركيوبتركس بكثير، وأما التي تسير على رجلين والتي تشبه الأركيوبتركس فقد ظهرت بعده.

هذا يعني أنه لا يمكننا أن نعتمد على الزواحف التي ظهرت بعده، ويمكننا الاعتماد على نظرية الأشجار، وهي منطقية أكثر، لكن للأسف مرة أخرى وجد العُلماء أنّ القدمين الخاصتين بالأركيوبتركس أقرب لديناصور يمشي على قدمين من أطراف زواحف تمشي على أربع، ولكننا رأينا فوق أنّ الزواحف التي تسير على قدمين ظهرت بعد الأركيوبتركس ولم تظهر بعده!

لكن ماذا عن سلف الأركيوبتركس؟ فقد وجد العُلماء أنّ أقرب سلف له هو كائن الكومسوجناثس والذي عاش بعده بعشرات ملايين السنين (شكل 34 الكومسوجناثس)، وعلى الرغم من أنّ العقبات كثيرة أمام التطور في كلا الفكرتين، إلا أنهم يعتقدون أنها غير مهمة، يجب النظر فقط للكائنات التي تشبه الأركيبوبتركس والانطلاق منها، وعدم التفكير في الآلية، تكرم.


شكل 34 الكومسوجناثس.

وهنا نطرح السؤال المهم، كيف يمكننا تصنيف حيوان بأنه زاحف أو طائر، أو نصف طائر، أو زاحف؟ أليس هذا أول سؤال كان يجب أن نسأله قبل الانطلاق في فهم آليات التطور؟ حسناً يتم هذا على حسب ميزة أساسية، فالطائر يمتلك ميزة خاصة به وهي عظمة القص، يتصل بهذه العظمة عضلات الجناح حتى يستطيع أن يرفرف بواسطتها، ومن المُفترض أن تكون عظمة قوية وتسمح للهواء أن يدخل بنمط معين حتى يحدث الطيران… إلخ، الآن الأحفورة السابعة للأركيوبتركس بوضوح تحتوي على هذه العظمة ظاهرة كما الطيور الحديثة، ولهذا بعد تأكيدها رأى العُلماء أنه طائر كامل ويطير وليس مُجرَّد مرحلة انتقالية، فلو كان الأركيوبتركس ديناصور متطور، يجب أن يكون أقرب إلى الديناصورات من الطيور بشكل واضح، ويجب أن يحتوي على صفاتها، صحيح أنّ التطور يقول أنّ الطيور ديناصورات حية، إلا أننا لا نعتقد أنّ التي ريكس يشبه الدجاجة، فكيف نحكم على أنّ هذا الكائن هو سلف ذلك الكائن، إذا سلمنا بفكرة أنّ الطيور كانت ديناصورات، فيمكننا القول إنّ الإنسان كان سمكة، بالكفاءة نفسها والقوة ولا فرق.

من المُفترض أيضاً أنّ هذا الطائر هو مرحلة انتقالية، ولكن هُنَاك مستحاثات طيور كاملة ظهرت قبله ب 70 مليون سنة على الأقل منها طائر الببروتوافيس Protoavis [71] وطائر Aurornis xui و Longisquama، فالأركيوبتركس متوقع ظهوره منذ 150 مليون سنة، وهُنَاك مستحاثات طيور ظهرت منذ 220 مليون سنة! هذا يعني أنّ الطيور موجودة قبل المرحلة الانتقالية هذه، إذن لا يمكن اعتبار طائرنا مرحلة انتقالية، وهُنَاك طيور أخرى ظهرت بعده بفترة قريبة جداً كاملة مثل طائر اللونجسكواما Liaoningornis وبناءً على هذا يصعب القول أنّ الأركيبوبتركس هو الطائر الأول أو المرحلة الانتقالية الأولى.

ولكن ماذا عن أسنان الأركيوبتركس؟ هل هي أسنان زواحف أم أسنان طيور؟ أم هي مرحلة وسيطة؟ في الحقيقة هي أسنان طيور بنسبة 100%، فأسنان الطيور مفلطحة وغير مشرشرة وجذورها عريضة، بينما أسنان الديناصورات (الزواحف) عكس ذلك، العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنفسهم يقولون الآن من المُستحيل أن تكون الطيور تطورت من الزواحف لأسباب كثيرة جداً بل من المفترض العكس أنّ الزواحف قد تطورت من الطيور، ويقولون أيضاً أنّ الأركيوبتركس طائر حقيقي مكتمل الصفات وليس حلقة انتقالية، ومنهم العالم التطوري الشهير ألان فيدوتشيا، في كتاب أصل الطيور وتطورها، إذ قال إنّ الأركيوبتركس طائر كامل وليس مرحلة ولا يصلح ليكون مرحلة، سأسمع أحدهم يقول إنّ النظرية غير معتمدة على العُلماء الكبار حتى التطوريون منهم، وحينها سوف أسألك علامَ هي معتمدة؟ على إيمانك!

تشبه عظام الأركيوبتركس في تجويفها عظام الطيور الحالية، وهذا يعني أنه طائر كامل وليس زاحفاً متحوراً، فالريش يبين أنه من ذوات الدم الحار وليس من ذوات الدم البارد، أي أنه طائراً وليس زاحفاً، وهُنَاك دليلان قويان من الأحفورة يؤكدان عكس ما يقوله العُلماء المُؤمِنون بالتطور الأوائل بأنه يشكل حلقة انتقالية وأنه كان لا يطير، أما الدليل الأول فإن الريش غير متماثل asymmetrical feathers وهي من صفات الطيور القوية، والدليل الثاني وجود درع أو عارضة لعظمة القص keeled sternum تؤكد أنه خُلق جاهزاً للطيران.

وقد قام الباحثون في مجلة Scientific Reports باستخدام تقنية تصوير الفلورسنت المحفز بالليزر LSF لحل لغز الريشة التي تحدثنا عنها في منطقة سولنهوفن في جنوب ألمانيا والذي دام لأكثر من 150 سنة، إذ تُظهر الدراسة الحالية أنّ الريشة مُختلفة عما هو في الطيور الحديثة بافتقادها للخط الوسطي على شكل حرف S، وتقول الدراسة أنها ربما تعود إلى نوع غير معروف من الديناصورات، وأنّ إسنادها إلى أركيوبتركس كان خطأً أي أنّ الموضوع من الأساس فقد جدواه [72].

إنّ قصة سلف الطيور طويلة ومليئة بالمشكلات والهفوات والتلاعب، بل بها فضائح قوية هَزّت العالم حينما تم اكتشافها مثل فضيحة البامبيرابتور وفضيحة الأركيورابتور وفضيحة الحمض النووي للديك الرومي [68] وعلى ما يبدو أنها لن تنتهي قريباً!

رسم توضيحي 26 حسب نظرية التطور فإن التي ريكس هو سلف الدجاجة.

هُنَاك في جزء ما في دماغ الطيور منطقة لحسابات الطيران المُعقَّدة، ثم السرعة اللازمة، الارتفاع المطلوب، الحمولة الممكنة، الاتجاهات الحالية، البوصلة المخصصة، الوقت المُحدد، جميعها متناسقة مع خلايا الجسم، كما ولديه أجهزة استشعار الطعام عن بعدـ وآليات لزيادة أو تقليص كل هذه الخيارات في حالة الراحة في الهواء أو الهروب من الأعداء، آليات مُختلفة للهبوط والإقلاع، كذلك مُحددات مُختلفة للطيران المرتفع والمنخفض، وهذا كله دون برج مراقبة أو GPS أو قمر صناعي أو موجات راديوية أو غيرها، إنّ الطيران عملية مُعقَّدة سواء على المستوى الحسابي أو على المستوى الفسيولوجي، إذ يجب على الطيور أن تمتلك قدرات متكاملة لتستطيع الطيران ولا مجال للتجربة والخطأ.

تناظر الكائنات

نجد في التشابه الوظيفي Analogies بين الحيوانات أنّ للطيور جناحين وللفراشة والخفاش كذلك، وهم كائنات مُختلفة تشترك في وظيفة الطيران في أجزاء معينة من جسدها، وهُنَاك التشابه البنيوي Homologies، إذ تقترب بنية العضو وتختلف في أدائها مثل عظام الجناحين في الخفاش وعظام الزعانف في الدلافين وعظام اليد في الإنسان، وقد لعب كلا التصنيفين دوراً أساسياً في التصنيف الحيوي لاحقاً، فالتشابه الوظيفي يشير إلى أنّ التكيف حدث بناءً على ظروف خارجية، والتشابه البنيوي يشير إلى وجود قرابة بنيوية عميقة ، واعتبر داروين أنّ التشابه البنيوي دليلاً دامغاً على التطور، واعتبر العُلماء من بعده أنّ هذا أمراً مقدساً لا نقاش فيه، بينما يرى الخلقيون أنّ التشابه البنيوي دلالة على وحدة المصمم، أو على بصمته.

يرى أي إنسان غير مختص أنّ رباعيات الأطراف كلها مثل الطيور والزواحف والثدييات متقاربة كما لو أنّ الأطراف مُشتركة ثم تكيّفت لاحقاً لتلائم مهمتها، ولعله يصدق أنّ الجينات الخاصة بجناح الخفاش هي الجينات الخاصة نفسها بيد الإنسان وقد تم توارثها من سلف مُشترك، وهذا أساس من أساسات الدارونية، وقد حاول العُلماء مراراً وتكراراً توضيح أنّ التشابه البنيوي ليس بسبب تشابه جيني، إلا أنّ القارئ غير المختص لا يعرف هذه المعلومات المختصة.


إنّ آلية إرسال الأمواج الصوتية للتعرف على المحيط في الخفاش تشترك في الجينات مع نظيرتها لدى الحيتان والدلافين [73] [74]، وإذا علمنا أنّ التطور يقول أنّ لكل من الحيتان والخفافيش سلف مختلف عن الآخر، فكيف تطورت نفس الأجزاء الوظيفية بنفس الجينات في كائنين مختلفين! هذا لا تفسير له إلا من خلال الأمرين التالين:

  1. أن يكون هناك سلف مشترك قديم جداً قد طور هذه الجينات وأبقاها مختفية إلى أن استخدمها الأحفاد بعد ملايين السنين، وهذا ينافي فكرة الانتخاب الطبيعي بالتخلص من الأعضاء الضامرة وكذلك فكرة تطوير الكائن صفات لا فائدة منها إلا بعد ملايين السنين دون هدف واضح.
  2. أو أن يكون مصمم جهاز الحوت للموجات الصوتية، هو مصمم الجهاز نفسه عند الخفاش، وهو يقول، إنها بصمتي، إنها الجينات نفسها أضعها كيف أشاء، بل وسأجعل جينات الحصان أقرب لجينات الخفاش منها لجينات البقرة! مع أنّ البقرة والحصان متشابهان بالشكل، في حين يختلف الخفاش والحصان كثيراً، بل سأجعل القطط والكلاب أقرب الكائنات للحصان، وليس البقر [75] [76].

من المُفترض حسب نظرية التطور أنّ أسلاف الرخويات قد انشقت عن الفقاريات في العصر قبل الكمبري [77]، وهذا يعني أننا كبشر نرتبط بديدان الأرض ونجم البحر أكثر من ارتباطنا بالأخطبوط، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون عيون الكائن البسيط البدائية في السلسلة موجودة في الأخطبوط، لكنا نرى على العكس من ذلك فعلى الرغم من انحدار الأخاطيب في مرحلة أسبق في التطور، إلا أنها تتميز بنظام رؤية شديد التعقيد كالذي يميزنا نحن البشر كما في (شكل 35 التطابق البنيوي بين عين الأخطبوط وعين الإنسان).


شكل 35 التطابق البنيوي بين عين الأخطبوط وعين الإنسان [77].

إنّ بُنية عين الإنسان مُتشابهة مع بُنية عين الأخطبوط، ولكننا نعلم أنّ السلف المُشترك لكليهما لا يملك عيناً، وهذا الأمر وغيره من الأمثلة تُحتم على مؤيدي نظرية التطور إعادة تعريف التشابه البنيوي، فالتشابه البنيوي غير مرتبط بالسلف المُشترك كما يقولون، والتشابه في البنية والموضع لا يخدم الحقيقة، وعلينا الاتفاق على جزئية هل يفسر التناظر السلف المُشترك، أم أنّ التناظر يفسر التشابه البنيوي، فعين كل من الإنسان والأخطبوط متناظرتان وليس لهما سلف مُشترك، في حين تبين أنّ لأطراف الفقاريات أصل مُشترك.

ولكن، ماذا عن التحليل الجزيئي، هل يساهم في حل هذه المعضلة؟ للأسف لا دلائل العُلماء المُؤمِنون بالتطور ولا دلائل من هم ضدهم تنهي المُشكِلة هذه، فكل الدلائل ضعيفة، والخلاصة أنّ التحليل الجزيئي للدنا لا يمكن أن يثبت أو ينفي التشابه البنيوي، ولكن ماذا لو اتجهنا للسجل الأحفوري، هل يمكن أن يبين التشابه البنيوي؟ للأسف هو لا يكفي ولا يمكن الاعتماد عليه، ولا حتى يمكننا الاعتماد على النمو الجيني أيضاً، فمعظم أطراف الفقاريات على سبيل المثال، تنمو أصابعها من الأمام للخلف، أي في الاتجاه من الذيل للرأس، ونراه بوضوح يحدث في الضفادع، لكن السلمندر أحد أقرب أقرباء الضفادع يقوم بهذه العملية بطريقة معاكسة تماماً، وهذا يعني أنّ تطور السلمندر جاء من بيئة أخرى هذا لو افترضنا وجود التشابه البنيوي بناءً على النمو الجيني، ولحل هذه المُشكِلة الكبيرة، اقترح العُلماء أنّ السلمندرات تطورت وحدها باستقلالية عن باقي رباعيات الأرجل! وهذا أمر غريب جداً كحل بدلاً من رفض النظرية، وهُنَاك أمثلة أكثر قسوة لو سرنا على هذا المنوال.

لكن، ماذا لو اعتمدنا على الجينات؟ فحينها يجب أن نجد جينات اليد في الإنسان قريبة من جينات اليد في الحوت من حيث التسلسل والشيفرات، ولكن للأسف ما وجده العُلماء أنّ الصفات المتناظرة لا تستدعي بالضرورة أن تكون محكومة بمورثات مُشتركة [68]، بل والأكثر غرابة مما نتخيل، تتطابق بعض الجينات العادية التي تساهم في نمو ذبابة الفاكهة مع جينات لدى الفئران والديدان وقنفذ البحر، ولو قمنا بنقلها بين هذه الكائنات المُختلفة لما حدث أي تغيير! وهذا يقودنا إلى سؤال مهم، ما دام أنها الجينات نفسها بين الكائنات، لِمَ لا ينمو من جنين الفأر ذبابة فاكهة! هُنَاك أمثلة عديدة لا تُحصى على تشابه الجينات واختلاف الشكل أو البنية الناتجة، وهذا يقود العُلماء إلى تكثيف البحث في العوامل فوق الجينية أو ترك هذا الموضع بشكل عام والبحث في مكان آخر.

رسم توضيحي 27 جناح كلٌ من الخفاش والطيور.

تتكون أجنحة الخفاش من جلد ممدود بين عظام الأصابع والذراع، وفي الطيور تتكون من ريش يغطي كافة الذراع، وهذا اختلاف كامل بين جناح الخفاش وجناح الطيور وهذا يبين أنّ كلا الجناحين لم يتم توريثه من سلف مُشترك، وعلى مستوى أعمق الأمر نفسه بين يد الإنسان ويد القرد، هُنَاك اختلاف كبير لا يمكن أن نعزوه للتشابه البنيوي [78].

التفاسير الغائية لا توضح كيف ظهرت الأعضاء بل ولماذا ظهرت، التفسير الذي يقدمه العُلماء المُؤمِنون بالتطور بالإضافة إلى كونه اعترافاً ضمنياً بالغائية في الحياة، فإنه لا يُعد تفسيراً لكيفية ظهور هذا النمط من الأساس، فهو أشبه بشخص حاول تفسير ظهور السيارة بقوله إنّ السيارة قد وُجدت ليركبها الناس ويتنقلوا عبرها لمسافات طويلة دون تعب، وإن كان الخفاش قد طور يده في الغابة إلى جناح ليطير، وطور البطريق جناحه إلى مجداف ليسبح بمهارة، فهذا يعني أنّ التطور ذكي ويقيس البيئة ويفهمها ويسير بناءً عليها وليس أمراً عشوائياً، بل هو أمر ذو غاية، وإلا لماذا لم يتطور جناح البطريق إلى جناح جميل يشابه الطاووس، ولماذا لم يتطور جناح الخفاش إلى جناح خاص بالتجديف في الماء! أليس هذا ممكن عشوائياً! ويُضايقني في هذا المقام سماع جملة: ولا يمكن تفسيره إلا في سياق التطور، إنّ تقهقر الأجنحة وفقدانها لدورها الوظيفي الأساسي وهو الطيران وتحولها إلى مجداف أو دفة هو أمر يمكن فهمه بأنه تصميم دقيق، ولا يُمكن تفسيره في سياق الصدفة، إنها جملة تناقض العلم الذي يخبرك بالبحث في كل الخيارات، أما التطور فيخبرك أنه يجب ألا ترى إلا من خلال هذه النافذة، لماذا لا تكون الجملة، ويمكن تفسيره في سياقات منها التطور! وكأننا هربنا من سطوة رجال الدين، إلى سطوة رجال التطور.

يقول نيوتن: “هل يمكن أن تكون مصادفة أنّ كل الطيور، والحيوانات، والإنسان لها مواصفات الجانب الأيمن والجانب الأيسر نفسها –ما عدا الأمعاء الداخلية– (يقصد القلب في اليسار.. إلخ)، وعينان اثنتان فقط لا أكثر على جانبي الوجه وأذنان اثنان فقط لا أكثر، وأنف واحد بفتحتين وإما ذراعان أو جناحان وساقان ولا شيء أكثر، ألا تلفتنا تلك الوحدة الظاهرة إلى شيء سوى هيمنة وإشراف مؤلف قدير [79]”.

تطور أجنحة الحشرات

تكمن المُشكِلة في التناظر الوظيفي في أنه من المُستحيل أن يكون قد حدث بالصدفة في كائنات مُختلفة وفي فترات وأوضاع وظروف مُختلفة، يستحيل أنها وجدت نفس الحل لنفس المُشكِلة، علاوةً على حدوث الطفرات والعمليات على مدار ملايين السنين وبملايين الطفرات والخطوات، نجد أنّ الكائنات تطفرت وتطورت بالهيئة نفسها فقد نما لها جناحان، الطيور والحشرات والخفافيش والأسماك الطائرة، كلها تطورت بالآلية نفسها رغم الصدفة، رغم الظروف المُختلفة، أمرٌ مُحيرٌ بالفعل ولا يتقبله العقل، إلا إذا كان هُنَاك -واتساب- لتتواصل الخلايا فيما بينها! الأمر نفسه حدث في الذئب الأسترالي والذئب الأمريكي فكلاهما نشأ في منطقة ما، لكنهما تطورا بالشكل نفسه وتشابهت أعضاءهما، بل حتى الأعضاء التناسلية تشابهت تطورياً.

حسناً، لنعود إلى الموضوع الأساسي، أحد الأسئلة التي تطرح دائماً ولا يُجاب عنها هو: كيف تطورت أجنحة الحشرات؟ هل في السجل الأحفوري ما يوضح هذا الأمر؟ على الأقل يجب أن نرى نماذج مُختلفة (مفترض لا نهائية) في تطور أجنحة الذبابة أو اليعسوب أو الدبور وغيرها من الحشرات، ويشاع بين العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنّ سبب تعقيد بنية الحشرات هو ظهورها قبل 480 مليون سنة في العصر الأوردوفيشي، وهو الوقت نفسه الذي ظهرت فيه النباتات! وكان أول طيران ناجح في العصر الديفوني قبل 400 مليون عام، فهُنَاك نوع من القشريات تطور واستطاع الطيران، وهذا أمر وُجد بالصدفة في السجل الأحفوري لحشرات محفوظة بدقة! وأي محاولة تُثبِت أنّ الحشرات قد تطورت منذ زمن قريب سيفشل، لأنه لا يلبث أن تظهر اكتشافات أنّ الحشرات وأجنحتها أقدم مما يتخيله العُلماء، هي موجودة مع النباتات! وبشكلها الحالي تماماً، إنها وجدت هكذا!

بل وعلى العكس تماماً على مدار 480 مليون سنة وجدنا حشرات فقدت أجنحتها، من المُفترض أن يحدث هذا في مسار من المسارات، ففقد المعلومات الوراثية مُشكِلة كما سنتكلم لاحقاً، ودعونا لا نذكر هنا نظرية تطور نصف الجناح، فهي تجعلني أتخيل نصف المطلوب مني في لقائي مع مونيكا بيلوتشي، ماذا سأفعل به؟ بل وأشارت دراسة حديثة إلى أنّ الكائنات قد تفقد أجنحتها أو القدرة على الطيران عبر الزمن إذا لم تستخدمها كثيراً وليس العكس، إنّ ضياع الجينات وفقدها يُشكل مُشكِلة حقيقية.

تطور الثدييات

وفقاً للسيناريو الأكثر قٌبولاً وانتشاراً فإن الحياة انتقلت من البحر إلى البر، من الأسماك والبرمائيات إلى البر منذ ملايين السنين لتظهر بعدها الكائنات الأرقى أو الأحدث مثل الزواحف والطيور والثدييات، والسبب في هذه الفكرة الأساسية كما أشرنا في حساء الحياة هو وجود الماء والأملاح والمعادن وكل المكونات في وسط يسمح لها بالتفاعل، وقد دعم هذا الأمر بشدة وجود الملح (ملح الطعام؛ كلوريد الصوديوم) في أجسام الكائنات الحية، وهذا يعني أنّ الكائنات ظهرت في البحار والمحيطات أولاً ثم انتقلت لليابسة، إلا أنها لم تستطع أن تتخلص من الأملاح أثناء مسيرة التطور وبقيت الأملاح في دمائنا كدليل على البحيرة الأولى.

هذه الفكرة جميلة لكنها بحاجة إلى مراجعة وفق العلوم الجديدة التي بين أيدينا، لنبدأ بالملح، إنّ أي طالب علوم يعرف أهمية الأملاح في جسم الإنسان، فجسم الإنسان كهربائياً يعمل على المحاليل الملحية الموجودة فيه، فلولا هذه المحاليل لن يعمل القلب، ولن تعمل خلايا الأعصاب ولن تعمل الخلايا ضمن النسيج، بل حتى الخلية نفسها من الداخل لن تعمل، لا البوابات ولا النواقل ولا الريبوسومات ولا الرنا ولا النواسخ ولا الليسوسومات ولا الميتوكوندريا ولا أي جزء في الخلايا، والملح في جسم الإنسان يكون على شكل أيونات سالبة وأيونات موجبة، ولكي تنتقل أي إشارة كهربائية من مكان إلى مكان، نحن بحاجة إلى تحريك الإشارات الكهربائية هذه، والعملية متداخلة إذ تدخل فيها أملاح الصوديوم والبوتاسيوم والكلور وغيرها في توليفة مُعقَّدة تسمح بانتقال الإشارة، وأي نقص في أي عنصر تحدث مشاكل جمة في جسم الإنسان، قد يتوقف القلب أو الأمعاء أو كل جزء من جسم الإنسان.

قَد سألتُ البحرَ يَوماً هَل أَنا يَا بحرُ مِنكا ….. هَل صحيحٌ مَا رَواهُ بَعضُهُم عَنِّي وَعَنكا

أَم تُرى ما زَعَموا زُوراً وبُهتاناً وإِفكاً ….. ضَحِكَتْ أَمواجُه مني وقَالت

لَستُ أَدري!

أَيُّها البَحرُ أَتَدري كَم مَضَت أَلفٌ عَلَيكا ….. وَهَلِ الشاطِئُ يَدري أَنَّهُ جاثٍ لَدَيكا

وَهَلِ الأَنهارُ تَدري أَنَّها مِنكَ إِلَيكا ….. ما الَّذي الأَمواجُ قالَت حينَ ثارَت

لَستُ أَدري

يَرقُصُ المَوج وَفي قاعِكَ حَربٌ لَن تَزولا ….. تَخلُقُ الأَسماكَ لَكِن تَخلُقُ الحوتَ الأَكولا

قَد جَمَعتَ المَوتَ في صَدرِك وَالعَيشَ الجَميلا …… لَيتَ شِعري أَنتَ مَهدٌ أَم ضَريحٌ

لَستُ أَدري

فيكَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ أَصداف وَرَملُ ….. إِنَّما أَنتَ بِلا ظِل وَلي في الأَرضِ ظِلُّ

إِنَّما أَنتَ بِلا عَقل وَلي يا بَحرُ عَقلُ ….. فَلِماذا يا تُرى أَمضي وَتَبقى

لَستُ أَدري

رسم توضيحي 28 مراحل حركة الإشارات في النبضة القلبية، ونلاحظ في كل مرحلة دور الأملاح، ففي المرحلة الأولى يدخل الصوديوم ثم يتوقف دخوله تماماً، ثم يتم إدخال الكالسيوم في المرحلة الثانية، ثم في الهبوط على المنحني المرحلة الثالثة سيبدأ دخول البوتاسيوم، ثم في المرحلة الرابعة يبدأ دخول الصوديوم بنسبة قليلة من جديد، وهذه العملية تحدث مليارات المرات كل ثانية في كل عملية نقل أي إشارة أو تحريك أي خلية عضلية.

تنتقل الكهرباء في القلب كما في الأعصاب وذلك عبر عدة مسارات في عدة خطوات، كل خطوة منها تتم عبر أجزاء معينة منها، وهُنَاك مناطق في القلب لتسيير الإشارة وجعلها تستمر مثل الـSA Node والـ AV Node وغيرها، وهي ما تُفيد في عملية تراها دائماً في صعق القلب كما في الأفلام حينما يموت البطل.

بل حتى الأعصاب لا تعمل إلا بالأيونات، فأي إشارة من أي خلية لخلية أو من الدماغ لأي خلية أو عضو تنتقل عبر الأيونات بسرعة البرق، وتطبيق هذا الأمر كبير جداً في الأدوية والمخدرات وغيرها، لُغة التواصل في كل جسم الإنسان هي الأيونات السالبة والموجبة الآتية من الأملاح، وحينما تكلمنا عن النقل، مثل Passive Transport وغيرها من طرق النقل التي تحدث في اللحظة مليارات المرات هي تعتمد على الأيونات.

إنّ تصميم أو هيكلية الخلايا والأنسجة والأعضاء والجسم ككل تعتمد على وجود الأملاح، هذه المعمارية مصممة ومهيكلة على الورق قبل أن يتم إنشاؤها.

رسم توضيحي 29 تتابع حركة الأملاح في نقل الإشارات الكهربائية.

جميعنا نعلم أنّ الدلافين والحيتان تصنف من الثدييات وليست من الأسماك، وهي تعيش في الماء بعكس باقي الثدييات، ولكن كيف ظهرت هذه الثدييات المائية؟ كان داروين عام 1859م يرى أنّ الحوت قد تطور من الدب وعاد إلى الماء، ثم قال العالم فلاور في عام 1883م إنّ الحوت جاء من إحدى فصائل ذوات الحوافر، وفي بداية القرن العشرين اتجه التطور إلى أنه أتى من السيردونتات المُنقَرِضة، ثم قالوا بل من آكل الحشرات، إلى أن وصلنا إلى ستينيات القرن العشرين والنظرية التي يتم سردها بأن الحوت جاء من حيوان يشبه الذئب.

يرى التطور أنّ الثدييات قد تطورت من الزواحف، وكما نعلم فإنّ الثدييات والزواحف تطورت من البرمائيات التي غادرت الماء بسهولة، وأصل البرمائيات أسماك كما نعلم، ولكن السؤال هنا: كيف للزواحف التي تركت الماء أن تعود إليه؟ أم أنّ البرمائيات تطورت إلى الحيتان مباشرة بقفزة كبيرة؟ وإذا كانت الزواحف تطورت مرة أخرى إلى الحيتان ثم عادت إلى الماء، فكيف لها أن تفقد ما تطورت منه، كيف تفقد أرجلها وفراءها ونظام التكاثر الثديي وتتحول إلى كائنات بحُريّة، ولكنها أبقت على الرئتين ولم تعد لتتنفس عبر الخياشيم! السيناريو كما ترون مُعقَّد وغير مفهوم، ولِمَ حصل هذا؟ وما هي الميزة الحقيقية للتطور؟ ما الذي يميز الحوت مثلاً عن غيره من الثدييات التي تعيش على اليابسة؟ وهل من الصواب أن يتطور الكائن كل هذا التطور ويبقى حبيس رئتيه؟ عليه أن يصعد إلى السطح للتنفس كل دقائق، ولماذا لم يصغر حجمه وتبقى رئتيه كبيرتين؟ ونحن نعلم مسبقاً أنه لم يُوضَّح لنا كيف يفقد الكائن عبر آليات التطور أعضاءً كاملة، وكيف يكتسب أعضاءً كاملة أخرى كالزعانف وغيرها!

لقد قاربت ملامح قصة تطور الحوت على الاكتمال عام 1966م، على يد عالم الأحافير فان فالين حين رصد بعض التشابهات بين أحافير وسطية الحوافر Mesonychids وهي مجموعة من آكلات اللحوم المُنقَرِضة مع عظام أحافير الحيتان [80]، هذه لقد امتلكت هذه الحيوانات المُنقَرِضة الشبيهة بالذئاب أسناناً ثلاثيةً تشبه تلك الموجودة في الحيتان الحالية، فاستنتج العالم فان من تلك التقاربات أنّ الحيتان انحدرت منها، وقد أكمل العُلماء الدراسة من بعده بالاعتماد على الحوت الباكستاني Pakicetus والذي ظهر قبل 50 مليون سنة، ثم الاعتماد على الروديسيتوس Rodhocetus، وهو كائن ظهر قبل 46 مليون سنة [81]، وهو الكائن الذي يُفترض أنه يُشكل حلقة انتقالية بين البر والماء، ويُفترض أن يمتلك أطرافاً وذيلاً تشبه أطراف الحوت، إذ رسم مكتشفه الدكتور فيليب جنجريتش كل هذه الأعضاء الانتقالية من خياله إذ لا يوجد ذيل، وسيناريو سير التطور هو كالتالي:

  1. ظهر الـPakicetids قبل 50 مليون سنة.
  2. ثم ظهر الـAmbulocetids قبل 49 مليون سنة.
  3. ثم ظهر الـRemingtonocetids قبل 49 مليون سنة.
  4. ثم ظهر الـRodhocetus قبل 47 مليون سنة.
  5. ثم ظهر الـBasilosaurids قبل 40 مليون سنة.

رسم توضيحي 30 مراحل تطور الحوت.

وقد عَثَرَ العُلماء عام 2016م على أحفورة لحوت مائي كامل من نوع الباسيلوسورس Basilosaurus، وتم تأريخ ظهوره إلى 42 مليون سنة، أي أننا وجدنا حوتاً كاملاً في فترة قريبة جداً، وهذا يُلغي الكلام السابق، وأزيدك من الشعر بيتاً أنّ هذه الحفرية وُجدت في البيرو! أي بعيداً عن كل المسرح التطوري، وهذا سؤال آخر يجب الإجابة عنه.

حينما نعثر على أحفورة فإننا نستطيع الإجابة عن سؤال يقيني واحد، أنها كانت لكائن حي دُفن بعد موته في هذا المكان لنجد آثاره فيما بعد، هذه الحقيقة الوحيدة الثابتة، وغير ذلك من استنتاجات تبقى استنتاجات وليست تأكيداً علمياً كما يحدث، فالأحفورة لا نَجِدها وبجانبها شهادة ميلاد، اسمها كذا وهي ابنة كذا، لا نستطيع أن نجزم كما يفعل التطور بأننا وجدناها في الطبقة كذا فهي حتماً سلف كذا، فلو وجدنا حفرية خفاش، هل سنقول مثلاً هو ابن الثدييات لو لم يكن هُنَاك خفاش بيننا؟ بالطبع سيقول التطور إنه حتماً طائر تطور من سحلية اسمها الفيقوفيتش (اسم خيالي) وكانت تعيش في الكهوف ولها ريش خفيف!

مع تطور شجرة الحياة، اكتشف العُلماء أنّ الذئب الذي اعتمدوه كمصدر للتطور يوجد به عيب، وهو بعيد عن كونه قريب للحيتان، ولذلك نجد خطأ الاستدلال الدائري ظهر مرة أخرى في التطور لتُثبِت وجهة النظر، فنحن نستدل في العادة بالأحافير لرسم السيناريو، إلا أننا هذه المرة سنستخدم السيناريو لتأكيد تسلسل الأحافير.

لدينا المزيد، هل تعلم أنّ الحفرية الأولى للحوت الباكستاني هي عبارة عن جزء من الفك وجزء من الجمجمة كما في (شكل 36 الحفرية الأولى للحوت الباكستاني). إلا أنّ العُلماء استنتجوا منها كل الاستنتاجات الضخمة، مثل شكل الحوت وزعانفه وأنه كان يسبح ويصطاد السمك! لا أدري ماذا أقول لكن لنكمل، وبعد ذلك بسنوات طويلة وفي بدايات القرن الحادي والعشرين تم اكتشاف أحفورة أفضل وتحتوي على قطع أكثر للحوت الباكستاني، وكما أراها في (شكل 36 الحفرية الأولى للحوت الباكستاني). أنها كائن ثديي وليست حوتاً، فهل ترونها أقرب للحوت كما العُلماء؟ أم أقرب للثدييات كما غير العُلماء؟

إذا كنت تراها كما الثدييات فأنت مُصيب، لأنّ العُلماء يقولون بوضوح أنها كائن ثديي كامل وليست مرحلة انتقالية [82].


شكل 36 الحفرية الأولى للحوت الباكستاني.

حينما بدأت بكتابة هذا الفصل، كنت أكره التفكير في كتابته، لما فيه من تغيير وتلاعب، فحينما تم تأكيد أنّ الحوت الباكستاني حيوان ثديّ، قام العُلماء برسمه مرة أخرى بأرجل قصيرة ومنحنية للخلف وبطريقة توحي أنه حوت سبّاح، لم يكتفِ العُلماء بحذف هذا السيناريو من التطور، بل قاموا باعتبار كائن الـ Ambulocetus حلقة مفقودة!

هل يتطوع عالم ما لإخبارنا كيف تم التوصل إلى صورة كائن حي كما هو مرفق بالأسفل من بعض العظام فقط؟ كيف تم وضع زعانف على يديه وقدميه من بعض العظام؟ أنا أتساءل ولا أتهكم! الأمر مشابه لما حدث مع كائن الـRodhocetus، وقد اعترف العالم جنجريتش الذي أخرج السيناريو البوليودي لاحقاً أنّ الذيل والزعانف وغيرها كان من فضاء خياله الواسع [83] [84].

رسم توضيحي 31 صورة الكائن الحقيقي دون إضافات.

حسناً، كما نرى فإن كل السيناريو الموجود محض تخيُّل أو تم تعديله لاحقاً، لكن (الصورة 8 صورة تعبيرية عن الحوت في مراحل تحوره). ستبقى محفوظة في خيالك مهما حاولت أن تمحوها، وستبني عليها الأفكار التي تقول: إنّ التطور ممكن.


صورة 8 صورة تعبيرية عن الحوت في مراحل تحوره.

ثَمَّة إشكالية إضافية في شجرة تطور الحوت، فطوال هذه الاكتشافات، كان العُلماء يَعزُون فيها إلى أنّ الحيوان أ ظهر بعد الحيوان ب وهكذا، لكنهم كانوا يترفعون في رسم شجرة الحياة عن وجود سلف مُشترك وتسميته، ولأننا لم نوضح في الكتاب آلية قراءة شجرة الحياة وفهم الرسومات المتعلقة بها، إلا أنه باختصار يجب أن يكون لكل كائن سلف مُحدد واسم خاص، وفي شجرة الحوت لا يوجد أسلاف بالمطلق.

لا تنسَ أنّ كل هذا السيناريو الضخم وعشرات الأنواع التي كتبها العُلماء جاءت فقط لأنهم وجدوا بضعة أحافير، والتي من المفترض أن نجد الملايين منها حتى نقول أنه قد حدث بالفعل، وما عزز هذا التيه أكثر أنّ الإشكالية تعدّت فقر السجل الأحفوري في عدد الأحافير إلى عدم تقديمه أي بيانات جزيئية أو سُلُوكية أو بيانات عن الأنسجة الرخوة التي تساعد في إجراء المقاربات المطلوبة، وهذا ما قام بدارسته وتوثيقه العالم O’Leary في سجل في سجل الحيتان الأحفوري، وأنتج رسماً بيانياً، وقرّب إلينا الفكرة عبر رسم بياني يحدد حجم البيانات التي يمكن أن يزودنا بها سجل الحيتان الأحفوري ومثّل البيانات التي يصعب جمعها بمنطقة سوداء تُمثل غالبية المساحة البيانية.

رسم توضيحي 32 رسم بياني لبيانات الحوت المتوفرة مقارنة مع البيانات غير المتوفرة للحكم بدقة على تطور الحوت

[85].

لكن، هُنَاك من الأساس اختلاف بين العُلماء على سلف الحوت، فهل هو كائن من مُزدوجات الأصابع Artiodactyls أم كائن من وسطية الحوافر Mesonychians؟

لو اعتبرنا الحيتان أقرب الأقارب لمُزدوجات الأصابع Artiodactyls سيكون علينا تجاهل التشابه بين الأسنان وشكل الجمجمة، ولو اعتبرنا الحيتان أقرب الكائنات إلى وسطية الحوافر Mesonychians فعلينا تجاهل التشابهات بين عظمة العقب واعتبارها مُجرَّد تقارب convergences [86]،

بعيداً عن متاهة السلف المجهول فإن الاختلافات بين الحوت البحري والسلف البري لا تُعد، وتكاليف التحول إلى الحيتان مرتفعة جداً، ويجب أن يحدث التطور بسرعة ضوئية وبعدد هائل من التكيفات والطفرات المُفيدة، والتي حسب التطور لا تتعدى 10 مليون سنة حسب السجل الأحفوري لتحول ثدييات اليابسة إلى حيتان ماء، هذا أمرٌ مُستحيل من ناحية التطور، ستحتاج الحيتان إلى العديد من المزايا الفريدة حتى تتمكن من العيش في الماء مثل ملامح الهيكل العظمي التي يجب أن تتغير جذرياً، وكذلك آليات وظائف الأعضاء للكائن الحي.

على سبيل المثال لا الحصر، فإنه في وقت مبكر قبل 49 مليون سنة كان من المُفترض أن يشرب الحوت الجوّال Ambulocetus المياه العذبة طوال حياته أما الحوت الأولي Protocetid فقد شرب المياه المالحة قبل 47 مليون عام، أي أنّ تغييراً متطرفاً في وظائف أعضائه يجب أن يحدث في مدة أقل من 3 ملايين عام، وهنا سيتوجب على هذا الحوت الأولي التطور بطريقة دقيقة لإنتاج التحسينات في وظائف الأعضاء خلال حقبة الثلاث ملايين عام القصيرة جداً في التطور، وفي الوقت نفسه يجب عليه أن يطور مُختلف الآليات الحيوية والعضوية مثل الغطس لمسافات طويلة وتبادل الأكسجين مع تطوير نظام شامل لتنظيم درجة الحرارة وتخزين الدهون في وقت قصير يخالف كل النظرية، مع اختلاف نوع من تغذية الحيتان عن الحيوانات البرية في آلية اصطيادها، فالحيتان يجب أن تكون مجهزة لهذه التغييرات وأن تكون مستعدة للغوص العميق، وإمكانية إرضاع صغارها في الماء.

إحدى الإشكاليات في الثدييات هي كونها من ذوات الدم الحار فهي تمتلك درجة حرارة ثابتة أعلى من درجة حرارة الزواحف والأسماك والبرمائيات، وهناك مشكلة عظيمة لكي يحافظ كائن ثديي يعيش في الماء البارد على درجة حرارة جسمه، إلا أننا نرى الحيتان قد صُممت بهياكل مخصصة مُعقَّدة ولديها المبادلات الحرارية المعاكسة countercurrent heat exchange التي تحافظ على حرارة جسمها ثابتة [87] كما في (شكل 37 المبادلات الحرارية المعاكسة في الحيتان)، إذ تتحرك الدماء باستمرار من اللسان لباقي الجسم وتعود في دورة للمحافظة على حرارة الأعضاء كاملة.


شكل 37 المبادلات الحرارية المعاكسة في الحيتان.

شكل 38 آلية عمل المبادلات الحرارية المعاكسة في الحيتان.

ماذا عن تطوير نظام السونار المتقدم الموجود في الحيتان؟ وتحديد الأماكن عبر صدى الصوت كوسيلة للاتصال تحت الماء من خلال الموجات الصوتية، وهو النظام الدقيق الذي تحسده عليها أكثر الغواصات تقدماً، إذ يمكنها الكشف عن سمكه في حجم كرة الغولف على مسافة 70 متر! كيف أتى هذا النظام من العدم في فترة قصيرة؟ بل هل من الممكن للطبيعة أن تطور هذا النظام؟

يقول العالم روري هاولث بعد أن درس هذا النظام في الدلافين إنّ تلك الأنماط لا بد لها من تصميم رياضي بالغ الدقة لكى تعمل، فنظام السونار موجود في نتوء دهني في جبين الحيتان والدلافين يسمى البطيخة، وهو عبارة عن عدسة من تجمعات دهنية مُختلفة مصممة لتركيز الموجات الصوتية المنبعثة في شعاع يمكن للحوت أن يوجهه كيفما شاء، ويجب أن تكون التجمعات الذهنية المُختلفة مرتبة بالشكل الصحيح والتسلسل الصحيح حتى يتسنّى لها فهم أصداء الصوت العائدة، كل نوع من هذه الدهون مُختلف عن الدهون الطبيعية وهو نوع فريد من نوعه، وتتكون هذه الدهون من خلال عملية كيميائية مُعقَّدة باستخدام بروتينات ومصانع مُختلفة [88]، ليتطور هذا الجهاز، يجب أن تتخيل جهاز أكثر تعقيداً من سونار أحدث غواصة ظهر من تلقاء نفسه عزيزي صاحب العقل الكبير.

هذا التفصيل البسيط في هذا الجهاز الصغير، يأخذك للتفكير في بقية أعضاء جسم الحوت، يجب أن تفكر في الشرايين الممدودة، الأعصاب المتفرعة، الخلايا الجديدة، الخرائط الحيوية وغيرها، ولا تنسَ أنّ هذا كله موجود في بنك المعلومات في الدنا، مرسوم بدقة كيف نبنيه وكيف نصلحه حتى نستطيع إعادة بنائه من جديد في الأبناء، إليك بعض النقاط المُدهشة في الحوت:

  1. عيون مصممة لمعاملة الرؤية بشكل مناسب تحت الماء مع عوامل الانكسار، بالإضافة إلى قدرته على تحمل الضغط العالي.
  2. آذان مصممة بشكل مُختلف عن تلك الثدييات البرية التي تلتقط الموجات الصوتية المحمولة جواً ومع طبلة الأذن محمية من الضغط العالي.
  3. يفتقر الجلد إلى الشعر والغدد العرقية بالإضافة إلى طبقة دهون للعزل الحراري وتحمل الضغط.
  4. التنفس على الجزء العلوي من الرأس blowholes، وهذا يتطلب تغييراً جذرياً في هيكلية جسم الحوت.
  5. ظهور ذيل الحوت والجهاز العضلي المرتبط به بالكامل.
  6. تعديل الجنين في موقف المقعدية للولادة تحت الماء.
  7. تعديل الجنين نفسه ليتلاءم مع البيئة الجديدة.
  8. تعديل الثدي ليتمكن الأطفال من الرضاعة تحت الماء.
  9. فقدان الحوض والفقرات العجزية.
  10. إعادة تنظيم الجهاز العضلي ليتناسب مع السباحة وحركة الجسم الانسيابية.
  11. التبول وعملية الجنس والولادة وغيرها، نحن نتكلم عن كائن جديد!

