في عام 1900م، أظهر ماكس بلانك أنه عند قيامنا بتسخين جسم ما حتى يتوهج فإن الذرات تهتز بقوة كافية تمكننا من قياس الطاقة الناتجة في وحدات غير مترابطة، وسمى هذه الحزم من الطاقة بالكمات (الفوتونات)، وفي عام 1904م تمكن العالم تيودور وليام ريشارد من تحديد الوزن الذري للذرات معتمداً على معادلة أفوغادرو Avogadro.

وقد أدت تجارب العالم روذرفورد عام 1911م إلى اكتشافه أنموذجاً يشبه أنموذج المجموعة الشمسية في قلب النظام الذري، فهُنَاك إلكترونات كما الكواكب تدور حول جسم كبير وثقيل أسماها النواة، وقد قام في تجربته بقذف نواة الذرة بأشعة ألفا، فما كان من بعض جُسيمات أشعة ألفا الموجبة إلا أن انحرفت عن مسارها، فقال على الأغلب أنها تصادمت مع شيء ضخم في منتصف الذرة، واستطاع بذلك أن يرى عملياً ما بداخل النواة، ثم أقرَّ لاحقاً أنّ وزن الذرة الأكبر يقع في النواة، وأنّ الجُسيمات الموجبة للذرة موجودة في نواتها فقط، وهذا ما أدى إلى تنافر جُسيمات ألفا معها وانحرافها عن مسارها، بالإضافة إلى أنّ تجاربه بيّنت وجود مساحات شاسعة من الفراغ بين النواة والإلكترونات.

ومع كل اكتشافٍ علميٍ جديد يحاول تصحيح النظريات السابقة له، نراه يضع عقبات أكبر للباحثين من بعده، إذ تعارضت رؤية رذرفورد مع القوانين الكهرومغناطيسية، والتي تفترض أن يلتصق الإلكترون في النهاية مع النواة ويتعادلا كهربائياً وتنتهي هذه الحالة من المشاحنة، حاول العالم بور عام 1913م حل هذا الخلاف بوضعه أنموذجاً ذرياً ساعد العُلماء من بعده، إلا إنه تورط أكثر وسبّب أنموذجه قُصوراً في جوانب كثيرة.

بدأت الصور تكتمل عام 1905م بواسطة ألبرت أينشتاين عندما وضع النظرية النسبية التي شكّلت درة تاج العلم في فهمنا للكون؛ إذ قام بنشر ورقة علمية (النسبية الخاصة) تنصّ على أنّ كل قياساتنا في الكون نسبية إلا سرعة الضوء، فهي ثابتة دائماً، وأنّ الزمن يثبت عند سرعة الضوء وتصبح الكتلة لا نهائية. ثم نشر عام 1916م النظرية العامة للنسبية، التي تفسر طبيعة المكان والزمان والجاذبية، وتُثبِت أنّ الجاذبية ما هي إلا تأثير يحني المكان والزمان.

بعد نظريات أينشتاين، ظهر علم الكم ومبدأ عدم اليقين uncertainty للعالم هايزنبرغ، وهو أحد الأركان الأساسية لميكانيكا الكم، وينص على أنه لا يمكن تحديد كلٍ من موضع وسرعة الإلكترون بدقة في اللحظة نفسها، يمكننا تحديد أحدهما فقط لأن تدخلنا سيؤثر على القيمة الأخرى، ثم أضاف العالم إروين شرودنجر فكرة أنّ الإلكترونات تتصرف كالموجات في محاولة منه تفسير الظواهر التي نتجت عن تجاربه.

شكّل ما عرضه أينشتاين صدمةً للعالم والعُلماء، إذ كانت نظرياته تشبه الخيال العلمي، فتصديق أنّ الفضاء مُقوّس وأنّ أقرب بُعد بين النقطتين ليس الخط المستقيم! وأنّ الخطوط المتوازية ستتلاقى أخيراً هو ضربٌ من الجنون، وأنّ الضوء لا يسير في خطوط مستقيمة، بل منحنية! والكون محدود لكن بغير حدود، وأنّ ما نعرفه عن الزمن مُجرَّد أوهام، فالزمن ليس مطلقاً ولكنه نسبيٌ، ويختلف من موضع إلى آخر في الكون بناءً على عوامل مُختلفة، وأنّ ما نعرفه عن الأبعاد غير دقيق، فقياس الأطوال يختلف باختلاف السرعة، وما نعرفه عن الكتلة أيضاً غير دقيق، فالكتلة هي الأخرى تعتمد على السرعة، وحينما يتحرك أي جسم فإن حجمه ينكمش ولكن كتلته تزداد، ومن ثَمّ أمسى الزمن بُعداً رابعاً بعد الطول والعرض والارتفاع، والجاذبية عبارة عن موجات من الجذب لها تأثيرٌ مستمر، وقد أضاف أينشتاين مساهمات كثيرة لا تعد ولا تحصى في العلوم كلها من فيزياء ورياضيات وفلك قلبت العالم بالكامل، بل وفي مجال السياسية، ففكرة أنه يمكن تحويل الطاقة إلى مادة والعكس جراء نظريته، جعلت من الممكن للإنسان لأول مرة في التاريخ أن يستخدم طاقة لا تأتي من الشمس، وقد قادت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية عبر اختراع الولايات المتحدة الأمريكية للقنابل النووية في مشروع مانهاتن وتفجيرها في هيروشيما وناغازاكي.

يستحق أينشتاين أن تكون نظريته الأعظم في تاريخ البشرية، ولا تكفيها كتب لشرحها وتوضيح آثارها على العلم لاحقاً، فمن منا كان يعتقد أنّ الزمان والمكان أمراً واحداً وليسا أمرين مُختلفين، هذا تغييرٌ كافٍ وحده أضافه أينشتاين، لقد غيّرت قوانين أينشتاين نظرتنا للعلم، وآمل أن تتغير نظرتنا بعدها لهذا العالم.

وكما نرى فإن العلم ينتقل من مرحلة إلى مرحلة ومن نظرية إلى أخرى، فنظريات نيوتن كانت هي المسيطر الأساسي في مجال الجاذبية والحركة إلى أن أتى أينشتاين وغير كل النظريات بنظريته النسبية، وذلك بعدما فشلت ميكانيكا نيوتن في الجمع بين إطارين مرجعيين مُختلفين يتحرك أحدهما بسرعة قريبة من سرعة الضوء، إذ لم تعد قوانين نيوتن تُجدي نفعاً؛ لأن الزمن اختلف في كل واحدة منهما، وقد ظهر ذلك جليّاً حين فشلت حسابات بعض حركات كوكب عطارد، بعد 300 عام من كون قوانين نيوتن هي الدستور في قوانين الحركة ظهر أينشتاين وغيّر كل شيء، ويؤكد هذا أنّ العلم ليس ثابتاً، فقوانين أوصلتنا إلى القمر اتضح أنها خاطئة في جوانب أخرى، وهذا ما سنناقشه في الكتاب.

لعبت الكنيسة دوراً مهماً في عرقلة تقدم الاكتشافات والعلوم، فهي من أعدمت غاليليو، وهي من منعت نشر كثير من الكتب، وقتلت العديد من النظريات لأنها تتعارض مع معتقدها، ولو ألقينا النظر على تطور الجانب الاجتماعي على مدار العقود على يد علماء مثل جون لوك وفولتير وغيرهم، لرأينا الأمر نفسه، مشاكل مع الكنيسة لا تنتهي، وهذا الأمر تكرر بدرجة أقل عند المُسلمين.

فبينما كان العالم يقفز قفزاتٍ كبيرةٍ في العلم، كان المُسلمون ينحدرون إلى الكهوف مرة أخرى، فقد أصدر الخليفة العثماني تحت ضغط الفقهاء والرأي العام أمراً بهدم المرصد الفلكي بحجة الشعوذة، وتفكيك أول مطبعة بحجة أنها تفسد المصحف، بل وصدرت فتاوى تحريم في كل شيء تقريباً مثل شرب القهوة، لا يمكننا حصر تلك الفظائع والإقصاءات المتكررة كالإعدام والنفي والسجن بحق المخالفين وقيامهم بحرق كتب ومؤلفات عديدة، مثل مؤلفات أستاذ الفلسفة ابن رشد، وكذلك الطرق البشعة التي ارتُكِبت بحق المخالفين كما فعل العباسيون عبر صور متطرفة، من المؤسف أنّ كثيراً من هذه التصرفات كانت بمباركة العُلماء، فعلى سبيل المثال، بعد أن خاض الإمام أبو حامد الغزالي في علوم الكلام نراه بوضوح في كتاب إحياء علوم الدين، قد وضع علوم الدين في كفة، وباقي العلوم في كفة أخرى، ولكن جعل كفتها أدنى من كفة علوم الدين، وهذا ما جعل إقبال الناس على العلوم الدنيوية ضعيفاً، فقد ترسخت في عقل المُسلم أنها أقل أهمية في الدراسة من العلوم الدينية، وتم اعتماد لقب الفقيه للشخص العالم بعلوم الفقه والدين، أما الفقيه -من يفقه- الفيزيائي أو الكيميائي أو القانوني فلا مكان لهم، بل واحتقر الغزالي الفقهاء (الذين يختصون بالفقه الإسلامي) بسبب انشغالهم بمسائل الدنيا المرتبطة بالمعاملات اليومية ولم يتفرغوا للدين بشكلٍ كامل.

في حين تقدمت أوروبا ببطء في وجود الدين، وانطلقت بخطى سريعة بعد تركه، كان المُسلمون واقفين لا يعرفون ما العمل، فهم لا يزالون في منتصف خلافاتهم الدينية، فمن أبسط الأمور مثل طول الجلابية وحف الشارب والسلام على المرأة، إلى أكبرها كبناء الدولة وأصول الحكم واختيار الحاكم، لا يزالون مُختلفين ولا تظهر علامات قرب نهاية الخلاف.

دعونا نبدأ رحلة البحث عن الحقيقة، البحث في هذا العالم، ولنبدأها من البداية، من الحجر الأول حينما تم بناء الكون، حينما كانت الخلطة ما زالت في الخلاط، قبل أن يتم صبها في قالب الكون، وصباح الخير يا كون.


اترك تعليقاً