حتى لو كان الدنا يَصِف هذه اللبنات البنائية، فإننا كبشر لا نملك أي آلية أو فهم لكيفية التدخل ومقاطعة عمليات البناء التي تحدث بالشكل الذي نريده، هذه اللبنات بحاجة إلى مصمم ذكي يقوم باستخدامها وفهمها، هذه الآليات موجودة في العضيات الأخرى وليست موجودة في الدنا كما يبدو، فبمُجرَّد أننا نعرف مقادير كعكة البرتقال، لا يعني ذلك أنه يمكننا صنعها، بل نحن بحاجة إلى طباخ يعرف الخطوات، حتى في الحاسوب ولغات البرمجة، فلو لدينا كود برمجي متقن الصنع، فإن الحاسوب لا يمكنه فهمه إلا بوجود برنامج وسيط يُسمى المفسر أو المترجم.
وفي ظل وجود لبنات بنائية وعدم وجود تعليمات واضحة للبناء كما سبق التوضيح مثل تعليمات بناء ثلاثي الأبعاد مثلاً، وعدم وجود شخص ماهر يفهم العمليات كالمفسر، فإنّ عملية بناء الخلايا أمرٌ مُستحيل بالشكل الحالي، الأمر يحتاج إلى بحث أكثر من قبل العُلماء، لأن ما هو موجود الآن يرجع إلى قوى عظمي، شئت أم أبيت أن تصدق هذا، لكن هذا العلم يا عزيزي، وإلى أن يأتي علم آخر، عليك أن تؤمن بوجود هذه القوى الخارقة، لا تريد أن تسميها الإله، سمِها مايكل جاكسون، لكن يجب أن تقر بوجودها.
بعد البدء في مشروع ENCODE في عام 2003م، لم يعثر العُلماء في الدنا على آلية واضحة لبناء إنسان كامل واعٍ مفكر على الشكل الذي نراه، لا يوجد هيكل ثلاثي ولا مخطط واضح لبناء الإنسان، هي مُجرَّد لبنات وطوب لا أكثر، لكننا نعلم أن الطوب ليس المنزل، هُنَاك المخطط وهُنَاك خراطيم المياه وهُنَاك السباكة والحديد المسلح وهيكلية الأرضية والمغاسل والهدف من كل جزء وغيرها، وعلى الرغم من ظهور محالات تفسير هذا النقص مثل جينات النحت hox genes إلا أن كل المحاولات كلها لا تزال ضعيفة جداً لتفسير هذا السُلُوك.
حجم الدنا
ولو كان الدنا يَصِف أعضاء الجسم بدقة كاملة، لتوجب على حجم الدنا أن يكون أضعاف أضعاف الحجم الحالي، ولكن التشابه الغريب في حجم الدنا الخاص بالإنسان وبعض النباتات والحيوانات التي تصغره حجماً أمر لا يمكن تفسيره، فعلى سبيل المثال من المفترض أن تكون عدد أوراق مخططات بناء ناطحة سحاب أضعاف أوراق مخطط بناء منزل، هذا أمر بديهي جداً، لكننا نلاحظ العكس! فحجم الدنا على ما يبدو نسبي مقارنة بحجم الكائن وتعقيده كما في (شكل 29 حجم الجينوم مقارنة بتعقيد الكائنات)، ومُختلف جداً في عدد قواعده، وعلى الرغم من تقدم وتعقيد الثدييات، إلا أننا نجد حجم الدنا الخاص بها أقل من حجم الدنا الخاص بالبرمائيات أو حتى النباتات المزهرة! بل، لو قمنا بمقارنة بيانات دنا البرمائيات والنباتات المزهرة بالإنسان لوجدناها أكثر بعشر مرات على أقل تقدير.
المُضحك أنّ عدد جينات نبات الأرز يتراوح ما بين 32 ألف جين إلى 50 ألف جين، في حين أنّ الإنسان الذي يُعتبر أكثر المخلوقات تعقيداً يصل عدد جيناته إلى 23 ألف جين فقط، أي من المفترض أنّ الأرز أكبر منا بضعفين ونصف على الأقل، ويفوق عدد جينات سمكة الينفوخة Tetraodontidae ونبات الخردل كذلك عدد جيناتنا، أما السلمندر فله 10 أضعاف ما لنا! يا لفضيحتنا بين الكائنات، ولكن، ماذا عن الزهور؟ لعلي أصدمك بزهرة باريس جابونيكا Paris japonica التي تتميز بامتلاكها 149 مليار زوج من القواعد النيتروجينية، أي أنها أكبر منا ب50 ضعف [31]، يعني حبيبي الإنسان وكنت تحسب أنك جرم صغير! وفعلاً أنت جرم صغير، انصرف أيها الإنسان من أمامي، وإيتوني بزهرة الجابونيكا.
شكل 29 حجم الجينوم مقارنة بتعقيد الكائنات
دائماً ما افترض العُلماء أنّ حجم شريط الدنا الحالي هو الحجم الكافي لبناء الإنسان، كل ما يلزم لبناء الإنسان موجود في ذلك الشريط الطويل، ولكن لم توجد دراسة كافية لتوضح أنّ حجم الدنا الحالي كافٍ لهذه العملية، صحيح أنكم تسمعون البعض يقول أنّ 90% من الشريط لا قيمة له، كأن تقول إنّ المال المطلوب لشراء هذه السيارة يجب ألا يقل عن 100 ألف دولار، فيسلمك أحدهم مبلغ 5 آلاف دولار! أتخبرني أن 90% منه غير لازم، وهو لو كان كاملاً لا يكفي!
هُنَاك المزيد من العمل على العُلماء لتحديد إجابات هذه الأسئلة، وتحديد ما هو الجزء المسؤول عن ترجمة الدنا وتحديد سيره ووضع المخطط لعملية البناء، هُنَاك محاولات لربط هذا الأمر أثناء تكوين الجنين، لكن هذا غير ملائم كما يبدو، فتكوين الجنين أيضاً يحتاج إلى معلومات تَفُوق حجم الدنا الحالي [32]، بل حتى العُلماء لديهم معضلة كبيرة في تفسير تلقيح الخلية وتحولها إلى طفل في معضلة اسمها problem of morphogenesis [33] [34] فمن الواضح مرة أخرى أن شيفرة الدنا لا تسمح إلا بتشفير بنية الإنزيمات والبروتينات، لكنها لا تحفظ الخطط والعمليات والهياكل الشكلية، على سبيل المثال يداك وقدماك مُختلفتان بالشكل وفي الأداء وفي الهيكلية، ولكن كيميائياً كلاهما مكونان من التركيب نفسه، الخلايا نفسها، الأعصاب نفسها، الجلد نفسه، الشعر نفسه، والدنا نفسه في كل خلية، في الواقع الدنا نفسه في كل خلية، وهو لا يفسر هذا الاختلاف في الوظيفة أو الشكل [35].
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.