الدين والتقدم

سابقاً، كان الإنسان يتفكر وينشر كتاباً بما اكتشفه أو توصل إليه، وبعدها بسنوات يقع الكتاب تحت يد عالم آخر فيبدأ في التفكير والإضافة عليه، ثم ينشر ما يجده وهكذا، أما الآن مع التطور التكنولوجي، خلق المطورون أدواتٍ كثيرة للتفكير الجمعي، وأمسى البشر يفكرون سوياً بعقلٍ واحد وفي اللحظة نفسها، 10 آلاف عقل يعملون سوياً على أمر ما، وهذا ما جعل العالم في القرن الأخير يتطور أضعاف تطوره في القرون الأخرى، التفكير الجمعي للعلماء حوّل العالم بالكامل، فضلاً عن دخول الذكاء الصناعي ليفكر معهم، هذا جعل لنا عقلاً كبيراً ضخماً يفكر ويستنتج بقدرة ملايين العقول موحدة في عقل، وهذا ما سيكون له أثره الكبير كل فترة وجيزة على البشرية، وإنني لأعجب من مستوى التفكير في هذا العصر في المواضيع الوجودية، والتي لا معنى لها قبل ألفي عام، أو لا معنى لها لشخص يعيش على الجمع والالتقاط في غابات إفريقيا أقصى همومه أن يجد ما يسد جوعه دون أن تبطش به الحيوانات.

وبعد أن أراد المماليك تلقين العالم درساً قاسياً بإغلاق الممر الذي يربط أوروبا بالهند، اضطرت أوروبا إلى البحث عن طرق أخرى، فاكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح، ومن ثم استطردوا في البحث حتى اكتشفوا العالم الجديد وأصبحت أوروبا في غضون 50 عاماً فقط تملك تسعة أعشار كوكب الأرض، فلم يعُد العالم محصوراً في الحوض المتوسط وما حوله من قارات، وأمسى ما يملكه العالم الإسلامي لا يزيد عن 1 من 10 من حجم الكوكب، وهذه الاكتشافات أعطت أوروبا مالاً وقوة ما جعلها تسيطر على العالم، والمماليك لم يجدوا ما يقتاتون عليه بعد ذلك، في ظل هذا التخلف العربي كانت أوروبا في هذه السنوات لديها كوبرنيكوس يضع قوانين الفلك الجديدة والنظرة الجديدة للكون، وكان كولومبوس يكتشف القارات الجديدة، وقد طاف ماجلان الأرض كاملة في رحلة واحدة، وقام فاسكو دي جاما بأولى رحلاته البحرية إلى الهند، وأعلن مارتن لوثر بدء الإصلاح البروتوستانتي فضلاً عن مجالات الأحياء والطب والفن، فقد كان ليوناردو دافنشي في أوج مجده في النحت والرسم والهندسة والتشريح والفلسفة والأحياء وغيره من عباقرة الفن والموسيقى في كل أنحاء أوروبا.

نحن نعيد التاريخ نفسه، ولكن هذه المرة نحن دون أي قوة، وتحلق ناسا مستخدمةً طريق رأس الرجاء الصالح الجديد (علم الفضاء) وتستكشف الكون من حولها، وها هي تضع سفنها الاستكشافية قبل أساطيلها على قطعة أرض جديدة، وأي قطعة أرض! كوكب المريخ بأكمله، ومن بعده المجموعة الشمسية مجتمعة.

حينما تنافست كل من أسبانيا والبرتغال على سيادة ما اكتشف من العالم الجديد عام 1493م تدخل البابا لحل الخلاف وأصدر أمر الحد الفاصل، وهو خطٌ وهميٌ من الشمال إلى الجنوب يقسم العالم الجديد بينهما، وهو ما جعل الأمريكيتين ملكاً لإسبانيا، والهند والصين وأفريقيا ملكاً للبرتغال، الآن لا أحد ولا حتى البابا يستطيع الحديث عن أنّ كوكب المريخ ليس ملكاً خالصاً لناسا (أي أمريكا)، وصحتين، أمة أمريكا تملك نصف كوكب الأرض الآن، وتسعى للسيطرة على كوكب آخر جديد في غضون القرن القادم، ونحن ما زلنا ندعو اللهم أهلك الأمريكان، معتقدين أنّ الله سيصنع الحد الفاصل لنا، ولكن هيهات هيهات. هيهات أن يقف الله مع الجاهل الراسب ويضيع جهد من استحق الخلافة في أرضه.

في غضون 300 عام بعد اكتشاف العالم الجديد (الأمريكيتين وأوقيانوسيا وغيرها) تغير العالم بالكامل، وقفز قفزة هائلة في كل النواحي، سواء على المستوى العلمي أو الأخلاقي أو حتى موازين القوى، فالعالم أمسى ملكاً لأوروبا ووريثتها أمريكا، ماذا يمكن أن يحدث بعد 200 عام من الآن وبعد أن تغزو أمريكا الفضاء ابتداءً من القمر ثم المريخ، وهي أراضٍ مسجلة حالياً باسم العم سام، أترغب يا عزيزي بشراء 600 متر على 3 شوارع في مدينة راقية في المريخ، ممكن جداً، جهز أموالك فقط، العالم الجديد سيكون في المريخ، وستنتهي في القرون القريبة فكرة كوكب الأرض هو كوكب البشرية، الأرض التي ورثتها من جدك الذي قام بقتل أخيه من أجل الحصول عليها، لن تساوى الحبر الذي كتبت ملكيتها به، لأن العالم سيكون قد غادركم وانتقل إلى الكوكب الجديد، كوكب النخبة، كوكب المال والأعمال والعقول المفكرة، وسيتركون كل لقيط ساذج في الكوكب القديم، يتقاتلون إلى أن يُفني بعضهم بعضاً.

وفي المستقبل، سننظر ونفكر، كيف كان الناس يعتقدون أنّ الحيوانات أقل منهم، وكيف لنا أن نأكل لحومها ونذبحهم، فاللحوم المصنعة في المختبر ستسود، وسنقول حقاً إنه عالم عجيب وغريب، وسنسقط قيم ومفاهيم زماننا على الأمم السابقة.

وماذا عن روبوتات من الشحم واللحم تشبه من نحن، نكلمها وننام معها، هل هذا سيكون حلال أم حرام، سيكون الذكاء الاصطناعي أكبر وأقوى من عقل الإنسان، لأنه سيكون مبني من خلال مجموعة من العقول الفذة، لن يستطيع العقل البشري مواكبة أو تحمل سطوة الذكاء الاصطناعي وجهاً إلى وجه حينما يرتبطان سوياً، وهذا بالإضافة إلى ما سيخلقه من مشكلات مرعبة حقيقةً، سيخلق تحديات دينية أعمق وأقوى، وستكون العديد من الأسئلة بحاجة إلى إجابات من قبل علماء المُسلمين قبل نهاية هذا القرن.

إنّ المستقبل مرعب لن يتحمله البشر، إذ قبل 100 عام كان جُل تفكير الإنسان في الأكل والشرب والزراعة ونزهة نهاية الأسبوع عند صاحبه في الحقل، الآن هُنَاك نتفلكس والأندرويد وبرامج وتعليم إلكتروني ومواصلات أونلاين وشركات مُختلفة وأدوية وسيارات وسفر والكثير من الأمور المستجدة التي يتوجب على الإنسان أن يحفظها ويفهمها حتى يستمر في الوظيفة أو في الحياة اليومية، فضلاً عن وجود عالم جديد أُضيف، العالم الإلكتروني، فتعامل البشر الطبيعي العادي، أُضيفَ عليه التعامل الإلكتروني بما يحتويه من أنظمة وقوانين مُختلفة، متى يرد في الشبكات الاجتماعية وكيف يرد الإعجاب والاتصال والرسالة والمخاصمة والحظر وغيرها، أعتقد أنّ البشر سيكونون أمام مفترق طرق، إما الحياة العادية كاملة أو الإلكترونية، أو سيتحولون إلى بدائل بشرية Surrogotes.

ستكون هُنَاك اللحوم المصنعة من خلايا أحادية مضافاً إليها النكهة والرائحة، وقلما تجد لحوماً من حيوانات مذبوحة، سيكون على العُلماء التفكير في كيفية حساب الأضحية وحكمها وتناولها والتضحية منها، ستكون هُنَاك عمليات مُعقَّدة مثل نقل رأس، ونقل دماغ، ولربما نقل ذاكرة، والعُلماء بحاجة إلى إيجاد إجابات لكل حالة من هذه الحالات، فمثلاً في حالة نقل الرأس، موضوع الروح، هل هي روح أم روحين، أم نصفين؟ الموت، الحساب، الذرية.. إلخ.

سيكون هُنَاك حالات سفر إلى الفضاء، نحن بحاجة إلى أحكام مثل كيفية الصلاة في الفضاء، واتجاه القبلة، والصيام ومدته، بل وأمور أبسط مثل الطهارة لشح الماء، وغيرها، سيكون هُنَاك حالات من السبات المستحث الطويل، إما بغياب كامل للوعي، أو بوجوده لكن دون حركة، سيكون لزاما تحديد آلية الطهارة والقضاء والصلاة والصيام وغيرها.

لن تكون الأرض هي كوكب البشر وحدها، سيكون المريخ يسكنه على الأقل بعض البشر، ستكون هُنَاك أسئلة حول المحشر والمنشر والممات والدفن من كوكب المريخ، ستكون قضايا مثل الحياة الزوجية البعيدة، والأمور المالية الجديدة والتكنولوجيا الحديثة الغريبة، يجب أن نجد لها إجابات مقنعة من الآن، لأن العجلة ستكون سريعة، ولن نلحق وقتها أن نُخرج الفتاوي لحظياً، وإن لم نخرج الفتاوى كما أخرجها الشافعي قبل ألف عام من حاجتها كما فعل في قربة الفساء، سنظهر مثل الذين ما يزالون ينادون بأنّ الأرض مسطحة!


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *