تجلط الدم

من العمليات المُدهشة التي تحدث في جسم الإنسان عملية تجلط الدم وتخثره، فالجسم يقوم بإغلاق الجروح ومنع نزف الدم من خلال إغلاق الأوعية الدموية المصابة بواسطة الصفائح الدموية وبعض المواد الأخرى التي تشكل جداراً عازلاً يوقف فقد الدماء ويصلح الجرح.

شكل 49 تفاعل تكسير الجلوكوز، وهي عملية كيميائية طويلة وهي واحدة من ملايين العمليات المشابهة!

يُعد تجلط الدم من المواضيع التي يخصها علم الأحياء بالدراسة العميقة، وهي من العمليات الحيوية الكفيلة بحفظ استمرار عملية تجلط الدم، تحدث عملية تجلط الدم عبر عاملين اثنين هما العامل الخلوي (الصفائح الدموية) والبروتين (عامل التجلط)، ولقد خضعت عملية تجلط الدم التي تحدث في جسم الإنسان لأبحاث كثيرة، ولهذا تم فهمها بشكل كبير، وذلك لما لها من تطبيقات وأدوار مهمة في مجالات الطب [131].

تبدأ عملية تجلط الدم بعد تلف الغشاء المبطن لجدار الوعاء الدموي على الفور، فتحدث بعض التغيرات في الصفائح الدموية وفي أحد بروتينات البلازما وهو الفيبرينوجين الذي يمثل أحد عوامل تجلط الدم، لتعمل الصفائح الدموية على تكوين سدادة صفيحية على منطقة الإصابة بالوعاء الدموي، وتحدث عدة عمليات متسلسلة أخرى إذ تستجيب البروتينات الموجودة في بلازما الدم والتي تعرف بعوامل التجلط أو عوامل التخثر، وتتفاعل في صورة شلال مُعقَّد لتشكل خيوط الفيبرين التي تقوي الجبيرة التي كونتها الصفائح الدموية من قبل.


شكل 50 سير عمليات وعوامل تخثر الدم.

كما نرى في (شكل 50 سير عمليات وعوامل تخثر الدم). هُنَاك عدة عوامل مسؤولة عن عملية التجلط، وتتمثل العملية في مسارين منفصلين ويُعد مسار العامل النسيجي مساراً رئيسياً؛ إذ تبدأ فيه عملية تحفيز تدفق الثرومبين الذي يعد أهم عناصر شلال التخثر من حيث الأدوار التي يلعبها في تنشيط التفاعلات في عملية تجلط الدم، ينتشر العامل VIIa في صورته النشطة بعد إصابة أحد الأوعية الدموية، وينفصل العامل VII عن مسار الدورة الدموية ويتحد مع العامل النسيجي الذي تحمله وتنقله الخلايا الحاملة إلى العامل النسيجي مكوناً مركباً مُعقَّداً مع العامل النسيجي واختصاره TF-FVIIa، وبدوره يقوم هذا المركب TF-FVIIa بتنشيط العاملين IX وX، ويتم تنشيط العامل VII نفسه بفعل الثرومبين والعامل XIa النشط والعامل XII والعامل Xa النشط، يقوم كل من العامل Xa النشط والعامل Va النشط بتكوين إنزيم البروثرومبينيز الذي يعمل على تنشيط بروتين البروثرومبين وتحويله إلى الثرومبين [132].

ثم يقوم الثرومبين بتنشيط العناصر الأخرى الموجودة في شلال التخثر، بما في ذلك العاملين V وVIII الذين يعملان على تنشيط العامل XI الذي يقوم بدوره بتنشيط العامل IX، وكذلك يقوم الثرومبين بتنشيط العامل VIII وتحريره من التصاقه بعامل فون ويلبراند، يعد العامل VIIIa النشط هو العامل المساعد للعامل IXa النشط، إذ يتحدان معاً ليُكوّنا المركب الإنزيمي الذي يقوم بدوره بتنشيط العامل X، وتستمر دورة عملية تجلط الدم.

يبدأ مسار التفعيل الآخر بتكوين مركب أولي على الكولاجين عن طريق الكينينوجين HMWK والبريكاليكرين والعامل XII، ثم يتحول البريكاليكرين إلى الكاليكرين، وكذلك يصبح العامل XII عاملاً نشطاً بعد تفعيله، فيقوم العامل XIIa النشط بدوره بتفعيل العامل XI ليصبح عاملاً نشطاً، ثم يقوم العامل XIa الفعال بتنشيط العامل IX الذي يعمل مع العامل VIIIa النشط، وهو عامله المساعد على تكوين المركب الإنزيمي الذي يقوم بدوره بتنشيط العامل FX ليصبح عاملاً فعالاً.

