أثناء عملية هضم الطعام يقوم الجسم بتحويل النشويات والسكريات (الكربوهيدرات) إلى سكر الجلوكوز اللازم لنمو وتغذية الخلايا، لكن لو تناول الإنسان طعاماً أكثر من المطلوب وحصل الجسم على الكمية المطلوبة من الجلوكوز، فإنه سيقوم بتحويل الجلوكوز إلى مادة الجليكوجين في عملية تدعى توليد الجليكوجين Glyco-genesis وكلمة genesis تعنى توليد أو تخليق (شكل 46 توليد الجليكوجين)، وهذه العملية مهمة جداً في أجسام الكائنات لأنها تحفظ الطاقة لاستخدامات طوال الوقت، ولكن لماذا لا يحفظ الجسم الجلوكوز على الهيئة نفسها، لماذا يخسر طاقة في تحويله إلى جليكوجين وسيقوم مستقبلاً بخسارة طاقة حينما يعيد تحويله إلى جلوكوز، أليس من الأفضل حفظه على حالته العادية؟


شكل 46 توليد الجليكوجين.

والإجابة على هذا السؤال مدهشة، إذ اتضح أنّ هُنَاك العديد من الأسباب لهذا الأمر، وعلى رأسها أنّ الجلوكوز (السكر) لو قمنا بحفظه في منطقة بتركيز عالٍ في الجسم كالكبد والعضلات، فسيحدث ضغط إسموزي وستتجمع المياه لتعادل الضغط الأسموزي العالي للجلوكوز، أي أنّ كبدك سيزداد حجمه من الماء وسيحدث ضرر لا شفاء فيه، ومن ناحية أخرى: لنفترض أنه لديك مجموعة من الألواح الخشبية، هل تفضل أن تضعهم في المخزن فوق بعض دون ترتيب، أم تفضل وضعها مرتبة ومنظمة؟ أي الطريقتين تستهلك مساحة أقل؟ نحن نعلم أنّ الألواح المرتبة تستهلك مساحة أقل، أكيد دُهشت من التصميم الهندسي لهذه الفكرة كما اندهشت أنا و70 آخرون، ولنعلم أنه لا شيء اعتباطي في جسم الإنسان، هُنَاك أسباب أخرى مثل أنّ الجلوكوز يتكسر ولا يدوم، وأنه لا يمكنه مغادرة الخلية بعد دخولها بسهولة، رايح فين! دخول الحمام يا عم الجلوكوز مش زي خروجه.

رسم توضيحي 51 السكر المرتب، والسكر غير المرتب.

ويبدو واضحاً أنّ الأشكال المنظمة بعناية تستهلك مساحةً أقل من الأشكال غير المنظمة، حينما يرى الأنسولين أنّ الجلوكوز زاد عن حده في الجسم ولا فائدة منه فإنه يأمر الكبد عبر آلية طويلة أن يحول الجلوكوز إلى جليكوجين، ويحدث العكس حينما يحتاج الجسم إلى جلوكوز ولا يوجد كمية كافية منه، إذ يقوم الجسم بتحويل الجليكوجين إلى جلوكوز في عملية تُسمى تحلل الجليكوجين Glycogeno-lysis وكلمة lysis تعنى تحليل أو تفكيك أو تكسير، أي تكسير الجليكوجين (شكل47 تحلل الجليكوجين)، ويتحكم في هذه العملية هرمونان، هما الأنسولين من البنكرياس، والأدرينالين epinephrine من الغدة الكظرية، إذ يفرز البنكرياس الأنسولين استجابة لانخفاض الجلوكوز في الدم، وتفرز الغدة الكظرية هرمون الأدرينالين استجابة للضغط (خوف أو قتال)، وكلاهما يوقفان أي عملية توليد للجليكوجين موجودة حالياً، ولا يخبرني أحد هذا بديهي، فليس من البديهي أن تضغط على الزر فيفتح باب المصعد وفي اللحظة نفسها يضيء الضوء الموجود فيه، بل هو من تصميم المهندس والمهندس فقط من وضع هذه الحركة [129].


شكل47 تحلل الجليكوجين.

في حالات المجاعة أو الصيام أو الرياضة الشديدة يقوم الجسم عبر عملية ثالثة تُدعى استحداث الجلوكوز Gluco-neo-genesis، إذ يتم توليد الجلوكوز من مواد أخرى غير الكربوهيدرات (شكل 48 استحداث الجلوكوز)، نحن في حالة مجاعة ونريد استهلاك مصادرنا، لدينا مثلاً دهون، لدينا بروتينات إذا نفذت الدهون ولدينا أحماض أمينية أيضاً، كل ما يمكن حرقه لكي نولد طاقة، فيقوم الجسم بتوليد الجلوكوز من هذه المواد، وتحدث هذه العملية في الكبد وجزء صغير منها في قشرة الكلية، وجزء أصغر أكثر يحدث في العضلات وفي الدماغ أو القلب أو أي أنسجة أخرى، والعملية طويلة ومتداخلة فنجد هنا تدخل دورة كريبس ولدينا مسارات متعددة، نواتج متعددة من العملية مثل حمض اللاكتيك لذلك نسمع بأن لاعب كرة القدم بعد أن ركض مسافات طويلة أصابه تصلب العضلات [130].


حينما تحدث مشاكل في حرق السكر في الجسم لأسباب عدة كنقص في الأنسولين أو لعدم حساسية الخلايا (كما في مرضى السكري) تحدث حالة مرضية بعد فترة تدعى DKA Diabetic ketoacidosis، إذ تحتاج الخلايا إلى جلوكوز ولكن لا يوجد أنسولين، فيتم توليد الجلوكوز في الكبد من الجليكوجين المخزن ولا حرق لهذا الجلوكوز عبر عمليات إنتاج الجلوكوز، يحاول الجسم التخلص من هذه الكميات الكبيرة من الجلوكوز عبر آليات عدة، تصل في النهاية إلى ضغط على الكلى لتقوم بإخراج الجلوكوز، وتمتص الكلى الصوديوم والبوتاسيوم في العملية ثم تقوم بإخراجهم مع الجلوكوز في عملية تعرف بِدَر البول الأسموزي، وهذا ما يجعل مريض السكري يتبول كثيراً، ويُصاب بالجفاف إن لم يقُم بشرب كميات كبيرة من الماء، ورغم ذلك يستمر الجسم بإصدار إشارات الشعور بالعطش الشديد.


شكل 48 استحداث الجلوكوز

غياب الأنسولين يجعل الخلايا بحاجة إلى الطاقة، فتنشط عملية حرق الدهون الحرة من الأنسجة الدهنية lipolysis، وتتم في ضوء عملية تدعى beta oxidation وتحدث في الكبد أيضاً، وينتج عنها مواد كيميائية عضوية أساسها مجموعة الكيتون وتسمى ketone bodies، ولهذا السبب تسمى عملية Diabetic ketoacidosis وهي البديل للطاقة في غياب الأنسولين، ولو استمر الوضع سيقوم الجسم بحرق البروتينات إلى أن تتهدم الأجهزة وتكون رائحة أنفاس المريض كرائحة التفاح بسبب رائحة الكيتونات الأشبه بالفواكه، العملية متشعبة وتؤثر على كل عمليات الجسم ولها تداخل ما بين مثلاً السوائل والحامضية والـ buffer systemوغيرها الكثير، وهذا يقودنا إلى فكرة التصميم الكامل والذكي، فحتى في حال وجود مُشكِلة، هُنَاك خطط باء وجيم ودال بآلية مرتبة متناسقة مع كل أعضاء الجسم.

رسم توضيحي 52 مخطط عمليات حرق وتوليد الطاقة.

هذه صورة بسيطة من تفاعل إحدى العمليات، ولقد نجحت في مادتها الجامعية من أول مرة بأعجوبة، أما بقية التفاعلات ستجعل من دورة حمض الستريك مزحة.


الجدير بالذكر أنّ الكثير من التفاعلات التي تتنوع وتختلف كثيراً وتتكرر يومياً ملايين المرات تتم بدقة عالية وفق خطوات مدروسة، فتجد إحدى التفاعلات بحاجة إلى درجة حرارة منخفضة، ثم في الخطوة التالية إلى درجة حرارة مرتفعة، ثم منخفضة، ثم دخول مادة، وخروج أخرى، وحماية أجزاء معينة بإضافة مادة معينة، ثم العودة إلى خطوة سابقة وإزالة أجزاء معينة، وتكرار التجربة في خطوة معينة، وإن أبسط المواد الكيميائية والمؤثرات الفيزيائية كالضوء تؤثر على التفاعلات ما لم تتم في بيئة مغلقة! وقد ابتكر المصمم الإنزيمات للقيام بالعديد من هذه الأدوار في سلاسة ويسر.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *