وفقاً للسيناريو الأكثر قٌبولاً وانتشاراً فإن الحياة انتقلت من البحر إلى البر، من الأسماك والبرمائيات إلى البر منذ ملايين السنين لتظهر بعدها الكائنات الأرقى أو الأحدث مثل الزواحف والطيور والثدييات، والسبب في هذه الفكرة الأساسية كما أشرنا في حساء الحياة هو وجود الماء والأملاح والمعادن وكل المكونات في وسط يسمح لها بالتفاعل، وقد دعم هذا الأمر بشدة وجود الملح (ملح الطعام؛ كلوريد الصوديوم) في أجسام الكائنات الحية، وهذا يعني أنّ الكائنات ظهرت في البحار والمحيطات أولاً ثم انتقلت لليابسة، إلا أنها لم تستطع أن تتخلص من الأملاح أثناء مسيرة التطور وبقيت الأملاح في دمائنا كدليل على البحيرة الأولى.
هذه الفكرة جميلة لكنها بحاجة إلى مراجعة وفق العلوم الجديدة التي بين أيدينا، لنبدأ بالملح، إنّ أي طالب علوم يعرف أهمية الأملاح في جسم الإنسان، فجسم الإنسان كهربائياً يعمل على المحاليل الملحية الموجودة فيه، فلولا هذه المحاليل لن يعمل القلب، ولن تعمل خلايا الأعصاب ولن تعمل الخلايا ضمن النسيج، بل حتى الخلية نفسها من الداخل لن تعمل، لا البوابات ولا النواقل ولا الريبوسومات ولا الرنا ولا النواسخ ولا الليسوسومات ولا الميتوكوندريا ولا أي جزء في الخلايا، والملح في جسم الإنسان يكون على شكل أيونات سالبة وأيونات موجبة، ولكي تنتقل أي إشارة كهربائية من مكان إلى مكان، نحن بحاجة إلى تحريك الإشارات الكهربائية هذه، والعملية متداخلة إذ تدخل فيها أملاح الصوديوم والبوتاسيوم والكلور وغيرها في توليفة مُعقَّدة تسمح بانتقال الإشارة، وأي نقص في أي عنصر تحدث مشاكل جمة في جسم الإنسان، قد يتوقف القلب أو الأمعاء أو كل جزء من جسم الإنسان.
قَد سألتُ البحرَ يَوماً هَل أَنا يَا بحرُ مِنكا ….. هَل صحيحٌ مَا رَواهُ بَعضُهُم عَنِّي وَعَنكا
أَم تُرى ما زَعَموا زُوراً وبُهتاناً وإِفكاً ….. ضَحِكَتْ أَمواجُه مني وقَالت
لَستُ أَدري!
أَيُّها البَحرُ أَتَدري كَم مَضَت أَلفٌ عَلَيكا ….. وَهَلِ الشاطِئُ يَدري أَنَّهُ جاثٍ لَدَيكا
وَهَلِ الأَنهارُ تَدري أَنَّها مِنكَ إِلَيكا ….. ما الَّذي الأَمواجُ قالَت حينَ ثارَت
لَستُ أَدري
يَرقُصُ المَوج وَفي قاعِكَ حَربٌ لَن تَزولا ….. تَخلُقُ الأَسماكَ لَكِن تَخلُقُ الحوتَ الأَكولا
قَد جَمَعتَ المَوتَ في صَدرِك وَالعَيشَ الجَميلا …… لَيتَ شِعري أَنتَ مَهدٌ أَم ضَريحٌ
لَستُ أَدري
فيكَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ أَصداف وَرَملُ ….. إِنَّما أَنتَ بِلا ظِل وَلي في الأَرضِ ظِلُّ
إِنَّما أَنتَ بِلا عَقل وَلي يا بَحرُ عَقلُ ….. فَلِماذا يا تُرى أَمضي وَتَبقى
لَستُ أَدري
رسم توضيحي 28 مراحل حركة الإشارات في النبضة القلبية، ونلاحظ في كل مرحلة دور الأملاح، ففي المرحلة الأولى يدخل الصوديوم ثم يتوقف دخوله تماماً، ثم يتم إدخال الكالسيوم في المرحلة الثانية، ثم في الهبوط على المنحني المرحلة الثالثة سيبدأ دخول البوتاسيوم، ثم في المرحلة الرابعة يبدأ دخول الصوديوم بنسبة قليلة من جديد، وهذه العملية تحدث مليارات المرات كل ثانية في كل عملية نقل أي إشارة أو تحريك أي خلية عضلية.
تنتقل الكهرباء في القلب كما في الأعصاب وذلك عبر عدة مسارات في عدة خطوات، كل خطوة منها تتم عبر أجزاء معينة منها، وهُنَاك مناطق في القلب لتسيير الإشارة وجعلها تستمر مثل الـSA Node والـ AV Node وغيرها، وهي ما تُفيد في عملية تراها دائماً في صعق القلب كما في الأفلام حينما يموت البطل.
بل حتى الأعصاب لا تعمل إلا بالأيونات، فأي إشارة من أي خلية لخلية أو من الدماغ لأي خلية أو عضو تنتقل عبر الأيونات بسرعة البرق، وتطبيق هذا الأمر كبير جداً في الأدوية والمخدرات وغيرها، لُغة التواصل في كل جسم الإنسان هي الأيونات السالبة والموجبة الآتية من الأملاح، وحينما تكلمنا عن النقل، مثل Passive Transport وغيرها من طرق النقل التي تحدث في اللحظة مليارات المرات هي تعتمد على الأيونات.
إنّ تصميم أو هيكلية الخلايا والأنسجة والأعضاء والجسم ككل تعتمد على وجود الأملاح، هذه المعمارية مصممة ومهيكلة على الورق قبل أن يتم إنشاؤها.
رسم توضيحي 29 تتابع حركة الأملاح في نقل الإشارات الكهربائية.
جميعنا نعلم أنّ الدلافين والحيتان تصنف من الثدييات وليست من الأسماك، وهي تعيش في الماء بعكس باقي الثدييات، ولكن كيف ظهرت هذه الثدييات المائية؟ كان داروين عام 1859م يرى أنّ الحوت قد تطور من الدب وعاد إلى الماء، ثم قال العالم فلاور في عام 1883م إنّ الحوت جاء من إحدى فصائل ذوات الحوافر، وفي بداية القرن العشرين اتجه التطور إلى أنه أتى من السيردونتات المُنقَرِضة، ثم قالوا بل من آكل الحشرات، إلى أن وصلنا إلى ستينيات القرن العشرين والنظرية التي يتم سردها بأن الحوت جاء من حيوان يشبه الذئب.
يرى التطور أنّ الثدييات قد تطورت من الزواحف، وكما نعلم فإنّ الثدييات والزواحف تطورت من البرمائيات التي غادرت الماء بسهولة، وأصل البرمائيات أسماك كما نعلم، ولكن السؤال هنا: كيف للزواحف التي تركت الماء أن تعود إليه؟ أم أنّ البرمائيات تطورت إلى الحيتان مباشرة بقفزة كبيرة؟ وإذا كانت الزواحف تطورت مرة أخرى إلى الحيتان ثم عادت إلى الماء، فكيف لها أن تفقد ما تطورت منه، كيف تفقد أرجلها وفراءها ونظام التكاثر الثديي وتتحول إلى كائنات بحُريّة، ولكنها أبقت على الرئتين ولم تعد لتتنفس عبر الخياشيم! السيناريو كما ترون مُعقَّد وغير مفهوم، ولِمَ حصل هذا؟ وما هي الميزة الحقيقية للتطور؟ ما الذي يميز الحوت مثلاً عن غيره من الثدييات التي تعيش على اليابسة؟ وهل من الصواب أن يتطور الكائن كل هذا التطور ويبقى حبيس رئتيه؟ عليه أن يصعد إلى السطح للتنفس كل دقائق، ولماذا لم يصغر حجمه وتبقى رئتيه كبيرتين؟ ونحن نعلم مسبقاً أنه لم يُوضَّح لنا كيف يفقد الكائن عبر آليات التطور أعضاءً كاملة، وكيف يكتسب أعضاءً كاملة أخرى كالزعانف وغيرها!
