في بداية اكتشاف الدنا كانت هُنَاك مناطق في الجينوم البشري لا يُعرف الهدف منها، وما هي العمليات المرتبطة بها، وهي نسبتها كبيرة جداً تزيد عن 90% من المساحة الإجمالية ولعلها سميت بصحراء الحمض النووي، وقد أدّى هذا بسرعة إلى إطلاق اسم Junk – DNA عليها، أي الأحماض النووية الخردة التي لا لزوم لها، وقد كتب ريتشارد دوكينز كتاب عنها وقال بأنها نتاج تطور الإنسان من الأسلاف السابقة، وتحمل مهام سابقة حينما كان قرد أو حوت أو دودة، ولا داعي لها، وانتبه إلى أنّ هذا تخمين وليس علماّ ناتجاّ عن تجارب كافية، لكن لنمضِ.
حسناً، الصورة الحالية تقول عكس ما قاله دوكينز في القرن الماضي، فالعدد الآن يزيد عن كون 80% من الجينات فاعلة ونعرف الهدف منها وليس العكس[36]، في كل الأحوال فإن العدد النهائي للجينات التي ترمز البروتينات لا يزال غير معروف ومُختلف عليه، ومرة أخرى هذا الكلام قد تغير بعد عام 2012م بالكامل بسبب مشروع إنكود Encode بعد عمل 440 عالم و32 مختبر حول العالم، إذ توصل المشروع إلى خلاصة مهمة هي أنّ الجينوم البشري به 4 مليون مفتاح لتفعيل وتعطيل الجينات كانت تسمى سابقاً “خردة”!
ويستكمل المشروع أنّ لهذه المفاتيح دورٌ حيوي في عمل الخلايا، وعمل الأنسجة والأعضاء الحيوية واعتبر هذا الاكتشاف اكتشافٌ فارق وقاطع في مجال العلم لما له دور مستقبلي من كشف الأمراض وتحسين حياة المرضى وغيرها من الأمور المرتبطة بفك لغز الحياة [37]، وحسب البروفيسور جوب ديكر عالم الأحياء الجزيئية في كلية طب جامعة ماساتشوستس يرى أنّ العظمة تكمن في كون كل جين يحيط به مجموعة من العناصر التنظيمية في هيكل ثلاثي الأبعاد مُعقَّد للغاية ولم يتم حتى الآن إلا وصف واحد في المئة منه فقط، وعلينا الاستمرار لكشف الـ 99% المتبقية.
بعد عام 2012م، لا شيء من نصوص الجينات الخردة يمكن أن يكون ذا قيمة أكبر، لا دراسات الحيوانات ولا دراسات البشر، لا يوجد دنا خردة، كنا فقط نجهل ما نراه، وحسب أيوان بيرني المشرف العام لمشروع إنكود [38]، فإن لفظة الدنا الخردة يجب أن تصبح من الماضي ولا يجب استخدامها مرة أخرى بل ويجب شطبها، وهذا بعد عشرات الأبحاث منذ الاكتشاف الهائل في الدنا في مشروع إنكود، فهو مصطلح عتيق منذ السبعينات، وعلى ما يبدو أن نسبة 80% من الوظائف المكتشفة في الدنا ستصل إلى 100%، ويرى أستاذ التطور الجزيئي دان جراور أنه إذا كان مشروع إنكود على صواب، فإنّ التطور خاطئ، وحسب عالم الأحياء بي زيت مايرز فإذا كان أكثر من 3% من الجينوم البشري له وظيفة، فإنّ التطور يمسي عملية مهدومة، ونحن عزيزي لدينا للأسف رقم بعيد بعيد عنك حياتي عذاب.
يمكن اعتبار عصر السبعينات بالنسبة للدنا مثل عصر الديناصورات بالنسبة لنا، ولعلي أُخطّئ من تسرع في خياله ليقول دنا خردة بدلاً من أن يقول لا أعرف، لكن حدث ما حدث، هذا يعيدنا مرة أخرى إلى أنّ العلم يدخل فيه الخيال أحيانا بدلاً من كونه علوم مُجرَّدة، العلوم لا تتسرع ولا تحكم إلا بعد التجربة، لكننا هنا نرى حكم على 90% من الجينوم البشري أنه خردة لمُجرَّد أنّ من وصف ذلك لا يعلم، وعلى ما يبدو فإن الدنا الخردة كان مهماً جداً للتطور فكان لابد من التمسك به إلى الرمق الأخير مهما قال العلم.
يقول البروفيسور Antony Jose أستاذ علم الخلية وعلم الوراثة الجزيئية في جامعة ماريلاند أنّ الدنا هو قائمة المكونات فقط ولا يوجد به تعليمات أو آلية صناعة العضيات، التعليمات موضوع مُعقَّد أكثر، هي مخزنة في الجزيئات التي تنظم عمل الدنا، والدنا ليس خريطة حياة الإنسان ولا يفسر سير العمليات، فإن مثلاً جينات لون عيون الإنسان موجودة في كل خلية من خلايا الكائن الحي، وإنّ عملية قراءة هذه المعلومة من الدنا واستخراجها في مرحلة ما، في مرحلة صناعة العين لهي عملية أخرى مسؤول عنها جزيء آخر، ومعلومات هذه العملية مخزنة في مكان آخر غير الدنا، وهذا ما سبق ذكره فصول الكتاب.
إنّ العُلماء غير قادرين على تحديد المكان المسؤول عن التعقيد في شكل أي عضو كالعين مثلاً، أو حتى تحديد أنّ كائناً ما لديه عين أو شيء يشبه العين عبر قراءة الدنا، هذه الأمور موجودة في مكان غير الدنا [39].
سؤال في هذا السياق يقول: لماذا لم يتخلص التطور من الجينات الخردة، أليست شيئاً لا فائدة منه؟ فلماذا لا يتخلص الانتخاب الطبيعي منها كما تخلص من مئات الأمور الأخرى، 90% خردة وباقية؟ لو كانت 10% لقلنا مقٌبول بقاؤها، لكن 90% من الدنا في كل خلية يتم نسخها بلا جدوى طوال ملايين السنين! لا يستطيع أن يحذف سطرين، ألا توجد معه ممحاة مثلاً! الفكرة نفسها حول أنّ الإنسان مثلاً يستخدم 10% من دماغه، لماذا لم يتخلص من الـ 90% المتبقية خلال فترة التطور، لماذا يستهلك مساحة وطاقة وهي من أهم بُنود التطور ويدفع فيها دون أن يقوم بالتخلص منها، أم أنّ التطور يستطيع أن يصنع جناحين من لا شيء وغير قادر على مسح شيء، مع العلم أنها أرقام غير صحيحة، لا أرقام الدنا، ولا أرقام الدماغ، فقط نحاول أن نتساءل بمنطق.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.