مقدمة

كانت الأسئلة تتزاحم في رأسي عبر السنوات، حتى أمسيتُ عاجزاً عن تجاهلها، وباتت الأجوبة لا تكفيني، ومن هذه الأسئلة: لماذا لا يرفع الله عنا الظلم ونحن ندعوه ليلَ نهار؟ لماذا نحن في ذيل الأمم ونحن أكثر أمة ملتزمة دينياً، ولِمَ طال هذا النصر مئات السنين؟ وأين تكمُن المُشكِلة بالضبط؟ وإذا كان الرسول محمد قد سُحر فكيف بباقي الناس! ومتى سيقوم العالم بحل غايات هذا الدين المتغيرة؟ بل وما الغاية من عدم حلّها إلى الآن؟ وهل بسبب خطأٍ بسيطٍ في نهاية حياتي سيعذُبني الله في أسفل السافلين خالداً مخلداً أبداً في النار! وهل حقيقةً أنا مسؤولٌ عن أفعالي؟ أم أنّ الخيرَ من عندِ الله والشرَ منّي؟ وكيف سيحاسبني الله وهو من منحني هذا العقل الناقص؟ وهل الإيمان قلبيٌّ أم عقليّ؟ فلو كان قلبياً فهو من عند الله، وكيف سيدخلني النار وهو لم يمنحنِ الإيمان؟ وإن كان الإيمان عقلياً؛ فهو أيضاً من منحني هذا العقل الناقص الذي لم يتوصل إلى ما يريده، هل يمكن الاستدلال على وجود الله من خلال العقل؟ وماذا عن التطور والاكتشافات العلمية وأنّ الإنسان وُجِدَ صدفةً؟ أطنان من الأسئلة الأخرى؛ التي لا يمكن لعقلٍ أن يرتاح ما دامت متراكمة بلا أجوبة، وقد فتحتُ بابَ البحث، وباب معرفة الصواب والحقيقة، فكلُّ الأنوار مبدؤها لماذا، وكيف، ومتى!

فالإنسان كلما ازداد علماً، ازدادَ حُريّة

بينوكيو

استيقظ بينوكيو على هذا العالم ليجدَ نفسَه مُقيداً في جسدٍ خشبيٍّ مليءٍ بالعيوب، لم يُعجَب بينوكيو بهذا الجسد وظلَّ يراوده شعورٌ غريب؛ بأنه سيحظى يوماً ما بجسدٍ حقيقيّ من لحمٍ ودم كما يأمل كلُّ كائنٍ خشبيٍ ناقص، لا يعلم كيف ذلك ولا متى، ولا يعلم ما هو اللحم والدم بالضبط، ولِمَ هو سعيد وينتظر هذه اللحظة، كل ما يعلمه أنه ينتظرها بحياته.

سار بينوكيو باحثاً عن إجاباتٍ لتساؤلاته الكثيرة، إذ تساءل عن علة وجوده، ولماذا لا يصل إلى والده الذي صنعه؟ لماذا لا يملك عقله هذه الإجابات؟ وما السبب الحقيقي الذي جعل والده يصنعه! هل والده يحبه؟ وهل سيحبه أكثر؟ وكيف يجعله يحبه أكثر؟ هل سيعاقبه والده إذا أخطأ؟ وغيرها من الأسئلة.

كان بينوكيو كلما تفكر، تصعبت الأمور أكثر، وغرِقَ في دوامةٍ أوسع من الأسئلة التي هو بحاجة إلى إجاباتها، لماذا وماذا وكيف ومتى.

كان بينوكيو في هذا العالم وحيداً، لا يوجد من يجيبه ويؤنس وحشته، ولكنه استمر بتساؤلاته؛ فهل امتلك خياراً آخر!

الفهرس

مقدمة 1

بينوكيو 2

الفهرس 3

كيف تقرأ هذا الكتاب 10

المصطلحات 11

الباب الأول: الكون 12

التجرد 12

نيوتن 14

الفيزياء الحديثة 18

صورة الكون 20

نشأة الكون 22

ظاهرة الانزياح الأحمر 22

المُتفردة والانفجار 24

قوانين الديناميكا الحرارية 25

المليار 27

تشكل الكون 29

الجسيمات والقوى 31

ميكانيكا الكم 32

الاحتمال المُستحيل 35

من وإلى 36

مفارقة فيرمي 37

لوحة فوياجر الذهبية 39

كون منظم 41

الموقع المميز 42

كوكب الأرض 45

النطاق الصالح للحياة 48

نظرية كل شيء 49

الماء 50

المبدأ البشري 53

وما الخلاصة! 54

الباب الثاني: الحياة 55

الخلية 55

مقدمة 55

التكوين 58

جزيء الماء كيميائياً 58

مكونات الخلية 60

الكربوهيدرات 60

البروتينات 63

الإنزيمات 63

الليبيدات 64

الأحماض النووية 65

الأحماض الأمينية 65

التناظر 67

شكل البروتينات 69

تركيب الخلية 72

غشاء الخلية 73

الأُنيبيبات الدقيقة 75

الليسوسومات والبيروكسيسومات 78

الميتوكوندريا 79

دورة حمض الليمون 80

الريبوسومات 81

العمليات ليست كيمياء 82

إنتاج الدهون 83

النواة 84

مقدمة 84

المسامات النووية 85

الدنا 88

الأحماض النووية 90

النسخ والمضاعفة 93

إصلاح الدنا 96

الجينات 97

فوق الجيناتEpigenetics 99

تفعيل الجينات 101

البيضة أم الدجاجة 103

مشاكل الدنا 105

لبنات البناء 105

تفسير الدنا 106

حجم الدنا 107

الخردة 109

البروتينات 110

بناء البروتينات 110

احتمالات البروتين 112

احتمال رسم الموناليزا 114

الكائنات الدنيا 118

البكتيريا 118

السياط والأهداب 120

التطور 123

نظرية التطور 123

الانتخاب الطبيعي 125

الطفرات 127

انسياب المورثات 129

التطور الصغروي والكبروي 129

شجرة الحياة 135

التفسير التطوري 138

عقبات في وجه الارتقاء 139

السجل الأحفوري 139

الانفجار الكبير 141

سمكة الكهوف الشوكية 144

طائر الأركيوبتركس 147

تناظر الكائنات 153

تطور أجنحة الحشرات 156

تطور الثدييات 156

العث الإنجليزي المنقط 167

الأعضاء الأثرية 168

نظرية التلخيص 170

تطور الإنسان 171

القردة العليا 174

تزاوج الإنسان والشمبانزي 178

الإنسان 180

تميز الإنسان 180

الجنس 181

العملية الجنسية 182

الشُذُوذ الجنسي 187

الاضمحلال 190

الانحلال الجيني 191

التنوع الجيني 192

الإنتروبيا الجينية 193

تغير الكائنات 194

قاعدة بيانات الطفرات البشرية 195

الخلية الأولى 195

القرار 201

البناء الدقيق 204

نظام الدفاع 206

القلب والأوعية 207

الكلى 211

التعقيد غير القابل للاختزال 213

الكيمياء الواعية 221

الأمراض الجينية 226

تخزين وحرق السكر 228

تجلط الدم 233

تحول الكائنات 236

السُلُوك المبرمج 239

تعقيد الكائنات 241

الحيوان الزومبي 243

دببة الماء 245

الملاريا والبلهارسيا 247

خلد الماء 249

محار المياه العذبة 251

ضفدع الخشب 252

مساكن الطيور 252

الأخطبوط المقلد 254

التعايش والتطفل 255

الخاتمة 257

الباب الثالث: فلسفة 259

مسيرة الفلسفة 259

تطور علم النفس 264

المنطق 268

الاستدلال 271

السببية 274

الحتمية 279

الوجودية والعبثية 280

تاريخ الفلسفة 283

العقل 285

العقل والدماغ 286

حُريّة الإرادة 290

تفسير الحُريّة 293

الإبداع والابتكار 296

الحواس 299

كيف تعمل الحواس؟ 300

العقل والحواس 305

الغريزة 307

حقيقة العقل 308

الأخلاق 310

اللُغة 315

دور اللُغة 317

مشكلات اللُغة 321

المغالطات والمفارقات 325

العلم 326

مُشكِلة العلم التجريبي 328

العلم والتجربة 329

النظريات العلمية 334

تحسين النسل 335

الجمال 339

بحث عن الإله 342

الإله 346

الموت 348

معنى الحياة 351

الإنسان 353

الجنس 354

الوجود 362

الخلود 364

المرأة 366

برنامج العالم 369

خاتمة 370

الباب الرابع: إيمان 373

مقدمة 373

الأديان 375

ما الدين 376

الحاجة إلى الدين 378

الدين والحياة اليومية 382

الرسل 384

مبادئ 386

دين أم فلسفة 387

القرآن والسنة 388

مُشكِلة قديمة 390

حدود الدين 393

الدين والأزمات 395

لماذا ليس قوانين؟ 397

الأخلاق مرة أخرى 398

ظاهرة الرق 401

سنة العصر 403

تفسير القران 405

الفهم الخطأ 407

الإسلام والتعقيد 410

إعمال العقل 411

تقديس الموروث 414

أزمة الوعي الديني 417

السنن الكونية والتوكل 419

الإزعاج العلمي 423

الإيمان 424

النار وعذابها 427

العذاب 427

الحسنات 433

أنا حر، أنا إنسان 434

تقبل الآخرين 436

هل الدين كافٍ؟ 440

الزمن 441

الدم الملكي 443

الاستهزاء الأعمى 445

بول البعير 447

الأسد 448

المواسم والنزهات 449

المرأة 450

المساواة 454

الحجاب 455

الزواج 458

مشكلات المُسلمين 458

المس 460

السحر 462

مدة الحمل في الإسلام 469

الدعاء والقضاء 470

فقه اللُغة 471

الموت مرة أخرى 472

الدين والتقدم 474

اليقين 478

الخاتمة 479

إهداء 481

المراجع 482

نبذة عن الكاتب 492

هذا الكتاب 493

كيف تقرأ هذا الكتاب

يَضُم هذا الكتاب أفكاراً مبسطةً قدر المستطاع، مُرفَقَة بصورٍ توضيحية تساهم في إيصال الفكرة، ومزوداً أيضاً بصور كيو آر QR، ليسهل عليك الوصول إلى الروابط الدفينة عبر هاتفك الذكي بدلاً من كتابة الروابط الطويلة يدوياً.

تستطيع تحميل تطبيق QR Reader من متجر التطبيقات، أو عبر نظام تشغيل الويندوز أو الماك وذلك من خلال البحث في متجر التطبيقات أو نفس برنامج QR Reader، لا تقلق ليس أساسياً مشاهدة الروابط، ولكنني أُفضل هذا لِما لها من دورٍ مهم في توضيح المسائل المطروحة.

كذلك يحتوي الكتاب على مراجعَ علميةٍ يُمكنك العودة إليها في حال رغبت بالحصول على المزيد من المعلومات حول الموضوعات التي تُثير اهتمامك، مع الملاحظة أن الكتاب غير مليء بالمراجع حتى لا يمسي كتاباً أكاديمياً، ولم يترك كل المراجع حتى لا يصبح كتاباً تجارياً.

سيأخذك الكتاب في جولة بحثية مرَّ بها صاحبه، وسيضع لك الشواهد التي مرّ بها، في محاولة لإخبارك أنّ هذا الطريق سار الكاتب بها قبلك وكانت نهايتها هكذا، إن رغبت بالإكمال بعدها فهذه خطوة سعيدة، وإن أردت التعديل في المسار والانطلاق، فهذا فتحٌ علميٌ جديد.

يمكنك قراءة الكتاب بالكامل من بدايته، أو يمكنك انتقاء فصول بعينها من فصول الكتاب الأربعة، أو يمكنك قراءة النصف (الجزء) الأول تحت مسمى علم، أو قراءة النصف (الجزء) الثاني الفلسفي الديني تحت مسمى نظام، كل الخيارات مفتوحة لك عزيزي القارئ.

المصطلحات

المصطلح

الترجمة أو التعريب

التوضيح

Ribonucleic acid) RNA)

الرنا

الحمض النووي الرايبوزي.

Deoxyribonucleic acid (DNA)

الدنا

الحمض النووي الرايبوزي منقوص الأكسجين.

Genes

المورثات،

الجينات

أصغر جزء في المادة الوراثية يحمل صفة معينة أو دور وظيفي في بناء جزء في الكائن الحي.

Chromosome

الصبغي،

الكروموسوم

حزمة من شرائط الحمض النووي الدنا في نواة الخلية

Transcription

النسخ

تحويل تسلسل الدنا إلى تسلسل رنا.

Metabolism

الأيض

كافة عمليات الهدم والبناء التي تحدث في الكائن الحي.

mRNA

مرنا

يقوم بنسخ أجزاء الشفرة الوراثية، إذ ينقل تلك الأجزاء إلى الريبوسومات والتي هي مصانع البروتين.

الميتافيزيقيا

ما وراء الطبيعة

الأشياء التي لا تخضع لقوانين الطبيعة.

الأنطولوجيا

علم الوجود

مجال فلسفي يبحث في طبيعة الواقع.

الأبستمولوجيا

نظرية المعرفة

مجال فلسفي يبحث في علم المعرفة.

الميثولوجيا

علم الأساطير

علم يختص بدراسة الأساطير ومنشأها.

الميكانيكا

علم الآليات

علم يبحث في القوى المحركة والساكنة.

فسيولوجياً

عضوياً أو تشريحياً

تستخدم للحديث عن أمر على مستوى العضو.

بيولوجياً

حيوياً

تستخدم للحديث عن أمر على مستوى الخلية.

الفينومينولوجيا

علم الظواهر

الاعتماد على الحدس لتفسير الظواهر.

الأيديولوجيا

فكر، مذهب، عقيدة، معتقد

مجموعة من الأفكار والمعتقدات الكامنة في أنماط معينة وتظهر في سلوك الإنسان.

الباب الأول: الكون

التجرد

وفي رحلة التساؤلات، ينبغي للباحث أن يتجرد للوصول إلى الحقيقة، وألا يلتفت لِما وجد عليه آباءه وأجداده، بل يجب عليه أن يتحرر من كل فكرٍ وقيد، ويقف عند كل كبيرةٍ وصغيرةٍ، مهما كانت سابقاً خطاً أحمراً لا يمكن تجاوزه، أعترف أنّ محاولات التجرد الكامل صعبةٌ نوعاً ما، فالإنسان نتاج بيئته الثقافية وما تم نقشه في وجدانه ووعيه كما يقول إبراهيم البليهي:

“إنّ الإنسانَ يولد بقابلياتٍ وليس بقناعات، وقابليةُ ما ترسمه البيئة في العقل هي ما يجعل ذلك قناعةً عنده تصل إلى أن يموت لأجلها سواء كانت صائبة أم خاطئة”.

هذا التجرد سيأخذنا إلى الأسئلة الأولى: مَن أنا؟ ومِن أينَ أتيتُ؟ وماذا أُريد؟ وما هو الكون؟ وكيف أتى؟ ومن أوجَده؟ وهل أوجد نفسَه بنفسِه؟ وغيرها من الأسئلة كالتي يطرحها الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة الطلاسم:

جِئتُ، لا أعلَمُ مِن أَين، ولكِنّي أتَيتُ ….. وَلَقَد أَبصرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشيتُ

وَسَأبقى مَاشياً إن شِئتُ هذا أم أبيتُ ….. كَيفَ جِئتُ؟ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي؟

لَستُ أَدري!

أَجَديدٌ أَم قَديمٌ أَنا فِي هَذا الوُجود ….. هَل أَنا حُرٌّ طَليقٌ أَم أَسيرٌ في قُيود

هَل أَنا قَائد نفسي في حَياتي أم مَقُود ….. أتمنّى أنّني أدري وَلَكن…

لَستُ أَدري!

وَطَريقي، مَا طَريقي؟ أَطويلٌ أم قَصير؟ ….. هَل أنا أَصعدُ أَم أَهبِطُ فيهِ وأغُور

أَأَنا السّائرُ في الدّربِ أمِ الدّربُ يَسير ….. أَم كلاّنا وَاقفٌ وَالدّهر يَجري؟

لَستُ أَدري!

أَتُراني قَبلما أصبحتُ إِنساناً سَوِيّاً ….. أَتُراني كُنتُ مَحواً أَم تُراني كُنتُ شَيئاً

أَلِهذا اللُغزُ حَلٌ أَم سَيَبقى أَبَدِياً ….. لَستُ أَدري، وَلِمَاذا لَستُ أَدري؟

لَستُ أَدري!

لم تكُن الإجابة على تلك التساؤلات سهلةً أبداً؛ فقد انقسم العالم إلى رأيين مُختلفين: يرى أصحاب الرأي الأول أنّ الكون قد أوجد نفسَه بنفسِه، وأننا وصلنا إلى ما نحن عليه بواسطة مجموعة من العمليات مصدرها العشوائية والصدفة، في حين يؤمن أصحاب الرأي الثاني بأنّ هُنَاك قوةً عظيمةً هي من أوجدت هذا الكون وأوجدتنا، ولكل أصحاب رأي نظريتُهم الخاصة وعالمهم الخاص، وعليك أن تأخذ كل ما فيه دفعةً واحدةً، إذ لا يمكن الجمع بينهما.