لقد قاربت ملامح قصة تطور الحوت على الاكتمال عام 1966م، على يد عالم الأحافير فان فالين حين رصد بعض التشابهات بين أحافير وسطية الحوافر Mesonychids وهي مجموعة من آكلات اللحوم المُنقَرِضة مع عظام أحافير الحيتان [80]، هذه لقد امتلكت هذه الحيوانات المُنقَرِضة الشبيهة بالذئاب أسناناً ثلاثيةً تشبه تلك الموجودة في الحيتان الحالية، فاستنتج العالم فان من تلك التقاربات أنّ الحيتان انحدرت منها، وقد أكمل العُلماء الدراسة من بعده بالاعتماد على الحوت الباكستاني Pakicetus والذي ظهر قبل 50 مليون سنة، ثم الاعتماد على الروديسيتوس Rodhocetus، وهو كائن ظهر قبل 46 مليون سنة [81]، وهو الكائن الذي يُفترض أنه يُشكل حلقة انتقالية بين البر والماء، ويُفترض أن يمتلك أطرافاً وذيلاً تشبه أطراف الحوت، إذ رسم مكتشفه الدكتور فيليب جنجريتش كل هذه الأعضاء الانتقالية من خياله إذ لا يوجد ذيل، وسيناريو سير التطور هو كالتالي:
- ظهر الـPakicetids قبل 50 مليون سنة.
- ثم ظهر الـAmbulocetids قبل 49 مليون سنة.
- ثم ظهر الـRemingtonocetids قبل 49 مليون سنة.
- ثم ظهر الـRodhocetus قبل 47 مليون سنة.
- ثم ظهر الـBasilosaurids قبل 40 مليون سنة.
رسم توضيحي 30 مراحل تطور الحوت.
وقد عَثَرَ العُلماء عام 2016م على أحفورة لحوت مائي كامل من نوع الباسيلوسورس Basilosaurus، وتم تأريخ ظهوره إلى 42 مليون سنة، أي أننا وجدنا حوتاً كاملاً في فترة قريبة جداً، وهذا يُلغي الكلام السابق، وأزيدك من الشعر بيتاً أنّ هذه الحفرية وُجدت في البيرو! أي بعيداً عن كل المسرح التطوري، وهذا سؤال آخر يجب الإجابة عنه.
حينما نعثر على أحفورة فإننا نستطيع الإجابة عن سؤال يقيني واحد، أنها كانت لكائن حي دُفن بعد موته في هذا المكان لنجد آثاره فيما بعد، هذه الحقيقة الوحيدة الثابتة، وغير ذلك من استنتاجات تبقى استنتاجات وليست تأكيداً علمياً كما يحدث، فالأحفورة لا نَجِدها وبجانبها شهادة ميلاد، اسمها كذا وهي ابنة كذا، لا نستطيع أن نجزم كما يفعل التطور بأننا وجدناها في الطبقة كذا فهي حتماً سلف كذا، فلو وجدنا حفرية خفاش، هل سنقول مثلاً هو ابن الثدييات لو لم يكن هُنَاك خفاش بيننا؟ بالطبع سيقول التطور إنه حتماً طائر تطور من سحلية اسمها الفيقوفيتش (اسم خيالي) وكانت تعيش في الكهوف ولها ريش خفيف!
