إنّ السجل الأحفوري من الأعمدة المهمة في نظرية التطور، وتكمن فكرته في أنّ الكائنات السابقة بعد موتها قد دفنت في الأرض، وحتماً أنّ الأرض قد حفظت عدداً كبيراً منها في طبقاتها، وإذا قمنا بالتنقيب في طبقات الأرض السابقة سنجد هذه الكائنات، هذه الكائنات تحتوي بالتأكيد على حلقات وسيطة ظهرت أثناء تطور الكائنات المختلفة، على سبيل المثال حينما انتقل الحوت إلى اليابسة وبدأ يتحول إلى دب، على الأغلب ترك بقايا كائن ما بين الدب والحوت، مثلاً حوت يمشي على رجلين، أو حوت له بداية ظهور رجلين وبه بعض أجزاء التنفس الهوائي واستقامة القامة وغيرها، بل ومن المفترض أن نجد آلاف الأشكال الانتقالية أثناء تحول الحوت إلى دب، وقِس على ذلك باقي الكائنات الحية أثناء تحولها لكل كائن حي، يجب أن نجد لها آلاف الأشكال الوسيطة، وآلاف الحلقات ما بين انتقاله من كائن إلى آخر، أي أننا أمام ملايين ملايين الكائنات الانتقالية التي يجب أن تكون موجودة في الأرض، وهذا هو السجل الأحفوري.

كان داروين يأمل كثيراً في كتابه أصل الأنواع في السجل الأحفوري بأنه سيكون هُنَاك على الأقل آلاف الشواهد فيه إن لم يكن أكثر، وكان يؤمن بأن السجل الأحفوري سيكتمل يوماً ما وسيكون دليلاً على نظريته، وهو ما فتئ يقول: إذا كانت نظريتي صحيحة فسيكون هُنَاك الكثير من الحلقات الوسيطة الضائعة أثناء التطور والانتقال [62, 63]، وهو فعلاً ما يُمليه المنطق، وهذا ما شجع العُلماء من بعده إلى تكثيف البحث أملاً في إيجاد هذه الحلقات، وإيمانهم بأن الطبقات الجيولوجية المُختلفة ستكون ككتاب تاريخ حاضر على التطور، لكن ما وجده العُلماء لاحقاً كان عكس ما توقعته النظرية [64].

وجَديرٌ بنا أن نذكر ما قاله داروين عن المتحجرات، بالإضافة إلى جملة لو كان افتراضي صحيحاً فإننا سنجد آلاف الأشكال الانتقالية، فقد قال أيضاً عن عيون المخلوقات أنها شيءٌ مُبهر، إذ آمن داروين بأنّ العين تجعل نظريته في مهب الريح، فالكمال في عيون الكائنات أمرٌ مُدهشٌ في الإنسان وفي حيوانات قديمة كثلاثيات الفصوص، فالكمال هذا مُدهشٌ لدرجة أنه يجب أن تكون العين موجودة بهذا الشكل مرة واحدة، ويقول وكأنّ خالقاً قد أوجدها، ذكر بالضبط ما يشير إليه العلم الحديث عن التعقيد غير قابل للاختزال Irreducible Complexity، ما يُدهشك هو تجاوز هذه الصفحات من كتاب أصل الأنواع وإهمالها، لكن لا بأس.

إنّ وجود عظمة أ في طبقات الأرض ظهرت قبل عظمة ب لا يعني أن العظمة ب تطورت حتماً من العظمة أ، حينما تحفر وتجد في الأرض عظمة ترقوة بشرية، وتحفر أكثر وتجد عظمة ساق لكائن البيسون، فهذا لا يعني أنّ الترقوة ظهرت من عظمة البيسون، لأنّ التتابع لا يعني الترافق، وحتى الترافق لا يعني التتابع، وهذا ما سنعرضه في فصل الاستدلال، أنت بحاجة إلى دلائل كثيرة قبل أن تخرج بحكم أو نظرية.

