ينطلق مفهوم الحتمية من فكرة أنّ كل ما يحدث في الكون من ظواهر محيطة مع إدراك الإنسان لها هي نتاج لسلسلة ظواهر مُحددة مسبقاً يُؤَدِي بعضها إلى بعض حسب قانون سببي ما، فالأحداث التي تحدث متعاقبة في الزمن هي أحداث مترابطة ذات هدف مُحدد سابقاً، وهي في إطار القوانين الكونية التي يستحيل فيها الصدفة، ولهذا نرى أنّ الحتمية قريبة من السببية في بعض الأحيان ولكنها تختلف في المعنى والمغزى، ويختلف العُلماء في منبع الحتمية، فبعضهم يؤمن أنها تنبع من قوانين الواقع الفيزيائي، وآخرون يرون أنها تنبع من ذاتية السببية بمعنى آخر هي مكتوبة علينا من قوة عظمى، ولكن التجريبيين لا يرون في الحتمية أي شيء ذي معنى لأن التجربة هي مصدر معرفتنا وتتابع الأحداث حاصل، لذا نَجِد أنّ الضرورة الملحقة بعلاقة السببية لا يمكن أن تكون إلا وهماً أو حدثاً نفسياً.
في الغالب نحن نعرف تسلسل الأحداث الفيزيائية حسب قوانين الكون، فلو أنّ كرة صدمت مزهرية زجاجية بقوة ووقعت المزهرية على الأرض فإننا نعرف أنّ المزهرية سوف تنكسر، هذا التسلسل في عقولنا تسلسل ناتج عن التجربة وعن ثقتنا في قوانين الكون الثابتة، ولكن ماذا عن أفعال الإنسان، هل هي حتمية؟ هل نملك إرادة حرة، أم نحن نخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء في أدمغتنا، يقول لابلاس: “إنّ الله يعرف التسلسل في الماضي ويعرف المستقبل”، وجميع الحوادث المستقبلية مُحددة مُسبقاً ومعروفة فيما يُعرف بمفهوم القدرية، فكل أحداث الكون تسير وفق مخطط رياضي دقيق من بدايته حتى نهايته، ولكن، ماذا عن البشر… هل أفعالنا مُحددة مسبقاً ونسير في طريق حتمي؟ بالتأكيد هذا سؤال مهم ولعله أساس كل الأسئلة الأخرى، وهذا ما سنعرضه في الفصل القادم.
مع تقدم العلم ووصوله إلى أصغر مكونات المادة اكتشف العلم أنّ جسيمات المادة لا تتصرف حسب القوانين المنطقية التي نعرفها بالعقل، على الأقل حتى هذه اللحظة، وكما وضحنا ذلك في علم مستقل عن علم الحركة الكلاسيكي اسمه ميكانيكا الكم، وحسب مبدأ الشك فإما أن تحدد سرعة الجسيم بدقة كبيرة على حساب الموضع أو أن تحدد الموضع بنسبة كبيرة على حساب السرعة، ولهذا لا توجد حتمية في عالم الكمّ فحينما نؤثر على جُسَيم بمؤثر ما فإننا قد لا نستطيع التنبؤ برد فعل الجسيم بالضبط بعكس العالم الكبير إذ لكل فعل رد فعل.
لذلك نجد ماكس بورن أبو الفيزياء الحديثة يفرق بين السببية والحتمية، فهو يرى أنّ السببية علاقة أساسية بين كل الأشياء في وجودها من المكان والزمان، ولكن تنتفي الحتمية في فيزياء الكم حينما نعجز عن التنبؤ التام بكل شيء، وأنّ هذا يرجح كفة الدين حيث الله هو وحده الذي يعلم ما تؤول إليه الأشياء.
بالسببية نعرف أين ستتجه الأمور بشكل حتمي، لكن في العالم الصغير، للأسف هُنَاك أسباب لكن لا حتمية في سيرها.
يرى أتباع التفسير العقلي للسببية في العالم (أتباع منهج أرسطو) أنّ هُنَاك عنصر ميتافيزيقي يربط بين السبب والمسبب وهي الضرورة أو الحتمية، أما أتباع التفسير الحسي المبني على الحواس لا العقل (الميل للمادة أكثر) فيرون أنّ السببية مُجرَّد تتابع بين حادثين متتالين قد ربط بينهم الاقتران الزماني والمكاني والتتابع، وبعيداً عن خوضنا في تفسير السببية مرة أخرى وأنواعها للتوضيح، فإن الخلاف لا يزال قائماً حول الحتمية ولم ينتهِ، ولن ينتهي في القريب العاجل.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.