الوجود

صنع البشر الحاسوب ليساعدهم على توفير الوقت والجهد وللانطلاق في عوالم لم يحلموا بولوجها، ولكن، لماذا صنعنا خالق هذا الكون في حين أنه لا يحتاج إلى الانطلاق في عوالم أو توفير الوقت والجهد؟ هذا السؤال الذي يراودنا في كل لحظاتنا خصوصاً لحظات الحزن واليأس، يا ربّاه، لماذا كل هذا العناء!

لنفترض أنّ الخالق وضع أمامنا الجواب، فهل سيفهم الحاسوب الهدف من وجوده، يستحيل أن تتم عملية الفهم هنا، حتى لو قام صانع الحاسوب بقوله للحاسوب: لقد صنعتك لتساعدني، سيتساءل الحاسوب قائلاً: وما حاجة صانع عبقري مثلك بمصنوع مثلي!

ما زلنا نقيس العلة على صانع العلة، ولكي ننجح في القياس يجب أن يكون بحوزتنا أدوات مُختلفة من عالم آخر، وهذا ما لن يحدث يوماً، لن يكون الهدف من خلقنا كما ما هو الهدف من صناعة الحاسوب، أنا الآن صانع للحاسوب وأفهم قدراته وأفهم قدرات ما صنعت، لكن يختلف الحال حينما تكون مصنوع وتحاول فهم كيف للصانع العبقري الكامل أن يصنعنا وما الهدف، حين تحاول قياس الهدف والعلة من عالمك على شيء أكبر وبمفاهيمك، لن تستطيع فهم السبب على الإطلاق، ومهما قرأت عزيزي الإنسان من كتب وبحثت فإنك لن تجد سبباً واضحاً وكافياً.

وفهم مقاصد الوجود، لا يدركه كل العقول، ولن يجيبك الدين على كل الأسئلة التي تبحث عنها، بل وهُنَاك أسئلة لن نحصّل إجابتها أبداً لأننا لن نعيها، وعلى الإنسان التواضع، قبل 500 عام كان يعتقد هذا الإنسان أنّ الأرض مركز الكون، وقبل 100 عام اكتشف أنّ المجرات أكثر من عدد الرمال، وقبل 10 أعوام اكتشف أنّ الجاذبية عبارة عن موجات تثاقلية، وهو يعتقد أنه قد طوى المعرفة بين كفات يديه.

لكن لماذا يا رب أعطيتني هذا العقل الناقص، وتريدني أن أصل وأبحث وأنت تعلم أني قد لا أصل، وإن وصلت لن أصل إلى الصورة الكاملة عنك، لماذا؟ وعلى ما يبدو أنّ إجابة هذا السؤال تكمن في أنّ الهدف هو السعي، و70% هي الدرجة الكاملة للنجاح، ثم إنّ فكرة وجود غاية للخالق في أن يخلق مخلوق تجعله ناقصاً يبحث عن غاية لتسد فجوة لديه، لذا سيكون من غير اللائق السؤال، ماذا يريد الله بخلقنا له، حتى لا نُسقط العلة على صانع العلة.

إنّ الإنسان قابل للبرمجة، كأي جهاز يمكن إعادة برمجته مراراً وتكراراً، يمكن لأي جهة برمجية أن تعيد كتابة لوائح عقله وتهيئة آلية تفكيره بطريقة مُختلفة عما عهدها، والفترة اللازمة لإعادة البرمجة قصيرة جداً، قد تكون شهوراً كافية، والإنسان يولد بقابليات، أي أنّ الإنسان لديه قابلية لاستيعاب أفكار معينة وتبنيها ومن ثم الدفاع عنها وكأنها الحقيقة المطلقة في هذا الوجود.

في الحياة العسكرية حينما يتم أخذ أي مواطن من الحياة المدنية، وتتم محاولة دمجه في الحياة العسكرية، تستغرق العملية أشهر، ثم يعيش في محيط كله أوامر، ونمط صارم من القوانين والقرارات والنواهي يلتزم بها دون إبداء أي رأي، ودون إظهار أي انزعاج، وفي أي لحظة تقل قبضة الرقابة العسكرية والأوامر القيادية يشعر حينها العسكري بوجود مُشكِلة وأنّ خللاً ما في حياته ويجب إصلاح هذا الأمر، في حين أنّ الإنسان المدني المراقب للأمور من منظورين، منظور الرقابة القاسية، ومنظور الرقابة غير المشددة يشعر بأن الثانية هي أقرب إلى الحياة الصواب، لكن العسكري اعتاد على النمط القاسي، فيراه هو الصواب.

حتى بعد انطلاق العسكري إلى الحياة المدنية تراه يواجه مشكلات وعقبات شتّى في التواصل مع المحيط المدني، فقد تم برمجة عقله على النمط العسكري، وهو بحاجة إلى سنوات لاستعادة العقل المدني، وتبقى في النهاية خيوط من التفكير العسكري في منوال عقله، هذا ما يحدث في حياتنا العادية، فنحن قد تم برمجتنا وفق نمط تفكير معين، على نمط أنّ دين الآباء هو الصواب، وأنه لا يمكننا قٌبول أي شيء غيره، العادات والتقاليد، الطقوس والعبادات، كلها تم برمجتنا عليها.

إنّ الموروث الديني في عقولنا هو برمجة أكثر منه اقتناعاً، وهو ما يحدث في كل أنحاء العالم، ولا يفلت منه إلا من كان يملك عزيمة قوية في التفكير خارج الإطار الذي رُسم له واعتاد على التفكير بداخله، ولو صادف أنّ أحداً ما يفكر في خارج الأسئلة المألوفة ويسأل عن الوجود والخلق والإله، فسيواجه هجوماً حاداً، قد يودي به إلى الانهيار إن لم يكن قوياً.

صورة 27 لوحة الخروج من القطيع للفنان توماس كوبيرا.

لكن في هذا الوجود الإيمان أمر مهم، ولا أقصد الإيمان الديني فقط، بل الإيمان بشكل عام، وهل هُنَاك قصة بشرية عظيمة حدثت دون الإيمان؟ هل هُنَاك ثورة أو ابتكار أو إنجاز سمعنا عن حدوثه لولا إيمان الإنسان بأن قدراته غير محدودة، وأنّ قدراته تَفُوق الكيمياء التقليدية، وأنّ القوانين ليست إلا حدوداً عقلية لا أكثر، إنّ الإيمان هو ما جعل الإنسان خارقاً، يطير ويبتكر ويستكشف، والإنسان بلا إيمان روبوت بقواعد ثابتة وقيود صارمة.

الإيمان بقضية يجعل للحياة معنى، يجعل لها غاية، هكذا تم برمجة الحياة، يجب أن تكون لها غاية، وصولاً للغاية الكبرى كما نعرفها، إذ أن غاية الحياة هي الموت، غاية الوجود هو الفناء.


اترك تعليقاً