الرسل

ولكيلا يظهر الله للناس جميعاً، وتفسد مسألة الإيمان كما عرضنا في فصل الإله، أنشأ الله قناةً وسيطة لإيصال رسالته للعالم، وانتقى أفراداً من كل منطقة وفي كل زمن لينقلوا رسالته دون تزييف أو كذب، واختارهم الأكفأ لتمثيل ما يدعون الناس إليه باسم الله، ويتساءل صديق لماذا لا يكون الرسل مرضى نفسيين رأوا في خيالاتهم أنّ هُنَاك قوة عظمى تكلمهم فانطلقوا في الشوارع كالمجانين يدعون إلى هذه القوة والتي جرى أن نسميها الله، وتحدوا بجنونهم كما فعل كل المجانين ولمعت أسماؤهم، ورأينا في عالمنا الكثير من المجانين أو الدجالين الذين ادّعوا النبوة بل والألوهية وقد نجحوا أشد النجاح!

من الأدلة العقلية على أنّ ما يمارسه الرسل ليس مُجرَّد جنون، بل شيءٌ يفوق الإرادة البشرية هو مقدار الكم في مواطن القوة التي يجب أن تكون في شخصه في تلك الأزمان، وفي كل زمان نسمع بوجود فلاسفة مبدعين قاموا بقلب الطاولة على المجتمع المحيط، غالبية هؤلاء الفلاسفة تراهم يأخذون فكرة موجودة ويقومون بالتعديل عليها، مثل وجود فكرة سائدة أنّ المرأة جارية، والفيلسوف يقوم بإضافة تعديل بسيط، هو أنه يجوز لها أن تتكلم أحياناً.

الفكرة الجديدة هذه تكون طفرة في زمن ذلك الفيلسوف، ولكن أن يأتي فيلسوف بفكرة جديدة كلياً من عالم آخر لهو أمر نادر كلياً، فمثلاً أن تكون المرأة عبدة في مجتمع، ولكن يأتي فيلسوف ويقول المرأة مثل الرجل، بهذا الشكل والوضوح مباشرة يكون قد فجر قنبلة في حالات نادرة لم تتكرر.

ولكن ما احتمالية أن يأتي شخص في زمن سحيق بـ 40 فكرة جديدة مثلاً، وكلها من هذا النوع الانفجاري!

ناهيك أن يكون هذا الشخص ذا شخصية قيادية وقوية وليست فلسفية فقط، فلا يفترض على الفيلسوف أن يكون قائداً، أو قوي الشخصية والإرادة، لدى العديد من الفلاسفة مشكلات نفسية أو منعزلين أو المجتمع قام بطردهم، أو انعزلوا وبعد سنوات طويلة سمعنا بأفكارهم.

فما بالكم أن يُصرَّ هذا الشخص على تبليغ فكرته وبذل الغالي والنفيس في سبيل نشرها ولربما خاض حروباً ومعارك لا أول لها ولا آخر، ورغم كل هذا كان الناس يصفونه بالأخلاق النبيلة والشجاعة والكرم والذكاء والأمانة والصدق، أعداؤه قبل أصدقائه، والأدهى من ذلك أن ينتصر هذا الشخص، كل هذا يستحيل أن يتم جمعه في شخص طبيعي، إلا أن ترافقه قوة من السماء تعاتبه في كتابها المقدس حين يخطئ، يستحيل إلا أن يكون بشراً نبياً.

هُنَاك بعض الفلاسفة الذين اعتبرهم الناس أنبياء بعد موتهم مثل بوذا وزرادشت وكونفوشيوس، وهذا منطقياً لا يجعلهم أنبياء، فالنبي يجب أن يُعرّف عن نفسه في حياته ويوضح أنه مُرسلاً برسالة لا لبس فيها، ويمكننا أن نتأكد من صدق أي نبي عبر تقصي أفعاله في حياته، فهل كان يُمثل ما يدعو إليه؟ هل كان قبل الرسالة حسن الخلق، صادقاً وأميناً، يحبه الناس ويتقبلونه كما كان بعد الرسالة؟ وكما نرى فالفلاسفة على الأغلب حملوا عكس هذه الصفات مثل الإخفاق العاطفي والأمراض النفسية والسجن والقضايا الأخلاقية، وكيف للراسبين في الحياة أن يعلمونا كيف نعيشها، وإن ترابط الصفات البشرية العليا بالنجاح في حياة الرسل لهي دلائل على أمر غير اعتيادي، والأمر غير الاعتيادي إذا لم نستطع تفسيره تفسيراً علمياً دقيقاً وكان هُنَاك تفسيرٌ دينيٌ متاح، فلا مجال لنفي التفسير الديني، وإلا فاجلب دليلك.

يمكننا إسقاط موضوع الأنبياء ومعجزاتهم على حاضرنا، بأنه لو جاءنا رجل في الوطن وقال أنه رسول من عند ذات أسمى هي الله، وعليكم أن تتركوا التباهي وألا تأكلوا الطعام غير الصحي وأن تتوقفوا عن ظلم العمال وعليكم أن تتناولوا الطعام في طبق صغير وليس طبق كبير، ومن لم يطعني سيدخل النار خالداً مخلداً فيها، حينها جزء منا سيضحك عليه، وجزء سيقول مجنون، وجزء سيقول أين دليلك، ما يقترحه من أمور سيجعل بعض المتخصصين يضحكون عليه وهكذا، هو بحاجة إلى دليل قوي، في عصر العلوم الآن يجب أن يجلب معجزة علمية كبيرة تدهش كل من حوله، مثل صناعة ثقب دودي لنقل الناس إلى الماضي أو نقلهم إلى كوكب آخر، وإلا لن يصدقه أحد، لو جلب معجزة مثل صناعة القهوة من الرمل لن تكون ذات قيمة في ظل هذا التطور، فالمعجزة يجب أن تكون مناسبة لزماننا، وسيصعب عليه وعليكم أن تدخلوا تحت جناحه وتسلموا له، الأمر صعب جداً الآن، ولا شك أن الأمر كان سابقاً أسهل، انظروا لفيلسوف يجلب فكرة جديدة كم يُحارب، وقارنوه بلاعب خفة يُؤَدِي حركات مخادعة كم يتم تسليط الضوء عليه، الأمر صعب ورفض الناس للأنبياء أمر أساسي، من منا سيقبل أن يغير مبادئه لمُجرَّد أن قال رجل أنه يجب ذلك! النبي بحاجة إلى معجزة في زمانه، حتى يؤمن الناس به وهذا طلب مشروع من الناس وهذا ما حدث مع كل الأنبياء، أتوا بمعجزات لتثبت صدقهم عند قومهم.

يقول الباحث المتخصص في العلاقات بين الأديان كريغ كونسيدين أن جملة لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى التي قالها النبي محمد صلى الله عليه وسلم تجعله أول شخص في تاريخ البشرية يحارب العنصرية والعبودية والتفرقة على أساس العرق أو اللون [174]، تجعله أول شخص في تاريخ البشرية عارض العنصرية والعبودية، ولا يمكن لهذه الجملة القنبلة التي أسست لكل ما بعدها من جمال أن تكون نتاجاً بشرياً إذا أضفنا إليها مئات الجمل والقواعد الأخرى التي وضعها محمد، فضلاً عن محاربته قومه وحيداً لتطبيق هذه القواعد، والأدهى من كل هذا أنه نجح في النهاية!

ولكننا نرى أيضاً أن نيوتن قد أتى بكتاب عظيم فيه من البرهان ما غيّر الدنيا، وكذلك أينشتاين وكانط وماركس، بل وهناك ما هو أغرب؛ فمخطوطة سيرافيني فيها من الغرابة والحداثة في عالم خاص بالحيوان والنبات والفيزياء ما يجعلها من غير عالمنا.

هذا الكلام صحيح لكنه غير دقيق، فمخطوطة سيرافيني تنم عن عقل مبدع لكنها كتاب طلاسم وخيال علمي ولا تفيد البشرية بشيء، وكتاب نيوتن وأينشتاين وغيرهم هي كتب علمية وضعت قواعد علمية مخصصة ولم تضع قواعد اجتماعية وروحية وسياسية وتشريعية بالإضافة إلى علميتها، هي كتب فيها مزايا أو خصائص جديدة لكنها لا ترقى للمئات من مزايا كتب الأديان، كذلك لم يعلن أينشتاين أو نيوتن أنهم من الأنبياء، لأنهم ببساطة لا يستطيعون، لا يملكون القوة ولا الجلد ولا الرسالة الكاملة، هم علماء مميزون لكنهم ليسوا رسل مرسلين.

صورة 32 مخطوطة سيرافيني أو كودكس سرافينيوس، ‏ هي كتاب مصور مكتوب بلُغة غير مفهومة ليس لها معنى، قد اخترعها لويجي سيرافيني، مع رسوم توضيحية غريبة لا واقعية عما يشبه اختراعات وأشكال نباتية وهندسية وحيوانية وإنسانية بطريقة مبتدعة.

مبادئ

إنّ النقطة الأولى في أي رسالة دينية هي إعادة الاعتبار للإنسان الذي يُعد محور هذا الوجود، وإعادة الاعتبار للإنسان تبدأ بتحرير العقل وإعادة الاعتبار له عبر فك قيوده، وذلك بإسقاط القيود والمعيقات التي تقف في طريق الوصول إلى الحقيقة.

