أثناء عملي في نظام تعبيري لترجمة اللُغة المنطوقة وتحويلها إلى لُغة الإشارة للصم، تعرفت على اللُغة بشكل لا يُمكن وصفه، وغُصت في أعماق اللُغة، وتيقنت أنّ اللُغة لا تعاني من خطب وحسب، بل هي سبب سعادة وتعاسة الجنس البشري على حد سواء، وهذا ما يراه العاملون في مجال الذكاء الصناعي في مجال الترجمة، فمترجمو جوجل على سبيل المثال اعتمدوا على نظريات فينجنشتاين، وبالفعل كان كلامه صحيحاً إلى حد ما فيما واجهوه، ولنتطرق إلى المُشكِلة بمثال المترجم الإلكتروني.
إنّ أساس بناء مترجم آلي هو بناء شبكة عصبية للتعليم الآلي، إذ يتم تدريب الحاسوب فيها على فهم آلية ارتباط الكلمات ببعضها البعض، إذ تحمل الكلمات معانٍ عديدة تختلف بحسب فهمنا للسياق، فكلمة عين تعني العين البشرية وعين الماء وكبير القوم والجاسوس وذات الشيء حينما نقول هو بعينه وقائد وأهل المنزل والحاضر في كل شيء، ومعانٍ أخرى كثيرة في المراجع اللغوية، ولكي نتخذ القرار الصحيح في المعنى المقصود لا مجال إلا بالعودة للجملة لفهم السياق الذي جاءت فيه الكلمة، لهذا الأمر يُكوّنُ الحاسوب شبكةً عظيمةً وكبيرة من الترابطات، ثم يقوم بتدريب نفسه عليها بعد ترجمة ملايين الفقرات ومتابعة البشر لها في البداية والتعبير عن الخطأ وإمكانية التصويب، ليستطيع الحاسوب استيعاب آلية فهم اللُغة في سياقها، ثَمّة عمليات كثيرة مرتبطة بالترجمة من تنظيف الكلمات وإعادتها إلى جذرها الأصلي، فكلمة خدم أصل استخدم، ولكن لكل منهما معنىً مُختلف، فكلمة خادم نفهمها على معنى الجذر الأصلي خدم، ولكن كلمة استخدام من استخدم تختلف في المعنى عن الجذر الأصلي، كذلك ثمة كلمات مترابطة، إذا جاءت متتالية غيرت المعنى، فكلمة يوم، تختلف عن يوم الجمعة، وكلمة شهر، تختلف عن شهر رمضان، وهناك علاقات بين الشخصيات، فميسي لاعب كرة قدم، والقدس مرتبطة بفلسطين وبالدين وبالتسامح، وفهد عبارة عن حيوان، وكذلك اسم علم، وهو اسم ملك، وهو علامة تجارية .. إلخ.
هذا الارتباط يحيلنا إلى الحقيقة الدامغة بأنه لا يوجد معانٍ معيارية ثابتة للكلمات، وأنّ معانيها تكمن في استخدامها وهذه جملة مهمة، معانيها تكمن حين استخدامها في السياق، ثم إنّ كثيراً من الكلمات يتغير معناها عبر الزمن، إما سقطت معانٍ عنها أو أُضيفت معانٍ جديدة لها، وأصبح للكلمة الواحدة صفحات في القاموس، ونحن نجد معنىً لهذه الكلمات من خلال النظر في الكلمات المحيطة بها وتحديدها على النحو المُحدد في مجموع كل استخداماتها في السياق، ولا ننسى أنّ القواعد اللغوية عميقة جداً وتختلف من لُغة إلى أخرى بشكل يجعل لكل لُغة خصوصية في التفكير تختلف من لُغة إلى أخرى، وترتبط آلية عمل التفكير كثيراً بهذه اللُغة ودلالات الكلمات فيها.
يُفكر الإنسان في الكلمات حينما ينطقها أو يسمعها، فإذا سمعت لفظة ساعة من شخص، فإنك ستفكر في ساعة حائط أو ساعة يد أو 60 دقيقة أو حتى يخطر في بالك كلمة ساعة مكتوبة، وإذا قلت لك أسد، لا مناص أنك ستتخيل أسد أو أتخيل جارنا حسب وصف زوجته، وكلمات أخرى نكتفي بتخيل كتابتها (حروفها)، كلمة الله قبل تعلم القراءة والكتابة قد تتخيلها غيوم أو سماء أو فضاء أو كائن كبير يجلس على كرسي، لكنك بعد أن تتعلم اللُغة وتتعود على كتابتها، تصبح حروف كلمة الله مرتبطة بجزء من التخيل حينما تسمع الخالق، الإله، الرب، أو ما شابه حسب الثقافة والمجتمع وتاريخ الفكر.
بل حتى اللُغة خادعة وبعيدة عن المنطق، فنقول توقف المطر أو توقف الزمن وكأن الزمن يشبه قطار وتوقف، والوقوف له علاقة بالإنسان حينما يكون جالساً فيقف، فاستخدام لفظة وقوف مع الزمن أو المطر أو النزيف خادعة للمعنى الأصلي، وفي لُغة أخرى قد يكون لها معنىً يختلف كلياً أو يتم استخدام كلمة غير توقف، مثل انحسرت الدماء، وهي أيضاً تشير إلى أنّ الدماء كالنهر أو الحوض المائي الذي انحسر، ولا مفر من لعبة الكلمات هذه.
لِنُسلط الضوء على الدور المهم للُغة في عمليات التفكير نستذكر رواية جورج أوريل 1984 فهي تُقرب الصورة، إذ ذكرت الرواية نظاماً دكتاتورياً لا يريد لأي أحد أن يثور عليه، وكيف يمنع الديكتاتور الثورة؟ يتوصل بعد تفكير أنّ الطريقة المثلى هي منع الناس من التفكير بالثورة، ويتم ذلك عبر حذف كل الكلمات التي تدل على الثورة والانتفاضة ونبذ الظلم والطغيان وغيرها من عقول الناس ومن القاموس، فيصبح الناس في حالة لا يستطيعون وصفها، ويراودهم شعورٌ غريبٌ لا يعرفون كنهه، فلا تخدمهم الكلمات، ولا تطاوعهم المصطلحات، ولو أراد أحدهم أن يعبر عن الحالة العارمة من السخط ليثور فلن يستطيع استخدام الكلمات ولن يجد معنىً دقيقاً، ولما استطاع أن يوصل شعوره الداخلي لغيره بسهولة، ولما استطاع غيره أن يوصل المفهوم للآخرين بدوره، صحيح أنها مُجرَّد رواية وأنّ هذه الفكرة قد تكون ضعيفة، لأنّ الناس ستطور الألفاظ لتُعبر عن مكنوناتها، أو ستطور إشاراتٍ أو حركاتٍ أو أيِّ صيغ أخرى، لكن يمكنها التوقف لفترة طويلة عن وصف ما يعبر عنهم، وهي تُفيد بتقريب الفكرة، فلو حذفنا كلمة موت من القاموس، سيضطر الناس إلى البحث عن بديل لهذه الكلمة، كما أحلّوها أول مرة، سيحلّونها ثانياً وثالثاً وعاشراً.
يرى علماء اللغويات أنّ لكل لُغة خصوصيات لغوية مُختلفة عن غيرها، فهُنَاك حروف وأصوات خاصة بلغات معينة، ويصعب على من لم يسمعها من الصغر أن يُميزها بسهولة لينطقها، مثل الأصوات الساكنة المقذوفة وحرف الضاد والغين والخاء، وهُنَاك لغات بها معانٍ مشفرة في قواعدها النحوية كأجزاء من الفعل تشير إلى أشكال الأشياء، أو على أزمنة أفعال واسعة جداً، أو أنها تحتوي فئات نحوية جديدة مثل الإثبات وغيرها من الخصوصيات التي يصعب على غير الناطق بها كلُغة أم أن يستوعبها، فلِلُغتنا العربية ثلاثة أزمنة هي: الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن لُغة سكان غينيا الجديدة المُسماة ييماس Yimas تحتوي على أربعة أنواع من الزمن الماضي، تبدأ من الأحداث الأخيرة إلى الماضي البعيد، وهُنَاك لغات تحتوي على مجموعات زمنية أضعاف الموجودة في لغتنا مثل اللُغة الفرنسية، وهذا ما أرعبني بعدما أخبرني به معلمي في أول درس للُغة الفرنسية، وجعلني أتزوج من بلدي، هذا لا يعني أنّ هُنَاك أزمنة غير هذه الثلاث أزمنة، بل هُنَاك آلية مُختلفة للتعبير عن هذه الأزمنة، وقد تكون الشعوب التي لا تهتم بصيغة الحاضر والمستقبل في لغتها، ترى أنّ الحاضر والمستقبل كلاهما بالأهمية نفسها، لكن الشعوب الأخرى التي تميز بينهم يبدو أنها تهتم بالحاضر أكثر، ولك أن تتخيل وقع ذلك في الحياة اليومية.
بعض السكان الأصليين في أستراليا يتحدثون لُغة تسمى Guugu Yimithirr، ويقومون بتوجيه أنفسهم في المكان بشكلٍ أفضل من الأشخاص الناطقين بلغات أخرى، فنحن نحدد المكان بالاعتماد على الوسط والذي غالباً ما يكون وسط المتحدث، فنحن نقول هذا عن شمالي، وعلى يمينك وهكذا، لكنهم يعتمدون على تموضعهم بين الاتجاهات الأربعة، لذلك ستسمعهم يقولون، ضع هذه باتجاه الشمال الغربي، وانتبه هُنَاك سيارة قادمة من اتجاه الجنوب الشرقي، ولو أراد أن يخبرك باتجاه مسار ما فيقول لك، اتجه شرق ثم شمال ثم شرق ثم غرب، بدلاً من يمين في شمال في شمال في شمال، لا يقف الأمر عند ذلك؛ بل كل شيء تقريباً، ففي وصفهم الصور نرى جملة مثل الرجل يقف غرب زوجته، وفي ترتيب الأشياء على المائدة يقولون: ضع كوب العصير جنوب طبق الفاكهة، حين الحديث عن أشخاص: هل تراه؟ الرجل صاحب الأنف ناحية الجنوب، وعند تصفح الكتاب: توجه بالصفحة للشرق، وعند الحديث عن الذكريات القديمة لا أريد تذكر تلك الحادثة حينما كُسرت ذراعي الشرقية [155]، إنّ هذا ما يجعل عقولهم يقظة باتجاهات لم نكن متيقظين لها نحن سكان بقية الكوكب، وقد تسمع جملة هنا مثل المستقبل أمامنا، ولكن هُنَاك تكون المستقبل فوقنا أو شمالنا، وحين تشير إلى المستقبل تشير أنت إلى الأمام، ولكنه يشير إلى الأعلى [155].
مثال آخر، تحتوي لُغة سكان شمال أستراليا (ديربال Dyirbal) على أربع فئات مثل الجنسين في اللُغة الإنجليزية، وهو تخصيص غير قابل للفصل، فالفئة الأولى تشمل أسماء الحيوانات والذكور من البشر، أما الفئة الثانية فتشمل أسماء النساء والمياه والنار وأسماء الأشياء القتالية، بينما تشمل الفئة الثالثة أسماء النباتات الصالحة للأكل، والفئة الرابعة تشبه الطبقة المتبقية، إذ يتم جمع باقي الأسماء المتبقية التي لم يتم ذكرها في الفئات الثلاث الأولى، وهذا التصنيف للأسماء يشمل رؤية متماسكة للعالم، بما في ذلك الأساطير الأولية، وقد تم العثور على أسماء الطيور في الفئة الثانية على الرغم من أن تصنيف الحيوانات في الفئة الأولى، لأن الشعب الديربالي اعتقد أنّ الطيور كانت أرواحاً لنساءٍ متوفيات[156].
كذلك يختلف وصف المذكر والمؤنث بين اللغات، فاللُغة الألمانية تختلف اختلافاً كبيراً في تحديد جنس ما نراه نحن العرب في لغتنا، فالطاولة لديهم مذكر، والكرسي مؤنث، وهذا سيجعل التفكير مُختلفاً في وصف الأشياء المذكرة والمؤنثة، فالمذكر لدينا يشير إلى القوة والخشونة، والمؤنث يشير إلى النعومة والجمال بطبيعة الحال، وفي تجربة أجريت على مجموعتين من الأفراد من متحدثي اللغتين الألمانية والإسبانية، إذ طُلب منهم أن يصفوا المفتاح، وهي كلمة مذكرة في الألمانية ومؤنثة في الإسبانية، فمالت مجموعة الألمان للقول أن المفتاح “قوي، ثقيل، خشن” بينما ذهب غالبية الأسبان إلى أوصاف مثل “ذهبي، محبب، لامع، رقيق”، يوضح ذلك كيف أنّ جنس الشيء اللغوي قد يؤثر على طريقة وصفنا له كذكر أو كأنثى
[155].
رسم توضيحي 63 ضياع أرض فلسطين بسبب لام التعريف، إذ تظهر فيها فلسطين الحالية مقسمة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة التابعين للفلسطينيين، وباقي المنطقة الصفراء محتلة.
يُعد قرار 242 الصادر عن مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة قراراً مصيرياً، فقد جاء فيه “انسحاب القوات الإسرائيلية من أراضٍ احتُلت في النزاع الأخير”. وقد أدى حذف “أل” التعريف من كلمة “الأراضي” في النص الإنجليزي إلى إضفاء الغموض على هذا القرار، وأفسح المجال للاحتلال الصهيوني للمناورة فيه، إذ لم يتم تحديد ما هي الأراضي التي احتلت، الأمر الذي جعل القرار أقل قيمة وفاعلية واتخاذه وسيلة لإحلال المزيد من الظلم على الشعب الفلسطيني المحتل!
يتكون نظام العد في إحدى اللغات البرازيلية من الرقم 1 و2 وكثير، لا يوجد لديهم رقم أكبر من اثنين، لكن يوجد لديهم كمية هي كثير، وحينما تم جلب أحد هؤلاء السكان وجعله يحدد أي كومة أكثر في العدد بين كومتين تحتويان عناصر أكثر من 50 مثلاً، فإنه لم يستطع التمييز أي الكومتين أكثر بسهولة، لأن في عقله كل ما هو أكبر من 2 هو كثير، وهذا كثير وهذا كثير، ولا فرق جلي بين كثير وكثير [157]، وهذا مثال مباشر على دور اللُغة في آلية التفكير، صحيح أنّ هذا الشعب يمكن أن يتعلم أو يستعير من أي حضارة نظام العد ويعد في اليوم التالي ويطور آليته، لكنهم في الدرجة الأولى لم يمتلكوا تلك المهارة.
ولعلنا نرى الكلمات التي تعبر عن الحب لدينا مثل الحب، الهيام، الغرام، العشق، الوله، الود، الصبوة، النجوى، الجنون، وغيرها من الكلمات التي تسمح لنا بالتعبير عن أدق أدق مكنوناتنا تجاه من نحب غير موجودة بالدقة نفسها في لغات أخرى، لكن، هل تعطينا اللُغة العربية على سبيل المثال معنىً للحب العفيف مثل حب الأب والأم والأبناء، والحب الجنسي بين شاب وفتاة في أوج الشهوة! فالحب في لغتنا مُتمثل بكلمة حب، لكن كل حب له وصف وأحاسيس معينة، ولو أتاحت اللُغة كلمات منفصلة أكثر لأمكن وصف هذين الحبين بكلمات أدق، قالت لي بنت خالي: إنتا حبيبي يا خليل، أنا فهمتها على أنها حب عفيف أخوي، ولكن أخاها فهمها بالحب الآخر وبقليل من التجاهل تجاوزنا هذه المرحلة، وكفى الله المُؤمِنين شر القتال.
يرى الفيلسوف دريدا أنّ أفكار الإنسان تقع في شِرك اللُغة ولا توجد طريقة موضوعية لنميز فيها الأفكار التي تقع خارج اللُغة، لأن اللُغة هي وسيلتنا للاتصال والتفكير، وقد حمل هيدجر رأياً مشابهاً حينما قال: “لا توجد طريقة بالمطلق نستطيع عبرها فصل اللُغة عن الواقع”، ما دامت لغتنا ليست تخاطرية لأفرغ في عقلك ما أريد إيصاله بدقة أو ليست منطقية كلُغة الحاسوب، سيبقى المعنى عندي يختلف عن المعنى عندك ولو بدرجة قليلة، لأن خبراتي تختلف عن خبراتك ودلالات الكلمات عندي ليست كما عندك، وبالمناسبة لا يخلق الفرد اللُغة، بل تخلقه اللُغة، فاللُغة العربية موجودة دون خليل، لكن خليل لا يمكنه أن يكون موجوداً إلا باللُغة ولغته الأم بالتحديد، مهما تعلم من لغات أخرى فإنه سيبقى يفكر بلغته الأم، ويقسم بها، ويحلم بها، وسيبقى العربي يُرتب الأشياء من اليمين إلى اليسار، بينما يرتبها الإنجليزي من اليسار إلى اليمين حسب لغته.
ومهما تقدم فكرنا فإنه سيبقى حبيس التعبير باللُغة، لذلك نقرأ كتابات بعض الفلاسفة ولا نفهم المقصود منها، فلغتنا الأم أو اللُغة المستخدمة لا تُطاوعنا في فهم ما هو خارج حدود الكلمات المعهودة، وعلى ما يبدو فإنّ حدود لغتي ليست هي حدود عقلي لكن هُنَاك علاقة وطيدة بين لغتي وسُلُوكي كمتحدثها، إنّ اللُغة هي كوابح المصمم، ونحن بحاجة إلى اختراع كلمات للانطلاق أسرع في هذا العالم.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.