ومن البديهي أنّ مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، إلا أنّ هذا المشوار انقسم إلى طريقين توجب السير فيهما على انعكاسهما، قد لا يكفي ضعف ضعف عمري للسير فيهما؛ لذلك كان لزاماً عليّ السير مُسرعاً وقراءة كتب السابقين، وهذا كله في محاولة للوصول إلى نهاية الطريق، حيث أجد الراحة.

الطريق الأول: طريق الكون الذي أوجد نفسَه بنفسِه، وهو ما يُسمى بطريق الطبيعة، أو طريق المادة، ويُسمي أصحاب هذا الطريق أنفسهم بالعقلانيين، ويُطلق عليه أصحاب الطريق الثاني طريق الإلحاد، أو الكفر، وغيرها من المُسميات، ونحن سنتنقل بين هذه المسميات المُختلفة للإشارة إلى طريق الصدفة هذا.

الطريق الثاني: طريق القوة العظمى التي أوجدت الكون، وهي ما تُسمى بطريق الخالق، أو طريق الألوهية، ويُسمي أصحاب هذا الطريق أنفسهم بالمُؤمِنين وأصحاب الديانات، وغيرها من المُسميات، ونحن سنتنقل أيضاً بين تلك المُسميات المُختلفة للإشارة إلى طريق الخلق هذا.

يعتقد من يُؤمن بالفلسفة المادية أنّ الكون المادي هو الحقيقة الوحيدة الموجودة، وأنّ الكون سرمديٌ؛ لا بداية ولا نهاية له، ولا خالق أو غاية، وأنّ وجودنا حدث نتيجةً لتفاعل القوانين الكونية الفيزيائية، وقد تطور الكون شيئاً فشيئاً إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه.

وما كل ما في هذا العالم الفسيح من تكوّن المجرات، وحركة النجوم، ونشوء الحياة، ووجود الإنسان، وغيره، ما هو إلا نتاجٌ للعالم المادي عبر سلسلة من التفاعلات والقوانين المادية البحتة، دون الحاجة إلى خالق أو قوة عليا أو تصميمٍ أو غاية، فكل الكائنات نشأت نتيجة لعمليات المادة، ومفاهيم مثل الوعي وحُريّة الاختيار ليست حقيقية كما نعتقد، وما أفكار الإنسان وقراراته وحركاته وتفاعلاته مع ما يدور حوله إلا نتيجةٌ لتفاعلاته الكيميائية وقوانين الطبيعة في تلك اللحظة.

شكل 1 مفترق الطريق

أما من يؤمن بالفلسفة الإيمانية فيعتقد وجود قوة أكبر من الكون والطبيعة، وأنها صانعة الكون بإرادة ذكية ولهدف مُحدد، وتَعتبِر أغلب الفلسفات الأُلوهية أنّ الإنسان مخلوق من جزأين: جزء مادي وجزء غير مادي (الجسد والروح). إذ يُعَد الجسد جزءاً من هذا العالم المادي يتفاعل معه ويتأثر به، وتعطي الروح للإنسان طبيعة متعالية عن المادة، والروح هي صاحبة القرار الحقيقي في الإنسان.

هذا لا ينفي وجود من يؤمن بالفلسفة المادية مع إيمانه بوجود خالق أو غيره على سبيل المثال، لكن في الصورة المجردة، توجد هاتين الصورتين، كما أنّ هذا قد يكون مدعاة للتداخل بين المفهوم المادي الفلسفي والفيزيائي العلمي.

ولمعرفة الحقيقة علينا أن نفهم وآلية عمل هذا الكون، ولا سبيل لفهمه دون فهم علومه، ويأتي على رأسها علم الفيزياء، وهي الخطوة الأولى في طريق البحث نحو الحقيقة

شكل 2 التطور أم الخلق

نيوتن

من البديهي أن ننطلق مما قَدَّمه نيوتن من إضافات في علم الفيزياء، لأن هذه الإضافات كانت مُنطلَق كلّ الفيزياء الحديثة لاحقاً، وما نعتبره اليوم أمراً عادياً، كان في ذاك الزمان عظيماً، على الرغم من أنّ نظرة نيوتن للمادة في ذلك الزمان كانت قاصرة، إذ اعتقد أنها عبارة عن جُسيمات كبيرة ومتحركة وصلبة ولا يُمكن اختراقها، كما اعتقد أيضاً أنّ الزمان والمكان حقيقتان مُطلقتان؛ أي أنهما سيظلان موجودين حتى لو فنيت كل المكونات المادية في الكون، لكن على الصعيد الآخر حين أعلن نيوتن أنّ القوة التي تجذب التفاحة نحو الأرض هي القوة نفسها التي تحفظ القمر في مداره حول الأرض وسمّاها قوة الجاذبية، أنتج طفرةً علميةً في زمانه لم يتقبلها العُلماء، وفي زمانه لم يُفسر نيوتن الجاذبية ولم يفهم كيف تعمل وهذا ما دفع العُلماء من بعده للتساؤل عن معنى الجاذبية وكيف تعمل وهو ما فتح أبواباً شتى. وهذه طبيعة العُلماء المعتادة في التساؤل عن التساؤل والتساؤل إلى ما لا تساؤل.

كانت قوانين نيوتن تُطبَق على كل شيء يتحرك تقريباً، إلا في بعض العقبات البسيطة التي أدّت إلى حضور النسبية، فقد حققت مفاهيم نيوتن له العلو حين شرح ظواهر الحركة والضوء والكهرباء والحرارة، وهذا النجاح أشعل لدى العلماء رغبةً جامحة لتوسيع نطاق هذا الأسلوب العلمي في التطبيق، وأنه يجب أن يمتد إلى جميع حقول المعرفة بما فيها علوم الأحياء والاقتصاد والنفس والتاريخ. وقد أسفر الكشف عن أسرار العالم الطبيعي عبر الاعتقاد بوجود المادة وحدها إلى اعتبار العُلماء تدريجياً المادية مكوناً من الأسلوب العلمي نفسه، إذ أمسى الباحث العلمي يفترض في أطروحاته العلمية أنّ المادة وحدها هي الحقيقة المطلقة أو أنها على الأقل كل ما يمكن معرفته بطريقة علمية بصرف النظر عن معتقداته الشخصية، من الواضح أنّ نيوتن نفسه لم يكن من أنصار المذهب المادي، إذ لم يكن يأمل أن يُشرح عن طريق أفكاره في الميكانيكا جميع الأشياء [2]، ولكن كُتب لهذه النظرية البقاء مع تعليق آمالٍ مرتفعة عليها لدى العُلماء، فقد كان لدى العُلماء في القرن التاسع عشر كل ما يدعوهم إلى الاعتقاد بأنّ القرن العشرين سيكمل بناء الصورة الكاملة عن الكون ومعرفة نظام سيره بالتفصيل، بل واعتقد كثير من العلماء أنّ دورهم قد اكتمل في تقديم هذا التفسير.

وبينما انهمك علماء الفيزياء في بذل المحاولات لحل أسرار الكون، كان علماء الكيمياء كذلك يفعلون، ففي عام 1803م كان العالم جون دالتون يضع المفاهيم الأساسية لعلم المادة والذرات في تكوّن المادة من هذه الذرات، وكذلك قوانين التفاعلات الكيميائية وقانون حفظ الكتلة الذي أطلق الشرارة لاحقاً لكل اكتشافات الفيزياء الذرية ما تلاها من معجزات في مجال الكهرباء والضوء.

وعلى صعيد آخر، كان علم الأحياء يسير بخطى ثابتة في طريق البحث عن الحقيقة، وقد أحدث العُلماء انعطافات عنيفة في هذا العلم منهم: لويس باستور، وتشارلز داروين وابن سينا؛ إذ فجّروا أساسيات علوم الأحياء بالكامل، وذلك بعد أن شدد ابن سينا على ضرورة فحص الأمراض فحصاً عملياً، وعبر أعراض المرض نستطيع أن نحدد المرض، ولا يوجد هُنَاك أي قوة خارقة أو سحُريّة في المرض، وكانت هذه الخطوة الأولى نحو طبٍ صحيح، بعد ذلك بقرون طويلة حصل الانتقال الكبير بعد أن ألّف تشارلز داروين عام 1859م كتاب أصل الأنواع، معتمداً على نظريته السابقة في الانتخاب الطبيعي بعد رحلته على متن سفينة البيغل لعدة سنوات، إذ شاهد داروين التنوع البيولوجي (الحيوي أو الأحيائي) ولاحظ اختلاف الكائنات في خصائصها، ولاحظ دلائل انقراض بعض الحيوانات، ودوّن بعض الملاحظات المرتبطة بالفجوات العلمية التي كانت سائدة في زمانه والتي كانت بحاجة إلى ردم، وسواء اتفق العالم مع داروين أو اختلف معه إلا أنه عالم له كل التقدير على اكتشافاته ومحاولته إجابة الأسئلة بطريقة علمية بناءً على مشاهدات ذلك الزمان، وقد فتحت اكتشافاته نافذةً من السماء على العالم بما لم يتوقعوه، فكثير من اكتشافات الوراثة والكيمياء الحيوية وعلوم الخلية كانت نتيجةً غير مباشرةٍ لما أحدثه هذا العالِم.

وفي خضم صراع العالم حول التطور، كان علم الأحياء في أوج صراع آخر بين شقين من العُلماء كل منهم كالطود المنظور، فقد كان علماء الأحياء مُختلفين حول نشوء الحياة، فهل تنشأ الحياة من الحياة؟ أم أنها تنشأ من العدم؟ من البديهي أنّ هذا في زماننا أمرٌ محسوم، لكن في ذلك الزمان لاحظ العُلماء خروج الدود من اللحم بعد التعفن، وكذلك لاحظوا ظهور الذباب على الطعام في غرف مغلقة رغم عدم وجوده مسبقاً فيها، وكذلك ظهور فئران وحشرات وحيوانات فجأة في الأطعمة، وقالوا إنّ الحياة يمكن أن تنشأ من العدم، الحياة يمكن أن تنشأ من لا حياة، وعُرفت هذه النظرية باسم نظرية التوالد التلقائي، وقد أنهى خلاف هذه التساؤلات العالم لويس باستور عام 1862م وأثبت بالتجارب أنّ الجراثيم والحشرات والحيوانات لا تنشأ من العدم، بل تنتقل إلى الطعام من كائنات تزرعها أو تبيضها، وتوّجَ عمله بعملية البسترة لإنهاء هذا الصراع كلياً إلا أنه من المؤسف أن تجد بعض البشر يؤمنون به علمياً إلى يومنا هذا.

هذا الاكتشاف فتح الأبواب على مصراعيها لعلوم التطعيم والمناعة والميكروبات، وبعدها المضادات الحيوية، ثم التعقيم وحفظ الطعام وانتقال المرض وعلاجه وغيرها من التطورات العلمية المرتبطة بالطب، وقد أضاف العالم روبورت كوخ عام 1890م فرضياته الأربع حول الميكروبات وكيفية انتقال الأمراض عبرها، وبذلك طُوِيت صفحة التخلّف والخُرافة المتعلقة بالطب إلى الأبد.

نعود إلى علماء الفيزياء مرة أخرى، ومع اكتشافات متتالية أدت إلى تدحرُج كرةَ الثلج إلى أن اصطدمت بقوانين نيوتن ودمرتها للأبد، أرجو منك الآن عزيزي ربط حزام الأمان، فمركبة العلم ستسير بسرعة، إذ سيصعب على العُلماء أنفسهم اللحاق بها، وهذه الجولة السريعة بدأت عام 1831م باكتشاف مايكل فاراداي الحث الكهرومغناطيسي وتأكيده على وجود علاقة ضمنية بين الكهرباء والمغناطيس، وهذا ما سهّل التعامل مع هذين العلمين لاحقاً، وقد بيّنت ظاهرة المجال الكهرومغناطيسي عام 1864م للعالم جيمس ماكسويل أنّ الكهرباء والمغناطيس والضوء كلها صور لظاهرة واحدة، ثم في عام 1895م مهَّد العالم فيلهلم رونتغن باكتشافه الأشعة السينية الطريق للعالمة ماري كوري في اكتشاف النشاط الإشعاعي، وذلك بتقديمها تقنيات عزل النظائر المشعة، كما اكتشفت وزوجها بيار كوري العناصر المشعة كالراديوم والبولونيوم، وهذا ما سرّع لاحقاً انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة اليابان، ومكنت العالَم من بناء المفاعلات النووية للحصول على طاقة نظيفة تُهيؤنا للسفر إلى مسافات بعيدة دون الحاجة إلى حمل كميات هائلة من الوقود.

في عام 1897م، قام العالم طومسون بإثبات وجود جُسيمات سالبة في أشعة الكاثود بحجم أصغر من الذرة سماها الإلكترونات، وسجلها تحت أنموذج حمل اسمه (أنموذج طومسون للذرة Plum Pudding Model)، هذا الاكتشاف المذكور في سطرين أدى إلى شرخ عقول العُلماء حول النظرة السطحية للذرة بأنها جُسيم صغير غير قابل للانقسام، وأنها غير قابلة للتجزئة، وأنّ هُنَاك ذرات أصغر من الذرة التي نعرفها، فلم تعد الذرة ذرة بعد 2000 عام من غرورها وتربعها على عرش الجُسيم الأصغر، وكان من البديهي ضرورة وجود شحنة موجبة في جسيم الذرة، فوجود شحنة سالبة (الإلكترون المكتشف) في جسيم متعادل كهربائياً بلا شحنة، يعني بالضرورة وجود شحنة موجبة تعادلها، وهذا قد أطلق سباق البحث بين العُلماء، وقد شغل هذا الاكتشاف العالم كما نرى في الأبحاث الذرية حتى يومنا هذا، وكانت جوائز نوبل للفيزياء على الأغلب لاكتشافات هذا المجال، وبدأت فكرة أخرى تتكون لدي العُلماء في ذلك الزمان، وهي وجود تشابه بين شكل الذرة وشكل النظام الشمسي، خصوصاً كوكب زحل، إذن يجب أن يكون هُنَاك قانون مُشترك يفسر حركة هذه الظواهر.

3 تطور أنموذج الذرة

لقد تطور أنموذج الذرة عبر عدة مراحل، ولكن أشهرها:

  1. 1808: أنموذج دالتون المصمت.
  2. 1904: أنموذج طومسون الذي أكّد وجود إلكترونات سالبة داخل الذرة.
  3. 1911: أنموذج رذرفورد الذي أكّد فيه وجود نواة موجبة داخل النواة.
  4. 1913: أنموذج بور الذي بيّن فيه أنّ الإلكترونات تدور في مسارات دائرة حول النواة.
  5. 1926: أنموذج شرودنجر الذي بيّن أنّ الإلكترونات لا تدور حول النواة في مسارات بل في سحابة احتمالات.

هُنَاك نماذج أحدث تختلف في طرحها بالمجمل عن الشكل الدائرة والتقليدي هذا.

الفيزياء الحديثة

في عام 1900م، أظهر ماكس بلانك أنه عند قيامنا بتسخين جسم ما حتى يتوهج فإن الذرات تهتز بقوة كافية تمكننا من قياس الطاقة الناتجة في وحدات غير مترابطة، وسمى هذه الحزم من الطاقة بالكمات (الفوتونات)، وفي عام 1904م تمكن العالم تيودور وليام ريشارد من تحديد الوزن الذري للذرات معتمداً على معادلة أفوغادرو Avogadro.

وقد أدت تجارب العالم روذرفورد عام 1911م إلى اكتشافه أنموذجاً يشبه أنموذج المجموعة الشمسية في قلب النظام الذري، فهُنَاك إلكترونات كما الكواكب تدور حول جسم كبير وثقيل أسماها النواة، وقد قام في تجربته بقذف نواة الذرة بأشعة ألفا، فما كان من بعض جُسيمات أشعة ألفا الموجبة إلا أن انحرفت عن مسارها، فقال على الأغلب أنها تصادمت مع شيء ضخم في منتصف الذرة، واستطاع بذلك أن يرى عملياً ما بداخل النواة، ثم أقرَّ لاحقاً أنّ وزن الذرة الأكبر يقع في النواة، وأنّ الجُسيمات الموجبة للذرة موجودة في نواتها فقط، وهذا ما أدى إلى تنافر جُسيمات ألفا معها وانحرافها عن مسارها، بالإضافة إلى أنّ تجاربه بيّنت وجود مساحات شاسعة من الفراغ بين النواة والإلكترونات.

ومع كل اكتشافٍ علميٍ جديد يحاول تصحيح النظريات السابقة له، نراه يضع عقبات أكبر للباحثين من بعده، إذ تعارضت رؤية رذرفورد مع القوانين الكهرومغناطيسية، والتي تفترض أن يلتصق الإلكترون في النهاية مع النواة ويتعادلا كهربائياً وتنتهي هذه الحالة من المشاحنة، حاول العالم بور عام 1913م حل هذا الخلاف بوضعه أنموذجاً ذرياً ساعد العُلماء من بعده، إلا إنه تورط أكثر وسبّب أنموذجه قُصوراً في جوانب كثيرة.

بدأت الصور تكتمل عام 1905م بواسطة ألبرت أينشتاين عندما وضع النظرية النسبية التي شكّلت درة تاج العلم في فهمنا للكون؛ إذ قام بنشر ورقة علمية (النسبية الخاصة) تنصّ على أنّ كل قياساتنا في الكون نسبية إلا سرعة الضوء، فهي ثابتة دائماً، وأنّ الزمن يثبت عند سرعة الضوء وتصبح الكتلة لا نهائية. ثم نشر عام 1916م النظرية العامة للنسبية، التي تفسر طبيعة المكان والزمان والجاذبية، وتُثبِت أنّ الجاذبية ما هي إلا تأثير يحني المكان والزمان.

بعد نظريات أينشتاين، ظهر علم الكم ومبدأ عدم اليقين uncertainty للعالم هايزنبرغ، وهو أحد الأركان الأساسية لميكانيكا الكم، وينص على أنه لا يمكن تحديد كلٍ من موضع وسرعة الإلكترون بدقة في اللحظة نفسها، يمكننا تحديد أحدهما فقط لأن تدخلنا سيؤثر على القيمة الأخرى، ثم أضاف العالم إروين شرودنجر فكرة أنّ الإلكترونات تتصرف كالموجات في محاولة منه تفسير الظواهر التي نتجت عن تجاربه.

شكّل ما عرضه أينشتاين صدمةً للعالم والعُلماء، إذ كانت نظرياته تشبه الخيال العلمي، فتصديق أنّ الفضاء مُقوّس وأنّ أقرب بُعد بين النقطتين ليس الخط المستقيم! وأنّ الخطوط المتوازية ستتلاقى أخيراً هو ضربٌ من الجنون، وأنّ الضوء لا يسير في خطوط مستقيمة، بل منحنية! والكون محدود لكن بغير حدود، وأنّ ما نعرفه عن الزمن مُجرَّد أوهام، فالزمن ليس مطلقاً ولكنه نسبيٌ، ويختلف من موضع إلى آخر في الكون بناءً على عوامل مُختلفة، وأنّ ما نعرفه عن الأبعاد غير دقيق، فقياس الأطوال يختلف باختلاف السرعة، وما نعرفه عن الكتلة أيضاً غير دقيق، فالكتلة هي الأخرى تعتمد على السرعة، وحينما يتحرك أي جسم فإن حجمه ينكمش ولكن كتلته تزداد، ومن ثَمّ أمسى الزمن بُعداً رابعاً بعد الطول والعرض والارتفاع، والجاذبية عبارة عن موجات من الجذب لها تأثيرٌ مستمر، وقد أضاف أينشتاين مساهمات كثيرة لا تعد ولا تحصى في العلوم كلها من فيزياء ورياضيات وفلك قلبت العالم بالكامل، بل وفي مجال السياسية، ففكرة أنه يمكن تحويل الطاقة إلى مادة والعكس جراء نظريته، جعلت من الممكن للإنسان لأول مرة في التاريخ أن يستخدم طاقة لا تأتي من الشمس، وقد قادت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية عبر اختراع الولايات المتحدة الأمريكية للقنابل النووية في مشروع مانهاتن وتفجيرها في هيروشيما وناغازاكي.

يستحق أينشتاين أن تكون نظريته الأعظم في تاريخ البشرية، ولا تكفيها كتب لشرحها وتوضيح آثارها على العلم لاحقاً، فمن منا كان يعتقد أنّ الزمان والمكان أمراً واحداً وليسا أمرين مُختلفين، هذا تغييرٌ كافٍ وحده أضافه أينشتاين، لقد غيّرت قوانين أينشتاين نظرتنا للعلم، وآمل أن تتغير نظرتنا بعدها لهذا العالم.

وكما نرى فإن العلم ينتقل من مرحلة إلى مرحلة ومن نظرية إلى أخرى، فنظريات نيوتن كانت هي المسيطر الأساسي في مجال الجاذبية والحركة إلى أن أتى أينشتاين وغير كل النظريات بنظريته النسبية، وذلك بعدما فشلت ميكانيكا نيوتن في الجمع بين إطارين مرجعيين مُختلفين يتحرك أحدهما بسرعة قريبة من سرعة الضوء، إذ لم تعد قوانين نيوتن تُجدي نفعاً؛ لأن الزمن اختلف في كل واحدة منهما، وقد ظهر ذلك جليّاً حين فشلت حسابات بعض حركات كوكب عطارد، بعد 300 عام من كون قوانين نيوتن هي الدستور في قوانين الحركة ظهر أينشتاين وغيّر كل شيء، ويؤكد هذا أنّ العلم ليس ثابتاً، فقوانين أوصلتنا إلى القمر اتضح أنها خاطئة في جوانب أخرى، وهذا ما سنناقشه في الكتاب.

لعبت الكنيسة دوراً مهماً في عرقلة تقدم الاكتشافات والعلوم، فهي من أعدمت غاليليو، وهي من منعت نشر كثير من الكتب، وقتلت العديد من النظريات لأنها تتعارض مع معتقدها، ولو ألقينا النظر على تطور الجانب الاجتماعي على مدار العقود على يد علماء مثل جون لوك وفولتير وغيرهم، لرأينا الأمر نفسه، مشاكل مع الكنيسة لا تنتهي، وهذا الأمر تكرر بدرجة أقل عند المُسلمين.

فبينما كان العالم يقفز قفزاتٍ كبيرةٍ في العلم، كان المُسلمون ينحدرون إلى الكهوف مرة أخرى، فقد أصدر الخليفة العثماني تحت ضغط الفقهاء والرأي العام أمراً بهدم المرصد الفلكي بحجة الشعوذة، وتفكيك أول مطبعة بحجة أنها تفسد المصحف، بل وصدرت فتاوى تحريم في كل شيء تقريباً مثل شرب القهوة، لا يمكننا حصر تلك الفظائع والإقصاءات المتكررة كالإعدام والنفي والسجن بحق المخالفين وقيامهم بحرق كتب ومؤلفات عديدة، مثل مؤلفات أستاذ الفلسفة ابن رشد، وكذلك الطرق البشعة التي ارتُكِبت بحق المخالفين كما فعل العباسيون عبر صور متطرفة، من المؤسف أنّ كثيراً من هذه التصرفات كانت بمباركة العُلماء، فعلى سبيل المثال، بعد أن خاض الإمام أبو حامد الغزالي في علوم الكلام نراه بوضوح في كتاب إحياء علوم الدين، قد وضع علوم الدين في كفة، وباقي العلوم في كفة أخرى، ولكن جعل كفتها أدنى من كفة علوم الدين، وهذا ما جعل إقبال الناس على العلوم الدنيوية ضعيفاً، فقد ترسخت في عقل المُسلم أنها أقل أهمية في الدراسة من العلوم الدينية، وتم اعتماد لقب الفقيه للشخص العالم بعلوم الفقه والدين، أما الفقيه -من يفقه- الفيزيائي أو الكيميائي أو القانوني فلا مكان لهم، بل واحتقر الغزالي الفقهاء (الذين يختصون بالفقه الإسلامي) بسبب انشغالهم بمسائل الدنيا المرتبطة بالمعاملات اليومية ولم يتفرغوا للدين بشكلٍ كامل.

في حين تقدمت أوروبا ببطء في وجود الدين، وانطلقت بخطى سريعة بعد تركه، كان المُسلمون واقفين لا يعرفون ما العمل، فهم لا يزالون في منتصف خلافاتهم الدينية، فمن أبسط الأمور مثل طول الجلابية وحف الشارب والسلام على المرأة، إلى أكبرها كبناء الدولة وأصول الحكم واختيار الحاكم، لا يزالون مُختلفين ولا تظهر علامات قرب نهاية الخلاف.

دعونا نبدأ رحلة البحث عن الحقيقة، البحث في هذا العالم، ولنبدأها من البداية، من الحجر الأول حينما تم بناء الكون، حينما كانت الخلطة ما زالت في الخلاط، قبل أن يتم صبها في قالب الكون، وصباح الخير يا كون.

صورة الكون

لمحاولة فهم هذا الكون بشكل أفضل، يتحتم علينا فهمه عبر قوانين الفيزياء والكيمياء وعلم الفلك (الكوزمولوجي Cosmology) والنظريات العلمية التي يحاول العُلماء إثباتها يوماً بعد يوم، وما بين أيدينا من تطوراتٍ علميةٍ غير مسبوقة حول فهمنا لهذا الكون ترجع إلى نهايات القرن التاسع عشر، وفهم الكون بهذا الشكل الواضح هذا اليوم مرتبط بنظريات متعددة مُختلفة من تخصصات مُختلفة، ودعني أصطحبك في هذه الجولة البسيطة للعلم في القرون الأخيرة، لنَر كيف وصلنا إلى ما نحن عليه من مفاهيم وحقائق، ولا بد فيها من المرور على الصراع الذي كان قائماً بين العلم والدين، بين الفلسفة المادية والفلسفة الألوهية التي قد ثارت في القرن العشرين بسبب هذه الاكتشافات، بعد بدء تكون صورة أوسع للكون أدت إلى تكون أدلة لكل فريق أقوى من السابق. وقبل القرن العشرين، كان العُلماء يميلون إلى الفهم المادي بشكل كامل، فكل القوانين والشواهد معهم ولا شك، دعونا ننطلق في هذه الجولة.

تمتلك الحضارات القديمة تصوراتٍ كونية للعالم؛ في محاولات لفهم ما يدور حولها، وهذه التصورات كانت بمثابة الإجابة على الأسئلة الدائمة مثل: ما هو القمر؟ ما هو الكسوف؟ ما هو المطر؟ كيف رست الجبال؟ إلى أن تصل كيف أتى هذا الوجود؟ كيف تشرق الشمس، كيف تهب الرياح … إلخ، وقد امتلكت كل حضارة تفسيراً خاصاً بها. فقديماً في الهند كان لديهم تصور أنّ الكون مكون من ماء وأنّ هُنَاك بيضة ذهبية فقست فيه أنتجت ما نراه، أما فلاسفة اليونان في القرن السادس قبل الميلاد وما بعده، كان لديهم تصور أنّ الكون سرمديٌ لا بداية له ولا نهاية، وبعضهم آمن أنّ الكون يتكون من أربعة عناصر: الماء، والنار، والهواء، والتراب، ثم أضافوا لاحقاً الأثير، في حين قال فلاسفةٌ آخرون أنّ أصل العالم هو الذرات وليس المكونات الأربعة، تصوراتٌ عديدة مُختلفة تعتمد على ثقافة كل حضارة وفكرها ونمو شعبها وحبهم للحيوانات والأساطير، لكن العُلماء كما اعتدنا، لا يقبلون بهذه التفسيرات، لأنها لا تحقق تجربةً أو نظرية علمية.

إنّ مسيرةَ العلم مسيرةٌ طويلة، بدأت منذ اللحظة الأولى لاستخدام العقل، وقد مرت هذه المسيرة في محطاتٍ لامعةٍ مع مفكرين وجهوا دَفَّة العالم إلى اتجاهات جديدة، وأول من برز فيها هو المعلم الأول أرسطو عام 300 ق.م إذ كان حديثه يحمل فكرة أنّ الكونَ أزلي، وأن هُنَاك قوة مفكرة خلف ستار الكون توزع النظام فيه، لأن المادة لا يمكن أن تحرك نفسها، بالإضافة إلى أنه من الصعب ضبط الكون بهذه الدقة بالصدفة، وقد كانت أغلب النقاشات في ذاك الزمان نقاشات فلسفية بحتة تركز على المفاهيم مثل مفهوم الذاتية والمكتسب وقانون العلة، هذه النقاشات لا تستند للعلم كما هو اليوم، وبناءً على هذه النقاشات قام الفلاسفة بإرساء قواعد فلسفية جرّت البشرية إلى تأخيرات علمية ذات تأثير مستمر إلى يومنا هذا، مثل مركزية الأرض، فالأرض هي مركز الكون بالكامل، والنجوم والكواكب والشمس تدور حول الأرض، بالتأكيد لا نلومهم كثيراً، فقد رأوا العالم من منظور المراقب على كوكب الأرض وكانت الإمكانات العلمية بسيطة متواضعة في ذلك الزمان، ثم تبع أرسطو بطليموس وقام بتأسيس مدرسة عُرِفت بالمدرسة البطليموسية، طورت هذه المدرسة الأفكار السابقة قليلاً، وقد سادت أفكارها حتى عصور حديثة.

التطور الكبير اللاحق حدث بعد ذلك بسبب الأديان، إلا أنّ الدين المسيحي بناءً على سفر التكوين كان يُفسر دائماً أنّ الأرض مسطحةً، وهي مركز الكون مُتماشياً مع بطليموس، وقد تماشى معه التفسير الإسلامي بشكل كبير لاحقاً، وتم ذلك عبر اللاهوتي توما الأكويني الذي دمج فهم أرسطو للكون مع الدين المسيحي، وأصبحت هذه التعاليم جزءاً من اللاهوت المسيحي تحت مسمى المدرسة التوماوية، وقد كان لها تأثيرٌ هائلٌ على الفلسفة الغربية، وهذه هي بداية الأزمة التي لا يمكن تخيل أثرها لاحقاً على العلم والدين، فهي أصبحت الأساس في الدين وأي علم يخالفها هو هرطقة، ومن هنا نشأ الانقسام بين العلم والدين، بعد أن تبين للعلم أنّ الأرض ليست مركزاً للكون، وغيرها من المفاهيم الحديثة، وكان على العالم أن ينقسم إما مع أفكار الراهب توما، أو ضدها.

في ظل هذه النظرة السائدة ومحاولات لترقيع النظرية للمحافظة عليها، وبعض الآراء الشاذة هنا وهُنَاك، مثل مدرسة المراوغة الإسلامية التي أثبتت أنّ الأرض تدور وليست ثابتة كما في أنموذج بطليموس، جاء العالم نيكولاس كوبرنيكوس وبدأ بقلب العالم الذي كان آمناً لآلاف السنين، ففي عام 1543م نشر كتابه الذي صرّح به أنّ الأرض والكواكب تدور حول الشمس، والشمس هي المركز وليست الأرض، ورغم كثرة الثغرات في أفكاره؛ لافتراضه أنّ مدارات الكواكب حول الشمس دائرية بالكامل، إلا أنها كانت البداية القوية لدك أساسات معابد الأفكار المستندة إلى الدين في ذاك الزمان، ثم أتى بعده غاليليو غاليلي واخترع التلسكوب (المقراب)، ورأى القمر وأقمار المشتري تدور حول المشتري، وأضاف قانون التسارع الثابت عند سقوط الأجسام، أي أنه إذا سقط جسمٌ وزنه 100 كيلوجرام، وجسمٌ آخر وزنه 2 كيلوجرام من مسافة مرتفعة، فسيصل كلاهما إلى الأرض في اللحظة نفسها، وهذا ما كان له تأثيرٌ كبيرٌ على النظريات الفيزيائية لاحقاً.

وفي عام 1610م، وضع غاليليو تخيلاً واضحاً لدوران كوكب الزهرة حول الشمس، وكانت هذه مقدمة المبادئ الأساسية لعلم الديناميكا، ثم أكمل العالم الدانماركي تيكو براهي حسابات كوبرنيكوس بدقة أكثر، لكي يأتي العالم كبلر بعده ببضع سنين ويقوم بوضع القوانين الثلاثة لحركة الكواكب على أسس واضحة، وأكد في قانونه الأول أنّ مسارات حركة الكواكب بيضاوية، والشمس ثابتة في مكانها، والقانون الثاني يعتمد على الأول، فكما أنّ دوران الكواكب بيضاوي فإن هذا يعني أنّ الكواكب لا تدور بسرعة منتظمة، وسرعة الدوران هنا تعتمد على قرب الكوكب أو بعده عن الشمس، أما القانون الثالث فيقول إنّ مدة دوران الكوكب حول الشمس تعتمد على بعد المسافة، وكانت قوانين الحركة الثلاثة مُنطلقاً للعلماء لاحقاً، فوجود قانون واضح أوجد قاعدة علمية يمكن تطبيقها وتوسيعها والبناء عليها أو حتى دحضها، وقد أدّت القوانين الثلاثة إلى تطابق حسابات الأرصاد الفلكية بدقة كبيرة.

في هذه الأثناء قام رينيه ديكارت بوضع مبدأ الشك في الفلسفة التجريبية، الذي كان له أثرٌ كبيرٌ في توجيه دفة التجارب العلمية، ثم تتوالى الاكتشافات في علوم الميكانيكا، والديناميكا الحرارية، والطب، والفيزياء وغيرها إلى بزوغ وميض العالم إسحاق نيوتن عام 1687م، إذ قام بوضع قانون الجذب العام الذي قدم تفسيراً لدوران الكواكب حول الشمس، ووضح الكثير من المشاهدات بناءً على ثلاثة قوانين ميكانيكية قوية لا تزال تستخدم إلى يومنا هذا، وكان لهذه القوانين في الفيزياء والرياضات أثرٌ كبيرٌ على تقدم البشرية، فكل ما نراه من بنيان وتقدم علمي كان بسبب هذه القوانين ومفاهيم نيوتن المُختلفة، ويُمكن القول أنّ كوبرنيكوس هو مؤسس الثورة الفلكية ومغير نظرتنا للعالم، ثم يليه نيوتن مؤسس الثورة الفيزيائية ونظرتنا لقوانين الكون، ثم لاحقاً تشارلز داروين مؤسس الثورة الحيوية، ولربما فرويد مؤسس الثورة النفسية.

نشأة الكون

يتفق أغلب علماء الفلك -إن لم يكن كلهم- على أنّ الكون نتج جراء حدث عظيم أدى إلى تكونه، يُطلقون عليه تسمية الانفجار العظيم Big Bang، وقد بدأ هذا الحدث العظيم قبل ما يقارب 13.8 مليار عام، وهو ما أدّى إلى تكوّن الكون ووجود ما نراه حولنا اليوم من كل شيء، ولكن كيف تم تحديد هذا الرقم؟ حسناً، الأمر بسيط، فالعلم يحاول دائماً أن يجد الإجابات بأسهل الطرق المُمكنة، ما دامت قوانين الفيزياء واحدة في كل الكون، والقانون الذي يسري على الأرض يسري بنفس الظروف على أورانوس وهكذا، فيمكننا إجراء الحسابات نفسها على أي مكان في الكون واستنتاج نفس النتيجة. لنرَ كيف تم تحديد هذا الرقم.

ظاهرة الانزياح الأحمر

لا شك أنّ طلاب المرحلة الابتدائية هذه الأيام يعرفون ظاهرة دوبلر، والتي تنص على أنه إذا كان هُنَاك جسم يتحرك مبتعداً عنك، فإنّ الصوت الذي يصدر عنه سيمتد طوله الموجي أكثر (تتوسع الموجة)، وذلك لأنّ تردده سيقل، والعكس صحيح، ولعلك تسمع سيارة الإسعاف مقبلةً عليك فتسمع دويها بسرعة، وي وي وي وي وي وي، وحين تدبر عنك وتبتعد تبدأ الأصوات تتمدد وتتباطأ؛ فتسمع ويي وييييي وييييييييي ييييييييييي إلى أن يختفي الصوت تدريجياً بالكامل. وينطبق الأمر من جهة أخرى على الضوء، فضوء السيارة حين تبتعد عنك يبدو أكثر احمراراً عما لو كانت السيارة ثابتة أو قريبة منك، وذلك لأنّ الضوء ذو طبيعة موجية، فكلما كان الضوء أقرب للطيف الأحمر، كان تردده منخفضاً، ولو قمنا بوضع منشور لتحليل الضوء فإنّنا سنتمكن من معرفة الضوء الذي يبتعد أو يقترب بناءً على الظاهرة نفسها [3].

لاحظ العالم إدوين هابل أثناء مراقبته للسماء عام 1928م أنّ لبعض النجوم البعيدة تأثير اللون الأحمر المُزاح Red Shifting، وأنها تبتعد عنا بسرعات عالية، وفي اتجاهات مُختلفة، وهذا هو مقياس ظاهرة دوبلر، فالقوانين الكونية واحدة ولا فرق، ولاحظ هابل أنّ تمدد الكون يتبع نمطاً خطياً تتناسب فيه المسافة وسرعة الانتشار.

حقيقة، كانت هذه لحظة مذهلة في العلم؛ لأنّ العُلماء كانوا يعتقدون أنّ الكون ثابت وأزلي، وقد حاول أينشتاين أن يبرهنَ على ثبوت الكون عن طريق وضع ثابت كوني، لأن الأمر كان يشكل معضلة كبيرة للعلماء، لكن مع اكتشاف هابل هذا الأمر تغيرت تلك النظرة السائدة، وبدأت النظريات تتوالى.

فإذا كان العالَم يبتعد بسرعة كبيرة ويتمدد ويتوسع كما لو أنّ انفجاراً ما قد حدث وجعل الكون يتناثر في كل مكان، فمن المؤكد أنّه حسب سرعة تمدد الكون يمكننا إجراء بعض العمليات الحسابية لتقدير المدة التي يتوسع بها، ومن ثَم تحديد اللحظة التي بدأ بها الانفجار، واحتساب أيضاً كمية المادة التي بدأت الانفجار بناءً على سرعة التوسع، فسرعة التوسع مرتبطة بالجاذبية، والعناصر تجذب بعضها لذا تتوسع بهذه السرعة وغيرها من المؤثرات، يمكننا احتساب كل شيء، وبعد انتهاء قوة دفعة الانفجار سيثبت الكون، ثم بعد هذا التباطؤ سينتهي التوسع، وستبدأ قوة الجاذبية بالعمل وستتقارب العناصر (المجرات، المادة، الطاقة) وستنكمش مرة أخرى وسيحدث الانسحاق الشديد وهو عكس الانفجار العظيم.

في عام 2003م، استطاع المسبار الفضائي والمرصد الدوار “وماب WMAP” أن يُؤَدِّي دوره بدقة عالية، عبر قياسه الأشعة التي خلفت بداية الكون، وذلك بعد عامين من انطلاقه في الفضاء، وقد تم رسم خريطة إشعاع للخلفية الميكرونية للكون بدرجة عالية من الدقة والوضوح، وهي تعبر عن أفضل صورة لمراحل نشأة الكون منذ أكثر من 13.75 مليار سنة مع نسبة خطأ لا تتعدى 1%، كما في (شكل 4 صورة مسبار ويلكينسون لقياس التباين الميكروي).


شكل 4 صورة مسبار ويلكينسون لقياس التباين الميكروي

كثُرت النظريات حول تفسير نشوء الكون، فقد حاول بعض العُلماء إثبات أنّ الكون سرمدي؛ لا بداية ولا انتهاء له، في حين حاول آخرون القول أنّ العالم نتج عن انفجار وانحسر عدة مرات، والبعض حاول إثبات عدم حدوث ذلك، كل تلك النظريات وغيرها تم الرد عليها علمياً، وما زالت أكثر نظرية مقٌبولة حالياً هي نظرية الانفجار العظيم، وهي تعد نظرية علمية راسخة أجابت عن أكثر الأسئلة المطروحة حول الكون، لا نظرية الكون السرمدي ولا نظرية الأكوان المتوازية ولا غيرها كلها تبقى محاولات علماء، وبعض هذه النظريات للأسف أيديولوجية غير مقبولة علمياً، أما نظرية الانفجار العظيم فهي الوحيدة التي صمدت في تفسير الكثير من الظواهر، مع إضافة تحسينات دائمة عليها من ناحية الوقت، ولمسات أخرى في تسلسل الأحداث، ولقد تنوعت واختلفت إثباتات النظرية على مر الزمان، بعضها كان نظرياً وتم تأكيده مثل الأشعة الكونية، وهذا ما نرى أثره من تشوش حينما تقوم بتشغيل تلفزيون دون جهاز التقاط، وكذلك ما أثبته مسبار ويلكينسون WMAP، وغيرها من البراهين المحسوبة والمُكتشفة على هذه النظرية.

شكل 5 أثر الإشعاعات الكونية المتبقية من الانفجار العظيم

حينما تفتح التلفزيون دون جهاز لاقط، فإنك ستشاهد هذه الصورة، هذه الصورة ناتجة عن أثر الإشعاعات الكونية المُتبقية من الانفجار العظيم، هذه الصورة ألهمت العُلماء لإجراء دراسات أوصلتهم إلى تأكيد ما كانت تقوله نظرية الانفجار العظيم.

المُتفردة والانفجار

يرى العُلماء الآن أنّ الكون قد بدأ من نقطة مُتناهية الصغر، مُترامية الكتلة، أطلقوا عليها تسمية المتفردة Singularity، وهذه النقطة الصغيرة جداً، والتي حجمها صفر، وكتلتها لا نهائية، قد انفجرت وأنتجت الكون الذي أمامنا، وإذا كنت شخصاً متديناً ستقول لي هذه هي نقطة العدم التي يتكلم عنها الدين؛ لأنها نقطة حجمها لا شيء وكتلتها كل شيء، وهي الفكرة الدينية نفسها التي سمعنا عنها أنّ الله خلق الكون من لا شيء، حسناً، دعني أخبرك أنك مخطئ! وفي الفصول التالية ستعرف السبب.

إنّ اللاشيء هو لا شيء، قل لأي إنسان ما هو اللاشيء، فسيخبرك إنّه لا شيء ببساطة، يحاول بعض العلماء تفسير كتلة اللاشيء وحجم اللاشيء بأنها شيء ما، ولكن هذا تفسيرٌ أيديولوجي، استمع إلى السيد ريتشارد دوكينز وهو يحاول تفسير اللاشيء بأنه شيء وستصاب بالذهول، فهو تفكير أهل الدين نفسه في امتلاكه أيديولوجيا واضحة، لأن محاولة إقحام إسقاطات وتفسيرات غير منطقية هي ما يحاربها العلم.

قبل المتفردة لا يوجد شيء، ولا يعلم العُلماء أيَّ شيءٍ قبلها، المتفردة هي البداية، هي بداية الكون، هي اليوم دون الأمس، هي بداية كل البدايات، والانفجار العظيم هو ما نعرف عنه شيئاً، أما قبله لا يملك العُلماء أي معلومة مُفيدة، كلها محاولات دون جدوى، يحاول بعض العُلماء أن يخبرونا بأن الانفجار هذا هو انفجار متكرر حدث سابقاً، وسيحدث في المستقبل، لكن علماء الديناميكا الحرارية أثبتوا أنّ هذا غير صحيح، ولتعلم عزيزي ما هي الديناميكا الحرارية دعني أخبرك بقوانينها الأربعة البَدَيهية في زماننا، ثم نخوض قليلاً فيما توصل إليه العُلماء حول كيفية تشكُّل الكون الحالي بعد الانفجار العظيم.

قوانين الديناميكا الحرارية

يدرس علم الديناميكا الحرارية آلية تحول الطاقة إلى أوجه أخرى منها، مثل تحول الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية أو تحول الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربائية ويحاول هذا العلم أن يضع لها القوانين والنظريات، ونبدأ بقانونها الأول:

القانون الصفري:

يَنُص هذا القانون على أنه إذا كان النظام أ في حالة توازن حراري مع نظام ثانٍ ب، وكان النظام ب في توازن حراري مع نظام ثالث ج، فإن النظامين أ و ج أيضاً في حالة توازن حراري.

على سبيل المثال لو كانت درجة حرارة كوب الشاي الأول تساوي درجة حرارة كوب الشاي الثاني، وكانت درجة حرارة الكوب الثاني تساوي درجة حرارة الكوب الثالث، فإن درجة حرارة الكوب الأول تساوي درجة حرارة الكوب الثالث.

تبدو الفكرة بسيطة ولكنها مهمة وتعد من المُسلمات التي يعتمد عليها علماء الديناميكا الحرارية ليشيّدوا عليها ما هو أكبر.

القانون الأول:

الطاقة في نظام مغلق تبقى ثابتة.

أي لو جلبنا كوباً من الشاي ووضعناه في نظام مغلق، مكان لا تصله طاقة ولا يتصل بأي مادة، في مكان فراغ ما، فإن درجة حرارته ستبقى ثابتة لا تتغير، لا تزيد ولا تنقص، لأنه لا شيء يؤثر عليه في كسب أو فقد الطاقة، ونستطيع أن نستخرج منه القاعدة المشهورة التي تقول الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم، أيضاً نستنتج أنّ الحرارة تنتقل من الجسم مرتفع الحرارة (الساخن) إلى الجسم منخفض الحرارة (البارد) وليس العكس.

القانون الثاني:

وهذا القانون يَهمُنا كثيراً في هذا الكتاب لما بُني عليه الكثير في علم الفيزياء والكيمياء، وهو ينص على أنه لكل نظام كمية من العشوائية تسمى الإنتروبيا، وفي حالة وجود نظامين منفصلين وكل منهما في حالة اتزان حراري وحركي (ثيرموديناميكي) منفصل، وتمكنا من التلامس وأمكن لهما تبادل المادة والطاقة، فسيصلان إلى حالة توازن متبادلة، ويكون مجموع عشوائية (الإنتروبيا) النظامين قبل التلامس أكبر من أو مساوية لإنتروبية النظامين بعد اختلاطهما وحدوث التوازن الثيرموديناميكي بينهما، أي أنّ الإنتروبيا الكلية تزداد أو على الأقل لا تتغير عند وصول النظام إلى حالة توازن ثيرموديناميكي جديدة.

لو قُمتَ بإحضار محلول ملحي في وعاء، ويُقابله في وعاء آخر الكمية نفسها ولكن ماء عادي، ثم قُمت بخلطهم، فإنك ستحصل على محلول ملحي متجانس الملح في كل جزيئات الماء، أي إنّ ملوحة الوعاء الأول ستقل، وملوحة الوعاء الثاني ستزيد، لأن الملح توزع في الوسط بشكلٍ متساوٍ، ويتبع هذه القاعدة البسيطة الكثير من القواعد المهمة جداً، مثل أنّ العمليات الطبيعية التلقائية تزيد من إنتروبية النظام، أيضاً لا يمكن بناء آلة تعمل بحركة أبدية، ولا يوجد تغير تلقائي لأي حالة يمكن فيها نقل الحرارة من جسم بارد إلى جسم ساخن، وأي عملية تتم من تلقاء نفسها تكون غير عكسوية، كذلك لو قمت بتفريغ غاز ما في وعاء مفرغ فإن الغاز سينتشر في كل الإناء بشكلٍ متساوٍ؛ لتصل الإنتروبيا إلى أقل قيمة لها، فالإنتروبيا هي مقياس لعدم النظام في نظام.

ينطبق هذا القانون على كل شيء في الكون تقريباً، وهو قاعدة أساسية مهمة وتطبيقاته كثيرة لا تنتهي، ولكنه في الأنظمة الحيوية يلعب دوراً خاصاً في فهم تطور الحياة، فهذا القانون لا ينطبق مباشرة على الأنظمة المُعقَّدة والمتكاملة مثل الكائنات الحية، ففيها مثلاً يتم نقل الطاقة بطريقة دقيقة لا فقد فيها، بعكس ما هو كائن في الأنظمة البسيطة، جرب أن تحمل كوباً من الشاي الساخن -وليس القهوة الساخنة- وسر به مسافة 100 متر من منزلك إلى منزل صديقك، ستجد أنها فقدت حرارتها على الرغم من تغطيتك لها ومحاولتك الحفاظ على حرارتها، هُنَاك فقد في الهواء مع النظام المغلق المحيط بالكوب، وهُنَاك فقد في تلامس جدار الكوب مع جدار المادة العازلة وغيرها من مناطق التلامس التي ستقلل بشكل كبيرة من كفاءة النظام المغلق حول الكوب ليحميه من فقد الطاقة، وهذا ما لا يحدث في عالم الأحياء، فكفاءة بعض أنظمة نقل الطاقة في الكائنات الحية أعلى بعدة أضعاف مما أنتجتها عقول العُلماء قاطبة، ولو كان لدى البشر نظام احتراق وقود في مركبة واستطاع العُلماء نقل كفاءته من 20% إلى 25% لكان إنجازاً علمياً، فما بالك بنظام حيوي نسبته تزيد عن 60% وأحياناً أكثر، أو تصل إلى 100% كما في سوط البكتيريا.

من هذا القانون نتفهم لماذا حدث الانفجار العظيم ولماذا توسع الكون، ولماذا سيحدث انسحاق عظيم، كذلك كان هذا القانون المصدر الأساسي لحسابات أثبتت أنّ الكون انفجر للمرة الأولى، لأن الطاقة الحالية في النظام الحالي لو كانت في المرة الثانية لما كانت كافية لتكوين مجرات وجزيئات المادة، بسبب الإنتروبيا العالية وفقدان الطاقة في كل عملية انفجار وانسحاق.

القانون الثالث:

ينص هذا القانون على أنه لا يمكن أن نصل بدرجة الحرارة إلى الصفر المطلق، وهي صفر كلفن، لأنه نظرياً سيكون حجم الجسم صفر، وهذا ما لن نعقب عليه في كتابنا.

قوانين الديناميكا الحرارية هذه هي أساس عمل كل ما في الكون، وهي أساس بناء العُلماء للأنموذج الكوني الحالي الناتج عن الانفجار العظيم، لكن نتيجة محاولة فهم العُلماء للانفجار العظيم وبناء أنموذج كوني موحد أدّت بالعُلماء في نهاية المطاف إلى الخروج بنظريتين مُختلفتين لتفسير الكون، النظرية الأولى هي ميكانيكا الكم، وفيها قوانين تمنحنا إطاراً لفهم العالم على المستوى الكمومي (الذرات، الإلكترونات، الميزونات، الكواركات.. إلخ)، والنظرية الثانية هي النظرية النسبية العامة لأينشتاين إذ تفسر العالم في إطار قوانين واضحة على غير المستوى الكمي، أي شيء أكبر من الذرة (النجوم، الكواكب، المجرات، حركة الأجسام.. إلخ).

صحيح أنّ النظريتين لا يمكن الجمع بينهما لغاية اللحظة، وهذا ما يحاول العُلماء حله، وسيتوصل العُلماء إلى قوانين موحدة لكل الكون عاجلاً أم آجلاً، وسيكون بإمكانك أن تطبق القانون نفسه في كل مكان ولا تشعر بأن هُنَاك عالمين منفصلين، رغم أنه نظرياً في المتفردة (وحقبة بلانك أيضاً) يمكن تطبيق النظريتين عليها لأنها بكتلة فائقة، لذا فالنسبية العامة تسري عليها، وكذلك حجمها صفر فهي ذرية نظرياً، وعلى هذا فإنه يمكن تطبيق نظريات ميكانيكا الكم عليها إلا أنّ الأمور لم تَسرِ على ما يرام للأسف، ويحاول العُلماء ذلك باستخدام نظرية الأوتار الفائقة التي ما زالت لم تحل كل شيء بعد.

المليار

لو كنت أملك المليار لتفرغت للجلوس على شاطئ بحر المالديف أحتسي أي شيء عدا القهوة، ولكن ها أنا هنا أتحدث معك عن الكون، وفي محاولة فهمنا آلية نشوء الكون وتكونه سنصطدم بأرقام كبيرة ومخيفة، ولكي نستطيع أن نتصورها يجب أن نفهم ماذا تعني، فماذا يعني المليون، وماذا يعني المليار، ولنرَ كم نستغرق من الوقت حتى نعد للمليون!

لنفترض أننا نعد في الثانية الواحدة رقماً واحداً، وكل رقم سيستغرق عده ثانية فقط، وهذا أمرٌ فرضي، لأن الأرقام الكبيرة ستستغرق أكثر من ثانية بالتأكيد، مثلاً، مليون وسبعمئة واثنين وعشرين ألف وتسعمئة وواحد وخمسين، لكننا سنفترض أنها ثانية، أي لكي نعد إلى المليون في البداية وليس المليار نحن بحاجة إلى مليون ثانية، ولنرَ كم يساوي المليون بالأيام!

كل دقيقة هي 60 ثانية (معلومة خطيرة)، وكل ساعة 60 دقيقة، وكل يوم 24 ساعة، أي أنّ المليون ثانية هي: 1000000 ÷ 60 ÷ 60 ÷ 24 = 11 يوم ونصف تقريباً.

أي أنّ الإنسان الطبيعي لو أراد أن يعد من رقم 1 إلى المليون دون توقف ليل نهار سيلزمه 11 يوم ونصف لينهي العملية على افتراض أنه لن ينام أبداً، وأنّ كل رقم بحاجة إلى ثانية واحدة.

قام رجل أمريكي يدعى جيمي هاربر بالعد حتى المليون في 18-يونيو-2007 مباشرة عبر الإنترنت مع وجود متفرجين وعلى مدار 16 ساعة يومياً، 7 أيام أسبوعياً، استغرقه الأمر 89 يوماً للانتهاء! ونحن افترضنا أنها 11 يوم فقط.

ولكن، ماذا عن المليار؟ حسناً، كي لا نعيد العملية الحسابية مرة ثانية، فالمليار هو ألف مليون، أي أننا بحاجة لأن نضرب الناتج بـ 1000 فيصبح لدينا ١١,٥٧٤ يوم أي تقريباً 32 سنة(نظرياً)! يمكنك متابعة العد عبر هذا الموقع www.countonemillion.com، لكن حاذر أن تدفع بنساً!

تخيل يرعاك من يرعاك أنك لكي تعد حتى المليار، ثانية بثانية لكل رقم دون نوم سيلزمك 32 سنة لتنهي العد! أي أنك لو بدأت العد من الآن حتماً ستفنى قبل أن تنهي العد، لأنه مفترض 32 سنة دون أكل أو نوم فقط عد متواصل، وهذا يعني مضاعفة العدد 3 أضعاف الوقت المطلوب لإنهاء مسألة العد.

ولكن ماذا عن مليار مليار؟ هذا الرقم يعني 100 ألف سنة من العد! أي قبل عمر البشرية كلها، لذلك لا تستهِن بالرقم مليون أو مليار حينما تمر عليه مرور الكرام وتقول “ماذا يعني مليون”، أو إنّ المليار لا شيء يُذكر، أو أن تقول إنّ احتمالية 1 من مليار ليست بالشيء الكبير، إنها ممكنة، أو تقول إنّ تغيير 1 في المليار قد يكون أمراً ممكناً، ولكن تخيل أنّ آلية كبيرة لديها مدخلات من مليار مليار مليار شيء، ولكنها دقيقة جداً في عملها لدرجة أنّ 1 من مليار مليار مليار إذا تغير عليها سيُؤَدِي إلى تدميرها!

حينما نعرف أنّ الكون مكون من مليارات المجرات، وكل مجرة مكونة من مليارات النجوم، والمسافة بين كل نجم ونجم هي ملايين السنوات الضوئية، والنجوم أكبر بآلاف المرات من كوكب الأرض، وكوكب الأرض أكبر من بيتك ملايين المرات، وجسمك يحتوي على مليارات الخلايا، وكل خلية مكونة من مليارات الذرات، يجب عليك أن ترى الأرقام تتطاير أمام عينيك وتشعر بالخوف والضآلة وأنك لا شيء في هذا الكون.

Table 1 فيديو يوضح كم أن حجم الكون كبير، ليساعدنا في تخيله أثناء القراءة

Universe Size Comparison 3D

http://bit.ly/38f6vqE

Star Size Comparison 2

http://bit.ly/2S7tlLb

Star Size Comparison 3 (Vortex V1)

http://bit.ly/39gQK2y

got balls – planet size comparison, 12tune

http://bit.ly/2UDfjme

انتظر! إنك شيءٌ في هذا الكون، لقد انطوى فيك العالم الأكبر، فكل هذه الأرقام المخيفة يجب أن تكون في سياقٍ ما لكي تمسك هذا الكتاب الآن وتقرؤه بهذه الصورة الذهنية المضيئة!

تشكل الكون

الجدير بالذكر أنّ جميع النظريات أو الأحداث لتكوين الكون غير نهائية، ويتم إجراء تغييرات رياضية وهندسية عليها من حين إلى آخر، حسب الاكتشافات الجديدة والتي تعمل على تعديل الأنموذج الأصلي في لحظة وقوع الانفجار وما تبعه من تسلسل وأحداث.

بعد الانفجار العظيم (ليس انفجار بقدر ما هو توسع) وبعد عصر بلانك في الثواني الثلاثين الأولى (تقريباً)، أصبح الكون أكثر استقراراً، وبدأت الكواركات في التجمع وتكونت البروتونات والنيوترونات، وانفصلت قوة الجاذبية عن القوى الثلاثة الأخرى (النووية القوية، والضعيفة، والكهرومغناطيسية)، وبعد ثلاث دقائق من الانفجار العظيم كانت درجة حرارة الكون مناسبة لتكون جُسيمات أكبر، وكان الكون مليئاً بالفوتونات التي بدأت تتفاعل مع البروتونات وبدأ يحدث الاندماج النووي بين البروتونات والنيترونات ولكن دون الإلكترونات، وهذا أدّى لتكوين أنوية حقيقية للعناصر الأساسية لهذا الكون مثل الهيدروجين والهيليوم والليثيوم وبنسب متفاوتة، واستمرت هذه المرحلة لغاية الـ 380 ألف سنة التالية.

وبسبب تمدد الكون أكثر فأكثر، استمرت كثافة الكون في الانخفاض وبدأت أنوية الذرات تتحد مع الإلكترونات وباتت الذرات متعادلة كهربائياً، وبهذا يمكن أن ينفصل الإشعاع عن المادة وينطلق في الفضاء دون عوائق، وهو ما كون الخلفية الإشعاعية للكون التي قاسها مسبار ويلكنسون WAMP.

منذ ما يزيد عن مائة وخمسين مليون عام، بدأت تتكون أشباه النجوم الأولى جراء الانهيار الذي سببته الجاذبية، امتازت هذه النجوم بدرجة حرارة مرتفعة جداً؛ لاحتوائها على عنصري الهيليوم والهيدروجين بصفة أساسية، فقد كانت النجوم في ذاك الوقت كبيرة وساخنة جداً نتيجة لاستهلاكها الشديد للهيدروجين والهيليوم، وبهذا بدأت تتحول هذه العناصر في قلب النجوم إلى عناصر أثقل مثل الكبريت والصوديوم والبوتاسيوم والحديد والنيكل والكوبالت، ثم تجاذبت المناطق الأكثر كثافة من المادة والموزعة بتجانس ونمت بكثافة أكثر، ومع تجمع المزيد من الهيدروجين مع المادة المظلمة اكتمل تكوين المجرات والنجوم، وتكونت مجموعتنا الشمسية بعد 8 مليار سنة.

لاحظ العُلماء أثناء دراسة حركة المجرات أنّ حركتها لا تتوافق مع كتلتها، فمن المفترض حسب كتلة المجرات الحالية أن تتحرك هذه المجرات بسرعة أكبر، وهذا ما دفع العُلماء إلى إعادة حساباتهم مع افتراض وجود مادة مخفية أطلقوا عليها فيما بعد تسمية المادة المظلمة، وقد نجحت هذه الافتراضات وتوافقت نتائجها مع أرقام أخرى في الكون، مثل عدم تجانس خلفية الكون الإشعاعية، وفي حسابات انخفاض سرعة عناقيد المجرات وقياس الأشعة السينية لها ودراسات عدسة الجاذبية وتوزيع بنية الكون، وتم تأكيد تأثيرها الجذبوي على مجرات الكون بدقة، إنّ المادة المظلمة شيءٌ لا نراه ولكننا نرى أثره ونشعر به! ولكن يا تُرى أين سمعت جملة كهذه، هممم، لقد سمعت بها وإنها فكرة ضد العلم والمنطق!

وقد بيّنت نتائج المُحاكاة الحاسوبية أنّ للمادة المظلمة دوراً رئيساً في تكوين المجرات، وأنها عبارة عن جُسيمات ذات جاذبية إلا أنها ضعيفة التفاعل مع المادة التي نعرفها، ولا تقوم بامتصاص الضوء ولا تقوم بإصداره، وقد نتجت عن دراسات المادة المُظلمة دراسات الطاقة المُظلمة، والتي تضبط إيقاع الحسابات الرياضية، ولكن طبيعة الطاقة المظلمة لا يزال واحداً من أسرار الانفجار العظيم التي بحاجة للكشف عنها، وقد أكد مسبار WMAP أنّ الكون يتكون من 4% مادة عادية و23% مادة مظلمة و73% طاقة مظلمة وأقل من 1% نيوترينوات [4] كما في (شكل 6 مراحل تطور الانفجار العظيم حسب تأكيدات مسبار WMAP).


شكل 6 مراحل تطور الانفجار العظيم حسب تأكيدات مسبار WMAP

بعد انفجار الكون حدثت الكثير من الأمور على المستوى الكمومي في كل المراحل لم نذكرها وذكرنا فقط كيف تكونت الذرات، لكن ما يقوله العُلماء أنّ الانفجار أدى إلى تمدد الكون بسرعة عالية تَفُوق سرعة الضوء مليار مليار مرة (1000000000 * 1000000000 * 299,792,458 = 299792458000000000000000000 متر في الثانية)، وما هو معروف أنه لا شيء في الكون أسرع من الضوء مطلقاً والضوء سرعته ثابتة حتى بالنسبة للمراقب، وعلى الرغم من شدة هذه السرعة إلا أنها سرعة دقيقة جداً، ويحاول العُلماء فهم كيف لهذا الانفجار الدقيق أن يحدث بدقة متناهية لا يتخيلها عقل لكي يكوّن الكون، فلو كانت سرعة تشتت المادة بعد الانفجار أقل أو أعلى قليلاً لما تكوّن هذا الكون الذي نراه! ووجود هذا الأمر يشعرني بالحيرة فأنا لا أؤمن بالصدف أو أتقبلها في إطار معين، وأؤمن بالعلم والتخطيط، وأن يدعوني صديقي مرتين على حسابه في أسبوع دون سبب هو أمرٌ مُستحيل ولا مجال للصدفة فيه.

الجسيمات والقوى

كما هو ملاحظ، فالحديث عن الذرات يأخذنا حتماً إلى الحديث عن النجوم، فالكون ذو إطار مرجعي واحد ومُنبثقٌ من مادة واحدة، ومن المُفترض أن تكون القوانين واحدة، إلا أنه كما رأينا لم يستطع العُلماء بعد توحيد النظرية الكمومية والنسبية في نظرية واحدة، لكن هذا لا يعني ألا نحاول أن نفهم الكون بما لدينا من قوانين، ولقد اعتقد الإغريق أنّ المادة مكونة من أجسام متناهية في الصغر لا يمكن قسمها أكثر أطلقوا عليها تسمية الذرات، إلى أن وصلنا في القرن العشرين ونجح العُلماء بتفتيت الذرة واكتشفوا أنّ الذرة التي نعرفها ليست هي الذرة المقصودة كونها أصغر شيء في الوجود لا يمكن تجزئته، بل هُنَاك ذرة أصغر يجب البحث عنها، فالذرة المعروفة تحتوي على عناصر أصغر مثل البروتونات والنيترونات والإلكترونات، ثم في عام 1968م في المعجّل أو المسرع الخطي في ستانفورد اكتشف العُلماء أنّ هذه الجسيمات بدورها تتكون من جزيئات أصغر تسمى الكواركات Quarks، وأثناء محاولات العُلماء فهم الانفجار العظيم عبر دفع الذرات والجسيمات في مسارع الجسيمات إلى صدم بعضها البعض والبحث من خلال الشظايا الناتجة، اكتُشِف أنّ هُنَاك عدة أنواع من الكوراكات، واكتشف جسيم التاو والميزون والنيوترينو والميون.

والميزون -على سبيل المثال- جُسيم يشبه الإلكترون إلا أنه أثقل بـ200 مرة منه، كما اكتشف العُلماء أنّ لهذه الجُسيمات جُسيمات مضادة، وإذا تلاقى كل من الجُسيم مع جُسيمه المضاد فسيختفيان من الوجود وستنتج طاقة جراء هذا الاتحاد [4]، فالإلكترون له جُسيم مضاد مشابه له في الكتلة اسمه البوزيترون، لكن شحنته موجبة بعكس الإلكترون ذو الشحنة السالبة، والجُسيمات المضادة (المادة المضادة) بالإضافة إلى الطاقة المظلمة يسعى العُلماء إلى فهم لغزها الغامض في هذه الأيام لحل لغز الكون، إلا أنّ دراستها تنبع فيها الكثير من العقبات لأنها تختلف عن المادة التي نعرفها.

نتيجةً لأبحاث العُلماء المُتزايدة، وجد العُلماء ما يزيد عن 100 جُسيم مُختلف الشكل والكتلة والشحنة، وقاموا بتصنيفها في عائلات لتسهيل دراستها، وهذا ما أضاف المزيد من الأسئلة بدلاً من أن يقلّصها، كانت لدينا عشرات الأسئلة ونحن نعرف البروتون والنيوترون والإلكترون فقط، ولكن الآن، بعشرات الجسيمات سيكون لدينا مئات الأسئلة، لماذا كل هذا العدد من الجسيمات؟ وما فائدتها الحقيقية في تشكيل الكون؟ وأين دورها؟ ولماذا توجد 3 عائلات منها وليست 4 عائلات؟ ولماذا تختلف في كتلتها وشحنتها؟ ولماذا يزن جسيم التاو 3520 مرة وزن الإلكترون؟ وغيرها من الأسئلة المحيرة التي جعلت بعض العُلماء يفكرون جدياً بإراحة ضميرهم والاعتراف بأن هذا خَلقٌ إلهي، ودعونا نبحث في شيء آخر.

مهما تنوعت عمليات هذا العالم، من حركة سيارات أو تفاعلات حيوية أو نبضات حاسوبية إلا أنها تبقى محصورة في أربع قوى أساسية حددها العُلماء هي: القوى المغناطيسية، القوى النووية الضعيفة، القوى النووية القوية، والجاذبية، والجاذبية هي أضعفها، أما القوى النووية القوية هي المسؤولة عن ترابط الجُسيمات داخل الذرات، وهي ذات تأثير هائل في المسافات تحت الذرية، وتُعَد أقوى أنواع القوى، والقوى النووية الضعيفة مسؤولة عن الانشطار النووي والاضمحلال الإشعاعي للعناصر.

يتساءل العُلماء، لماذا توجد أربع قوى أساسية وليست أكثر أو أقل؟ ولماذا تتباين خواص هذه القوى بهذا الوضوح؟ ولماذا تُعتبَر قوة الجاذبية ضعيفة وغيرها أقوى؟ ولماذا لا تؤثر الجاذبية في المستوى الذري بعكس القوى النووية القوية؟ ولماذا لا تطغى قوة على أخرى؟ فلو كان في يدك اليمنى إلكترون وفي يدك اليسرى إلكترون آخر وحاولت الجمع بينهما، فستعمل قوى الجاذبية على ذلك بينما سيقوم التنافر الكهرومغناطيسي بمحاولة إبعادهما عن بعضهما البعض، ولكن، من الأقوى بين هاتين القوتين؟ إنّ قوى التنافر الكهرومغناطيسية أقوى بمليون مليار مليار مليار مليار مرة أي 10^42 مرة من قوى الجاذبية، ولو كانت قوة الجاذبية هي المسافة بين كف اليد إلى كوع اليد، فلا بدّ للقوى الكهرومغناطيسية أن تتسع مسافتها لتملأ الكون ولن تكفيها، هذا للتقريب بين الرقمين؛ لنرَ ضخامة الفرق بين القوتين، وإنّ أغلب الأشياء ذات القوى المغناطيسية موجودة في الكون بشكل متعادل كهربائياً.

القوى النووية أقوى من القوى الكهرومغناطيسية بمئة مرة، وهي أقوى من القوى الضعيفة بمئة ألف مرة، إنّ وجود هذه القوى بهذا الشكل الدقيق يسمح للذرات بأن تُوجد بشكل ثابت؛ فعناصر الجدول الدوري ثابتة ومستقرة بسبب هذه الفروقات في الأرقام، فلو زادت كتلة الإلكترونات عدة مرات فلن تكون هُنَاك احتمالية لتكوّن الذرات المكونة للنجوم، وهذا ما دفع العُلماء للمزيد من الجنون، لماذا وكيف ومتى، ولماذا قوانين الكون بهذا الشكل، وليست بشكل آخر!

ميكانيكا الكم

أجرى العالم توماس يونغ عام 1801م تجربةً كان الهدف منها دراسة طبيعة الضوء، سُميت بتجربة الشق المزدوج، فنيوتن كان قد افترض أنّ الضوء ذو طبيعة جُسيمية؛ أي يتكون من جُسيمات، أما تجربة يونغ فقد أثبتت أنّ الضوء يتكون من موجات، لاحقاً، تم استخدام هذه التجربة لإثبات أنّ الإلكترونات وباقي الجُسيمات الذرية ذات طبيعة موجية أيضاً.

على الرغم من بساطة تجربة الشق المزدوج إلا أنها لا تزال بلا حلٍ نهائي إلى يومنا هذا، وتعتمد التجربة على وضع مصدر ضوء أمام حاجز به شقين مفتوحين يسمحان بمرور الضوء، ويوجد خلف هذا الحاجز لوحة رصد يتم استقبال الضوء المار من الشقين.

من المُفترض أن يظهر على لوح الاستقبال خطان واضحان من الضوء نتيجة مرور الضوء من خلالهما كما نرى في (شكل 7 تجربة الشق المزدوج نظرياً)، لكن ما نتج عن التجربة هو مجموعة من الخطوط التي توحي بأن الضوء يسير بطريقة موجية نتيجةً لتداخل الموجات كما مرور موجات الماء من خلال شقين وتداخلهم خلف الشقين، ولكن لو كان في الحاجز شقٌّ واحدٌ فقط، فإن النتائج ستظهر على اللوح كما لو أنّ الضوء ذو طبيعة جُسيمية وسيظهر خط واحد فقط كما في (شكل 8 نتاج تجربة الشق المزدوج)!


شكل 7 تجربة الشق المزدوج نظرياً

نتيجة تجربة الشق المزدوج نظرياً، لو أنّ الضوء ذو طبيعة جسيمية


شكل 8 نتاج تجربة الشق المزدوج

بعد هذه التجربة بمائة عام حاول العالم ماكس بلانك حل مُشكِلة تجربة الجسم الأسود، التي كانت لا تتفق مع قوانين الفيزياء الكلاسيكية، إذ قام بتوضيح أنّ الطاقة يتم إطلاقها من الأجسام على شكل حزم طاقة مُحددة تسمى بالكمات، ولكي تنتقل هذه الكمات من مستوى طاقة إلى آخر فإنها تحتاج إلى كمية مُحددة من الطاقة للانتقال، وإلا فإنها ستعود إلى مستواها السابق، فلا مجال لنصف كمّة أو ربعها، بل كمّة ومضاعفاتها، وقد أطلق بلانك شرارة البحث في علم ميكانيكا الكم وهو لا يعلم.

لاحقاً، تم إعادة تجربة الشق المزدوج على الإلكترونات، وقد أُثبت أنّ الإلكترونات تتصرف كالضوء، وأنها ذات طبيعة موجية، إلا أنّ هذا يتعارض بالكامل مع النظرية الفيزيائية الكلاسيكية، والتي ترى أنّ الإلكترون ذو طبيعة جسيمية، وهذا أمر مُثبتٌ علمياً، فما كان من العالم لويس دي بروي إلا أن صدم العالم في افتراضه العجيب بازدواجية الإلكترون وأنه ذو طبيعية موجية وجُسيمية في آن واحد، وقد استطاع أن يبرهن على فرضيته هذه، وقد تم إثبات أنّ هذه الفرضية تنطبق أيضاً على جميع جُسيمات المادة الأخرى، مثل البروتون والنيوترون وغيرها، وهذا ما دفع أينشتاين للقول: “لدينا صورتان متعارضتان للواقع، إن كانتا منفصلتين لا تشرح أي منهما ظاهرة الضوء بشكل كامل، ولكنهما معاً يشرحانها بصورة مثالية” وهو يقصد الطبيعة المزدوجة للجُسيمات، إذ تسلك الجُسيمات مسلكاً موجياً في حركتها!

ومع استمرار التجارب والنظريات في بدايات القرن العشرين، ظهرت المزيد من التناقضات في قوانين الفيزياء الكلاسيكية عندما تم تطبيقها على المستوى تحت الذري (الكمي)، ومنها أنّ التصور لشكل الذرة الذي يشابه شكل مجموعتنا الشمسية، والذي فيه تمركز النواة في الوسط والإلكترونات في المدارات، يجب ألا يستمر بهذا الحال في ظل قوانين الفيزياء الكلاسيكية؛ لأن الإلكترونات يجب أن تتسارع نحو الجذب المركزي باتجاه النواة، مما سيُؤَدِي إلى بثّها لإشعاع كهرومغناطيسي، وهذا يُحتّم على الإلكترونات أن تفقد طاقتها شيئاً فشيئاً، ونتيجة لذلك تقترب من النواة حتى تصطدم بها في جزء من الثانية، وهذا ما لا يحدث في الواقع، بل تستمر الإلكترونات بالدوران حول النواة بلا توقف، بالإضافة إلى تجربة الجسم الأسود الذي يمتص كل الإشعاع الساقط عليه، ومن ثم يعيده مرة أخرى في آلية تعارض الفيزياء الكلاسيكية.

هذا ما دفع العُلماء إلى استنباط نظريات جديدة مخالفة للنظريات الفيزيائية التي تعمل على الأجسام فوق الذرية، وأسموها النظريات الكمومية في محاولة منهم لتفسير الظواهر على مستوى الذرة والجُسيمات دون الذرية، وقد حاول العُلماء بإعادة تجربة الشق المزدوج مع وضع مصدر لإطلاق الإلكترونات بدلاً من الضوء، مع وضعهم جهاز كاشف بعد الحاجز الذي يقف بين مصدر الإلكترونات ولوح استقبالها، لدراسة شكل الإلكترونات الموجية الخارجة من الشقين، فتفاجأ العُلماء بتغير شكل الإلكترونات الظاهرة على لوح الرصد كما لو أنها أمست ذات طبيعة جسيمية، وظهر خطين من الإلكترونات بشكل واضح، وحصلوا على مناطق ذات شدة إلكترونية ومناطق محرمة على الإلكترونات ما كانت لتظهر لولا أنّ الإلكترونات سارت في طريقة موجية.

حيرت هذه التجربة العُلماء في نتيجتها، وهذا ما دفع العالم هايزنبيرغ إلى إطلاق مبدأه الشهير الذي يُعرف بـ مبدأ الشك أو مبدأ عدم اليقين أو الارتياب، وينص هذا المبدأ على أنه لا يمكننا أن نقيس خاصيتين فيزيائيتين (كالمكان والسرعة) في لحظة معينة لأي جسم كمومي مثل الإلكترون دون وجود قدر من عدم التأكد من إحدى الخاصيتين أو كلتيهما، وإذا قمنا بتحديد سرعة الإلكترون مثلاً، فإنه سيصبح مُستحيلاً علينا تحديد مكانه بدقة، وهذا يعني أنه ما دامت القوانين الأساسية للفيزياء لا تسمح لأي مشاهد أن يُجري تجربةً مهما كانت ظروفه مثالية، فلا يمكننا أبداً أن نحصل على أية معلومات مؤكدة من أي تجربة، وكل ما يمكن أن يكوّنه المشاهد في التجربة هو أن يكوّن تنبؤات إحصائية، فعلى سبيل المثال يمكن للعالم الذي يدرس الإشعاع أن يتنبأ بأنّه من بين كل ألف مليون ذرة راديوم سوف يصدر إشعاع غاما في اليوم التالي من مليونين فقط، كما أنه لا يستطيع أن يتنبأ أي هذه الذرات بالضبط ستصدر الإشعاع، وكلما زادت عدد الذرات، زاد عدم اليقين وهكذا.

لقد أدى هذا الشك المرعب إلى رفض أينشتاين لهذه النظرية في البداية، على الرغم من أنّ ميكانيكا الكم لا تعطينا تنبؤاً دقيقاً بنتيجة رصد أو قياس جسيم كمي، وإنما تعطينا فقط مجموعة من النتائج الممكنة والمُختلفة لكل منها احتمال وجود معين، إلا أنّ العُلماء قبلوا فيها مضطرين لأنها تفسر الموجود، فلم يستطع أي من العُلماء تحديد طبيعة الجسيم إن كانت جُسيمية أو موجية وهي تتغير حسب تدخل الراصد نفسه، فحينما يحاول عالم ما قياس الخاصية الموجية للجسيم تظهر النتائج كما لو أنه ذو سُلُوك موجي، والعكس صحيح.

لم تتوقف عجائب تجربة الشق المزدوج للإلكترون عن إدهاش العالم وحثهم على البحث عن تفسيرات جديدة لحل مشكلاتها، وهذا ما حذا بالعالم فاينمان أن يطلق نظريته التي يرى فيها أنّ الإلكترون ومنذ لحظة خروجه من منبعه حتى وصوله إلى لوح الرصد، يسلك كل المسارات الممكنة له في آن واحد، وبذلك يستطيع الإلكترون المرور من كلا الشقين في وقت واحد، وعلى الرغم من ظهور تفسيرات عديدة، إلا أنها باءت بالفشل في توضيح هذا السُلُوك غير المنطقي للإلكترون، ولكن هل يوجد أعجب من تفسير فاينمان!

وما تراه ميكانيكا الكم اليوم أنّ الإلكترون والجُسيمات الأخرى لا تسير بمسار مستقيم كما نتوقع، بل هُنَاك جُسيمات مُرتبطة بالإلكترون تنتقل مكانياً بطريقة لا نعلمها، فقد تشعل الضوء في غرفتك فيخرج فوتون ما فيلمس القمر، ثم يعود إلى غرفتك لتراه في اللحظة نفسها التي يجب أن يظهر فيها، على الرغم من سُلُوكه مساراً غريباً إلا أنه يصل في اللحظة نفسها مع إخوته الفوتونات، وهذا ما قد يكون مرعباً في العلوم إذ لم تستطع أن تفسر عدم الانتظام أو العمليات غير المنطقية على المستوى الكمومي بهذا الشكل، ويتركنا في لا حتمية أو لا منطقية يراها المُؤمِنون أنها طلاقة قدرة الله وحده.

الاحتمال المُستحيل

في علم الاحتمالات، حين يتم دراسة إمكانية حصول حدث عشوائي، يتفق الرياضيون على شيء اسمه الاحتمال المُستحيل، لدينا عملة نقدية تحمل وجهين، صورة، وكتابة، ما هو احتمال إذا رمينا العملة في الهواء وسقطت أن تكون النتيجة هي صورة؟ الاحتمال هو 1 من 2، أي خمسون في المئة، ولو رمينا القطعة النقدية مرتين في الهواء، ما هو احتمال أن نحصل على صورة مرتين متتاليتين؟ الإجابة سهلة، هي ربع الاحتمالات أي 25%، ولو كان لدينا 10 عملات فإن الحساب يكون 2 أس 10، أي أن الاحتمال 1 من 1024 وهكذا، ولو كان لدينا نرد بستة وجوه فإنّ احتمال الحصول على الرقم 2 مثلاً هو 1 من 6، أي سدس القيم المتوقعة وتساوي 16%، واحتمال الحصول على الرقم 1 أو 5 هو سدسين، أي 2 من 6 أي الثلث وتساوي 33%، واحتمال الحصول على الرقم 1 و 5 هو احتمال مُستحيل، لأن النرد سيسقط على وجه واحد، ولكن ما احتمال الحصول على الرقم 3 عدة مرات متتالية تصل إلى 8 مرات مثلاً؟ سيكون الرقم قليلاً جداً، ولكن ما هو الرقم الذي يمكننا القول عنده أنّ هذا الاحتمال مُستحيل، ولا يمكن أن يحصل بأي حالٍ من الأحوال؟

في الديناميكا الحرارية يُعدُّ الاحتمال المُستحيل هو احتمال حصول أمر ما من الرقم 10 أس عدد أفوجادرو، أي 1 من 10^23[5]، وبشكل عام يتفق العُلماء أنّ الاحتمال المُستحيل هو أي احتمال فوق الاحتمال 1 من 10^50. وبذلك علمياً أو رياضياً أي شيء فوق هذا الاحتمال لا يمكنك اعتباره ممكناً، بل هو مُستحيل أو خارق للعادة.

يُفيد فهم نظرية الاحتمالات هذه متى يمكننا التوقف عن الأمل في أي احتمال في هذا الكون، ومتى نستطيع القول إنّ هذا ممكن، وإنّ هذا غير ممكن وخارج عن المألوف، وخارج عن نطاق هذا الكون.

ويجب الانتباه إلى أنّ للاحتمالات معنىً في ظل وجود هذا الكون، ولولا وجود الكون لما كان للاحتمالات معنى، فاستخدام الاحتمالات في توقع إمكانية حدوث الكون أمر لا معنى له، لأن الاحتمالات والزمان والمكان هي نتاج انفجار الكون، ولم تكن قبله.

من وإلى

بعد إرساء أسس العلوم الطبيعية على العقل والتجارب العلمية والمشاهد الحسية، أمسى العُلماء يؤمنون في القرنين الثامن والتاسع عشر أنّ الكون ماديٌ بحت، وفور أن أثبت كوبرنيكوس أنّ الأرض تدور حول الشمس حتى انقلبت الموازين، وقد كان قرن كوبرنيكوس والقرن الذي يليه قرنين ماديين، يحاول العُلماء فيهما أن يفسروا كل حادث بعيداً عن العواطف والمعتقدات، وكان نتيجة ذلك فقدان الإنسان لقيمته العليا، فبدلاً من كون هذا الإنسان قد صنعه الله، قال علماء الطبيعة أنه نتيجة الصدفة، وبدلاً من أن يكون الكون مخلوقاً رأى العُلماء أنه أزلي، وبدلاً من أن تكون مجموعة الإنسان الشمسية مركز الكون، اتضح أنّ الكون مليء بالمجرات والنجوم، وبدلاً من أن يكون كوكب الإنسان مركز الكون، اتضح أنّ كوكبه كوكبٌ بسيطٌ يدور حول الشمس، إذن هذا الإنسان صدفة قد تتكرر في أي كوكب وفي أي مكان ولا شيء فيه مميز، هو حيوان ناطق أرقى من القرد قليلاً في بعض الأمور، لكنه يبقى حيوان.

وقد ذهب بعض العُلماء إلى ما هو أبعد من ذلك، مثل كارل ساجان الذي آمن بأن هُنَاك ملايين الحضارات المشابهة لنا على كواكب أخرى وفي أنظمة على مجرات بعيدة، وذلك استناداً إلى مساحة الكون الشاسعة، وتقول فكرة ساجان أنّ احتمالية تكوُّن شروط الحياة الملائمة في موضع آخر غير كوكب الأرض ممكنة، فما دمنا نتحدث عن كون يحتوي على أعدادٍ لا يمكن إحصاؤها من المجرات والكواكب، وكان بعض علماء الطبيعة بشكل عام يعتقدون أنّ أي كوكب يحتوي على ماء وطاقة وبعض المواد العضوية سيكون عليه كائنات مثلنا نحن البشر، ولربما بعضهم أرقى منا بكثير، فما زلنا نحن نتاج تفاعلاتنا الكيميائية ومصيرنا حتمي مكتوب في الدنا DNA ولا مفر من المكتوب.

لكن، ما لبث أن خرج التخطيط من العبث، والتفرد من التشابه، وكون من مصمم، وبدأت الأسئلة، وعلى رأس هذه الأسئلة السؤال الذي طرحه العالم فيرمي وسُمي لاحقاً بمفارقة فيرمي Fermi Paradox؛ إذ يتساءل العالم فيرمي عن فرص وجود حياة أخرى في هذا الكون الشاسع، وأين الحضارات الذكية، أين الكائنات الفضائية، ومنذ ذلك الوقت في العالم 1950م قامت العديد من المحاولات وحتى معاهد كاملة مثل SETI Institute؛ للبحث عن الحياة الذكية خارج الكوكب Extraterrestrial intelligence، وتم مسح الكون وذلك بمعدل ملايين الترددات في الثانية ولأكثر من ٥٠ عام، في محاولة جادة للإجابة عن هذا السؤال البسيط.

مفارقة فيرمي

إذا كان هُنَاك المليارات من الكواكب التي تُشبه الأرض في مجرات لا متناهية، فعلى الأرجح هُنَاك احتمالات أن توجد حياة وحضارة مثلنا أو أرقى منا، هذه الفكرة لمعت في ذهن العالم الإيطالي فيرمي أثناء تناوله الغداء، وقد كلفت البشرية لاحقاً الكثير من الطعام في محاولة التفكير لحلها، يوجد في مجرة درب التبانة بين 100 و400 مليار نجم، ويحتوي الكون على ما يقارب هذا العدد من المجرات، أي أنّ كل نجمة في مجرتنا أمامها مجرة كاملة تحتوي على عدد نجوم تقريباً مشابه، وهذا يعني أنّ عدد النجوم في الكون مساوٍ لعدد حبات رمال كل شواطئ الكرة الأرضية مضروباً ب10000!

ولو افترضنا أنّ 1% من الكواكب تشبه كوكبنا، وعلى الأقل كل حبة رمل في كوكبنا تماثل كوكباً شبيهاً في إحدى مجموعات النجوم، فهذا يعني أنه هُنَاك 10 مليون مليار حضارة ذكية في هذا الكون الفسيح، ولكن لماذا لم نسمع عنهم أو نراهم حتى هذه اللحظة؟! الإجابات التي قد نحصل عليها ستكون ضمن الآتي:

  1. الحضارات الفضائية موجودة إلا أنهم لا يمكنهم التواصل معنا.
  2. الحضارات الفضائية موجودة وترسل إشارات لنا، لكن لا يمكننا فهمهم.
  3. الحضارات الفضائية كانت موجودة في وقت لم نكن نحن فيه.
  4. الحضارات الفضائية موجودة لكن الناس لا تدرك ذلك.
  5. اختفت الحضارات الفضائية لأنهم تدمروا لسبب ما.
  6. لا يهتمون بنا، فهم إما حضارات متطورة لمستويات تجعلنا في نظرهم كالنحل مثلاً بالنسبة لنا نحن البشر، فهل فكرنا ذات يوم بالتواصل مع النحل؟ رغم أننا نراهم يعملون طوال الوقت وينظمون أنفسهم!

ومع عمر الكون الكبير توفر الكثير من الوقت، فقد يكون قد بدأ أول الأجناس المتقدمة -على الأقل- بإرسال مركبات فضائية لاستعمار الكواكب، فلو أنّ أول حملة استعمارية من حضارة ما استغرقت مليون عام، فإن المستعمرة الجديدة مع الحضارة الأصلية، يمكن أن تقوم بإرسال كل منهما بعد ذلك رحلات لاستعمار كواكب أخرى، مما يضاعف عدد المستعمرات كل مليون عام، أي أنه بعد ١٠ مليون عام سيكون هناك ١٠٢٣ مستعمرة جديدة، وبعد ٢٠ مليون عام، سيكون هُنَاك ملايين المستعمرات وخلال ٤٠ مليون عام سيكون تم إنشاء مليار مستعمرة، أما بعد ١٤ مليار عام، فسيكون الكون مكتظاً بالحضارات الفضائية وبهذا ستتكون أجناسٌ أخرى.

هذه الاحتمالات والأرقام واحتمال وجود 100 ألف حضارة في مجرتنا وحدها، دفعت العالَم إلى البحث الجدي عن هذه الحضارات، أو هذه الكائنات، خاصةً بعد التطور في مجال الاتصالات في القرن العشرين، ومحاولة استعمال إشارات الراديو في الاتصال والتواصل مع هذه الحضارات كما في فيلم Contact أو الوافد The Arrival ولربما حينما يعرفون أننا حضارة ناشئة سيأتون ويحتلوننا كما في Mars Attacks أو Edge of Tomorrow أو يتسلّون معنا كما في Predator ولربما يعيشون بيننا والحكومة تخفي هذا عنا Men in Black أو ربما تفاهمنا معهم مسبقاً The Day the Earth Stood Still أو لربما هزمناهم Independence Day، أو لربما يأتون ويعلموننا لنحميهم في المستقبل كما في Arrival وغيرها من مئات السيناريوهات، ولكن بعد كل هذه المحاولات لم نحصل على شيء بعد، صحيح أنها ما زالت موجودة في بعض العوالم مثل عالم هوليود، وعالم مارفل، وعالم دي سي، وقد قابلت ريبلي حضارة منها في سلسلة أفلام Alien، إلا أنه في عالم الأرض 616 لم نجد شيئاً بعد، ولكن لماذا يا تُرى؟ دعني أخبرك أنّ الأمر ليس بسيطاً كما يبدو، ففي القرن الماضي والذي يسبقه كان العُلماء يؤمنون جدياً بوجود هذه الكائنات والحضارات، وبذلوا الكثير في سبيل ذلك من دراسات وأبحاث كثيرة منها ما هو شائع مثل رسالة أريسيبو ولوحة فوياجر الذهبية ومشروع فينيكس وإشارة واو في عام 1977م التي حيرت العُلماء وما زالت تحيرهم.

في محاولة الإجابة على احتمال وجود هذه الكائنات أو لا، حاول العالم فرانك ديريك الرد بلُغة الحسابات الحقيقة وذلك باقتراحه معادلة سميت باسمه (معادلة ديريك Drake equation) وصيغة هذه المعادلة:

N = R* × fp× ne × fl × fi × fc × L

  1. N هو عدد الحضارات في مجرتنا التي يمكن أن نستقبل إشاراتها الكهرومغناطيسية.
  2. *R هو عدد النجوم التي تتكون كل عام في مجرة درب التبانة.
  3. FP هي نسبة عدد النجوم التي تحتوي على كواكب.
  4. ne هو عدد الكواكب في كل نظام شمسي، يمكن للحياة أن تنشأ فيها.
  5. FL هي نسبة الكواكب الصالحة التي نشأت عليها حياة بالفعل.
  6. fi هي نسبة الحياة على الكواكب التي باتت فيها حضارة واعية.
  7. FC هي نسبة الحضارات التي شيّدت تكنولوجيا ذات إشارات تكشف عن وجودها.
  8. L هي المدة الزمنية لإطلاق الحضارات إشاراتها ليتم كشفها.

لا نستطيع الجزم بأيٍّ من قيم هذه الوسيطات بشكل قاطع، ولكن يمكننا تطبيق المعادلة بما نملكه من معرفة، وما أدّى إليه تطبيق هذه المعادلة مع معادلات أخرى هو الحصول على نسبة تقارب الصفر من حضارات ذكية، ولم تشِر الحسابات إلا إلى كوكب واحد فقط، هو كوكب الأرض!!! ولكن دعونا نتساءل ما هي التفسيرات لهذه النسبة الضئيلة، أين هم العُلماء عن هذه الأرقام المتدنية؟ ماذا قالوا؟ وكيف فكروا؟

ولنبدأ بالتفسيرات الدينية على عدم وجود حضارات فضائية مكتشفة بعد، إذ يعتقد العالم شوستاك بأننا نحن البشر قد نكون حضارة بدائية تحاول الاتصال بحضارات أقدم وأكثر تقدّماً منهم، وهو ما يشبه قرع إحدى القبائل في الغابات على الطبول وانتظارها استماع الرد القادم من أشخاص متحضرين يتواصلون من خلال الهواتف المحمولة في دولة ما بعيدة، واسمح لي أن أخبرك أنّ هذا ليس تفسيراً دينياً حقيقياً، بل هو تفسيرٌ علميٌ ولكنه كما ترى أشبه بالديني، لأنه أشبه بقصص ما قبل النوم دون دليل علمي، لأن بعض العُلماء لديهم أيديولوجيا تدخل حتى في العلم، وحتى تستمر رحلة الخرافة العلمية. وقد ابتكر العُلماء شيئاً يُسمى مقياس كارداشيف وهو مقياس يصنف الحضارات الذكية إلى حضارات حسب كمية الطاقة وتنقسم إلى ثلاثة أنواع:

  1. النوع الأول: حضارة تستطيع استخدام كل الطاقة المتوفرة على كوكبها، والبشر ليسوا من هذا النوع، إلا أننا نكاد نصل إليه.
  2. النوع الثاني: حضارة تستطيع استخدام كل طاقة نجمها، إلا أنّ عقول البشر لا يمكنها تخيل هذا النوع من الحضارات، ولك أن تتفكر في جملة “وأدمغتنا ضعيفة جداً لتخيل مثل هذا النوع” كي لا نفكر في هذه الخرافة، فاقترح العالم أنّ أدمغتنا ضعيفة ولن نستطيع تخيلها.
  3. النوع الثالث: حضارة تستطيع استخدام طاقة المجرة كاملة، وهذا مستوى من الرقي العلمي لا يمكننا تصديقه، ولو قلت لي سيأتي تنين ويبتلع الشمس كما أصحاب الديانات السابقة لما وجدت أي فرق بين المحاولتين، ونحن نتكلم هنا عن علم ونظريات، لا تكهنات شامان.

ثمة تفسيرات أيديولوجية أخرى أيضاً رغم طرحها على أنها محاولات علمية، فقد تكون هُنَاك حضارة ذكية قد زارتنا بالفعل قبل أن يوجد البشر على الأرض، فالبشرية تدرك نحو ما يصل إلى 50 ألف سنة، كما أنّ التاريخ المدون 5500 سنة فقط، وربما شهدت بعض القبائل القديمة جزءاً من زيارة هذه الحضارات الذكية ولكن لم يتمكنوا من تسجيل هذا الحدث للبشر مستقبلاً، أو لعل العالِم شاهد فيلم Prometheus، ثم نسمع العالِم يقول: أنا لا أؤمن إلا بالعلم التجريبي!

وننظر إلى تفسيرٍ آخر يقول حتماً إنّ مجرتنا قد تم استعمارها، إلا أننا نقطن في منطقة ريفية مهجورة من المجرة، وربما يوجد حضارات راقية تسكن بين النجوم لا نستطيع التواصل معها، ونُذكّر أنّ مهمة العُلماء هي تقديم تفسيرات علمية وليس محاولة تقديم تخيلات سنيمائية.

لوحة فوياجر الذهبية

مع أنّ احتمال العثور على أناس عاقلين خارج كوكب الأرض ضئيل جداً، إلا أنّ مجموعة من العُلماء وبعض رواد الفضاء قاموا بتصميم لوحة من النحاس المطلي بالذهب أُطلق عليها مسمى لوحة فوياجر الذهبية، وقد تم تثبيتها على مسبار فوياجر، وإرفاقها برسالة صوتية ترحيبية من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جيمي كارتر لعام 1977م تقول: “هذه هدية من عالم صغير، تُعطي شيئاً من أصواتنا ومن معلوماتنا، وصور وموسيقى، ومن فكرنا وأحاسيسنا. نحن نحاول البقاء وعليه فربما نعيش بعض الوقت من الزمان ونعاصركم” وذلك في محاولة للتواصل مع العالم الخارجي وإثبات وجودنا، والتواصل مع الكائنات الفضائية المحتملة التي قد يقابلها المسبار.


شكل 9 صورة إسطوانة فوياجر

يحمل المسبار لوحة مغطاة بطبقة من الذهب (شكل 9 صورة إسطوانة فوياجر)؛ حتى تحميها من عوامل النحت والتعرية، نُقِش عليها معلومات عن الأرض، وموقعها، وسكانها، وتتضمن صوراً للبشر، وتسجيلات صوتية، وتظهر اللوحة وضع الشمس بالنسبة إلى 15 نجماً نابضاً، كما تحتوي اللوحة على صور فوتوغرافية تُوضح شكل الإنسان وطوله، ورسوماً بيانية من بينها صوراً لسيناء ووادي النيل كما تظهر من القمر الصناعي، وكذلك صور المجموعة الشمسية والدنا DNA، وصور أعضاء جسم الإنسان.

كما اهتم العُلماء بإضافة صور لحيوانات وحشرات ونباتات ومناظر عن تضاريس الأرض، وإضافةً إلى صور عن غذاء البشر وعن الفن المعماري على الأرض، وصورٍ عن الأشغال اليومية للبشر، كذلك احتوت الأسطوانة على صور لعدة مناطق عشوائية من العالم، كسيدة في متجر أو طريق سريع، وصور لمركبات كيميائية ومعلومات عن الحجم والزمن والكتلة.

كما تم إرفاق مجموعة من أصوات البشر في عبارات تحية بأكثر من 55 لُغة، مع موسيقى من كل مكان بالعالم تقريباً، مروراً ببيتهوفن وباخ وموزارت، وأصوات لعصافير، وكلب ينبح… إلخ، الأسطوانة مُصممة لكي تعيش لأكثر من 500 مليون سنة، عسى أن تستطيع في يوم ما مقابلة حياة عاقلة، والجملة المنطوقة بصوت عربي هي: “تحياتنا للأصدقاء في النجوم، يا ليت يجمعنا الزمان”.

رغم كل هذه المحاولات المضنية، لا توجد أي إشارات علمية أو رياضية على وجود حضارات أخرى، والعلم يصادق على الموجود، لا على المرغوب.

كون منظم

يستعرض العالم بول دافيس والعالم جورج جرينشتاين كثير من النقاط المُدهشة في بناء الكون، والتي تنال درجةً عاليةً من الدِّقة والتنسيق الهائل، منها الاحتمالات الضعيفة لتكون الكربون والهيليوم بالطريقة التقليدية؛ لأنّ تكوينهم يتطلب مسارات متوازية وإلا ستفشل العملية برمتها، ويوضحان أنّ أي انفجار ينتج عنه تشتت للمادة بطريقة عشوائية، لكن الكون بعد الانفجار العظيم تشتت بطريقة منتظمة في كافة الأنحاء، فضلاً عن دقة أرقامه الفيزيائية، فمثلاً قوة الجاذبية مناسبة لتشكل الكون وإلا لو تغيرت قليلاً لَمَا تكون الكون بعد الانفجار، ولو كانت أقل قليلاً لَمَا تكونت الذرات، ولو كانت أعلى قليلاً لتلاصق الكون واندمج بطريقة عجيبة، وكذلك القياسات نفسها تنطبق على باقي القوى الضعيفة والقوية.

كذلك غرابة بعض الأرقام التي تجعلها غير منطقية، فمثلاً النقطة المتفردة أصغر من طول ثابت بلانك وهذا أمرٌ مُستحيلٌ في مفاهيم الكون، وثابت بلانك ثابت دقيق ولو اختلف أيضاً قليلاً لما حدث الكون، والنسبة بين شحنتي الإلكترون والبروتون دقيقة جداً جداً فلو اختلفت واحد من مليار جزء لانتهى الكون، وغيرها من الأرقام التي تزيد عن 100 رقم دقيقة بشكل خيالي، 1 من مليار من مليار أي اختلاف في أي هذه الأرقام سيجعل تكوّن الكون أمراً مُستحيلاً، وأستشهد بما قام به عالم الرياضيات البروفيسور روجر بنروز إذ قال: “إنّ نسبة دقة العوامل والثوابت الكونية لكي يتشكل الكون صدفة هي 1 من 10^123 “، أي احتمال واحد من 10 أمامها 123 صفر وهذا رقم كبير لا يمكننا تخيله، كما أسلفنا العد للمليون يتطلب 86 يوم، وهو ذو 6 أصفار، العد للمليار وهو ذو 9 أصفار يتطلب حد أدنى 50 سنة، ألف مليار يعني 1 وأمامه 12 صفر يتطلب 50 ألف سنة، فما بالك بواحد أمامه 123 صفر، إنّه رقم يفوق قدرة حتى الحواسيب على حسابه [6] وهو عدد يفوق بكثير عدد الذرات في الكون التي تقريباً تساوي 10^80، يعني 10 أمامها 80 صفر، وهو أيضاً أكبر من عدد البروتونات والإلكترونات في الكون، احتمال مرعب لا أتجرأ على التفكير في تخيله.

يرى مجموع كبير من العُلماء أنّ التوافق الدقيق للكون عبر توافر أرقام دقيقة معينة من ثوابت فيزيائية بدرجة معينة أدّت إلى قيام الحياة في الكون، ويرون أيضاً أنّ أقل تغيير في هذه الأرقام أو الثوابت الكونية كان سيُؤَدِي في النهاية إلى تغييرات هائلة في هيكلية الكون ستؤول إلى عدم تكونه، أو على الأقل انعدام الحياة فيه، وهذا ما يصفه ستيفن هوكينغ في كتابه تاريخ موجز للزمن إذ يقول: إنّ قوانين العلم كما نعرفها الآن تحتوي على الكثير من الأرقام المهمة مثل حجم شحنة الإلكترون الكهربائية، والنسبة بين كتلة البروتون إلى الإلكترون، وغيرها من الأرقام، والحقيقة المُدهشة أنّ هذه الأرقام تبدو وكأنها قد ضبطت لتتطور الحياة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ سرعة تمدد الكون من الثوابت المهمة في تكوينه وتعرف بالحد الحرج، التي لو تغيرت بنسبة ضئيلة جداً بنسبة تصل إلى درجة من 10^-17 (وهذا رقم يصعب فهمه أيضاً) لانهار الكون بالكامل، هذا الثابت مع غيره من الثوابت الكثيرة والتي تصل إلى 30 ثابت منها ثابت بلانك، وسرعة الضوء، ودرجة حرارة الصفر المطلق، تجعل استحالة وجود الكون بهذا الشكل دون هندسة، وفي حين ذكر الهندسة، ماذا لو تكون الكون بنظام ثنائي الأبعاد وليس ثلاثياً من الأساس؟ لن يكون لكل ما نكتبه معنى، وثَمّة أسئلة مُشابهة يمكن طرحها في سياق نشوء الكون.

ومن كل الكلام السابق توصلنا إلى الآتي:

  1. إنّ الكون ليس سرمدياً، وليس مُوغلاً في القدم، بل حدثٌ عارض له بداية ونهاية، هيوستون أكرر، الكون حادث وليس أزلياً أو سرمدياً!
  2. الكون نشأ من العدم، ومن عدة ظواهر لا تتقبلها الفيزياء الحالية.
  3. سار الكون بطريقة منظمة ليظهر بالشكل الحالي.
  4. الشكل الحالي للكون مقصود حتى نخرج – نحن البشر – بهذه الكيفية،

وهذا ما دفع العُلماء إلى التفكير للأعلى قليلاً، والتفكير في خصوصية الأرض وموقعها المميز والتفكير أيضاً في المبدأ البشري.

الموقع المميز

لا أعلم إن كانت تلك التفسيرات مقنعة أم لا، لكن كما يبدو أنّ العلم لا يقدم إجابات جاهزة، وإنك إذا لم تُعمل عقلك في العلم، فأنت حتماً أحد الأتباع المنقادين، التفسيرات السابقة صعبة القبول لأن العقل يميل إلى التفسير المنطقي الذي وضعه كثير من العُلماء والكتب، كما كتاب الكوكب المميز [7] إذ يبرهن الكتاب على أنّ كوكبنا في الكون قد صمم لكي يتم اكتشافه، فلا يوجد في الكون إلا كوكب واحد عليه الحياة، ولا يوجد إلا موزارت واحد وحيد، والأسباب كثيرة ولعلنا نسردها هنا.

