إنّ كل مادة كيميائية تدخل جسم الإنسان سواء كانت طعاماً أو دواءً هي سم قد يفيد جسمه! تسبب كل مادة أضرراً عديدة على أنسجة ما في جسم الإنسان، لذا يحاول الجسم عبر تسخير الكيمياء أن يقلل من هذا الضرر قدر المستطاع معتمداً على النظريات الكيميائية الدقيقة، يحذو حذو مختبر كيميائي يضم مئات المختصين الذي يقرروا إجراء تعديلات كيميائية لكل مادة مجموعة لدرء خطرها.
بعد أن يتم امتصاص الطعام من الجهاز الهضمي في عملية دقيقة ومتنوعة الأجزاء، يمر الطعام عبر الوريد البابي Portal vein إلى الكبد أولاً ثم تنتقل المواد الممتصة إلى باقي الجسم، ليبدأ الكبد مُمَارسة ما يبرع به والقيام بما هو مصمم من أجله، ألا وهو إزالة أو تقليل السُمِية من المواد الغذائية عبر عدة تقنيات كإفراز الإنزيمات مثل إنزيم Cytochrome P450 في عملية تسمى إزالة السُّمِية، وإنّ المركبات الكيميائية داخل الجسم مواد شديدة التعقيد، ويدرسها علم في كيمياء الأدوية يركز على فهم الشكل الكيميائي وعلاقته بالتأثير الحيوي على الكائنات، وكيف يمكن كيميائياً تحسين تأثير أي مادة كيميائية عبر تقليل سُميتها أو تحسين عملها أو إطالة مدتها أو تحسين إخراجها بل وصناعة مادة مضادة لها داخل الجسم، وهذا ما يقوم به الكبد حرفياً.
وقد وجد العُلماء أنّ هُنَاك مجموعات كيميائية مُحددة تؤثر على خلايا معينة في جسم الإنسان، وببعض التعديلات الكيميائية المدروسة يمكن تحسين تأثيرها وتحقيق الاستفادة الطبية منها، فمثلاً المجموعات التي تحتوي على مجموعة أمين رباعية، يمكن أن تعمل كمسكن عضلي جيد، ولكي يعمل مركب ما على المستقبلات الأدرينالية Adrenergic يجب أن يكون له هيكلية معينة، وهكذا.
إنّ عملية تصميم الأدوية عملية مُعقَّدة ترتبط بعوامل عديدة مثل الحامضية والذوبانية والقطبية والذرات المجاورة للمجموعة الوظيفية والتهجين… إلخ، إذ يجب أن تكون المادة ذات حامضية معينة ليمتصها الجسم ثم ذات حامضية أخرى لتصل إلى الخلية، ثم ذات ذوبانية أخرى لكي تدخل الخلية وهكذا، إلى أن يتم تعديلها مرة أخرى لتخرج عبر الكلية، ولهذا تصل عملية اكتشاف دواء جديد إلى ابتكار ما يقارب 10 آلاف مادة كيميائية وتجربتها وتحسينها عبر عشرات المختصين في الأحياء والكيمياء العضوية والحيوية والأطباء والفنيين بتكلفة قد تصل إلى 500 مليون دولار، ومدة 10 سنوات في المتوسط، هذا كله لإخراج مركب واحد فقط لا يقتل الإنسان ولا يدمر الأنسجة ويتكامل مع مئات آلاف المركبات الأخرى في الجسم.
تبدأ عملية إزالة السُّمية من المعدة ثم تمر على بكتيريا الأمعاء ثم تصل إلى ذروتها في الكبد عبر تأثير المرور الأولي First pass effect وذلك عبر طورين كيميائيين عظيمين صنفهم العُلماء هما تفاعلات الطور الأول Phase 1 Reactions وتفاعلات الطور الثاني Phase 2، وعملية تحول المواد حيوياً باستخدام الكيمياء تتم داخل الجسم في الكبد وفي أماكن أخرى لكن سنركز على الكبد وعلى الطورين الشهيرين، إذ يجري فيهما تحويل المواد الكيميائية إلى مواد ذات ذائبية أعلى يسهل إخراجها عبر الكلى، وذات سمية أقل على الجسم [126]، وهذين الطورين متكاملين ولهما نظام برمجي موحد، إذ لا تتم العمليات عشوائياً بل عبر آلية واضحة وبمواد مُحددة لكل طور من الأطوار المُختلفة والمرتبطة بعمليات الجسم اللاحقة.