مع تطور شجرة الحياة، اكتشف العُلماء أنّ الذئب الذي اعتمدوه كمصدر للتطور يوجد به عيب، وهو بعيد عن كونه قريب للحيتان، ولذلك نجد خطأ الاستدلال الدائري ظهر مرة أخرى في التطور لتُثبِت وجهة النظر، فنحن نستدل في العادة بالأحافير لرسم السيناريو، إلا أننا هذه المرة سنستخدم السيناريو لتأكيد تسلسل الأحافير.
لدينا المزيد، هل تعلم أنّ الحفرية الأولى للحوت الباكستاني هي عبارة عن جزء من الفك وجزء من الجمجمة كما في (شكل 36 الحفرية الأولى للحوت الباكستاني). إلا أنّ العُلماء استنتجوا منها كل الاستنتاجات الضخمة، مثل شكل الحوت وزعانفه وأنه كان يسبح ويصطاد السمك! لا أدري ماذا أقول لكن لنكمل، وبعد ذلك بسنوات طويلة وفي بدايات القرن الحادي والعشرين تم اكتشاف أحفورة أفضل وتحتوي على قطع أكثر للحوت الباكستاني، وكما أراها في (شكل 36 الحفرية الأولى للحوت الباكستاني). أنها كائن ثديي وليست حوتاً، فهل ترونها أقرب للحوت كما العُلماء؟ أم أقرب للثدييات كما غير العُلماء؟
إذا كنت تراها كما الثدييات فأنت مُصيب، لأنّ العُلماء يقولون بوضوح أنها كائن ثديي كامل وليست مرحلة انتقالية [82].
شكل 36 الحفرية الأولى للحوت الباكستاني.
حينما بدأت بكتابة هذا الفصل، كنت أكره التفكير في كتابته، لما فيه من تغيير وتلاعب، فحينما تم تأكيد أنّ الحوت الباكستاني حيوان ثديّ، قام العُلماء برسمه مرة أخرى بأرجل قصيرة ومنحنية للخلف وبطريقة توحي أنه حوت سبّاح، لم يكتفِ العُلماء بحذف هذا السيناريو من التطور، بل قاموا باعتبار كائن الـ Ambulocetus حلقة مفقودة!
هل يتطوع عالم ما لإخبارنا كيف تم التوصل إلى صورة كائن حي كما هو مرفق بالأسفل من بعض العظام فقط؟ كيف تم وضع زعانف على يديه وقدميه من بعض العظام؟ أنا أتساءل ولا أتهكم! الأمر مشابه لما حدث مع كائن الـRodhocetus، وقد اعترف العالم جنجريتش الذي أخرج السيناريو البوليودي لاحقاً أنّ الذيل والزعانف وغيرها كان من فضاء خياله الواسع [83] [84].
رسم توضيحي 31 صورة الكائن الحقيقي دون إضافات.
حسناً، كما نرى فإن كل السيناريو الموجود محض تخيُّل أو تم تعديله لاحقاً، لكن (الصورة 8 صورة تعبيرية عن الحوت في مراحل تحوره). ستبقى محفوظة في خيالك مهما حاولت أن تمحوها، وستبني عليها الأفكار التي تقول: إنّ التطور ممكن.
صورة 8 صورة تعبيرية عن الحوت في مراحل تحوره.
ثَمَّة إشكالية إضافية في شجرة تطور الحوت، فطوال هذه الاكتشافات، كان العُلماء يَعزُون فيها إلى أنّ الحيوان أ ظهر بعد الحيوان ب وهكذا، لكنهم كانوا يترفعون في رسم شجرة الحياة عن وجود سلف مُشترك وتسميته، ولأننا لم نوضح في الكتاب آلية قراءة شجرة الحياة وفهم الرسومات المتعلقة بها، إلا أنه باختصار يجب أن يكون لكل كائن سلف مُحدد واسم خاص، وفي شجرة الحوت لا يوجد أسلاف بالمطلق.