نقطة مهمة أخرى وهي وجود أحفورة في طبقة قبل مليون عام، لا يعني أنّ الكائن لم يكن موجود قبلها بمليوني عام، لا يعني أنّ هذه الأحفورة هي بداية ظهور النوع نفسه، فقد يكون هُنَاك أحافير أخرى مندثرة لم نكتشفها بعد، أو أنّ هُنَاك طبقات قد طُمست من السجل الأحفوري لأي سبب كان، إنّ الأحافير لا تُثبِت شيئاً، بل تستطيع أن تنفي شيئاً، هي تنفي أن يكون هناك كائن موجود قبل 100 عام، لأننا وجدنا أحفورة لكائن قبل 500 عام، ولكنها لا تُثبِت أنّ ثَمّة كائن قد ظهر قبل 1000 عام في أول وجود له، هي أداة ناقصة فقط تفيد في توضيح تسلسل في منتصفه إن وجد، لكنها لا تُثبِت أي ابتداء.

هُنَاك 9 مليون كائن حي تقريباً، لكل كائن 1000 صورة انتقالية تطورية على الأقل، ولكل صورة 10 أحافير، أي من المفترض أن نجد 9 مليون * 10000 أي 90 مليار أحفورة، هذا الرقم سينقص جرّاء عوامل التعرية والضغط وما لم نكتشفه، ولكن ماذا اكتشفنا من كل هذه الأرقام في النهاية، اكتشفنا نسبة لا تكاد تذكر، لا تنسَ أننا وجدنا أحافير للبكتيريا القديمة فما بالك بكائنات كبيرة لم نجد لها أثر.

ناهيك بأنّ الأحافير لا تعطينا تصوراً عن سُلُوك الكائنات، فالهيكل العظمي للشمبانزي يشبه بشكل كبير الهيكل العظمي للبونوبو إلا أنّ الاختلاف السُلُوكي بينهما شاسع، ويتم تصوير أحافير البشر بهذا الشكل، فأحافير عظمية تشبه الهياكل الحالية للبشر يتم تشبيهها على أنها كانت بسيطة التفكير وأقرب إلى تفكر الحيوان، وهذا كله علمياً لا يصح.

إنّ متابعة موضوع الحفريات أمرٌ مُتعبٌ وشائكٌ لأنه يحتوي على كثير من التضارب والتلاعب، فمن حفرية أيدا Ida للليمور [65] التي أشار فيها العُلماء بأنها حلقة وسيطة ثم اتضح أنها مُجرَّد ليمور عادي، إلى حفرية لوسي للقردة التي بعد أن صدقنا أنها حلقة وسيطة اكتشفنا أنها مُجرَّد قرد مُنقَرِض وغيرها مما سنراه في الفصول التالية، ولكن بشكل عام السجل الأحفوري حالياً يمكن الاعتماد عليه بسبب وجود المنحنى التحصيلي، ولدينا أحافير تمكننا من الحكم حول تسلسل الحياة على كوكب الأرض وبخطية سيرها.

يمكن أن نلاحظ في السجل الأحفوري ظاهرة موثقة في الأبحاث تسمى بالثبات Stasis إذ تظهر الأنواع أنها تحافظ على شكلها الأصلي دون تغيير رغم ملايين السنين التي مرت عليها، وآخر ما تم توثيقه في جامعة هارفارد هو سلطعون عمره 99 مليون عام محفوظ في كهرمان في حالة ممتازة سمحت بإجراء دراسة تشريحية على خياشيمه وأعينه وأجزاء أخرى باستخدام تقنيات المسح والتصوير، وخرجت بنتائج أنّ السلطعون يبدو كما لو أنه سلطعون حديث Modern-Looking Crab كما في (شكل1 أحفورة السلطعون بعمر 99 مليون عام)، في حين أنّ السلطعونات حسب نظرية التطور والمستحاثات السابقة قد اعتمدت على أحفورة بعمر 50 مليون عام، وهذا يعني أنّ السلطعونات تسبق ما هو مكتشف ب50 مليون عام أخرى على الأقل، لأننا قد نجد أحافير بعمر 150 مليون عام بل ولربما ضعف هذا الرقم، من يدري، لا قاعدة لدينا لنفي هذا الأمر.


شكل1 أحفورة السلطعون بعمر 99 مليون عام [66]


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *