ونعود إلى السؤال الأساسي: هل الإيمان عقليٌ أم قلبيٌ؟ فإذا كان قلبياً، فالله هو المسؤول عن الهداية، وإذا كان عقلياً، فالله من أعطاني هذا العقل الناقص، ومن يقول اهتديت إلى الله بالعقل، نقول له إنه غير كافٍ لأن الكثير ممن يملكون العقول لم يهتدوا إلى الله، ولكن ماذا عن الحتمية والإرادة الحرة، فكل ما في الكون مدروس بدقة والماضي يحدد المستقبل، والأمر حتمي، وكله من عند الله، أم أنّ الإرادة الحرة مرتبطة بالمسؤولية الأخلاقية؟
حسناً، هُنَاك حدٌ فاصلٌ بين الإيمان والعلم، فالإيمان يخبرك أن تؤمن بأمور غيبية مثل الجنة والنار والملائكة وغيرها، والعلم يخبرك بذلك من خلال التجارب العملية والحس المادي، صحيح أنه لم يفسر كثير من الأمور ولكنه يبقى علماً فيما فسره، فكيف سأؤمن بأمور بعيدة عن عقلي، مثلاً أنه حدث استنساخ قبل 2000 عام للسيد المسيح! وعلى صعيد آخر هُنَاك في الدين أمور منتشرة غريبة (دون نصوص صريحة)، مثل ركوب الجن للإنس، أولياء الله وقواهم الخارقة، وغيرها من القصص.
إنّ الإيمان يتطلب منك أن تُسلِّم ببعض الأمور إن ثبتت، وأن تتفكر في الأمور التي لم تُثبِت، فالإيمان بوجود الملائكة ثبت في نصوص قطعية في الدين، ولكن لا يجب أن يسلم عقلك بالرجل الصالح ذي المعجزات، ولا أن ترفضه بالكامل، بل هُنَاك حد من التفكير يجب أن توازنه، فالتسليم والرفض يجب أن يكونا عقليين أيضاً، إذ يجب أن يكون هُنَاك حد فاصل بين الإيمان والخرافة، وهذا في سياق فهم الدين بالمجمل ككل، العملية تتم بالاعتماد على فهم عميق للدين وغاياته ومراده من أتباعه.
الإيمان ثمرة العلم والدين، الضريبة التي تدفعها في الدين، وهي نفسها في العلم، فأنت في العلم تصدق بوجود الإلكترون لأنك قرأت عنه ولكن كم منا رآه! نحن نصدق بوجود الثقب الأسود بناءً على عمليات حسابية ونظريات ودلائل بسيطة، ومن منا رأى الانفجار العظيم! إنها الفكرة نفسها، يجب أن تدفع هذه الضريبة في العلم وفي الدين، فالعلم حقيقة والدين حقيقة، والعلم لا يتعارض مع الدين، وعلى كل منهما السير في مسار منفصل، وأنا أؤمن أنّ كلا الحقيقتين أساسية للأخرى وكلما تقدم دور العلم فإنه سيعمل على حل المزيد من الألغاز القائمة، ولكن سيبقى هُنَاك حد فاصل بينهما، وكلٌ من الدين والعلم أساسي للآخر، لأنه لا معنى في البحث عن غايات الكون إن لم تكن وجدت لسبب واضح أرادنا المصمم أن نكتشفه، أم ما هو الهدف في البحث عن غاية في أمر نتج جراء الصدفة! قطةٌ تجري واصطدمت بلوحٍ زجاج فانكسر، ما الغاية من البحث في سبب جري القطة! إنها تجري بلا غاية، أما حينما يكون من كسر الزجاج إنسانٌ عاقلٌ، فيمكننا البحث عن السبب والغاية من قيامه بهذا، فالبحث في العلم نابع من الإيمان بوجود مصمم للكون أوجده لغاية وفق قوانين دقيقة يجب اكتشافها، وإنّ وجودنا هنا لهدف أكثر من الأكل والشرب والنوم، وكذلك الإيمان لا معنى له دون أن نؤكد عليه بالعلم، ومن هذا يتضح أنه لا معنى للإيمان دون علم، ولا معنى للعلم دون إيمان.
ولكن على ما يبدو أنّ الإيمان في خلاصته قلبي أكثر منه عقلياً، فمهما حاول العقل فإنه يظل بحاجة إلى شرارة، وكل الدلائل الدينية يمكنك أن تراها أنها هراء أو أنها أمر خارق، يمكنك أن تلبس النظارة وترى من خلالها كيفما تريد، ولكن كيف لهذا الإيمان الذي يترتب عليه دخول الجنة والنعيم، أو النار والعذاب أن يكون من الله وليس من الإنسان، إذ أن تحريك القلب يجب له من محرك، والمحرك الوحيد هو الله، فإما أن يحركه وإما أن يجعله جامداً.
إذا علم المُؤمِن بهذا الأمر، فهو قد وصل إلى قمة إيمانه، فهو يعرف أنّ أفعاله كرم من الله وعليه أن يشكره حينما يمارسها، هو يعلم أنه فقط من يفكر والله من يدفعه.
ولكن كيف يحاسبني الله على أفعال أنا غير حر الإرادة فيها، على الأغلب أنها حكمة عليا أو أمر خارج حدود العقل البشري، لا يمكن أن نعرف لماذا يمنحنا الله حُريّة منقوصة وسيحاسبنا عليها، بهذه البساطة عزيزي خليل!!
أما من لم يؤمن في هذه الدنيا، فحسابه عند ربه في الآخرة، ولكن لماذا يخلق الله شخصاً غير مُؤمِن ولا يهديه؟ هذا السؤال الذي غرق فيه الجميع، ولا نعلم له إجابة، هذا يفوق حدود العقل البشري، هذا من امتيازات أسرار المصمم، لربما لتسيير الدنيا، أو ليحدث التدافع ويعمل البرنامج على أكمل وجه، لربما يرحمهم الرحمن غداً في يوم الحساب، لربما يفنيهم، له القرار ولا يُسأل عما يفعل.
بالله عليك عزيزي خليل هل من المنطقي سؤال ضخم مثل هذا يتم إنهاؤه بهذا الشكل! وما المُشكِلة! بل نحن في هذا نتفق مع الفيلسوف أوكام بأن الحقائق العظيمة في العادة بسيطة.
لله المشيئة المطلقة، فقد خلق الله الرحمة ولكنها لا تجبره أن يرحمني، نحن نريد أن نحاسب الخالق وننزله منزلة المتهم أمام عقولنا، انظر يا رب، لا يعجبني أنك لم تمنحني القدرة الكاملة في الفهم، ولا يعجبني أنك لن تخبرني بوضوح أنك سترحمني، إما أن تخبرني وتفهمّني كاملاً وإلا فإنك رب معيوب، نكتشف هنا أننا نعبد رغباتنا، ونريد إله مفصل على المقاس، أريد رباً على كيفي بمعاييري، والتي تختلف عن معاييرك، وهنا نكتشف عظمة العرب القدماء حينما كانوا يصنعون رب من العجوة، كل واحد منهم يصنع رب على هواه وعلى مقاسه، عباقرة سبقونا في التربيب.
حين تبحث عن الإيمان بالاستدلال العقلي المحض، يرد عليك الإنكار باستدلالات عقلية مضادة، ذلك لأن العقل ليس هو مناط الإيمان، وعليك ألا تنخدع في مقولة أنّ العقل مناط التكليف، لأن مناط التكليف هو شرط العمل، لا شرط الاعتقاد، والعمل نتيجة الإيمان ولا يصنعه، ولو كان الاستدلال العقلي يصنع الإيمان، لآمن كل العباقرة، لكن التاريخ يقول أنّ العباقرة مُختلفون، فمنهم المُؤمِن ومنهم الملحد، والإيمان ليس هبة العقل، حتى يأتي به الاستدلال، بل هو نعمة يرزقها الله من يشاء.
يُبيّنُ الله في القرآن أنه قال لآدم لا تأكل من شجرة ما ليست ذات نوع مميز، بل أي شجرة، يريد الله أن يضع تحريماً لآدم ليختبره، لم يجلب الله حارساً لهذه الشجرة، فقط حرمها الله وترك آدم وحينما سألت الملائكة الله عن الكائن المتمرد الذي سيخلقه، والذي سيفسد في الأرض كما رأوا، قال لهم الله إني أعلم ما لا تعلمون، كان الله يرى الصورة الأخرى في حُريّة الإنسان، صورة العقل الحر الذي يختار بين الشر والخير، بين تطبيق القانون الأخلاقي وبين الانسياق للشهوة، لذلك ذكر الله قصة إبليس مباشرة في سياق الآيات، لربط الفعل الإنساني المخير بين الخير والشر، وأما الخير فكان حينما علّم الله آدم الأسماء كلها، ثم قال لآدم، عرفهم بأسمائهم، أرهم بقدراتك المعرفية والعقلية الهائلة التي لم تفطن لها الملائكة، هو ذا الإنسان.
إنّ مفهوم الإيمان أوسع وأعم من الاعتقاد بوجود إله بصفات مُحددة، هو شعور قلبي أكثر من كونه مصطلحات تُردد، هو الشعور الدائم بأن الله يراك، فتخشاه، هو أن تعرف وجود الله دون أن تستطيع تعريفه بدقة، هو إحساس رقيق يتبعه مراقبة النفس، وحبها لكل خير، وكرهها لكل شر.
المعلم الأقدم: لا يمكنك شق عُباب النهر وأنت تسير عكس تيّاره، عليك اتباع تيّاره لتعزز قوته قوتك.
دكتور سترينج: أأسيطر عليه باستسلامي إليه؟ هذا ليس منطقياً.
المعلم الأقدم: ليس بالضرورة، لا يتحتم أن يكون كل شيء منطقياً.
المعلم الأقدم: مقدار ذكائك أوصلك إلى أقصى مرتبة بحياتك، لكنه لن يوصلك إلى أبعد من هذا، استسلم، ألجم غرورك، وستبزغ قوتك.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.