إن سألت شرطياً يعمل في جهاز جمع المعلومات: ما هو الإنسان؟ فسيخبرك أنّ الإنسان كائن فاسد حتى النخاع، وإن سألت طبيب غرفة إنعاشٍ عن الإنسان فسيخبرك أنه مُجرَّد رقم، ولو سألت فنية غرفة تصوير أشعة سينية عن الإنسان فستخبرك أنه كذبة كبيرة، ولو سألت صيدلانياً عن الإنسان فسيخبرك أنه عناصر كيميائية متفاعلة، ولو سألت طبيباً نفسانياً عن الإنسان، فسيخبرك أنه وهم لا يمكن تفسيره، ولو سألت زوجاً عاش مع زوجته في حب 40 عاماً فسيخبرك أنّ الحب عبارة عن قيودٍ كثيرة.

وغيرها من الصور التي تُبيّن أنّ النظرة العميقة لأي إنسان بعد فترة طويلة تختلف فيها صورة الحياة النمطية، وتتكون صورة غريبة عن المحيط، نحن لا نرى المرضى والموتى أرقاماً، وحين توفيت أمي حزنت حزناً شديداً، لكن بالنسبة للطبيب فإن أمي مُجرَّد رقم آخر، من يتعمق في أي مجال كالفلسفة مثلاً طوال سنوات طويلة ستكون نظرته للأمور مُختلفة عن نظرتنا عنها، لذلك سيصعب تلاقي الأفكار بسهولة، ولن يكون هُنَاك معنى واحد للحياة، بل هُنَاك معانٍ كثيرة لها، لكن حينما نتقبل الحياة كرزمة واحدة كما عاشها من قبلنا من كدح وزواج وأخلاق وأبناء ومرض وهرم وفرح وتعاسة وحزن وأمل، حينها نعش الحياة بحقها ونستمتع في كل جزءٍ فيها، فنحن بشر، وهذا مخطط الحياة الطبيعي للبشر، أنت إنسان ولست إله فاعرف حدودك ولا تفكر أعلى من عقلك ولا تخرج عن مسارات البشر، وتقبل ضعفك وقلة حيلتك وتعاسة هذه الحياة وحاول أن تستمتع قدر المسموح.

لنفترض أنّ هُنَاك مريض اضطر الأطباء إلى نقل دماغه ووضعه في آلة على شكل إنسان، ماذا سيكون معنى حياته؟ ماذا ستكون أهداف هذا الإنسان وغاياته في هذه الحالة، رأينا أنّ جزءاً كبيراً من حياة الإنسان هي سعيه لتحقيق غرائزه، فغريزة مثل الشبع بحاجة إلى سد عبر الطعام والشراب، وغريزة الجنس كما يقول فرويد المحرك الأساسي لحياته، يلبس لأجلها وينجح ويتَفُوق ليتميز أمام الجنس الآخر، ويملك المال بسبب شهوة الجنس ويحاول أن يبدو الأجمل بسببها، هي محور حياته، ماذا سيكون غاية العقل بجسم آلة، أن يبدو أجمل مثلاً؟ أن يبدو أقوى، ولكن أمام من؟ أمام البشر، دون جسد بشري فلا معنى للمنافسة، من المفترض وجود صراع أو تحدٍ بين مزايا إنسان بمقارنة بمزايا إنسان، مثلاً من أذكى من ألطف وهكذا، ولكن ما معنى التحدي الجسدي ولا يوجد جنس أصلاً، ولو صنع العُلماء آلة تريد أن تكون لها حياة طبيعية يجب أن تكون لها أهداف وغايات، أن تحن إلى الرقود، وأن تحن إلى الراحة بأن يكون لها مؤشر للمجهود، وأن يكون لها هدف أسمى تصل إليه ثم تنتهي وتفنى.

وكما عهدنا فإن الصورة المتطرفة أو المريضة هي نافذة مجردة لفهم الحقيقة، وهنا نفترض، ماذا لو استيقظ إنسان كان في غيبوبة، ووجد أنّ العُلماء قد نقلوا عقله إلى جسم كائن حي آخر، لنقل جسد كلب من نوع ما، واستيقظ الإنسان وقد استوعب وعيه ما حصل ونظر إلى المرآة وأدرك أنه إنسان بجسد كلب.

ماذا سيفكر؟ هل سيحاول أن يكون جميلاً، لكن لماذا؟ فلا توجد غريزة جنس مع البشر بشكل مناسب له تقضي شهوته، ستكون مُشكِلة حقيقية، فالحب البشري يحتاج إلى احتضان وتوافق فكري وإلا لا معنى للجنس، إذن سيحاول أن يبدو جميلاً أمام الكلاب، لكنه لن يندمج في علاقة حب مع كلبة؛ لأن العقل بشري يتطلب في الجنس أحاسيس، والكلبة بحاجة إلى عواء وغيرها.

لكن، ماذا لو كان الجسد المنقول دماغه إليه هو جسد كائن حي ولكنه لا يشبه أي كائن موجود؟ لنفترض السحلية هي أنسب كائن لعقل البشر وتم تخليق سحلية كبيرة لتحتوي على عقل الإنسان، وتمت العملية، ستكون الأمور وخيمة أكثر، فالعقل البشري عليه أن يجد مبرراته وانسجامه مع دوافع حياة سحلية، ولن يكون لحياته أي معنى غير معنى الحياة لسحلية أكثر ذكاءً، فلا يعتقد الإنسان أنه شيء كبير وخارق، إنه شيءٌ كبيرٌ وخارق في سياق الجنس البشري، مع أقرانه ومع حياته معهم ومع القوانين والعلاقات الاجتماعية، ومن دونها لا معنى لها، وهذا ما وضحناه سابقاً أنّ الإنسان محدود بحدود الطبيعة، لا يخرج عنها، والمقصود في الطبيعة هنا ما خطّه المصمم له، وحتى الماديون يسلموا بهذا فيقولون، إنّ تطور العقل البشري كان في سياق حمايته من الكائنات المفترسة في الغابة، فالقرد لا يملك المهارة الكافية لكي يختبئ ويتَفُوق على الكواسر، إلا أنّ الإنسان يستطيع، ولكن هذا لا يعني أنّ العقل البشري قد تطور ليفهم النظرية الكمية.

وماذا عن نقل رأس رجل طاعن في السن إلى جسد شاب؟ لنفترض أنه أمرٌ ممكنٌ حيوياً، هل سيكون أمراً مناسباً؟ إنّ الدماغ شأنه شأن أي عضو قد كبر في السن وأصابه التلف، ولن يعيد الجسد عمره إلى الوراء، صحيح أنّ هذا قد يُساعد في تحسين بعض الأمور، لكن ليس بالتغيير الكبير، فضلاً عن أنّ فكر الإنسان ينضج، ولن يعود شخص فهم الحياة إلى الوراء ليلبس الحفاظة ويجرب الروضة ويفكر في الحب والزواج والإنجاب، هذه الأمور غير مرتبطة بالجسد بل ترتبط بالوعي العقلي، قد يشعر ببعض الشباب والقوة، لكنها لن تزيل ما تراكم من التفكير عن معاني الحياة، ولو حدث العكس ووضعنا رأس طفل على جسد عجوز طاعن في السن، فلن يسرع هذا في نمو الدماغ، والذي نعلم أنه عضوٌ عاديٌ ينمو مع الزمن، ولن يجعل هذا الطفل ذو وعي فكري أفضل، بل سيقلبه إلى أرذل الحياة؛ لعدم التوافق بين الفكر والإمكانيات.

الخلاصة أنّ الحياة هكذا جميلة دون تلاعب، تحيلنا هذه الأمثلة الساذجة إلى أنّ الإنسان كائنٌ متراكب التفكير، لا يمكن تغيير أي وسيطات Parameters في حياته، وإلا فلن يكون له معنىً، ومحاولات خروج هذا الإنسان عن سياقاته الكبرى التي خطتها البشرية ستجعله أكثر تعاسة ودون قيمة.


اترك تعليقاً