لا تنسَ أنّ كل هذا السيناريو الضخم وعشرات الأنواع التي كتبها العُلماء جاءت فقط لأنهم وجدوا بضعة أحافير، والتي من المفترض أن نجد الملايين منها حتى نقول أنه قد حدث بالفعل، وما عزز هذا التيه أكثر أنّ الإشكالية تعدّت فقر السجل الأحفوري في عدد الأحافير إلى عدم تقديمه أي بيانات جزيئية أو سُلُوكية أو بيانات عن الأنسجة الرخوة التي تساعد في إجراء المقاربات المطلوبة، وهذا ما قام بدارسته وتوثيقه العالم O’Leary في سجل في سجل الحيتان الأحفوري، وأنتج رسماً بيانياً، وقرّب إلينا الفكرة عبر رسم بياني يحدد حجم البيانات التي يمكن أن يزودنا بها سجل الحيتان الأحفوري ومثّل البيانات التي يصعب جمعها بمنطقة سوداء تُمثل غالبية المساحة البيانية.
رسم توضيحي 32 رسم بياني لبيانات الحوت المتوفرة مقارنة مع البيانات غير المتوفرة للحكم بدقة على تطور الحوت
[85].
لكن، هُنَاك من الأساس اختلاف بين العُلماء على سلف الحوت، فهل هو كائن من مُزدوجات الأصابع Artiodactyls أم كائن من وسطية الحوافر Mesonychians؟
لو اعتبرنا الحيتان أقرب الأقارب لمُزدوجات الأصابع Artiodactyls سيكون علينا تجاهل التشابه بين الأسنان وشكل الجمجمة، ولو اعتبرنا الحيتان أقرب الكائنات إلى وسطية الحوافر Mesonychians فعلينا تجاهل التشابهات بين عظمة العقب واعتبارها مُجرَّد تقارب convergences [86]،
بعيداً عن متاهة السلف المجهول فإن الاختلافات بين الحوت البحري والسلف البري لا تُعد، وتكاليف التحول إلى الحيتان مرتفعة جداً، ويجب أن يحدث التطور بسرعة ضوئية وبعدد هائل من التكيفات والطفرات المُفيدة، والتي حسب التطور لا تتعدى 10 مليون سنة حسب السجل الأحفوري لتحول ثدييات اليابسة إلى حيتان ماء، هذا أمرٌ مُستحيل من ناحية التطور، ستحتاج الحيتان إلى العديد من المزايا الفريدة حتى تتمكن من العيش في الماء مثل ملامح الهيكل العظمي التي يجب أن تتغير جذرياً، وكذلك آليات وظائف الأعضاء للكائن الحي.
على سبيل المثال لا الحصر، فإنه في وقت مبكر قبل 49 مليون سنة كان من المُفترض أن يشرب الحوت الجوّال Ambulocetus المياه العذبة طوال حياته أما الحوت الأولي Protocetid فقد شرب المياه المالحة قبل 47 مليون عام، أي أنّ تغييراً متطرفاً في وظائف أعضائه يجب أن يحدث في مدة أقل من 3 ملايين عام، وهنا سيتوجب على هذا الحوت الأولي التطور بطريقة دقيقة لإنتاج التحسينات في وظائف الأعضاء خلال حقبة الثلاث ملايين عام القصيرة جداً في التطور، وفي الوقت نفسه يجب عليه أن يطور مُختلف الآليات الحيوية والعضوية مثل الغطس لمسافات طويلة وتبادل الأكسجين مع تطوير نظام شامل لتنظيم درجة الحرارة وتخزين الدهون في وقت قصير يخالف كل النظرية، مع اختلاف نوع من تغذية الحيتان عن الحيوانات البرية في آلية اصطيادها، فالحيتان يجب أن تكون مجهزة لهذه التغييرات وأن تكون مستعدة للغوص العميق، وإمكانية إرضاع صغارها في الماء.
إحدى الإشكاليات في الثدييات هي كونها من ذوات الدم الحار فهي تمتلك درجة حرارة ثابتة أعلى من درجة حرارة الزواحف والأسماك والبرمائيات، وهناك مشكلة عظيمة لكي يحافظ كائن ثديي يعيش في الماء البارد على درجة حرارة جسمه، إلا أننا نرى الحيتان قد صُممت بهياكل مخصصة مُعقَّدة ولديها المبادلات الحرارية المعاكسة countercurrent heat exchange التي تحافظ على حرارة جسمها ثابتة [87] كما في (شكل 37 المبادلات الحرارية المعاكسة في الحيتان)، إذ تتحرك الدماء باستمرار من اللسان لباقي الجسم وتعود في دورة للمحافظة على حرارة الأعضاء كاملة.
شكل 37 المبادلات الحرارية المعاكسة في الحيتان.
شكل 38 آلية عمل المبادلات الحرارية المعاكسة في الحيتان.
ماذا عن تطوير نظام السونار المتقدم الموجود في الحيتان؟ وتحديد الأماكن عبر صدى الصوت كوسيلة للاتصال تحت الماء من خلال الموجات الصوتية، وهو النظام الدقيق الذي تحسده عليها أكثر الغواصات تقدماً، إذ يمكنها الكشف عن سمكه في حجم كرة الغولف على مسافة 70 متر! كيف أتى هذا النظام من العدم في فترة قصيرة؟ بل هل من الممكن للطبيعة أن تطور هذا النظام؟
يقول العالم روري هاولث بعد أن درس هذا النظام في الدلافين إنّ تلك الأنماط لا بد لها من تصميم رياضي بالغ الدقة لكى تعمل، فنظام السونار موجود في نتوء دهني في جبين الحيتان والدلافين يسمى البطيخة، وهو عبارة عن عدسة من تجمعات دهنية مُختلفة مصممة لتركيز الموجات الصوتية المنبعثة في شعاع يمكن للحوت أن يوجهه كيفما شاء، ويجب أن تكون التجمعات الذهنية المُختلفة مرتبة بالشكل الصحيح والتسلسل الصحيح حتى يتسنّى لها فهم أصداء الصوت العائدة، كل نوع من هذه الدهون مُختلف عن الدهون الطبيعية وهو نوع فريد من نوعه، وتتكون هذه الدهون من خلال عملية كيميائية مُعقَّدة باستخدام بروتينات ومصانع مُختلفة [88]، ليتطور هذا الجهاز، يجب أن تتخيل جهاز أكثر تعقيداً من سونار أحدث غواصة ظهر من تلقاء نفسه عزيزي صاحب العقل الكبير.
هذا التفصيل البسيط في هذا الجهاز الصغير، يأخذك للتفكير في بقية أعضاء جسم الحوت، يجب أن تفكر في الشرايين الممدودة، الأعصاب المتفرعة، الخلايا الجديدة، الخرائط الحيوية وغيرها، ولا تنسَ أنّ هذا كله موجود في بنك المعلومات في الدنا، مرسوم بدقة كيف نبنيه وكيف نصلحه حتى نستطيع إعادة بنائه من جديد في الأبناء، إليك بعض النقاط المُدهشة في الحوت:
- عيون مصممة لمعاملة الرؤية بشكل مناسب تحت الماء مع عوامل الانكسار، بالإضافة إلى قدرته على تحمل الضغط العالي.
- آذان مصممة بشكل مُختلف عن تلك الثدييات البرية التي تلتقط الموجات الصوتية المحمولة جواً ومع طبلة الأذن محمية من الضغط العالي.
- يفتقر الجلد إلى الشعر والغدد العرقية بالإضافة إلى طبقة دهون للعزل الحراري وتحمل الضغط.
- التنفس على الجزء العلوي من الرأس blowholes، وهذا يتطلب تغييراً جذرياً في هيكلية جسم الحوت.
- ظهور ذيل الحوت والجهاز العضلي المرتبط به بالكامل.
- تعديل الجنين في موقف المقعدية للولادة تحت الماء.
- تعديل الجنين نفسه ليتلاءم مع البيئة الجديدة.