وفي تفاعلات الطور الأول تتم عدة عمليات كيميائية بطريقة دقيقة مباشرة وغير مباشرة حسب المادة إلا أنها في النهاية تتمثل في عمليات كيميائية على المجموعات الوظيفية في المركبات الكيميائية مثل العمليات التالية:
- أكسدة Oxidation.
- اختزال Reduction.
- تحلل مائي Hydrolosis
لا أريدك أن تفكر كثيراً حول كيف يمكن للكبد أن يحدد المجموعة الوظيفية الكيميائية في المركب ويستبدلها بمجموعة أخرى؛ لأن ما يقوم به الكبد كيميائياً أكثر تعقيداً من هذه العملية البسيطة، والمجموعة الوظيفية هي المجموعة التي تعطي المركب المُعقَّد وظيفته الكيميائية وهي ذات طرق تحديد كيميائية لا داعي لاستعراضها، ويعرف الكبد عمليات كيميائية شديدة التعقيد، مثل أنّ استبدال مجموعة كيميائية بمجموعة أخرى تُبقي على المركب فاعل، لكنها تقلل من درجة الحموضية أو تزيد من درجة الذوبانية، ويتم نقل بعض المواد من الطور الأول إلى الطور الثاني الأكثر تعقيداً، إذ تتم فيه عملية إضافة مجموعات وظيفية على المركب لتحويله إلى مركبات ذات فاعلية كيميائية أقل.
ولتوضيح جزء من العمليات الكيميائية، سنستعرض فقط عملية واحدة من عمليات الطور الأول، لأنّ ذكر جميع العمليات والأطوار سيُكلفنا مجلداتٍ كثيرة، لنستعرض عملية الأكسدة فهي الأشهر وتحدث بكثرة في الإنزيم Cytochrome P450، فهي تحدث على أحماض أمينية وستيرويدات والكثير من المواد العضوية في الكائن الحي، وتحدث أيضاً على مواد دخيلة على الجسم مثل الأدوية والمبيدات الحشرية والملوثات وكل ما لا يعرفه الجسم من مواد كيميائية، ولا أعرف ماذا أشرح من تعقيد هذه العملية، لأنها متكاملة ولها شروط كثيرة، ومن هذه القائمة الطويلة لبعض العمليات التي سجلها العُلماء، سنأخذ نموذجاً على عمليات الأكسدة:
Oxidative Reactionsتفاعلات الأكسدة
- Oxidation of aromatic moieties.
- أكسدة الأولفينات Oxidation of olefins.
- Oxidation at benzylic, allylic carbon atoms, and carbon.
- ذرات إلى الكاربونايل والإيمينات Atoms to carbonyl and imines.
- Oxidation at aliphatic and alicyclic carbon atoms.
- Oxidation involving carbon–heteroatom systems…
- أكسدة الكحول والألدهيدات Oxidation of alcohols and aldehydes.
- Other miscellaneous oxidative reactions.
وسنأخذ نماذج على أكسدة الحلقات الأروماتية Oxidation of Aromatic كما في (شكل 43 أكسدة الحلقات الأروماتية).
شكل 43 أكسدة الحلقات الأروماتية.
وكل سهم في (شكل 43 أكسدة الحلقات الأروماتية) (كحلقة البنزين) يشكل عملية مستقلة في هذا الجزء من عمليات الأكسدة على المواد الأروماتية وله قوانينه الخاصة، فمثلاً السهم الأول على اليسار والذي فيه تحول الأرين إلى أرينول نجده يمر بعدة مسارات لاحقة معدة خصيصاً له، ولكل مسار عوامل حفازة وشروط فيزيائية وكيميائية خاصة به، وقد تتم العملية في الطور نفسه أو في أطوار لاحقة كما في (شكل 44 بعض مسارات الأرين المُختلفة).
شكل 44 بعض مسارات الأرين المُختلفة.
شكل 45 مثال مباشر على عمليات أكسدة على دواء الباراسيتامول والفينيتوين وهرمون الجنس الإستراديول
[126].
