حسب نظرية التطور لقد تطور عصفور الدويري ليناسب المناخ في أمريكا الشمالية، وتطور البعوض ليناسب التغييرات المناخية في العالم، وتطورت الحشرات فأصبحت مقاومة للمبيدات الحشرية ومقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، ومن المفترض أنّ هذه أمثلة على التطور الصغروي أو الميكروي أو المجهري أو Microevolution، والذي من المُفترض أنه التغييرات التطورية التي تحدث في النوع الواحد في إطار محدود من القطيع.
من أمثلة التطور الميكروي الشائعة حسب نظرية التطور هي طفرات الملاريا، إذ كان هُنَاك طفرات هدّامة فأصبح كائن الملايا مضاداً للمضادات الحيوية، فقد حدث هذا الأمر مع الإنسان في الثلاسيميا، لكن لا أحد يمنحك تفسيراً على المستوى الحيوي أو الجزيئي كيف تطورت جينات الدويري لتناسب البرد مثلاً، أو كيف تغير جسمه بدقة وكيف أنتج مواداً جديدة وغير في هيكلية عمله بشكل يسمح له بالقيام بهذه العملية، أو كيف للحشرات أن تطور نفسها عبر الطفرات لكي تصبح منيعة ضد مواد معينة دون التغيير في جسمها والتأثير على عمل الأعضاء الأخرى، هذه النقاط البسيطة هي مربط الفرس حينما أريد أن أفهم، يخبرك التطور أنّ الأمر يعود إلى الأيائل فهي كانت كذا وأمست كذا في الكروموسومات، لكن ليس هُنَاك توضيح متكامل مترابط، ولا سجلاً واضحاً للتغييرات، إنها أشبه بفكرة تخيلية وليس هُنَاك أي دلائل عليها، ولو كنت مُؤمِناً وأردت الانتقال للتطور لما قبلت بأنصاف الحلول، أنصاف الحلول موجودة في الدين، أما العلم فيفترض به أن يقدم حلولاً كاملة لأنه يرفض أنصاف حلول الدين. يسأل شخص ما لماذا السماء زرقاء، فيجيبه آخر لأنه اللون الذي تحبه الطبيعة! وأتساءل لماذا يجب أن يتم تفسير كل شيء لم نعرف إجابته بهذا الشكل غير العلمي، هل لرغبتنا بحدوثه أي علاقة بالحقيقة؟ ما هي العلاقة الاستنباطية في هذه الفكرة الألمعية، بل الواضح في صور ما يسميه العُلماء بالتطور الصغروي هو بروز فكرة التكيف والتخطيط المُعَد مسبقاً.
وتظهر هذه الصورة بوضوح في مقاومة البكتيريا، وهي الآلية التي سنحاول فهمها وتحليلها لتوضيح جدوى التطور فيها، فمقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية يمكن أن تتم عبر آليات كثيرة منها:
- تقوم البكتيريا بإضافة مجموعات كيميائية للمضاد الحيوي أو إلى مستقبلات المضاد الحيوي، فيصبح المضاد الحيوي غير قادر على إجراء تأثيره ويصبح بلا قيمة، مثلاً تقوم البكتيريا في مستقبلاتها بإنتاج بروتين مُختلف عن الذي ترتبط به المضادات الحيوية وتكمل عملها بهذه الخطة رقم B، أو أن تقوم بتغيير هيكل غلافها الخارجي بالكامل.
- تقوم البكتيريا بإنشاء مضخات Efflux pumps تقوم بضخ المضاد الحيوي بعيداً عن الخلية، لكي يبقى تركيزه داخل الخلية في الحد الأدنى قدر المستطاع، لتقليل خطر المضاد الحيوي على عضيات الخلية.
- تقوم البكتيريا بتقليل نفاذية الغشاء الخلوي، فيقل دخول المضاد الحيوي إليها.
- تنتج البكتيريا إنزيمات تقوم بتدمير المضاد الحيوي وتكسرّه، كما يحدث في مقاومة البنسيلينات عبر إنزيم البيتا لاكتاميز β-lactamase الذي يؤرق الطب والعُلماء حول العالَم لما للبكتيريا من مقاومة سريعة حتى في أحدث المضادات الحيوية.