- تعديل الثدي ليتمكن الأطفال من الرضاعة تحت الماء.
- فقدان الحوض والفقرات العجزية.
- إعادة تنظيم الجهاز العضلي ليتناسب مع السباحة وحركة الجسم الانسيابية.
- التبول وعملية الجنس والولادة وغيرها، نحن نتكلم عن كائن جديد!
لا أعرف ما هو مُدهش أكثر من هذا، فكل خطوة من الخطوات مُعقَّدة جداً حينما أتخيلها، تخيلت نفسي أتعلم السباحة، بصعوبة تامة بعد أشهر تمكنت من السباحة جيداً ولم أتغير مع ذلك! فما بالكم بذئب يسبح، ومطلوب منه أن يغوص في البرودة والضغط ويغير طعامه وأسنانه ومعدته ورئتيه ورؤيته وغيرها.
رسم توضيحي33 خلاصة سيناريو تطور الحوت.
يجب أن نفكر في كيفية حُدوث هذا السيناريو المُعقَّد في إضافة المزايا لكل كائن تحول في نظرية التطور، وفي كل فقرةٍ انتقالية، حتى نقول إنّنا نفكر بشكلٍ علمي، بل ويجب إحداث التفكير في أبسط الأمور، مثلاً لماذا تملك الحيوانات خمسة أصابع، وليس سبعة أو عشرة، لماذا تطورت اليد بهذا الشكل ولم تتطور إلى شكل آخر. إنها أسئلة بسيطة، لكنها جاءت في صلب عملية التطور، وكيف يقول العُلماء أنّ الزواحف حصلت على هذه الميزات وأمست ثدييات من الأساس؟ الأمر ببساطة كالتالي: بعض الزواحف التي عاشت في المناطق الباردة قبل 310 مليون سنة بدأت في تطوير طريقة للتدفئة، وانخفض فقد جسدها للحرارة بعد أنّ غطّتها القشور، ثم تطورت القشور إلى فرو، وبدأت تُفرز العرق كتكيّف آخر في عملية تطور التدفئة، ولكن بالصدفة لعقت صغار هذه الزواحف بلعق عَرَق الأم حتى ترطب نفسها، وهنا بدأت غدد ما بإفراز عرق ذي كثافة أعلى تحول في النهاية إلى لبن.
الحليب كان أساسه غدد عَرَقية! إلى اليوم لم تستطع البشرية تصنيعه في المختبرات ونحتاج إلى حلب الأبقار وندمر الكوكب مضطرين لهذا الضرر جراء الأبقار وتكلفة تربيتها العالية على البيئة، لتأتي وتخبرنا أنّ الحليب المُغَذي المليء بالبروتينات والدهون والأملاح والمضادات هو عَرَق مُحسّن!
حسناً، عملية لعق غدد العَرَق قد حولتها إلى ثديٍّ يَدُر حليب، ولكن كم مدة حصول هذا التحول؟ يوم؟ شهر؟ مليون سنة؟ فنحن نعرف أنّ الصغار المولودة حديثاً لن تتحمل أكثر من عدة أيام دون حليب، أم أنّ الصغار كانت تأكل اللحوم وتلعق العَرَق؟ ولاحقاً بعد ملايين السنين من تطور الغدد الثديية وبروز الحليب تركت اللحم وأسقطت طقم الأسنان وقالت: ماما ماما أولديني دون أسنان وبمعدة مجهزّة لِلَّعق، لا أريد اللحم فهو يسبب السمنة، وقالت الأم حاضر يا بنيتي لك هذا، نحذفلك الأسنان من جيناتك وأنتِ طفلة، ونركب لك أجهزة متخصصة للتعامل مع الحليب، مبسوطة يا بنيتي؟ الله يخليلنا إياكي يا ماما ويخليلنا الحليب طعمه لذيذ، من دونك يا ماما ما عرفنا نشرب الحليب، وعاش الجميع بسعادة وهناء.
اترك تعليقاً