من البديهي أن ننطلق مما قَدَّمه نيوتن من إضافات في علم الفيزياء، لأن هذه الإضافات كانت مُنطلَق كلّ الفيزياء الحديثة لاحقاً، وما نعتبره اليوم أمراً عادياً، كان في ذاك الزمان عظيماً، على الرغم من أنّ نظرة نيوتن للمادة في ذلك الزمان كانت قاصرة، إذ اعتقد أنها عبارة عن جُسيمات كبيرة ومتحركة وصلبة ولا يُمكن اختراقها، كما اعتقد أيضاً أنّ الزمان والمكان حقيقتان مُطلقتان؛ أي أنهما سيظلان موجودين حتى لو فنيت كل المكونات المادية في الكون، لكن على الصعيد الآخر حين أعلن نيوتن أنّ القوة التي تجذب التفاحة نحو الأرض هي القوة نفسها التي تحفظ القمر في مداره حول الأرض وسمّاها قوة الجاذبية، أنتج طفرةً علميةً في زمانه لم يتقبلها العُلماء، وفي زمانه لم يُفسر نيوتن الجاذبية ولم يفهم كيف تعمل وهذا ما دفع العُلماء من بعده للتساؤل عن معنى الجاذبية وكيف تعمل وهو ما فتح أبواباً شتى. وهذه طبيعة العُلماء المعتادة في التساؤل عن التساؤل والتساؤل إلى ما لا تساؤل.
كانت قوانين نيوتن تُطبَق على كل شيء يتحرك تقريباً، إلا في بعض العقبات البسيطة التي أدّت إلى حضور النسبية، فقد حققت مفاهيم نيوتن له العلو حين شرح ظواهر الحركة والضوء والكهرباء والحرارة، وهذا النجاح أشعل لدى العلماء رغبةً جامحة لتوسيع نطاق هذا الأسلوب العلمي في التطبيق، وأنه يجب أن يمتد إلى جميع حقول المعرفة بما فيها علوم الأحياء والاقتصاد والنفس والتاريخ. وقد أسفر الكشف عن أسرار العالم الطبيعي عبر الاعتقاد بوجود المادة وحدها إلى اعتبار العُلماء تدريجياً المادية مكوناً من الأسلوب العلمي نفسه، إذ أمسى الباحث العلمي يفترض في أطروحاته العلمية أنّ المادة وحدها هي الحقيقة المطلقة أو أنها على الأقل كل ما يمكن معرفته بطريقة علمية بصرف النظر عن معتقداته الشخصية، من الواضح أنّ نيوتن نفسه لم يكن من أنصار المذهب المادي، إذ لم يكن يأمل أن يُشرح عن طريق أفكاره في الميكانيكا جميع الأشياء [2]، ولكن كُتب لهذه النظرية البقاء مع تعليق آمالٍ مرتفعة عليها لدى العُلماء، فقد كان لدى العُلماء في القرن التاسع عشر كل ما يدعوهم إلى الاعتقاد بأنّ القرن العشرين سيكمل بناء الصورة الكاملة عن الكون ومعرفة نظام سيره بالتفصيل، بل واعتقد كثير من العلماء أنّ دورهم قد اكتمل في تقديم هذا التفسير.
وبينما انهمك علماء الفيزياء في بذل المحاولات لحل أسرار الكون، كان علماء الكيمياء كذلك يفعلون، ففي عام 1803م كان العالم جون دالتون يضع المفاهيم الأساسية لعلم المادة والذرات في تكوّن المادة من هذه الذرات، وكذلك قوانين التفاعلات الكيميائية وقانون حفظ الكتلة الذي أطلق الشرارة لاحقاً لكل اكتشافات الفيزياء الذرية ما تلاها من معجزات في مجال الكهرباء والضوء.
وعلى صعيد آخر، كان علم الأحياء يسير بخطى ثابتة في طريق البحث عن الحقيقة، وقد أحدث العُلماء انعطافات عنيفة في هذا العلم منهم: لويس باستور، وتشارلز داروين وابن سينا؛ إذ فجّروا أساسيات علوم الأحياء بالكامل، وذلك بعد أن شدد ابن سينا على ضرورة فحص الأمراض فحصاً عملياً، وعبر أعراض المرض نستطيع أن نحدد المرض، ولا يوجد هُنَاك أي قوة خارقة أو سحُريّة في المرض، وكانت هذه الخطوة الأولى نحو طبٍ صحيح، بعد ذلك بقرون طويلة حصل الانتقال الكبير بعد أن ألّف تشارلز داروين عام 1859م كتاب أصل الأنواع، معتمداً على نظريته السابقة في الانتخاب الطبيعي بعد رحلته على متن سفينة البيغل لعدة سنوات، إذ شاهد داروين التنوع البيولوجي (الحيوي أو الأحيائي) ولاحظ اختلاف الكائنات في خصائصها، ولاحظ دلائل انقراض بعض الحيوانات، ودوّن بعض الملاحظات المرتبطة بالفجوات العلمية التي كانت سائدة في زمانه والتي كانت بحاجة إلى ردم، وسواء اتفق العالم مع داروين أو اختلف معه إلا أنه عالم له كل التقدير على اكتشافاته ومحاولته إجابة الأسئلة بطريقة علمية بناءً على مشاهدات ذلك الزمان، وقد فتحت اكتشافاته نافذةً من السماء على العالم بما لم يتوقعوه، فكثير من اكتشافات الوراثة والكيمياء الحيوية وعلوم الخلية كانت نتيجةً غير مباشرةٍ لما أحدثه هذا العالِم.
وفي خضم صراع العالم حول التطور، كان علم الأحياء في أوج صراع آخر بين شقين من العُلماء كل منهم كالطود المنظور، فقد كان علماء الأحياء مُختلفين حول نشوء الحياة، فهل تنشأ الحياة من الحياة؟ أم أنها تنشأ من العدم؟ من البديهي أنّ هذا في زماننا أمرٌ محسوم، لكن في ذلك الزمان لاحظ العُلماء خروج الدود من اللحم بعد التعفن، وكذلك لاحظوا ظهور الذباب على الطعام في غرف مغلقة رغم عدم وجوده مسبقاً فيها، وكذلك ظهور فئران وحشرات وحيوانات فجأة في الأطعمة، وقالوا إنّ الحياة يمكن أن تنشأ من العدم، الحياة يمكن أن تنشأ من لا حياة، وعُرفت هذه النظرية باسم نظرية التوالد التلقائي، وقد أنهى خلاف هذه التساؤلات العالم لويس باستور عام 1862م وأثبت بالتجارب أنّ الجراثيم والحشرات والحيوانات لا تنشأ من العدم، بل تنتقل إلى الطعام من كائنات تزرعها أو تبيضها، وتوّجَ عمله بعملية البسترة لإنهاء هذا الصراع كلياً إلا أنه من المؤسف أن تجد بعض البشر يؤمنون به علمياً إلى يومنا هذا.
هذا الاكتشاف فتح الأبواب على مصراعيها لعلوم التطعيم والمناعة والميكروبات، وبعدها المضادات الحيوية، ثم التعقيم وحفظ الطعام وانتقال المرض وعلاجه وغيرها من التطورات العلمية المرتبطة بالطب، وقد أضاف العالم روبورت كوخ عام 1890م فرضياته الأربع حول الميكروبات وكيفية انتقال الأمراض عبرها، وبذلك طُوِيت صفحة التخلّف والخُرافة المتعلقة بالطب إلى الأبد.
نعود إلى علماء الفيزياء مرة أخرى، ومع اكتشافات متتالية أدت إلى تدحرُج كرةَ الثلج إلى أن اصطدمت بقوانين نيوتن ودمرتها للأبد، أرجو منك الآن عزيزي ربط حزام الأمان، فمركبة العلم ستسير بسرعة، إذ سيصعب على العُلماء أنفسهم اللحاق بها، وهذه الجولة السريعة بدأت عام 1831م باكتشاف مايكل فاراداي الحث الكهرومغناطيسي وتأكيده على وجود علاقة ضمنية بين الكهرباء والمغناطيس، وهذا ما سهّل التعامل مع هذين العلمين لاحقاً، وقد بيّنت ظاهرة المجال الكهرومغناطيسي عام 1864م للعالم جيمس ماكسويل أنّ الكهرباء والمغناطيس والضوء كلها صور لظاهرة واحدة، ثم في عام 1895م مهَّد العالم فيلهلم رونتغن باكتشافه الأشعة السينية الطريق للعالمة ماري كوري في اكتشاف النشاط الإشعاعي، وذلك بتقديمها تقنيات عزل النظائر المشعة، كما اكتشفت وزوجها بيار كوري العناصر المشعة كالراديوم والبولونيوم، وهذا ما سرّع لاحقاً انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة اليابان، ومكنت العالَم من بناء المفاعلات النووية للحصول على طاقة نظيفة تُهيؤنا للسفر إلى مسافات بعيدة دون الحاجة إلى حمل كميات هائلة من الوقود.
في عام 1897م، قام العالم طومسون بإثبات وجود جُسيمات سالبة في أشعة الكاثود بحجم أصغر من الذرة سماها الإلكترونات، وسجلها تحت أنموذج حمل اسمه (أنموذج طومسون للذرة Plum Pudding Model)، هذا الاكتشاف المذكور في سطرين أدى إلى شرخ عقول العُلماء حول النظرة السطحية للذرة بأنها جُسيم صغير غير قابل للانقسام، وأنها غير قابلة للتجزئة، وأنّ هُنَاك ذرات أصغر من الذرة التي نعرفها، فلم تعد الذرة ذرة بعد 2000 عام من غرورها وتربعها على عرش الجُسيم الأصغر، وكان من البديهي ضرورة وجود شحنة موجبة في جسيم الذرة، فوجود شحنة سالبة (الإلكترون المكتشف) في جسيم متعادل كهربائياً بلا شحنة، يعني بالضرورة وجود شحنة موجبة تعادلها، وهذا قد أطلق سباق البحث بين العُلماء، وقد شغل هذا الاكتشاف العالم كما نرى في الأبحاث الذرية حتى يومنا هذا، وكانت جوائز نوبل للفيزياء على الأغلب لاكتشافات هذا المجال، وبدأت فكرة أخرى تتكون لدي العُلماء في ذلك الزمان، وهي وجود تشابه بين شكل الذرة وشكل النظام الشمسي، خصوصاً كوكب زحل، إذن يجب أن يكون هُنَاك قانون مُشترك يفسر حركة هذه الظواهر.
3 تطور أنموذج الذرة
لقد تطور أنموذج الذرة عبر عدة مراحل، ولكن أشهرها:
- 1808: أنموذج دالتون المصمت.
- 1904: أنموذج طومسون الذي أكّد وجود إلكترونات سالبة داخل الذرة.
- 1911: أنموذج رذرفورد الذي أكّد فيه وجود نواة موجبة داخل النواة.
- 1913: أنموذج بور الذي بيّن فيه أنّ الإلكترونات تدور في مسارات دائرة حول النواة.
- 1926: أنموذج شرودنجر الذي بيّن أنّ الإلكترونات لا تدور حول النواة في مسارات بل في سحابة احتمالات.
هُنَاك نماذج أحدث تختلف في طرحها بالمجمل عن الشكل الدائرة والتقليدي هذا.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.