لا أعرف ما هو مُدهش أكثر من هذا، فكل خطوة من الخطوات مُعقَّدة جداً حينما أتخيلها، تخيلت نفسي أتعلم السباحة، بصعوبة تامة بعد أشهر تمكنت من السباحة جيداً ولم أتغير مع ذلك! فما بالكم بذئب يسبح، ومطلوب منه أن يغوص في البرودة والضغط ويغير طعامه وأسنانه ومعدته ورئتيه ورؤيته وغيرها.

لا يتوفر وصف للصورة.

رسم توضيحي33 خلاصة سيناريو تطور الحوت.

يجب أن نفكر في كيفية حُدوث هذا السيناريو المُعقَّد في إضافة المزايا لكل كائن تحول في نظرية التطور، وفي كل فقرةٍ انتقالية، حتى نقول إنّنا نفكر بشكلٍ علمي، بل ويجب إحداث التفكير في أبسط الأمور، مثلاً لماذا تملك الحيوانات خمسة أصابع، وليس سبعة أو عشرة، لماذا تطورت اليد بهذا الشكل ولم تتطور إلى شكل آخر. إنها أسئلة بسيطة، لكنها جاءت في صلب عملية التطور، وكيف يقول العُلماء أنّ الزواحف حصلت على هذه الميزات وأمست ثدييات من الأساس؟ الأمر ببساطة كالتالي: بعض الزواحف التي عاشت في المناطق الباردة قبل 310 مليون سنة بدأت في تطوير طريقة للتدفئة، وانخفض فقد جسدها للحرارة بعد أنّ غطّتها القشور، ثم تطورت القشور إلى فرو، وبدأت تُفرز العرق كتكيّف آخر في عملية تطور التدفئة، ولكن بالصدفة لعقت صغار هذه الزواحف بلعق عَرَق الأم حتى ترطب نفسها، وهنا بدأت غدد ما بإفراز عرق ذي كثافة أعلى تحول في النهاية إلى لبن.

الحليب كان أساسه غدد عَرَقية! إلى اليوم لم تستطع البشرية تصنيعه في المختبرات ونحتاج إلى حلب الأبقار وندمر الكوكب مضطرين لهذا الضرر جراء الأبقار وتكلفة تربيتها العالية على البيئة، لتأتي وتخبرنا أنّ الحليب المُغَذي المليء بالبروتينات والدهون والأملاح والمضادات هو عَرَق مُحسّن!

حسناً، عملية لعق غدد العَرَق قد حولتها إلى ثديٍّ يَدُر حليب، ولكن كم مدة حصول هذا التحول؟ يوم؟ شهر؟ مليون سنة؟ فنحن نعرف أنّ الصغار المولودة حديثاً لن تتحمل أكثر من عدة أيام دون حليب، أم أنّ الصغار كانت تأكل اللحوم وتلعق العَرَق؟ ولاحقاً بعد ملايين السنين من تطور الغدد الثديية وبروز الحليب تركت اللحم وأسقطت طقم الأسنان وقالت: ماما ماما أولديني دون أسنان وبمعدة مجهزّة لِلَّعق، لا أريد اللحم فهو يسبب السمنة، وقالت الأم حاضر يا بنيتي لك هذا، نحذفلك الأسنان من جيناتك وأنتِ طفلة، ونركب لك أجهزة متخصصة للتعامل مع الحليب، مبسوطة يا بنيتي؟ الله يخليلنا إياكي يا ماما ويخليلنا الحليب طعمه لذيذ، من دونك يا ماما ما عرفنا نشرب الحليب، وعاش الجميع بسعادة وهناء.

العث الإنجليزي المنقط

بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا وبدأ معها التلوث، ولُوحِظ أنّ أغلب الفراشات داكنة اللون بالقرب من المدينة أصبحت أكثر اسوداداً من غيرها بسبب التلوث المرتفع، إلى أن قام الطبيب وعالم الأحياء البريطاني برنارد كيتلويل بتنفيذ التجارب لتوضيح السبب وتوصل إلى أنّ الانتخاب الطبيعي هو السبب، فكيف ذلك؟

كان لون جذوع الأشجار في بلدة مانشستر فاتح اللون، فأصبحت العثّة ذات اللون الداكن التي تقطن الأشجار واضحة الظهور لأي نوع من الطيور التي تشكل طعاماً لها، بعكس الفراشات ذات اللون الفاتح التي بدت غير واضحة الظهور للطيور التي تتغذى عليها، لذا تعرضت الفراشات داكنة اللون أكثر للالتهام وتضاءلت نسبة نجاتها، هذا ما أوحت به تجارب الطبيب برنارد، كان ذلك مثالاً تطورياً دامغاً عند بعض العُلماء على الانتخاب الطبيعي.

لكن هُنَاك أمرٌ حيّرَ العُلماء! ففي مدينة برمنغهام ومدينة ويلز والمناطق الريفية كانت النتائج مُختلفة عن التجارب السابقة، لقد أيقن العُلماء بوجود عوامل أخرى تدخلت وسببت هذا التغيير في الفراشات، ففي الريف لا يوجد تلوث، ولكن هُنَاك زيادة في الفراشات الداكنة، لاحقاً حتى بعد تطبيق قوانين الحد من التلوث تناقصت أعداد العث الأسود في شمال لندن -كما كان متوقعاً– ولكنها ازدادت في الجنوب، هذا يعني أنّ الموضوع مُعقَّد بالفعل ولا يُفلح عامل واحد بتفسير كل ما يحدث!

وبعد أن قام العُلماء بالمزيد من الأبحاث اتضح عدم صدق الدراسات! بل وظهر التلاعب الواضح في التجارب والنتائج السابقة، فأغلب الفراشات بلونيها الفاتح والداكن تقف في الحقيقة تحت فروع الأشجار ولا تقف على جذوع الأشجار، أي أنّ الصور التي كانت في الأبحاث هي عملٌ مسرحيٌ بحت [68] وأنه حين أجرى العالم كيتلويل التجربة لتأكيد التطور بهذا المثال استخدم فراشات ميتة عبر لصقها على الجذوع بل واستخدم أنواعاً مُختلفة من الفراشات!

أصبح لدينا الآن تجربةً قائمة على أنّ الطيور تصطاد الفراشات الداكنة التي تقف على جذوع الأشجار وتراها بوضوح، وهذه التجربة أدت إلى ظهور فرضيات جديدة، بعد أن عرفنا أنّ هذه الفراشات تختفي دائماً تحت الأوراق وتكون غير ظاهرة، لذا لا تراها الطيور، فكل ما سبق من نتائج وخلاصات ونظريات يجب دحضها.

التعقيبات الأخرى على هذه القصة كثيرة، فالفراشات الداكنة لم تَمُت، لو افترضنا أنّ التجربة من الأساس صحيحة، وقلَّ عددها في هذه المدينة وازدادت في مدينة أخرى، ورأينا أيضاً أنه عند اختفاء العامل الطارئ، عادت الأعداد كما كانت والنسبة بين الفراشات الداكنة والفاتحة طبيعية، أي أنه لم ينتهِ النوع الأضعف، بل توارى وعاد من جديد، ولا يظهر الانتخاب الطبيعي أبداً فناء النوع، بل يظهر قلته وظهوره لاحقاً، أيضاً لم يحدث ظهور لنوع جديد أو صفة جديدة أو عضو جديد، كل هذه الصفات موجودة في الدنا ولا تغيير!

لاحظ أيضاً تحول الانتخاب الطبيعي الذي من المفترض ألا نراه من عامل فعال ومؤثر على مدى ملايين السنين إلى عامل فعّال ومؤثر في مدى سنوات فقط عندما يؤمن به التطور!

الأعضاء الأثرية

الأعضاء الضامرة أو غير المهمة أو الأثرية vestigial organs أو أي مسميات أخرى، هي قائمة بما يقارب 180 عضو سردها داروين وغيره موجودة في جسم الإنسان لا فائدة لها، ويعتقد التطور أنها أُهملت أثناء مسيرة التطور الطويلة، إذ كان الإنسان البدائي يستخدمها، لكن بعد ذلك تلاشى دورها وأهملها، إلا أنها بقيت دليلاً شامخاً على حقبة تطور الإنسان.. إلخ وباقي الكلام الإنشائي، بل وحتى اعتبرت بعض المراكز أنّ هذه الأعضاء ضارة ويجب إزالتها فوراً مثل الزائدة الدودية.

قائمة الأعضاء طويلة، منها: الزائدة الدودية وضرس العقل وشعر الإنسان والعصعص واللوزتين والغدة النخامية والغدة الصعترية والصنوبرية، وغيرها من الأعضاء التي لا يفتأ يستغرب المرء من قراءتها في القرن الحادي والعشرين لاعتبارها أعضاء ضامرة أو غير مُفيدة.

ثم توصل العُلماء إلى أنّ لهذه الأعضاء مهاماً وظيفيةً مهمة كأي عضو في جسم الإنسان، ولن تجد شخصاً في هذا القرن يقول أنّ الغدة النخامية بلا فائدة، أو أنّ اللوزتين والزائدة الدودية بلا فائدة.

حتى لو بترنا العضو ولم يحدث ضرر على الجسم فهل هذا يعني أنه غير لازم؟ لو قطعنا يد شخص ما فإنه لن يموت، ولكن اليد عضو مهم يا أعزائي العُلماء، فللزائدة الدودية مثلاً دورٌ في جهاز المناعة والدفاع ضد البكتيريا، وفي إنتاج هرمونات معينة، وضروس العقل التي تُنتج بالتنسيق مع الأسنان الدائمة كأنها مصممة في حزمة واحدة، تضبط الأسنان وتسد الفراغات بحشر الأسنان.

ويقول التطور أنّ بعض هذه الأعضاء قد أضيف بالخطأ إلى القائمة، وبعضها نأسف لاعتبارها أثرية، فنحن لم نكن قد اكتشفنا بعد الجهاز المناعي أو باقي الهرمونات، وأنا أقول وماذا عن آلاف أو ملايين الحالات التي تأثرت وتسببتم لها بالضرر جرّاء فلسفتكم الأيديولوجية الزائدة، كم من مريضٍ تم إزالة العصعص له فعانى الويلات أثناء الجلوس أو النوم أو التبرز، كم من مريض عانت مناعة جسمه بسبب رفع اللوزتين اللتان تُعدان خط الدفاع الأول للجسم، وكم من شخصٍ خلع ضرس العقل فور بروزه وسبب له مشاكل في فرط أسنانه، وكم من مريضٍ تم إزالة الغدة النخامية له فأصبح يعاني من كل المشاكل مجتمعة في حزمة واحدة بعد أن تشتت وظائف هرمونات جسده، وكم من مريضٍ قُلبت حياته رأساً على عقب جراء إزالة الغدة الصنوبرية، وكم من عملية إزالة للزائدة الدودية أُجريت بغير وجه حق إلا للتكسب وكم وكم وكم، ثم يأتي عالم تطوري ويقول نشك في أنّ لهذه الأعضاء فائدة قليلة أو قد يكون لها فائدة ما ونعتذر لاحقاً، لا يا عزيزي اعترف وقل دمرنا حياة الملايين بسبب تسرعنا ورغبتنا بالسبق التطوري، وقد وجب تقديم اعتذار لأنّ هذه الظواهر للأسف منتشرة حتى يومنا هذا، خلع ضرس العقل، استئصال الزائدة الدودية، واستئصال اللوزتين وغيرها من السُلُوكيات، هي بحاجة إلى اعتذارات واضحة حتى تُمسح كلياً من عقول الأطباء، أو على الأقل يجب أن يتم مسحها من كتب الأحياء الداعمة للتطور، التي ما تزال تُعتبَر أنّ الزائدة الدودية مثل عظام الحوت الخلفية ومثل نتوءات الأفاعي الخلفية هي نماذج لأعضاء أثرية.

الجميع يُشجع على الاكتشاف العلمي والملاحظة، لكننا ضد التسرع خصوصاً في مواضيع تصل إلى إزالة أعضاء من جسم الإنسان لأنّ الأمر ليس لعبة، العلم بحاجة إلى التأني، هُنَاك اختلافات ظاهرة ساعدت في عملية التسريع، مثل كون الزائدة الدودية في الإنسان أصغر من مثيلتها في الرئيسيات، وهذا جعل العُلماء يعتقدون أنها أصبحت أقل وافترضوا أنّ الإنسان لم يَعُد يعتمد على الألياف النباتية مما أدى إلى تقلصها وضمورها، وهذا حكم مُتسرع جداً، لأن هُنَاك رئيسيات مُختلفة المستويات يختلف بها حجم هذا العضو المهم، إذن فالأمر ليس تطورياً بحتاً.

حسناً، حتى لا أقوم بمراجعة فائدة كل عضو، ومراجعة موضوع مُندثر أصلاً، هُنَاك كتاب يوضح كل عضو وكل فائدة منه بعنوان Vestigial Organs Are Fully Functional [89] يَضُم التفاصيل كاملة، المهم أنّ عدد هذه الأعضاء الضامرة انخفض منذ العام 1890م من 180 عضو، ليمسي في عام 1999م صفراً كبيراً [90]، ولربما أغرب ما في الأعضاء الضامرة، أنّ العُلماء المُؤمِنون بالتطور استخدموها سابقاً كدليل عن التطور حين قالوا بأنها بلا فائدة، ثم حينما اكتشف العُلماء فائدتها، استخدموا فائدتها كدليل عن التطور! وهذا شأن كل اكتشاف طبي، حيث يعزوه العُلماء إلى قدرة التطور الخارقة، كما حدث -على سبيل المثال- في عظمة الحوت الخلفية التي تساعد في الجنس ومثلها العظمة المُختلفة بين الإنسان والشمبانزي التي تساعد في العملية الجنسية، إذ كانت بلا فائدة وأكد العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنها: دليل على التطور، وحينما تم اكتشاف فائدتها قال العُلماء المُؤمِنون بالتطور إنها: دليل على التطور، وهذا يا سادة ليس علماً، بل هذا كلام الكهنة الذي نحاربه.

رسم توضيحي 34 بعض الأعضاء الضامرة.

نظرية التلخيص

أكثر ما يضايقني هو أنهم درّسونا نظرية التلخيص في المدرسة، تخيّل طالب في المرحلة الثانوية يدرس هذا الموضوع على أنه أمرٌ علميٌ حقيقي، على الرغم من أنه أمرٌ مُنتهٍ منذ قرن ونصف قرن، لكن ماذا نقول، نظام التعليم متخلّف في دولنا العربية، ولكن عمّ نتكلم بالضبط؟

القصة تقول كان يا مكان في سابق الزمان دكتور يُدعى إرنست هيجل، كان مختصاً في مجال الحيوانات البحرية، وقد قام بتقديم مجموعة من الرسومات للجنين البشري أثناء نموه، وشبّه هذه الرسومات بالحيوانات التي تطور منها الإنسان، وهذا ما أطلق عليه تسميه أنّ الإنسان يلخص تطوره في نموه كجنين، ففي رسوماته يظهر أنّ للإنسان ذيل، وأحياناً يظهر له خياشيم، وأحياناً يكون في كيس كصفار البيض حينما كان جد جده كناري أحمر، ولكم أن تتخيلوا هذه الرسمات منذ عام 1874م، أي في العصر الحجري بالنسبة للعلم، عصر القش وبيوت الطين، عصر الديناصورات بالنسبة لنا كبشر الآن، لاحقاً تحدى البروفيسور ويلهيلم كذب هيجل قائلاً: إنّ الرسومات مُزورةٌ وإنّ هيجل قد بالغ في التزوير ليثبت نظريته، مثلاً الذيل ما هو إلا العمود الفقري لكن هيجل أضاف بعض اللمسات الذهبية على الرسمة، وأكمل دحض بقية أكاذيبه حول الخياشيم والصفار وغيرها، فما كان من هيجل إلا أن قام واعترف بما قام به في حدث يشبه ما يحدث في أفلام المافيا حينما يسأل الزعيم الموظف: ماذا فعلت بالرسومات؟ يجيبه: أنت تعرف، فيقول له لا أعرف، فيقول إرنست أنت تعرف لقد بالغت، فيقول له كيف بالغت أخبرني بحق الجحيم كيف بالغت، فيقول ورحمة أمي كنت متقاتل مع مراتي يومها وأخرجت غليلي في الرسمات وحدث ما حدث، سامحني يا توني، سامحني.

بل وكانت حجة هيجل أنّ التزييف هذا قريب جداً وعادي مقارنة بما يفعله العُلماء في زمانه [91, 92] [93]، فما دام التزييف in public وفي سبيل الـ science، فـ so what لِمَ لا أفعلها أنا أيضاً! ولعل هذا الموضوع المنتهي قد وضعت له 3 مراجع لجملة هيغل، لعل أحد الحمقى الذين شاركوا في وضع المنهاج قد لاحظوا أنّ هيجل في عام 1908م قد اعترف بجرمه أي قبل 100 عام من وضعه للمنهج! أنا لا أعلم حتى لماذا ذكرت رسومات هيجل في كتابي!

ولعله من المحزن أنه تم كشف هذا الخداع من قبل العُلماء المؤيدين للتطور، وقد كتبوا عنه بوضوح أنه أمر من المعيب ذكره، ومع هذا هُنَاك من العلماء المؤمنين بالتطور من يدافع عنه ويضع الحجج، بل ويحاول إثباته في القرن الحادي والعشرين وذلك بالاعتماد على قوانين فون باير التي تختلف عن فكرة التلخيص أو النشوء الحيوي، ولعلنا نذكر أنّ الاختلاف في الأجنة المبكرة راسخ في الأوساط العلمية بعكس ما يقوله هيجل أو غيره، فلا خياشيم في جنين الإنسان ولا سحلية في شكل جنينه، هذا كلام طواه العُلماء بقوة ولا مجال للعودة فيه.

تطور الإنسان

لا شكَّ أنّ تطور الإنسان من أهم المواضيع التي يجب الحديث عنها في التطور، فتشابه الإنسان والقرود أمرٌ واضحٌ جلي، والتشابه يظهر في الشكل والهيكل والتصرف والطعام والقبيلة والأفعال وحتى في وضعيات الجماع، الأمر مُتقارب جداً، وهذا يجعلنا نتساءل هل الإنسان قردٌ مُتطورٌ؟ هل هو مُجرَّد حيوان ناطق ومتطور قليلاً أم أنّ الإنسان كائنٌ مُختلف؟ هذا ما سنراه في السطور القادمة، ولعلك قد تسمع تحذير يقول لك إياك أن تعتبر أن الإنسان أرقى الكائنات، إياك أن تفكر هكذا، فما هو إلا كائن انشق عن مسار القرود، وكل التغييرات العقلية اللاحقة هي مُجرَّد تغييرات في الدرجة وليست في النوع.

نرى دائماً صورة القرد الذي يمشي ويصبح نصف إنسان ثم يتحول إلى إنسان مُنتصب القامة، فقد وُجد في القرن العشرين العديد من الاكتشافات الأحفورية التي أتمت صورة تطور الإنسان من أسلاف سابقة حسب التطور، إذ تستند معظم حجج السلف المُشترك بين الإنسان وأشباه القرود على التشابه في التشريح والتشابه في تسلسل الدنا، في حين أننا رأينا حين الحديث عن الجانب الحيوي الكيميائي وحين الحديث عن التناظر أنّ التشابه في البُنى المُعقَّدة بين كائنين لا يعني بالضرورة وجود مسار تطوري بينهما ولا يعطينا أي معلومات حول الآليات المسؤولة عن الارتباط الظاهري بينهما، وخصوصاً إذا كان الأمر يتطلب تغييراً جينياً جذرياً بينهما، في الحقيقة إنّ ذكرنا لتوريث طفرة متتالية في الإنسان الذي يتطلب تطوره ملايين السنين، يحيلنا إلى إدراك صعوبة فكرة تطور القرد إلى إنسان، فالاختلافات هائلة ولا يمكن جمعها أصلاً، وفي كل الأحوال لننطلق.

سلسلة تطور الإنسان من أجناس سابقة سلسلة متغيرة ولا يوجد فيها ثوابت، فهي تتغير وتتعدل كل فترة بشكل كبير، في عام 2017م تم اكتشاف أقدم جمجمة بشرية لإنسان في المغرب وهذا ما جعل العُلماء يضيفون 100 ألف عام على تاريخ البشرية بضغطة زر، كأن يكون لديك بنطال مرقع وتضيف له رقعة جديدة، هذه الجمجمة تتَفُوق في تاريخها على الجمجمة المكتشفة من قبل في إثيوبيا، التي قُدر عمرها ب 195 ألف عام، وبذلك يصبح عمر الجنس البشري تقريباً 300 ألف عام فقط! لعلك بعدما رأيت الأرقام المخيفة سابقاً تضحك على هذا الرقم الذي يجعل الإنسان إنساناً من كائن أقرب إلى القرود.

رسم توضيحي 35 سلسلة تطور الإنسان من القردة العليا حسب أحد السيناريوهات.

تقول النظرية إنه قبل 15 مليون سنة انفصلت القردة العليا عن أسلاف قرد الغابون، ثم بعدها بسبعة ملايين سنة انفصلت الشمبانزي وأشباهها عن الغوريلا، ثم قبل 4.4 مليون سنة ظهر الإنسان البدائي أرديبيتيكوس ثم تلاه بعد 2 مليون عام الإنسان الماهر هومو هابيليس، ثم قبل 700 ألف عام فقط ظهر إنسان يدعى إنسان نياندرتال (للعلم هو إنسان متكامل مدفون بطريقة بشرية[94])، وهو أصل الإنسان الحديث الذي ظهر لاحقاً بعد 400 ألف عام؛ أي قبل 300 ألف عام من الآن، ووجدت عظام إنسان النياندرتال في القرن التاسع عشر، ولم يكن له أي أهمية إلا بعد اجتهاد العُلماء المُؤمِنين بالتطور عليه مثل هكسلي صاحب الصورة الشهيرة لعظام هياكل الحيوانات، ظلَّ هذا الأمر لسنوات طويلة أساسياً في عملية التطور إلى أن ظهر حسب الشجرة التطورية أنه ليس إنساناً، إنما هو حلقة ما أثناء عملية التطور، ولكن ظلّت صورة رجل الكهف مسيطرة على عقول البشر.

يُشكّل اكتشاف وجود إنسان منتصب القامة (هومو إريكتوس Homo erectus) منذ 3 مليون سنة و7 مليون سنة مُشكِلة حقيقية للعلماء المؤمنين بالتطور، فهم يقولون حسب جدول التطور البشري من سلف مُشترك مع القرد قد بدأ ذلك منذ 6 مليون عام، ووجود إنسان منتصب القامة يجب أن يكون في 1.6 مليون عام على أفضل تقدير، وانقراضه قبل 400 ألف عام، لكن ما حدث هو وجود إنسان منتصب القامة منذ 7 مليون عام، أي حتى قبل السلف المُشترك مع القرد! وهذه معضلة حقيقية، وتشير الدراسات إلى وجود هذا الإنسان قبل 50 ألف سنة فقط، وهذا أيضاً تعارض كبير مع النظرية التي باتت كلها أرقام، وقد كان من الأفضل علمياً إلغاء هذا التسلسل بعد الاكتشاف العلمي، بدلاً من إضافة رقعة جديدة، فكيف نجد في تسلسل يجب أن يكون بالتدريج أنّ الجد يسبق الابن، ونجد أنّ الابن عاش مع الجد في الهرم التسلسلي وهذا مرفوض حسب النظرية، هُنَاك أيضاً حفرية إنسان دمانيسي وهي محمية في دولة جورجيا الأوروبية أي خارج أفريقيا حسب نظرية التطور التي تقول أنّ البشر الأوائل كانوا في أفريقيا، تدل على أنّ كل أنواع البشر البدائية كانت واحدة وهي بعمر 1.8 مليون سنة لإنسان كامل الهيئة.

أغلب الظن أنّ هذه الاكتشافات تعود إلى أجناس بشرية مُختلفة ولربما مُنقَرِضة وليس لأشكال تطورية مُختلفة، مثلاً جنس بشري في التبت يختلف عن الجنس البشري الأفريقي، أو قوقازي وغيره وهُنَاك أجناس مُنقَرِضة، الكثير من النقاط مرتبطة بهذا التسلسل ما زالت شائكة، فحجم عقل الإنسان منتصب القامة قريب من الحجم الحالي وهو 1350 سم مكعب، ومن المفترض ألا يزيد عن 1000 سم مكعب في أحسن الأحوال، كذلك وُجود كوخ لإنسان عاقل Homo sapiens قبل 3 مليون سنة في أفريقيا معضلة حقيقية للتطور لأنها تنسف فكرة تطور الإنسان الحالية بالكامل، علاوةً على أنه لا يوجد إلا مستحاثات قليلة عن كل العملية، ولو كانت النظرية صحيحة لوجدنا عشرات الآلاف من المستحاثات، و7 مليون عام لا تكفي لإحداث 10 طفرات فما بالك بملايين ملايين التغييرات.

ثَمّة قصص عديدة وغريبة في سلسلة تطور الإنسان، فترى العُلماء يجدون ضرساً ما فيقومون برسم قطيع من البشر في الكهف، رجل وامرأة وأبناء وغابات ووجوه مُختلفة من جراء هذا الضرس، صدقاً أتكلم ولا أمازح، وتمثل أحفورة سن نبراسكا دليلاً على هذا الكلام، وبعد سنوات طويلة من اعتماد السن على أنه أصل ما للإنسان، قرر العُلماء أنه سن خنزير وأنه ليس سن إنسان، لكن، لماذا لم تمسحوا رسمة الإنسان في القطيع التي بقيت في أذهان البشر؟

هُنَاك أيضاً واقعة الفتاة أردي وواقعة إنسان بلتداون، فقد أضيفت سلسلة كاملة في التطور جراء الحصول على أحفورة بها جزء من جمجمة وفك سفلي به اثنين من الأسنان يشبه أسنان القرد، وكانت هذه الحلقة المفقودة التي يقول عنها العُلماء دائماً ويحلمون بها، وانطلق القطار لسنوات إلى أن بدأت الاكتشافات الجديدة للأحافير تصطدم بأحفورة بلتداون، ولهذا أعاد العُلماء فحص الأحفورة عام 1953م، ويا للهول! الجمجمة جمجمة إنسان كامل قديمة، والفك فك قرد من نوع أورانغوتاون معاصر، وكان قد تم معالجة الفك كيميائياً لجعله يبدو أحفورة، كما تم برد الأسنان بعناية لتبدو بحجم أسنان الإنسان [68].

لكم أن تتخيلوا بقاء هذه الكذبة 40 عاماً إلى أن اكتشف زيفها عالِم آخر، ونقول أنّ العلم حقيقة مطلقة، حقيقة مطلقة جعلت العُلماء الآخرين لمُجرَّد أنهم يصدقون بالتطور لا يفحصون العينة! أي منطق هذا، صحيح أنّ هذه الكذبة لم تعُد تُذكر في كتب التطور لكن العُلماء المُؤمِنون بالتطور يستخدمونها أنها خير دليل على أنّ العلم يصحح ذاته، 40 عام وكثير من البشر ماتوا وهم يعتقدون أنّ أصلهم قرد وتصرفوا تصرفات حيوانية جراء هذا الأمر، وما زلتم لليوم تتمسكون بنفس الأفكار ونفس الرسومات رغم الترقيع الكامل في البنطلون، إلا أنكم لا تريدون تغييره!

مجموعة بسيطة من العظام الأحفورية تجعل العُلماء يحددون الشكل والتسلسل الهرمي للبشرية، وأستغرب من وجود فكرة كهذه، ففكرة وجود إنسان إفريقي وإنسان صيني في الوقت نفسه ممكنة جداً، ولكن لو وجد العُلماء المُؤمِنون بالتطور جمجمة وجه إنسان صيني قبل 100 ألف عام، ووجدوا جمجمة إنسان أفريقي قبل 50000000 عام لقالوا الإنسان الصيني حتماً تطور من الإنسان الأفريقي! لا توجد أحفورة مدفونة مع شهادة ميلادها! ونحن نعتمد على الرقم 50000000 و100000 فنقول حتماً هذه الأحفورة كافية للاستدلال! هُنَاك فجوات كبيرة في الأرقام.

السيناريوهات مُختلفة فمرة يصفون إنساناً منحني القامة مثل القرود ومرة ينتصب قليلاً لأنه صار يستخدم الأدوات وتارة ثالثة ورابعة وهذا ما جعل أصواتاً كثيرةً في السنوات الأخيرة تنادي بفشل كل هذه السيناريوهات الخيالية لاصطناع أسلاف للإنسان (Homo habilis – rudolfensis – erectus) وما يؤكد هذا ما أشار إليه كاتب العلوم جيمس شريف حول تحدثه إلى 150 عالماً من علماء الآثار والتشريح وطبقات الأرض والوراثة والتطور حول موقع إنسان نياندرتال من تطور البشر، والحقيقة أنه حصل على 150 إجابة مُختلفة [68]!

يخبرنا التطور أنّ الحصان احتاج إلى 65 مليون سنة ليتطور في إطار النوع نفسه، لم ينتج نوع آخر، بل الحصان تطور وتحسن قليلاً وبقي حصاناً، 65 مليون عام للحصان في ذاته، فكيف يمكن لقرد أن يتحول إلى إنسان أو حتى دودة إلى زاحف في 300 مليون عام، بل ونجد أنّ نباتات كثيرة كما هي لم تتغير منذ 260 مليون عام، كذلك بعض الكائنات مثل سمكة الكويلاكانث لم تتغير منذ 100 مليون عام، لا صفات جديدة ظهرت عليها، لكن من المُفترض حسب التطور أنّ القرد تحول إلى الإنسان الحالي في 5 مليون عام!

القردة العليا

ماذا عن علاقة الإنسان بالقرود؟ إذ يرى العُلماء أنّ الإنسان والقرود قد تطورا من سلف مُشترك، وقد تعودنا أنّ الشمبانزي هو الأقرب لنا حسب نظرية التطور، لكن دعني أخبرك أنّ البونوبو أقرب إلى البشر من الشمبانزي، نعم! هذا صحيح، وكل ما كنت تؤمن به قد تغيّر.

رسم توضيحي 36 القردة العليا.

 في دراسة حديثة، أجرى الباحثون مقارنة ثلاثية من الأنواع الثلاثة (الإنسان، الشمبانزي، البونوبو) مع التركيز على التشريح العضلي لكل منهم في مركز جو للدراسة المتقدمة لعلم الأحياء المائية البشرية، وكانت النتيجة أنّ البونوبو هو أقرب سلف حي للبشر وخصوصاً أنّ بنية عضلات البونوبو لم تتغير كثيراً منذ ملايين السنين، وهي الأقرب للإنسان.

وفقاً للتطور فالإنسان والشمبانزي يشتركان في سلف مُشترك منذ 6 ملايين عام على الأقل، ثم يرى التطور أنّ الإنسان الحديث ظهرت عليه علامات التباين من سلف لم يحدد بعد منذ 2 مليون عام مضت، وتبدأ قصة الانقسام البشري الحديث من القرود وتحديداً البونوبو والشمبانزي منذ نحو 8 ملايين سنة، ولكن الدراسات الحديثة جداً أثبتت أنّ هذا خاطئ، بل على العكس من ذلك، انقسم الشمبانزي والبونوبو قبل 2 مليون سنة فقط، فقد أدّى هذا الانقسام في نهاية المطاف إلى بونوبو وشمبانزي بعد تطوير سمات لكل منهما.

رسم توضيحي 37 تطور القردة العليا.

يرى العُلماء عبر الأبحاث أنّ قصة تطور القرود مُعقَّدة أكثر من قصة تطور البشر، والعُلماء ليسوا متيقنين بعد من السلف المُشترك ولا يزالون يدورون في دوائر وحينها نتساءل: كيف يمكن لهذه النظريات أن تُدَرَّس كما لو أنها حقائق؟ [95]، ماذا عن القردة العليا التي اكتشفت في أمريكا الجنوبية؟ فوفقاً لنظرية التطور تُعتبَر أفريقيا مسرح العالم التطوري، وللإجابة عن هذا الاكتشاف المُدهش دعني أستعرض معك هذا السيناريو الذي يرويه العُلماء:

“قبل 36 مليون عام، وجدت مجموعة من القردة نفسها في المحيط الأطلنطي بعد هبوب عاصفة شديدة، إلا أنّ الحظ كان حليفهم فوصلوا أمريكا الجنوبية، حتماً هذا السيناريو يحتاج إلى الكثير من الخيال العلمي، فنحن لم نجد أبداً حفرية لقرد متعلقة بجذع شجرة في المحيط، لكننا نعلم أنّ هذه الأحداث لا بد وأنها قد حدثت في الماضي [96]”. وأقسم لكم أن هذا الكلام ممن يدّعون أنهم علماء وأنهم أهل الدقة والبحث.

ولكن أعزائي العُلماء ماذا عن الضفادع، والسحالي، وليمور مدغشقر، والقردة الإفريقية، والطيور والحشرات وغيرها، هل كلها يا للحظ ركبت المحيط في العواصف ونجت؟ لو قلت لي أكلها حوت يونس وأوصلها بسلام، أو أتى فضائيون ونقلوها لصدقت أكثر من هذا السيناريو.

المراد بالسطور السابقة هو توضيح أنّ التطور ما زال نظرية ولا شيء فيه نهائي، ولا يجب أن نعتمده بالشكل الواسع الذي يستخدمه العالم الآن، وما زال العُلماء يصنفون الإنسان والشمبانزي وإنسان الغاب والغوريلا والبونوبو تحت تصنيف القردة العليا، وسنرى أنّ الإنسان يختلف كلياً عن القردة العليا في كل شيء.

 سلف الإنسان الجديد

لعلنا سمعنا بقصة التقارب بما نسبته 98% بين البشر والقرود، والحقيقة أنّ الرقم كبير جداً!، إنّ نسبة تناظر الجينات بين القردة العليا والإنسان تشير إلى أنها لا تزيد عن 85% في أحسن تقدير، وأنّ 98% رقم كان قد ظهر لأنّ العُلماء قارنوا أجزاء من الدنا وليس الدنا كامل [97]، ولا شيء يضاف أكثر لإنهاء هذه الخرافة المنتشرة في ظل الأبحاث الحديثة والدقيقة. فشقائق النعمان لديها تكتلات في حمضها النووي كثيرة مشابهة لدنا الإنسان، بل وتبدو جينات الشقائق شبيهة بجينات الفقاريات بشكل كبير كما لو أنها فقاريات، وظهرت تلك التكتلات أقل شيوعاً بكثير في ذبابة الفاكهة والديدان الخيطية عنها في الفقاريات، ومع هذا لم يقل أحد أنّ شقائق النعمان تقرب للإنسان.

لكن، هل لو كانت كلمات جملة نفسها هي كلمات جملة أخرى باستثناء أنه قد تم ترتيبها بشكل مُختلف، هل هذا يعني أنّ كلا الجملتين تُؤديان الغرض نفسه؟ شكر خليل صديقه محمود، وشكر محمود صديقه خليل، الكلمات نفسها، لكن المعنى يختلف كلياً، وهذا ما نراه بين شقائق النعمان والإنسان، ولكن لا يذكر أحد التشابه، إلا أنّ التطور في حالات أخرى مُختلفة يذكر التشابه كما سنرى بعد قليل.

لا يجب أن نغفل عن أنّ اختلاف خلايا الإنسان من خلية عصبية إلى عضلية إلى كبدية إلى مئات أنواع الخلايا يعود إلى عوامل فوق جينية وليس إلى عوامل داخلية، لأن الدنا في كل هذه الخلايا متطابق بنسبة 100%، الدنا نفسه في كل خلايا الإنسان ومع هذا نرى الاختلاف العظيم في الشكل والوظيفة والأعضاء.

ولو كانت جينات الكائنات مُختلفة بالكامل ولا علاقة بينهما لربما سمعت جملة: أليس من المناسب لمن صممها أن يضع بعض اللمسات المُشتركة ليبين لنا وجود أرضية واحدة أو مخطط واحد يدل عليه قد انطلق منه!

وما دامت العلوم تصلح نفسها بنفسها فإنّ العُلماء العظماء يقولون إنّ لدينا دراسات جديدة الآن أقوى من السابق، وهي تعطينا مؤشراً أفضل، فدراسات أحدث تشير إلى أنّ الإنسان يشترك مع الفأر بنسبة 90% من جيناته، والدراسات الأحدث تشير إلى أننا نشترك مع الكلب بما نسبته 95% من جيناتنا، وأنّ الإنسان تطورياً أصله كلب.

لا أريدك أن تنصدم، ولا أريدك أن تقول أوووه إنّ كثيراً من البشر كلاب، وتتذكر صديقك الذي خانك، لا لا، هذا ليس مقياساً للعلوم، مقياس العلوم كبير، ولديه أدلة، فمثلاً يشترك الإنسان مع الكلب بما يزيد عن 350 مرض جيني، وهذا يعني وجود فعلاً قرابة لدرجة ليست بسيطة، ويشترك أيضاً ببعض الأمراض مثل خلل التنسج dysplasia وسرطان الغدد الليمفاوية lymphoma وحتى أنواع الحساسيات المُشتركة [98] [99].

دراسات أخرى تدعم هذا الاتجاه، مثلاً تطور جمجمة الإنسان من جمجمة الكلب أمر يرجحه العلم، دراسات حديثة تؤكد هذا الأمر [100]، لأنه يفسر كثير من الأمور بالنسبة للعلماء، وتتناقل بعض الدراسات أنّ الإنسان أيضاً قد يكون أصله دودة الأرض، فدودة الأرض أول كائن يحمل الهيموغلوبين في دمه لذا حتماً هي جد الإنسان، وتطورت الكائنات منها على شكل متدرج ومتشجر إلى أن وصل إلى الإنسان، لكن هذا السيناريو يفشل بسهولة إذا تتبعنا وجود الهيموجلوبين في الكائنات، إذ كانت بعض الكائنات الأقدم بكثير مثل بكتيريا Vitreoscilla تحتوي على هيموجلوبين أحادي [101]، فضلاً عن اختلاف لون ونوعية الدماء في سلسلة الكائنات الوسيطة، كيف يكون السلف دمه أحمر وتركيبه يختلف عن الابن الذي دمه أزرق أو أخضر أو بنفسجي ويختلف عن الأحفاد الذين دمهم أحمر مرة أخرى، هل قفز التطور من الأجداد إلى الأحفاد ولم يمر في الآباء؟ كيف؟ بالإضافة إلى أنّ نوعية الدماء مشتتة في الأجناس المُختلفة بشكل يشير إلى عدم وجود مسار تطوري صحيح بينهم، وانظر إلى (شكل 39 اختلاف ألوان الدماء بين الأنواع). ولترَ التعقيد الكيميائي والاختلاف الكامل في الشكل الكيميائي.


شكل 39 اختلاف ألوان الدماء بين الأنواع.

الخلاصة من هذا السرد السريع هو توضيح أنّ العُلماء لا يزالون مختلفين على أي بند من بُنود التطور، فدودة الأرض، والقرود والكلاب والموز وغيرها قد تكون أجدادنا.

تزاوج الإنسان والشمبانزي

ضمَّ كتاب أصل الأنواع لداروين فكرةً أساسية في تطور الكائنات عبر مبدأ التهجين، واعتقد أنّ لتهجين الكائنات دورٌ كبيرٌ في بُروز الصفات الجديدة، ولكن، ما هي حدود التهجين؟

حدود التهجين معروفة ثابتة فلا يمكن لأعضاء من أجناس مُختلفة الإنجاب، بل يتم الإنجاب في النوع نفسه فقط، أما عملية التزاوج فهي بعيدة عن الإنجاب وهي ممكنة جداً بين الأجناس، فنرى بشر يتزاوجون مع الحمير أو الخنازير أو الأفاعي أو حتى الدلافين، البشر معروفين بحبهم للتجاويف، لكن هذا لا ينتج عنه أي عملية إنجاب (إخصاب).

يمكن إخصاب وتهجين كائنات قريبة من سلالتين مُختلفتين Subspecies، ويمكن أن ينجح الإخصاب بدرجة أقل نتيجة لتزاوج نوعين مُختلفين Species في نطاق الجنس الواحد Genus، وفي الأغلب ينتج في الفصيلة نفسها حيوانات عقيمة مثل تهجين الحمار والحصان إذ ينتج بغل، والفرس والحمار الوحشي ينتجان الحصان المزرد.

وهُنَاك حالات نادرة للتزاوج بين جنسين مُختلفين Genera مثال على ذلك الماعز والخروف، لكن في الغالب كلما تباعد الأب والأم في التصنيف فإن الهجين يأتي عقيماً أو مريضاً ولا يعيش طويلاً أو يُولد ميتاً، وهُنَاك محاولات حديثة لتهجين على مرة ثانية مثل:

  1. Liger: أو الأسد الببري، هو نتاج زواج ذكر الأسد مع أنثى النمر يتميز بأنه أكبر حجماً من كلا الأبوين اللذان هُجِّن منهما، حتى أنه يُعد أكبر حيوان من فصيلة السنوريات في العالم، إذ يصل طوله إلى ثلاثة أمتار ويبلغ وزنه 550 كيلو جرام.
  2. ومن المعروف أنّ الهجين غالباً لا يكون الاختيار الأمثل في بيئته، فمثلاً الأسد الببري يكون ضخماً جداً، فيفقد بذلك قوة انقضاض الأسد ويفقد كذلك خفة وسرعة النمر.
  3. Tigon: التايجون هو نتاج زواج أنثى الأسد بذكر النمر.
  4. Litigon: اللاتايجون وهو هجين جيل ثانٍ جديد نتاج زواج أنثى التايجون بذكر الأسد، وقد حدث هذا الأمر المُدهش لأول مرة عام 1971م.
  5. Tiliger: الملاطون هو هجين جديد جيل ثانٍ من نتاج ذكر النمر بأنثى الأسد الببري وقد حدث هذا الأمر لأول مرة عام 2007م، وعلى الرغم من عقم ذكري اللايجر والتايجون إلا أنّ أنثى اللايجر من الممكن أن تنجب، وقد يصل طول التيلايجر إلى أربعة أمتار، ويصل وزنه إلى 600 كيلوجرام، وكما هو مُلاحظ في الصورة أنّ النمر السيبيري يبدو أمامهم قزماً، رغم أنه في العادة أكبر النمور على وجه الأرض.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏

صورة 9 الملاطون مقارنة بالنمر الببري.

هُنَاك تهجينات أخرى عجيبة أكثر بين أصناف السنوريات، لكن هذا الزواج محرم في الطبيعة، إذ ينتج عنه أبناء مرضى محملون بالسرطان، عمرهم أقصر بكثير من النوع الأصلي، كما أنّ هذا الزواج محرم في بعض الدول لأنه غير أخلاقي.

 نعود إلى موضوعنا، وهو تهجين الإنسان بالقرود! الأمر ليس مزحة لأنه مطروح عند العُلماء المُؤمِنون بالتطور، إذ عكف منذ بدايات القرن العشرين الكثير من العُلماء على تجارب غريبة لمحاولة إثبات هذه الرؤية الحيوانية للإنسان وتأكيد قرابته مع الشمبانزي الذي يعدونه أقرب الحيوانات (في وقتهم) إليه، وأنهم يتبعون العائلة نفسها في القردة العليا، خصوصاً أنّ فارق الكروموسومات بينهما صغير؛ فالبشر لديهم 46 كروموسوماً بينما الشمبانزي 48 كروموسوماً، وهذا يقارب حالات التهجين التي يتم إجراؤها مثلاً بين نوع الحمار 62 كروموسوماً وبين نوع الحصان 64 كروموسوماً فينتج البغل ولكنه يكون دوماً بغلاً عقيماً (63 كروموسوماً)، وهو ما يعني نظرياً أنه يمكن التهجين بالفعل بين الإنسان والشمبانزي، وقد أجرى علماء بعضهم كان قد حصل على جائزة نوبل هذه التجارب، وجرى في بعض هذه المحاولات عمليات تلفيق مثل تجربة تهجين القرد أوليفر، فقد ادّعوا أنه هجين ناجح واتضح لاحقاً أنه قرد فاشل.

وأنواع هجين كثيرة تفقد شكل فرائها الذي تتخفى به في بيئتها، أو تفقد صفات تحميها من الحر أو البرد، هذا يعني أنّ الانتخاب الطبيعي أو الطبيعة لا تشجع على استمرار هذا الهجين فضلاً عن أنه عقيم، وحتى لو تم تلقيح ذلك العقيم صناعياً بالوسائل الحديثة الموجودة في الطبيعة فإنه يعود من جديد إلى صفات الأبوين نفسها ولا يظهر له عضو جديد تماماً، مثلاً ظهور عضو لم يكن فيهما، مع ملاحظة أنّ كل ما يحدث في التهجين يتم من خلال حوض الجينات، ورغم كل تلك الحالات المتنوعة للتهجين التي رأيناها الآن إلا أنه لا يقع أبداً بين الإنسان وأي حيوان آخر مهما تقارب معه في العائلة أو في التصنيف العام (ثدييات مثلاً)، حتى لو تقارب مع الإنسان في عدد كروموسوماته الـ 46، لأنّ الإنسان كائن كامل مُستقِل يختلف عن باقي الكائنات.

الإنسان

تميز الإنسان

نستطيع أن نرى بوضوح اختلاف الإنسان عن القرود، فتصنيف الإنسان من فصيلة القردة العليا أمر يجب أن يتغير، إنّ الإنسان كائن يختلف كلياً عن باقي الكائنات، وهذه بعض الاختلافات بين الإنسان والقرد:

  1. السير منتصباً على قدمين مترافقاً مع تعديل تركيب الحوض والمخيخ، والحقيقة أنّ الأبحاث التي تتطرق إلى هذه النقطة طويلة جداً ومدهشة وتجعل من المُستحيل التفكر في وجود علاقة تطورية بين البشر والقرود.
  2. قصر الذراعان واستطالة الساق مع يد أكثر تخصصاً، وأصابع مع بصمات تمتلك حاسة لمس فائقة، وهو أيضاً ما له أبحاث عديدة مدهشة، الإبهام وحده له أبحاث خاصة، فما بالكم ببقية اليد التي تملك قدرة عالية على التحكم والثبات والتحرك في فضاء واسع.
  3. الاختلاف في الحلق والبلعوم نتج عنه القدرة على النطق، وتعديلات النظام العصبي المركزي خاصة منطقة الفص الصدغي التي سمحت بالتمييز المُحدد للنطق.
  4. زوال الشعر عن الإنسان وبقائه في مناطق مُحددة.
  5. قرب المساحة بين العينين بما يكفي لإدراك المسافات ورؤية المجسمات ورُقي شبكية العين وبراعة رؤية الألوان المُختلفة.
  6. اختلاف في جهاز العضلي في كثير من النواحي، فللاستقامة والمشي منتصباً عضلاتٌ مخصصة.
  7. القدرة العقلية الفريدة والفائقة، فلا التخيل أو التضحية أو الأبوة في الحيوانات مجتمعة تضاهي جزءاً مما لدى البشر، ومحاولة التقريب كما فعل داروين بأن الكلام مثلاً لديها أمومة والقرود لديها أمومة وتضحية قريبة من البشر، أمر غريب!

أيّ قرب بين أخلاق وملامح وصفات الكائن البشري والكائنات الأخرى، الذكاء الاجتماعي والقدرة على القراءة والكتابة والتخيل والوصول للقمر والتفاضل والفيزياء والفن والموسيقى، وكيف جاءت الإضافات الهائلة في البراعة الحركية؟ والقفزة النوعية المتمثلة باللُغة والفكر المُجرَّد والفن؟ كيف لهذه الخلايا أن تكون قادرة على الإبداع، وأيضاً رغبتنا الملحة في التعاطف وفعل الخير والإصلاح [102]، هل يمكن أن يوضح أحد كيف للدماغ البشري من الأسلاف السابقة الشبيهة بالقرود أن يوسع مداركه؟ ويا حبذا أن يكون التوضيح والشرح مع بعض التفاعلات الكيميائية في الدماغ، كيف نتج عنها الوعي واتخاذ القرارات والتفكير والتذكر والأحلام، الخلايا في محتواها لحم وشحم ودم، من أين جاءت بهذا الإدراك الذي نراه!

وفقاً لما نشرته الأبحاث، فإنّ الاختلافات الجينية بين الإنسان والشمبانزي على أقل تقدير هي 35 مليون زوج من قواعد الدنا، وكما رأينا سابقاً، فإن تثبيت طفرتين فقط [43] يتطلب 100 مليون عام، أي أنه حسب تاريخ التباين التطوري من السلف المُشترك بين الإنسان والشمبانزي قد حدث ما بين 5 – 7 مليون عام، وهي المدة الزمنية التي يُفترض أن يختلف فيها الإنسان عن الشمبانزي ما مقداره 35 مليون زوج من قواعد الدنا عن طريق أدوات التطور، فهي بالكاد تكفي لتثبيت طفرة واحدة فقط، وماذا عن كافة الاختلافات التي ذكرنا جزء منها، نحن نعلم أنها بحاجة إلى ملايين الطفرات البناءة المصممة، وليس طفرات عشوائية فحسب، لو أحضرنا بونوبو ووضعناه مليون سنة في مختبر مع علماء، لن يستطيعوا تطويره ليصبح ربع إنسان مثلاً.

بعد كل الحديث السابق بتنا نعرف أنّ الجينات ليست هي المسؤولة عن الهيئة والسُلُوك، ولو تطابق الكائنان بنسبة 90% فلا يعني أي شيء، الموز يتطابق بنسبة كبيرة معنا ونختلف عنه في كل شيء، فالجينات ليست هي الإنسان.

إنّ تعامل التطور مع البشر على أنهم حيوانات تطورت من القرود أدى لكثير من الجرائم في التاريخ، ففي كتاب أصل الإنسان يقول داروين: “المرأة أدنى في المرتبة من الرجل وسلالتها تأتي في درجة أدنى بكثير من الرجل”، بل وذهب داروين أبعد من ذلك حين قال “المرأة لا تصلح إلا لمهام المنزل وإضفاء البهجة على البيت، وهي بذلك أفضل من الكلب”.

يقول أستاذ تاريخ الطبيعة كارل فوجوت: “لقد أصاب داروين في استنتاجاته بخصوص المرأة وعلينا صراحة أن نعترف بالأمر؛ فالمرأة أقرب طبيعياً إلى الحيوان أكثر من قربها للرجل، ويقول أيضاً بوضوح أنّ “المرأة إعاقة تطورية حدثت للرجل، وكلما زاد التقدم الحضاري، اتسعت الفجوة بين المرأة والرجل، وبالنظر إلى تطور المرأة فالمرأة تطور غير ناضج” ووجد هذا الكلام قٌبولاً واسعاً من أنصار التطور، ولك أن تتخيل الأثر الذي لحق بالمرأة جراءه وتأخر البشرية بسببه، ولكن ماذا عن تأثيرها على الرجال؟

لعلنا نسمع بتفضيل الجنس الآري الألماني على باقي الأجناس، وهذا كان شعلة إضافية في الحروب العالمية التي أدت إلى مقتل ما يصل إلى 100 مليون إنسان، وتعامل كل من الألمان والروس بوحشية في الحروب لم يسبق لها مثيل، فمن مات مُجرَّد حيوان عادي لا قيمة له.

الجنس

لا أعلم من أين أبدأ، جميعنا نتفق على أنّ باب الجنس من الأبواب المهمة، سواء من ناحية فلسفية أو من ناحية تطورية، دعونا نرى ماذا يقول التطور عن الجنس، ولماذا يختار الذكر الأنثى الأجمل رغم أنّ التطور يخبره اختر تلك (من نظرة حيوانية)، ولكن قبل هذا لنوضح ما هو الجنس على المستوى الحيوي، بالتأكيد الهدف من العملية الجنسية هو المحافظة على النوع ولا خلاف في ذلك، الحفاظ على النوع من الهلاك والانقراض هو الهدف الأسمى لجميع الكائنات الحية.

في الكائنات الدنيا مثل البكتيريا لا يوجد جنس، هُنَاك عملية انقسام ثنائي تحدث فتنقسم الخلية إلى خليتين في عملية طويلة ومُعقَّدة، ومع تقدم الأحياء في شجرة التطور نرى أنّ الآلية تتعقد أكثر، إذ أصبح هُنَاك كائنان يجب أن يتلامسا بطريقة معينة لإنتاج أفراد جدد، وعلى الرغم من أنّ الجنس عملية مكلفة ومستهلكة للطاقة، إلا أنه حسب التطور فإنّ هذه العملية تطورت لتحقيق التنوع الحيوي بدرجة أساسية، ثمّة أسئلة كثيرة جداً لا يجيب عنها التطور.

مثلاً لماذا لم تطور الخلايا البدائية طريقة بسيطة للتنوع الجيني بدلاً من التعقيد الطويل في العملية الجنسية، لماذا تخسر الكائنات كل هذه الطاقة الهائلة، لماذا لم نعدل في آلية الانقسام وانتهى كل الموضوع، بل ما العيب بها؟ إنّ عملية الانقسام سريعة وجميلة وتجعل الكائن خالداً، فالبكتيريا لا تموت، بل تستمر في الانقسام إلى الأبد ما لم يؤثر عليها مؤثر فيزيائي مثل الحرارة، أما الكائنات الناتجة عن الزواج الجنسي فتستغرق وقتاً طويلاً لتبلغ، فالإنسان يحتاج إلى 20 عام تقريباً ليتزاوج، ويستغرق حمل أنثاه مدة 9 شهور، وتلد جنين بحاجة إلى 20 عام ليعيد الكرة، أليس من الأسهل علينا أن ننقسم؟ ولكن ما المحصلة أيضاً، هُنَاك موت بعد 70 عام، والتطور بدلاً من أن يحل مُشكِلة الشيخوخة ثبتها وزادها سوءاً.

بل حتى في التطور تطورت الكائنات إلى أنواع زواج متعددة، ولماذا بقيت القديمة؟ ما الميزة التنافسية أو التطورية في التبرعم في الخميرة عن الانشطار الثنائي في البكتيريا؟ أو التجرثم كما في الفطر؟ أو ما ميزة التكاثر بالدرن كالبطاطس، والفسائل كما في الموز أو الريزومات عن الكرومات؟ أو التكاثر بالورق عن التكاثر بالترقيد، هذه كلها أنواع مُختلفة وغيرها الكثير من طرق التكاثر غير الجنسي علاوةً على التكاثر العذري لدينا في التكاثر الجنسي، التلقيح كما النباتات والإخصاب كما الرئيسيات أو الالتصاق بالفم كما البراميسيوم أو التكاثر العجيب في الهيدرا أو دودة الأرض، بل لماذا تتطور البكتيريا من الأساس إلى جنس بشري لتتكاثر؟ ما الهدف من التطور، ألا تقوم البكتيريا بدورها على أتم وجه.

العملية الجنسية

لعل أعقد ظاهرة بيولوجية عرفها الإنسان هي التزاوج في الكائنات الأرقى، وحينما نتكلم عن التزاوج نتكلم عن تغييرات كبيرة في الكائنات، فيجب على الكائنات أن تتمايز إلى ذكر وأنثى، الأنثى لديها الثدي للرضاعة والرحم للحمل وهرمونات الأنوثة، وآلية للطمث وآلية للولادة وحبل سري مُعقَّد ينقل الماء والدماء وينظم الحرارة ويخرج الفضلات ويُدخل المضادات ويحفظ الجنين، ولديها ملامح جمالية بسبب الهرمونات لتكون جذابة، صوت ناعم، شعر أملس، وجه أبسط، حوض مخصص للولادة، أثداء تثير الرجل ولا أعلم كيف حصل هذا تطورياً، إلية مستديرة، عظام أخف وعضلات أصغر لأنها لا تحتاجها، وغيرها من المميزات، والرجل على العكس من ذلك لديه كل هذه الصفات.

تمتلك المرأة مهبلاً بحجم القضيب خاصاً للتزاوج، ينتهي بقناتي فالوب وبويضات للتلقيح تسير في مسار مُحدد في القناة وفق آلية واضحة، وإذا لم تتم عملية التلقيح، تحدث عملية الطمث وفق آلية هندسية ليتخلص الجسم من البويضة الميتة، والرجل يمتلك قضيباً مُعَدّاً لهذه القناة، وغدة كوبر لإفراز مادة مغذية ومواد أخرى تنظف الوسط ومعادلة الحمضية، كما ويحافظ كيس الصفن على درجة حرارة الحيوانات المنوية، ومصنعاً للحيوانات المنوية لإنتاج ملايين الصواريخ الدافقة بآلية تحفظ طريقها، وتحتوي على بنك المعلومات، كما وتمتلك محركاً دافعاً لتتحرك في وسط مظلم بالاعتماد على الكيمياء ولمدة ثلاثة أيام، وللرجل قناة ليقذف الحيوانات المنوية ولديه مضخة لفعل ذلك.

البويضة مستعدة لانتظار الحيوان المنوي ومجهزة له، كأن المصمم صمم الحيوان المنوي والبويضة وقسمهم بالنصف ووضع كلٍ منهم في مكان، وحينما يصل الحيوان المنوي تبدأ العملية المُعقَّدة من التصادم والموت والذوبان من حمض الهيايولونيك وغيرها من المواد، وما إن يُفلح حيوان واحد بالدخول حتى تنغلق البويضة وتبدأ بانقسام مُعين وفق خطوات واضحة معروفة ودقيقة، لتبدأ الخلية الواحدة بالتحول إلى خلايا مُختلفة الوظيفة، بما يزيد عن 200 نوع بدقة وتسلسل دقيق، وهذا غيض من فيض من تعقيد العملية.

جديرٌ بالذكر أنّ الجسم مُهيَّأ لهذا الأمر، إذ تلتصق البويضة في جدار الرحم ويبدأ الدم بالتدفق وتبدأ الهرمونات بالعمل، فهُنَاك هرمونات تزود حجم الثدي وتهيؤه، وهرمونات توسع من البطن، وهرمونات أخرى تمنع التبويض، وغيرها الكثير من العمليات المرتبطة، ثم يبدأ الطعام بالوصول إلى الجنين عبر الحبل السري وفق آلية مُعقَّدة ومنظمة، ليبدأ الجنين بالنمو والاستعداد ويتشكل إما ذكراً أو أنثى.

انتظر! لا تقل سبحان شيء بعد، حتى لا تكون مؤمناً بالخرافة، وليس بالعلم، هذا الجنين مُهيَّأ لهذا الرحم وله وقت معلوم ودورة دموية مُختلفة وتنفس مُختلف أيضاً، فهو مجهز لهذه الرحلة الطويلة التي تنتهي بعملية المخاض والولادة، لتبدأ رحلة الرضاعة والنمو الطويلة وتغيير الجسم من دورة دموية وكبد وإنزيمات وهرمونات وملامح، حتى يصل إلى مرحلة البلوغ فيفرز الجسم هرمونات معينة لكي يرغب بالحصول على الطرف الآخر وتبدأ عمليات السعي والإغراء وغيرها لحين حصول الزواج، وإلا لما حدثت العملية الجنسية من الأساس، في الواقع تحدث تغييرات جسدية وتشريحية هائلة حين الانتقال من طور الجنين مروراً بمرحلة الرضاعة وانتهاءً بالبلوغ والكبر، وكأنّ كل فترة عمرية كائن مُختلف، وليس كما نعتقد أنها مراحل نمو جسدية في الحجم فحسب، وهذا أمرٌ يعرفه الأطباء، لذلك هُنَاك طبيب أطفال، وطبيب نساء، وطبيب كبار سن، وأدوية وجرعات وخصوصيات طبية لكل مرحلة عمرية.


رسم توضيحي 38 مراحل التبويض، ونلاحظ وجود جدول ثابت مرتبط بعمليات حيوية عديدة وفي أعضاء مختلفة.

لا شك أنّ عملية التبويض من أكثر العمليات التي تحدث في جسم المرأة تعقيداً، فهي تحدث عند بلوغ المرأة سناً معيناً يكتمل فيها نمو الجسم وإفراز الهرمونات اللازمة (من سن 12 – 50)، بطريقة دقيقة مترابطة مع كل أعضاء الجسم، إذ يؤثر كل هرمون بطريقة شديدة التعقيد على عمل الجسم، متبوعاً بعملية تغذية راجعة مُعقَّدة، فالـ Hypothalamus (منطقة في الدماغ) تفرز مواداً معينة لتعمل على تحفيز الغدة النخامية التي تفرز هرمونات بشكلٍ دوري، لتقوم بإجبار الجسم على إفراز هرمونات أخرى مثل المحوصل FSH والأصفر LH فيقوم الجسم بإفراز هرمونات مثل الأستروجين والبروجيسترون بأوقات معينة وبآلية إرجاع عكسية للـ Hypothalamusعلى مدار أيام مُحددة، حتى اليوم الـ12 من بداية الدورة الشهرية، ليصل الإنتاج الهرموني إلى أوجه، ثم تقل الهرمونات ويحدث الطمث، مع العلم أنه في كل يوم من أيام الدورة الشهرية تحدث تغييرات جسدية في الرحم وباقي الجسم موضحة في الصورة مثل توسع الشرايين وتسميك الرحم .. إلخ.

رسم توضيحي 39 آلية التبويض

أتساءل، ماذا لو فشلت أي جزئية من جزئيات هذه العملية؟ وما ذكرته هو نظرة سريعة للعملية، فالعملية بحاجة إلى مجلدات لشرحها فسيولوجياً وكيميائياً وحيوياً، ماذا لو لم يكن للحيوان المنوي مادةً يُذيب بها جدار البويضة؟! ستفشل العملية ويفنى الإنسان، إلا أنّ حيواننا المنوي حيوانٌ عبقري وعرف عبر العصفورة نوع المادة وصنعها مخبرياً وانتصر.

نستطيع أن نرى هذا في حالات العقم المنتشرة، خطأ واحد يدمر كل الأجهزة ويجعلها بلا فائدة، في ظل كل هذا التكامل، ألا يحق لنا أن نتساءل عن التصميم الدقيق؟ سيخرج شخص ويخبرني أنها عملية تطورية حدثت ببساطة في الديدان وتعقدت في القرود إلى أن وصلتنا بهذا التعقيد لنضيف عليها، حتى لو أضفنا عليها، أي خطأ بسيط في أي تعديل في أي جزء من جسم القرد في مسار تطوره إلى إنسان سيُفشل كل العملية، ولاحظ أنّ التغيير يجب أن يتم في الذكر والأنثى، في المرسل والمستقبل في اللحظة نفسها وإلا لما نجحت العملية، ويا سبحان الصدفة!

لا يتوفر وصف للصورة.

صورة 10 جنين عمره ثلاثة أيام!! وهو عبارة عن 8 خلايا فقط لا غير.

ولكن، لماذا لم تتطور الكائنات إلى أربعة أجناس بدلاً من جنسين؟ أليس الموضوع مُمتِعاً أكثر ومُفيداً للتنوع؟ لماذا تسير كل الكائنات على المنوال نفسه وكأنّ الرسام واحدٌ؟ نحن نعرف لوحات فان كوخ ونُميزها عن غيرها بسهولة، لماذا لم يحدث في مسار العملية التطورية أن خرج شيء عن المألوف، خرج شيء عن مسار فان كوخ.

حينما تطرح تساؤلات كهذه تجد إجابات عجيبة، فسؤال مثل لماذا الأطفال عيونهم كبيرة ووجوههم جميلة؟ نعلم أنّ هذا أمر مصمم بهذا الشكل ليغرس الرأفة في قلوب الكبار والأهالي، لكن لو سألت عالم تطوري لأخبرك أنّ الأطفال طوروا من قدرة معينة لتغيير ملامحهم حتى يجذبوا الكبار ويحنوا عليهم، يا سلام! لماذا القمر مستدير؟ لأنه أراد أن يكون مستديراً بدلاً من المربع حتى تحبه الشمس، الإجابة نفسها ولا فرق.

كيف لجينات صمّاء أنّ تختار الشكل الجميل للوجه؟ عشرات العضلات في الوجه وملايين الأعصاب كلها تتغير دون مخطط لتلائم شكلاً ما، كيف؟ إنّ شكل الطفل بحاجة إلى مصمم فنان ليرسمه، والكيمياء ليست عاقلة لتُخرج لنا جمالاً كهذا، وسنستعرض الجمال فلسفياً في الفصل القادم.

ونكرر لقد كانت الكائنات الدنيا مثل البكتيريا خالدة لا تفنى، فالبكتيريا تنقسم لا جنسياً إلى خلايا، وتستمر في الانقسام إلى ما لا نهاية، فالبكتيريا الحالية لكل سلالة هي نفسها قبل ملايين السنين انقسمت ولا زالت، لكن بعد أن حدثت التكاثر الجنسي بدأ للكائنات عمر مُحدد تموت بعد انتهائه، ونريد إجابة واضحة إذا كانت الكائنات تطورت، فلماذا لم تُحافظ على الخلود؟ لماذا نقصت وقلت مزاياها في التكاثر الجنسي؟ أليس هذا ضد التطور أصلاً؟

يستهلك الجنس الحالي طاقة كبيرة جداً للتكاثر، سواء في عملية إنتاج الحيوانات المنوية أو التبويض أو الدورة الشهرية أو الزواج أو العملية الجنسية أو العُقم أو نقل الصفات أو حتى تربية الأبناء غداً، وغيرها من الأمور التي لم تكن موجودة في التكاثر في البكتيريا، أين التطور من حل كل بند من هذه البُنود المعيبة والتي كانت غير موجودة سابقاً؟ ماذا عن إهدار الجهد في التصارع بين الذكور على الأنثى؟ أو ماذا عن هدر الكثير من الطاقة في إظهار الجمال الخارجي لإثارة الطرف الآخر، كما يفعل ذكر الطاووس مثلاً.

بالإضافة إلى أنّ التكاثر الجنسي في الرئيسيات ينتج أبناءً أقل، البشر مثلاً 1 كل 9 شهور، في حين أنّ التكاثر اللاجنسي ينتج المئات في ساعات، هل الميزة في تلاقح الصفات ونقل المعلومات المُفيدة؟ ألا توجد طرق أخرى أفضل لنقل الصفات بين اثنين، أو ثلاثة أو حتى عشرة مرة واحدة ودون تكلفة؟ وهل فعلياً التزاوج الجنسي ينقل المعلومات المُفيدة؟ ألم يستطع تطوير آلية أفضل لنقلها؟ ولا تخبرني أنّ الأمر يتم عبر الانتقاء الجنسي، فالصدر الكبير أو اللحية الغزيرة ليستا صفات حقيقية للبشر يجب أن ينتقوا بها، لكننا نعلم أن البشر ينتقون بناءً على هذه الصفات للأسف.

نعرف أنّ الطفرات لا تكفي لإنتاج صفات جديدة، لكن التزاوج أيضاً لا ينتج صفات جديدة، فاليد هي اليد، ولا يمكن أن ينتج عنها جناح في التزاوج، إلا إذا كنت تؤمن بتزاوج الكائنات بين الأجناس المُختلفة، فحينها أدعوك للتوقف عن مشاهدة رسوم الكرتون.

وماذا عن التزاوج بين الضعفاء، بين المشوهين جينياً، أليس من الأفضل للتطور أن يمنع هذا الأمر، ولا يخبرني أحدكم أنّ التزاوج يتم بين الأقوياء، فأقول له أنت لم ترى أم حسن جارتنا.

تخبرني أنّ التزاوج ظهر منذ 535435 ألف سنة في منطقة على جبل الزيتون في قاع الهامور، جيد! لكن أين المصدر الدقيق لهذا الكلام؟ إنّ عملية التزاوج والتلقيح والإنجاب مُعقَّدة، وأي خطأ يظهر بها يُؤَدِي إلى مشكلات جسيمة، ذكرنا بعضها فوق، ولنذكر فقط، ماذا لو دخل حيوانان منويان إلى الخلية، ماذا سيحدث في هذه الحالة؟ ماذا لو أفرز الجسم هرمون التستيرون للجنين وكان الجنين به مُشكِلة حساسية له ولم يتحول إلى ذكر، ماذا وماذا وماذا! متى ظهرت أول عملية تكاثر جنسي بين ذكر وأنثى؟ هل هي في نجم البحر الذي يملك آليتين، آلية جنسية وآلية غير جنسية؟ أم في سمكة Microbrachius dicki التي يصدع التطور رؤوسنا بها؟ أم هو طحلب Bangiomorpha pubescens.

كيف طورت الطبيعة آلية التكاثر اللاجنسي للتكاثر الجنسي؟ أو كيف تطورت الأمشاج الذكرية (الحيوانات المنوية) والأمشاج الأنثوية (البويضات)؟ وكيف تشكلت الغريزة الجنسية المقصودة؟ لم يعجبني التفسير التطوري أنّ الجنس مُمتِع عند جميع الكائنات بسبب طفرة جعلت مُمَارسة العملية مُمتِعة فازداد الإنجاب، وبهذا تكون الطبيعة قد انتقت من أصبحت العملية لديهم مُمتِعة بالانتخاب الطبيعي كون النوع استمر، لعل من كتبها لم يشعر بحياته بالشبق الجنسي، إذ يرتبط كل جسمك عصبياً وهرمونياً بهذه اللحظة، ولربما لم يشعر بالولع الجنسي والجوع للشريك الآخر، أخبرني الآن أنها مُجرَّد طفرة، أكيد فأنت لم تشعر بهذه النار التي تأكل جسمك وتهدم كل أفكارك.

الشُذُوذ الجنسي

في القرن الماضي أشار بحث إلى أنّ الشُذُوذ الجنسي سببه خللاً جينياً وليس مرضاً نفسياً، وهذا الجين موجود على الكروموسوم X في الموقع 28 (xq28)، أي أنّ الشاذ جنسياً مجبولٌ على مُمَارسة الشُذُوذ وليس بإرادته وليس عيباً نفسياً، وعلى هذا فإنه لا يحتاج إلى علاج نفسي، بعد هذا البحث تقريباً بدأ كل مجمع للطب النفسي حول العالم بحذف الشُذُوذ الجنسي من قائمة الأمراض النفسية، وأصبح الأطباء يقولون لأي شخص شاذ يرغب بالعلاج من الشُذُوذ: أنت لست مريض بل لديك جين الشُذُوذ الجنسي (Gay Gene)، لذلك لا حرَجَ عليك، مارس واستمتع.

لاحقاً، ظهرت دراسات كثيرة نفت بحث جينات الشُذُوذ ثم تم حسم الأمر في التسعينيّات بعدم وجود جينات للشُذُوذ، وباتت الدراسات تؤكد أنه لا وجود للشُذُوذ جينياً رغم محاولات البعض، وعادت بعض المراجع تصنف الشُذُوذ كمرض نفسي ويحتاج إلى علاج.

أما أسباب الشُذُوذ فكثيرة، إذ يُشكل العنف الأسري عاملاً مهماً، كذلك التعرض للاستغلال أثناء الصغر، وهُنَاك مشكلات نفسية سببها التفكك الأسري؛ فقد اعترف في دراسة 84% من المثليين الذكور أنّ آباءهم كانوا لا يهتمون بهم في صغرهم [103]، وهُنَاك أسباب أخرى مثل المشاكل الهرمونية، وقلة الأصدقاء في الصغر إذ تؤدي إلى حالة من عدم تحديد الهوية الجنسية.

لم يقُم أي عالم بإثبات جينات الشُذُوذ لاحقاً، بل حتى من نشر من العُلماء المتشجعين لهذا الأمر أبحاث كالعالم دين هامر عاد وتراجع عن كلامه قائلاً: “إنّ العُلماء يعتقدون أن هذا الجين ليس موجوداً من الأساس”، بل وذهب إلى أبعد من ذلك، فهو يعتقد أنّ أي محاولة لإثبات وجود هذا الجين هي محض هراء! هل تلاحظ معي الأمر؟

حتى دراسة دين هامر تم إعادتها على العديد من الشواذ وثبت أنها غير صحيحة، وهذا ما جاء في الدراسة المنشورة في مجلة سينس للدكتور جورج رايس وفريقه، فقد تم تجربتهم على عينة أكبر بكثير من عينة الدكتور دين هامر، ها قد أصبحنا نعلم أنه من المُستحيل أن يرتبط جين واحد بصفة جسدية، فما بالك وجود جين مرتبط بصفة سُلُوكية.

أُجريت دراسات كثيرة أخرى على التوائم الشاذين وأثبتت أنه ليس هُنَاك علاقة للجينات بالشُذُوذ فأحد التوائم كان شاذاً أما الآخر فلم يكن شاذاً، فبعد دراسة حديثة على نحو 470 ألف شاذ جنسياً، بينت الدراسة أنه لا يوجد أي جين مفرد مسؤول عن الشُذُوذ، مثلما كان يُعتقد سابقاً وجود جين مسؤول عن الشُذُوذ [104].

دراسة أخرى تدّعي وجود خمس جينات مُشتركة بين الشاذين، ووصف البروفيسور جانا أنّ تأثير هذه نقاط “تأثيراً ضئيلاً للغاية” وأنها تفسر مجتمعة “ما هو أقل بكثير من واحد في المائة في فروق سُلُوك المثلية الجنسية”، والمتغيرات الوراثية للشخص لا يُمكن أن تتنبأ على نحوٍ قاطع باحتمالية الشُذُوذ، وأشير هنا إلى أنّ العُلماء لديهم لُغة جميلة، فهم لا يقولون مُستحيل، أو كلياً، بل يقولون بشكل غير قاطع. هُنَاك أيضاً آلاف المتغيرات الوراثية التي ترتبط بتلك الصفة، ولكل من هذه المتغيرات تأثير ضئيل للغاية، أي باختصار أنّ الموضوع غالباً له علاقة بالبيئة، والتي لها علاقة بالعوامل فوق الجينية، ولا يمكن الاعتماد على الدنا وحده، ثم خمس متغيرات جينية فقط! فلو كان الموضوع حقيقياً، يجب أن نجد 100 جين على الأقل بنسبة واضحة قد تزيد عن 80%، لأننا نعلم كم أنّ العملية الجنسية مُعقَّدة ومئات العوامل تتداخل لحدوث الميول أو الشعور إن لم تكن أكثر، وتؤكد الورقة العلمية هذا الأمر بأن أنماط البشر السُلُوكية شديدة التعقيد، وليس من الصواب الاعتماد على الأسس الحيوية لتفسير السُلُوك الجنسي المثلي، ونظراً إلى أنّ معرفتنا عن الجينات “بدائي للغاية” العُلماء مرة أخرى مؤدبون، يقولون مُعقَّدة (أي مُستحيل دراستها الآن) و”بدائي للغاية”.

وهذا أدّى ببعض العُلماء إلى ربط الأمر بالعوامل الفوق جينية وليس بالجينات نفسها محاولة لإيجاد مخرج ما، ولكنهم غير متأكدين، يقولون قد يكون الأمر هكذا، وأيضاً قد تحبني سكارليت جوهانسن ونهرب سوياً إلى جزيرة ما، ولكن لماذا لا يزال الموضوع قائماً حتى هذا اليوم؟

الإجابة السهلة وهي: إنّ كسر أي قاعدة هو أمرٌ نُخبويٌّ جديد، ويا حبذا لو كانت هذه قاعدة دينية فهي ستُعتبَر انتصاراً جميلاً، ثانياً إنّ الأمر مُمتِع للبعض، الشُذُوذ مُمتِع وحلب البروستاتا مُمتِع للرجال Prostate Milking، ثالثاً هُنَاك نظام يبيع ملابس وأدوات ودورات وغيرها يتكسّب به ملايين الأشخاص حول العالم.

لدينا بعض البشر لديهم مثلاً نزعة عدوانية أو إجرامية أو عصبية أو حتى شبقية، فهل هذا يسوّغ لهم ما يفعلونه؟ هل لأنني أملك هرمونات زيادة تجعلني عصبياً، يمكن لطبيبي النفسي أن يخبرني أنت خلقت هكذا، وتصرف على سجيتك واغضب على من تشاء، أو أنت عزيزي المجرم افعل ما يحلو لك في إجرامك ولا عتب عليك.

فيما يخص شُذُوذ الحيوانات، يستشهد البعض أنّ بعض الحيوانات تمارس الشُذُوذ، وأنا ما زلت أستغرب من ربط سُلُوك البشر بالحيوانات، البشر الذين لديهم حُريّة الاختيار، لديهم التضحية والوفاء والارتباط والتعهد والصدق والأمانة والمفاضلة وغيرها من الصفات والمزايا غير الموجودة لدى الحيوانات، فهل الحيوانات ترسم أو تخطط أو تتأسف أو تعزف الموسيقى، كلا فلماذا ربط الإنسان بالحيوان في سُلُوكه؟ حسبك أنّ للحيوانات سُلُوكيات غير موجودة عند البشر، كقتل الإماء لأبنائها في بعض الحيوانات وأكل الإناث للذكور وغيرها من السُلُوكيات المُختلفة عنا نحن بني الإنسان، كل كائن حي يختلف في نوعه عن باقي الكائنات، وإلا لماذا سمي النسر نسراً والصقر صقراً والحمار حماراً.

أمّا الشُذُوذ في الحيوانات فالدراسات توضح أنّ سبب ظهوره أحياناً في بعض الحيوانات ليس لأسباب جنسية، فمثلاً تمارس الذكور الفائزة هذا الفعل على الذكور المهزومة كنوع من الهيمنة والتَفُوق وإثبات الفحولة لدى الإناث، أيضاً هُنَاك مشكلات في الشم لدى بعض الحيوانات إذ لا تُميز بين الذكر والأنثى وغيرها من الأسباب، لحظة! لا يوجد هُنَاك حيوان مثل الإنسان يمارس الجنس لأجل المتعة إلا نادراً جداً، فمفهوم الجنس لدى الحيوانات مرتبط بالتكاثر، ولا يرتبط بالمتعة كما البشر.

توضح الخبيرة سارة هارتويل أنّ القطط على سبيل المثال تقتل أبناءها بعد أن تختلط عليها الإشارات، إذ تتداخل لديها إشارات القتل وإشارات الصيد على أنه سُلُوك شاذ وسببه هرموني وليس سُلُوكاً طبيعياً، ويؤكد البروفيسور سيزار أدس عالم السُلُوك الحيواني وعلم النفس في جامعة São Paulo أنّ الذكور في عالم الحيوان حينما تتزاوج فهي تتزاوج للتعبير عن القوة فقط وليس من باب جنسي، وهذا ما يؤكده جاك لين شولتز في عالم الكلاب، إذ تتزاوج ذكور الكلاب للتعبير عن السيطرة والسيادة، أو قد يحدث أحياناً بسبب وجود مُشكِلة في حاسة الشم فلا يميز الكلب الأنثى من الذكر، ويؤكد أيضاً البروفيسور أنطونيو باردو المتخصص في أخلاقيات علم الأحياء Bioethics والبروفيسور تشارلز دبليو سوكاريديس على أنّ الشُذُوذ الجنسي غير موجود عند الحيوانات لأسباب جنسية، بل هو مقتصر على البشر.

ماذا عن الشُذُوذ الجنسي والتطور؟ كيف يفسر الانتخاب الطبيعي الشذوذ؟ من المُفترض أنّ الانتخاب الطبيعي يمسح الشُذُوذ الجنسي في سلالة البشر فهو عيب لا يتناسب مع مبدأ التكاثر ولا مع مبادئ أخرى، كذلك لو تكلمنا من وجهة نظر الجين الأناني، فالجين الأناني يلغي فكرة الشُذُوذ! ماذا لو قمنا بجمع الشاذين من الذكور والإناث في مدينة ما لمدة مائة عام؟ هل سترى بعد مرور المائة عام أي شخص في المدينة؟ بالطبع لن ترى سوى بقايا لبيوتهم وبعض العظام، وهذا ما يؤكد أنه مُنافٍ للطبيعة وللتطور لو أردنا الحديث من ناحية مادية بحتة، فالطبيعة مع حفظ النوع من الانقراض، والشُذُوذ يقول لك انقرض بهدوء، ثم فرضاً كان هناك جين شاذ، وتلاقي في ذكرين تزاوجا، كيف سينتقل الجين للأجيال التالية؟ عبر الهواء! من الطبيعي أن ينقرض في هذين الذكرين لأنه لن يحدث إنجاب.

تصف أحد الدراسات أنّ النظرية حول وجود جين الشُذُوذ تم تضخيمها كثيراً وتسويقها على أنها حقيقة علمية إلى أن تناسى العالم أنها نظرية للأسف [105]، وللأسف هذا ما يتم نشره إلى يومنا على الرغم من أنّ العُلماء ليسوا متأكدين من شيء بعد، لكن على الأكيد ألمانيا تمنعك من الزواج بامرأتين، لكن إن رغبت بالزواج من صديقيك فلا مُشكِلة!

أشار أستاذ الطب النفسي الحاصل على وسام التميز في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز الدكتور بول آر ماكهيو والذي له إسهامات عديدة متنوعة قائلاً: إنه لا يوجد شيء اسمه جينات المثلية الجنسية، بل وحتى أنّ المثلية هي رغبة خاطئة لا أكثر، وفي دراسة أخرى قام طبيب نفسي بمعالجة 200 مريض نفسي بالشُذُوذ من الجنسين وعادوا لرشدهم تماماً [106] باستخدام العلاج الترميمي، وهذا يؤكد أنّ الشُذُوذ مرض نفسي وليس جينات ثابتة.

الاضمحلال

إنّ مصطلح Devolution الذي يمكن أن يترجم إلى التهدم أو التقهقر أو التبوّر أو الانحطاط أو الانحدار (الحيوي) هو مصطلحٌ حديثٌ بدأ يبرز في السنوات الأخيرة نتيجة للأدلة الواضحة على أنّ الكائنات لا تتطور للأمام، بل تتطور للوراء backward evolution، بمعنى آخر أدق: إنّ الكائنات تخسر مزاياها ولا تكتسب الجديد كما هو كان مُتوقعاً، الكائنات آخذة بالانحدار إلى الهاوية عبر خسارة الكثير من المزايا والخصائص والفوائد إلى أن تفنى حرفياً، هي متجهة حسب نظرية التطور للأشكال السابقة لتطورها، للأشكال الأقل تطوراً.

هناك فكرة تنبع من عدم وجود غاية للتطور، فإذا كان الإنسان لا يلزمه أن يكون في الغابة كالسابق، لا يعيش في رعب وليس بحاجة إلى عضلات قوية ليدافع عن نفسه، فهو حتماً سيخسر كل هذه الخصائص في سبيل الراحة الحديثة، وهذا لتقريب الفكرة، التطور يسير حسب الانتخاب الطبيعي والطفرات وغيرها، ومن الممكن أن يسير للأمام والخلف، فهو غير عاقل ولا هدف مُحدد له.

تُعتبر طيور البطريق مثالاً مباشراً على التطور الرجعي، فهي لم تستخدم أجنحتها كباقي الطيور وهذا ما ظهر في حفريات يصل عمرها إلى 60 مليون عام، لذلك فقدت قدرتها على الطيران بالكامل أو أي عمليات كانت مرتبطة بها، ويحاول التطور الرد بأننا نفترض أنّ الطيران بطبيعته هو نقطة النهاية التي يعمل عليها التطور، وهو أمر غير صحيح، وهي إجابة لا أراها منطقية مع التطور، كذلك الأسماك المخاطية Hagfish حسب الحفريات المكتشفة كانت تملك أعين ترى بها بفعالية قبل 300 مليون عام، أمثلة أخرى سنتطرق لها أكثر في هذا الفصل [107]، وهذا هو المنطق في الكائنات، فالكائنات الكاملة بالشكل الحالي تفقد بسبب آليات الانتخاب الطبيعي والطفرات والانحلال الجيني الكثير من الخصائص، إنها عوامل نحت وتعرية الكائنات الحية.

الانحلال الجيني

الانهيار الجيني Genetic Entropy هو انحلال جينات Genetic Degeneration الكائنات الحية، إذ تتكسر الجينات وبيانات الكائن الحي، وهو حقيقة حيوية فيها جينيوم المخلوقات الحية ينتكس أو يفقد معلوماته ببطء نتيجةً لتراكم الطفرات الضارة.

بيّنت دراسة حديثة [108] أنّ كل شخص في كل جيل يُوَرِّث ما متوسطه 100 طفرة وراثية إلى أبنائه، وتؤكد الدراسة على أنّ القليل جداً جداً من هذه الطفرات مُفيد، أما الباقي فهو ضار ولربما له تبعيات قاتلة، والموضوع هذا موغلٌ في القدم، فعلى سبيل المثال هُنَاك أدلة على أنّ أحد الأجناس القديمة Homo floresiensis قد أصابها انتكاساتٌ جينيةٌ أدت إلى صغر حجمها وصغر حجم عقلها حتى صارت عرضةً للأمراض، بل حتى كل الأجناس الأخرى والمراحل التطورية التي يزعم العُلماء المُؤمِنون بالتطور للإنسان أنها قد مرت بنوبات متتالية أدت إلى حدوث تطور اختزالي Reductive Evolution مما أدى إلى انحدارها.

كما أنّ هُنَاك دراساتٌ علميةٌ واضحة أُجريت على الحيوانات مثل الماموث، أظهرت حدوث انتكاسات قادت الحيوانات إلى انهيارٍ جينيٍّ حدث بسبب الطفرات Mutational Meltdown مما أدى إلى فنائها، وانهيار الطفرات هو تراكم الطفرات الضارة مما سبب مشاكل في التنوع الجيني ومن ثَم ضعف التبادل الجيني ومن ثَم الانقراض [109] فالماموث الصوفي كان مرجحاً أنه انقرض لأسباب مثل تغيّر المناخ، أو بفعل البشر أو النيازك، لكن الدراسات الحديثة تفيد بأن السبب الحقيقي هو أنّ الماموث الصوفي قد انهار جينياً وذلك منذ 4 آلاف عام فقط في جزيرة في القطب الشمالي احتوت على مجموعة عانت من العيوب الوراثية.

يَمُر كلٌّ من الحيوانات والبشر بنفس مستوى الانهيار على مدار كل عام [110]، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النباتات، فقد بيّنت دراسة أُجريت على نبات الكاسافا حدوث هذه المُشكِلة [11]، بل حتى المخلوقات الأدنى مثل الفيروسات تواجه هذه المُشكِلة الشائكة [111]، إذ يجب على كل فايروسات الـ RNA أن تكون أصغر سناً ب 50 ألف سنة على الأقل وذلك في أسوأ تقدير؛ إذ تظهر دراسات فايروس H1N1 الخاص بالأنفلونزا أنّ التحلل فيه يسير بشكل أسرع من اللازم.[111].

هذا يعني أنّ الزمن يسير عكس نظرية التطور وليس معها، فالأنواع تفقد مزاياها وتنتكس جيناتها، والمعلومات الجينية تنقص ولا تزيد، وهذا ما يوضح سبب عدم تطور أي بروتين نعرفه.

رسم توضيحي 40 الانحدار أو التقهقر، هذا ما يأمل العُلماء حصوله في فايروس Covid19

 

التنوع الجيني

يُؤَدِي التنوع في الجينات Genetic Diversity الموجودة في الجنس الواحد أثناء عمليات التزاوج إلى ظهور صفات مُختلفة ومزايا متنوعة، وكلما زاد التنوع الجيني امتلك النوع قدرة أكثر على تحمل الظروف، وهذا مظهرٌ حيويٌ مهمٌ لحفظ الأنواع من الانقراض، وللأسف ما نراه أمامنا أنّ الأنواع تتجه إلى الانقراض بدلاً من الانتشار والانفتاح، ولو قام عالمٌ ما بدراسة مستوى تدهور الجينات لرأى نهاية العالم.

تشير دراسة حديثة إلى أنّ 93% من البذور المُختلفة التي بيعت في الولايات المتحدة منذ عام 1903 قد انقرضت عام 1983!، إنّ 93% نسبة كبيرة وضخمة لتحدث في غضون 80 عام، ولو تحدثنا عن 80 عام أخرى فنظرياً 93% من الـ 7% المتبقية ستنقرض، وهذا ما يترك لنا رقماً ضئيلاً من الأنواع، هذا خلال 160 عام فقط! وهذا يخالف كل توقعات التطور، فالأنواع تنحدر وتنقرض ولا تتطور [112].

رسم توضيحي 41 انحدار البذور.

من بين سبعة آلاف نوعٍ من التفاح كان ينمو في القرن التاسع عشر، يتوفر منها بضع مئات فقط في القرن العشرين، ويعتقد العُلماء أنّ السبب يعود إلى الانتقاء أو الانتخاب الصناعي وإلى التعديل الجيني الذي أُجريَ على النباتات الأمر الذي أدّى إلى سرعة التحلل الجيني genetic degradation وضياع الأنواع.

الإنتروبيا الجينية

إنّ كثرة الطفرات الضارة في جينات النوع الواحد من الكائنات الحية في منطقة محصورة، وانتقال هذه الجينات إلى الأبناء يُؤَدِي إلى كارثة جينية تسمى الانهيار الجيني Genetic meltdown، هذه الظاهرة منتشرة جداً في الفايروسات وهي موجودة للأسف في الكائنات العليا كالرئيسيات، ونسبة الطفرات المُفيدة للطفرات الضارة قد تساوي صفر!، إذن لا يحدث موازنة لكفة الجينات الضارة.

تم ملاحظة ورصد هذه الظاهرة في العديد من الكائنات الحية مثل نمر فلوريدا، وغوريلا السهول الشرقية، وهو نوع من الغوريلا يعاني من نقص من التنوع الجيني بين أبناء جنسه، فقد تم أخذ مجموعة من العينات على مدار عدة أجيال ودراستها، فكانت النتائج توضح أنّ الأجيال اللاحقة أكثر عرضة للأمراض الجينية، وأقل قدرة على التكيف في التغييرات المناخية، وصنفت بعض هذه النواقص على أنها نقص حقيقي في العملية الحيوية وليس مُجرَّد نقص بسيط.

تُظهِر بعض الدراسات أنّ البشر يعانون من هذه المُشكِلة، فنقص الخصوبة وضعف جهاز المناعة أحد أهم نتائجها، والمتاحف والبنوك الخاصة بالكائنات الحية تعطينا الكثير من المعلومات المُفيدة في هذا العصر لم تكن متاحة قبل مائة عام، فهي تحفظ عينات العظام والأسنان والوبر وغيرها من الأجزاء التي تحتوي على الجينات، وعلى هذا فإنه يمكننا إجراء مقارنة واضحة، فقد أظهرت المقارنات أنّ الكائنات الحية بحاجة إلى إنقاذ جيني Genetic rescue لأنها تفقد معلوماتها، كالكتاب مع الزمن تبهت وتختفي حروفه.

يُؤَدِي هذا الانهيار في النهاية إلى فناء النوع لأنه لن يستطيع العيش في ظل جسد هزيل مريض لا يستطيع مواجهة البيئة ويطلق العُلماء على هذه الظاهرة مصطلح دوامة الانقراض extinction vortex [113].

كذلك هُنَاك ظاهرة التآكل الجيني Genetic erosion، وهي عملية تتناقص فيها الصفات الجينية المحدودة للأنواع المهددة بالانقراض أكثر، لأنه لا يوجد حوض جينات واسع لتناقله بين النوع، فيصبح النوع غير قادر على تحمل الظروف المحيطة القاسية.

تغير الكائنات

إنّ جميع أنواع التكيف التي نلاحظها هي عبارة عن جينات وراثية موجودة سلفاً في الحوض الجيني للكائن ويتم تفعيلها حسب الحاجة فقط، وليس هُنَاك صفة أو وظيفة تظهر من خارج الحوض الجيني للنوع، وأقرب مثال هي البكتيريا وتحديداً بكتيريا Escherichia Coli الهاضمة للسترات، حين وضعها في ظروف أدت إلى غياب الجلوكوز التي تتغذى عليه تم تفعيل جينوم هضم السترات وتحويله إلى جلوكوز، وقد كان الجينوم المشفر خاملاً خارج منطقة النسخ الرنا لكن عند الحاجة تم مضاعفة نسخه Gene Duplication وفك تشفيره وتفعيله، فلا توجد معلومة جديدة تمت إضافتها من خارج الحوض الجيني للنوع وهذا ما قام بإجرائه لينسكي في تجربته التي سبق ذكرها في التطور الصغروي والكبروي [114]، وقد اكتشف العُلماء أنّ فرط الحساسية تجاه اللاكتوز lactose tolerance يتم تنظيمه بواسطة العوامل فوق الجينية، مثل مَثيلة مستويات من جينات MCM6 و LCT، [115] وهذا ليس نتاجاً تغييراً تطورياً بعكس ما كان يُعتقد سابقاً، وقد وتم مقارنة بكتيريا معزولة منذ ٢٥٠ مليون سنة بقرينتها الحديثة وتقريباً لم يتغير شيء ظلت بكتيريا كما هي [116].

وبشكل عام فإن التكيف البيئي وتغيير الصفات الظاهر في الكائنات ينبع من آليتين أساسيتين هما:

  1. عوامل فوق جينية موجودة مسبقاً في الكائن الحي.
  2. فقد أو تلف في البيانات يُؤَدِي إلى ترتيب المعلومات المتبقية.

على سبيل المثال، يؤثر الطعام وآلية التغذية على الكائنات بطرق شتى، فأسلحة الخنافس المقاتلة تتغير وفق عوامل فوق جينية مثل HDACs و PcG [117]، وكذلك يؤثر الطقس وتغيير المناخ على عمليات مَثيلة الدنا التي تقوم بتفعيل الجينات بغزارة [118]، وكذلك يؤثر الضغط النفسي على عمليات مثيلة الطبقاتGNAS isoforms وهُنَاك نتائج واضحة لهذا الأمر على عمليات تجديد الخلايا الهيكلية [119]، كذلك العوامل الضارة في البيئة مثل السموم تؤدي إلى تغييرات فوق جينية، فقد تم رصد تغييرات واضحة نتيجة لعوامل سامة في أسماك دانيو المخططة Zebrafish [120].

قاعدة بيانات الطفرات البشرية

تحتوي قاعدة بيانات الطفرات البشرية The Human Gene Mutation Database (HGMD) على قائمة بجميع الطفرات التي تُسبب أمراضاً بشرية تنتقل جينياً، وهذه القاعدة تتحدث دورياً، فلو قمت بزيارتها فستجد عشرات آلاف الطفرات المتعلقة بالأمراض قد أضيفت www.hgmd.cf.ac.uk بتاريخ 25/1/2021 يوجد 275716 ألف مدخل حيث:

  1. 10 % من الناس مصابون بأمراض جينية نادرة.
  2. الأطفال لديهم أعلى نسبة من الأمراض، و30% ممن لديهم هذه الأمراض من الأطفال يموتون قبل سن الخامسة.
  3. 95% من المصابين بالأمراض لا يملكون علاجاً معترف به بواسطة إدارة الغذاء والدواء FDA.
  4. 15 ألف مرض جيني موثق منها خلايا الدم المنجلية وغيرها من الأمراض الشائعة المسببة للصمم أو العمى بسبب الطفرات الجينية المتعددة.

وهُنَاك قاعدة بيانات DisGeNET التي تعرض الطفرات والاختلافات الجينية التي تسبب الأمراض، فهُنَاك 1,134,942 مرض مرتبط بالجينات (GDAs)، وما بين 21,671 جين و 30,170 مرض وإضراب وأثر وخلل مرضي غير طبيعي، وغيرها من الأرقام العجيبة، وعلى العكس فإنّ عدد الفوائد المسجلة من هذه الطفرات هو صفر، زيرو، إيفس، 0، لعل الصورة تصل.

وقد بتنا نفهم أنّ التطور يركز على حدوث الطفرات النافعة الهدامة لكي يتحسن النوع، كأن يفقد الكائن وظيفة الجين الأساسية بطفرة هدامة، ولكن لهذا الضرر نفع في مكان ما، كما في مقاومة البكتيريا وكما في مقاومة الملاريا في خلايا الدم المنجلية، وهذا يعني أنّ الأنواع ستفقد مزاياها الأساسية وتنحدر ولكن بفائدة! أي أننا سنهدم في الفائدة الأصلية، لعلنا نحصل على فائدة ولكن بدرجة أقل، وهذا يعني أنّ الكائنات متجهة تطورياً إلى الاضمحلال في أفضل حالات التطور!

الخلية الأولى

الصورة البسيطة عن تكون الحياة تقول في البدء كان ماء، والماء كان في مكان ما، وكان المكان الما في ظروف مواتية على سطح الأرض، واحتوى هذا الماء على جميع المكونات والعناصر الأساسية الكيميائية لنشوء الحياة، وبالقليل من البرق والضوء مع بعض الحرارة وشذرات براكين وبعض الأملاح المعدنية الصغيرة، بوم شاكالاكا، نتجت الحياة، هذا على الأقل ما تقوله محاولات نظريات التطور حالياً ويحاول العُلماء إثباته كما في تجربة يوري وميلر الشهيرة منذ أيام العالمين أوبارين وهالدن.

الشيء نفسه حدث للإنسان، فهو تكون من كائنات بدائية تفاعلت مع مواد بسيطة، شيئاً فشيئاً تطورت إلى أن أمسى هذا الإنسان الذي نعرفه وذلك عبر ملايين السنين، كما وأخذت الطبيعة بعض اللبنات من الأحماض، ووضعت بعض الغراء وقليل من العمليات الأخرى ثم أفادا كادابرا، أمست لدينا الحياة المُعقَّدة التي نحاول أن نفهمها منذ آلاف السنين ونفشل رغم عقلنا الواعي وجماد عقل الطبيعة.

السؤال الأول الذي يحاول جميع العُلماء الإجابة عنه هو سؤال كيف بدأت الحياة، أي كيف بدأت الخلية الأولى، وكيف تم بناء أول بروتين، من أتى أولاً البروتين أم الجهاز الذي صنعه؟ إلا أنّ الجهاز الذي صنعه تم صناعته بالبروتين أيضاً، وهو سؤال يشابه من أتى أولاً البيضة أم الدجاجة، ونحن بتنا نعرف أنّ صناعة البروتين عملية مُعقَّدة، وتكوُّن بروتين بالصدفة يتطلب احتمالات مادة مقدارها بليون مرة المادة الموجودة، وعدد الاحتمالات الممكنة هي 10^234 وهي أكبر مرات كثيرة من عدد البروتونات والنيترونات والإلكترونات في الكون، وهي بحاجة إلى مسرح مساحته 10^82 سنة ضوئية لتحدث فيه، أي أكبر من حجم الكون.

حقيقة لا يوجد عالم تطوري أو غيره في العالم تجرأ أن يقول نعرف كيف أتت الخلية الأولى أو الحياة الأولى، لا يوجد على الإطلاق، ولعلك تجد صديقاً يعرف الإجابة فهذا أمر طبيعي، أمّا أن تجد عالماً من العُلماء المُؤمِنين بالتطور فليس ممكناً، وقد سمعت بنفسي ريتشارد دوكينز حينما تم توجيه هذا السؤال إليه قائلاً: إنّه من الممكن أنّ لبنة الحياة الأولى أتت من الفضاء الخارجي، ثم تهرّبَ سريعاً لأننا قد نسأل وكيف تكونت الحياة الأولى في الفضاء الخارجي، ماذا تقول؟ نعم؟ ريتشارد دوكينز لا يعتد به؟ حسناً أوافقك الرأي.

يشير البروفيسور الكيميائي جيمس تور أحد أشهر علماء الكيمياء في أحد أبحاثه عام 2016م قائلاً: “إنّ من يقول إنّه يمكن التوصل إلى بناء خلية لا يعلم شيئاً عن التفاعلات الكيميائية، فجميع العُلماء لا يفهمون كيف تمَّ الأمر، وهذا ما يتم نقاشه في الغرف المغلقة بين العُلماء”، مع العلم أنّ البروفيسور جيمس أحد أفضل الكيميائيين في العالم ولديه ما يزيد عن 650 بحث علمي، وهو مختص في الكيمياء وعلوم الحاسوب وعلوم النانو، وهو يرى أنّ غير المختصين -كمشاهدين اليوتيوب- يفهمون التطور، إلا أنه كمختص لا يفهمه، لأنه يفهم بدقة كيف تتفاعل الذرات ولا يرى كيف يمكن أن يحدث هذا في التطور ! وهو يدعو أي شخص على الغداء أي وقت لكي يشرح له كيف يحدث التطور وخصوصاً على المستوى الحيوي، وهذا ما يجعلنا نتأكد أنّ أكثر المُؤمِنين بالتصميم الذكي هم العُلماء.

ويقول العالم يوجين فيكتوروفيتش كونين، عالم الأحياء الأمريكي الروسي وكبير الباحثين في المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية، وهو خبير معترف به في مجال الأحياء التطوري وعلم الأحياء الحاسوبي: “إنّ المجال الذي يدرس بداية الحياة هو مجالٌ فاشل”.

ويضيف العالم لي هارتويل الحاصل على جائزة نوبل في الطب: “مع احترامي لأصل الحياة، وجدت أنه كلما تعلمت أكثر عن الخلية، اتضح لي أنها أكثر تعقيداً، إنها مُعقَّدةٌ بشكل مذهل، ومن خبرتي فيما وصلنا إليه من علم اليوم، فلن نستطيع معرفة كيف أتت الخلية الأولى، هذا أمرٌ مُستحيل”.

رسم توضيحي 42 بهذه البساطة يرى بعض العُلماء تكون الخلية الأولى.

وقد بتنا نعرف أنّ هذا السيناريو البسيط ينقصه بعض التفاصيل، كأن ترى صديقك ترتكز عليه مونيكا بيلوتشي، فتخبره كيف هذا، فيقول لقد أُعجبت بي! أُعجبت بك!!!! أريد التفاصيل، أريد أدق أدق التفاصيل، لا أريد المشهد الختامي من الفيلم، أريد أن أشاهد الفيلم بالكامل، فالشيطان يكمن في التفاصيل.

كما صرح الباحث الألماني كلاوس دور بقوله: “إنّ النظرية الحالية عبارة عن مخطط للجهل” ويقصد هنا نظرية فهم الحياة الأولى، وهذا يتفق مع رأي الكاتب العلمي نيكولاس وايد: “بأن كل شيء حول أصل الحياة على الأرض غامض، وكلما ازدادت معرفتنا بالأمر ازدادت صعوبة اللغز”.

الخلايا أكثر تعقيداً مما يتخيل البشر، وعملية عقلنة نشأتها أمرٌ مُستحيل! وهذا يُشابه ما قاله البروفيسور فرانكلن هارلود نفسه “إنّ نشأة الحياة أمر غامض”، وكذلك رد البروفيسور جورج م. وايتسايدز في جامعة هارفارد حينما سئل كيف بدأت الحياة؟ أجاب: “لا أعرف ببساطة”.

وكما رأينا فإنّ تعقيد بناء الخلية وتعقيد تداخل الخلايا وتعقيد عمل الدنا وغيرها من الصور تقودنا في النهاية مع آراء العُلماء إلى أنه لا أحد يستطيع تفسير كيف بدأت الحياة على المستوى الكيميائي، لا أحد يمتلك الدليل أو الفهم، وكما رأيتم أنّ بعض العُلماء لشدة تعقيد الحياة يقولون أنها قد جاءت من كوكب آخر، ورأينا أنّ تكوين الدنا أو الرنا أو حتى البروتين الأول عملية صعبة ومُستحيلة، ولكن العُلماء لم ييأسوا، فهُنَاك تجربة حدثت ولم تعاد منذ خمسينات القرن الماضي لطالب وأستاذه في رسالة الدكتوراة سميت بتجربة يوري ميلر، إذ جهز ميلر دورق به مجموعة من الغازات وقام بتمرير شرارة كهربائية فيه وحصل على بعض الأحماض الأمينية [68]، في تجربة منظمة ومحكمة ومحسوبة منذ خمسينيات القرن الحادي والعشرين، بالرغم من التطور التكنولوجي اللاحق للتجربة، لم يتجرأ أحد على إعادتها أو تحسين مخرجاتها بشكل فاعل لإظهار نتائج مدهشة وذلك منذ سبعين عاماً.

كما في دورة حمض الستريك رأينا أنّ الأكسجين هو أحد المخرجات النهائية من الدورة، إلا أنّ الأكسجين ضار جداً للخلية وهو عنصر شيطاني يحرق كل شيء فيها ما لم يقم الجسم بالتخلص منه، ولو كانت بعض جزئيات الميثان لدينا في دورق تجربة يوري مثلاً إلى جانب الأكسجين ومررنا الشرارة لحدث انفجار هوليوودي، فلا الأكسجين مُفيد لبناء الكائنات لأنه يتفاعل معها، ولا هو مُفيد في وسط به شرارة ومواد قابلة للاحتراق، ولهذا اعتبر أوبارين وهالدن أصحاب الفكرة أنّ غلاف الأرض في مراحل تكون الخلية الأولى كان بلا أكسجين أصلاً، وأنّ الجو كان مليء بالهيدروجين والميثان وعناصر أخرى وأنّ ضربات البرق افتراضياً أنشأت الأحماض الأمينية.

وهذا يعني أنّ العُلماء قاموا بإدخال فرضيات معينة في التجربة للحصول على نتائج معينة ليست حقيقية، كأن أعمل لك سحراً وهو في الخفاء خدعة تكنولوجية، أو كأن تحضر بنفسك دورقاً يحتوي على غازي الهيدروجين والميثان، ثم تقوم بالسماح بمرور الهواء العادي، ثم تعرضه للقليل من التسخين والكثير من الشرارة، ثم تقوم بتركه في بيئة معزولة لمدة أسبوع، ستحصل حينها على الكثير من المركبات السامة، إضافة إلى أبسط حمضين أمينين وهما الجلايسين والألانين، وبتحسين التجربة فيما بعد ستحصل على أحماض أكثر ومواد أخرى، وهذا أمرٌ مُشابهٌ لما حصل في تجربة يوري ميلر.

بعد تجربة يوري وميلر بسنوات توصل علماء طبقات الأرض (جيولوجيون) إلى أنّ البراكين القديمة لا تختلف عن البراكين الحديثة، وجو الأرض قديماً لا يختلف عن جو الأرض هذه الأيام كثيراً، وأنّ جو الأرض قد احتوى على أكسجين قبل عمليات البناء الضوئي عبر تحلل الماء من خلال الأشعة فوق البنفسجية، وكانت هُنَاك أدلة كثيرة في الصخور تدل على هذه النتائج قبل 3.7 بليون عام، فقد وجد العُلماء إنزيماً خاصاً يسمى سوبر أكسيد ديسميوتاز (Superoxide dismutase) في الخلايا الحية لحمايتها من الأكسجين السام الموجود في الكائنات التي من المفترض أنها تطورت قبل عملية البناء الضوئي ليحميها من الأكسجين، فلو افترضنا أنّ هذه الكائنات هي الأقدم وتطورت قبل غيرها، فلم تحتوي على الإنزيم الذي يحميها من الأكسجين؟ فهذا تطورياً يبين أنّ الأرض سابقاً كان بها أكسجين خافت منه الكائنات الحية واستعدت له.

لاحقاً، صرح العالمان holland و Abelson أنه لا يتوفر دليل على أنّ جو الأرض كان خليطاً قوياً من الميثان والأمونيا، وأنّ هذا كان افتراض من أوبارين وهالدن، وهنا نعود لما تكلمنا عنه مسبقاً، العُلماء المُؤمِنون بالتطور خيالهم واسع ودائماً بلا أدلة دامغة، إنها لعنة مشاهدة الأفلام بكثرة، ولكي نقلل من اللغط، أثبت علماء آخرون مثل فوكس ودوز أنه لا يمكن إنتاج أحماض أمينية أساساً حين تعرض هذا الخليط لشرارة كهربائية، والمقصود هنا الخليط الأساسي الذي كان موجود على سطح الأرض يومها، ولهذا قام ميلر بمحاولة تصحيح تجربته وتعديلها؛ فأنتج الجليسرين عام 1983م الناتج من تعريض أول وثاني أكسيد الكربون لشرارة بسيطة بدلاً من الميثان، وكان هذا أقصى ما توصل إليه، وكالعادة هُنَاك ردود من علماء على هذه التجربة، ولكن العُلماء من تلك الأيام وقبلها قد ألقوا بتجربة يوري ميلر وراءهم لهذه الأسباب ولأسباب أخرى مثل استخدام يوري للمصيدة الباردة لإنجاح تجربته، ولا ننسى أنّ حمضاً أمينياً واحداً يُبعدنا كل البعد عن بناء بروتين واحدة، ويُبعدنا كل المسافة التي أبعدها عن مونيكا في الحصول على عضية خلية واحدة.

بعد فهم العُلماء أكثر لدور البروتين ولتعقيد بنائه ولوجود عقباتٍ كثيرةٍ في تكوين البروتينات من الأحماض الأمينية، اتجه العُلماء إلى البحث عن تخليق شيء آخر، شيء أكثر منطقية، سنخلص للآلة التي تصنع البروتينات. حسناً، الدنا كبير ومُعقَّد، فدعونا ننظر للرنا، فهو صغير ولطيف ومن الممكن التفكير في صناعته في حساء الحياة، فضلاً عن أنّ بعض الرنا يعمل أحياناً كإنزيم أي أنه بروتين أحياناً، ولهذا لماذا لا نفكر فيه، لكن هذه الفكرة ما زالت نظرية ولا أسس لكيف تطور الرنا دون الدنا ودون بروتين كما تكلمنا مسبقاً.

على مدار سنوات طويلة نطالع الأبحاث التي تشير إلى قدرة العُلماء على تخليق مكونات الحياة، ومن المفترض في ظل التطور العلمي الهائل ووجود ملايين العُلماء حول العالم وفي ظل ادعائنا أنّ الطبيعة بالصدفة أنتجت الحياة، فنحن بذكائنا الجمعي حتماً قادرون على فك بعض الألغاز الأساسية، مثل كيفية صناعة البروتين أو الرنا أو الميتوكوندريا أو حتى الغشاء الخلوي أو الأنيبيات الدقيقة أو أي مكون بسيط من مكونات الخلية، لكننا رأينا عكس ذلك، رأينا أبحاثاً تتحدث عن صناعة خلية كاملة صناعية بضربة واحدة! أنتم لم تستطيعوا صناعة برغي، فتقولون أنّكم صنعتم مكوك فضاء! وللأسف هذه الأبحاث تراها تعتمد على استخدام أجزاء سابقة كاملة من الحياة وتضيف عليها بعض النكهات وتقول It’s Alive.

تقول بترا شويل عالمة فيزيائية حيوية ومدير قسم بحوث الفيزياء الحيوية الخلوية والجزيئية في معهد ماكس بلانك للكيمياء الحيوية أنها دائماً ما كانت منبهرة بالسؤال عن كيفية بناء الحياة، وما هو الجزء المسؤول عنها، وأنّ العُلماء على مدار 20 عاماً يحاولون هذا الأمر، وتأمل هذه العالمة كما جميع العُلماء في مشروع BaSyC أن يقوموا ببناء الحياة، فالمبلغ المرصود مكون من عشر خانات لذا يجب أن ينجحوا، ولكن يجب أن نذكرهم أنّ احتمالية بناء بروتين به 20 حمض أميني رياضياً ودون عواطف كما فعلنا سابقاً هي تقريباً 1 من 10^202 وللتذكير إنّ كل عدد ذرات الكون هو 10^87 !

هُنَاك نقطة قد تكون غائبة ولكنها مهمة، الكيمياء ليست هي الحياة، فلو قمنا باقتطاع كل أجزاء الخلية وتركيبها معاً لن تتحرك الكيمياء ولن تنتج شيئاً، لو ماتت الخلية وقمنا بتقطيع أجزائها وتجميعهم مع أخرى لصناعة وحش خليّشتاين فلن تتحرك الخلية، الحياة ليست هي المكونات الكيميائية، إنّ البروتوبلازم الذي يقوم بعمليات الأيض والبناء المُختلفة لهو كيمياء حية! ولو نزعناه وتوقف عن الحياة (مات) لما صار بإمكاننا إعادة تشغيله من جديد، وكأننا أمام ذرات حية وذرات ميتة! لم يعجبني هذا الكلام في البداية فلقد كنت مُؤمِناً بأنّ العلم سيكشف السر، ثم تراجعت لاحقاً وتذكرت أني هنا أمسي مُؤمِناً ولست عالماً، حينها يكون ديني هو الإيمان التطوري وليس التجربة العلمية الحالية، لذلك لا مفر من التسليم بأن الحياة ليست كيمياء، على الأقل حتى هذه الأثناء، إلى أن يأتي عالم ويقول بالتجربة: اليوم صنعت لكم ميتوكوندريا حية من بعض المواد الكيميائية من حساء الحياة.

هل تعرف الطبيعة الكيمياء وتعقلها حتى تشيد بها الخلايا؟ هل تعرف الميثان من الإيثان من البروبان من البنتان؟ هل تعرف السايكلو أوكتان أم الألكان من الألكين، أم تميّز الكحول من الثيول من الإيثر، ولربما تستطيع أن تفرّق بين الأحماض والألدهيد والإستر، أو السبايرو من الباي سايكل، ولربما تُميز تفاعلات الإحلال من الاختزال من غيرها، ولربما تعرف عمليات إنتاج الألكينز عبر الاختزال من تفاعل وولف كيشنر أو جرينيارد، أو لربما تستطيع إجراء تكوين عبر عمليات كوري هاوس أو تفاعل فولدز، ولعلها تستطيع البدء بذرة كربون وتكملها إلى حلقة عبر تفاعل ديلزألدر لتقوم لاحقاً بتكرار التجربة ملايين المرات وتكمل تفاعلات أخرى لتكوين حلقة البنزين، ثم تفاعل إحلال لكي يتكون لدينا الفينول، أو تستطيع التمييز بين دوران المركبات الضوئية، وتميّز أنواع التنافر الكيميائي الضوئي، أم تميّز السوائل وأنواعها وطريقة تأثير الروابط فيها لعمل تجربة دقيقة دون نواتج أخرى، وغيرها من عشرات آلاف المُحددات الكيميائية، إنّ الطبيعة لو استمرت مليون عام، لن تستطيع إجراء عبر الصدفة سلسلة تفاعلات كيميائية لتخرج لنا مركب مثل الهيموجلوبين يتكون من مئات التفاعلات المتسلسلة، توضيح كيميائي أكثر في فصل الكيمياء الواعية.

إنّ القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أنّ كل شيء في الكون يتجه إلى التشتت والتفكك والفوضى كفيلٌ بتغيير كل نظرتنا الحالية عن تكون الحياة أو الخلية الأولى، فالخلية الأولى لن تصمد في حساء الحياة أمام الأحماض والحرارة والضغط الجوي والتغيير المناخي بين الليل والنهار والمواد السامة والعوامل الأخرى الموجودة، فكيف ستتكاثر وتنقسم وتقوم بمحاولات لا نهائية لعيش هذه الحياة في هذه الأوساط القاسية، ولا أعلم كيف لنا أن نؤمن بمُستحيل مثل الصدفة والعشوائية التي تُنشئ نظاماً بديعاً كالخلية الحية أو الكائنات الحية، وألا نؤمن بمهندس واحد، أليس هذا أسهل من الإيمان بمليون صدفة!

شكل 40 صورة اللوحة الأم

فليأخذ العُلماء معالج أي حاسوب، أو ليأخذوا اللوحة الأم Motherboard ويقوموا بتعريضها لجميع العوامل البيئية والجوية والفيزيائية، وليروا هل لو أعادوا هذه العملية على ملايين اللوحات ستتحسن أي منها؟ لا نريد أن تدعم معالج أحدث، نريدها أن تضيف خاصية جديدة لها، هل سيحدث هذا يوماً؟ بالطبع لا، فالقوانين تخبرنا أنها ستبلى وتفنى ولن يبقى منها جزء متماسك جراء تعرضها للعوامل البيئية المُختلفة. وتقريباً فإن كل دراسة علمية ترى أنها اكتشفت كيفية ظهور الحياة تقوم بإتباع العمليات التالية:

  1. تحضير بعض المواد الكيميائية بنقاوة عالية.
  2. خلط هذه المواد الكيميائية مع بعضها في وسط سائل بتراكيز معينة وبشروط مخبرية مُحددة.
  3. تكرارها إلى حين الحصول على مزيج من المواد التي تشبه إلى حد ما تلك المواد المُشكِلة للخلية الحية مثل الكربوهيدرات، والأحماض النووية والأمينية، والدهون.
  4. نشر ورقة علمية بعنوان جذاب وجريء عن أصل الحياة، بناء على تلك النتائج المصنوعة بدقة.
  5. التواصل مع الصحافة لنشر الخبر المخادع.
  6. مشاهدة العامة غير المختصين والذي يشجع جيل كامل من مؤلّفي الكتب المدرسية على وضع رسومات ملوّنة جميلة عن مركبات كيميائية تتجمع لتشكيل خلايا، ومن ثم لتشكيل مخلوق لزج يخرج من الحساء قبل ملايين السنين.

هذا الملخص من محاضرة حديثة لعالم الكيمياء الحيوية والنانوية جايمس تور، والذي يشكك في فرضيات أصل الحياة والتطور الدارويني، المحاضرة بالتعاون مع جامعة Andrews University [121]

رسم توضيحي 43 تبدو عملية البناء الضوئي من الخارج بسيطة ولطيفة، لكن حين التعمق في التفاصيل، نرى أنّ كل جزء منها عبارة عن عمليات كيميائية مُعقَّدة، لذلك يمكن أن تسمع أنّ النباتات قد امتصت الماء وفي ظل وجود الضوء أنتجت الكاربوهيدرات بالصدفة! في حين أنّ ما وراء هذا السطر أطنان من التفاعلات.

القرار

إنّ اختلاف الجينات بين الحيوانات كالخفاش والحيتان يجعل لكل من الخفاش والحيتان أدوار مُختلفة للجينات نفسها، وأحياناً تقوم الجينات نفسها بوظائف مُختلفة في كائنات مُختلفة، يقول التطور لقد حدث تغيير ما ليلائم الوظيفة دون أي تفسير، لو أخذنا موضوع مثل الجينات التي تتنبأ بالتغيير في الكائنات الحية، فإنّ العُلماء المُؤمِنون بالتطور يرونها دليلاً على التطور، والخلقيون يرونها دليل على التصميم، فمثلاً يرقة الفراشة الملكية caterpillar monarch butterfly تأكل نبات الصقلاب milkweed، وهو نبات سام كان يجب أن يقتلها، وما نراه عكس ذلك، فإن اليرقة تنمو على النبات وتأكل الأوراق وتخزن السم في أجسامها كنظام دفاعي ضد الطيور الجائعة.

يقول العُلماء المُؤمِنون بالتطور إنه تطور مذهل أدّى إلى تكيف اليرقة مع النبات والسم، بل وأدّى إلى تطوير آلية لحفظ السم كنمط دفاعي، ولكن الخلقيون يتساءلون كيف طورت الحشرة هذا الأمر، كيف عرفت السم، وكيف ميزته، وكيف عزلته عن الطعام، وكيف بنت مناطق لتخزينه وكيف وكيف وكيف، كل هذا يدلل على وجود تصميم ذكي وليس طفرات عشوائية، ومهما حاول التطور توضيح الفكرة ببساطة، مثل أنّ الحشرة طورت آلية لتمييز السم، فإنهم لا يبينون ذلك على المستوى الجزيئي، وجود مواد كيميائية سامة تقوم الحشرة بإنتاج مستشعرات مُعقَّدة لتمييز هذه المادة ونقل هذه الآلية المُعقَّدة إلى الجينات، كأننا أمام مهندس جينات ساحر يلعب بالجينات بخفة ونتكلم هنا عن مئات الجينات المتراكبة لإتمام هذه العملية … إلخ.

قام العُلماء أيضاً بتحديد ثلاث طفرات جينية على الأقل، تجعل اليرقة لا تموت من أكل السم، قام العُلماء بنقل هذه الجينات الثلاث إلى ذبابة الفاكهة، فأصبح لدى الذبابة مناعة ضد هذا السم، ورأى العُلماء أنّ وجود هذه الجينات بهذه الدقة لا يعدو كونه أمر خارج عن الصدفة، وهنا نتكلم عن ثلاث جينات كي لا تموت اليرقة، أما عزل السم وتخزينه فهذه آلية أخرى.

حدثت الفكرة نفسها في الجليكوسيد القلبي cardiac glycosides وهي مواد كيميائية تستخدم كدواء لمرضى القلب فهي تزيد من قوة عمل عضلة القلب، فهُنَاك مجموعة من الناس لا يستفيدون جيداً من هذه الأدوية مصنفين تحت عوامل مُختلفة 47 taxa، فقد وجد العُلماء أثناء الفحص أنّ هذا يرجع إلى إحلال أحماض أمينية في أربع مناطق وهي 111, 119, 120, وهُنَاك علاقة بين نوع عدم استجابة الدواء ومنطقة الإحلال في الكائنات، إذ يرى العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنها صدفة عجيبة، بينما الخلقيون فيرونها تصميماً مدهشاً، ومهما أثبتنا إحصائياً أنّ الصدفة صعبةٌ هنا، فلن يهتم أحد بالأرقام [122].

نرى في كل فترة من الفترات تغييرات جوهرية في النظريات والفرضيات وذلك نتيجةً للاكتشافات العلمية، ولا شك أنّ العُلماء المُؤمِنين بالتطور قد قدموا كثيراً للعلم أثناء بحثهم عن إثباتات لفرضياتهم، لكن اتجاه العالم المادي للنظرية كأيديولوجية أكثر منه للعلم أمرٌ مقلق، لأنها باعتقادهم هي البديل عن وجود شيء اسمه الله خلق الكون، وهي تكمل البناء المادي الذي أوجدوه، يجب أن نعرف أنّ داروين حينما آمن بالتطور غير الموجه وبعده العُلماء، كانت أفكارهم عبارة عن أحلام ونظرة فلسفية، فهم افترضوا مجموعة من النظريات الكبرى لبناء الكائنات بالاعتماد على ملاحظات بسيطة جداً وتمنوا مستقبلاً أن يتم تأكيدها من قبل الباحثين والعُلماء، ورأينا أنّ الاحتجاج في كثير من الأحوال كان فلسفياً أكثر منه علمياً.

والظاهر أنّ العُلماء كلما بحثوا أكثر، وجدوا أدلة واضحة على الخلق المباشر، فقاموا بتعديل المسار قليلاً ثم انطلقوا من جديد، وللآن لا توجد آلية تطورية واضحة تظهر كيف يمكن إنشاء أجزاء جديدة تطورية أو بنية خلوية أو عضوية جديدة، رغم محاولة العُلماء تلبيس فكرة التطور الإبداعي بواسطة الطفرة الموجهة، وما يفرضوه ما زال مُجرَّد أحلام ولا يرقى للنظريات العلمية التجريبية، مثلاً انتقلت الحياة من البحر إلى اليابسة، والحوت تحول إلى دب وهكذا، هذه الجملة البسيطة بحاجة إلى 2 مليون خط وتوضيح، مثلاً هل يتطور الكائن البحري بناءً على بيئته الحالية أم بناءً على بيئته المستقبلية؟ إذا كانت الأولى فكيف يعيش على اليابسة والماء أنسب له؟ وإن كانت الثانية فمن أين أتته مواصفات البيئة المستقبلية؟ أترون أبسط الأفكار تفشل حين نقاشها علمياً، وهذه بعض المشكلات الأساسية التي لم يقم العُلماء بحلها إلى الآن، وعلى هذا ستفشل كل فرضياتهم لاحقاً:

  1. لا توجد آلية تشرح كيف تكون الحساء البدائي Primordial Soup، وكيف تكونت الخلية الأولى، أو نواة الحياة الأولى.
  2. كافة العمليات الكيميائية غير الموجهة لا تشرح كيف تكونت الشيفرة الوراثية، بل على العكس، ما هو واضح أنها صممت بواسطة مصمم أبدع منا جميعاً.
  3. الطفرات العشوائية لا تشرح أبداً الزيادة في المعلومات، بل على العكس تنقصها وتتلف الدنا، ولا توضح كيف تكونت الأجهزة المُعقَّدة غير القابلة للاختزال، الدنا لا يبين الصفات الشخصية للإنسان ولا خطة مسيره.
  4. الانتخاب الطبيعي ما زال يحاول جاهداً إصلاح الصفات المُفيدة في التنوع السكاني.
  5. غياب كامل للمستحاثات في السجل الأحفوري التي تبين التطور، وهنا على الشقين، الشق الذي يبين وجود ملايين المراحل الانتقالية بين الكائنات، والشق الذي يبين وجود عدد قليل جداً من المستحاثات والتي أثبت الخلق وليس التطور.
  6. علم الأحياء الجزيئي فشل في رسم شجرة الحياة، والتعارض الواضح بين أجنة الفقريات، يدحض السلف المُشترك.
  7. الدنا الخردة والأعضاء الأثرية والتلخيص وغيرها من المواضيع تظهر الكذب الدائم في فرض التطور.
  8. توزيع التنوع الحيوي على المكان والزمان أفشل العُلماء الجدد المُؤمِنين بالتطور.
  9. التغيير المناخي والتغييرات الهائلة في البيئة تؤدي إلى الانقراض وليس التنوع، فمثلاً 40% من الحشرات معرضة للانقراض بسبب تغيير المناخ والتلوث وغيرها من العوامل، ففي آخر 30 عام كان عدد الحشرات في العالم ينقص بمقدار 2.5% سنوياً، وهو ما يجعل العُلماء يعتقدون أنّ الحشرات قد تنقرض في القرون القادمة القريبة وهذا كله لنقص التنوع الجيني وليس لزيادته.
  10. تنوع عمر الشيخوخة في شجرة الحياة يقودنا إلى أنّ التطور لم يحل المُشكِلة الأساسية الدائمة وهي مُشكِلة الموت، بل كرّسها وقد كانت قبله غير موجودة كما البكتيريا.

فإذا قمت بوضع كتاب هندسي عن طريقة بناء ناطحات السحاب لمليون سنة في المكتبة، فلا يمكن للكتاب أن يبني ناطحة سحاب واحدة، إلا إذا جاء مهندس بعقل واعٍ وهدف مُحدد وقام بقراءة الكتاب وطبّق ما فيه، هذا الأمر هو نفس فكرة أنّ الدنا لا يمكنه أن يبني خلية من تلقاء نفسه، يجب أن يكون هُنَاك مهندس ذكي ليقوم بذلك، فالمعلومات وحدها لا تكفي، نحن بحاجة إلى ذكاء لربط المعلومات،

ولو كان التطور حصل لكانت هُنَاك ملايين الأدلة عليه، ولكن ماذا يقول العلم حول الأبحاث العلمية بشكل عام؟ حتماً يقول العلم الكثير، ولكن دعنا نرَ الأبحاث العلمية كلها جديرة بالنظر والأخذ بعين الاعتبار؟

في مقال بعنوان Why we can’t trust academic journals to tell the scientific truth، (لماذا لا يمكننا الثقة فيما تنشره المجلات العلمية حول العلوم) [123]، يقول الأستاذ جوليان كيرتشير: “إننا نعتقد أنّ إعادة التجربة العلمية سيُفضى إلى النتيجة نفسها، لكن ما يحدث في أغلب التجارب أنّ النتيجة تختلف عن المذكور سابقاً” وعلماء كثر حاولوا وفشلوا في الحصول على نتائج حتى متقاربة ورأينا هذا في تجربة الشُذُوذ كمثال، هُنَاك مشكلات أخرى كثيرة، كالدراسات غير الموثقة، والأبحاث التي لم يتم التأكد منها ومراجعتها، مُجرَّد أوراق تنشر ويتم تقديسها والبناء عليها، بل كل عملية العلوم تتم غالباً بالصدفة وليس كما يريد الباحث، وكل ما سبق بين يديك، عليك اتخاذ القرار بنفسك، وهي المُشكِلة الأزلية.

ولكني سأقرأ وأتخذ القرار، لا أحد يملك قراري أو حق توجيهه، أنا أرى المشاهد والتجارب من العُلماء مشكورين، ولكن حقي أن أٌعمل عقلي وأقوم بما أراه منطقياً، فالقرار هو قرارنا.

البناء الدقيق

لا أعلم من أين أبدأ في هذه الورقات، فعجائب الكائنات الحية من حيث التركيب أو التنظيم أو التشغيل مُدهشةٌ وتأسر العقل والخيال، حاول أن تنظر إلى أي كتاب لفسيولوجيا جسم الإنسان أو للكيمياء الحيوية، ستدهشك التصاميم والتنظيم الفائقين في بناء الكائنات، أي كتاب في علم الخلية أو في علم الفيروسات أو علم البكتيريا أو علم النبات سيحول دماغك إلى خلايا غير متجانسة، إلى بروتينات وأحماض أمينية لا يمكن تجميعها مرة أخرى، فمن أبسط الظواهر في الخلية كما تطرقنا إلى جزء منها، إلى أبسط الظواهر في عالم النبات، إلى تعقيد عمليات البناء الداخلية والمستشعرات الخاصة، إلى عمليات جسم الإنسان من عمل القلب والرئة والدماغ والكبد والتنسيق بينهم، على سبيل المثال تبث خلايا النسيج الدهني رسائل للدماغ بأننا قد اكتفينا بحاجتنا، فتوقف عن الأكل وأوقف الشهية، فيقوم الدماغ بإرسال رد إلى كل الأعضاء المرتبطة، توقفوا عن الجوع، توقفي أيتها المعدة عن القرقرة، توقفي عن إحساسك بالتعب أيتها العضلات ها قد أتاكِ الحليب، والعجب من إصلاح التلف وبناء الجديد في الأنسجة والخلايا والتنسيق العالي في جهاز المناعة المُدهش إلى آليات حرق الدهون ومن ثم العضلات وغيرها من الآليات، كل خلية ترسل مجموعة من الرسائل حولها بتصميم ذكي، حتى الخلايا السرطانية هي من تصميم الجسم وتفرز رسائل معينة، وهذا ما أدى إلى وجود فحوصات سريعة لاكتشاف السرطان عبر الجزئيات المرسلة، والخلايا المناعية قد تستقبل رسائل بالخطأ فتسبب مرضاً مناعياً Autoimmune، مثل الروماتويد الذي يقلب حياة الإنسان بالكامل، وصور كثيرة لا نهائية عن دقة الكائنات الحية.