وإنّ كثيراً من أسباب انتشار الإلحاد واللادينية والربوبية التي انتشرت في الآونة الأخيرة تُعتبَر لها أسباب منطقية، فنسمع كثيراً أنّ صديقاً اتجه إلى اللادينية شيئاً فشيئاً، ولربما الإلحاد في النهاية، هي خطوة في اتجاه التفكير، فحينما يرى بروفيسور متخصص الدين يقول أنّ الأرض مسطحة، وهذه الأرض هي مركز الكون والشمس تدور حولها، والأرض ثابتة ولا تتحرك وغيرها من الصور [3]، وهذا البروفيسور الذي يرى ناسا ويرى الأدلة العلمية والمصورة والإنجازات العلمية واضحة جلية، يؤكد له علماء الدين أنّ الأرض مركز الكون، ويجلب له الآية ويناقشه وينقل له قول العلامة بكذا وكذا، فيكون أمام البروفيسور المتعلم ثلاثة خيارات وهي:

  1. يحتمل أنّ ناقل الكلام قد أساء الفهم، ويجب أن يبحث بنفسه ويتأكد.
  2. أن يعتقد وجود أخطاء في الدين، وهذا يعني أنه ليس كلام الله، لأنّ حرفاً واحداً خطأ يعني بُطلان الصواب المطلق.
  3. أن يقرر ألا يُعمل عقله، ويقبل المتناقض، وهذا مُنافٍ للمنطق.

وحينما يفكر الإنسان ويرجح كفة الشواهد على كفة التفسير أو التأويل ويقول أنا لا أرتاح لهذه الفكرة يكون قد سار في الطريق الصحيح وأخذ الخطوة الصحيحة نحو توحيد الديانات السماوية، وهو يتوافق مع حس التمرد والبحث والاستكشاف عند أول الأنبياء آدم عليه السلام إذ بدأت حياته الحقيقية حينما اتخذ قراره الأول، وفاضل بين أمر الله ونفسه.

وكل الأديان السماوية مبنية على جملة لا إله إلا الله، وهذه الجملة تقول “لا إله” ثم “إلا الله”، إذ تبدأ جملة التوحيد بكفر، نعم تبدأ بالكفر بكل الآلهة الموجودة في الوجود، ثم التسليم أنه يوجد إله واحد وحيد هو الله، الكفر بالآلهة التي تقول لك لا تُفكر وسلِّم بالمجهول، ولا يتوجب على عقلك الذي خلقه الله لكي يفكر وكرّمك به وجعلك خليفة في الأرض أن يفكر، بل يجب عليه أن يتعطل وأن تضعه جانباً، وعليه التسليم مباشرة بما يقوله الإله الآخر، والإله الآخر له أشكال متعددة لا تنتهي، منها رئيس القبيلة، الشيخ المفسر، إمام المسجد، المؤسسة، الشركة، أمك أو أبيك، صديقك، العادات والتقاليد …إلخ، هذه الآلهة تقول له سلّم بما أقول، ولا تُعمِل عقلك، لا داعي لأن تتفكر، تتأمل، تحلل، تكتشف، تتحقق، نحن نختار لك الطريق.

قد لا يحتاج شخص يعيش في الغابة وحيداً إلى دين، فإنه سيكتفي بالأكل والتمتع والنوم وإعادة الروتين اليومي، قد يظلم نفسه، قد يتساءل ولا يجد إجابات، لكن مع وجود شخص إلى جانبه فإنه سيحتاج إلى قانون ينظم حياتيهما، وأي موضع في هذه الحياة لا يوجد به علاقات متداخلة بين البشر بحاجة إلى تنظيمها، بل ولتنظيم علاقة الإنسان بالشجر والحجر والشمس والقمر، والأهم من هذا تنظيم علاقة الإنسان بنفسه، فالدين أساسيٌ مهما كانت الظروف.

ومن المنطقي أن كل من تُوفي خلال رحلة بحثه عن الحقيقة فقد حقق الهدف من وجوده وإن لم يصل، سيرحمه الله إن شاء، حينما يقف أمام الله، سيقول لله، لقد أعملت عقلي يا رب ليل نهار لكي أصل إلى الحقيقة، هذا عقلي الذي منحتني إياه توصل إلى هذه الفكرة صدقاً ولم أجحد بأي فكرة مَثُلت أمامي وعرضتها على هذا العقل الذي منحتني إياه، وهذا أقصى ما توصلت إليه، إن كان صادقاً ولم يدخر وقت في البحث وهو ما سنستعرضه بعد قليل.


اترك تعليقاً