لا شك أنّ طلاب المرحلة الابتدائية هذه الأيام يعرفون ظاهرة دوبلر، والتي تنص على أنه إذا كان هُنَاك جسم يتحرك مبتعداً عنك، فإنّ الصوت الذي يصدر عنه سيمتد طوله الموجي أكثر (تتوسع الموجة)، وذلك لأنّ تردده سيقل، والعكس صحيح، ولعلك تسمع سيارة الإسعاف مقبلةً عليك فتسمع دويها بسرعة، وي وي وي وي وي وي، وحين تدبر عنك وتبتعد تبدأ الأصوات تتمدد وتتباطأ؛ فتسمع ويي وييييي وييييييييي ييييييييييي إلى أن يختفي الصوت تدريجياً بالكامل. وينطبق الأمر من جهة أخرى على الضوء، فضوء السيارة حين تبتعد عنك يبدو أكثر احمراراً عما لو كانت السيارة ثابتة أو قريبة منك، وذلك لأنّ الضوء ذو طبيعة موجية، فكلما كان الضوء أقرب للطيف الأحمر، كان تردده منخفضاً، ولو قمنا بوضع منشور لتحليل الضوء فإنّنا سنتمكن من معرفة الضوء الذي يبتعد أو يقترب بناءً على الظاهرة نفسها [3].

لاحظ العالم إدوين هابل أثناء مراقبته للسماء عام 1928م أنّ لبعض النجوم البعيدة تأثير اللون الأحمر المُزاح Red Shifting، وأنها تبتعد عنا بسرعات عالية، وفي اتجاهات مُختلفة، وهذا هو مقياس ظاهرة دوبلر، فالقوانين الكونية واحدة ولا فرق، ولاحظ هابل أنّ تمدد الكون يتبع نمطاً خطياً تتناسب فيه المسافة وسرعة الانتشار.

حقيقة، كانت هذه لحظة مذهلة في العلم؛ لأنّ العُلماء كانوا يعتقدون أنّ الكون ثابت وأزلي، وقد حاول أينشتاين أن يبرهنَ على ثبوت الكون عن طريق وضع ثابت كوني، لأن الأمر كان يشكل معضلة كبيرة للعلماء، لكن مع اكتشاف هابل هذا الأمر تغيرت تلك النظرة السائدة، وبدأت النظريات تتوالى.

فإذا كان العالَم يبتعد بسرعة كبيرة ويتمدد ويتوسع كما لو أنّ انفجاراً ما قد حدث وجعل الكون يتناثر في كل مكان، فمن المؤكد أنّه حسب سرعة تمدد الكون يمكننا إجراء بعض العمليات الحسابية لتقدير المدة التي يتوسع بها، ومن ثَم تحديد اللحظة التي بدأ بها الانفجار، واحتساب أيضاً كمية المادة التي بدأت الانفجار بناءً على سرعة التوسع، فسرعة التوسع مرتبطة بالجاذبية، والعناصر تجذب بعضها لذا تتوسع بهذه السرعة وغيرها من المؤثرات، يمكننا احتساب كل شيء، وبعد انتهاء قوة دفعة الانفجار سيثبت الكون، ثم بعد هذا التباطؤ سينتهي التوسع، وستبدأ قوة الجاذبية بالعمل وستتقارب العناصر (المجرات، المادة، الطاقة) وستنكمش مرة أخرى وسيحدث الانسحاق الشديد وهو عكس الانفجار العظيم.

في عام 2003م، استطاع المسبار الفضائي والمرصد الدوار “وماب WMAP” أن يُؤَدِّي دوره بدقة عالية، عبر قياسه الأشعة التي خلفت بداية الكون، وذلك بعد عامين من انطلاقه في الفضاء، وقد تم رسم خريطة إشعاع للخلفية الميكرونية للكون بدرجة عالية من الدقة والوضوح، وهي تعبر عن أفضل صورة لمراحل نشأة الكون منذ أكثر من 13.75 مليار سنة مع نسبة خطأ لا تتعدى 1%، كما في (شكل 4 صورة مسبار ويلكينسون لقياس التباين الميكروي).


شكل 4 صورة مسبار ويلكينسون لقياس التباين الميكروي

كثُرت النظريات حول تفسير نشوء الكون، فقد حاول بعض العُلماء إثبات أنّ الكون سرمدي؛ لا بداية ولا انتهاء له، في حين حاول آخرون القول أنّ العالم نتج عن انفجار وانحسر عدة مرات، والبعض حاول إثبات عدم حدوث ذلك، كل تلك النظريات وغيرها تم الرد عليها علمياً، وما زالت أكثر نظرية مقٌبولة حالياً هي نظرية الانفجار العظيم، وهي تعد نظرية علمية راسخة أجابت عن أكثر الأسئلة المطروحة حول الكون، لا نظرية الكون السرمدي ولا نظرية الأكوان المتوازية ولا غيرها كلها تبقى محاولات علماء، وبعض هذه النظريات للأسف أيديولوجية غير مقبولة علمياً، أما نظرية الانفجار العظيم فهي الوحيدة التي صمدت في تفسير الكثير من الظواهر، مع إضافة تحسينات دائمة عليها من ناحية الوقت، ولمسات أخرى في تسلسل الأحداث، ولقد تنوعت واختلفت إثباتات النظرية على مر الزمان، بعضها كان نظرياً وتم تأكيده مثل الأشعة الكونية، وهذا ما نرى أثره من تشوش حينما تقوم بتشغيل تلفزيون دون جهاز التقاط، وكذلك ما أثبته مسبار ويلكينسون WMAP، وغيرها من البراهين المحسوبة والمُكتشفة على هذه النظرية.

شكل 5 أثر الإشعاعات الكونية المتبقية من الانفجار العظيم

حينما تفتح التلفزيون دون جهاز لاقط، فإنك ستشاهد هذه الصورة، هذه الصورة ناتجة عن أثر الإشعاعات الكونية المُتبقية من الانفجار العظيم، هذه الصورة ألهمت العُلماء لإجراء دراسات أوصلتهم إلى تأكيد ما كانت تقوله نظرية الانفجار العظيم.


اترك تعليقاً