العجيب أنّ هذه العمليات تحدث وِفق آلية معينة في إطار مغلق وحسب المواضع الكيميائية المُختلفة، فمثلاً لو حدثت عملية الأكسدة وكان في المركب مجموعة ساحبة للإلكترونات، فسيختلف موضع اتصال مجموعة الهيدلوكسيل OH من أورثو إلى ميثا إلى بارا في حلقة الفينول، وإذا كان في المركب أكثر من حلقة أروماتية فستحدث عملية الأكسدة على حلقة واحدة منها فقط! وإذا وُجد في المركب حلقتين أليفاتية وأروماتية فستحدث عملية الأكسدة على المجموعة الأروماتية، وهي تحدث لآلية كيميائية في الطبيعة، لكن كيف للجسم أن يفهمها ويحدد أنّ الحلقة الأروماتية حين تتأكسد أفضل من أن تتأكسد الحلقة الأليفاتية [127] من بين ملايين احتمالات التفاعلات الكيميائية التي قد تحدث في حالة واحدة من حالات عمليات الطور الواحد! هذا السؤال الذي لو أجاب عنه التطور وبين لنا كيف للكيمياء أن تكون ذكية وتفهم جسم الإنسان وتقدم هذه الآلية على ملايين المركبات التي تدخل الجسم وتفحصها وتجري عليها عمليات بناء على مجموعاتها وشكلها الكيميائي، سيكون قد ربح المليون.
هذا غيضٌ من فيضٍ من عمليات الطور الأول في الكبد، يمكنك رؤية العجب العجيب في مئات العمليات الأخرى يعرضها بشكل مبسط كتاب Wilson and Gisvold’s Textbook of Organic Medicinal and Pharmaceutical Chemistry، لتعرف كم درس كبدك الكيمياء العضوية ونال أعلى الدرجات بها، وليس الكبد فحسب، بل كل عملية تحدث من مليارات العمليات كل ثانية في جسم الإنسان، لهي عملية كيميائية دقيقة بحاجة إلى شرح وتوضيح من التطور، ولو قرأت أي كتاب عن كيمياء أي كائن حي آخر، ستندهش أشد الاندهاش، جرب ألا تفكر في مملكة الحيوان، وفكر في مملكة النبات فقط، وانظر لكتاب Chemistry of Plant Natural Products الذي يستعرض بعض تفاعلات النباتات التي نراها “بسيطة” في حين أنها أسطورية كيميائياً، ولعلك تتعجب أكثر حينما تعرف أنّ كثير من تفاعلات الكيمياء في جسدك تتم عبر روابط فاندرفالز Van der Waals، وهي روابط ضعيفة غير تساهمية، أي ليست دقيقة أو معدة للتبادل التام بين المركبات، لتتصور أكثر، بدلاً من أن يقوم البروتين بلمس الدنا لإحداث تأثير مُحدد، يلزمه فقط أن يمر بجانبه، ليقع التأثير المخطط له، وتظهر النتيجة الصحيحة، أي أنّ البروتين لا يلزمه أن يصافح الدنا، فقط يلزمه أن يشير من بعيد بالسلام قائلاً: لكم عيناك جميلات أيها الدنا، ليخجل الدنا وتحمر وجنتيه.
رسم توضيحي 50 الفرق بين الحلقة الأليفاتية والحلقة الأروماتية في الكيمياء العضوية كبير وجلي.
الأمراض الجينية
نعلم أنّ الإنسان يحمل 46 صِبغيّاً جسدياً (كروموسوم)، منها 44 صِبغياً تدعى الصِبغيّات الجسدية، وصِبغيّان يسميان الصبغيات الجنسية، المسؤولان عن تحديد جنس المولود:
- فإذا كان هذان الصِبغيّان هما (XY): فالجنس ذكر ويعبر عنه بالصيغة (46,XY).
- وإذا كان هذان الصِبغيّان هما (XX): فالجنس أنثى ويعبر عنه بالصيغة (XX,46).
لكن لو امتلكت الأنثى صبغياً جنسياً واحداً (X) بدل اثنين (XX)، يطلق العُلماء على هذه الحالة متلازمة تيرنر Turner’s Syndrome وهي من الشُذُوذات الصبغية الشائعة، وتحدث نتيجة غياب صبغي (X) غياباً كلياً أو جزئياً، وذلك لدى أنثى من كل 2500 أنثى مولودة، ويُميز هذه المتلازمة مظاهر عديدة مثل [128]:
- قِصر القامة وهو المظهر العام عند جميع المصابات.
- تورّم اليدين والقدمين وشُذُوذات في الأظافر والرقبة المجنحة والصدر المدرّع وتباعد حلمتي الثدي.
- قد يُصاب الجهاز القلبي الوعائي بارتفاع ضغط شرياني بسبب ضيق الشريان الأورطي.
- أما الجهاز الهيكلي فقد نشاهد فيه صغر الذقن في نحو 60٪ من المصابات، وغيرها من التشوهات العظيمة، وتأخر نمو عظمي وهشاشة عظام.
- قد يحدث في الجهاز البولي شُذُوذات في الكلى فتأخذ الكليتان شكل حدوة الحصان، وانسداد في الحالب.
- يحدث قُصُور مبيضي في الجهاز التناسلي لدى 95٪ من المريضات، وهذا في الغالب يُؤَدِي إلى انعدام الطمث وانخفاض هرمون الأستروجين، وبذلك يحدث العُقم ويقل تطور الثديين.
وغيرها من الأعراض مثل قُصُور الغدة الدرقية، وضعف الرؤية والسمع، وانخفاض قليل بمعدل الذكاء.
لكن، ماذا لو حدث خلل ما في كروموسومات أخرى، فمثلاً لو حدث في كروموسوم 21 نسخة إضافية لحصلنا على ما نراه دائماً من متلازمة داون، فهي سببها تضاعف الكروموسوم 21 وحصول الإنسان على 47 كروموسوم بدلاً من 46، ونعلم الأعراض المدمرة على جسم الإنسان نتيجة زيادة هذا الصبغي.
ثَمَّة أمراض كثيرة متعلقة بالكروموسومات ونتائجها مرتفعة جداً على جسم الإنسان، إما الموت وإما تشوهات كثيرة لربما كان الموت نهايتها أيضاً، سبق وتطرقنا إلى أمراض الجينات التي تعد بالآلاف، فأي خلل في الجينات نتيجة لطفرات مثلاً أو لمُشكِلة الانهيار الجيني تحدث مشاكل وأمراض مرعبة، فمُشكِلة في الجين المسؤول عن سُمك وريد سيُؤَدِي إلى ضعف الدم في العضو المرتبط بهذا الوريد، ومن ثم فقده لجزء كبير من دوره، مُشكِلة في بروتين معين تؤدي إلى حدوث مشاكل لا نهائية في كل الجسم.
ما أريد قوله إنّ العشوائية والصدفة غير مقٌبولتين في جسم الإنسان، غير مقٌبولة في عملية الإنتاج من الأساس، وأي تغييرٍ بسيطٍ أو خطأٍ تافهٍ يُؤَدِي إلى دمارٍ كبيرٍ وهائل، فكم هي احتمالية حدوث مُشكِلة في الـ 46 كروموسوم حينما ينقسم بشكل عشوائي ودون تخطيط مسبق؟ الاحتمالات تتعدى الملايين، مثلاً تشابك أطراف خطأ، اقتصاص خطأ، بنية خطأ، فقد كروموسوم، زيادة واحد، فقدان نصف كروموسوم، تلف مسبق، وجود مادة كيميائية في المحيط تفسد بروتين معين.. إلخ، وخطأ واحد يُؤَدِي إلى عدم تكون حياة، أو الموت الحتمي أو إذا كان محظوظاً ستحدث تشوهات مصيرها الموت.
انظر أيضاً إلى المشاكل التي تحدث جراء أي خلل في جسم الإنسان مهما كان بسيطاً، فترى الجسم كله يحدث له فقد في الوظيفة، فمثلاً لو أُصيبت عضلة الساق بطلق ناري، أو تم قطع القدم ووضع بدلاً منها طرف اصطناعي، ستتوقف كل ديناميكية حركة الساق بشكلها المُتناسق، الحركة الدائرة والمنتظمة والمتوافقة، ستعلم أنّ القدم أو الأعضاء وجدت كما هي بتصميم كامل، ولا يُعقَل أن يكون ظهر شيء منها بالصدفة أو على حدة، والدليل أنّ الاتزان والتناسق تفقده الأعضاء في أي خلل بسيط.
اترك تعليقاً