النواة
مقدمة
على الرغم من كون نواة الخلية أكثر مكونات الخلية تعقيداً ومع ذلك فهي أكثرها تنظيماً، فالتعقيد الشديد في العمليات يتطلب تنظيماً شديداً لمنع حدوث الأخطاء، وتحتوي نواة الخلية على العنصر الأهم في بناء الخلية، ألا وهو شريط الدنا، الذي يحتوي على المعلومات المهمة في كيفية بناء الخلية وهو قاعدة بيانات توضح مخطط بناء الخلية وكيفية قيام الخلية بأنشطتها الحيوية المختلفة، وتنقسم الأنوية في الكائنات الحية إلى حقيقيات النواة كما خلايا الإنسان، إذ تكون النواة في مكان مخصص محاطة بغشاء تحتوي على الكروموسومات، وإلى بدائيات النواة، إذ تكون محتويات المادة الوراثية عائمة في الخلية غير محاطة بغشاء [10].
المسامات النووية
تحتوي الخلايا حقيقية النواة على غشاء مزدوج يُحيط بها، والغشاء الخارجي مكون من خيوط الشبكة الإندوبلازمية ثم يتبعه فراغ نووي يليه غلاف آخر داخلي مكون من بروتينات ليفية يعرف باسم الصفيحة النووية تحمي الخلية من الانضغاط الميكانيكي، ونقاط ربط وارتكاز بين غشاء الخلية ومكونات السيتوبلازم، وأي خلل في هذه الركيزات سيُؤَدِي إلى أمراض عديدة مسجلة ومشهورة مثل أمراض ضمور العضلات.
يسمح هذا الغشاء بدخول المواد وخروجها بطريقة منظمة وصارمة جداً، وهذا الدخول والخروج يتم عبر بوابات معينة تُدعى المسامات النووية Nuclear Pore، وكما نعلم أنّ اللبنة الأساسية لكل شيء في الخلايا هي البروتينات، وآلة البروتين المسؤول عن البوابة هي بروتينات مجتمعة اسمها The nuclear pore complex (NPC) كما في )شكل 22 بروتينات المسامات NPC) وهي المسؤول عن دخول المواد وخروجها من النواة إلى السيتوبلازم في الخلية، وتتكون هذه الآلة من 500 إلى 1000 بروتين مجتمعة تقوم بمهمة دقيقة، وهذا ما يجعله أحد أعقد الآلات الخبيرة في الخلية، ولعلك تستغرب أنّ في الثانية الواحدة تصل عمليات الدخول والخروج إلى ما يزيد عن 1000 عملية، 1000 عملية في ثانية واحدة! في كل خلية في الـ37 تريليون خلية دون خطأ واحد، أي أننا نتكلم في اليوم عن رقم مهول في أقل الظروف سيكون عدد العمليات اليومي هو 10^27 عملية في اليوم دون أخطاء تذكر، 1 أمامه 27 صفر، ولو كانت نسبة الأخطاء 1 في المليار لما كانت هُنَاك حياة من أصله، ولعلنا نستطرد في شرح هذه الآلية كي لا ننسى كم أنّ الخلية مُعقَّدة!
إنّ هذه القناة مُعقَّدة جداً في آلية عملها، أغلب المواد لا يمكنها أن تدخل عبر النقل المجاني Passive Diffusion أي دون طاقة، فهي بحاجة إلى بذل طاقة لكي تدخل الخلية، وحتى تدخل البروتينات عبر المسامات يجب عليها أن تصطف وفق آلية معينة، إذ يجب على البروتينات التي تدخل المسامات أن تمتلك تسلسل حمض أميني معين يسمىNuclear Localization Signals، ويتم التعرف عليها بواسطة ناقل مُحدد اسمه Importin، إذ يفحص البضاعة المراد نقلها عبر mRNA cargo، ويتأكد من أنّ تسلسلها صحيح، وكأنه يفحص نصاً لغوياً للتأكد من سلامة قواعده النحوية، ثم يلتصق به مثل المفتاح والقفل ويأخذه عبر المسامات التي بها الـ NPCعبر اتصال تسلسلي بالبروتينات الموجودة بالـ NPC إلى أن يدخل إلى الخلية.
أضحى الطرد بداخل الخلية، يجب أن نقوم بفك وإخراج الناقل Importin؛ لكي يبقى في الخارج وينقل بروتيناً جديداً، ولهذا يأتي ناقل آخر اسمه Ran به GTP فيتصل بالناقل Importin ويقوم بالارتباط به ويجعله ينفك من البروتين المنقول، فيصبح الاتصال بين الـImportin والـRan، ويبقى البروتين المنقول وحده في النواة، ثم ينتقل الـ Importin والـRan المتصلين سوياً مرة أخرى من المسام عبر آلة الـ NPC بطريقة تسلسلية تتابعية، إلى أن يخرجا خارج الخلية، فيأتي بروتين آخر موجود في السيتوبلازم اسمه Ran به GAP فيحول الـGTP في الـRan إلى GDP فينفك الـRan عن الـImportin، الآن بقي أن نُعيد إدخال الـRan الذي يضم الـGDP إلى داخل النواة مرة أخرى وتحويله إلى Ran به GTP، ليكون جاهزاً للاتصال والإخراج لاحقاً، وهذه العملية تتم عبر ناقل آخر اسمه NTF2 يتصل بالـRan الذي به GDP ويدخل أيضاً عبر المسامات بآلية معينة تتفهمها [16] البروتينات الموجودة في الـNPC.
في داخل الخلية ثَمّة بروتين يُدعى Ran به GEF يحفز الـRan الذي به GDP لكي يُطلق الـGDP ويربط بدلاً منه GTP فيعود الـRan به GTP جاهز للاتصال من جديد، وهذه العملية المُعقَّدة جداً جداً والمدروسة بتخطيط هندسي عالٍ لا يمكن أن تتم إلا عبر تصميم متكامل عبقري، فلا يمكن أن تتم مثلاً دون أي بند من بُنود هذه السلسلة المتكاملة، ووجود أي عنصر ناقص يجعل العملية تفشل برمتها، إنّ بقاء الـRan المحمل بـ GTP داخل الخلية والـRan المحمل بـ GAP خارج الخلية أمر مهم للعملية، ولو حدث العكس لما تمت العملية من الأساس، هل انتهت العملية هنا؟ لا، لم تنتهِ؛ لأنّ هُنَاك نواقل لم نكمل ماذا حصل بها مثل الـ NTF2 وغيرها، وهذه المركبات هي كيمياء عمياء لا تعي.
ماذا عن عملية إخراج المواد من النواة إلى السيتوبلازم، أي العملية العكسية لما فوق، فلو كان هُنَاك بروتين نريد إخراجه، سنعيد الآلية نفسها، فهُنَاك ناقل mRNA cargo يفحص الأحماض الأمينية ويتأكد من أنّ تسلسلها صحيح تحت مسمى Nuclear Export Signals، وهذا كله عبر ناقل يُدعى Exportin فيتصل الـRan المحمل بـ GTP فيرتبط بالبروتين الخارجي والبروتين الناقل وتتحرك الثلاث عناصر سوياً عبر المسامات إلى الخارج بطريقة تتابعية، ثم يحصل تحلل مائي لـGDP فتنفصل العناصر، ثم يأتي ناقل آخر ليعيد الـ Exportinعبر المسامات إلى داخل النواة.
هذه الآلية المُعقَّدة التي يفحص بها Exportin أو الـImportin تسلسل الأحماض الأمينية بين ملايين الاحتمالات ويسمح فقط لأنواع بروتينات معينة كي تلج إلى داخل النواة أو خارجها وكأنه آلة ذكية مصممة بطريقة تَفُوق قدرتنا على المستوى الجزيئي لفحص هذه الشيفرات، لا يمكن أن نفكر بعدها إلا في تصميم هندسي متكامل، من المُستحيل أن يكون هذا النظام المُعقَّد قد جاء نتاج العشوائية، العقل لا يتقبل هذا الافتراض، هذا النظام وُضِع هكذا مرة واحدة، وضعه المصمم على خريطة ثم نفذه وقال له انطلق، هذا تعقيد غير قابل للاختزال فلا يمكن لأجزاء أن تبدأ ثم نضيف عليها أجزاء أخرى بعد 1000 عام، ثم نقول أننا قد أضفنا جزءاً آخراً بعد 4 آلاف عام إلى أن باتت بهذا الشكل، وإنني على استعداد لأن أدعو أي شخص على فرشوحة شاورما ليخبرني كيف لهذا النظام أن يكون قد أتى عبر مراحل متتابعة منذ آلاف أو ملايين السنين!
طبعاً، لعدد الثقوب وآلية توزيعها وترتيبها وحجمها في الغلاف وتكوينها، وترميزها بل وحتى أنواع النواقل المُختلفة للبروتينات المُختلفة تصاميمها الخاصة عجائب أخرى يمكن أن نستغرق عشرات الصفحات لشرحها، فعلى سبيل المثال يملك الـ NPCدورٌ مُساعدٌ في إصلاح تسلسل الدنا المعطوب عبر آلية كيميائية دقيقة بالاعتماد على بروتينات الميوسين الناقلة، والسؤال هنا، كيف تميز الـNPC الدنا التالف وتميز بينه وبين الرنا وتقرأ تسلسل قواعده بدقة وتحدد بعدها الفرق بين آلاف البروتينات المُعقَّدة في البناء!، والاحتمال هنا احتمال مُستحيل في هذا الجزيء الضئيل، الاحتمال هو 1 من 10^202 أي واحد من 10 أمامها 202 صفر وهو أكبر من كل احتمالات الكون فهو رقم أكبر من كل الجُسيمات في الكون، لأن بروتيناً واحداً فقط غير مناسب قادر على تدمير النواة وتخريبها، فليفسر لي شخص مرة أخرى هذا النظام الفائق بكلمات مفهومة!
هذا يكشف الدور الطبيعي للدنا كونه غير فعال بنفسه، إذ يجب أن يُقرأ ويُفسر أولاً إلى رنا RNA ليصبح ذا فائدة في الخلية، وهذا يجعلنا نتساءل، أين الطفرات في الدنا؟ إنّ الخلية لا تقبل الطفرات، ولا تقبل الدنا التالف لأنه بلا معنى، فيجب أن تقوم بإصلاحه أولاً لتستفيد منه وتقوم بقراءته لاحقاً إلى رنا ذو معنى للخلايا، وهذا ما سنوضحه في دور الدنا وآلية عمله.
هُنَاك آليات عديدة وطويلة للنقل بين الخلية ومحيطها الخارجي، وبين نواة الخلية وأجزاء الخلية، ولكل آلية خطواتٌ طويلة مُدهشة تَسُر الباحثين المتأملين، لا يسعني هنا إلا أن أذكر قفص الكلاثرين Clathrin (شكل 23 قفص الكلاثرين لنقل المواد ) الذي يقوم بحمل الجزيئات ونقلها داخل الخلية كما لو كانت خزنة مصفحة تنقل النقود من الخزينة العامة إلى خزينة البنك.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.