تملك بعض أنواع البكتيريا عدة آليات لمقاومة المضاد الحيوي وليست آلية واحدة، وبعضها يقوم بنقل خطة المقاومة إلى خلية أخرى عبر عدة طرق سجل العُلماء منها ثلاثة وهي:
- الاقتران Conjugation: ترتبط الخلية بخلية أخرى كما التزاوج، وتنقل الدنا الخاص بالمقاومة عبر جسيم صغير يسمى البلازميد Plasmid.
- التحويل Transformation: يمكن للخلية أن تجمع الدنا من الوسط المحيط وتضيفه في جينومها، مثلاً تأخذه من خلية أخرى ميتة متحللة.
- التوضيح Transduction: تنقل الخلية الدنا إلى خلية أخرى عبر فايروسات مخصصة Bacteriophage وهذا ما فتح آفاقاً واسعة في الطب الحديث، لأنّ هذه الفايروسات تصيب البكتيريا وهي لا تملك القدرة على مضاعفة الجينوم الخاص بها بنفسها.
رسم توضيحي 19 نقل مقاومة المضادات الحيوية عبر الطرق الثلاث المعروفة، المصدر Nature, Furuya and Lowy
هذه الطرق الهندسية المُتقنة في كشف المضاد كيميائياً عبر مُستشعِرات خاصة، وتمييز نوعه وفحصه وتحليله في مختبرات البكتيريا، ثم أن تقوم البكتيريا عبر خطة كاملة في جينومها بصناعة إنزيم مكون من مئات الأحماض الأمينية التي يتم إنتاجها بآلية دقيقة ونقلها وفق آلية دقيقة إلى مواضع مخصصة لتقوم بتكسير المضاد الحيوي تكسيراً لم يستطع العُلماء في كل المختبرات التوصل إلى فهمه إلا بصعوبة بالغة، لهو أمرٌ لا يمكن أن يعزوه صاحب منطق إلى صدف عشوائية، بل هي آلية مترابطة متكاملة مُعقَّدة أتت كما هي في لحظةٍ واحدة، بل وأن تملك البكتيريا الواحدة عدة طرق مُختلفة لمواجهة المضاد وأن تغيّر من حوائطها وبواباتها وهيكلها وغيرها، وأن تقوم البكتيريا نفسها بإفراز مضاد مُختلف حسب المضاد الحيوي الموجه لها، بالإضافة إلى قدرتها على نقل هذه الميزة إلى خلايا أخرى بطرق تخاطبية متقدمة لهو أمر يفوق التخطيط البشري مجتمعاً، فما بالك بمن يقول إنها صدف! والصدف التي ستأتي بإنزيم واحد فقط مخصص مكون من 270 حمض أميني من هذه العملية لا تكفيها احتمالات الكون كله، بالإضافة إلى أنّ فقدان أي جزء في هذا السيناريو الكامل سيُؤَدِي إلى عدم مقاومة البكتيريا ومن ثَم موتها!
لقد اكتشف العُلماء بكتيريا مقاومة محفوظة منذ مئات السنين، أي قبل ظهور مضاداتنا الحيوية، وهذا يعني أنّ المقاومة الحالية أمرٌ أصيل في البكتيريا وليس دخيلاً عليه، وكل ما في الأمر أنً البكتيريا الضعيفة تموت، وتبقى البكتيريا المقاومة لتنمو، وهذا التعقيد المُهيَّأ مسبقاً دفع علماء البكتيريا إلى التصريح بأن ما يقال حول تطور المقاومة أمرٌ ناقص ولا يجب تكراره، أمثال البروفيسور إرنست تشين الحاصل على جائزة نوبل في إنتاج البنسلين مع ألكسندر فيلمنج، وكذلك أشار الدكتور سيلمان واكسمن مكتشف مضاد الستربتومايسين الحيوي والحاصل على جائزة نوبل بقوله: إنّ ربط التطور بآليات المقاومة البكتيرية هو محض خيال علمي، وهذا ما أكده البروفيسور فيليبس سكيل مطور المضادات الحيوية بقوله: إنه ليس هُنَاك علاقة بين نظريات التطور الدارونية والمقاومة البكتيرية، ولماذا نقحم التطور في هذا الموضوع من الأصل!
اترك تعليقاً