لنأخذ مثالاً على الحواس، حاسة البصر، تبدأ العملية حينما يسقط الضوء على جسم ما، فتنعكس أشعة الضوء إلى العين، لتدخل عبر قزحية العين وتنعكس على الشبكية، ومن خلال النقطة العمياء الموجودة في مؤخرة العين ومع سلسلة عمليات مُعقَّدة وطويلة تتحول هذه الصورة إلى إشارات كهربائية، لتنتقل هذه الإشارات الكهربائية بدورها إلى دماغ الإنسان إلى منطقة تُدعى مركز الإبصار، يقوم مركز الإبصار بتحويل هذه الإشارات الكهربائية إلى صورة مفهومة، ليتسنى للعقل البشري اتخاذ القرارات وإجراء العمليات بناء على هذه الصورة.

ما سبق توضيحه هو خلاصة عملية الإبصار، فالصورة التي نراها تنتقل من العين إلى إدراك الإنسان عبر مجموعة من الإشارات الكهربائية، أي أنّ رؤيتنا تتم عبر هذه الإشارات الكهربائية، وهذا قول العلم، إذ تكمن المُشكِلة عند العديد ممن لا يبصرون في جزئية من جزئيات نقل الإشارات الكهربائية إلى دماغ الإنسان، وأعضاء الحس مثل العين، ليست هي من ترى، بل هي ترسل صورة للدماغ والدماغ من يقوم بتحليل الصورة وفهمها، ولو كانت هُنَاك أمراض معينة فلن يفهم الإنسان الصورة فترى العين ما يفهمه الدماغ فقط، هُنَاك أمراض معينة -كما أسلفنا- في الدماغ تجعل الشخص يرى الصور ولا يفهمها، يقول أرى لوناً أحمر له زوايا لكنه لا يستطيع أن يفهم أنه مثلث، يرى الملعقة ويصفها ولكنه لا يستطيع أن يقول أنها ملعقة إلا إذا تحسسها وتعرّف عليها أي عبر حاسة اللمس.

مرة أخرى، إنّ كل ما تراه حتى هذه الكلمات التي تمر من خلال عينيك الآن هي إشارات كهربائية تنتقل إلى مركز الإبصار –والذي لا يعدو كونه سوى شحماً ولحماً لا يتجاوز حجمه عدة سنتيمترات مربعة– فيقوم الدماغ بتفسيرها إلى الصورة التي على الواقع، وهُنَاك سؤالان يطرحان نفسيهما، السؤال الأول: كيف لقطعة الشحم هذه أن ترسم هذه الصورة المضيئة حولنا؟ والسؤال الثاني: ماذا لو أثرنا الأعصاب بالإشارات الكهربائية نفسها التي حدثت حين رأينا الكائن نفسه؟

لنبدأ كالمعتاد بالسؤال الثاني، ماذا لو قمنا بمحاكاة وإعادة أي إشارة كهربائية؟ ماذا لو نسخنا الإشارات الكهربائية الصادرة عند رؤية تفاحة، ثم قمنا بإعادتها إلى العصب البصري وإرسال إشارات مشابهة إلى مركز الإبصار! من المفترض حسب العلم أنه لدينا مدخلات، ومن ثم سيكون لدينا مخرجات، حينها سترى تفاحة وهي غير موجودة أساساً، فالإشارات الكهربائية ستنتقل إلى الدماغ وهو بدوره سيفسرها على أنها تفاحة، بناءً على التجارب السابقة.

يقودنا هذا الأمر الغريب إلى سؤال مهم، وهو كيف تستطيع أن تحدد بأن التفاحة التي تراها الآن حقيقيةً أم لا؟ وفي فقرة مسابقة الأسئلة هذه دعونا نتريث قليلاً ونعود الآن إلى السؤال الأول، كيف لقطعة الشحم المسماة بالدماغ أن ترسم هذه الصورة المضيئة أمامنا؟

الدماغ أو المخ عبارة عن قطعة تزن ما بين 350- 400 جرام عند الأطفال و1300- 1400 جرام عند البالغين، ويحيط به سائل ومجموعة من الأغشية، تتكون هذه القطعة من بروتينات وأحماض أمينية ودهون وأعصاب وخلايا وسوائل مثل باقي أعضاء الجسم، فنجد أنّ نسبة مواد معينة موجودة في الكبد، تختلف عن النسبة الموجودة في الدماغ، تختلف عن النسبة الموجودة في الرئتين، كل هذه الأعضاء تتشابه في المكونات الأساسية، ولكن، ما الذي يعطي قطعة الدماغ القدرة على رسم هذا العالم الخارجي وتصوره والإحساس به؟ هذا الوعي والإدراك والصورة المضيئة من أين يأتيان؟ ولنطرح سؤال آخر، ماذا لو وضعنا كاميرا داخل جمجمة أحد البشر، وجعلناه يشاهد شروق الشمس، ثم أخرجنا الكاميرا من داخل جمجمة هذا الإنسان ورأينا شريطها، على ماذا سنحصل؟ نعلم الآن بفضل علم الأحياء أنها لن تصور شيئاً، لأنها تقع داخل تجويف الجمجمة، وتجويف الجمجمة هو منطقة ظلماء، لا ضياء فيها ولا بيانات ظاهرة.

يُوجد الدماغ في صندوق مظلم، وهذا الصندوق المظلم الذي يحتوي على مركز الإبصار، يجعلك الآن ترى ما حولك وترى هذه الصورة النيرة، ولكن حقيقة ما بداخل هذا الشحم والذي جعله يدرك هذا المحيط هو شيء خارج عن إطار الخلايا، ولو قام العُلماء بجلب دماغ حي، وأخرجوه من رأس أحدهم وقاموا بربط كل أسلاك الدنيا وبأحدث ما توصل إليه العلم، لن يستطيعوا الحصول على الصورة التي أمامك ولو حتى على جزء بسيط منها، والسبب بسيط، وهو أنّى لقطعة اللحم هذه أن تبصر!

وبالمثال نفسه يمكننا أن نقيس على باقي الحواس، فعندما نسمع، تقوم طبلة الأذن بتوصيل الاهتزازات إلى أجزاء الأذن الداخلية والتي تقوم بدورها بتحويل هذه الاهتزازات إلى إشارات كهربائية يتم نقلها إلى الدماغ، وكذلك عندما نتذوق طعاماً، يقوم اللسان بإرسال إشارات كهربائية إلى الدماغ والذي بدوره يفسرها ويميّز ماذا نأكل، وكذلك عندما نشتم رائحة ماـ تقوم المستقبلات الحسية لحاسة الشم بتحويل الروائح إلى إشارات كهربائية وترسلها إلى الدماغ، وكذلك في حاسة اللمس، عندما تلمس جسماً ناعماً أو خشناً، ساخناً أو بارداً، تقوم المستقبلات الحسية الموجودة أسفل الجلد بتحويل هذا الإحساس إلى إشارات كهربائية تصل إلى الدماغ والذي بدوره يقوم بتفسيرها تبعاً لما هو مسجل عنده.

إذن نحن نتصل بالعالم الخارجي عبر الإشارات الكهربائية، واستمتاعك بمظهر الطعام أو بمذاقه أو برائحته ما هو إلا انعكاس لإشارات الأحاسيس الكهربائية على مناطق معينة في الدماغ، هذا ينطبق أيضاً على كل تجارب حياة الإنسان، فالإحساس بالمسافة أو بالزمن هو نتاج قياسات كهربائية معينة يستنتجها الدماغ بعد ولوج البيانات إليه، فمثلاً تحديدك للمسافة بين عينيك وبين الكتاب الذي تقرأ منه الآن، هو نتاج تفسير الدماغ لمجموعة من العوامل المجتمعة بعد قراءة الصورة العائدة إليه، واستنتاج بعد التحليل المسافة الموجودة بينكما، يتحدث فيلم الماتريكس Matrix وغيره من الأفلام عن نهاية الحرب التي حدثت بين البشر والآلة، هذه الحرب جعلت الآلات تقهر البشر وتستخدمهم كعبيد، ولكن كيف للآلات ذلك؟ لقد قامت الآلات بإجراء دراسات على عقل الإنسان واستطاعوا أن يتوصلوا إلى فهم أدق الإشارات الكهربائية ومحاكاتها، وقاموا بربط البشر بحاسوب عملاق، يحتوي على نظام الماتريكس وذلك عبر الكوابل المتصلة برأس كل إنسان، وبهذا جعلوا البشر عبيداً لهم، يعرضون لهم ما يريدون ويتحكمون بهم في عالم قاموا ببنائه، وهذا بدوره لا يختلف عليه مبدأ الأحياء والأعصاب في يومنا هذا، وهي بالمناسبة معضلة تُسمى معضلة الكيفيات المحسوسة.

وماذا عن الطعام الذي تكلمنا عنه للتو، هل هو موجود حقاً، أنت تراه بفكرة الإشارات الكهربائية نفسها التي تنعكس على عينيك، ولعلك تقول أستطيع أن أحسه بيدي، فأقول لك، أعد قراءة الفقرات السابقة مرة أخرى، لأنّ الإحساس أيضاً هو نتاج عملية وصول الإشارات الكهربائية إلى الدماغ، ولا تقل لي أشمه أو أسمعه، فجميعها نفس الحواس، إذا كانت صورة الطعام هي أيضاً انطباعاً للإشارات الكهربائية في دماغك، فهل تستطيع عزيزي أن تُثبِت لي أنّ الطعام الذي أمامك حقاً موجود، أي أنه مادة موجودة فعلياً؟

لعلك تحاول التبرير الآن بقولك، إنّ جسدي حقيقة موجودة في هذا العالم، يدي موجودة وأنا أمسك بها الكتاب، لكن دعني أذكرك بأنها الشيء نفسه، فأنت تراها بنفس فكرة الإشارات الكهربائية التي تنعكس على عينيك، ولعلك تقول: أستطيع أن أحس بيدي هذه يدي الأخرى، ونعود إلى الفكرة نفسها ولا فرق، قد تقول أنا أتحكم في يدي، ولكن هل تتحكم في يدك حقاً!!

دعنا نعيد طرح الآلية التي استعرضناها في الفصل السابق، عملية تحريك اليد، فأنت حينما ترغب بتحريك يدك، تفكر فقط بتحريك يدك، فتحركها، ولكن هل فكرت في أن تحرك عضلات معينة، وتفرز إنزيمات معينة وتضخ دماً معيناً، وتشد وترخي أربطة معينة في اليد؟ على العكس لا، أنت فكرت فقط في الأمر وتم، لا سلطة لك على يدك، الإنسان ليس لديه تحكم بأي جزء من جسده، هو يفكر في العملية فقط، والعملية تتم دون أي إدراك لعقله، فلا شيء حقيقي إلا ما نعتقد أننا نفكر به، إنّ ارتباطنا بالعالم الخارجي يتم عبر الحواس، والحواس ترسل إشارات كهربائية، أي أنّ ارتباطنا بالعالم الخارجي يتم عبر الإشارات الكهربائية الواصلة إلى الدماغ، ولا تعلم الآن أنت تلمس شيئاً حقيقياً أم أنّ عقلك موجود في جهاز ما متصل بأسلاك كثيرة وتعتقد أنك تعيش اللحظة.

هذا ما كان يجول في عقل ديكارت حينما تساءل: كيف نثق في الحواس وهي مصدر أساسي للمعرفة؟ فحسب تفكير ديكارت إن الحواس تخدعنا وتعطينا إشارات مضللة لما يحيط بنا، ولأن هذا أمرٌ منافٍ للمنطق، ويبقى الشيء الذي يمكنك أن تتيقن منه 100% هو أنك تفكر، أنا أفكر إذن أنا موجود، روعاتك يا عم ديكا، وما دمتُ أشك حسب ديكارت، فهذا يعني أني كائن ناقص، وفكرة النقص هذه ليست من عند الإنسان بل نابعة من موجود آخر يتصف بالكمال، وهذا الموجود الكامل هو الله، وهذا يعني أنّ الله كامل من كل شيء، فهو كامل في الصفات والأفعال والقدرات والمزايا، ومن هذا يتضح الصفات الحقيرة والدنيئة لا تصدر من الله، ولا تصدر ممن يلحق نفسه مع الله الكامل.


الآن فهمنا أنه لا يمكننا التأكد من وجود مادة حقيقة أمامنا، فكل المواد التي أمامنا ما هي إلا مجموعة من الإدراكات الحسية التي لا توجد إلا في أذهاننا فقط، وهنا يمكننا أن نكون أكثر دقة لو قلنا أنّ العالم الموجود لنا، هو عالم الإدراكات الحسية، وهو العالم الوحيد الذي نتيقن من وجوده، أما عالم المادة وعالم الحقيقة فلا يمكننا فعلياً التأكد من وجودهما أم لا، وكأن العالم هو ما موجود في عقولنا فقط، ولو قام العُلماء بإجراء أصعب وأدق العمليات العلمية والفيزيائية التي توصلوا إليها لما استطاعوا معرفة الحقيقة، فكل ما سيتوصلون إليه سيكون مرتبطاً بإدراكاتهم الحسية، ولو قال لي أرى هذه المادة بالمجهر، فسأقول له ها أنت قلتها، قلت ترى، والرؤية إدراك حسي وهكذا، وحسب فيزياء الكم لا وجود للحقيقة، الحقيقة فقط موجودة لأدوات القياس لأن عملية القياس نفسها تؤثر على الحقيقة فتصبح الحقيقة ليست هي الحقيقة الحقيقية، بل هي الحقيقة المقاسة، ولكن، هل من أدلة واقعية أكثر على خديعة الحواس؟ نعم! هُنَاك أمثلة ولنأخذ مثالاً واحداً فقط، فالقوة تكمن في قوة الدليل، وليس في كثرة الأدلة.

صورة 19 لوحة الملاك الجريح للفنان هوغو سيمبيرغ.

قام هوغو برسم هذه اللوحة عام 1903م إبان خضوع فنلندا للاحتلال الروسي، وتركها دون تسمية ليقوم المُتلقي بتفسيرها بالطريقة التي يراها مناسبة، لكنها اكتسبت شهرتها بهذا الاسم، إذ يظهر فيها ملاكاً على هيئة فتاة جريحة مُنكَس الرأس كأنه لم يعد يرغب برؤية المزيد من هذا العالم المجنون.

الأحلام

في منامك ترى عالماً كعالمك وتتواصل مع أناس تعرفهم، وتأكل الطعام وتشرب الشراب بل تنام وتستيقظ من حلم في حلمك، وتعيش بلا فارق بين هذا العالم وذاك العالم، لا أحد يستطيع أثناء الحلم أن يشعر أنه في حلم، وأحياناً يستمر الحلم لساعات، إذ تذهب إلى زيارة شخص ما، وتخوضون في أحاديث متنوعة، ومن ثم يضيّفك وتبدي رأيك بالطعام اللذيذ، وقد تتخذ قرارات حساسة معه، وقد تحدث أحداثاً منطقية جداً، ولكن بمُجرَّد استيقاظك من النوم، تكتشف أنّ كل ذلك كان مُجرَّد حلم.

مع العلم أنّ زمن الحلم الفعلي كما يقول العُلماء أقل من الوقت الفعلي لأحداث الحلم، إلا أنك تفتكر هذه الساعات لحظة استيقاظك، وكأنها حصلت بالفعل، ولربما وقعت في الحلم من مكان مرتفع، فنهضت من نومك فزعاً وكأن الأمر حقيقي حقاً، أخبرني إذاً، كيف تعرف الآن أنّ ما تعيشه ليس حلماً، أو لسنا في نموذج محاكاة، والحقيقة لا يهم إثبات أننا لسنا فيه لأن الهدف الفكرة، وكما قال ديكارت هنا لا نستطيع الحكم بحواسنا، كيف يمكن أن نتأكد أنّ حياتنا ليست حلماً، قد تقول أنا الآن أسمع وأرى وألمس وأشم وأتذوق، لكن في المنام تعمل كل هذه الحواس، ولا تعرف نفسك أنك كنت تحلم إلا بعدما تستيقظ، بل وتكاد تقسم أنّ الحلم كان كالحقيقة، ولو سألك أحد أثناء حلمك أنك في حلم، فستقول له: كيف أكون في حلم، فأنا ألمس المواد الآن وأحس بها، وها أنا أكلمك وأراك ونتواصل سوياً، ولماذا لا يكون كما تقول الأديان، عقلنا وجسمنا الآن ليسا حقيقيان، والجسد الحقيقي موجود في مكان آخر هو الآخرة، لا نستطيع أن ننفي هذا بالمطلق، وأيضاً ما أدراك أنّ عقول البشر كلها مرتبطة بجهاز ما وتعيش هذا الحلم سوياً، ولا وجود لما نراه حقيقة، وحينما نستيقظ سنعرف الحقيقة الفعلية، فهم لا يعرفون أنهم في حلم البرنامج إلا بعدما يستيقظون، في النهاية إن الحياة لا تختلف عن الأحلام، وهم الأحلام يمكن أن ينطبق على حياتنا، والتي هي قد تكون حلماً طويلاً، سنستيقظ منه يوماً ما.


اترك تعليقاً