إنّ السُلُوك المبرمج أو الغريزة أو الفطرة من الأمور التي تُشغل تفكير العُلماء كما تُشغل تفكير الجميع، ففكرة اتخاذ دودة القز الأوراق الثابتة المُتعددة كوسيلة للتمويه من الطيور فكرة ألمعية، هذه الفكرة نتفهمها إن صدرت من إنسان ذكي يحاول البقاء على قيد الحياة، لكن أن تصدر من دودة لديها جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سُلُوكها الحياتي لهو أمرٌ صعب التقرير، دودة تفتقر للقدرة على تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف هو أمر مُعقَّد ويحتاج إلى مراجعة، فكيف تتمكن هذه الدودة أن تبتكر وسيلة دفاع معقدة وهي لا تملك ذكاءً أو آلية تفكير أو بعد نظر وتخطيط!
يرفض بعض العُلماء المُؤمِنون بالتطور التمسك بمفهوم الغريزة لأنّ تفسير السُلُوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السُلُوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يتوافق مع التطور بحيث لا يمكن الحديث عن السُلُوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل، هذا الرأي بدأ به تشارلز داروين، إذ اعترف بهذه الحقيقة فذكر أنّ سُلُوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديداً لصحة نظريته، ووصف الغرائز بأنها تمتاز بتأثير بالغ وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس.
إنّ التفكير في نشوء الغرائز أو كيفية ظهور الغريزة لأول مرة أو كيفية اكتساب الحيوانات لها لهو أمرٌ مُحير، وهي الأسئلة التي دائماً ما تُسأل من قبل المُؤمِنين وتكون الإجابة عليها من قبل العُلماء المُؤمِنين بالتطور هي: “تكتسب الحيوانات أنماطاً سُلُوكية عن طريق التجربة ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي، وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السُلُوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة”، وقد بتنا ماهرين في فهم أساليب الخيال العلمي لدى العُلماء، لذا سنناقش الغريزة بشكل فلسفي في الفصل القادم.
إنّ فكرة اختيار السُلُوكيات المُفيدة عبر الانتخاب الطبيعي لا يحل المُشكِلة القائمة، فما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية تناقل الغريزة، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود، وإفراز عاملات نحل العسل للشمع، يقتضي وجود نوع من الأنماط السُلُوكية المُعقَّدة كالتصميم والتخطيط للمستقبل، وهذا ما لا يمكن توارثه عبر الأجيال، إنّ سُلُوك العاملات القاصرات في مملكة النمل يتطلب منها أن تكون على دراية تامة بالحسابات وذات خبرة واسعة، كيف تَسنّى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السُلُوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر، ومن الخطأ أن نتحدث عن اكتساب الأنماط السُلُوكية الغريزية بالتطبع وتوريثها إلى أجيال لاحقة، لأن هُنَاك غرائز مُحيرة، كالتي يحظى بها النمل والنحل ولا يمكن اكتسابها بالتطبع.
ولا يمكن افتراض أنّ النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج، لسبب وحيد هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير فهي عقيمة، ولهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السُلُوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة.
كذلك كيف نفسر سُلُوك الكائن الحي المتطور الذي تعرض بناؤه الحيوي البيولوجي إلى تغيير، فالأسماك تمتلك صفات خاصة من حيث التكاثر والصيد والدفاع عن النفس وإنشاء منازلها بطريقتها الخاصة، وهي صفات تتوافق مع الوسط المائي الذي تعيش فيه، وهُنَاك أنواع من الأسماك تقوم بلصق بيضها تحت الأحجار الموجودة في قاع البحر ثم تقوم برفرفة زعانفها فوقها لتتيح لها أكبر كمية من الأكسجين.
أما الطيور فتضع بيضها في أعشاش ذات بناء خاص لهذا الغرض وترقد على بيضها مدة زمنية حتى يفقس البيض، بعض الحيوانات تقوم ببناء مساكنها على أطراف الأشجار العليا باستخدام الأغصان وقشور الأشجار، والطيور تُصمم أعشاشها باستخدام الأعشاب والنباتات، ثَمّة أساليب مُختلفة للحمل والولادة والرضاعة والعناية في كل الكائنات، وكذلك هُنَاك أسلوب خاص للصيد مُختلف لكل نوع من أنواع الأحياء، بعضها يبقى كامناً للصيد يكون فيها مُتَخفياً بلون المكان الموجود فيه، وحيوانات أخرى تعتمد على السرعة والمباغتة، وغيرها من الاختلافات بين كل نوع، لذا كيف تتمكن الكائنات في وقت قصير أن تغير من سُلُوكها المُبرمج هذا وتورثه بشكل كامل، فمن أسماك تفقس تحت الصخور، إلى أعشاش هندسية تُبنى فوق الأشجار بآليات تزاوج ورضاعة وإنجاب مُختلفة.
لكن، ماذا عن الإيثار في سُلُوك عاملات النحل؟ إنها تقوم بلسع أي حيوان يدخل إلى خليتها مع علمها يقيناً أنها ستموت، وتضحي بحياتها من أجل سلامة باقي أفراد الخلية، وكذلك يقوم ذكر البطريق وأنثاه بحراسة عشهما حتى الموت، فالذكر يسهر على رعاية الفرخ الجديد بين ساقيه طيلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، وتذهب أنثاه إلى البحر لتجلب الغذاء في تبادل مهم للأدوار، وماذا عن رعاية الكائنات المتوحشة لصغارها؟ أليس من المفترض أن تلتهمهم؟ من أين جلبت هذه العاطفة والحنان على أبنائها، الكثير من الأفكار التي لا تنتهي في عالم الحيوان عن الغرائز المُختلفة مثل الإيثار والفن والهندسة والتصميم والتضحية والتخطيط تجعلك تفكر في أنها أُودعت في الكائنات لأنه لا يمكن لآلية جينية أن تخزن شكلاً هندسياً لعش الطيور أو لخلايا النحل.
تمتلك حشرات القُرَّاد (القمل) القدرة على تحديد نوع الثدييات المارة من أمامها عن طريق رائحة حمض butyric acid الموجود في لبن الثدييات كما في السناجب، ومن غير المنطق أن تسأل إذا كان بمقدور السناجب أن تعُد إلى رقم عشرة؛ لأن العد في حقيقة الأمر غير مرتبط بحياة السناجب؛ فالسناجب بارعة في استرجاع المكسرات، ومن المعروف أنها تخزن الاحتياطي منها لفصل الشتاء، عن طريق تخزينها في ثقوب الأشجار أو دفنها تحت الأرض، كما وتحظى السناجب على القدرة على تذكّر المناطق التي أخفت فيها الطعام عند الحاجة إليه، ولا يمكننا أن نتنافس مع السناجب في هذه المهمة؛ فجنسنا البشري لا يحتاج لهذا النوع من الذاكرة لأجل بقائه كما تحتاجه بعض حيوانات الغابة لمواجهة برودة فصل الشتاء القاسية، وإلا لسادت السناجب.
اترك تعليقاً