الدنا DNA

عند ذكر الدنا DNA الخاص بالحياة، فإننا نتطرق إلى شيءٍ كبيرٍ وعظيمٍ جداً، وهذه جملة اعتيادية في مقدمة شيء غير اعتيادي، تحتوي النواة على المادة الوراثية للكائن الحي، مرتبة في مجموعة من اللوحات تسمى الصبغيات (الكروموسومات)، يمكن تبسيط الفكرة بالقول أنه -نظرياً- لو تمكنا من زراعة أي نواة خلية فيمكننا أن نحصل منها على الإنسان الكامل نفسه، لأن الدنا عبارة عن مركز تخزين المعلومات وهو مثل القرص الصلب الذي يحتوي كل بيانات الكائن الحي، وبالمناسبة هو بمساحة 455 مليار جيجا بايت، كل خلية فيها دنا في النواة بهذه المساحة التخزينية! وهذا ما يجعل الباحثين يعملون دائماً على محاولة صناعة أقراص تخزين حيوية من هذه الشرائط الكيميائية.

إنّ الهدف الأساسي لنواة الخلية الحية هو إنتاج وبناء وإصلاح هذه الأشرطة التي تحتوي على المورثات (الجينات أو الشيفرات) التي تحتوي على بُنود وتفاصيل وعمليات حياتنا بالكامل، فضلاً عن قيام النواة بتخزين هذه الشرائط، إلا أنها مسؤولة عن نسخها بالكامل حينما تنقسم، وهي مسؤولة عن تسيير كل عمليات الخلية بناءً على التعليمات المخزنة فيها.

يُطلق على مجموع المُورثات في الكروموسومات بالجينوم أو المجموع الوراثي، ومن المفترض أنه يشكل خريطة مفصلة لبناء الإنسان وسير حياته من المهد إلى اللحد، كيف تتكون الخلية الأولى، كيف تنقسم، كيف تتكاثر، كيف يصبح طفلاً، كيف ينمو ليصبح إنساناً بالغاً، ما لون عينيه، ونوع بشرته، كيف ترسل كل خلية إشارات إلى غيرها، وكيف كيف كيف كل شيء، بل وتحتوي الخلية على لحظة فناء الإنسان البيولوجية سواء من أمراض أو من نهاية طاقة انقسام الخلايا النهائي (نظرياً).

تحتوي الكروموسومات على الصفات والعمليات في أشرطة من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA هذه الشرائط تحتوي على كل ما يلزم لكي يعمل جسمنا بالكامل [17]، وتحتوي كل خلية حية على ما يزيد عن متر ونصف من هذه الشرائط متصلة، مهمة هذه الشرائط هو حفظ كل المعلومات الخاصة بالكائن الحي ونقلها ونسخها وقراءة تسلسلها لاستمرار الحياة، أتَفهّم أنّ هذه الأسطر بسيطة، لكن ما تقوم به شرائط الدنا هو الحياة بأكملها، هيّا نحاول الغوص في الأعماق أكثر الآن، أرجو إضافة المزيد من الرصاص.

تحتوي نواة الخلية البشرية على 46 كروموسوماً مصطفة في 23 زوج من الكروموسومات تحتوي على المادة الوراثية، والكروموسوم موجود في الخلية على شكل الحرف X، وكل كروموسوم تقريباً لديه طول وانحناء مُختلف عن الآخر، في داخل هذه الكروموسومات خيوط ملتوية من الدنا، هذه الخيوط مرتبة ومكونة من فقرات معينة أشبه بالتعليمات تُدعى المورثات (الجينات)، وإنه من المفترض أنّ لكل جين بداية ونهاية وهدف معين، مثل طريقة صناعة بروتين معين، هذا الجين مكتوب بأحرف كيميائية هي الأحماض النووية، (شكل 24 الدنا في نواة الخلية)


شكل 24 الدنا في نواة الخلية

يحتوي كل كروموسوم على جينات مُختلفة لبناء أجزاء مُختلفة وتفسير عمليات مُختلفة، وهُنَاك من 20 ألف إلى 25 ألف جين مسؤولين عن بناء البروتينات (الرقم ٢٣٦٠٠)، وهُنَاك تقريباً العدد نفسه من الجينات غير مرتبطة ببناء البروتينات، وهي جينات لها علاقة بتفسير بناء البروتين عبر الرنا RNA، أي أنّ خلاصة عدد الجينات تقريباً في جسم الإنسان قد يصل إلى 50 ألف جين مرتبة في سلاسل الحمض النووي الدنا مكتوبة بأحرف الأحماض الأمينية، وملفوفة في شرائط تسمى بشرائط الكروموسومات، مرة أخرى نصف الجينات توضح كيف نبني البروتين، ونصفها الآن يوضح كيف نقوم بتفسير بناء البروتين.

تحتوي كل خلية في نواتها على الجينوم البشري كاملاً والجينوم هو كتاب تعليمات الإنسان، وتم تنفيذ مشروع ضخم لدراسة وتفكيك الجينوم البشري تحت مسمى Human Genome Project، وقد أدى هذا إلى الحصول على كتاب مكون 3.3 مليار حرف هو محتوى كل الدنا البشري، والجدير بالذكر أنّ ترتيب المُورثات في الكروموسومات هو ترتيب مُحدد وواضح وله هدف، وكل كروموسوم يحتوي على مورثات تقوم بوظائف معروفة، ومرة أخرى نظرياً لو أخذنا نواة خلية وزرعناها في بويضة، يفترض أن نحصل على إنسان كامل.


تحتوي كل خلية في أجسادنا على مركبين من المواد الوراثية وهما الدنا DNA والرنا RNA وهذين المركبين هما المسئولان عن قراءة وتخزين المعلومات الوراثية الخاصة بكل إنسان، وهما مسئولان عن إنتاج خلايا الجسم الجديدة وإنتاج البروتين اللازم للحياة، وكل كائن حي لديه جيناته (مورثاته) الخاصة التي يعتمد وجوده عليها، فمثلاً ميكوبلازما جينتاليوم Mycoplasma genitalium أحد أبسط أنواع البكتيريا الموجودة لديها ٥٠٠ جين تقريباً، وبكتيريا الإيشريشيا كولاي Escherichia coli أشهر أنواع البكتيريا التي تعيش في الأمعاء لديها ٤٣٠٠ جين، في حين أنّ فيروس الإنفلونزا (أصغر الفيروسات) الذي يسيطر على الخلايا التي يصيبها حتى يتكاثر لديه ١١ جين فقط.

عندما ننظر إلى هذين الحمضين نجد أنّ لهما وظيفتين، فعلى المدى القصير يقومان بتشفير جميع معلوماتنا الوراثية ويقومان بنسخ الجينات اللازمة للبناء، أما على المدى الطويل فيقوم الدنا بتخزين المعلومات الوراثية لنقلها عند انقسام الخلية إلى خلية أخرى، أما الرنا فوظيفته قراءة وفك تشفير المعلومات الموجودة في الدنا.

رسم توضيحي 14 تركيب شريط الدنا

الأحماض النووية

يتكون الدنا من شريطين ملتفين حول بعضهما البعض بشكل حلزوني، يحتوي هذين الشريطين على تعليمات مكتوبة وواضحة يمكن قراءتها في أي وقت، أما الرنا فيتكون من شريط واحد، والمكون الأساسي لهذه الأشرطة شيء يُدعى النيوكليوتيدة، هذه النيوكليوتيدة عبارة عن مركبات كيميائية تتكون من ثلاث وحدات بنائية هي:

  1. سكر خماسي.
  2. مجموعة فوسفات ³(PO4) مرتبطة بجزيء السكر عبر ذرة الكربون الخامسة.
  3. قاعدة نيتروجينية ويمكن اعتبارها الحرف الذي يكتب فيه التمايز بين المركبات، وتحتوي الحياة على 4 أحرف (مركبات كيميائية)، وهما في الدنا: أدينين ويرمز له [A]، ثايمين [T]، غوانين [G]، سايتوسين [C] [18]، وعلى سبيل المثال فإن TTA هي شفرة الحمض الأميني الليوسين، و TTT هي شفرة الفينيلالانين.

ترتبط النيوكليوتيدات مع بعضها في سلسلة عبر روابط تساهمية (مثل بناء البروتينات من الأحماض الأمينية) بين سكر أحد النيوكليوتيدات وفوسفات النيوكليوتيدة التالية لتكون العمود الفقري للدنا، ترتبط قواعد سلسلتي عديد النيوكليوتيد النيتروجينية مع بعضها وفق قواعد مُعينة مُسبقاً تُدعى قواعد الترابط الزوجي (A مع T وG مع C) وذلك عبر روابط هيدروجينية بسلسلتين ضد متوازيتين (الاتجاهات المتعاكسة) [19]، ولتحزيم هذا التشكيل الكيميائي آلية طويلة وروابط وهيكليات مُعقَّدة مثل هيكليات وروابط البروتين كما تم ذكرها.

والحقيقة أنّ محاولة تفسير أو فهم لماذا يظهر الدنا بهذا الشكل الكيميائي الخاص وليس بشكل آخر يقودنا لذهول يُؤَدِي إلى خروج العقل عن طوره، ولو أننا وقفنا عند كل مركب كيميائي ودرسناه من ملايين المركبات الكيميائية في الخلية لعرفنا عظمة الحياة، فمثلاً الهيكل الأساسي المكون من مجموعة الفوسفات الذي يربط النيكليوتيدات قادر على ربط النيوكليوتيدتين مع بقائه مؤيناً، والشحنة السالبة الناتجة من هذا التأيين تسمح بتثبيت المفاصل الفوسفاتية وحمايتها من التحلل المائي، مع الإبقاء على الجزيئات داخل الأغشية، ولا يوجد مركب آخر يُلبي الأدوار المُختلفة للفوسفات في الكيمياء الحيوية، وفي هذا الصدد نشر العالم فرانك ويسثايمر بحثاً بعنوان لماذا اختارت الطبيعة الفوسفات Why nature chose phosphates [20] لتوضيح هذه العظمة في هذه الجزئية غير المذكورة من جزيئيات الحياة الأخرى، ويوحي العنوان كما هو ظاهر أن الطبيعة المكونة من رمال وأنهار لديها الوعي لخلق الكائنات بما يناسبها بعد أن درست العناصر الكيميائية واختارت الفوسفات بعد التأكد من فعاليته.

أما الرنا فيختلف في دوره قليلاً عن الدنا ولتوضيح ذلك لننظر إلى أنواع الرنا:

  1. الرنا الرسول Messenger RNA (mRNA): أو اختصاراً المرنا، يقوم بنسخ أجزاء الشفرة الوراثية، إذ ينقل تلك الأجزاء إلى الريبوسومات والتي هي مصانع البروتين، ولكي يُصنع البروتين في الريبوسومات هو بحاجة إلى دليل إجرائي، وهذا دور الرنا، نسخ التعليمات من الدنا ونقلها إلى الريبوسومات.
  2. الرنا الناقل Transfer RNA (tRNA): بعد أن جلبنا الدليل الإجرائي نحن بحاجة إلى عامل يجلب لنا الأحماض الأمينية من السيتوبلازم لبناء البروتين، لعلك تذكر أنّ البروتينات مصنوعة من طوب اسمه الأحماض الأمينية، ولعلنا نذكر أنّ لكل حمض أميني ناقل خاص، وهذه العملية تسمى الترجمة Transcript.
  3. الرنا الريبوسومي Ribosomal RNA (rRNA): وهو المُكون الرئيسي للرنا الكلي في الخلية ويمثل نسبة 80-85% [18]، والذي أيضاً يمر على عُضيّات خاصة في الخلية مثل السبليسوسومات والسنيربوسومات.

حينما تنقسم الخلية فإنّه يجب عليها مضاعفة الدنا في نواتها لكي تنال الخليتان الناتجتان على المعلومات نفسها الموجودة في الخلية الأصلية، وللقيام بهذه العملية الطويلة السريعة تقوم إنزيمات التوبوإيزوميراز topoisomerase بفك تحزيم سلسلة الدنا أولاً ثم تقوم بفك السلسلة المضاعفة، ثم تقوم إنزيمات أخرى كعامل مساعد مثل إنزيم الهيليكاز helicase الذي يحل الروابط الهيدروجينية بين النيوكليوتيدات ويفصل السلسلتين عن بعضهما، ثم يُنتج سلسلتين متكاملتين عبر إنزيم بوليميراز الدنا DNA polymerase، ثم تبدأ عملية النسخ، حرف بحرف إلى أن ننسخ الـ3.3 مليار حرف في كل الكروموسومات وترتيبها بنفس الشكل وبنفس محتويات الخلية الأخرى مثل جهاز جولجي والميتوكوندريا التي يجب أن تكون متساوية تقريباً في الخليتين، الأمر أشبه بنسخ مكتبة وذلك عبر قسمها لقسمين، إذ نقوم بتصغير المبنى واستخدام مواده الخاصة لبناء آخر ولكن بصورة مصغرة، وكذلك نقوم بنسخ كل الكتب حرفاً حرفاً، ولعلي أذكر أن لكل نوع من أنواع الرنا آلية نسخ خاصة ومواضع خاصة لنسخه ولك أن تتخيل تعقيد العملية هذه بالمجمل والتي لا أنوي ذكر شيء آخر غير نسخ 3.3 مليار حرف بطريقة مرتبة، وهي أكثر تعقيداً من نسخ الكتب في المكتبات وترتيبها في موضع جديد دون أي خطأ، إذا لم يدهشك هذا، فلا داعي لإدهاشك بالشرح.

رسم توضيحي 15 شرح لعملية الانقسام، نجد في كل خطوة من الخطوات التخطيط العجيب والدور الوظيفي لأجزاء الخلايا المُختلفة في عملية الانقسام.


اترك تعليقاً