يُؤَدِي الثرومبين العديد من المهام والأدوار في هذا المسار، إذ يتمثل دوره الرئيسي في تحويل الفبرينوجين إلى الفبرين الذي يمثل العنصر الأساسي في تكوين الجبيرة لوقف نزيف الدم، وإضافةً إلى ذلك، يقوم الثرومبين بتنشيط العاملين VIII وV وبروتين C المثبط لهما في وجود مادة الترومبوموديولين thrombomodulin، كما يعمل على تنشيط العامل XIII الذي يُكوِّن روابط تساهمية مع بوليمرات الفيبرين الثابتة، يظل شلال التخثر في حالة تزيد معها احتمالية تكوُّن الجلطات الانسدادية من خلال التنشيط المستمر للعاملين VIII وIX لتكوين المركب الإنزيمي، حتى يتم خفض تلك الاحتمالية بفعل مضادات التجلط [133].

هُنَاك بعض العوامل المساعدة في عملية التجلط مثل عنصر الكالسيوم ومركب الفوسفوليبيد، إذ يساهم الكالسيوم في الربط بين المركبات من خلال رواسب معينة موجودة على العاملين Xa وIXa النشطين من ناحية ويقوم أيضاً بتفعيل عوامل أخرى في العملية ككل، أيضاً يُعد فيتامين K عاملاً أساسياً بالنسبة لإنزيم جاما جلوتاميل كربوكسيليز الذي يفرزه الكبد والذي يضيف مجموعة كربوكسيل إلى رواسب موجودة على العوامل II وVII وIX وX، هذا بالإضافة إلى عدد من البروتينات مثل بروتين S وبروتين C وبروتين Z.

العجيب أنه رغم توفر هذه العوامل في الدم، وتسري بسريانه، إلا أنها لا تنشط إلا عند حدوث جرحٍ ما بالفعل، إذ تتكاثف وتتفاعل وفق آلية دقيقة جداً وتعمل على انسداد الجرح، أي خطأ أو نقص في أحد العوامل سيُسبب أمراضاً خطيرة تمنع تجلط الدم، وثَمّة آليات معينة تساعد على الحفاظ على تنشيط الصفائح الدموية وتفعيل شلال التخثر بطريقة منظمة ومنع حدوث جلطات اعتباطية في الجسم، فبروتين C من العناصر الرئيسية الموجودة في الدورة الدموية التي تُعتبَر مضادة لتجلط الدم، مع عوامل أخرى كثيرة، وبعد عملية الإصلاح وبناء الجبيرة تكون الجبيرة أكبر من اللازم وبحاجة إلى نحت وتنعيم وإزالة الزوائد، لذا يقوم بروتين البلازمين بتحليل الفبرين إلى نواتج تحلل الفبرين التي تثبط تكوّن كميات إضافية من الفبرين.

هذا الفهم الدقيق لعملية التخثر أدّى إلى إنتاج أدوية تمنع تجلط الدم كالأسبرين والكلوبيدوجريل والديبيريدامول والتيكلوبيدين، وأدوية أخرى تقوي التجلط، بل وساعدت العُلماء على استخدام عوامل التجلط في تطبيقات كثيرة، كتذويب الجلطات للمصابين بجلطات في القلب مثلاً، واستخدام الهيبارين والوارفارين المضاد لتجلط الدم وما شابهه من مشتقات الكومارين، والكثير من الأدوية والآليات لعلاج الأمراض أو للمساعدة في عملية العلاج والتشافي. أما عن الأمراض الجينية التي تصيب هذه العملية المعقدة فحدث لا حرج، وقد كنت قد وضعت جزء منها في هذا المكان لكني أزلتها لأنها تتعدى الثلاث صفحات، وكل هذا الاستطراد في الشرح وكل هذا التوضيح هو لإيصال الرسالة الهامة، العمليات هذه معقدة بشكل كبير جداً جداً، وهي مصممة بدقة عبقرية، ويستحيل أن تنتج جراء الصدفة.

الغريب أنّ هذه العملية المُعقَّدة موجودة في كل الثدييات تقريباً، والسؤال المعهود: ماذا لو حدث التطور جزيئياً وفقدنا أحد أجزاء سلسلة تخثر الدم؟ هل كان ليحدث هذا التسلسل وينسال تتابع التخثر؟ إنّ أي توقف أو أي مُشكِلة في هذا التسلسل سيكون الدم قد نفد من الجسم ومات الكائن على الفور، وهذا يقودنا إلى فكرة أنّ من صمم الكائن الحي قد صمم آلية الجبيرة هذه، صمم الاثنين في وقت واحد، صمم المصعد وصمم آلية عمل الكوابح حتى لا يقع المصعد في حال وقوع خلل ما وانقطع الحبل، ومن غير المنطقي الاعتقاد أنّ الكوابح في المصعد تطورت تلقائياً، والكوابح لا تساوي في تعقيدها جزءاً من عملية التخثر.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *