المنطق

لم يدرك الفيلسوف الأثيني أرسطو حينما بدأ تساؤلاته أنه سيؤسس أحد أعظم العلوم لاحقاً، ألا وهو علم الفلسفة، وفي الحقيقة قد بدأت الفلسفة بكونها علماً حينما تم تأسيس علم المنطق، وعلم المنطق يتمثل في قواعد عقلية تساعد على التصور والاستدلال بصورة صحيحة لدى أي إنسان، والقواعد العقلية هي القواعد التي لا تستطيع العقول السليمة إنكارها، مثل أنّ النقيضان لا يجتمعان [148]، وأنني كباقي الرجال لا نخشى زوجاتنا ونفعل ما نشاء، وأننا لو أخذنا من مجموع كبير كمية أقل سينقص المجموع، وغيرها من القوانين التي لا يختلف عليها البشر التي تجعل العقل يملك آلية لترتيب الأفكار والانطلاق بمبادئ تفكير سليمة، ولأهمية علم المنطق نرى كثير من العلوم تدرّسه بعدة طرق، فمثلاً طلاب البرمجة يدرسون رياضيات متقطعة أو منفصلة Discrete Math وتصميم منطق حاسوب والنظام الثنائي، وطلاب العلوم أو الرياضيات يدرسون Horn Logic، وهُنَاك First Order Logic وحتى في الويب في الـ Ontologyنرى علم المنطق حاضراً، وكذلك في المحاماة وفي الفلسفة، بالإضافة إلى أن العالم كله مستقبلاً سيتحدث بجانب اللُغة الشفهية لُغة برمجية، فلا بد أن يعرف: ما هو المنطق.

تختلف القواعد العقلية عن القواعد العلمية، فالقواعد العلمية بحاجة إلى إثبات وتجربة، مثل قواعد الفيزياء والكيمياء والطب والفلك، وكذلك تختلف عن القواعد المعرفية التي تُثبِت في العلوم مع المُمَارسة مثل القواعد الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، أما المنطق فهو خطوات لتفكر بطريقة صحيحة، لكن، انتبه! فهذا لا يعني أنّ المنطق سيجعل أفكارك صحيحة.

فمثلاً لو قلنا أنّ:

  1. كل غني سعيد (مقدمة).
  2. خليل غني (مقدمة).
  3. إذن خليل سعيد (نتيجة).

هذه طريقة تفكير منطقية، ولكنها لا تعني أنّ القضية صحيحة أو أنها مادة ناجحة للقياس؛ فليس كل غني سعيد، والدليل خليل، لكن لنفرض صحة الجملة الأولى والثانية، فإن النتيجة في الجملة الثالثة ستكون صحيحة، إنها طريقة التفكير المنطقية في تحليل القضايا، وتُدعى هذه الطريقة في علم المنطق قضية قياس، وهي تتكون من مقدمة كبرى (كل غني سعيد)، ومقدمة صغرى (خليل غني)، والنتيجة (خليل سعيد)، والقياس هنا أول أداة في الاستدلال المنطقي.

وقد يرى أحدنا أنّ التصور والاستدلال بصورة صحيحة أمراً بسيطاً، لكن في الحقيقة دون وجود قواعد ستختلف كثير من الأمور حين الاستدلال، وستكون هذه القواعد مُفيدة حينما نحاول توضيح نقطة ما أو حينما نقوم بنقاش الآراء حول موضوع ما.

ينقسم علم المنطق إلى عدة أبواب لكل باب منها فائدة مهمة، ففي باب التعريفات نستطيع أن نعرّف الأشياء تعريفاً أقرب إلى الصواب، وفي باب الاستدلال نستطيع أن نستدل على شيء ونحصل على أي نتيجة بطريقة صحيحة.

إنّ كلمة العلم في المنطق ترمز إلى مطلق الإدراك، وهذا يعني أنّ كل ما ندركه في أذهاننا يسمى علماً، سواء أدركنا حيواناً أو جماداً أو أي شيءٍ كان، وسواء كنا متأكدين مما أدركنا أو كان مُجرَّد ظن أو حتى توهّم فإن ذلك كله يُسمى علماً، أما كلمة علم في العلوم الأخرى فتعني الإدراك القاطع الذي لا يحتمل غيره، فالمنطق ليس مُطلقاً، ولكنه أعلى ما وصلنا إليه حتى هذه اللحظة من قواعد مُثبتة [148].

وتتكون مراتب العلم في المنطق من عدة مستويات، أعلاها مستوى اليقين وفيه يعتقد الإنسان أنّ صحة موضوع ما قد تصل إلى نسبة 100%، ثم الظن أي أنك تعتقد بصحة الموضوع من 51% إلى 99%، وأما الشك فهو أن تدرك موضوع ما بنسبة 50% فأنت على الحياد لا تستطيع الجزم إما بنعم أو لا، ثم الوهم وهي نسبة ما بين 1% إلى 49% أي أنك تعتقد أنّ أمراً ما غير موجود بنسبة كبيرة، ثم الجهل البسيط وتشكل نسبته 0% وتعبر عنه بلا أعلم، ثم الجهل المركب وهي نسبته أقل من 0%، وفيه أن تحكم يقيناً أنّ خليل غني، أو بائس فقير، فأنت هنا مخطئ ونسبتك في الصواب ليست صفر، بل سالبة لأنك لم تصمت وقلت ما لا تعلم [148].

