في الغابة هُنَاك الأسود والغزلان، وفي جنس كل منهما أفراد يمتلكون صفاتٍ متباينة، ففي الغزلان تتوفر صفات القوة والمرونة العضلية في بعض الأفراد وأيضاً هُنَاك صفات الضعف والبنيان المتواضع في أفراد أخرى، تبقى الصفات متوزعة في القطيع دون مشاكل إلى أن يهاجمهم قطيع الأسود بشكل يومي، فسيتم اصطياد الغزلان الضعيفة بشكل أكبر، وسيتعايش أفراد الغزلان القوية وستتزاوج وتتكاثر وستختار الطبيعة بهذا الشكل الأفراد الأقوى والذين بدورهم سيتكاثرون مع الأقوياء وبهذا سيبقى نظرياً الأصلح أو الأكثر قدرةً على التكيف.

سادت هذه النظرة القديمة حول الانتخاب الطبيعي حتى ظهور النسخة الحديثة من نظرية التطور التي أكدت أنّ هذا لا يكفي لحدوث التغيير في الكائنات والسبب هو أنّ الانتخاب الطبيعي بشكله البسيط هذا لا يحدث، فالضعفاء لا ينقرضون بل يقل عددهم في فترة ما، ثم يعاود ظهورهم من جديد في فترات أخرى كما لو لم يتغير شيء، كذلك الجينات تبقى مخزنة لأجيال في الدنا وتظهر لاحقاً حتى لو مات كل الضعفاء في القطيع، والشواهد كثيرة مثل ظاهرة الفراشات البيضاء والسوداء في بريطانيا، والأهم من كل هذا أنّ الانتخاب الطبيعي لا يُؤَدِي إلى ظهور صفات جديدة، كأن تطير الغزالة أو تركب دواليب ويدفعها صاروخ، الانتخاب الطبيعي يُميّز الصفات من حوض الجينات فقط ولا بيانات إضافية تلحق بالدنا، لديك خزانة معدة مسبقاً بشتى أنواع الملابس، أنت تلبس اللباس المناسب لك في كل مناسبة، الملابس هذه موجودة في خزانتك وليست ميزة تطورية في جلدك، أنت تستخدم المتوفر غير الظاهر للجميع في خزانتك، وهذا ما يقوله العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنفسهم، أيضاً من المفترض ألا ينتج الانتخاب الطبيعي صفات مُفيدة فحسب فالقوي قد يكون لديه أمراض وراثية تنتقل إلى الأجيال اللاحقة، لذلك من المهم النظر للانتخاب كأنه عملية عادية وليست يد ذكية تنحت في الصخر، إنها عملية بلا هدف أو وعي.

رسم توضيحي 18 آلية الانتخاب الطبيعي

في الانتخاب الطبيعي يكون الأمر أقرب إلى الحصول على مزايا التهجين، فقد نستبعد صفات ونركز على صفات، وكل العاملون في مجالات إثبات حقيقة الانتخاب الطبيعي استطاعوا بعملهم أن يصلوا إلى نقطة معينة لا يمكن تجاوزها، إذ تعود الحيوانات والنباتات إلى نقطة البداية، برغم ما بذلوه من جهود جبارة طوال قرنين، فليس من الممكن الحصول على وردة زرقاء أو على شقائق نعمانية سوداء، ولم نرَ هذا حصل سابقاً ولن يحصل يوماً في الطبيعة رغم محاولات المهجنين، مرة أخرى لا يمكن أن ينتج أي أحد نوعاً جديداً بواسطة آليات الانتخاب الطبيعي، وهذا ما أدّى إلى تحديث هذه الفكرة وإضافة ملحقات مثل الطفرات وغيرها من المبادئ، لكن الموضوع بحاجة إلى المزيد من البحث، فالدراسات الحديثة تبين أنه حتى الحيوانات لا يلزمها التدافع والتمايز والتنافس لتعيش وتتكاثر [42]، فثَمّة أشخاص حينما تراهم تتعجب وتتساءل كيف تزوج هؤلاء، ليس هُنَاك ما يميز أحدهم، لكن ماذا نقول، الحب أعمى.

إنّ التقارب في الشكل أو في الدنا بين الكائنات لا يفسر لماذا توجد كل هذه الاختلافات بين الأجناس لاحقاً، فما سبب هذه الاختلافات في شكل الكائنات أو أجناسها، وما هي الميزة التطورية للبقرة عن الخنزير، لا يفسر الانتخاب الطبيعي هذا الأمر، لذلك لجأ العُلماء إلى إضافة فكرة الانتخاب الجنسي، إذ يفترض التطور أن يختار الذكر والأنثى في عملية التزاوج الأفضل، فينتج سلالات أقوى، ولكن هذه مرة أخرى فكرة غير دقيقة، فيتزاوج الأقوى مع الأجمل مثلاً في عالم الحيوان، فيبقى الأضعف يتزاوج مع الأبشع، ومن المفترض أن ينقرض ويتناقص الأضعف، لكن كما نعلم يجب على الضعيف أن يتزاوج، وفي عالم الإنسان نجد أنّ معايير الجمال مُختلفة، ومعايير القوة مُختلفة، فشخص قوي قبيح قد يكون غبي يتزوج من فتاة جميلة وغبية، وينتج سلالة قبيحة غبية، أو فتاة جميلة جداً تتزوج من غبي قد ورث مالاً، أو حتى شخص ذكي وقوي يتزوج من قبيحة لكن ذوقه هكذا، أو أنها أغرته بحركاتها .. إلخ، الجمال نسبي بين الناس، والقوة كذلك.

هُنَاك العديد من الأسئلة التي هي بحاجة إلى إجابة في الانتخاب الطبيعي، منها أنّ أي عضو جديد في الكائن الحي من المفترض أن يبدأ بسيطاً وغالباً معطوباً غير مكتمل فلماذا يختاره الانتخاب الطبيعي كصفة مُفيدة وهو تالف، فلا فائدة من نتوء في عظمة لتكوّن اليد مستقبلاً، لماذا يحافظ عليها الانتخاب الطبيعي وهي زائدة لا فائدة منها، أم أنّ الانتخاب الطبيعي لديه خريطة معمارية للبناء والهيكل، فيقول، دعوا هذه الزائدة، فهي ستكون حسب الخريطة المطبخ بعد آلاف آلاف السنين!


اترك تعليقاً