الموت

مما لا شك فيه أنّ أكبر مصدر للخوف أرعب البشرية عبر تاريخها، كان وما زال هو الموت، سنين العمر نقضيها ثم بعد الانتهاء من سنوات البناء والعمل يأتي المحتم ويَجُر الإنسان إلى اللامكان، إلى مكان مجهول لا يعلم أحد حقيقته، وكل ما نعرف عنه عبارة عن أخبار دينية غريبة وعجيبة، والمُشكِلة أنه لا أحد عاد من الموت لكي يخبرنا بالحقيقة والنظام والآلية التي حدثت هُنَاك، أي أنه طوال عمر البشرية ومليارات من ماتوا فيها، لا أحد عاد ليقص علينا القصص، فمتغير العودة من الموت من النوع Boolean ما زالت قيمته صفر ولم يحدث أن تحولت إلى 1 لكي نرتاح من الإجابة.

عن نفسي لا أخاف الموت ولا أخاف اللقاء، لا أخافه لأنني أعيش كل يوم بيومه، ولا توجد أمور سأندم أني لم أفعلها قبل أن أموت، لأنه من المفترض أن تبدأ الاحتفالات بعد النجاح، ولا أخاف اللقاء لأني كلي ثقة بما بعد الموت، فقد سرت في طريق الصواب قدر المستطاع، وبعيداً عن مبدأ التحوط الذي يناسب البعض لكنه لا يناسبني، قد أخذت كافة احتياطاتي، وسأكون سعيداً بلحظة الموت حينما تأتي، فلا بد من حياة بعد الموت لأن هذا العالم لم يكن مصنوعاً إلا لهدف، ويُسعدني الانتقال إلى الهدف التالي، ومبدأ التحوط مبدأ صاغه باسكال، يخبرك إذا كنت مُؤمِناً بالله وتوفيت، وكان هناك جنة ونار، فقد ربحت ربحاً غير محدود، وإن لم يكن هناك جنة أو نار فقد خسرت بعض الملذات في الدنيا وهي خسارة محدودة، أما إذا كفرت بالعقاب والحساب وتوفيت، وكان هُنَاك جنة ونار فقد ثكلتك أمك وخسرت خسارة غير محدودة، وإن لم يكن هناك جنة ونار فقد كسبت ملذات محدودة، لذلك الأحوط أن تؤمن، وهو قد يكون مبدأً مقبولاً لمن يؤمن بالاحتمالات وترجيحات العقل.

وفي مقارنة بين الدين واللادين، نجد أن اللادين يخبرك أن تستمع قدر المستطاع قبل موتك، عليك أن تتذوق كل شيء قبل مماتك، مثال ذلك واضح في أفلام تجسد الفكرة مثل Knockin’ on Heaven’s Door و The Bucket List فالهدف من الحياة هو الاستمتاع وإن فاتتك متعة فقد خسرت.

أما في جانب الدين فلا بأس من ضياع كل المتع، وحينما تكبر وتمرض أو تشعر باقتراب المنية، كل ما عليك في التضرع للإله أكثر ورد الحقوق، لأن المكافأة والمتع قادمة بعد الحساب، وما الدنيا إلا متاع الغرور، دقائق قليلة من سنوات خلد لاحقة، فلماذا ننصرع ونسرق ونغش وغيرها لننال لحظات ماضية!

يقول سبينوزا إنّ الإنسان الحر هو الإنسان الذي لا يشغل باله الموت، ذلك أنّ الحكمة يجب أن تكون في تأمل الحياة أكثر مما هي تأمل الموت، لأن التفكير في قصر الحياة وكونها آيلة للزوال هو ما يمنحها معنىً حقيقياً، ولذلك ينبغي لنا الاستعداد للموت، أن نقبله ما دام ليس بوسعنا أن نهرب منه، دون أن نستسلم له على نحو يفسد حياتنا ويفسد علينا سعادتنا، وهذا على عكس كثير من الفلاسفة الذين يرون أنّ الهدف من الحياة هو الاستعداد للموت، موت الحبيب، موت الطموح، موت الصديق، موت النفس، إنّ الاستعداد للحياة أرقى من الاستعداد للموت.

يقول أحد الفلاسفة إنّ معركة الإنسان الوحيدة في هذه الحياة هي معركته مع النوم، فطوال الوقت يحاول أن يستيقظ من نومه لكي يعيش حياته، إلى أن يغلبه النوم في النهاية وينام النومة الأبدية، لكن على ما يبدو أنّ معركة الإنسان في هذه الحياة هي الحلم، وفور أن يستيقظ الإنسان منه الاستيقاظة الأبدية حتى يرى الواقع ويعيش الحياة الحقيقية.

ولكن، ما هو الموت؟ كيف يحدث وكيف نحكم على شخص أنه مات؟ هذا السؤال حيّر العُلماء كما حيّر الفلاسفة، والعُلماء لا يزالون في بحث عن تعريف كامل للموت، فالموت ليس عملية واحدة واضحة، هل توقف القلب يعني الموت؟ نعم، كان هذا الأمر شائعاً في القرن التاسع عشر، لكن مع تقدم العلم وإمكانية قراءة الدماغ، حدث أنّ بعض المرضى قد توقف قلبهم لكن دماغهم لا يزال يعمل، وكان من الممكن مثلاً إجراء إنعاش قلبي فيعود المريض إلى الحياة من جديد، أو حل المُشكِلة القائمة فيعود القلب إلى الخفقان ويعود المريض إلى الحياة.

حسناً، الآن من المنطق أن يكون الموت عبارة عن توقف القلب وتوقف الدماغ، ولكن للأسف هذا غير كافٍ، فرغم هذا تبقى بعض المناطق في الدماغ تعمل مثل جذعه، وماذا لو تقدم العلم ووجد حلاً لإنعاش هذه المناطق من جديد؟ وحتى في أوضح لحظات الموت، لا تموت كل خلايا الإنسان وتبقى حية وفاعلة لربما لأيام، والدليل أنّ أظافر الموتى وشعرهم تستمر بالنمو لأيام بعد الوفاة، هل من الممكن مستقبلاً أن نقوم بتكبير الحياة في الخلايا وعكسها على باقي الجسم، بالتفسير الديني أنّ الروح مسؤولة عن الحياة، فهذا يعني أنّ الروح لا تزال في الخلايا لأنها لم تمت، لذلك لو نقلنا الروح من الخلايا الحية إلى الخلايا الميتة وضاعفناها سنعيد الميت إلى الحياة من جديد، منطقي أليس كذلك؟ لكن تبقى بعض أجزاء الأعضاء ميتة Necrosis ولكن ماذا لو تقدم العلم واستطاع فعل شيء ما، دعونا لا نستمر كثيراً في هذه السلسلة اللانهائية للموت.

يبقى ما تعارف عليه العُلماء اليوم هو أنّ الموت مجموعة من العمليات المتتالية تظهر على الشخص فنستطيع أن نقول أنّه مات، إنّه ليس عرضاً معيناً ظاهراً وحده، بل مجموعة من العمليات، وحتى نقول إنّ إنساناً قد مات يجب أن تظهر عليه الأعراض مجتمعة، وقد يكون الميت شخص في كهف حشر نفسه فلا يدري عن العالم، وقد يكون شخص مات عقله وقلبه لكن جذر دماغه حي ويمكث تحت الأجهزة الطبية لمدة 10 سنوات أملاً في حل ما!

وفي أسوأ الأحوال لو جلست في أحضان الموت غداً، فإنه سيُسعدني ألا يكون هذا نعيي: للطبيعة ما أعطت وللطبيعة ما أخذت، وكل شيء عندها بالصدف، لا قيمة لصبرك ولا طائل من جزعك ولا تنتظر شيئاً من أحد، ولا قيمة لميت أو حي، فما نحن إلا تفاعلات كيميائية، كلنا كائنات وُجدنا لنهلك، جئنا من العدم وبُعثنا من العدم وسنرجع إلى العدم، البقاء للأقوى والأصلح فلو لم يتطور بدرجة كافية لما بقي ضعيفاً ولعاش كما تعيش البكتيريا، لكن ستنتخب الطبيعة خيراً منه وليسود النوع الأفضل.

حقاً لا أريد أن يكون هذا نعيي، وأن أكون قد انتهيت بالكامل، وفنيت للأبد، أريد أن يكون هُنَاك المزيد، أنا خائف من العدم، وأريد الوجود، أريد شيئاً ما، لا أريد حسب وجهة المادة أن أكون في الممات حالي كحال هتلر كلانا في مستوى واحد في الحياة وبعد الممات! مستوانا واحد كما كل مخلوقات الأرض، لا خير ولا شر، ولا عقاب ولا ثواب، لا أريد هذه الصورة ولا هذه الحالة، أريد أن يخبئ لي الموت هدية، وأن يخبئ لهتلر ما يستحق.

يقول أحد العُلماء: “إنّ من أين أتيت وإلى أين سأذهب هي إحدى الأسئلة العظمى التي لن يجد لها العلم جواباً”، ويضيف سورين كيركغارد إنّ الحياة ليست مُشكِلة يجب أن تُحلّ، بل هي واقع يجب أن يُعاش، وكما أنّ الحياة الدنيا ليس لها معنىً مناسباً حين نصفها لجنين في رحم أمه، فالحياة بعد الموت تحمل المعضلة نفسها حينما نحاول فهمها بمقومات هذه الدنيا المحيطة.

  1. دكتور سترينج: لست مستعداً بعد!
  2. المعلم الأقدم: لم يسبق لأحد وأن استعدّ، لا يتسنّى لنا اختيار الوقت المناسب.
  3. المعلم الأقدم: الموت هو ما يعطي للحياة طعماً، معرفتك بأنّ أيامك معدودة، وأنّ حياتك قصيرة.

إِن يَكُ المَوتُ هُجوعاً يَملَءُ النَفسَ سَلاما ….. وَاِنعِتاقاً لا اِعتِقالا وَاِبتِداءً لا خِتاما

فَلِماذا أَعشَقُ النَوم وَلا أَهوى الحِماما ….. وَلِماذا تَجزَعُ الأَرواحُ مِنهُ

لَستُ أَدري

أَوراءَ القَبرِ بَعدَ المَوتِ بَعث وَنُشورُ ….. فَحَياةٌ فَخُلودُ أَم فَناء وَدُثورُ

أَكَلامُ الناسِ صِدقٌ أَم كَلامُ الناسِ زورُ ….. أَصَحيحٌ أَنَّ بَعضَ النصاسِ يَدري

لَستُ أَدري

إِن أَكُن أُبعَثُ بَعدَ المَوتِ جُثمانا وَعَقلاً ….. أَتَرى أُبعَثُ بَعضاً أَم تُرى أُبعَثُ كُلّاً

أَتُرى أُبعَثُ طِفلاً أَم تُرى أُبعَثُ كَهلاً ….. ثُمَّ هَل أَعرِفُ بَعدَ المَوتِ ذاتي

لَستُ أَدري


اترك تعليقاً