يمكننا النظر إلى عملية النوم الغريبة التي يقوم بها الكائن الحي عبر أخذ قسط من الراحة التي تساهم في عملية تجديد الخلايا والأنسجة والأعضاء، وتزويد الجسم بالطاقة وتسريع عمليات الاستشفاء العقلي والنفسي، وهي عملية متناغمة مع عمليات الكائن الأخرى كالإدراك والحركات الإرادية، فالنوم لساعات مُحددة تتعارف عليه كل الأعضاء في السياق الحيوي نفسه وكأن المصمم قد وضع البُنود كلها مرة واحدة في كتاب تعليمات، ثم طبقه على الكائن الحي بعد أن تأكد من فعاليته.

ثم هُنَاك التكامل الدقيق في كيمياء الجسم، فأي مادة كيميائية جديدة تدخل إلى الجسم تقوم بالتأثير على أجزاء واسعة منه، انظر إلى العُلماء حينما يقومون بتطوير دواء ما، إنهم يستغرقون وقتاً طويلاً في تعديله كيميائياً تحت إطار علم يسمىStructure Activity Relationship، وذلك لتقليل ضرر الدواء على الإنسان، ومع هذا نجد بعد التعديلات التي لا تحصى تأثيراتٍ جانبية سيئة للأدوية على جسم الإنسان لما تحدثه من تفاعلات مع المواد الأخرى فيه، وهذا ما تحاول كيمياء النانو حلّه وذلك عبر تصنيع دواء مخصص لنسيج مُحدد لا يؤثر على غيره.

وحينما يصِف لك الطبيب دواءً معيناً، تجده يحذرك أنّ هذه المادة لا يمكن أخذها مع مادة أخرى أو طعام آخر لأنها تتفاعل أو يتغير مفعولها أو ربما تتلف، فعلى سبيل المثال لا يمكنك تناول البنسلين مع مضاد حيوي آخر من عائلة الأمينوجليكوسيد في نفس التركيبة الصيدلانية (الحقنة نفسها على سبيل المثال)، لأن أحدهما حامضي والآخر قلوي، فسيتفاعلان وينتج ملح في النهاية، ولا يمكنك تناول مضاد الالتهابات الديكلوفين مع الأسبيرين وهو أيضاً للالتهابات من عائلة NSAID نفسها لأنهما يحفزان تأثير بعضهما ويسببان نزيفاً دموياً، وصور كثيرة لا نهائية من التفاعلات والتداخلات المسجلة التي تجعل كل مادة كيميائية مهما كانت بسيطة تشكل خطراً على باقي مواد الجسم.

انظر إلى جسم الطفل الرضيع، لا يمكننا أن نصف له بعض الأدوية التي نصفها للبالغين، فعلى سبيل المثال يُمنع إعطاء الطفل مضاد حيوي مثل السيفترياكزون Ceftriaxone لأنه يرتبط ببروتين الألبومين Albumin الذي يرتبط به مركب البيليروبين Bilirubin، فيصبح البيليروبين حراً في جسد الطفل ويسبب له الصفار أو اليرقان Jaundice [124]، ومئات أو آلاف الأمثلة في دقة التفاعلات الكيميائية داخل جسم الإنسان وأنّ أي تغيير بسيط أو دخول مادة جديدة ستدمر كل النظام.

حتى الحيوانات البسيطة مثل كينورهابدايتس إيليجانس، وهي دودة مستديرة في حجم الفاصلة وطولها أقل من مليمتر واحد من فصيلة الديدان الخيطية التي ربما تمثل 80% من الحيوانات في العالم، بالرغم من أنها لا تمتلك دماغاً، إلا أنها تمتلك نظاماً عصبياً وآلية اهتزاز وقناة هضمية وقدرة على وضع البيض، فتبدأ حياتها بخلايا يبلغ عددها ١٠٩٠ خلية، تموت ١٣١ خلية منها خلال عملية الاستماتة أثناء النمو، وهُنَاك ٣٠٢ خلية عصبية من الخلايا الإجمالية تعيش داخل التربة وتتغذى على البكتيريا وتتكاثر عادةً كخنثى، عبر الإنتاج المتعاقب للحيوانات المنوية ثم البويضات، هُنَاك دودة واحدة ذكر من كل ٢٠٠٠ دودة، وبالنظر لحجمها تحتوي دودة كينورهابدايتس إيليجانس بشكل مُثير للدهشة على عدد كبير من الجينات نحو ٢٠ ألفاً، ونحن نعلم أنّ الإنسان المغرور لديه نحو ٢٤ ألفاً، مليارات الخلايا الإضافية والأجهزة المُعقَّدة والعمليات المُعقَّدة والمحصلة أربعة آلاف جين زيادة على كائن مكون من 1090 خلية! وكثير من جينات هذه الدودة خاصة بعملية انقسام الخلايا ٪٥٠ منها تشترك فيه مع ثمرة الموز، كما أنّ ثلثها له مثيل مباشر في الإنسان، لا أريدك أن تذهب بعيداً وتقول أصل الإنسان دودة، إياك أن تكون طالباً غير نجيب [10].

نشاهد النحل يتواصل بالرقص، والنمل يتكلم بالكيمياء فيما بينه ويتفاهم، ويقوم بتربية المن في غرف مخصصة لحلبها لاحقاً وكأنه راعٍ مَن واعٍ، والنملة تهاجم مخلوقات أكبر منها وتغرس سماً عصبياً فيقتلها وفق آلية ذكية تشير إلى معرفة النملة بأعصاب المخلوقات الأخرى وكأنها درست كيمياء حيوية، غرائب النمل وعجائبه كثيرة لن تنتهي، كل ما يسعني قوله هو أنً كل كائن حي عبارة عن نظام مُعقَّد متكامل مُختلف له من العجائب ما يأسر العقول.

نظام الدفاع

ومن صور تعقيد جسم الإنسان هو آلية تعامله مع الضغوط الحياتية stress، فمُشكِلة عصيبة تواجهه تؤثر عليه جسدياً ونفسياً، بل ويعد الاستيقاظ باكراً من النوم والقفز من السرير الدافئ إلى العمل البارد وسيلة تنبيه (ضغط stress)، فتبدأ عشرات العمليات في الجلد على الأقل لموازنة اختلاف الحرارة، ثم تنطلق مئات العمليات المتعاقبة من الإشارات والهرمونات والإنزيمات للتغيير الطفيف هذا.

لتتم هذه العملية -البسيطة في نظرنا- يقوم الجسم بإفراز هرمون الكورتيزون الشهير من خلال منطقة مخصصة له هي قشرة الغدة الكظرية، فضلاً عن أنّ الكورتيزون محكوم بالهرمون ACTH الموجه من الغدة النخامية أم الغدد والمايسترو الذي يضبط إيقاع جميع الهرمونات في عملية مُعقَّدة جداً جداً، إلا أنها أيضاً عملية متراكبة، فهذا الهرمون من الغدة النخامية يتحكم به هرمون آخر من Hypothalamus اسمه CRH والذي يرتبط بجهازنا المناعي، ويرتبط أيضاً بالبكتيريا المُفيدة في الأمعاء، نعم يا عزيزي هرمون CRH مرتبط ببكتيريا الأمعاء، هذا يعني أنّ النظام قد وضع مرة واحدة هكذا، لا يجوز أن تخبرني أنّ السيارة قد صممت على حدة، والطريق وإشارات المرور قد صمموا على حدة، ومصادفةً وُجد شرطي مرور يربط العمليات، والبكتيريا حسب التطور هي دخيلة وليست من بناء جسم الإنسان.

إنّ إنتاج الكورتيزون البسيط هذا يجب أن يتم بدقة بالغة، لأنه هُنَاك على الأقل 140 عملية مرتبطة بتأثير الكورتيزون، فبمُجرَّد إنتاج الغدة الكظرية لهذا الهرمون البسيط من المئات في الجسم، تنشط عملية الارتجاع السلبي negative feedback في الجسم، وهي عملية مفصلة طويلة في جسم الإنسان، خلاصتها أنّ جسم الإنسان يسير وفق نظام مترابط محكم لو فلت شيء منه لمات الإنسان.

يوضح (شكل 41 تجاوب جسم الإنسان مع الضغط). أنّ جهاز المناعة لديه تصميم مُعقَّد غير قابل للاختزال، فلا يمكن لعملية أن تسقط سهواً في النظام، وإن فشلت عملية فقد فشل النظام ككل.


شكل 41 تجاوب جسم الإنسان مع الضغط.

أما جهاز المناعة، فهو يُشكّل منظومة متكاملة تسير وفق آلية شديدة التعقيد، إذ يحتوي على خلايا متخصصة في الكشف والفحص والتبليغ والهجوم وتسجيل الأجسام المضادة وآليات قتل وتحشيد مُختلفة، وآليات أخرى لحفظ وتسجيل آلاف إن لم يكن ملايين المستقبلات للأجسام الغريبة لفحصها والهجوم عليها، وتتكامل هذه الخلايا والآليات المتنوعة في عملها مع أعضاء أخرى كالغدة الدرقية، والأوعية الدموية، والـHypothalamus ومع هرمون الكورتيزون ومع كل أجزاء الجسم الأخرى، بل حتى مع نظام الحياة مثل الصيام الذي يبدو كأنه مُصمّم لتحسين جهاز المناعة وتحسين إصلاح الخلايا،

القلب والأوعية

يتكون الجهاز الوعائي Vascular system من شبكة متنوعة من الأوعية التي تنقل الدم من وإلى القلب عبر دورتين، الدورة الدموية الصغرى (1) وتسمى الدورة الرئوية Pulmonary circulation، إذ يتم نقل الدم من القلب الأيمن إلى الرئتين لتبادلِ الغازات، ويتم طرد ثاني أكسيد الكربون وامتصاص الأكسجين ثم يُعاد إلى القلب الأيسر ليتم نقله في الدورة الدموية الكبرى Systemic circulation (2) من القلب الأيسر إلى الأنسجة المُختلفة ليقوم بوظائفه العديدة، ثم يعود مرة أخرى إلى القلبِ الأيمن لتتكرر هذه الدورة إلى أن يتوقف القلب.



والقلب مخصص ومبني لهذا السيناريو المُعقَّد فهُنَاك حجرات مخصصة لاستلام الدم وحجرات أخرى لضخه، وهُنَاك الصمامات والإشارات الكهربائية المتتابعة، وكما نلاحظ في صورة القلب أنّ جدار الغرفة السفلى على اليمين يبدو سميكاً، وهذا لأنه يقوم بضخ الدم إلى جميع أعضاء الجسم لذا يجب أن تكون هذه العضلة أقوى أجزائه، وكذلك الشريان الذي يستقبل هذا الضخ الشديد يجب أن يتحمل، وأي خلل في قوة العضلة يصيب الإنسان بأمراض كثيرة، يحاول الجسم التدخل لإصلاحه لكن يبقى التدهور سيد الموقف وندخل في ضعف العضلة حتى الموت.

رسم توضيحي 44 مسار الدورة الدموية

يحتوي القلب على صمامات ذكية تقوم بإدخال الدم في حجرة ومن ثم إكمال إرساله لحجرة أخرى مع عدم السماح بإرجاع جزء منه للخلف، وإذا حدث الإرجاع تفسد كل الدورة وتسبب أمراض تؤدي إلى الوفاة، كذلك القلب به آلية للتغذية ولو حدث انسداد في أي من الشرايين المغذية له نجد أن هُنَاك آليات لسد الفجوة، والأمر نفسه لو حدث مُشكِلة في كهربائية القلب يحاول القلب استمرار عملية النبض عبر 3 مواضع كهربائية تطرقنا لها سابقاً.

رسم توضيحي 45 الدورة الدموية الكبرى.

يعتمد القلب في عمله على الكهرباء والأملاح، وأي خلل يصيب سوائل وأملاح الجسم يحاول القلب أن يتجاوزها عبر عدة طرق وآليات معروف بعضها، وهذه الطرق والآليات هي ما أدت إلى اختراع أدوية تساعد في أمراض القلب مثل أدوية ACE Inhibitors أو ARBs أو Ca+ Channel Blockers وغيرها، والقلب متصل بالكلى لتنقية الدم من المخرجات، وأي خلل في الكلى يعني وداعاً أيها القلب الحبيب.

لو قمنا بوصل جميع الأوعية الدموية واللمفاوية في جسم الإنسان البالغ لوصلت إلى 150,000 كيلومتر، لاحظ كيلومتر، تشكل الشعيرات الدموية نحو 90% من الطول الإجمالي للأوعية، ولهذه الأوعية أنواع متنوعة ومُختلفة لتناسب عملها، وقياسات متعددة مناسبة لكل دور وظيفي، وتنقسم الأوعية الدموية إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي:

  1. الشرايين Arteries: وهي الأوعية التي تُصدّر الدم من القلب حاملة الدم المؤكسد إلى الأنسجة.
  2. الأوردة Veins: وهي الأوعية التي تعود إلى القلب محملة بالدم غير المؤكسد.
  3. الشعيرات الدموية Capillaries: أصغر الأوعية في الجسم ويحدث فيها تبادل المواد المُختلفة والغازاتِ بين الخلايا والدم.

ولعلك تعتقد عزيزي أنّ هذه الأوعية مُجرَّد أنابيب مصمتة! دعني أخبرك أنّ جميع الأوعية الدموية عدا الشعريات تحتوي على عضلات ملساء ونسيج ضام بالإضافة إلى الطبقة المبطنة، ويتكون كل وعاء دموي من طبقات تختلف في تركيبها وعددها، بحسب نوع الوعاء الدموي ووظيفته، وتفرز هرمونات عديدة منها ما يعمل كموسعات للأوعية وتسمى بموسعات الأوعية Vasodilators وهي أساس عمل مجموعة من أدوية القلب تحت بند موسعات الشرايين، كما سبق وذكرنا أنّ الأدوية كلها مواد موجودة في جسم الإنسان ولكنها معدلة قليلاً أو زائدة أكثر، فمثلاً لو أراد الجسم أن يضخ دماً لعضو لسبب ما كما في حالات التوتر أو القتال أو للهروب، فإنه في لحظات سيبدأ الجسم بإفراز هرمونات تجعل الأوعية تتسع لتستقبل المزيد من الدم، والمزيد من الأكسجين والتغذية والقدرة على العمل، والعكس صحيح، لو أراد الجسم تضييق شريان لسبب ما، مثلاً نزلة برد أو نزيف بسبب جرح ما فإنه يفرز مواداً معينة، وهُنَاك أدوية تساعد القلب في توسيع الشرايين فيقل ضغط الدم ويقل الضغط على القلب.

تختلف الشعيرات الدموية في طبقتها الداخلية في شكلها ووظيفتها حسب المكان الذي تُوجد فيه، ولكل نوع منها نفاذيته الخاصة بحسب وظيفته ومكانه، فالشعيرات الدموية في الكليتين تختلف عن الشعيرات الدموية في الدماغ، وتختلف عن الشعيرات الدموية في نخاع العظام مثلاً، ولعلك تعلم أنّ الشرايين مدفونة في الطبقات السفلى بالجسم أما الأوعية فهي أقرب إلى السطح، والسبب واضح لأن المصمم ذكي ويريد إخفاء الأوعية التي تحتوي على الأكسجين عن أي جرح، فالشرايين تحمل الأكسجين وضغط الدم فيها عالٍ، ولو أصابها جرح فسترى الدم يتدفق بسرعة وقوة وحينها سنخسر الأكسجين، إذن دعونا نضعها مخفية ونبقي على الأوردة ذات الضغط الخفيف والأكسجين الخفيف فوق.

يحتوي الشريان الأبهر (الأورطي) والشريان الرئوي وفروعهما على ألياف مرنة تمنحهما القدرة على التمدد ومقاومة ضغط الدم المرتفع، وأهم ميزة لهذه الأوعية هي سمك الطبقة الوسطى، أما الأوردة الكبيرة فتتميز بأنّ طبقتها الثالثة التي تسمى بالطبقة الخارجية وهي أكثر سمكاً من الطبقة الخارجية للشرايين؛ إذ تحتوي على ألياف شبكية وألياف مرنة تمنحها القدرة على استيعاب كمية كبيرة من الدم دون أن تتمزق وتعود إلى مرونتها بعد أن تتمدد.

رسم توضيحي 46 الدورة داخل القلب.

كما وتحتوي الأوعية الكبيرة على أوعية دموية تُسمى بأوعية الأوعية Vasovasorum في الطبقة الخارجية وفي الجزء الخارجي من الداخلية، تعمل على تغذية خلايا الوعاء الدموي لأن الجدار سميك فلا يستطيع التغذي من خلال انتشار الدم، وتضم الأوردة الكبيرة أوعية بنسبة أكبر لأنها تقوم بنقل الدم غير المؤكسد، وفي بعض المناطق تمتلك فيها الشعيرات خصائص فريدة لإدخال المواد، بل ومنع أخرى من دخول الأنسجة وتُوجد في مناطق حساسة في الجسم تتحسس لأي مادة كيمائية كالدماغ الذي يحتوي على الحاجز الدموي الدماغي Blood Brain Barrier [125] الذي يسمح بدخول مواد معينة للدماغ وفق آلية ذكية جداً.

تحتوي بعض الأوعية على أقفال لا تفتح إلا بمفاتيح خاصة، وبعد أن يدخل المفتاح القفل يقوم بتحريك آليات معينة داخل الوعاء متجاوبة مع حركة الجهاز الدموي ككل، كما وتحتوي بعض الشرايين على مُستقبلات خاصة فالشريان السباتي الموجود في الرقبة يحتوي على مستقبلات تعمل كحساسات للضغط والمواد الكيميائية في الدم وهي مستقبلات الضغط Baroreceptors وأيضاً يحتوي على المستقبلات الكيميائية Chemoreceptor، والتي تحظى بدورٍ مهمٍ في تنظيم الضغط وكمية الأكسجين في الدم خصوصاً الدم الصاعد إلى الدماغ.

وفي حال وجود خلل عضوي لدى الإنسان يُؤَدِي إلى فشل عمل القلب، فإنّ جسم الإنسان سيعمل على خطط بديلة لتعويض التلف الناتج عن هذه المشكلات في نظام مخصص مسبقاً، فيحاول القلب ذلك عبر 3 آليات مكملة هي:

  1. تفعيل تأثيرات الجهاز الودي Chronic Sympathetic Activation.
  2. تفعيل نظام الرينين-أنجيوتنسين Chronic Activation of RAAs.
  3. تعديل عمل عضلة القلب، إذ يتم تضخيمها وتغيير هيكليتها ووظيفتها وهذا ما يُؤَدِي بعد فترة من ترك المُشكِلة إلى حدوث التليف.

والجدير بالذكر أنّ آلية إعادة هيكلة أنسجة عضلة القلب Remodeling of cardiac tissue هي عملية منظمة وهندسية مصممة ومعدة بالتنسيق مع كل أجزاء الجسم وآلياته، ولا مجال لأن تكون قد تشكلت بواسطة علماء طب، ولذلك عملية علاج المرض تتطلب غالباً خليطاً من الأدوية الطبية حتى يساعد كل دواء آلية ما في هذه الهيكلية المتراكبة.

هل نتكلم عن الطحال؟ أم الكبد؟ أم نتكلم عن خلايا الدم نفسها وأنواعها وأدوار كريات الدم البيضاء المُختلفة وآلية عملها، أم آليات انخفاض وارتفاع الضغط وربطها في كل أعضاء الجسم، أم نتكلم عن آلية زيادة السوائل أم نقصها في الجسم، أم تأثير الغدة النخامية على عمليات القلب والجهاز الدوري، لا أعلم عما أتكلم لكني أعلم أنّ القلب والشرايين والشعيرات والطحال والكبد والكلى وأوردة الأوردة والكهرباء والأملاح ظهروا مرة واحدة، فلا يعقل أن يظهر القلب دون الأوعية، أو الأوعية دون القلب، أو أن نقول نشأت بالتدريج، كان للقلب ثلاث حجرات فصاروا أربع، وأنه كان هُنَاك أوعية فنشأت أوعية الأوعية.

إنّ وجود عضو بفعالية تقدر ب 5% لا تجعله عضواً وظيفياً، وبذلك فإن الأنموذج البدائي غير مكتمل الصفات لن يستمر طويلاً ليتطور إلى شكل مُفيد عبر الأجيال، ومن ثم فإما على جهاز الدورة الدموية أن يأتي كاملاً أو لن يأتي.

الكلى

إنّ لكل جزءٍ في الجسم مجموعة من المهام المُعقَّدة التي لا يمكن وصفها، كل جزء عبارة عن مئات بل آلاف أجهزة الإرسال WIFI التي ترسل إشارات مُختلفة من خلاياها إلى الخلايا الأخرى لتنسيق عمل الجسم بالكامل، وتستقبل كذلك آلاف الرسائل، على سبيل المثال نحن نعتقد من دراستنا في المدرسة أنّ الكلية وظيفتها تنقية الدم وإخراج البول، لكن الكلى لديها مئات العمليات الأخرى ولديها عمليات كبرى أساسية للجسم، مثلاً المسؤول عن مستويات إنتاج الدم هي الكلى! فهي تفرز هرمون الـErythropoietin المسؤول عن إرسال الأمر إلى نخاع العظام لتنشيط عملية صنع الخلايا الجديدة، والمحافظة على المستوى اللازم من كريات الدم الحمراء، والمسؤولة أيضاً عن الأكسجين في الجسم.

ماذا عن ضبط مستوى الأملاح، ومستوى ضغط الدم؟ فالكلى مثلاً تفرز إنزيم وبروتين الرينين المسؤول عن ضبط الأوعية في الجسم ومن ثم ضبط ضغط الدم، في عملية مُعقَّدة تحت مسمى Renin–angiotensin system، انظر إلى عملية تنقية الدم من الفضلات والمواد الكيميائية الضارة، وانتقائية خلايا الكلى في التنقية، إذ تُخرِج مواداً سامة معينة، ولا تخرج المواد المُفيدة، بل وتخرج المواد الضارة الجديدة التي لا يعرفها الجسم مثل الأدوية، عملية مُعقَّدة بشكل لا تكفي صفحات لشرحها، لقد صُممت من قِبَل مهندس ذكاؤه يفوق ذكاء العقول البشرية مجتمعة، ففي كل جزئية منها هُنَاك مظهر للتصميم الذكي، كمية تدفق الدم، وكمية خروجه، وآليات مُختلفة للتنقية، وآليات مُعقَّدة عبر خوارزميات مصممة للعمل المتناغم، لو فشل فقط 1 من 1000 منها لما نجحت الكلى في عملها ولما رأينا البشر، 180 لتر يتم تنقيته، لإنتاج 2 لتر من البول، والـ178 لتر يتم إعادتها للجسم من جديد صافية وجاهزة للاستخدام! ولنا أن نتخيل فقط فلتر الماء المنزلي الذي ينقي من 3 أو 4 مواد كم هو مُعقَّد، ولنا أن نتخيل الكلية الصناعية التي صنعها الإنسان كم هي ضخمة ومُعقَّدة لتتم بها عملية بديلة عبر الديلزة Dialysis، في الكلى هُنَاك حجرات مخصصة لتنقية الأملاح المُختلفة، كل جزء مخصص

بعناية لغرض مُحدد.

رسم توضيحي 47 مخطط نظام الرينين أنجيوتنسين، هذا النظام الفرعي والجانبي في عمليات الكلى مرتبط بدقة في كل عمليات الجسم، بدءاً بالدماغ مروراً بالقلب والأوعية ومتداخلاً مع الهرمونات والغدد وكل أعضاء الجسم، هذا النظام المُعقَّد الذي أتعب العُلماء في سبيل محاولة فهمه وصُمم من أجله تطبيقات طبية عديدة في حياة مرضى القلب والأوعية والكلى لا ينم عن تصميم عادي، بل ينم عن عبقرية في التصميم.

بل حتى الكلى قد تكون مسؤولة عن متوسط أعمار الكائنات، فدراسة حديثة تبين أنّ متوسط عمر الكائنات يعتمد على معدل الفسفور في الجسم، فالإنسان متوسط عمره 75 عاماً لأن الكلى تحافظ على معدل معين من الفسفور في الدم، وكلما زادت الكمية قل عمر الكائن وهرول إلى الشيخوخة، ولكن الجسم يحتاج إلى الفسفور، إذ تحتاج العظام إلى فوسفات الكالسيوم في وظائفها، ويتم التنسيق بين الكلى والعظام والغدد بآلية مصممة متبادلة على المحافظة على المعدل اللازم لجسم الإنسان.

التعقيد غير القابل للاختزال

صورة 11 تعقيد ينم عن تصميم

تفترض نظرية التطور أنّ الأعضاء والأنسجة في رحلة تطورها تمر في سلسلة من المراحل الانتقالية، ويقوم الانتخاب الطبيعي بتعديلها ببطءٍ شديد، ثم تُحافظ الأعضاء والأنسجة بذكائها على التغيرات المُفيدة ذات الوظيفة وتُزيل كل ما هو غير صالح أو أقل تكيّفاً، وقد أدرك داروين العقبات التي تواجه فرضيته وذلك في إنشاء التراكيب المُعقَّدة داخل الكائنات، وقد أطلق عليها تسمية: أجهزة مفرطة الإتقان والتعقيد.

الأعضاء المُعقَّدة لا تستطيع القيام بوظائفها إلا إذا وُجدت كاملة، والمراحل الانتقالية المتتالية التي يتوجب أن يسير بها العضو في طريق تطوره الطويل ليس لها أي دور وظيفي إلا إذا كانت موصوفة بدقة كمراحل من المنتج النهائي، ولا تقدم أي ميزة انتقائية، وبذلك يستحيل الدور المفترض للانتخاب الطبيعي في الحفاظ عليها وتثبيتها لأنها مُجرَّد أجزاء حيوية مشوهة ناقصة تُمثل عبئاً على حاملها يجب التخلص منه، فلا فائدة من نتوء في وجه يحتوي على 10 خلايا، سيعرف الجسم بعد مليون سنة أنها ركيزة لعامود من الخرسانة العصبية المسلحة سيرتبط بأنسجة معينة وتراكيب أخرى سيكون اسمها العين، الجسم لا يملك خريطة بنائية حتى يقول: أبقوا هذا النتوء فهو حجر في الموضع 384 حسب الخريطة سيتصل به الموضع 925 ليمر به عصب اسمه ج1426 فيكمل الدائرة.

الانتخاب الطبيعي كما بتنا نعرف عملية لا هدف لها، عمياء عن رؤية المستقبل، لا تمتلك أهدافاً أو غايات، لا يعلم الانتخاب فائدة تلك الخطوات الأولية لأنه يتعامل مع كل تقدم بشكل مستقل، ومعيارا التقييم في الانتخاب هما: النجاح في البقاء، والنجاح في التكاثر، وهو ما يجب أن يتوفر في كل خطوة من خطوات التغيير في نشوء العضو الحيوي، لكن الطبيعة غير الاختزالية للأجزاء الحيوية التي لا تقبل التدرج الوظيفي أو الإنقاص تفشل في هذه العملية تماماً، كذلك إذا كان هذا التغيير تم دون غاية مخططة مسبقة، فما الهدف أو الحكمة من البحث عن تفسيرٍ لشيءٍ نتج جراء الصدفة!

ولتبسيط الفكرة، لنطبق الفكرة نفسها على خطوات رسم شكل مُعقَّد على الورق، ليكن وجه إنسان، ولتكن الخطوط التي نخُطُّها على الورق هي الطفرات، وليكن الانتخاب الطبيعي هو الممحاة التي تُزيل أي خط رُسم عن طريق الخطأ في وجه الإنسان، أول مُشكِلة ستواجهنا في عملية رسم الوجه هي أنّ الخطوط المرسومة (الطفرات) تتم بشكل عشوائي، ونعي جيداً أنه لا يمكن لعدة طفرات أن تحدد بُنية الوجه المُعقَّدة، الأمر يتطلب تقدماً تدريجياً بطيئاً مُتمثلِاً في آلاف الطفرات المُتراكبة، ثم سنرى أنّ أي تقدم بطيء تُقدمه الطفرات أثناء مرورها في المراحل الانتقالية لا يحمل أي دور وظيفي للبنية النهائية لأنّ المخرج النهائي لا يمكن اختزاله وظيفياً، أي أنه لا يمكن لهذه الأجزاء غير الناضجة أن تمارس دوراً مُحدداً إلا إذا وُجدت مكتملة.

هنا يمكننا أن نستنتج أن الانتخاب الطبيعي (الممحاة) لا يستطيع تحديد الخطوط الصحيحة من الخطوط الخطأ التي رسمتها الطفرات المُتعاقبة لتقوم بإبقائها أو إزالتها، وبهذا سيبدو منطقياً أنّ فكرة نظرية التطور مُستحيلة التحقق، ونرى هنا أنّ آلية تطور البُنى المركبة لن تحرز أي تقدم، فهي مجرد مجموعة من الطفرات (خطوط عشوائية) التي سيقوم الانتخاب الطبيعي بمحوها أولاً بأول، لأنها ليست ذات فائدة، وهذا المثال البسيط لا يُساوي نقطة في بحر بناء عضو مُعقَّد كالعين، فالخطوط فيه ستكون بعيدة وفوضوية ومُختلفة الشكل والحجم واللون، أي أنّ التعقيد سيكون بمستويات متعددة.

يستعرض البروفيسور مايكل بيهي أحد منظري التصميم الذكي في كتابه صندوق داروين الأسود أمثلةً متعددةً من النظم غير القابلة للاختزال Irreducible complexity في الكائنات الحية على المستوى المجهري والآلات الجزيئية داخل الخلايا، ويُعرّف البروفيسور النظام غير القابل للاختزال بأنه نظام مركب من العديد من الأجزاء التي تتفاعل بتناسق شديد لإنتاج الوظيفة المسندة بالنظام، ويُتبع ذلك بأن إزالة جزء واحد من أجزائه يُعطل هذا النظام ويُوقفه عن العمل، وهذا يعني أنه قد تم تصميمه من البداية مع جميع أجزائه، وبذلك لا يمكن أن يتكون بعد سلسلة طفرات طفيفة يتم انتخابها، فالتطور لا يمكنه بناء وظائف مُعقَّدة خطوة بخطوة؛ لأن تلك الخطوات لا يمكنها توفير أي ميزة لحاملها، وهذا يعني أنّ الانتقاء الطبيعي لن ينتقي هذا النمو التطوري ويثبته، ولن يسمح لنظام غير كامل وغير فعال بالانتشار من جيل لآخر، فهو لا يُثبت سوى التغيرات الوظيفية وهذا ما تفتقده تلك النُظُم التي لا تعرف وظيفتها إلا بوجودها مكتملة.

لن يُحرز التطور أي خطوة دون وجود مَهمة وظيفية للمراحل الوسيطة؛ لأنه سيفقد معناه الحقيقي المتمثل في قدرة الانتخاب الطبيعي في تثبيت الميزات الوظيفية، وكان الحل الوحيد المتاح أمام التطور هو إيجاد وظائف لكل خطوة انتقالية في سبيل تطور التراكيب المُعقَّدة، وهنا تم استدعاء فرضية إضافية سُميت بفرضية التكيف المسبق Co-option أو exaptation، إذ تقترح فرضية التكيف المُسبق أو الخيار المُشترك آلية غير مباشرة لتطوير البنى الجسدية المُعقَّدة غير القابلة للاختزال الوظيفي، وذلك بافتراض وجود وظيفة ثانوية لأجزاء النظام في تراكيب أخرى والتي يمكنها أن تتكيف فيما بعد لإنتاج النظام الجديد، هذه الفرضية تفشل حين الحديث على المستوى الكيميائي أو حتى على مستوى ترابط الأجزاء المعقدة، كذلك لا تفسر من أين أتت معلومات الأجزاء الثانوية، إذ تفترض وجودها مسبقاً والمزيد من العقبات كما سيتم توضيحه.

يُعد ريش الطيور من الأمثلة الشهيرة على التكيف المُسبق، الذي يفترض التطور وجوده لتدفئة الحيوانات قبل أن يتكيف ويُصبح عاملاً رئيسياً للطيران، ويلجأ التطور في معظم القضايا المشابهة إلى مثل هذه الأفكار دون الخوض في تفاصيل علمية لتجنب الحرج، فنقاش الإشكالية على المستوى المجهري في تراكيب الآلات الجزيئية مثل السوط البكتيري، وآلية استشعار الضوء في نظام الرؤية، ونظام تخثر الدم البشري كمثال شهير استخدمه مايكل بيهي للاستدلال على حجته يظل عَصِيّاً على الحل، فدقة هذا التركيب تجعله يشبه الآلة الميكانيكية، فمثلاً الريش مصمم بآلية واضحة ودقيقة لكي يساهم في الطيران وليس مُجرَّد مادة للتدفئة، وكونه يحمل وظيفة أخرى تفيد في العزل والتدفئة لا يعني أنه تكيف من هذه الوظيفة تماماً بالضبط كأن نقول أنّ وجود جيوب بمعطف التدفئة لكي نضع بها متعلقاتنا يعني بأن المعطف الشتوي قد صُنع في البداية للاحتفاظ بالمتعلقات، هُنَاك نقطة أخرى إضافية فربط تطور الطيران بوجود الريش ليس صحيحاً، لأن الخفاش يُمكنه الطيران دون ريش كما تفعل الفراشة واليعسوب، وإذا احتاج الحيوان أن يُمسي طائراً فلن ينفعه زغب التدفئة في تطوير تلك الخاصية، وتقع تلك الطرق الاستدلالية تحت إطار مُغالَطة رجل القش، كما أنّ عضلات الجناحين وعظمة القص وباقي عظام الطيور بل وحتى رئتيها مصممة بطريقة معينة لأخذ الهواء وحفظه وإطلاقه بطريقة فيزيائية تساعد على الطيران، والعظام خفيفة والعضلات قوية، كله في نظام متكامل وليس كما يقول التطور.


شكل 42 قطع السيارة المختلفة.

تظهر في الصورة مكونات سيارة من نوع سكودا، هذه الأجزاء مجتمعة تكون السيارة العاملة، وهي بلا معنى إن لم يكن هُنَاك مصمم ذكي قد صنعها لمهمة ذات قيمة أسمى من هذه الأجزاء، فالأجزاء مجتمعة لا تؤدي غرضها دون وجود نظام أو سائق يقود السيارة، ودون برنامج تشغيلي داخل أجزائها منفردة أو مجتمعة، ولو قمنا بوضع هذه الأجزاء كما تظهر في الصورة لمدة ألف عام أو أكثر، لن تتكون السيارة، بل سنلاحظ أنها تآكلت بفعل الصدأ واهترأت، ولو تلف أحد هذه الأجزاء فلن نتمكن من شرائه من الطبيعة، بل علينا انتظار الصدفة وعوامل الزمن عبر ملايين السنين أن تصنع غيرها.

كما ونلاحظ أنّ الأجزاء في (شكل 42 قطع السيارة) كلها عبارة عن أجزاء كاملة منفصلة، خذ مثال البطارية أو الشكمان، هي ليست بالمستوى الكيميائي أي ليست في صورة زنك وهيدروجين وكربون، بل هي وحدات كاملة مستقلة تم تصميمها بمهارة وحرفية عالية لتتوافق مع الهدف الذي أُعدت له من قبل المهندس الأعلى، وعلى الرغم من وجودها في حالة وظيفية عليا وليست في صورتها الكيميائية البسيطة، إلا أنّ السيارة لن تتشكل بوجود الأجزاء الكاملة هذه قرب بعضها أو حتى فوق بعضها، فهذه الأجزاء مُصممة بطريقة تكاملية مع كل الأجزاء الأخرى، فالبطارية مُهيأة بقطبين وبقدرة كهربائية معينة ومهندسة صناعياً ليسهل تغييرها وصيانتها … إلخ، ومن المفترض أنه لا هدف نهائي من هذه الأجزاء إلا إذا تكاملت سوياً، فالنابض أو المقبض أو الترس لا قيمة له دون الأجزاء الأخرى، ولهذا تُصدم حينما تسمع أحد العُلماء أو ترى إحدى كتب الكيمياء الحيوية تقول أنه وفي لحظة ما تجمعت كل الأجزاء الحيوية الصغيرة للخلية وكونت الخلية الأولى، وكأن الميتوكوندريا وجهاز جولجي كانا مستقلين في حساء الحياة، وحينما تجمعا، يا للصدفة، كانت عمليات الإدخال والإخراج متطابقتين وكأن الصدفة جمعتهما عن حب!

والعين حينما يضرب الضوء خلاياها الحساسة، تحدث سلسلة من التفاعلات الجزيئية المُتعاقبة والتي يمكن تشبيهها بانهيار قطع الدومينو المُتراصَّة حين نسقط أول قطعة لتؤدي في النهاية إلى نقل النبض العصبي إلى الدماغ، وإذا ما فُقِد جزء في سلسلة قطع الدومينو أو كان معيباً لن يحدث بث للنبض العصبي مما يعنى ببساطة انعدام الرؤية، ويبين هذا أنّ العين أتت بضربة واحدة كما هي الآن، وسنذكر أيضاً عملية تَخثُر الدم، وذكرنا سابقاً سوط البكتيريا، وغيرها من العمليات في الكائنات الحية، فكل عملية هي نتاج التخطيط غير القابل للاختزال.

تفترض نظرية التكيف المُسبق وجود الأجزاء المُختلفة للنظام الحيوي المُعقَّد في سياقات وظيفية مُختلفة في وقت سابق خلال عملية التطور، وهذا الزعم لا يحل الإشكالية بقدر ما يزيدها تعقيداَ، فالأجزاء والبروتينات كانت موجودة في نظام مُعقَّد سابق آخر، وبذلك تم نقل المُشكِلة فقط من النظام الحالي إلى النظام السابق الذي لا يزال يواجه المعضلة نفسها، وسنتحول إلى سلسلة لا متناهية من الانتقالات دون الوصول إلى حل لأصل الإشكال القائم، علاوة على ذلك نوجه تساؤل حول السيناريو غير المعقول الذي سيجبر قطعة من نظام وظيفي قائم لتتخلى عن النظام الذي كانت تُشغله لتُدمره وظيفياً وتُهاجر بطريقة غير معقولة الكيفية، لتجد نفسها متوافقة تماماً مع أجزاء أخرى في نظام أخر قائم بوظيفة مُحددة، فتتداخل في النظام بدقة لتحول الوظيفة إلى وظيفة أخرى.

ليتمكن التطور من وضع اختبار حقيقي حول تفسير أصل آلة جزيئية متكاملة غير قابلة للاختزال وظيفياً يتوجب عليه تتبع الخطوات والشروط التالية وفقاً للبروفيسور أنغس مينوج:

  1. توافر وإتاحة كل الأجزاء اللازمة لتشكيل النظام المطلوب.
  2. تموضع الأجزاء في موقع البناء في الوقت الذي يتطلب وجودها فيه.
  3. التنسيق والتوافق لتلك الأجزاء في الوضع الصحيح لملائمة التركيب في النظام وفقاً للتوقيت والمكان المناسبين لتتفاعل بشكل صحيح داخل النظام.

ويسبق ذلك كله توفر تعليمات التجميع الخاصة لتلك الوظيفة على شريط الحمض النووي وإلا لن يتمكن من الاستمرار عبر الأجيال التالية، وهذه العملية يستحيل إرجائها إلى عمليات عشوائية فمصدر المعلومات الوحيد المعروف عبر التجارب البشرية هو التصميم الواعي، وهذا ما لم يتطرق إليه أنصار رواية التكيف المسبق.

يقول أحد العُلماء المُؤمِنون بالتطور سرعان ما سيتضح فيما بعد أنّ بيهي مخطئ، وأن التعقيد غير القابل للاختزال فتح باباً كبيراً لدعم نظرية التطور نفسها، وحديث هذا العالم هو ما يحيلنا إلى فكرة أيديولوجية التطور وليس إلى نقائه العلمي، يمكن مُراجعة تفكيك عالم البيولوجيا كينيث ميلر لمفهوم مصيدة الفئران، وكيف يمكن أن يتم اختزالها للاستزادة؛ فالعين التي ادّعى بيهي أنه لا فائدة من كونها نصف عين أو أقل، يتبيّن أنها قد تطوّرت وفقاً لعدة مستويات يمكن تلخيصها بالصورة التالية في عيون اللافقاريات البحرية، ابتداءً من البطلينوس Limpet وحتى الأخطبوط Octopus وهي خطوات بسيطة لكن البساطة لا تسعفنا في هذا المقام، لذلك سنسأل باستفاضة:

  1. تكون العين بسيطة وفقط تستطيع أن تكشف لك الليل من النهار دون أي رؤية أخرى.

ونستفسر هنا من العالِم، ماذا تعني بسيطة؟ مثلاً العين تحتوي على 10 مليون خلية، هل البساطة تعني 3 خلايا مثلاً؟ 100 خلية؟ وأبسط مُستشعِر يكشف الليل والنهار مكون من عدة أجزاء مثل العدسة والإلكترونيات والكهرباء والدوائر الكهربائية والغطاء والبرمجة، وكل جزء منها مكون من أجزاء أصغر مُعقَّدة ومُصممة بدقة ومن اختصاص مجال علمي منفرد، ولكي نحاكي العضو نحن بحاجة إلى تكامل كل هذه الأجزاء، والعضو لن يأتي بطفرة أو ألفي طفرة، لدينا مثلاً منطقة عصبية في الدماغ تفهم إشارة الليل والنهار، وهُنَاك عصبٌ بصري يوصل الإشارة من العين إلى الدماغ، وهُنَاك أوعية دموية تُوصل التغذية للخلايا الخاصة بالليل والنهار، وهُنَاك الخلايا نفسها وهي ذات تركيب مُعقَّد، إذ تحتوي على مواد كيميائية لتمييز الليل من النهار وتقوم بإخراج إشارة بناءً على ذلك، أيضاً أريد أن أفهم كيف لطفرة تغير في ترتيب بعض النيوكيلوتيدات أن تبتكر خلية ضوئية حساسة لها! مثلاً أنا أخبرك أنّ إطلاق الرصاص على كتاب شعر لعنترة بن شداد، سيحوله إلى كتاب وصفي لبناء خلية حسية كاملة تستشعر الليل والنهار!، هذه خلايا تحتوي على ملايين البروتينات لتعمل بكفاءة، وكيف ستعلم العين أن المادة الكيميائية مستشعرة للضوء، ولو فصّلنا أكثر لوجدنا أنّ الأمر مُعقَّد وليس شيء بسيط.

  1. يمنح التقعر في العين القدرة على تحديد اتجاه الظل لمن يقع في مجال البصر.

حسناً، تحديد اتجاه الظل، أتصور أن تكون العملية كما يراها العالِم كالتالي، إذ تقول الطبيعة: تفضل أيها الحمض النووي هذه الصعقة الكهربائية لتحدث طفرات حتى تستطيع تحديد اتجاه الظل، لحظة، الطفرة كانت ضارة، نعيد ونجرب غيرها غداً، طفرة أخرى، ما هذا طفرة ضارة أخرى لا معنى لها، ماذا بعد؟ 600 ألف طفرة، حسناً، أخيراً نجحت 3 طفرات، ويا للمصادفة كانت طفرات متتالية وأيضاً كانت رياضية (حسابياً) وذكية، يا لكرم الصدفة، بعد سكب الحبر على الأرض، ظهرت بالصدفة نظرية فيثاغورس مكتوبة بدقة، وهذا الحدث كان في طفرة في الدنا، الطفرة أدّت إلى تراص النيوكليتيدات بطريقة فيزيائية، 5000 نيوكلوتيدية كتبت كود لتحديد اتجاه الظل، ولقد كان هُنَاك تنسيق تصادفي عالي المستوى، بين الطفرة في العين ذاتها، وبين طفرة في الدنا أدت إلى كتابة خريطة بناء هذه الطفرات من جديد لكي تورثها للأبناء، ومن المُفترض أن يكون هُنَاك طفرات أخرى مرتبطة بالطفرات السابقة تقوم بترتيب تعمل على نقل الإشارة بين العين والدماغ، وطفرات أخرى عديدة أدّت إلى بناء العصب البصري وتطويره لفهم الإشارة الكهربائية، كل هذا في خليط من ملايين الطفرات الذكية والمتتالية ذات هدف.

  1. إذا كان الاتجاه يمين، فأعطي إشارة للدماغ شمال (العين تعمل بالعكس).
  2. الإشارة الكهربائية التي قدرتها 4 فولت وتكون متقطعة كالتالي: 0011001 تعني أنّ الاتجاه يمين.
  3. وإذا كانت 0010011 فهي تعني اتجاه الشمال.
  4. وإذا كانت 110011 فهي تعني في المنتصف.
  5. وإذا كانت 11111001 فهي تعني يمين ولكن باتجاه الجنوب وهكذا.
  6. هل حفظت الإشارات أيها الدماغ أم أعيدها من جديد؟، هذه 50 نيوكليتيدية تكونت بالصدفة أرجو أن تفهم سيدي الدماغ، افهمني ووصل أعصابك وافهم إشاراتك حتى يعتبرك الانتخاب الطبيعي عملية وظيفية وتخزنك.
  7. حسناً أيتها النيكيوليوتيدات، لقد فهمتكم، عُلم أرسل.
  8. شكراً أيها الدماغ أرجو أن توثق أيها الانتخاب الطبيعي، الأمور ممتازة، لتنتقل الصدفة إلى الخطوة التالية.
  9. لقد كتبنا الخوارزمية فقط، باقي أن نعدل في الخلايا، نريد أن نعدل الهيكلية حتى نصنع خلايا مُتراصة وتكون مقعرة بعد تراصها، الخلايا في المنطقة رقم 652 في الشبكة بها مُشكِلة، كل الخلايا مُتراصة ولكن هذه المجموعة مزاحة إلى الأعلى قليلاً، لقد أتلفت التراص الخاص بالتقعر.
  10. إلى أين أنت ذاهب؟ لم ننتهِ بعد!

باقي أن نعدل في بروتين الخلايا، نريد بروتين ذكي مكون من 1200 حمض أميني يفهم التقعر ويحوله إلى إشارة كهربائية حتى تفهمه الخوارزمية التي تولدت بالصدفة، أعتذر لقد نسيت، نعيد الطفرات من جديد إلى أن تضبط توليفة ما، اتركوني 2 مليون سنة وسوف أوافيكم، انتظروني، أنا صدقاً أتساءل، وهذه وظيفة العلم أن يتساءل ولا يقترح كلاماً دون دليل.

  1. زيادة التقعر هي المسؤولة عن التركيز.

نريد منك طفرات بحدود 320-502 طفرة جميلات ولطيفات، يأتوك من بين 1 مليون طفرة لأننا نريد حساب التقعر، ونريد أيضاً طفرات أينشتانية ذكية تكون قد درست فيزياء الضوء وبعض الرياضيات حتى إذا تراصّت النيوكليوتيدات وكُتبت خلايا، تكون لديها القدرة على قياس الزاوية الخاصة بالتقعر بطريقة جميلة ونظيفة ودقيقة، تجاوزاً ولأجل الأخوة لنجعلها نصف دقيقة، وأيضاً نريدها أن تتواصل مع العصب البصري وتوسعه قليلاً ليفهم الإشارة ولنرسل معها كُتيب تعليمات الإشارة للدماغ.

انتظر! ونريد حين زيادة التقعر، أن نزود عدد الخلايا، ونريد للخلايا المتقعرة أن تكون بناء على دالة قطع زائد + قطع ناقص، دالة دائرة سوف تفشل، نريد طرفها دائرة، ومنتصفها قطع ناقص، وعلى حفتها قطع زائد حتى يكون تقعر لذيذ، وتفضل هذه هي معادلة الخلايا الخاصة بالتقعر:

رسم توضيحي48 شكل القطع الناقص والزائد والدائرة

معادلة 3 ومعادلة القطع الناقص الرياضية



أرجو أن تدمج هذه الدوال مع بعضها البعض، ثم اضربهم في الخلاط مع بعض الخلايا والأحماض أمينية حتى تصبح عجينة الخلايا مقعرة، وأريد أن تفحصها لتتأكد أنها مقعرة جيداً، لا أريد أي خلية من النصف مليون خلية خارج خط الانحراف.

  1. تشكّل العدسة نوعاً من الوضوح وارتفاع حدّة الرؤية.

لا أستطيع أن أكمل منوال أسئلتي على العدسة الذكية التي تعمل تقريب للصورة ومتصلة بعضلاتٍ خاصة والتي تحتاج إلى أن نذهب إلى مختص بصريات حتى ينحتها ويصنعها لنا لأننا لن ننتهي من تخصيص كل جزئية فيها، وانتبه إلى أنّ العدسة مرنة وتستجيب للعضلات فالعضلات ذكية ومتصلة بإشارات الدماغ، لو ركزنا إبصارنا في كائن ما لقامت بالضغط على العدسة، والعكس صحيح، والتركيز هذا بحاجة إلى إشارات كهربائية من الدماغ لترسلها للعضلات، وتنسيق مضبوط وسائل زجاجي وفهم إشارات جديدة من الدماغ، أي أنّ الصدفة يجب أن تختار مادة خاصة، مرنة وشفافة، ومن المفترض أيضاً كل ملايين آلاف الخلايا الجديدة هذه أن تأتي نتاج 2 مليون طفرة وتكون وظيفية أو على مراحل وظيفية، وانتبه، الطفرة ذكية، فهي جلبت خريطة بناء العدسة في العين، ولم تجلبها في فتحة الأنف، سبحان الصدفة ما أبدعها وما أدقها.

رسم توضيحي 49 تحويل دائرة إلى مربع

إنّ عملية تحويل دائرة إلى مربع عبر طرق عشوائية تتطلب آلاف بل ملايين الاحتمالات، فاحتمالات إخراج نتوءات من الدائرة بشكل عشوائي لا نهائية مما سيُؤَدِي إلى حدوث طفرات لا نهائية تجعل النتوء داخلياً أو شاذاً، لذا هذه العملية البسيطة في هيكلية بروتين أو نسيج لن تحدث مطلقاً بالطفرات، فما بالنا بتغيير شكل عضو!

  1. زيادة صقل العدسة يُؤَدِي إلى رؤية متطورة جداً.

الطفرة ستجعل العدسة بدقة 120 ميغا بيكسل، وحينما أضع جوالي القديم في حمض أو أعرضه للإشعاع، سنلاحظ عبر ملايين السنين أنّ الكاميرا أصبحت Full HD وتحسن نظام التشغيل وزادت الذاكرة تلقائياً ثم عرضت الشاشة هذه الرؤية المتطورة جداً واسمحوا لي بالتوقف عند نقاش النقطة رقم 5 في طرح التطور لتفسير عظمة العين.

ستعلق قائلاً: سخافة! لكني أنتظر ردك على هذه السخافة بدقة علمية، وأنا سأنتظر الإجابة، لأني حينما رأيت بناء البروتين وبناء الدنا واحتمالية تكون بروتين بالصدفة من 10 أحماض أمينية كان أمراً مدهشاً ولربما يستغرق أعواماً، فما بالك بطفرة عشوائية في أحرف الدنا تُؤَدِي إلى إنشاء أنسجة كاملة بخلايا ذكية ومتخصصة بآليات جديدة مثل كشف الضوء وتُنشئ عصباً وغيره، التعقيد غير القابل للاختزال يعني إما أن يكون كل شيء أو لا شيء، لا يوجد حل وسط، شاشة الحاسوب أو الجوال التي تقرأ منها، إما أن يكون مصممها قد صممها كاملة، أو لا يمكن أن تكون قد وصلت إلى المستخدم على أجزاء على مدار آلاف السنين، ولعلك تصدق الصورة التي رأيتها في بداية الفصل هذا، صورة الحجارة على الشاطئ، لعلك تصدق أنّ هذه الحجارة رُصت بهذا الشكل المنظم نتيجة الصدفة، إياك ألا تصدق لأنك تكون قد كذبت العلم، فعملية رص وترتيب عشرون حمضاً أمينياً أصعب عشرات المرات من رص أضعاف هذه الصخور، فما بالك بابتكار خلايا ورصها، فضلاً عن أنسجة كاملة، وستسمع مصطلحات في عالم التطور مثل Self-Organization أي أنّ المواد الكيميائية كان بإمكانها التجمع بطريقة ذكية لتكوين البروتينات، وهي أبعد ما يكون عن الواقع.

ولكي يهرب التطور من التصميم الذكي، نراه يذكر مصطلحاً مطاطيّاً لا معنى له لكي تسرح فيه “التكيّف المسبق”، وكأن التطور مهندس ذكي يخطط مسبقاً لوجود تغييرات ما لكي يبني عليها أمور مستقبلية، ثم نجد التطور يخبرنا أنّ الأعضاء المندثرة تخلًى عنها الجسم لأنها لا تلزم، أما بناء أمور لا تلزم وتركها ملايين السنين أمر يفعله الجسم ولا يدثره، وهذا يطرح مجموعة نقاط:

  1. لماذا على التصميم الذكي أن يجيب على آلية حدوثه، التصميم الذكي أصلاً يؤكد وجود مصمم ذكي أوجده كذلك، لماذا عليه أن يجيب كيف قام المصمم الذكي بعمل هذا التصميم؟
  2. طالما هذا السؤال لا توجد إجابة عليه، لماذا نسير كما يسير التطور، باختراع وتطويع الأفكار لخدمة معتقداتنا غير المثبتة؟
  3. هل من المنطقي استخدام التقنيات الخاصة بالتطور التراكمي لإثبات التطور الموجه؟ فما نفيته قبل بقليل تحاول إثباته الآن.

ثم إذا احتدم النقاش سيطلب منك المُؤمِن بالتطور أن تجلب دليلك على أنّ العين تناسب دورها وأنّ الأعضاء مصممة بدقة لتناسب وظيفتها، وهذا حقه لكن طلبه يضعه في مُغالَطة عبء الإثبات Burden of Truth، لأن من يجب أن يقدم الدليل هو أنت عزيزي المُؤمِن بالتطور، فأنت من تنكر الوظيفة الحقيقية، بالضبط مثل وجود قطعة ما موضوعة لغرض مُحدد في الحاسوب، فإذا قلت إنها بلا فائدة، وجب عليك أن تجلب دليل على كونها بلا فائدة أو أنها لا تؤدي الغرض بدقة، أنت وليس من أعطاك الحاسوب الرائع لتستخدمه.

إنّ من يفترض أنّ التطور هو الطريقة الوحيدة لفهم العالم هو من يضيّق واسع برفضه وجود تفسيرات أخرى ممكنة، هو من يرفض الشمس التي تشرق بالتصميم الذكي في كل حين، ويغلق عينيه، ومن يرى بالتصميم الذكي هو من يؤمن بالتفسير المنطقي الأفضل في هذا الوجود، لا أمانع أن تقول لا يوجد إله، لكن على الأقل، أعمِل عقلك وقِر بالتصميم الذكي، إلى أن يكتشف العلم اللهو الخفي الذي وضع هذا التصميم، ولعلك تشاهد الفيلم الوثائقي “مطرودون: غير مسموح بالذكاء” فترى كيف أنّ كل عالم أو أستاذ يذكر التصميم الذكي يتم إقصاؤه وتهميشه في العالم الحر.

الكيمياء الواعية

إنّ كل مادة كيميائية تدخل جسم الإنسان سواء كانت طعاماً أو دواءً هي سم قد يفيد جسمه! تسبب كل مادة أضرراً عديدة على أنسجة ما في جسم الإنسان، لذا يحاول الجسم عبر تسخير الكيمياء أن يقلل من هذا الضرر قدر المستطاع معتمداً على النظريات الكيميائية الدقيقة، يحذو حذو مختبر كيميائي يضم مئات المختصين الذي يقرروا إجراء تعديلات كيميائية لكل مادة مجموعة لدرء خطرها.

بعد أن يتم امتصاص الطعام من الجهاز الهضمي في عملية دقيقة ومتنوعة الأجزاء، يمر الطعام عبر الوريد البابي Portal vein إلى الكبد أولاً ثم تنتقل المواد الممتصة إلى باقي الجسم، ليبدأ الكبد مُمَارسة ما يبرع به والقيام بما هو مصمم من أجله، ألا وهو إزالة أو تقليل السُمِية من المواد الغذائية عبر عدة تقنيات كإفراز الإنزيمات مثل إنزيم Cytochrome P450 في عملية تسمى إزالة السُّمِية، وإنّ المركبات الكيميائية داخل الجسم مواد شديدة التعقيد، ويدرسها علم في كيمياء الأدوية يركز على فهم الشكل الكيميائي وعلاقته بالتأثير الحيوي على الكائنات، وكيف يمكن كيميائياً تحسين تأثير أي مادة كيميائية عبر تقليل سُميتها أو تحسين عملها أو إطالة مدتها أو تحسين إخراجها بل وصناعة مادة مضادة لها داخل الجسم، وهذا ما يقوم به الكبد حرفياً.

وقد وجد العُلماء أنّ هُنَاك مجموعات كيميائية مُحددة تؤثر على خلايا معينة في جسم الإنسان، وببعض التعديلات الكيميائية المدروسة يمكن تحسين تأثيرها وتحقيق الاستفادة الطبية منها، فمثلاً المجموعات التي تحتوي على مجموعة أمين رباعية، يمكن أن تعمل كمسكن عضلي جيد، ولكي يعمل مركب ما على المستقبلات الأدرينالية Adrenergic يجب أن يكون له هيكلية معينة، وهكذا.

إنّ عملية تصميم الأدوية عملية مُعقَّدة ترتبط بعوامل عديدة مثل الحامضية والذوبانية والقطبية والذرات المجاورة للمجموعة الوظيفية والتهجين… إلخ، إذ يجب أن تكون المادة ذات حامضية معينة ليمتصها الجسم ثم ذات حامضية أخرى لتصل إلى الخلية، ثم ذات ذوبانية أخرى لكي تدخل الخلية وهكذا، إلى أن يتم تعديلها مرة أخرى لتخرج عبر الكلية، ولهذا تصل عملية اكتشاف دواء جديد إلى ابتكار ما يقارب 10 آلاف مادة كيميائية وتجربتها وتحسينها عبر عشرات المختصين في الأحياء والكيمياء العضوية والحيوية والأطباء والفنيين بتكلفة قد تصل إلى 500 مليون دولار، ومدة 10 سنوات في المتوسط، هذا كله لإخراج مركب واحد فقط لا يقتل الإنسان ولا يدمر الأنسجة ويتكامل مع مئات آلاف المركبات الأخرى في الجسم.

تبدأ عملية إزالة السُّمية من المعدة ثم تمر على بكتيريا الأمعاء ثم تصل إلى ذروتها في الكبد عبر تأثير المرور الأولي First pass effect وذلك عبر طورين كيميائيين عظيمين صنفهم العُلماء هما تفاعلات الطور الأول Phase 1 Reactions وتفاعلات الطور الثاني Phase 2، وعملية تحول المواد حيوياً باستخدام الكيمياء تتم داخل الجسم في الكبد وفي أماكن أخرى لكن سنركز على الكبد وعلى الطورين الشهيرين، إذ يجري فيهما تحويل المواد الكيميائية إلى مواد ذات ذائبية أعلى يسهل إخراجها عبر الكلى، وذات سمية أقل على الجسم [126]، وهذين الطورين متكاملين ولهما نظام برمجي موحد، إذ لا تتم العمليات عشوائياً بل عبر آلية واضحة وبمواد مُحددة لكل طور من الأطوار المُختلفة والمرتبطة بعمليات الجسم اللاحقة.

وفي تفاعلات الطور الأول تتم عدة عمليات كيميائية بطريقة دقيقة مباشرة وغير مباشرة حسب المادة إلا أنها في النهاية تتمثل في عمليات كيميائية على المجموعات الوظيفية في المركبات الكيميائية مثل العمليات التالية:

  1. أكسدة Oxidation.
  2. اختزال Reduction.
  3. تحلل مائي Hydrolosis

لا أريدك أن تفكر كثيراً حول كيف يمكن للكبد أن يحدد المجموعة الوظيفية الكيميائية في المركب ويستبدلها بمجموعة أخرى؛ لأن ما يقوم به الكبد كيميائياً أكثر تعقيداً من هذه العملية البسيطة، والمجموعة الوظيفية هي المجموعة التي تعطي المركب المُعقَّد وظيفته الكيميائية وهي ذات طرق تحديد كيميائية لا داعي لاستعراضها، ويعرف الكبد عمليات كيميائية شديدة التعقيد، مثل أنّ استبدال مجموعة كيميائية بمجموعة أخرى تُبقي على المركب فاعل، لكنها تقلل من درجة الحموضية أو تزيد من درجة الذوبانية، ويتم نقل بعض المواد من الطور الأول إلى الطور الثاني الأكثر تعقيداً، إذ تتم فيه عملية إضافة مجموعات وظيفية على المركب لتحويله إلى مركبات ذات فاعلية كيميائية أقل.

ولتوضيح جزء من العمليات الكيميائية، سنستعرض فقط عملية واحدة من عمليات الطور الأول، لأنّ ذكر جميع العمليات والأطوار سيُكلفنا مجلداتٍ كثيرة، لنستعرض عملية الأكسدة فهي الأشهر وتحدث بكثرة في الإنزيم Cytochrome P450، فهي تحدث على أحماض أمينية وستيرويدات والكثير من المواد العضوية في الكائن الحي، وتحدث أيضاً على مواد دخيلة على الجسم مثل الأدوية والمبيدات الحشرية والملوثات وكل ما لا يعرفه الجسم من مواد كيميائية، ولا أعرف ماذا أشرح من تعقيد هذه العملية، لأنها متكاملة ولها شروط كثيرة، ومن هذه القائمة الطويلة لبعض العمليات التي سجلها العُلماء، سنأخذ نموذجاً على عمليات الأكسدة:

Oxidative Reactionsتفاعلات الأكسدة

  1. Oxidation of aromatic moieties.
  2. أكسدة الأولفينات Oxidation of olefins.
  3. Oxidation at benzylic, allylic carbon atoms, and carbon.
  4. ذرات إلى الكاربونايل والإيمينات Atoms to carbonyl and imines.
  5. Oxidation at aliphatic and alicyclic carbon atoms.
  6. Oxidation involving carbon–heteroatom systems…
  7. أكسدة الكحول والألدهيدات Oxidation of alcohols and aldehydes.
  8. Other miscellaneous oxidative reactions.

وسنأخذ نماذج على أكسدة الحلقات الأروماتية Oxidation of Aromatic كما في (شكل 43 أكسدة الحلقات الأروماتية).


شكل 43 أكسدة الحلقات الأروماتية.

وكل سهم في (شكل 43 أكسدة الحلقات الأروماتية) (كحلقة البنزين) يشكل عملية مستقلة في هذا الجزء من عمليات الأكسدة على المواد الأروماتية وله قوانينه الخاصة، فمثلاً السهم الأول على اليسار والذي فيه تحول الأرين إلى أرينول نجده يمر بعدة مسارات لاحقة معدة خصيصاً له، ولكل مسار عوامل حفازة وشروط فيزيائية وكيميائية خاصة به، وقد تتم العملية في الطور نفسه أو في أطوار لاحقة كما في (شكل 44 بعض مسارات الأرين المُختلفة).


شكل 44 بعض مسارات الأرين المُختلفة.

شكل 45 مثال مباشر على عمليات أكسدة على دواء الباراسيتامول والفينيتوين وهرمون الجنس الإستراديول

[126].

العجيب أنّ هذه العمليات تحدث وِفق آلية معينة في إطار مغلق وحسب المواضع الكيميائية المُختلفة، فمثلاً لو حدثت عملية الأكسدة وكان في المركب مجموعة ساحبة للإلكترونات، فسيختلف موضع اتصال مجموعة الهيدلوكسيل OH من أورثو إلى ميثا إلى بارا في حلقة الفينول، وإذا كان في المركب أكثر من حلقة أروماتية فستحدث عملية الأكسدة على حلقة واحدة منها فقط! وإذا وُجد في المركب حلقتين أليفاتية وأروماتية فستحدث عملية الأكسدة على المجموعة الأروماتية، وهي تحدث لآلية كيميائية في الطبيعة، لكن كيف للجسم أن يفهمها ويحدد أنّ الحلقة الأروماتية حين تتأكسد أفضل من أن تتأكسد الحلقة الأليفاتية [127] من بين ملايين احتمالات التفاعلات الكيميائية التي قد تحدث في حالة واحدة من حالات عمليات الطور الواحد! هذا السؤال الذي لو أجاب عنه التطور وبين لنا كيف للكيمياء أن تكون ذكية وتفهم جسم الإنسان وتقدم هذه الآلية على ملايين المركبات التي تدخل الجسم وتفحصها وتجري عليها عمليات بناء على مجموعاتها وشكلها الكيميائي، سيكون قد ربح المليون.


هذا غيضٌ من فيضٍ من عمليات الطور الأول في الكبد، يمكنك رؤية العجب العجيب في مئات العمليات الأخرى يعرضها بشكل مبسط كتاب Wilson and Gisvold’s Textbook of Organic Medicinal and Pharmaceutical Chemistry، لتعرف كم درس كبدك الكيمياء العضوية ونال أعلى الدرجات بها، وليس الكبد فحسب، بل كل عملية تحدث من مليارات العمليات كل ثانية في جسم الإنسان، لهي عملية كيميائية دقيقة بحاجة إلى شرح وتوضيح من التطور، ولو قرأت أي كتاب عن كيمياء أي كائن حي آخر، ستندهش أشد الاندهاش، جرب ألا تفكر في مملكة الحيوان، وفكر في مملكة النبات فقط، وانظر لكتاب Chemistry of Plant Natural Products الذي يستعرض بعض تفاعلات النباتات التي نراها “بسيطة” في حين أنها أسطورية كيميائياً، ولعلك تتعجب أكثر حينما تعرف أنّ كثير من تفاعلات الكيمياء في جسدك تتم عبر روابط فاندرفالز Van der Waals، وهي روابط ضعيفة غير تساهمية، أي ليست دقيقة أو معدة للتبادل التام بين المركبات، لتتصور أكثر، بدلاً من أن يقوم البروتين بلمس الدنا لإحداث تأثير مُحدد، يلزمه فقط أن يمر بجانبه، ليقع التأثير المخطط له، وتظهر النتيجة الصحيحة، أي أنّ البروتين لا يلزمه أن يصافح الدنا، فقط يلزمه أن يشير من بعيد بالسلام قائلاً: لكم عيناك جميلات أيها الدنا، ليخجل الدنا وتحمر وجنتيه.

رسم توضيحي 50 الفرق بين الحلقة الأليفاتية والحلقة الأروماتية في الكيمياء العضوية كبير وجلي.

الأمراض الجينية

نعلم أنّ الإنسان يحمل 46 صِبغيّاً جسدياً (كروموسوم)، منها 44 صِبغياً تدعى الصِبغيّات الجسدية، وصِبغيّان يسميان الصبغيات الجنسية، المسؤولان عن تحديد جنس المولود:

  1. فإذا كان هذان الصِبغيّان هما (XY): فالجنس ذكر ويعبر عنه بالصيغة (46,XY).
  2. وإذا كان هذان الصِبغيّان هما (XX): فالجنس أنثى ويعبر عنه بالصيغة (XX,46).

لكن لو امتلكت الأنثى صبغياً جنسياً واحداً (X) بدل اثنين (XX)، يطلق العُلماء على هذه الحالة متلازمة تيرنر Turner’s Syndrome وهي من الشُذُوذات الصبغية الشائعة، وتحدث نتيجة غياب صبغي (X) غياباً كلياً أو جزئياً، وذلك لدى أنثى من كل 2500 أنثى مولودة، ويُميز هذه المتلازمة مظاهر عديدة مثل [128]:

  1. قِصر القامة وهو المظهر العام عند جميع المصابات.
  2. تورّم اليدين والقدمين وشُذُوذات في الأظافر والرقبة المجنحة والصدر المدرّع وتباعد حلمتي الثدي.
  3. قد يُصاب الجهاز القلبي الوعائي بارتفاع ضغط شرياني بسبب ضيق الشريان الأورطي.
  4. أما الجهاز الهيكلي فقد نشاهد فيه صغر الذقن في نحو 60٪‏ من المصابات، وغيرها من التشوهات العظيمة، وتأخر نمو عظمي وهشاشة عظام.
  5. قد يحدث في الجهاز البولي شُذُوذات في الكلى فتأخذ الكليتان شكل حدوة الحصان، وانسداد في الحالب.
  6. يحدث قُصُور مبيضي في الجهاز التناسلي لدى 95٪‏ من المريضات، وهذا في الغالب يُؤَدِي إلى انعدام الطمث وانخفاض هرمون الأستروجين، وبذلك يحدث العُقم ويقل تطور الثديين.

وغيرها من الأعراض مثل قُصُور الغدة الدرقية، وضعف الرؤية والسمع، وانخفاض قليل بمعدل الذكاء.

لكن، ماذا لو حدث خلل ما في كروموسومات أخرى، فمثلاً لو حدث في كروموسوم 21 نسخة إضافية لحصلنا على ما نراه دائماً من متلازمة داون، فهي سببها تضاعف الكروموسوم 21 وحصول الإنسان على 47 كروموسوم بدلاً من 46، ونعلم الأعراض المدمرة على جسم الإنسان نتيجة زيادة هذا الصبغي.

ثَمَّة أمراض كثيرة متعلقة بالكروموسومات ونتائجها مرتفعة جداً على جسم الإنسان، إما الموت وإما تشوهات كثيرة لربما كان الموت نهايتها أيضاً، سبق وتطرقنا إلى أمراض الجينات التي تعد بالآلاف، فأي خلل في الجينات نتيجة لطفرات مثلاً أو لمُشكِلة الانهيار الجيني تحدث مشاكل وأمراض مرعبة، فمُشكِلة في الجين المسؤول عن سُمك وريد سيُؤَدِي إلى ضعف الدم في العضو المرتبط بهذا الوريد، ومن ثم فقده لجزء كبير من دوره، مُشكِلة في بروتين معين تؤدي إلى حدوث مشاكل لا نهائية في كل الجسم.

ما أريد قوله إنّ العشوائية والصدفة غير مقٌبولتين في جسم الإنسان، غير مقٌبولة في عملية الإنتاج من الأساس، وأي تغييرٍ بسيطٍ أو خطأٍ تافهٍ يُؤَدِي إلى دمارٍ كبيرٍ وهائل، فكم هي احتمالية حدوث مُشكِلة في الـ 46 كروموسوم حينما ينقسم بشكل عشوائي ودون تخطيط مسبق؟ الاحتمالات تتعدى الملايين، مثلاً تشابك أطراف خطأ، اقتصاص خطأ، بنية خطأ، فقد كروموسوم، زيادة واحد، فقدان نصف كروموسوم، تلف مسبق، وجود مادة كيميائية في المحيط تفسد بروتين معين.. إلخ، وخطأ واحد يُؤَدِي إلى عدم تكون حياة، أو الموت الحتمي أو إذا كان محظوظاً ستحدث تشوهات مصيرها الموت.

انظر أيضاً إلى المشاكل التي تحدث جراء أي خلل في جسم الإنسان مهما كان بسيطاً، فترى الجسم كله يحدث له فقد في الوظيفة، فمثلاً لو أُصيبت عضلة الساق بطلق ناري، أو تم قطع القدم ووضع بدلاً منها طرف اصطناعي، ستتوقف كل ديناميكية حركة الساق بشكلها المُتناسق، الحركة الدائرة والمنتظمة والمتوافقة، ستعلم أنّ القدم أو الأعضاء وجدت كما هي بتصميم كامل، ولا يُعقَل أن يكون ظهر شيء منها بالصدفة أو على حدة، والدليل أنّ الاتزان والتناسق تفقده الأعضاء في أي خلل بسيط.

تخزين وحرق السكر

أثناء عملية هضم الطعام يقوم الجسم بتحويل النشويات والسكريات (الكربوهيدرات) إلى سكر الجلوكوز اللازم لنمو وتغذية الخلايا، لكن لو تناول الإنسان طعاماً أكثر من المطلوب وحصل الجسم على الكمية المطلوبة من الجلوكوز، فإنه سيقوم بتحويل الجلوكوز إلى مادة الجليكوجين في عملية تدعى توليد الجليكوجين Glyco-genesis وكلمة genesis تعنى توليد أو تخليق (شكل 46 توليد الجليكوجين)، وهذه العملية مهمة جداً في أجسام الكائنات لأنها تحفظ الطاقة لاستخدامات طوال الوقت، ولكن لماذا لا يحفظ الجسم الجلوكوز على الهيئة نفسها، لماذا يخسر طاقة في تحويله إلى جليكوجين وسيقوم مستقبلاً بخسارة طاقة حينما يعيد تحويله إلى جلوكوز، أليس من الأفضل حفظه على حالته العادية؟


شكل 46 توليد الجليكوجين.

والإجابة على هذا السؤال مدهشة، إذ اتضح أنّ هُنَاك العديد من الأسباب لهذا الأمر، وعلى رأسها أنّ الجلوكوز (السكر) لو قمنا بحفظه في منطقة بتركيز عالٍ في الجسم كالكبد والعضلات، فسيحدث ضغط إسموزي وستتجمع المياه لتعادل الضغط الأسموزي العالي للجلوكوز، أي أنّ كبدك سيزداد حجمه من الماء وسيحدث ضرر لا شفاء فيه، ومن ناحية أخرى: لنفترض أنه لديك مجموعة من الألواح الخشبية، هل تفضل أن تضعهم في المخزن فوق بعض دون ترتيب، أم تفضل وضعها مرتبة ومنظمة؟ أي الطريقتين تستهلك مساحة أقل؟ نحن نعلم أنّ الألواح المرتبة تستهلك مساحة أقل، أكيد دُهشت من التصميم الهندسي لهذه الفكرة كما اندهشت أنا و70 آخرون، ولنعلم أنه لا شيء اعتباطي في جسم الإنسان، هُنَاك أسباب أخرى مثل أنّ الجلوكوز يتكسر ولا يدوم، وأنه لا يمكنه مغادرة الخلية بعد دخولها بسهولة، رايح فين! دخول الحمام يا عم الجلوكوز مش زي خروجه.

رسم توضيحي 51 السكر المرتب، والسكر غير المرتب.

ويبدو واضحاً أنّ الأشكال المنظمة بعناية تستهلك مساحةً أقل من الأشكال غير المنظمة، حينما يرى الأنسولين أنّ الجلوكوز زاد عن حده في الجسم ولا فائدة منه فإنه يأمر الكبد عبر آلية طويلة أن يحول الجلوكوز إلى جليكوجين، ويحدث العكس حينما يحتاج الجسم إلى جلوكوز ولا يوجد كمية كافية منه، إذ يقوم الجسم بتحويل الجليكوجين إلى جلوكوز في عملية تُسمى تحلل الجليكوجين Glycogeno-lysis وكلمة lysis تعنى تحليل أو تفكيك أو تكسير، أي تكسير الجليكوجين (شكل47 تحلل الجليكوجين)، ويتحكم في هذه العملية هرمونان، هما الأنسولين من البنكرياس، والأدرينالين epinephrine من الغدة الكظرية، إذ يفرز البنكرياس الأنسولين استجابة لانخفاض الجلوكوز في الدم، وتفرز الغدة الكظرية هرمون الأدرينالين استجابة للضغط (خوف أو قتال)، وكلاهما يوقفان أي عملية توليد للجليكوجين موجودة حالياً، ولا يخبرني أحد هذا بديهي، فليس من البديهي أن تضغط على الزر فيفتح باب المصعد وفي اللحظة نفسها يضيء الضوء الموجود فيه، بل هو من تصميم المهندس والمهندس فقط من وضع هذه الحركة [129].


شكل47 تحلل الجليكوجين.

في حالات المجاعة أو الصيام أو الرياضة الشديدة يقوم الجسم عبر عملية ثالثة تُدعى استحداث الجلوكوز Gluco-neo-genesis، إذ يتم توليد الجلوكوز من مواد أخرى غير الكربوهيدرات (شكل 48 استحداث الجلوكوز)، نحن في حالة مجاعة ونريد استهلاك مصادرنا، لدينا مثلاً دهون، لدينا بروتينات إذا نفذت الدهون ولدينا أحماض أمينية أيضاً، كل ما يمكن حرقه لكي نولد طاقة، فيقوم الجسم بتوليد الجلوكوز من هذه المواد، وتحدث هذه العملية في الكبد وجزء صغير منها في قشرة الكلية، وجزء أصغر أكثر يحدث في العضلات وفي الدماغ أو القلب أو أي أنسجة أخرى، والعملية طويلة ومتداخلة فنجد هنا تدخل دورة كريبس ولدينا مسارات متعددة، نواتج متعددة من العملية مثل حمض اللاكتيك لذلك نسمع بأن لاعب كرة القدم بعد أن ركض مسافات طويلة أصابه تصلب العضلات [130].


حينما تحدث مشاكل في حرق السكر في الجسم لأسباب عدة كنقص في الأنسولين أو لعدم حساسية الخلايا (كما في مرضى السكري) تحدث حالة مرضية بعد فترة تدعى DKA Diabetic ketoacidosis، إذ تحتاج الخلايا إلى جلوكوز ولكن لا يوجد أنسولين، فيتم توليد الجلوكوز في الكبد من الجليكوجين المخزن ولا حرق لهذا الجلوكوز عبر عمليات إنتاج الجلوكوز، يحاول الجسم التخلص من هذه الكميات الكبيرة من الجلوكوز عبر آليات عدة، تصل في النهاية إلى ضغط على الكلى لتقوم بإخراج الجلوكوز، وتمتص الكلى الصوديوم والبوتاسيوم في العملية ثم تقوم بإخراجهم مع الجلوكوز في عملية تعرف بِدَر البول الأسموزي، وهذا ما يجعل مريض السكري يتبول كثيراً، ويُصاب بالجفاف إن لم يقُم بشرب كميات كبيرة من الماء، ورغم ذلك يستمر الجسم بإصدار إشارات الشعور بالعطش الشديد.


شكل 48 استحداث الجلوكوز

غياب الأنسولين يجعل الخلايا بحاجة إلى الطاقة، فتنشط عملية حرق الدهون الحرة من الأنسجة الدهنية lipolysis، وتتم في ضوء عملية تدعى beta oxidation وتحدث في الكبد أيضاً، وينتج عنها مواد كيميائية عضوية أساسها مجموعة الكيتون وتسمى ketone bodies، ولهذا السبب تسمى عملية Diabetic ketoacidosis وهي البديل للطاقة في غياب الأنسولين، ولو استمر الوضع سيقوم الجسم بحرق البروتينات إلى أن تتهدم الأجهزة وتكون رائحة أنفاس المريض كرائحة التفاح بسبب رائحة الكيتونات الأشبه بالفواكه، العملية متشعبة وتؤثر على كل عمليات الجسم ولها تداخل ما بين مثلاً السوائل والحامضية والـ buffer systemوغيرها الكثير، وهذا يقودنا إلى فكرة التصميم الكامل والذكي، فحتى في حال وجود مُشكِلة، هُنَاك خطط باء وجيم ودال بآلية مرتبة متناسقة مع كل أعضاء الجسم.

رسم توضيحي 52 مخطط عمليات حرق وتوليد الطاقة.

هذه صورة بسيطة من تفاعل إحدى العمليات، ولقد نجحت في مادتها الجامعية من أول مرة بأعجوبة، أما بقية التفاعلات ستجعل من دورة حمض الستريك مزحة.


الجدير بالذكر أنّ الكثير من التفاعلات التي تتنوع وتختلف كثيراً وتتكرر يومياً ملايين المرات تتم بدقة عالية وفق خطوات مدروسة، فتجد إحدى التفاعلات بحاجة إلى درجة حرارة منخفضة، ثم في الخطوة التالية إلى درجة حرارة مرتفعة، ثم منخفضة، ثم دخول مادة، وخروج أخرى، وحماية أجزاء معينة بإضافة مادة معينة، ثم العودة إلى خطوة سابقة وإزالة أجزاء معينة، وتكرار التجربة في خطوة معينة، وإن أبسط المواد الكيميائية والمؤثرات الفيزيائية كالضوء تؤثر على التفاعلات ما لم تتم في بيئة مغلقة! وقد ابتكر المصمم الإنزيمات للقيام بالعديد من هذه الأدوار في سلاسة ويسر.

تجلط الدم

من العمليات المُدهشة التي تحدث في جسم الإنسان عملية تجلط الدم وتخثره، فالجسم يقوم بإغلاق الجروح ومنع نزف الدم من خلال إغلاق الأوعية الدموية المصابة بواسطة الصفائح الدموية وبعض المواد الأخرى التي تشكل جداراً عازلاً يوقف فقد الدماء ويصلح الجرح.

شكل 49 تفاعل تكسير الجلوكوز، وهي عملية كيميائية طويلة وهي واحدة من ملايين العمليات المشابهة!

يُعد تجلط الدم من المواضيع التي يخصها علم الأحياء بالدراسة العميقة، وهي من العمليات الحيوية الكفيلة بحفظ استمرار عملية تجلط الدم، تحدث عملية تجلط الدم عبر عاملين اثنين هما العامل الخلوي (الصفائح الدموية) والبروتين (عامل التجلط)، ولقد خضعت عملية تجلط الدم التي تحدث في جسم الإنسان لأبحاث كثيرة، ولهذا تم فهمها بشكل كبير، وذلك لما لها من تطبيقات وأدوار مهمة في مجالات الطب [131].

تبدأ عملية تجلط الدم بعد تلف الغشاء المبطن لجدار الوعاء الدموي على الفور، فتحدث بعض التغيرات في الصفائح الدموية وفي أحد بروتينات البلازما وهو الفيبرينوجين الذي يمثل أحد عوامل تجلط الدم، لتعمل الصفائح الدموية على تكوين سدادة صفيحية على منطقة الإصابة بالوعاء الدموي، وتحدث عدة عمليات متسلسلة أخرى إذ تستجيب البروتينات الموجودة في بلازما الدم والتي تعرف بعوامل التجلط أو عوامل التخثر، وتتفاعل في صورة شلال مُعقَّد لتشكل خيوط الفيبرين التي تقوي الجبيرة التي كونتها الصفائح الدموية من قبل.


شكل 50 سير عمليات وعوامل تخثر الدم.

كما نرى في (شكل 50 سير عمليات وعوامل تخثر الدم). هُنَاك عدة عوامل مسؤولة عن عملية التجلط، وتتمثل العملية في مسارين منفصلين ويُعد مسار العامل النسيجي مساراً رئيسياً؛ إذ تبدأ فيه عملية تحفيز تدفق الثرومبين الذي يعد أهم عناصر شلال التخثر من حيث الأدوار التي يلعبها في تنشيط التفاعلات في عملية تجلط الدم، ينتشر العامل VIIa في صورته النشطة بعد إصابة أحد الأوعية الدموية، وينفصل العامل VII عن مسار الدورة الدموية ويتحد مع العامل النسيجي الذي تحمله وتنقله الخلايا الحاملة إلى العامل النسيجي مكوناً مركباً مُعقَّداً مع العامل النسيجي واختصاره TF-FVIIa، وبدوره يقوم هذا المركب TF-FVIIa بتنشيط العاملين IX وX، ويتم تنشيط العامل VII نفسه بفعل الثرومبين والعامل XIa النشط والعامل XII والعامل Xa النشط، يقوم كل من العامل Xa النشط والعامل Va النشط بتكوين إنزيم البروثرومبينيز الذي يعمل على تنشيط بروتين البروثرومبين وتحويله إلى الثرومبين [132].

ثم يقوم الثرومبين بتنشيط العناصر الأخرى الموجودة في شلال التخثر، بما في ذلك العاملين V وVIII الذين يعملان على تنشيط العامل XI الذي يقوم بدوره بتنشيط العامل IX، وكذلك يقوم الثرومبين بتنشيط العامل VIII وتحريره من التصاقه بعامل فون ويلبراند، يعد العامل VIIIa النشط هو العامل المساعد للعامل IXa النشط، إذ يتحدان معاً ليُكوّنا المركب الإنزيمي الذي يقوم بدوره بتنشيط العامل X، وتستمر دورة عملية تجلط الدم.

يبدأ مسار التفعيل الآخر بتكوين مركب أولي على الكولاجين عن طريق الكينينوجين HMWK والبريكاليكرين والعامل XII، ثم يتحول البريكاليكرين إلى الكاليكرين، وكذلك يصبح العامل XII عاملاً نشطاً بعد تفعيله، فيقوم العامل XIIa النشط بدوره بتفعيل العامل XI ليصبح عاملاً نشطاً، ثم يقوم العامل XIa الفعال بتنشيط العامل IX الذي يعمل مع العامل VIIIa النشط، وهو عامله المساعد على تكوين المركب الإنزيمي الذي يقوم بدوره بتنشيط العامل FX ليصبح عاملاً فعالاً.

يُؤَدِي الثرومبين العديد من المهام والأدوار في هذا المسار، إذ يتمثل دوره الرئيسي في تحويل الفبرينوجين إلى الفبرين الذي يمثل العنصر الأساسي في تكوين الجبيرة لوقف نزيف الدم، وإضافةً إلى ذلك، يقوم الثرومبين بتنشيط العاملين VIII وV وبروتين C المثبط لهما في وجود مادة الترومبوموديولين thrombomodulin، كما يعمل على تنشيط العامل XIII الذي يُكوِّن روابط تساهمية مع بوليمرات الفيبرين الثابتة، يظل شلال التخثر في حالة تزيد معها احتمالية تكوُّن الجلطات الانسدادية من خلال التنشيط المستمر للعاملين VIII وIX لتكوين المركب الإنزيمي، حتى يتم خفض تلك الاحتمالية بفعل مضادات التجلط [133].

هُنَاك بعض العوامل المساعدة في عملية التجلط مثل عنصر الكالسيوم ومركب الفوسفوليبيد، إذ يساهم الكالسيوم في الربط بين المركبات من خلال رواسب معينة موجودة على العاملين Xa وIXa النشطين من ناحية ويقوم أيضاً بتفعيل عوامل أخرى في العملية ككل، أيضاً يُعد فيتامين K عاملاً أساسياً بالنسبة لإنزيم جاما جلوتاميل كربوكسيليز الذي يفرزه الكبد والذي يضيف مجموعة كربوكسيل إلى رواسب موجودة على العوامل II وVII وIX وX، هذا بالإضافة إلى عدد من البروتينات مثل بروتين S وبروتين C وبروتين Z.

العجيب أنه رغم توفر هذه العوامل في الدم، وتسري بسريانه، إلا أنها لا تنشط إلا عند حدوث جرحٍ ما بالفعل، إذ تتكاثف وتتفاعل وفق آلية دقيقة جداً وتعمل على انسداد الجرح، أي خطأ أو نقص في أحد العوامل سيُسبب أمراضاً خطيرة تمنع تجلط الدم، وثَمّة آليات معينة تساعد على الحفاظ على تنشيط الصفائح الدموية وتفعيل شلال التخثر بطريقة منظمة ومنع حدوث جلطات اعتباطية في الجسم، فبروتين C من العناصر الرئيسية الموجودة في الدورة الدموية التي تُعتبَر مضادة لتجلط الدم، مع عوامل أخرى كثيرة، وبعد عملية الإصلاح وبناء الجبيرة تكون الجبيرة أكبر من اللازم وبحاجة إلى نحت وتنعيم وإزالة الزوائد، لذا يقوم بروتين البلازمين بتحليل الفبرين إلى نواتج تحلل الفبرين التي تثبط تكوّن كميات إضافية من الفبرين.

هذا الفهم الدقيق لعملية التخثر أدّى إلى إنتاج أدوية تمنع تجلط الدم كالأسبرين والكلوبيدوجريل والديبيريدامول والتيكلوبيدين، وأدوية أخرى تقوي التجلط، بل وساعدت العُلماء على استخدام عوامل التجلط في تطبيقات كثيرة، كتذويب الجلطات للمصابين بجلطات في القلب مثلاً، واستخدام الهيبارين والوارفارين المضاد لتجلط الدم وما شابهه من مشتقات الكومارين، والكثير من الأدوية والآليات لعلاج الأمراض أو للمساعدة في عملية العلاج والتشافي. أما عن الأمراض الجينية التي تصيب هذه العملية المعقدة فحدث لا حرج، وقد كنت قد وضعت جزء منها في هذا المكان لكني أزلتها لأنها تتعدى الثلاث صفحات، وكل هذا الاستطراد في الشرح وكل هذا التوضيح هو لإيصال الرسالة الهامة، العمليات هذه معقدة بشكل كبير جداً جداً، وهي مصممة بدقة عبقرية، ويستحيل أن تنتج جراء الصدفة.

الغريب أنّ هذه العملية المُعقَّدة موجودة في كل الثدييات تقريباً، والسؤال المعهود: ماذا لو حدث التطور جزيئياً وفقدنا أحد أجزاء سلسلة تخثر الدم؟ هل كان ليحدث هذا التسلسل وينسال تتابع التخثر؟ إنّ أي توقف أو أي مُشكِلة في هذا التسلسل سيكون الدم قد نفد من الجسم ومات الكائن على الفور، وهذا يقودنا إلى فكرة أنّ من صمم الكائن الحي قد صمم آلية الجبيرة هذه، صمم الاثنين في وقت واحد، صمم المصعد وصمم آلية عمل الكوابح حتى لا يقع المصعد في حال وقوع خلل ما وانقطع الحبل، ومن غير المنطقي الاعتقاد أنّ الكوابح في المصعد تطورت تلقائياً، والكوابح لا تساوي في تعقيدها جزءاً من عملية التخثر.

تحول الكائنات

الاستحالة أو التحول Metamorphosis عملية مُدهشة نرى فيها الحيوان بعد أن يفقس أو يولد يتحول من كائن إلى كائن آخر، وفي المرحلة الأولى يكون جسده بحالة معينة، ومن ثم ينتقل إلى الحالة الكاملة في مرحلة تحول كاملة كما لو أنه كائن آخر مُختلف، وتحدث هذه العملية في كثير من الكائنات كالحشرات والبرمائيات والرخويات والقشريات واللاسعات وشوكيات الجلد وحبليات الذيل، وعادة ما يصحب ذلك تغير في الموطن أو السُلُوك [135] [136].

لنأخذ مثال تطور العثة من يرقة إلى فراشة، إنها تتحول بالكامل حرفياً، فيتحول فيها الجلد أو القشرة، وتموت العضلات ويتكون أجزاءً جديدة بدلاً منها، كذلك الجهاز العصبي والجهاز التناسلي بالكامل لا يكون أي منهما في الطور السابق ويأتيان بضربة واحدة في الطور الجديد، العيون المُعقَّدة التي ترى الألوان كما البشر تأتي كاملة في الطور الجديد أيضاً، خرطوم التغذية، الأقدام، قرون الاستشعار، الأجنحة… إلخ نحن نتكلم عن ظهور كائن كامل جديد، وهُنَاك كائنات تمر بعدة مراحل مُختلفة للتحول، فهي تتحول من بيضة egg إلى يرقة caterpillar ثم إلى عذراء pupa ثم إلى الطور البالغ adult، وهذه الأطوار المُختلفة في مراحل حياة الكائن لا يمكن تفسيرها بالتطور، فالتطور يحاول أن يُفسر بالطفرة والانتخاب الطبيعي ظهور جناح من الذراع أو يفسر ظهور جناح من لا شيء، لكنه لا يفسر ظهور كائن كامل من كائن كامل ليتحول لاحقاً إلى كائن آخر، لا يفسر ظهور ثلاثة كائنات وأحياناً أربعة كائنات بمحض الصدفة، ولا يفسر مثلاً تشرنق الكائنات بين الأطوار المُختلفة لأنه كما يبدو أنّ العملية مخطط لها، ولو قسنا بمقياس التطور سنجد أنّ كل كائن جديد يحتاج إلى ملايين السنين لينتج من طفرات، فالفراشة ستحتاج إلى ملايين السنين لتتطور، الكائن الواحد * 4 أي يساوي 200 مليون سنة لتطور الفراشة إذا جاز التعبير.

لا يفسر التطور من الأساس هذه العملية مهما حاول والأمر أشبه بولادة طائرة من دراجة هوائية، لا علاقة بينهم! هل الظروف البيئية هي السبب؟ السجل التطوري؟ للأسف التطور لا يملك إجابات، لماذا لا يحدث لاحقاً تطور إلى الشكل النهائي، لمَ هذا الهدر في الطاقة، ولمَ هذا الجهد في البناء بلا هدف؟ بعض الزيزيات Cicada تبقى 17 سنة مدفونة في الأرض في طور الحورية بلا فائدة تتغذى فقط من جذر الشجرة لتتحول بعد 17 سنة إلى عثّة بالغة، ولتموت بعدها في عدة أيام، كائنات مُختلفة في مرحلة حياة الكائن الواحد، 17 سنة مدفون خامل ليعيش 10 أيام ويموت [137].

تُعتبَر ذُبابة مايو Mayflies من الكائنات ذات الأجنحة البدائية، ولكن كيف نصِف هذا الكائن بالبدائية وهو يعيش تحت الماء بالقرب من السطح ولديه أعضاء كالخياشيم، إذ يستمر خلال عامين إلى ثلاثة أعوام بالأكل والتنفس والنمو تحت الماء، ثم ينطلق منها إلى الهواء لمدة يوم واحد فقط، وعليه أن يلتحق بسربٍ ما ويتزاوج ويضع البيض ثم يموت، وهذا يؤكد حسب نظرية التطور أنّ أصل الذبابة سمكة تحولت فطارت! أليس هذا منطق التطور؟ والشيء نفسه يحدث للبعوض، إذ يعود إلى الماء ليتكاثر ويضع البيض [137] وهذا يقودنا إلى أنّ أصل البعوضة هو ذبابة مايو، أليس من الممكن أن تكون سمكة من نوع آخر ذات خياشيم تطورت بنفس خطوات سمكة ذبابة مايو فأصبح لديها الجناح نفسه وآلية التزاوج والتكاثر نفسها في مسار منفصل!

لا يمكننا نسيان تحول الحشرات الاجتماعية مثل النمل، فيرقات النمل ليس لها أرجل وهي غير قادرة على العثور على الطعام أو الحركة أو التنظيف، لذا تعتمد بشكل كامل على رعاية النمل العامل البالغ 24 ساعة، ومن دونها سيموتون بسرعة، ويحتاج النمل الصغير إلى العمال البالغين لقطعهم من شرانقهم في نهاية مرحلة الخادرة [138]، وهذا يجعلنا نتساءل كيف تمت هذه العملية؟ فإذا لم يكن للنمل العامل والنمل المتشرنق آلية جاهزة، فمن أين أتى هذا التكامل بين الدجاجة والبيضة؟ وهذه المرة يجب أن يوجدا سوياً، يجب أن تُوجد مراحل التحول كما هي لتحمي نفسها من الانقراض، فوجود مراحل مدهشة مُختلفة مثل اليرقات لبقائها في معدة كائن آخر، والحوريات للسباحة، والعث أن تطير وتتكاثر لهو أمرٌ مُدهشٌ، ويَنِمُّ عن تصميم وليس تطفراً وتطوراً.

Stages of Monarch butterfly

شكل 51 تحول الفراشة الملكية Photos by Bob Moul, www.Pbase.com/rcm1840 :Danaus plexippus.

مراحل تحول الفراشة الملكية Danaus plexippus:

  1. اليَرَقة Larva: بعد أن تطل اليرقة من البيضة، تتغذى على أوراق نبتة الصقلاب milkweed وتستمر في هذه المرحلة لمدة أسبوعين حسب درجة الحرارة.
  2. الخَادرة Chrysalis: بعد أن تتخلق اليرقة من بشرتها الخارجية وتصنع الشرنقة، تُعلّق اليرقة نفسها على غُصين مناسب، فتتحول إلى خادرة، وهنا تبدأ الإثارة؛ إذ تذوب معظم أنسجة اليرقة ويتم إعادة تشكيلها إلى فراشة في إطار برنامجها الجيني، إذ تبدو فيه مثل إناء الشمع.
  3. قبل الفراشة: وأثناء استمرار التحول، تصبح الشرنقة شفافة بشكل واضح ونستطيع رؤية ألوان الفراشة.
  4. مرحلة ما بعد القشرة: بعد 9-15 يوماً تظهر الفراشة أخيراً، ويبدأ ضخ الدم إلى الجناح من الدماء التي قامت بتخزينها في عروق الجناح، تنتظر الفراشة حتى تجف وتتصلب أجنحتها لتطير بعيداً وتبدأ دورة الحياة من جديد.
  5. الأنثى البالغة: إنّ وجود أوردة أكثر سُمكاً ونقص العقد في عروق الأجنحة الخلفية العليا يجعل الأنثى مميزة عن الذكر.

ولأن هذا المجال شائكٌ وغريبٌ، فإنّ القليل من العُلماء المُؤمِنون بالتطور طرقوا أبوابه، ونتج كالعادة تفسيرات عجيبة، مثل أنه أصاب بعض البيوض قديماً جفاف أو مشكلات في المحيط، فاضطرت الكائنات التي فيها أن تخرج بحثاً عن الطعام قبل وقت تحولها إلى الطور البالغ، لذا حدث هذا الانتقال العجيب، وكما هو واضح هذا مُجرَّد خيال لا ينطوي على أي علم، مُجرَّد تخيل، وذلك لأن الكائنات في البيوض لا تأكل وكثير منها بلا فم أصلاً، الأكل والمضغ والاستفادة من الطعام والإخراج من صفات الطور البالغ [139] [139].

ما سيُدهشك حقاً ويُعيد إليك فكرة أنّ الدنا لا يقدم أي تفسير لشكل الكائن أو العضو المنتج للمرة الرابعة على الأقل، أنّ الدنا لكل الأطوار المُختلفة في الأشكال المُختلفة هو نفسه، ففي الفراشة التي تمر بأربع مراحل مُختلفة نجد أنّ الدنا نفسه ولا تغيير فيه، فكيف للجينات أن تكون نفسها ولها أربعة أشكال حيوية مُختلفة بالكامل! لو كان الدنا يبيّن المظهر الخارجي phenotype للكائن فلن يحدث التحول الظاهري لهذا الكائن، وهذا يُبيّن أنّ هُنَاك طبقة معلوماتية أخرى غير الدنا تتحكم في الشكل أو المخرج النهائي، وكما أشرنا سابقاً هُنَاك دلائل على أنها طبقة فوق الجينات [140]، وهذا يؤكد فكرة أن جميع التحولات مُخطط لها مسبقاً في نظام جاهز.

وهنا نرى أنّ التطور لا يُقدم تفسيراً لهذا الأمر المُدهش، والدنا يُظهر العكس، لا دلائل في السجل الأحفوري، فلماذا لا نقول أنّ هذا النظام المُعقَّد التصميم قد ظهر مرة واحدة بهذه الهيئة دون تعديل؟ ما العيب في هذا، لنقل هذا الكلام حالياً أفضل من أن نسمع جملة المُؤمِنين: إننا في المستقبل سنحل اللغز.

السُلُوك المبرمج

إنّ السُلُوك المبرمج أو الغريزة أو الفطرة من الأمور التي تُشغل تفكير العُلماء كما تُشغل تفكير الجميع، ففكرة اتخاذ دودة القز الأوراق الثابتة المُتعددة كوسيلة للتمويه من الطيور فكرة ألمعية، هذه الفكرة نتفهمها إن صدرت من إنسان ذكي يحاول البقاء على قيد الحياة، لكن أن تصدر من دودة لديها جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سُلُوكها الحياتي لهو أمرٌ صعب التقرير، دودة تفتقر للقدرة على تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف هو أمر مُعقَّد ويحتاج إلى مراجعة، فكيف تتمكن هذه الدودة أن تبتكر وسيلة دفاع معقدة وهي لا تملك ذكاءً أو آلية تفكير أو بعد نظر وتخطيط!

يرفض بعض العُلماء المُؤمِنون بالتطور التمسك بمفهوم الغريزة لأنّ تفسير السُلُوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السُلُوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يتوافق مع التطور بحيث لا يمكن الحديث عن السُلُوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل، هذا الرأي بدأ به تشارلز داروين، إذ اعترف بهذه الحقيقة فذكر أنّ سُلُوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديداً لصحة نظريته، ووصف الغرائز بأنها تمتاز بتأثير بالغ وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس.

إنّ التفكير في نشوء الغرائز أو كيفية ظهور الغريزة لأول مرة أو كيفية اكتساب الحيوانات لها لهو أمرٌ مُحير، وهي الأسئلة التي دائماً ما تُسأل من قبل المُؤمِنين وتكون الإجابة عليها من قبل العُلماء المُؤمِنين بالتطور هي: “تكتسب الحيوانات أنماطاً سُلُوكية عن طريق التجربة ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي، وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السُلُوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة”، وقد بتنا ماهرين في فهم أساليب الخيال العلمي لدى العُلماء، لذا سنناقش الغريزة بشكل فلسفي في الفصل القادم.

إنّ فكرة اختيار السُلُوكيات المُفيدة عبر الانتخاب الطبيعي لا يحل المُشكِلة القائمة، فما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية تناقل الغريزة، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود، وإفراز عاملات نحل العسل للشمع، يقتضي وجود نوع من الأنماط السُلُوكية المُعقَّدة كالتصميم والتخطيط للمستقبل، وهذا ما لا يمكن توارثه عبر الأجيال، إنّ سُلُوك العاملات القاصرات في مملكة النمل يتطلب منها أن تكون على دراية تامة بالحسابات وذات خبرة واسعة، كيف تَسنّى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السُلُوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر، ومن الخطأ أن نتحدث عن اكتساب الأنماط السُلُوكية الغريزية بالتطبع وتوريثها إلى أجيال لاحقة، لأن هُنَاك غرائز مُحيرة، كالتي يحظى بها النمل والنحل ولا يمكن اكتسابها بالتطبع.

ولا يمكن افتراض أنّ النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج، لسبب وحيد هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير فهي عقيمة، ولهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السُلُوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة.

كذلك كيف نفسر سُلُوك الكائن الحي المتطور الذي تعرض بناؤه الحيوي البيولوجي إلى تغيير، فالأسماك تمتلك صفات خاصة من حيث التكاثر والصيد والدفاع عن النفس وإنشاء منازلها بطريقتها الخاصة، وهي صفات تتوافق مع الوسط المائي الذي تعيش فيه، وهُنَاك أنواع من الأسماك تقوم بلصق بيضها تحت الأحجار الموجودة في قاع البحر ثم تقوم برفرفة زعانفها فوقها لتتيح لها أكبر كمية من الأكسجين.

أما الطيور فتضع بيضها في أعشاش ذات بناء خاص لهذا الغرض وترقد على بيضها مدة زمنية حتى يفقس البيض، بعض الحيوانات تقوم ببناء مساكنها على أطراف الأشجار العليا باستخدام الأغصان وقشور الأشجار، والطيور تُصمم أعشاشها باستخدام الأعشاب والنباتات، ثَمّة أساليب مُختلفة للحمل والولادة والرضاعة والعناية في كل الكائنات، وكذلك هُنَاك أسلوب خاص للصيد مُختلف لكل نوع من أنواع الأحياء، بعضها يبقى كامناً للصيد يكون فيها مُتَخفياً بلون المكان الموجود فيه، وحيوانات أخرى تعتمد على السرعة والمباغتة، وغيرها من الاختلافات بين كل نوع، لذا كيف تتمكن الكائنات في وقت قصير أن تغير من سُلُوكها المُبرمج هذا وتورثه بشكل كامل، فمن أسماك تفقس تحت الصخور، إلى أعشاش هندسية تُبنى فوق الأشجار بآليات تزاوج ورضاعة وإنجاب مُختلفة.

لكن، ماذا عن الإيثار في سُلُوك عاملات النحل؟ إنها تقوم بلسع أي حيوان يدخل إلى خليتها مع علمها يقيناً أنها ستموت، وتضحي بحياتها من أجل سلامة باقي أفراد الخلية، وكذلك يقوم ذكر البطريق وأنثاه بحراسة عشهما حتى الموت، فالذكر يسهر على رعاية الفرخ الجديد بين ساقيه طيلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، وتذهب أنثاه إلى البحر لتجلب الغذاء في تبادل مهم للأدوار، وماذا عن رعاية الكائنات المتوحشة لصغارها؟ أليس من المفترض أن تلتهمهم؟ من أين جلبت هذه العاطفة والحنان على أبنائها، الكثير من الأفكار التي لا تنتهي في عالم الحيوان عن الغرائز المُختلفة مثل الإيثار والفن والهندسة والتصميم والتضحية والتخطيط تجعلك تفكر في أنها أُودعت في الكائنات لأنه لا يمكن لآلية جينية أن تخزن شكلاً هندسياً لعش الطيور أو لخلايا النحل.

تمتلك حشرات القُرَّاد (القمل) القدرة على تحديد نوع الثدييات المارة من أمامها عن طريق رائحة حمض butyric acid الموجود في لبن الثدييات كما في السناجب، ومن غير المنطق أن تسأل إذا كان بمقدور السناجب أن تعُد إلى رقم عشرة؛ لأن العد في حقيقة الأمر غير مرتبط بحياة السناجب؛ فالسناجب بارعة في استرجاع المكسرات، ومن المعروف أنها تخزن الاحتياطي منها لفصل الشتاء، عن طريق تخزينها في ثقوب الأشجار أو دفنها تحت الأرض، كما وتحظى السناجب على القدرة على تذكّر المناطق التي أخفت فيها الطعام عند الحاجة إليه، ولا يمكننا أن نتنافس مع السناجب في هذه المهمة؛ فجنسنا البشري لا يحتاج لهذا النوع من الذاكرة لأجل بقائه كما تحتاجه بعض حيوانات الغابة لمواجهة برودة فصل الشتاء القاسية، وإلا لسادت السناجب.

تعقيد الكائنات

يحتوي دماغ الإنسان على ما يقارب ١٠ مليار خلية عصبية، ترتبط كل خلية فيه مع آلاف الخلايا الأخرى، مما يسمح للدماغ بتخزين ونقل المعلومات، وذلك عبر نقل الإشارات الكهربائية داخل الخلية والإشارات الكيميائية بين الخلايا في شبكة مُعقَّدة تمتد من الدماغ إلى الجسم، وهُنَاك ملايين الخلايا العصبية الحسية التي تحتوي مستقبلات تحوّل المُثيرات من البيئة كالضوء واللمس والصوت والرائحة إلى إشارات كهربائية تنقل للدماغ، كما وترسل خلايا عصبية حركية أخرى معلومات من الدماغ إلى العضلات والغدد المفرزة للهرمونات، وتنقل الخلايا العصبية الوسيطة المعلومات بين الخلايا العصبية الحسية والحركية [10].

وترى إنساناً يحظى بجسد مكون من 37 تريليون خلية، كل خلية فيها مولدات طاقة ومصانع وأجهزة تخزين وتشفير ونسخ بيانات وجسور ومقابر وشرطة ونواقل، وينظر إليك بعينين تملكان نظام تصوير مميز بدقة فائقة بآلية مدهشة لالتقاط وتخزين الصور في أجزاء من الثانية، وبجسده المذهل الذي تديره 640 عضلة، مع قلبه الذي يعمل منذ عشرين سنة بلا توقف، وآليات إدراك ووعي وتفكير لم يتمكن العلم من فك أدنى أسرارها بعد، ولا يزال فيه من الغموض ما يُمَكّنه من تحريك اللسان المرتبط بالفك بـ17 عضلة، ويسألك بغرابة: ما هو دليلك على تعقيد الكائنات؟!

إنّ طول شريط الدنا الموجود في الخلية الواحد يصل إلى 2 متر ولو تم توصيل كل شرائط الدنا الموجودة في كل خلايا الإنسان لملأت المسافة بين الأرض والشمس 100 مرة! وهذا ما دفع الملحد الشهير أنتوني فلو إلى الإيمان بوجود خالق بعد أن ألّف عشرات الكتب العلمية في المادية، وكان مُتَمسكاً برأيه حول عدم وجود خالق لهذا الكون ما يقارب نصف قرن!

تَخيَّل، 2 متر في الخلية الصغيرة! ولدينا 37 تريليون خلية في أجسامنا، كل خلية تحصل على الغذاء والطاقة وتخرج الفضلات وتتواصل مع غيرها في نظام متكامل، يستحيل أن يكون هذا الأمر نتاج صدفة ما، شريط الدنا في جسمنا يمكن أن يلف محيط الشمس 4 آلاف مرة على الأقل! والشمس أكبر من الأرض مليون مرة، وهذه الأشرطة ليست صماء، بل في كل ثانية يتم قراءتها ونسخها وأخذ المعلومات منها ملايين المرات! أرقام لا يتحملها العقل، هي نتاج الصدفة! أي عاقل يقول هذا! ولو قمنا بكتابة المادة الوراثية على ورقة بيضاء بحجم A4 لتطلب الأمر منا أوراق بيضاء سيصل طولها مرتبة فوق بعضها إلى ارتفاع ناطحة سحاب وهذا كله في الخلية الواحدة!

إنّ جسم الإنسان مليء بالأرقام، ولنكن سطحيين ونذكر بعضها، إذ يبلغ عدد العظام 206 عظمة، بينما يصل عدد العضلات إلى 640 عضلة، ويملك 24 ضلعاً، ويحتوي القلب على أربع غرف، وتبلغ درجة حموضة الدم 7.4، وعدد فقرات العمود الفقري 33 فقرة، ويبلغ عدد عظام الأذن الوسطى 6 عظمات، بينما يبلغ عدد عظام الوجه 14 عظمة، وعدد عظام الجمجمة هو 29، العضلات في الذراع البشرية وحدها عددها 72، ومتوسط ​​طول الأمعاء الدقيقة هو 7 متر، ومتوسط ​​طول الأمعاء الغليظة هو 1.5 متر، ومتوسط ​​حجم الدم من 4 إلى 5 لترات، وعدد العظام على القدم البشرية هو 33 عظمة، وعظام اليد 27 عظمة، وعدد عظام الأطفال حديثي الولادة هو 306 عظمة.

لو أردنا تدوين المعلومات التي يحتويها جينوم الإنسان (3,3 مليار زوجاً من القواعد)، بافتراض أننا سنكتب كل 1000 منها في كتاب يضم 100 صفحة، فإننا سنحتاج نحو 3300 كتاباً بهذا الحجم لكتابتها! نحن نتحدث عن نواة خلية بشرية واحدة، أما إذا قمنا بقراءة جينوم إنسان ما بسرعة ثانية لكل حرف على مدار 24 ساعة يومياً، فسنحتاج قرناً كاملاً لنتمكن من قراءة كتاب الحياة ويفض الهوى سرها المغلقا.

ويحتاج الكاتب الماهر على لوحة المفاتيح الذي يكتب بسرعة 360 حرفاً في الدقيقة في مدة ثمان ساعات كل يوم إلى ما يقارب 50 عام ليطبع كتاب الحياة دون أي خطأ وكأنه روبوت لا يخطئ، وإذا فردنا دنا أي إنسان يمكن لخيط الدنا المجمع الوصول من الأرض إلى الشمس ذهاباً وإياباً 600 مرة.

لو قمنا بجمع عشرات المصانع الحيوية في مصنع واحد، لما وصلت إلى الدور الحقيقي الذي يمارسه مصنع الكبد في جسم الإنسان، هل يظن أحد ما أن يكون مصنع شركة تيسلا لبناء السيارات قد جاء عبر عشوائية أنتجت هذه الدقة، أو فوضى أنتجت هذه المعرفة، أو لاوعي أنتج هذا الوعي، أو لامنطق أنتج كل هذا المنطق من العدم، أو أنّ مصنع تيسلا قد تحول بالصدف عبر الزمن من مصنع رقائق بطاطس قديم هجرناه ملايين السنين!، كل الذكاء البشري والخبرات البشرية والعمل ليل نهار لبناء مصنع بضخامة مصنع مثل شركة صناعة سيارات تترابط مع عشرات المصانع حول العالم المتخصصة في صناعة قطع ما لتتكامل في المصنع الأخير، وحتماً أي مصنع تركناه لملايين السنين لن يتطور بفعل الرياح والشمس والتفاعلات، بل سنراه مُسح عن الوجود بالفعل بعد مئات السنين بفعل قوانين الديناميكا الحرارية، فأنت لا تتوقع أن يتطور مصنع مركون من إنتاج الرقائق إلى إنتاج البسكويت، فما بالك بإنتاج سيارات ذكية، كما لا ننسى أن جميع العناصر الأساسية للحياة مركبات نشطة كيميائياً، وأي لقاء لها في الهواء الطلق، سيجعلها تتحلل حسب القوانين الفيزيائية والكيميائية، ولن تطول أيام انتظارها.

الحيوان الزومبي

رابط 13 Body Invaders | National Geographic

https://bit.ly/36pQkIT

على الرغم من جمال دبابير الزنبار الطفيلي Parasitoid wasp إلا أنها تحظى بدورة حياة شرسة مقارنة بالحشرات الأخرى، إذ تقوم أنثى هذا الدبور بالبحث عن ضحيتها لتبدأ بمهاجمتها على الفور بمُجرَّد أن تلمحها ويبدأ الهجوم بلسعة أولى بهدف تخديره ومنع مقاومته، وما إن تهدأ الضحية حتى تقوم بلسعه مرة أخرى، لكن هذه المرة برأسه وبسمٍ مُختلف عن السم الأول ليتسنى لها على إثره التحكم بالضحية، ثم تقوم بسحبه إلى حفرة كانت قد جهزتها مسبقاً لتقوم بدفنه فيها، تبقى الضحية حيّة طوال هذه الفترة إلا أنها لا تستطيع إبداء أي حركة أو مقاومة، في هذه الأثناء تبدأ اليرقة داخل جسم الضحية بالتهامها وهي حية حتى تكبر، وتخرج من جسمها حشرة بالغة مستعدة لإكمال دورة الحياة.

هُنَاك نوعٌ آخر من الطفيليات يقوم بمهاجمة الحلزون يدعى ليوكوكلوريديوم بارادوكسوم Leucochloridium paradoxum، يتحكم هذا الطفيلي بجسد وعقل الحلزون جاعلاً رأسه وقرونه بارزة للطيور الجارحة ليسهل عليها إيجاده واصطياده، وذلك عبر القيام بحركات متتالية يمكن ملاحظتها بسهولة، حتى تقوم الطيور بأكل الحلزون ويتكاثر الطفيلي ويكمل دورة حياته في داخل هذه الطيور.

رابط 14 Zombie Snails | World’s Deadliest

https://bit.ly/3jnPMqQ

أتساءل، كيف امتلك هذا الكائن البسيط هذه القدرة على الدخول إلى جسم الحلزون والسيطرة عليه بطرق كيميائية دقيقة، ومن ثم فهم أنّ الحركة بهذا الشكل ستجذب الطيور التي لها عيون، من أين له بكل هذه القدرة الخارقة للمنطق!!

رابط 15 ‘Zombie’ Parasite Takes Over Insects Through Mind Control

https://bit.ly/3cRZ3ET

تُلقب فطريات الأوفيوكورديسيبس بفطريات نملة الزومبي؛ لأنها تعمل على تغيير طبيعة النمل والحشرات التي تفترسها، إذ يبدو على الحشرة المصابة سُلُوكاً مغايراً عما عهدته الطبيعة عليها، مثل أن تمشي عشوائياً وتسقط بلا معنى، تغرس هذه الفطريات نفسها في دماغ وجسم الحشرات فتؤثر في وظائف الجهاز العصبي وحركات العضلات، وتدفع هذه الفطريات النمل إلى البحث عن مكان رطب وبارد كسطح أوراق النباتات السفلي وهي البيئة المثالية لتكاثر الفطر، دافعة النملة للعض على جانب الورقة، ثم تمنع عضلة فك النملة من تحريكها فلا تستطيع النملة أن تترك الورقة وتظل معلقة، لاحقاً تقوم الفطريات بقتلها لكي ينمو الفطر داخل رأسها، ثم تنمو أبواغ الفطر وتنفجر فتنشر الجراثيم التي تلتقطها مجموعات النمل الأخرى.

ويقوم دبّور الصرصور الزمردي بتحويل الصراصير إلى زومبي قبل أن تضع بيضها بعد أن تشل حركته مؤقتاً بواسطة سمها اللاسع، وتحقن مجموعة من السموم العصبية في دماغه، هذه السموم تمنع الحركات التلقائية والمُعقَّدة مثل المشي، ثم يكسر الدبور أطراف قرون الاستشعار الخاصة بالصرصور، ويسيطر على حركته بالكامل ليقتاده إلى عشّ قام بتجهيزه مسبقاً ليضع بيضه على بطن الصرصور، لتتغذى اليرقات على الصرصور بعد أن تفقس، ويظل الصرصور حياً لعدة أيام إلى حين تكوُّن الشرنقة، ولا يُبدي الصرصور أيِّ رغبةٍ في الهرب رغم أنّ أعضاءه تُنهَش.

أما طُفيليات الديدان الشعرية التي تعيش في المياه العذبة، تُصيب حشرات كالصراصير والجنادب لتنمو الدودة بداخله وتتغذى على أجزاء جسمه الداخلية، ثم تُنتج في مرحلة النضج بروتينات تقوم بحقنها في دماغ العائل لتتمكن من التحكم في جهازه العصبي، وفي ظل سيطرة الدودة يغوص العائل في الماء ويغرق المضيف، أما الدودة الشعرية فتخرج مواصلةً دورة حياتها في جسم عائل جديد.

بل حتى الكائنات الأولية وحيدة الخلية مثل التوكسوبلازما تقوم بهذا الدور، فهي تصيب الخلايا الحيوانية مثل خلايا القوارض، إذ تفقد الفئران والجرذان والثدييات الصغيرة غريزة الخوف من القطط ويجعلها تنجذب أيضاً إلى رائحة بول القطط لتزيد احتمالية وقوعها كفريسة، ثم تنتقل معه إلى أمعاء القط وتتكاثر بداخل أمعاءه، ويسبب هذا الطفيلي داء المقوسات لدى القطط، ويمكنه الانتقال إلى البشر مسبباً أمراضاً كثيرة [141].

وهذا ما يجعلنا نتساءل دائماً، من أين لتلك الكائنات الدقيقة هذه القدرة العالية جداً على السيطرة؟ من أين لها هذا الفهم الدقيق لأعصاب وعقول وآليات عمل الكائنات الأخرى لتتمكن من السيطرة عليها!

دببة الماء

صُنفت دببة الماء Tardigrade بأنها أعتى الكائنات على الأرض، وهي كائنات مجهرية تتحمل أقسى البيئات دون أن تتأثر أو تصاب بسوء، مثل الغليان أو التجمد أو السحق أو التجفيف أو حتى إطلاقها إلى الفضاء الخارجي فهي تبقى حية، وتستطيع هذه المخلوقات العجيبة أن تعيش في أي مكان، فقد أظهرت البعثة الفضائية TARDIS (دب الماء في الفضاء) والتي أُجريت عام 2007م أنّ بإمكان دببة الماء أن تبقى على قيد الحياة حتى في الفراغ الخاوي للفضاء الخارجي، وتُشير أبحاث أخرى إلى أنّ دببة الماء تعود لعصور غابرة تمّ تأريخ أحافيرها لفترة تعود إلى ما قبل 500 مليون سنة.

هل تستطيع أي نظرية تفسير كيف لدب الماء أن يستطيع تطوير جينات تتحمل الإشعاع الفضائي؟ في حين لم يستطع تطويرها أذكى المخلوقات، وهل فهمت الجينات والكيمياء آلية عمل الإشعاع بعد عدة تجارب أجرتها، ثم اتخذت قراراً ذكياً بكيفية التصدي له؟

صورة 12 دب الماء، المصدر Shutterstock

تستطيع دببة الماء الصمود في درجات الحرارة القُصوى، إذ بإمكانها البقاء على قيد الحياة في بيئات فائقة البرودة، في درجات حرارة تصل إلى 272.8 سلزيوس، وتُعتبَر الحياة من دون ماء مُستحيلة تماماً لمعظم الحيوانات، لكن هذا لا ينطبق على دببة الماء التي تستطيع الصمود أيضاً في حالات الجفاف الشديدة، وقد وجد الباحثون أنّ دببة الماء في حالات الجفاف تدخل في حالة سُبات عميق يتجعد فيها الدب إلى قشرة جافة كما لو أنه كائن غير حي، تستطيع هذه المخلوقات المُدهشة البقاء في حالة السبات لعدة عقود، إذ ينخفض النشاط الأيضي لدببة الماء إلى مستوىً متدنٍ جداً يصل إلى 0.01% من المستوى الطبيعي.

 تمتلك دببة الماء بروتينات فريدة مقاومة للجفاف، توجد هذه البروتينات بشكل هُلاَمِيّ (لزج) عند وجود الماء، لكنها تتحول إلى بنية شبه زجاجية في حالات الجفاف الشديدة فتحمي بذلك جميع المواد الحساسة للجفاف في داخل الخلية من التعرض للأذى، ففي عام 1995م، تم استعادة حياة دب مائي مُتيبس منذ ثمانية أعوام، كما بإمكان دببة الماء أن تتحمل تكوّن الجليد داخل خلاياها في حالات البرد القارِس؛ إذ تنتج مواد كيميائية تدعى عوامل الثلج النووية ice nucleating agents، التي تساعد على تشكيل بلورات الثلج خارج خلايا دببة الماء بدلاً من داخلها لتؤدي بالنهاية إلى حماية جزيئاتها الحيوية من التلف بسبب البرد الشديد.

كما بإمكان دببة الماء تَحمّل حالات الضغط الشديد والتي قد تؤدي إلى هلاك معظم الحيوانات على الفور، إذ تستطيع البقاء على قيد الحياة (في حالة السبات) تحت ضغط 600 ميغا باسكال، وبإمكانها أيضاً تحمّل كميات ضخمة من الطاقة الإشعاعية؛ فهي تحتوي على بروتين يدعى بالبروتين المرتبط بالـ DNA-associating protein Dsup والذي يحميها من أخطار أشعة X، وهذا ما يجعله كائناً خالداً من الموت عبر الظروف المحيطة.

وإذا حاول الناس التفكير في الخلود فعلى الأغلب ستدور في رؤوسهم تصورات مثل امتلاك قُدرات شفاء غير محدودة، وامتلاك القدرة على عكس عملية التقدم في السن بصورة غير محدودة (الخلود البيولوجي)، وأخيراً عدم القابلية للتدمير؛ أي عدم الموت مهما حصل من ظروف مؤثرة، وإذا حدث وتوفرت الصفات السابقة في كائن واحد فيمكننا القول عندئذ أنه كائن خالد، حسناً، هذا الكائن غير موجود، لكن هذا لا يعني عدم وجود كائنات تمتلك قدرات خلود جزئية كما دب الماء.

axolotl
يتمتع السلمندر المكسيكي Axolotl بقُدرات شفاء وتجديد خارقة، فتجديد الأجزاء المبتورة أحد أبسطها، مقارنة بإمكانيته لإعادة توليد أعضاء أكثر حيوية، بما يتضمن أجزاء من الدماغ، ويقبل جسده أية أعضاء تُنقل إليه ويقوم بإخضاعها إلى سيطرته بشكل كامل، بما يتضمن العين وأجزاء من الدماغ، أما القنديل الخالد Turritopsis Dohrnii، من الكائنات القليلة المعروفة التي تمتلك خلوداً بيولوجياً، إذ بإمكانه عكس تحوله الجنسي بالكامل إلى مرحلة ما قبل النضوج بعد أن يتخطى مرحلة البلوغ، ونظرياً بإمكانه فعل هذا الأمر لعدد غير محدود من المرات، هذا الأمر يُماثل قولنا أنّ هُنَاك شخص يمكنه العودة ليصبح طفلاً في كل مرة يبلغ فيها سن الثمانين، لعدد لا نهائي من المرات [142].

صورة 13 السلمندر المكسيكي المصدر: stock.adobe.com

الملاريا والبلهارسيا

تتكون دورة حياة البلهارسيا من مرحلتين: مرحلة في العائل الأساسي (الإنسان) ومرحلة في العائل الوسيط (القوقع)، تبدأ المرحلة الأولى بالتزاوج ثم تعيش الديدان الصغيرة في الأوردة الكبدية لفترة تقدر ب 5 – 8 أسابيع إلى أن تنضج الذكور جنسياً، يحمل الذكر أنثاه في قناة الاحتضان التي من دورها تهيئة الأنثى لنضج أعضائها التناسلية وتضمن حدوث التزاوج حتى تقوم بوضع البيض وهي مستقرة بداخله، لاحقاً، تضع الأنثى البيوض في الأوعية الدموية حتى تمتلئ الواحد تلو الآخر، وتحتوي هذه البيوض على شوكة لتُثبِتها في جدران الأوعية الدموية، في حين تعمل القشرة على إفراز مواد تُذيب الأنسجة لتساعد البويضة على اختراق جدار المثانة أو المستقيم لتصل إلى تجويفهما ومنهما إلى خارج جسم الإنسان [143].

شكل 52 دورة حياة البلهاريسيا.

تأتي المرحلة الثانية من دورة الحياة بعد أن تنتقل البيوض إلى الماء العذب، حين تخرج يرقات الميراسيديوم كاملة النضح، ويبحث الميراسيدوم عن العائل الوسيط (القوقع) المناسب له في غضون 30 ساعة وإلا فإن مصيره الموت، يخترق الميراسيديوم الأنسجة الداخلية للقوقع المناسب له ويتحول إلى كيس جرثومي يُسمى الإسبروسيست لتبدأ خلاياه بالانقسام لاجنسياً، إذ ينشأ جيل ثاني من الإسبروسيست ليترك الكيس الجرثومي بعد تحولها إلى يرقات تسمى السركاريا (الطور المعدي) الذي بدوره يخترق طبقة جلد للإنسان، فتتجه الأسبوروزويتات إلى الكبد مباشرة، وتقوم بقضاء فترة الحضانة لتلك الجرثومة بالكبد، ويتم فيها التكاثر اللاجنسي وتنقسم النواة وينتج عنها الميروزويتات، ومن بعد ذلك تنتقل إلى مجرى دم جسم الإنسان وتقضي فترة يتم فيها مرور عدة دورات لاجنسية، ينتج عن ذلك التكاثر “الميروزويتات” بعدد أكبر من التي تم إنتاجها في المرحلة السابقة.

تمكث الميروزويتات في جسم الإنسان، في مجرى الدم تحديداً لتعمل على تفتيت كريات الدم الحمراء مسببة ضرراً جسيماً، إلى أن تقوم بعوضة بلدغ الإنسان لتنتقل الميروزويتات إليها فتحمل البعوضة العدوى، وبذلك يتم نقلها لأشخاص آخرين، بعد ذلك يتم تحرير الأسبوروزويتات وتتجه في طريقها إلى الغدد اللعابية في البعوضة وتكون على هيئة أشكال حلزونية دقيقة للغاية، وتكون جاهزة للانتقال من خلال الجزء التي تقوم البعوضة باللدغ به وعبور جلد الإنسان وصولاً إلى مجرى الدم، لتعيد الدورة السابقة من جديد.

شكل 53 دورة حياة البلهاريسيا.

وفي الحقيقة لا أعلم أدق من هذا التصميم الهندسي المتكامل، دورة حياة في 3 كائنات بعدة تحورات كاملة، وكأن البلهاريسيا صُممت لتناسبها، وأي انقطاع في أي كان منها لانتهت البلهارسيا، ولا مجال للتطور في هذا الأمر، أعتقد أنّ الصورة واضحة من تكرار نقاش استحالة تطور الأجزاء على حدة، ولا يمكنني إلا أن أقول، سبحان المهندس!

خلد الماء

يُعد خلد الماء أو البلاتبوس أو منقار البطة أحد أغرب الكائنات الحية، إذ يمتلك البلاتبوس مجموعة من الخصائص المُختلفة من عدة أنواع مثل الطيور والزواحف والثدييات، فيشبه البلاتبوس في بعض وظائفه الطيور إذ يضع البيض، ولأنه من الثدييات فإنه يقوم بإرضاع صغاره، ويحظى بمنقار شبيه بمنقار البط لكنه يشبه الثدييات في امتلاكه فرواً أنيقاً يشبه فراء الثعالب، ويمتلك ذيلاً على شكل مجداف كالسنجاب، يتحرك مثل الزواحف لكنه ليس من الزواحف، ويختلف منقاره عن البط بأنه لحمي يستطيع الإحساس به، إذ يستطيع من خلاله البحث عن طعامه تحت الماء بواسطة نبضات كهربائية يطلقها من منقاره فيعرف بها مكان فريسته كما يفعل سونار الخفاش والحوت.


كذلك يتميز حيوان البلاتبوس بوجود غشاء بين أصابع قدميه مثل البط، فيقوم باستخدام قدميه الأماميتين كمجداف للحركة تحت الماء، في حين تحتوي القدمين الخلفيتين على مخالب حادة يستخدمها لزيادة سرعته أثناء السباحة أو الحفر، كما تحتوي هذه المخالب أيضاً سماً قاتلاً يستخدمه البلاتبوس لقتل أعدائه! وهو يُعد من الثدييات السامة القليلة، حقاً إنه حيوان عجيب وغريب.

صورة 14 البلاتبوس.

رسم توضيحي 53 تتميز بعض الكائنات الحية بقدرتها على عكس الأضواء تحت أنواع الأشعة المُختلفة، في الصورة على اليسار البلاتبوس، على اليسار في الأعلى العقرب، وفي الأسفل البندقوط، ويعتقد العُلماء أنها طريقة للتواصل بين الكائنات.

عند أول ظهور لحيوان البلاتبوس في بريطانيا، ظن العُلماء أنّ منقاره مُجرَّد خدعة، وأنّ شخصاً ما قد قام بتركبيه، لذا حاول أحد العُلماء إزالته بمقص قبل أن يتأكد أنه حقيقي بالفعل، ويدرج العُلماء البلاتبوس ضمن الثدييات، ولم يقم أحد بتصنيفه على أنه شكل انتقالي بين الثدييات والطيور رغم محاولات في بعض الأحيان، ويشبه البلاتبوس معظم الروابط المفقودة المفترضة بين الحيوانات، ومع هذا يتم إدراجه في إحدى المجموعات التصنيفية الحية ولا يدرج ضمن مجموعة تصنيفية مختلطة، ولكم أن تتخيلوا لو وجدنا هذا الكائن ضمن الطبقات ككائن منقرض سابق!

يحظى منقار البطة بالقدرة على عكس الأضواء المميزة تحت الأشعة فوق البنفسجية، كالتي يتمتع بها بعض الحيوانات الأخرى كالعقارب والسناجب والبندقوطيات، وهذا أمر لا يستطيع العلم تفسير حدوثه، ويميل العُلماء إلى اعتبار هذه الميزة خاصة بالتواصل والتزاوج بين أفراد النوع الواحد.

محار المياه العذبة

رابط 16 Natural Fish Lure | Lampsilis Mussel and Bass

https://bit.ly/34hyK7f

رابط 17 Riffleshell Epioblasma torulosa suffocates a darter

https://bit.ly/30qxu0I

يدفن محار المياه العذبة من نوع lampsilis ventricosa جزءاً من جسده في قاع النهر كباقي المحارات، لكنه يتميز بإخراج جزء منه على شكل سمكة لها زعانف جانبية مكتملة وذيل وحركة سمكية منتظمة، لكي يحاول السمك أن يتناولها، والسبب يعود إلى أنّ هذا المحار تحتفظ إناثه الحبلى خارج جسدها الرخو بصغارها داخل جراب مُنتفخ يشبه تماماً السمكة، وتعرّض الأنثى صغارها لهذا الخطر لأنها تريد ذلك، فدورة حياة الصغار لا تتم إلا داخل خياشيم الأسماك حتى تتطفل عليها، أي أنّ السمكة الزائفة مُجرَّد شرك لجذب الأسماك لمحاولة أكله، وحين تنقض هذه السمكة على الشرك أو الطعم لأكله تتحول من صياد إلى فريسة، ثم في خطوة خاطفة تنفث المحارة يرقاتها في فم السمكة فتنتقل يرقاتها مباشرة إلى خيشوم السمكة لتتغذي اليرقات على دمائها.

يستخدم هذا المحار طرقاً مُختلفة لنصب الفخاخ، منها استخدام بعض أجناس المحار للإضاءة أو استخدام الألوان المُبهرجَة، بل ونجد أنّ المحار Lampsilis Ventricosa يستخدم طرق خداع فوق إبداعية، إذا يفصل سمكته الزائفة عن جسده الأساسي، رابطاً إياها بخيط طويل لا تراه الأسماك الأخرى، ثم يقوم الماء بتحريك هذه الجزء المخادع ليبدو كما لو أنه سمكة تسبح.

يُعد ابتكار الأشراك الذكية سمة مرتبطة بأجناس هذه المحارات، والمُذهل أكثر في هذه العملية كونها انتقائية، إذ تصنع المحارة الطعم حسب طبيعة السمكة المُتطفِلة.

إذن كيف لهذه الأساليب فوق العبقرية أن تكون جاءت نتيجة جانبية كالطفرات العمياء، وكيف يمكن للانتقاء الطبيعي أن يقف وراء جميع الابتكارات الحيوية، كما لا أتصور كيف للمحارة أن تعرف أنّ خياشيم هذه الأسماك تحتوي على دماء فقامت بإجراء تعديلات جذرية في أطفالها وطورت كل هذه الآلية ليلتصق أطفالها في الخياشيم بدلاً من إطعامهم بطريقة أخرى أبسط، هل تستطيع المحارة فحص الخياشيم وتحديد إذا كان طعمها لذيذاً أم لا، وأنها تحتوي على حديد وبروتين فيجب أن نوجه أبناءنا لتناول هذا الطعام ونطور كل هذه الآليات! أليس من المنطق القول أنّ هذا التصميم تم بواسطة مصمم يعرف البيئة والضحية والفريسية والمواليد الصغار وقام بوضع خطة متكاملة! فضلاً عن التفكير في عبقرية الحيل.

ضفدع الخشب

تتصدى الكائنات الحية في المناطق الباردة لانخفاض درجات الحرارة عبر طرق متنوعة كالهجرة واكتناز الدهون والجلد السميك أو حتى عبر الفرو الكثيف أو البيات الشتوي وغيرها من الآليات المعروفة، لكن الاستراتيجية التي يقوم بها ضفدع الخشب مُذهلة بحق، إنه يتكيف مع حرارة التجمد ويستسلم له!

ما يحدث مع ضفدع الخشب wood frog, Lithobates (Rana) sylvaticus أمرٌ يتحدى قوانين الأحياء في تعريف الحد الفاصل بين الموت والحياة، فهو يُجمِّد أغلب ماء جسده ويتحول إلى قطعة من الجليد، يستمر في هذه الحالة عدة أسابيع دون أي إشارة فعلية تدل على الحياة، فقلبه يتوقف تماماً عن النبض، وتتجمد الدورة الدموية، لا تنفس ولا أي نشاط دماغي، فقط مجموعة من الخلايا تعمل دون وجود أعراض كائن حي.

العديد من الآليات يقوم بها لتجاوز هذه الحالة الخطرة، ولحماية خلاياه من التلف أثناء تشكل بلورات الثلج ذات الأطراف الحادة، ينتج بروتينات هيكلة الجليد أو ice-nucleating proteins في محيط الخلايا لتسمح بتحويل السوائل إلى بلورات ثلجية بعيداً عن الأغشية حتى لا يصيبها أي ضرر، وفي الأثناء نفسها يطلق هذا الضفدع المبردات Cryoprotectants وهي مواد تعمل على خفض درجة حرارة تجميد الخلايا، والمبردات هي مواد كيميائية ذات تركيز مرتفع مثل الجلوكوز واليوريا [144].

مساكن الطيور

تنتشر الطيور في جميع أنحاء العالم، وتقطن الطبيعة في أعشاش ومساكن تختلف في أحجامها وأنواعها، فقد تم تصنيف نحو عشرة ألاف نوع تقريباً، ويمتلك كل نوع من هذه الطيور عُشاً خاصاً به ليضع به بيضه ويحميه من خطر الأعداء.

يجيد مهندسو الطبيعة الصغار تشكيل سلال منسوجة بإتقان من النباتات والخشب وخيوط العنكبوت والطين، إذ تستخدم هذه الطيور مناقيرها وأرجلها في جلب وخياطة تلك الهياكل المُذهلة، كما وتستخدم بطونها لتصميم التجويف المناسب لوضع البيض بأمان، وتستغرق عملية البناء والتصميم البديعة تلك من أسبوع إلى أسبوعين، هل تصدق؟ هذا الكائن الصغير يُصمم منزله بكل تلك المهارة دون الحاجة إلى معلم أو استشارة والديه، وأنّ ذلك الإتقان وتلك المهارة المدموغة في طبيعتها موجودة في المعرفة القبلية لديها، في عقلها تولد متعلمة كيف تبنيه، ولو تم فصلها عن أهلها ولم تراهم، فإن هذه الطيور ستبني الأعشاش نفسها!

شكل 54 أعشاش الطيور الهندسية.

على سبيل المثال، تستخدم طيور التعريشة Bowerbird أسلوب التودد لجذب الإناث في موسم التزاوج، إذ يقوم ذكر طائر التعريشة ببناء عش على شكل تعريشة جميلة ومُنمقة، ويُزين مدخل عشه بالعديد من الصخور الملونة والفواكه الجميلة والأعشاب الزاهية ليجذب الإناث إليه، في مشهد درامي وتخطيط رومانسي يفوق رومانسية دون خوان دي ماركو.

شكل 55 أحد نماذج عش طائر التعريشة.

أو كما يفعل طائر الكافور القزمي في بناء عشه المميز عبر حفره في الأرض بمساحة قد تصل إلى 34 متر مربع، أو كما تفعل طيور اليقنة أفريقية حينما تضع بيوضها في مركب متحرك في المسطحات المائية، أو كما في الحائك الاجتماعي Sociable Weaver التي تنسج أكبر عش في عالم الطيور كله، فقد يحتوي العش على 100 غرفة منفصلة ومجهزة بعصى ضد هجوم المفترسات كالثعابين، كذلك نرى العجب في طائر الفران الذي يصنع عشه من الطين كما لو أنه يبني فرناً طينياً حرارياً، أو كطائر الرميزية الذي يبني مدخلين لعشه، أحدهما مزيف في الأعلى والآخر حقيقي في الأسفل،

رابط 18 The Indonesian Mimic Octopus

https://bit.ly/3jpLGyn

الأخطبوط المقلد

تحظى الأخاطيب بقدرة مُدهشة على التمويه، فهي تقوم بتغيير ملمس ولون جلدها متجنبةً بذلك مفترسيها، لكن الأخطبوط المقلد Mimicus Thaumoctopus أذهل الجميع بقدرته على تغيير أبعاد جسده ولونه بدرجة فائقة كما لو أنه طينة تشكيل لينتحل مظهر حيوانات بحرية أخرى مثل ثعابين البحر والأسماك المفلطحة بل وحتى سمكة الأسد، وهي استراتيجية عبقرية يستخدمها لتجنب الحيوانات المفترسة.

التعايش والتطفل

تتعايش الكائنات سوياً أو تتقايض أو تتعاون أو تتبادل المنفعة، فنحن البشر على سبيل المثال نتنفس ما تخرجه الأشجار، وهي تقتات على ما نزفره، في عملية متكاملة لاستمرار الحياة على الأرض وحفظ المصادر وعدم هدرها، وتترابط الكائنات الحية بعدة صور على رأسها التكافل الذي يشكل علاقة وثيقة بين كائنات حية من أنواع مُختلفة، فهُنَاك الطيور التي تلتقط المواد الغذائية من فراء الغزلان، وتتيح الغزلان ذلك بكل سرور لتخلصها من الديدان والحشرات المتطفلة في فرائها، وتعيش أسماك المهرج بين أذرع زنبقة البحر، وتتمتع بحماية أذرعها الحارقة، وتلتقط زنبقة البحر بقايا الطعام التي تسقط من فم السمكة، وكلما ابتعدت أسماك المهرج عن أذرع زنبقة البحر، تعرضت للافتراس والخطر، وهي العلاقة نفسها بين رجل الحرب البرتغالي Portuguese man o’ war وهو نوع من قناديل البحر، وبين سمكة صغيرة تدعى نوميس البيولا Nomeus albula.

هُنَاك علاقة أخرى موجودة بين الأسماك القوبيونّة والروبيان، فهما يعيشان معاً في جحر في قاع البحر، إذ يحفر الروبيان الجحر ويبقيه نظيفاً، ويحرص على إزالة الرمل من أمام فتحته، وتقف الأسماك القوبيونيّة على باب الجحر لتحذر صديقها الروبيان الأعمى من الخطر، ويحرص الروبيان على لمس ذنب الأسماك القوبيونيّة بواسطة مجسّاته، وتقوم الأسماك القوبيونيّة بإصدار الإشارات له من خلال حركات الذيل للتحذير من الخطر.

كذلك يتغذى طير القراد Tick bird على الحشرات المتطفلة التي تصيب جلد فرس النهر، وكذلك نرى طائر النياح شوكي الجناح Spur-winged أو طير التمساح دائماً في صحبة التماسيح، وتصاب التماسيح بديدان العلق Leeches التي تتغذى عليها الطيور، وبذلك تتخلص التماسيح من طفيلياتها، أما زاحف طراطرة Tuatara فيقطن في أعشاش بعض الطيور التي تبني أعشاشها على الأرض وخصوصاً طيور البحر المسماة بطيور النوء Petrels وهي تحفظ العش نظيفاً من الحشرات والطفيليات إلا أنها قد تأكل بيض العصافير أيضاً إذا لم ينتبه لها الطائر.

وتُصاب الكثير من الخنافس الكبيرة بطفيليات صغيرة تدعى الحلم Mites، يعيش على جسم هذه الخنفساء الكبيرة عُنكبيات تسمى بالعقارب الكاذبة Pseudo scorpions تتغذى على الحلم، فتظهر العقارب الكاذبة كعقارب صغيرة لتخيف المفترسين، وتكون بعض الأزهار مُهيَّأة، إذ يمكن إخصابها بواسطة أنواع معينة من الحشرات، التي تزورها لجمع الرحيق Nectar، ويعتبر هذا نوعاً من الارتباط أو التعايش بين النبات والحيوانات يستفيد منه الطرفان.

أما في علاقة التطفل فإن الطفيلي يكسب حين يعيش على أو في مخلوق آخر، والحاضن يخسر، فالبكتيريا والفطريات مصممة بدقة لتتطفل على كائنات أخرى كذلك قمل الرأس وقرادة الكلب، يتطفل قمل الرأس على فروة رأس الإنسان ويتخذ منها مأوى له كما توفر له الغذاء الكافي والبيئة المناسبة للتكاثر، في حين يتضرر الإنسان من وجود القمل بشكل كبير، وقد يصاب الإنسان بالعديد من أنواع الديدان كالإسكاريس والدودة الشريطية وغيرها، وتشاطرنا الغذاء وهذا ما يُؤَدِي إلى ضرر بالغ للإنسان، كذلك البعوض الذي يشعر بمهمة وطنية حين يتناول وجبة دسمة من الدماء التي تشبع جوعه الدائم.

أما في علاقة المُعايشة فهُنَاك رابح يستفيد من العلاقة، لكن ليس هُنَاك خاسر لأن الطرف الآخر لا يتأثّر بها، على سبيل المثال، البرنقيل هي سرطانات صغيرة تعيش في الماء وتلتصق بظهور الحيتان أو قواقع السلاحف، توفّر الحيتان والسلاحف للبرنقيل عائلاً متنقلاً، كذلك حماية من الحيوانات المفترسة وفرصاً للعثور على الغذاء من دون أن تتأثّر هي نفسها بذلك.

من أهم أسباب عيش الحيوانات في تجمعات هو التحذير من الخطر المُحدق عبر توفير وسائل دفاع وتنبيه ذات جدوى مرتفعة، على سبيل المثال ترفع الأرانب ذيولها بشكل قائم في حال الإحساس بالخطر لتنبيه أفراد القطيع، وتقفز الغزلان كما لو أنها تؤدي رقصة، أما الطيور الصغيرة فتُصدر أصواتاً مُحددة في حال أحست بالخطر، أما الكلاب البرية التي تعيش ضمن مجموعات تضع حراساً مناوبين على مداخل محيطها ويبدأ بنُباح متصل إن رأى أحدهم شيئاً يقترب.

مئات صور التطفل بين النباتات نفسها أو بين النباتات والحيوانات، أو بين الحشرات والنباتات أو الأشنات والطحالب، مئات الصور بين الكائنات المُختلفة كلها تشير إلى تكامل هندسي لا غير، لأن هذه الكائنات بسيطة وليست عاقلة لتفهم في السياسة، لتفهم الألعاب غير الصفرية، وتفهم نظرية السجينان ونظريات الألعاب ككل، والتي توصلنا إليها في القرن الماضي فقط، كذلك يجعلنا نتساءل عن كيف تهيأت كائنات دنيا للتطفل أو التعايش مع كائنات من المفترض أنها ظهرت بعدها بملايين السنين، هل كانت تعرف المستقبل؟

الخاتمة

إنّ ما تم ذكره في هذا الفصل حول الخلية ومكوناتها وآلية عملها هو جزءٌ صغير من تعقيد عمليات الحياة، وأنا أنصح بقراءة كتب علم الأحياء والكيمياء الحيوية لرؤية كم أنّ الحياة مُعقَّدة فوق تخيلات العقل البشري، وأنها ليست مُجرَّد مزحة عابرة، وهي مدهشة التركيب والتصميم وتجعلك حائراً لما يحدث في نبات واحد، فما بالك بكائنات كاملة مُعقَّدة!

حاولت توضيح الفكرة حول جهل العُلماء بمصدر الخلية الأولى، وتوضيح جزء من تعقيد الخلية وتكوين البروتين والدنا والرنا، وأنّ الدنا لا يمثل شخصية الإنسان، وأنَّ هُنَاك الكثير من الأمور التي لم يكتشفها العلم حول كيفية بناء جسم الإنسان من الدنا، وتوضيح التطور وأفكاره السائدة والعقبات التي تمنع العقل أن يتقبله، فالعقول لا تؤمن بالاحتمالات المُستحيلة، ثم استرقنا النظر إلى بعض الكائنات المغمورة في سبيل تبسيط وإيصال الفكرة.

أتصور أنه بعد مرور بضعة عقود من الزمن سيكون هذا الفصل بلا معنى، لأن العلم سيكون قد حسم أمر التطور وستصبح نظرياته من الماضي، أو أنها ستصبح حقائق علمية، وأنّ ما كتبته هو جهد وُلد ليعيش بين جدران السنوات القادمة، وما خلف هذه الجدران هو الموت الحتمي، سيقول العُلماء عن هذين القرنين قرني الجنون، فكيف لهذه البرتقالة الجميلة اللذيذة ذات الألوان الدافئة والرائحة الأخّاذة أن يصدق بعض البشر أنها جاءت نتاج صدفة ما وأنها كانت بالصدفة مهيأة ليأكلها ويستفيد من موادها الكيميائية بدقة متناهية.


إِنَّ في صَدري يا بَحرُ لَأَسراراً عِجابا ….. نَزَلَ السِترُ عَلَيها وَأَنا كُنتُ الحِجابا

وَلِذا اِزدادَ بُعداً كُلَّما اِزدَدتُ اِقتِرابا ….. وَأُراني كُلَّما أَوشَكتُ أَدري

لَستُ أَدري

إِنَّني يا بَحرُ بَحرٌ شاطِئاهُ شاطِئاكا ….. الغَدُ المَجهول وَالأَمسُ اللَذانِ اِكتَنَفاكا

وَكِلانا قَطرَةٌ يا بَحرُ في هَذا وَذاكَ ….. لا تَسَلني ما غَدٌ ما أَمسُ إِنّي

لَستُ أَدري

الباب الثالث: فلسفة

مقدمة

يُعد علم الفلسفة أحد أهم العلوم التي أهملناها وما زلنا، وعلى النقيض من كل العلوم، فإنّ علم الفلسفة يهتم بطرح الأسئلة ولا يهتم بالأجوبة نظير اهتمامه بالأسئلة، إنه علمٌ يشجع على التفكير، هو علمٌ يبحث عن إجاباتٍ لمشكلاتٍ غالباً لن تكون نهائية، نبحث نحن البشر دائماً عن إجابات مُجرَّدة ونهائية تُريحنا وتُخرج عقولنا من طور المعركة، لكن هل نستطيع في رحلة الحياة الحصول على إجاباتٍ نهائيةٍ مُحددة وقاطعة؟ هل تمنحنا الحياة إجاباتٍ تبعثُ على اليقين والراحة؟ هل لو أتعبنا أنفسنا في إيجاد إجابة كاملة مُطلقة لوجدناها؟ هل هي موجودة في هذا الكون؟ هذه التساؤلات وغيرها من الأفكار المتناثرة سنعرضها هنا سوياً.

مسيرة الفلسفة

إنّ حصر مسيرة الفلسفة في سطور يَئِد آلاف بل ملايين السنوات من أعمار العباقرة في مصباح صغير، لا تليق بقدرة ما فيه، ولا تليقُ بالإمكانات الهائلة التي قدمتها الفلسفة لهذا العالم، لكن علينا تقبل وجود الجني في المصباح، وعليك أن تفهم أنك علاء الدين، وكل ما عليك فعله هو دعك الكتب لترى العالم من زاوية أخرى.

تبدأ الفلسفة من العصور القديمة، في الغالب من العصر اليوناني ولكن أول من سنبدأ معهم هم أفلاطون وسقراط وأرسطو، وقد لُقّب أرسطو بأبو المنطق؛ إذ قام بوضع أسس المنطق التي أصبحت لاحقاً مفتاح كل صاحب تفكير سليم، وسيتجلى لنا هذا في تفكيره في السببية والغائية، واقتراحه بأنّ هُنَاك علة أولى وهي الافتراض المسبق بوجود الله، ولربما نظريته الفطرية هي الأهم، إذ يؤكد فيها أفلاطون ما أكد أستاذه سقراط من قبل على أننا نولد جميعاً بنوع من المعرفة، فعلى سبيل المثال جميعنا يعرف أنّ الكثير حينما نأخذ منه يقل، والموجب مع السالب يتعادلان، وذلك في نظره لأننا نملك أنفاساً خالدة كان لها وجود سابق، وكل ما في الواقع نتذكره مما مضى، وهذا ما قاده إلى فكرة وجود عالمين، العالم الحالي المألوف، وعالم آخر هو عالم المُثل أو عالم الصور الكاملة، وهو عالم القوالب الأساسية التي نستمد منها الأفكار الأساسية الكاملة، فالكرسي الذي أمامنا ما هو إلا صورة أو نسخة من صورة كاملة في عالم ما، عالمنا محاكاة لما في عالم المُثل، والسبب يعود في وجود هذا العالم أننا حين ننظر إلى شجرة ما فإننا نحكم عليها جميلة أو غير جميلة بناءً على صورة كاملة في خيالنا أتينا بها من عالم المُثل عن شجرة كاملة بهيئة معينة، ورغم أنّ الإنسان هنا على الأرض، إلا أنّ روحه تنشد العودة إلى موطنها الأصلي بين الآلهة، لأنّ فطرة الإنسان مدموغ فيها بقايا من صور ذلك العالم الجميل، هي الأصل والمرجع الذي يقارن به كل ما يراه في عالم الواقع، وكلما واجه في هذا العالم جمالاً، اعتبرت روحه صورة باهتة عن الأصل في عالم المثل، فضلاً عن محاولة أفلاطون تفكيك الأشياء بين المركب والبسيط، والاعتماد على المفارقات في فهم الأشياء، وغيرها من الأفكار التي تعد أساس علم الفلسفة، كانت ولا تزال تُناقش عبر الأزمان، وما الفلسفة إلا حواشي على أفلاطون.

بشكلٍ عام فكل علم الفلسفة وإضافات الفلاسفة من بعد أفلاطون وأرسطو، إما تتفق مع أرسطو في الاعتماد على الحواس، أو تتفق مع أفلاطون في الاعتماد على العقل وهذا ما سيتم توضيحه.

حاول أوغسطينوس بعد أفلاطون فهم الخير والشر، فأعاد قول من سبقه بأنّ الشر هو غياب الله، وأنّ الشرَّ لا يأتي إلا من عصيان كلام الله، فالخير من الله، أما الشر فهو من صنع البشر حينما يبتعدون عن الله، وشكر أوغسطينوس الخالق على إتاحة حُريّة الاختيار لنا، وإلا كان من الممكن أن يخلقنا أخياراً وانتهى الأمر، ولكنَّ البشر استخدموا تلك الحُريّة في ارتكاب الشرور، وكما عهدت البشرية مناقشة ثنائية الإنسان، المادة والروح، فقد ناقش أوغسطينوس هذه المسألة واعتقد بوجود الثنائية مع عدم خلود الروح [145] كذلك اعتمد على الغائية في الانطلاق إلى مفهوم وجود العالم.

ثم جاء توما الإكويني الأشهر في مجال اللاهوت المسيحي، إذ تَبَنّى كل ما قاله أرسطو في مجال الفلسفة تقريباً، ومنحه سمةً دينية، وهكذا أصبحت أفكار أرسطو جزءاً من الدين، ورأينا دوره في الفلك سابقاً وكيف ثبتت أفكار توما لأنها جاءت بصبغة دينية وأصبحت حجر الأساس لمن بعده، وكالمعتاد أدار نقاش حول الإنسان وانتهى بما أقرته الأديان السماوية، أنّ الإنسان يتكون من عقل وشهوة وعليه أن يسمو بعقله عن شهوته.

ومع بداية الاكتشافات العلمية وخصوصاً ما تمّ على يد كوبرنيكوس وغاليليو وكيبلر انكسر حاجز الخوف في أوروبا بين العلم والدين وانطلق الفلاسفة، ونذكر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر مع مارثن لوثر الذي رفض قوانين الكنيسة ورفض صكوك الغفران ورفض الوساطة مع الله ورفض بعض الأسفار (الأبوكريفا) وغيرها، وانطلق المذهب البروتوستانتي الإصلاحي ففتح باب التفكير على مصراعيه وأعاد النظر في مُسلمات الكنيسة، ثم بدأت في عصر النهضة رؤية جديدة للإنسان، فالإنسان بات الآن شيئاً مميزاً ويجب التعمق في فهمه وتسليط الضوء عليه.

وكانت معركة أخرى مشتدة بين العقل والحواس، من يأتي أولاً؟ ومن المسؤول عن المعرفة؟ كان من المهم فهم هذه المسألة في العلوم وذلك للبناء عليها لاحقاً، فجاء ديكارت الذي أكّدَ ما أكّدَه أفلاطون حول كون العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة وليست الحواس؛ لأن انكسار الضوء في الماء مخادعٌ، وحواسي ترى الأشياء على غير حقيقتها لكن عقلي يعرف الحقيقة، ولنكون متأكدين من هذا القرار يجب علينا أن نحذف كل الأفكار السابقة ونبدأ من جديد، نبدأ العمل على أرضية قوية وننطلق.

إنه من الجيّد أن نشك في كلِّ شيءٍ كان مُسلّماً، لهذا يُسلّم ديكارت -مؤسس الفلسفة الحديثة- بمبدأ الشك، فقد انطلق فيه وقام بتجزئة المشكلات وحلّها وكأنها مسائل رياضية ببرهان واضح عبر عدة قواعد إجرائية بسيطة، ولقد شكّ ديكارت في إمكانية وجود جسمه من الأساس، ولكن ما دام الإنسان يُفكر، إذن هو موجود، ومرة أخرى تعمق ديكارت هو الآخر في موضوع الجسد والعقل وظلت الفلسفة تائهة من بعده تبحث عن إجابة.

أعادت قوانين نيوتن عبر تفسير الحركة وتفسير القوانين الطبيعية للمادية وجودها ضد المثالية، فالمادية تقول أنّ جسد الإنسان يتكون من المادة وكذلك روحه وضميره، وأن المادة سابقة للوعي وهذا ما كان يقوله الفيلسوف توماس هوبس متماشياً مع ما قاله ديمقراطيس قبله بألفي عام، ويصف مبدأ المثالية الإنسان بأنه مكون من جسد وروح، أي أنّ الإنسان مكون من مادة وشيء آخر ليس من هذا العالم، وبذلك عادت عقول الفلاسفة إلى العمل من جديد وعادت معركة المثالية والمادية، نتج عن هذه المعركة فكرة أن الإنسانُ آلةٌ كبيرة تعمل وفق القوانين المادية والتفاعلات الكيميائية، وعقله كذلك مُجرَّد تروس ميكانيكية وبعض التفاعلات الكيميائية أي أنّ الإنسان محكومٌ بقوانين المادة وتفاعلاتها، وهي من توجد وعيه، إذ يمكن التحكم بأفعال الإنسان ديناميكياً وكيميائياً، كذلك يمكن توقعها عبر دراسة المعطيات السابقة واستنتاج المخرجات اللاحقة، والأهم من هذا الإنسان ليس مُخيراً، بل مُسير حسب قوانين المادة وهذا ما تم نقاشه فلسفياً في العالم سابقاً تحت مسمى الجبرية.

يحاول سبينوزا في القرن السابع عشر متأثراً بديكارت فهم جوهر عمل الأشياء، فكيف يمكن للقرار العقلي أن يدفع شيئاً مادياً كالجسد؟ وكيف يمكن العكس حين يؤثر الجسد في العقل؟ ومن ثم سيفكر في القانون الأخلاقي عبر طرحه لسؤال: هل نستطيع بالنور الفطري أن نتصور الله كمشرع يسن القوانين البشرية؟ ومع بروز سبينوزا سيخبو دور العقلانيين وسيبرز دور التجريبيين (الماديين) لأنّ سبينوزا رفض ثنائية ديكارت.

سيقود قطار الفلسفة الفلاسفة التجريبيون أمثال جون لوك وبريكلي وديفيد هيوم، الذين يعتمدون في المعرفة على الحواس قبل العقل، إذ كان يعتقد أرسطو أنّ لا شيء يوجد في العقل (المعرفة القبلية) قبل أن تكتشفه الحواس (من إنتاج التجارب)، وقد بدأ جون لوك بفكرة بسيطة عمادها أنّ جميع الأفكار في عقلنا تشكلت نتاج تجاربنا المُختلفة، ومن المُفترض أن يُولد الإنسان كتاباً أبيضاً لتقوم التجارب لاحقاً بخط الكلام فيه، هذه التجارب تنتج عن الحواس كالنظر والشم والتذوق، ولا يقبل العقل نتاج الأفكار بسهولة بل يُحاربها ويُواجهها ثم تنطبع تلقائياً في عقله، وهذا ما أكده الفلاسفة بأننا نولد بقابليات وليس بأفكار، وقد انتهى لوك إلى أنّ هُنَاك نوعان من مصادر التجربة، المصدر الأول وهو الإحساس الخارجي الذي يتم عبر حواسنا، أما المصدر الثاني فهو الإحساس الداخلي الذي يتم بواسطة استشعار أفكار داخلية كالتفكير والشك والاعتقاد والإرادة، وكل شيء في عقولنا جاء عبر أحد هذين الطريقين.

وفي هذا المسار لم يُعجَب ديفيد هيوم بمبدأ الاستقراء فحاول أن يفسر السببية بطريقة خالفت العُلماء في عصره، كما حاول تفسير الأخلاق بفكرة المذهب الذاتي، وكونك ترى شخصاً شريراً، فهذا يعني أنك تكرهه بالدرجة الأولى.

يأتي في زمان هيوم الأسقف الإيرلدني جورج بيركلي ليضيف لمسة إلى المثالية، إذ قال: إنّ الموجودات المعتادة في حياتنا كالشوكة والسكين ما هي إلا أفكار في عقول من أدركها حسياً، أي أنها غير موجودة إلا بعدما أدركناها، وأنّ هذه الأفكار تحفظ في جزئية الروح وليس في جزئية المادة، وذهب بيركلي إلى أبعد من هذا حينما قال إنّ الاعتقاد بوجود الله أسهل من الاعتقاد بوجودنا، ولم يكتفِ بيركلي بالتشكيك في الأمور البسيطة، بل شكك بالفضاء والزمن وأنها ما هي إلا أفكار بعيدة عن الحقيقة المطلقة.

اعتقد كانط أنّ معرفتنا بالعالم لا يمكن أن تأتي عبر التجارب وحدها، وهو أول فيلسوف أقر بأنّ كلاً من العقلانيين والتجريبيين كانوا على خطأ، وأنّ العلم البشري يستطيع أن يدرس العالم المرئي لنا عبر حواسنا، لكن العالم الذي لا نستطيع رؤيته عبر حواسنا (العالم الميتافيزيقي) هو مهمة الدين، لذلك يجب على العلم والدين ألا يتصارعا، لأن لكل منهما مساره الخاص، وفي الحقيقة نرى أنّ هذه الجملة سبقه بها الفيلسوف ابن رشد.

رسم توضيحي 54 مدرسة أثينا، للفنان الإيطالي رافائيل عام 1509م، تصف الفلاسفة وهم يتحاورون، ومن بينهم الفيلسوف ابن رشد.

مع نهاية هذه الفترة انتهت الخلافات بين العقلانيين والوجوديين، وابتدأت الفترة الرومانسية في أواخر القرن التاسع عشر بدعوة أخذ النفس من قيود كانط على العقل وبزوغ فكرة الأنا ونظرتي الخاصة للعالم والاستمتاع في الدنيا والاندماج مع روح العالم، مما أدّى إلى ظهور الأشخاص المميزين وإبراز الأنا الفعلية للإبداع من الفن والرسم والموسيقى، والميل للكسل والحب والحنين للماضي وسحر الشرق وأسراره وغيرها، وهذا ما جلب لنا لاحقاً الفن السريالي.

يُعتبر الفن في الفترة الرومانسية وسيلةً للتعبير عن المعرفة والأفكار، فمن سيمفونية القدر لبيتهوفن، إلى لوحات فينسينت فان كوخ المُختلفة، وغيرها من الصور التي تحاول الإجابة عما عجزت عنه الفلسفة بكلمات اللُغة الضيقة عبر انسياب الأفكار والأحاسيس في اللوحات والموسيقى والمنقوشات والتماثيل بما يُلغي الحدود بين الواقع والخيال، فقد أشار الفنان الألماني شيلر بقوله: “إنّ الفنان في عالمه يكون أشبه كما في لعبة ولكنه حرٌ ويضع قواعدها بالشكل الذي يحتاجه” [145]

أنجبت الرومانسية الألمانية للعالم الفيلسوف هيغل، الذي اعتقد أنه ليس على الفلسفة أن تبقى في هذا الإطار البحثي الضيّق، بل يجب أن تنظر بشكل أوسع على مر التاريخ البشري ككل، تحدّث هيغل عن روح العالم ولكن عبر نظرته الخاصة، فهو لا يقصد اشتراك المخلوقات كلها وترابطها وكأن للعالم روح واحدة، بل كان يرى في روح العالم وجود الظواهر ذات الطابع الإنساني، لأنّ الإنسان فقط من يملك فكراً، ولكن أعظم ما أضافه هيغل هو محاولة فهم الفلسفة في إطار حركة التاريخ، بعكس من سبقه من الفلاسفة حينما تجردوا من كل الأفكار وخرجوا من العالم ونظروا له كمراقب خارجي مثل ديكارت وكانط وهيوم، قام هيغل بمحاولة فهم الفلسفة حسب تطور الفهم الإنساني عبر الأجيال والأزمنة والأماكن والظروف.

اتفق الفيلسوف شوبنهاور مع كانط في عالم الظواهر لكنه اعتقد أنه عالمٌ وهميٌ محكومٌ بالإرادة باستمرار، وخالف هيغل الذي آمن بنهايةٍ سعيدةٍ لتاريخ البشرية، فهيغل كان يرى أنّ البشرية ستصل إلى عالم كمال الأفكار، لكن شوبنهاور قرر أنّ هذا كلامٌ فارغٌ، وآمن أنّ البشر سيظلون عبيداً لرغباتهم وسيستمرون في البحث عن رغباتٍ جديدة دائماً، أي الدخول في صراع جديد وعذاب آخر، ولا حل لهذا الأمر إلا بالزهد وإنكار الذات والاعتماد على التفكير والتأمل وغيرها من الصور البوذية.

وفي هذه الأثناء برز الفيلسوف الوجودي كيركيغارد أو كيركغور، الذي عارض كانط في فكرة إمكانية تأسيس التفكير الديني والأخلاقي على العقل، لأن الإيمان غير معقول في أساسه، وحاول فهم الوجود البشري الذي يحاول دائماً الإنسان أن يهرب منه بالاعتماد على الروتين التغافلي، وقد قسم حياة الإنسان إلى ثلاث مراحل تبدأ بالمرحلة الجمالية، ثم مرحلة المتعة والاكتشاف والبحث عن الذات والحياة، ثم تتبعها المرحلة الأخلاقية بعد التشبع ووضع قوانين للحياة من قبل الشخص، لكن قد يمر الإنسان فيها بمرحلة ملل ويرغب الإنسان في الاستمتاع من جديد وهذا يحدث كما نسمع في أزمة منتصف العمر أو أنّ شخص ملتزم قد انحرف في أمر ما، ثم المرحلة الدينية وهي المرحلة التي يقفز فيها الإنسان إلى أعماق الدين عبر العقل مبتعداً عن المتعة مقابل الإله.

ثم نعود من جديد إلى رحاب المادية العملية مع كارل ماركس الذي رأى أنّ الفلاسفة يكتفون بتفسير العالم لكنهم للأسف لا يعملون على تغييره، وآمن أنّ الظروف المادية (الاقتصادية مثلاً) هي التي تؤثر على سير العالم وتعمل على تغييره، بعكس هيغل الذي رأى أنّ الظروف الروحية للعالم هي ما تسعى لتغييره، وأنّ من يسعى لفرض فكرة ما سواء كانت خيراً أو شراً هي الطبقة المُسيطرة وليس الطبقة العاملة (البروليتاريا)، وترى الفلسفة الماركسية أنه لا يمكن تحقيق أهداف العمال إلا عبر العنف في قلب النظام الاجتماعي بالكامل، ويجب على الطبقات الحاكمة أن تخاف وتحسب الحساب للعمال، لأن هذه الطبقات هي من ستخسر كل شيء، أما العمال فلن يخسروا سوى قيود العبودية، وأمامهم كل شيء ليربحوه.

كان هيغل يرى أنّ الروح هي أساس الإنسان، وبذلك هي الدليل على وجود الله، إلّا أنّ الفلسفة المادية بمنطلقات ماركس رأت العكس وأنّ الجسد هو أساس الإنسان وليس الروح، وبهذا رأى ماركس أنّ التاريخ صراع بين الإنسان والطبيعة وهو ما يُؤَدِي إلى تصادم لاحقاً بين الطبقات الاجتماعية مؤدياً إلى ثورة، وأنّ ما رآه الفيلسوف أوجست كونت غير صحيح، داعياً إلى فكرة ماركس نفسها دون الصراع الطبقي ودون ثورة، بل عبر التآزر والتعاون بين الطبقات، فكل فرد في المجتمع يجب أن يقوم بواجباته، وحتى الأغنياء إن قاموا بواجباتهم فهم أخيارٌ أيضاً.

لاحقاً، ظهر الفيلسوف العظيم فريديريك نيتشه، الديناميت المتفجر بأقل لمسة، الذي لم تعجبه فلسفة هيغل، ولنستطيع فهم نيتشه نحن بحاجة إلى فهم هيغل وكانط، الأمر الذي يجعل فلسفته مُعقَّدة وغريبة، بالإضافة إلى أنّ نيتشه قدمها في ثوب أدبي بلُغة ألمانية، مما جعل المترجمين في حيرة، فما بالك بالقارئ العادي! يحاول نيتشه نقد كانط لأنه يعتقد أنّ أفكار كانط ذات مصدر لاهوتي، إذ يحاول كانط نقد العقل بالعقل عبر جعل العقل سلطان، في حين يعتقد نيتشه أنه يجب صَبّ التركيز على القيم.

ثم تبدأ الفلسفة الوجودية Existentialism مع هيدجر ويليه نيتشه ثم سارتر، إذ تنطلق الفلسفة الوجودية من الإنسان والذي هو الكائن الوحيد الذي يعي وجوده، ولهذا فإن سارتر قال إنّ الوجود يسبق كل تفسير أو سؤال، فالوجود يسبق الماهية أو الجوهر، وعلينا أن نَكُف عن طرح الأسئلة عن الطبيعة الأبدية للإنسان، فنحن في واقع نصنعه بارتجالنا وعلينا أن نقرر أي الخيارات نتخذ في حياتنا ونتحمل تبعية هذه القرارات، فلا أحد منا سارقٌ بطبيعته، بل هو اختار أن يكون كذلك.

ظهر العديد من الفلاسفة في القرن العشرين مثل الفيلسوف فتجنشتاين الذي يرى أنّ حدود لغتنا هي حدود عالمنا، إذ تنشأ المشكلات الميتافيزيقية بسبب محاولة أن تقول اللُغة ما لا يمكن أن يُقال، ويرى فتجنشتاين أنه ما لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عنه يجب عليه أن يصمت عنه، وبهذا يعارض أفكار ديكارت إذ يرى أنّ الفكرَ لُغويٌ لا أكثر وأنّ اللُغة نتاج اجتماعي وعلى هذا لا يمكن للوعي أن يكون خاصاً، وهذا يعني أنّ سعي الشخص المختص الفينومينولوجي عن اليقين قد أُسيء تصوره [146] لأنّ ما نفكر به هو اللُغة وهي نتاج اجتماعي.

تطور علم النفس

على الرغم من أنّ العقل البشري كان ولا يزال أكثر الموجودات في هذا الكون تعقيداً، إلّا أنه في بداية القرن التاسع عشر سادت فكرة أنّ الإنسان مُجرَّد آلة كبيرة، فكما اليد تحركها العضلات فإنّ الدماغ تحركه عضلات معينة وهو نتاج التفاعل الكيميائي فيه، وعلى هذا فإن الدماغ محكوم بتفاعل كيميائي عبر معادلة معروفة، أي أنّ الدماغ لا يملك إرادة حرة، بل هو مسيّر بقوانين المادة، قراراتنا وآلامنا وتفكيرنا كلها تفاعلات وهي من تتحكم بالإنسان، ويمكنها التلاعب في فكر الإنسان وتوقعه بسهولة، فصيرورة الفكر لدى عقل الإنسان مثل صيرورة البول بالنسبة للكلى.

وعلى الرغم من التطور العلمي الهائل في يومنا هذا، إلا أنّ القوانين التي تحرك النفس البشرية وتجعله يُغيّر رأيه بين فينة وأخرى ويتخذ قراراً مصيرياً قد يودي بحياته لا تزال مخفية، وكل ما يحاول العُلماء اكتشافه هو القشرة العليا من علم النفس البشرية، فهم يحاولون فهم السُلُوك وتفسيره، لا الغوص في ترابط الدماغ بالعقل، ولعل أحدُنا يتساءل، ولماذا إذاً نحاول ونجيب! أجيب: ولِمَ لا نحاول فك طلاسم العقل والدماغ والنفس البشرية؟ وماذا سيخسر العُلماء في المقابل إن فشلوا!

يحاول علم النفس أن يدرس سُلُوك الإنسان وعملياته العقلية وتأثير هذه السُلُوكيات على من حوله وقد كان أرسطو يتساءل في زمنه عن العلاقة بين الجسد والنفس، وقد رأى أنّ الوعي يكون في القلب وليس في الرأس، وأنّ الروح هي ما يميز الإنسان عن الجماد وقد تابع فلاسفة الإغريق هذه التساؤلات حول الجسد والروح والمادة والعقل، لكنها كانت أفكاراً لا تفسر آلية عمل النفس البشرية، تبعهم ابن سينا في اعتقاده وجود علاقة بين اللُغة والفكر والإدراك الحسي والأخلاقي، وتبعه الغزالي والرازي مستخدمين الدين في تفسير باقي مكنونات النفس البشرية، فالرازي على سبيل المثال قد سجل في كتابه قائمة بأمراض عقلية بل وعالج بعضاً منها.

ثم في عصر التنوير كما رأينا ساهم كل من جون لوك وديكارت وغيرهم من الفلاسفة في تطوير الصورة عن العقل والنفس فديكارت مثلاً ميز بين الجسم والذي هدفه كخاصية شغل حيز من الفراغ وهو جزء ميكانيكي بحت، وبين العقل الذي دوره أن يفكر وأن يشعر، إلى أن قام العالم فونت في القرن التاسع عشر بفصل علم النفس عن الفلسفة مؤسساً بذلك علم النفس التجريبي، وفي القرن التاسع عشر أضافت أفكار داروين الطابع الحيواني على السُلُوك البشري فالإنسان لم ينفصل عن كونه حيواناً، وميكانيكية الجسد كما رآها ديكارت والغريزة وغيرها من الأفكار السائدة أدّت إلى ضرورة بروز تطور جديد على أفكار علم النفس، لأنّ التساؤلات قد زادت كثيراً وأصبحت بحاجة إلى إجابات واضحة، مثل ما هي مشاعر الإنسان؟ وكيف نفسر سُلُوكه تجاه غيره؟ كيف يتحول الإنسان إلى قاتل متوحش؟ وكيف يمكن أن نعيده إلى بيت البشرية من جديد! ومع الدارونية ظهرت أسئلة حُريّة الإرادة بقوة، فهل يملك الإنسان إرادة حرة أم أنه مجبولٌ على فِ