لكي نحكم على شيء ما، لا بد لنا من تصوره، لأن أي حكم دون تصور لا يمكن أن يكون صحيحاً، وبعد أن نقوم بتصور الشيء نستطيع إطلاق الحكم عليه بشيء يدعى التصديق، فالمنطق يقول التصور يأتي أولاً ثم التصديق لاحقاً، وحينما أخبرك أنّ السماء زرقاء، فأنت ستتصور السماء أولاً، ولون زرقتها ثانياً، ثم ستؤكد قولي بأنها زرقاء أي أنك صدّقت المقولة، وهذا هو الترتيب الطبيعي للمنطق.

رسم توضيحي 56 بشكل مبسط ومختصر آلية عمل معالج الحاسوب، وهو مخطط عملياتي وليس هيكلياً، فالمخطط الهيكلي للمعالجات القديمة الأولى تحتاج إلى صفحات أكثر من صفحات هذا الكتاب، وكل عملية تطوير على المعالج أضافت مئات الصفحات، إلى أن وصلنا إلى المعالجات متعددة الأنوية، وكل جزئية في المعالج مصممة بدورها بطريقة مُعقَّدة، مثال على ذلك وحدة الحساب والمنطق ALU التي تم تصميمها لعناية شديدة لكي يقوم الحاسوب بإجراء العمليات المنطقية مثل أو، و، لا، وغيرها.

يتفق الجميع على أنّ التصور الفطري الذي لا يحتاج إلى إثبات مثل: البحر من الماء هو تصورٌ ضروريٌ لا حاجة لأي إثباتات له، وأنّ التصور الذي بحاجة إلى تأمل ونظر وتفكر حتى تُثبِت الصورة في الذهن هو تصور نظري، والتصديق كذلك، فلو قلنا إنّ السماء فوق، والأرض تحت، والبحر به ماء، لما احتجنا إلى حكم عليه وهو تصديق ضروريٌ، والتصديق النظري هو الذي بحاجة إلى تأمل ونظر وبحث، ولأننا على كوكب الأرض فالسماء فوقنا لا تحتاج إلا لتصديق ضروري، ولو قلنا هذه الجملة في لعبة حاسوب كانت فيها الأمور مقلوبة لما كانت هذه الجملة صحيحة.

الشيء نفسه نسبي بالنسبة للتصديق النظري، فلو قلت لك جملة مثل الخراج بالضمان لكانت بحاجة إلى تأمل وتصور وفهم بالنسبة لك، لأنك بحاجة إلى توضيح وفهم الخراج وكذلك الضمان، ولكن لو قلتها لشخص متخصص في الفقه لكانت مفهومة له دون أي مُشكِلة لأنه يعرف الخراج والضمان ويعرف ما يترتب عليهما، وسيحكم على القضية بالصواب أو بالخطأ بسهولة، وهذا ما يجعل التصور ضرورياً عند أشخاص، ونظرياً عند آخرين وهذا من منابع الاختلاف بين البشر والأمر نفسه بالنسبة للتصديق.

أما الأداة الثانية في الاستدلال المنطقي فهي الاستقراء، ولتكن مثلاً جالس في طريق ما تراقب السيارات المارة، ومرت من أمامك 1000 سيارة، ولاحظت أنّ كل السيارات لها 4 عجلات، ستصدر حكماً كلياً مفاده أنّ لكل سيارة أربع عجلات تحركها، هذا الحكم يدعى الاستقراء، أي أنك استقرأت السيارات فخرجت بهذه النتيجة، أو أنك تعلمت الشطرنج ولعبت في عدة أماكن، فحينها ستستقرئ أنّ اللعبة تتكون من 8 بيادق، ليسوا 7 وليسوا 9 بل 8، أو أنك ذهبت إلى السعودية ووجدت الناس هُنَاك مُسلمين، قابلت 1000 شخص وكانوا مُسلمين، هنا تكون قد استقرأت من السعودية أنّ أهلها مُسلمين، وحكمك نتيجة ما رأيت، ولنذكر أنّ دايفيد هيوم يرى أنّ الاستقراء لا يقدم سوى الاحتمال وليس اليقين، فلربما تكون هُنَاك سيارات ذات 5 عجلات ولكننا لم نرها، ولربما كانت هُنَاك نسخ من الشطرنج ذات 10 بيادق، ولربما كانت هُنَاك غربان بيضاء لكننا لم نرها!


اترك تعليقاً