في البداية هُنَاك ثلاثة أنواع من المجرات في الكون، ويؤكد العُلماء أنّ واحدة منها فقط تدعم الحياة، وهي المجرة الحلزونية، مثل مجرتنا، مجرة درب التبانة، إنها تمتلك مركزاً كروياً، وأذرع حلزونية تدور حول مركز المجرة، وبين هذه الأذرع مسافات شاسعة وبعض المجموعات النجمية، ومنتصف كل المجرات مليء بالثقوب السوداء، ومن ثم فالمنتصف هو مقبرة جماعية، ويتزاحم بين أذرع هذه المجرات نجوم السوبرنوفا، فقد تكون الأمور غير مستقرة، ويجب التأكيد على أنّ الكثافة في الأذرع أقل من وسط المجرة [8].

أما المجرات الصغيرة فلا تتزاحم بها ذرات الهيليوم والهيدروجين، لذا يصعب بناء الذرات ذات الوزن الذري الأكبر مثل النيتروجين والكربون الأساسيين للحياة.

رسم توضيحي 1 موقع المجموعة الشمسية في مجرة درب التبانة.

ولكي يكون خيار تَكوُّن حياة أمراً ممكناً، فإنّه يجب أن يقع الكوكب على حافة إحدى أذرع المجرة، فلا المنتصف مناسب، ولا الأذرع نفسها مناسبة، بل الموقع المشابه لموقعنا، وموضع مجموعتنا الشمسية هو الموضع المناسب لكي تتكوّن عليه الحياة، وهذه النتيجة تُقلل بشكل دراماتيكي إمكانية وجود حياة في مجرتنا والمجرات المجاورة، فواحد من ثلاثة أنواع من المجرات يصلح للحياة، وعلى منطقة حافة الذراع لا بعيد كلياً عن مركز المجرة فقط، ولا قريب منه كلياً، ولا مجرة صغيرة جداً ولا مجرة كبيرة مزدحمة جداً.

أيضاً، وقوعنا في هذه المنطقة تحديداً، يجعلنا كمن يقف على نافذة المجرة، فهذه المنطقة الوحيدة التي تسمح لنا باستكشاف الكون بالوضوح الذي نراه، ولو كنا في مجرة مزدحمة أو أقرب إلى المركز لما تمكنّا من رؤية سماء الكون بشكل واضح على الإطلاق، وستقول لي صدفة وجودنا على الشباك، ولكن أقول وجودي على نافذة في فرنسا الساعة 12 ليلاً في مدينة ما في فندق ما وأرى مونيكا بلوتشي على شرفة النافذة التي أمامي وترمقني بغمزة، لهي قوة شيطانية وليست مُجرَّد صدفة، فلا يوجد محظوظ مثلي في كل المجرة.

ولكن المجرات تتحرك، وهذا يعني أنّ موضعنا يتغير في المجرة نفسها، ويتغير في الكون، وهذا صحيح، لكننا على هذه الحالة منذ 4.5 مليار عام في المنطقة نفسها، وهذا الثبات يعود إلى موضع الشمس النادر، فهي إحدى النجوم المميزة التي تقع على نصف قطر الدوران المُشترك للمجرة وكأنّ هذه الصدفة أن أجد مونيكا تنتظرني منذ 10 سنوات على الوقفة نفسها حتى آتي وأراها.

هذا الموضع للمجموعة الشمسية في منتصف القطر، لا قريبة من المركز، ولا بعيدة، إضافةً إلى تحركها بنفس سرعة دوران الأذرع الحلزونية يجعلها متميزة عن مليارات النجوم في مجرتنا من ناحية السرعة أو الموقع.

لكن، ماذا عن تصادم النجوم، وتداخلها، وتجاذبها وانفجاراتها ورياحها وتأثيرها الشديد على بعضها البعض في أماكن الازدحام؟ لا تقلق فنحن في مكان آمن بعيداً عن كل هذه التجاذبات وكأن في كل مدينة باريس لا يوجد إلا مونيكا بلوتشي وأنا فقط، المدينة كلها في رحلة، ولا يوجد مصدر لأي إزعاج حينما أذهب لمونيكا للحديث معها.

لك أن تتخيل بقاء الأرض 4.5 مليار سنة رغم كل هذه العوامل في هذه المنطقة بين مليارات النجوم ومليارات المجرات لكي تتهيأ للحياة لاحقاً، لا تنسَ كم هو المليار كبير، ولا تنسَ كم تأثير ملايين النجوم الأكبر، ولا تنسَ الدقة بين كل هذه العوامل التي تتميز بها أمنا الأرض، ولكن هل هُنَاك المزيد؟

نعم، هُنَاك المزيد، فبالإضافة إلى نوع المجرة وحجمها وكثافة عناصرها وشكلها ومكان المجموعة على الأذرع وسرعتها وثباتها، هُنَاك عوامل أخرى، مثلاً نوع الشمس، فليست كل الشموس سواء، فشمس الأرض ليست كشموس الكون، وهل تتساوى شمس.. حجمها كان لك بشمس حجمها أثْكَلك!

هُنَاك أنواع مُختلفة من النجوم، هُنَاك الزرقاء والبيضاء والصفراء والبرتقالية والحمراء، وهي مرتبة حسب توهجها وعمرها، فالنجوم الزرقاء هي الأشد حرارةً وتوهجاً، وهُنَاك النجوم الكبيرة والمتوسطة والصغيرة والقزمة والعملاقة والمستعرة والنيترونية وغيرها، لكن شمسنا هي من النوع الذي يشكل 10% فقط من نجوم مجرتنا المناسب لتشكيل حياة، فدرجة حرارتها، ونوع إشعاعها مثل الأشعة فوق البنفسجية، والأشعة تحت الحمراء بدرجة معينة حتى لا تفنى الحياة فلا تتبخر المياه ولا تموت النباتات، ولا تتجمد المياه لو كانت درجة الحرارة أقل قليلاً، بل لو كانت الشمس أصغر حجماً لقلّت سرعة دوران الكوكب، وبذلك سيطول الليل والنهار، ولطالت فترات الحرارة والبرودة، ولن تصمد الحياة، حتى دورة البقع الشمسية sunspot cycle لنجمنا وعزيزتنا الشمس متوسطها 11 سنة وهي لا تتغير إلا بمقدار ضئيل يصل إلى 1 من 1000 درجة، وهذا يعادل احتمال أن تكون مونيكا على تلك الشرفة حينما أقف على النافذة وتكون في مكان ليس بعيداً عني فأتحسر، أو قريباً مني فأخجل، ولا يكون مبناها عالياً كثيراً، ولا أكون أنا عالياً كثيراً، وتكون الإضاءة مناسبة، فلا أقع من التحديق ولا أضطر إلى استراق النظر.

حسناً، إنّ بُعد الأرض عن الشمس يُشكل قيمة مناسبة ونادرة لتكون الحياة، فلو كانت الشمس أبعد لكانت الأرض أكثر برودةً، ولو كانت الشمس أقرب لكانت الأرض أكثر حرارةً، وسرعة دوران الأرض حول نفسها والشمس يمنعان من ابتلاعها أو طيرانها بعيداً في الفضاء، بل حتى موضع الكواكب الأخرى وحجمها لهو أمرٌ مُثير كلياً، فحجم كوكب المشتري وموضعه مناسبان لحماية الأرض وجذب الكويكبات والمذنبات بعيداً عن الأرض طوال تلك السنوات، وكذلك يفعل المريخ، المشترى وحده يمنع اصطدام المذنبات أكثر بألف مرة أثناء وجوده من عدمه.

ودعونا لا ننسى فضل قمرنا الصغير، القمر الوحيد الذي يدور حولنا، وإلا لكنا مثل عطارد أو الزهرة، صحيح أنّ الكواكب الأخرى لها ما لنا مثل قمر المشتري جانيميد، ولكن ليس بالدرجة التي يحظى بها كوكب الأرض، فبالإضافة إلى مسؤوليته في عمليتي المد والجزر المهمة على الأرض، فهو يحافظ على دوران المياه في المساحات الشاسعة، وكذلك يوزع الحرارة فيقلل من فرق درجات الحرارة على هذا الكوكب المميز، ويساعد الكائنات البحرية في الحصول على طعامها بطريقة غير متوقعة.

الجدير بالذكر أيضاً دور القمر في ميل محور دوران الأرض 23 درجة، الذي جعل أمر تشكُّل الفصول ممكناً، وكذلك تنوع درجات الحرارة، ولو كانت نسبة الميل أكبر أو أصغر قليلاً لاختلف الأمر كثيراً، كذلك لو كان القمر أكبر أو أصغر لاختلف التأثير، فلو كان قمرنا أكبر لزادت حدة المد والجزر، ولغمرت المياه مناطق أوسع من اليابسة، وهكذا دواليك، ويبدو الموضوع بسيطاً لأني لا أستخدم كلمات مثل، التناسق العجيب، المكان النادر، المسافة المعجزة، السرعة المُدهشة، الحجم المنفرد، التصميم العبقري وغيرها من الكلمات الرنانة، لأنني أسرد بهدف الفكرة، ودليل واحد منهم يكفي لتحطيم فكرك وجعله أشتاتاً في كل مكان، ولكن، ماذا عن كوكب الأرض؟ هل هو مميز للحياة؟

كوكب الأرض

إنّ كوكب الأرض ليس كأي كوكب آخر، بل هو كوكبٌ يكاد يكون فريداً لو لم يمسسه البشر، ولدى هذا الكوكب ما يميزه عن باقي الكواكب، فكوكب الأرض ليس كوكباً مصمتاً من الداخل، ونجد داخل الكرة الأرضية طبقات مُختلفة وصولاً إلى نواة الكوكب المكونة من معادن منصهرة، هذه المعادن تجعل باطن الكوكب له ضغط يعادل ثلاثة ملايين مرة الضغط على سطحها، والبوصلة لا تعمل إلا لأن الأرض عبارة عن مغناطيس ضخم قلبه حديد ونيكل في صورة منصهرة، ولهذا الأمر فوائد كثيرة في استمرار الحياة على سطح الأرض وتدفق الرياح والمياه وامتصاص الإشعاعات.

يدور قلب الأرض المنصهر بسرعة معينة ودرجة حرارة معينة، ومن البديهي أنه لو زادت أو نقصت لاختلف سير العمليات على الأرض، فمثلاً لو زادت درجة لعمّت الزلازل والبراكين الأرض مثل قمر المشتري أيو، ولو نقصت لتصلب باطن الأرض ولاحتجنا لعملية إنعاش كما في فيلم The Core، ولو توقفت مغناطيسية الأرض لمتنا منذ زمن طويل، بالإضافة إلى أنّ المجال المغناطيسي للأرض يحمينا من الرياح الشمسية وذلك بإزاحته لجُسيمات ريحها المشحونة بعيداً عن الأرض كما في (شكل 10 التأثير الواقي لمجال الأرض المغناطيسي)، وهي جزئيات مشحونة من الشمس ضارة جداً، ولا تحمي الإنسان فحسب، بل تحمي الحيوان والنبات بالقدر نفسه [9]، وهذا المجال كبير جداً لحمايتنا يصل مداه إلى 36 ألف ميل في الفضاء الخارجي، ولعل ظاهرة الشفق القطبي نراها بسبب هذه الرياح.

لا ننس أنّ كثيراً من الدراسات تفيد بأن الحيوانات تستفيد من هذا المجال المغناطيسي بشكل كبير، فمثلاً هجرة الطيور والأسماك تعتمد عليه، فكيف تعرف الطيور الصغيرة طريق عودتها، وكذلك أسماك السلمون، فلم يُعطِها والديها خريطة جوجل للعودة، ستستغرب وتقول إنّ للحيوانات حساسات مغناطيسية، سأقول لك نعم! وهذا ما هو ظاهر للعلماء.


شكل 10 التأثير الواقي لمجال الأرض المغناطيسي.

جاذبية كوكب الأرض جاذبية مميزة، فهي مناسبة كي يكون لنا غلاف جوي، ولا داعٍ للتعريف بغلافنا الجوي الذي يحمينا ويجعلنا نتنفس ويجعل عشرات الأمور ممكنة وحده فقط، فلو كان الغلاف الجوي أكثر كثافةً لكانت الأرض أشبه بفرن مستعر، والعكس صحيح، ونحن نعلم أنّ الجاذبية مرتبطة بحجم الكوكب، فلو كان حجم كوكب الأرض أكبر قليلاً لازدادت جاذبيته، ومن ثَمَّ سيزداد وزن الكائنات الحية، والوزن هو حاصل ضرب الكتلة في عجلة الجاذبية الأرضية، ولازداد الضغط الجوي بشكل كبير لأن الغلاف الجوي سيكون مضغوطاً، ولرأينا الكائنات الحية سمينة وقزمية، ولنسينا فكرة القفز كلياً.

ولو كانت الجاذبية أكثر كثافةً، لتشكلت سحب من غاز الميثان كما في قمر زحل تيتان، وكما غلاف تيتان فإن غلافنا هو الوحيد المكون بدرجة أساسية من النيتروجين، ولو زادت نسبة الأكسجين بدرجة معينة لما كانت الحياة، ولو نقصت كذلك لفنيت الحياة، ولو زاد ثاني أكسيد الكربون لحدث الأمر نفسه، والأمر مرتبط بدرجة الحرارة على الكوكب وبقدرة الكائنات على التنفس، وبعمليات الاحتراق كذلك (سواء احتراق الوقود أو الاحتراق الحيوي)، وبسبب هذه الجاذبية المناسبة ندور على كوكب الأرض بسرعة 110 كيلو متر في الساعة ونبقى كما نحن ويبقى غلافنا العزيز كما هو، ولعلنا نمر مرور الكرام عن الغازات مثل النيتروجين والأكسجين وثاني أكسيد الكربون ونسبهم المتفاوتة، ولكن كل نسبة منهم دقيقة وخطيرة، فمثلاً كل ما يتكلم عنه العُلماء من أثر الدفيئة على كوكب الأرض بسبب التقدم الصناعي هو زيادة طفيفة في نسبة ثاني أكسيد الكربون من 300 جزء في المليون إلى 400 جزء في المليون أي 100 جزء في المليون فقط.

ولو اختلفت سرعة دوران الأرض ربما رأينا يومنا أطول من سنتنا كما في كوكب الزهرة إذ يعادل يومه 243 يوم أرضي، وسنته 242 يوم أرضي، وهذا يعني ظلاماً دامساً وموت النباتات وبرودة قارسة، ولو حدث العكس لكان لدينا شروق وغروب كل ساعة وساعتين ولشعرت زوجتي بالملل من تكرار إعداد الفطور لي.

بالإضافة إلى نظام طبقات الأرض، فإن للصفائح التكتونية التي تشكل القارات والجبال والأنهار والبحار والمحيطات دور كبير في تشكيل سطح الكوكب وسير العديد من العمليات المتوافقة مع حركة الصفائح، ولها دورٌ مهم في بناء القارات وبقاء الحياة، فلو كانت أقل سُمكاً لحدثت الزلازل والبراكين، ولو كانت أكثر سُمكاً لفقدت الأرض الكثير من مزاياها القارية ولفقدت دورها في تنظيم الغازات على الكوكب أيضاً! وكذلك بُعد مسافة الأرض عن الشمس، ولو كنا أبعد عن الشمس لكنا مثل باقي الكواكب من حيث البرودة، وكانت المسطحات المائية مجمدة وبلا حياة، ولو اقتربت أكثر قليلاً لتبخر الماء وانعدمت الحياة.

الغلاف الجوي

شكل 11 معدلات ثاني أكسيد الكربون.

منذ عام 1950م، ارتفعت نسبة ثاني أكسيد الكربون إلى فوق 280 جزء في المليون، وزادت عن 340 حتى وصلت إلى 400 جزء في يومنا هذا، وهذه الزيادة البسيطة تعادل ذوبان ثلاث ملاعق من السكر في طن من الماء، هذا الأمر الذي أدى إلى رفع درجة حرارة الكوكب درجة مئوية واحدة، ولعلك تعتقد أنّ هذا أمر ٌهيّن، فدرجة واحدة تعنى ذوبان الجليد، وغرق الشواطئ والجزر واختلاف الحياة البحرية والنباتية والحيوانية، وموت بعض النباتات أي موت الحيوانات التي تتغذى عليها لذا فالعملية مُعقَّدة جداً ومتراكبة.

فوائد الغلاف الجوي للأرض كثيرة لا يمكن حصرها، وتغيير أبسط مكون من مكونات الغلاف الجوي يهدد الحياة على كوكب الأرض مثل اتساع ثقب طبقة الأوزون، الأمر الذي جعل العالم يقف متكاثفاً لحمايته؛ فلطبقة الأوزون فوائد جمة، إنها تحمينا من الأشعة فوق البنفسجية الضارة التي تُسبب السرطان، وكذلك تحافظ على درجة حرارة الكوكب، ويحمينا الغلاف الجوي من الشهب والنيازك التي تصيب الأرض، فكم كبير منها يحترق في الغلاف الجوي قبل أن يصلنا.

بل وحتى تكامل كثافة الغلاف الجوي ومكوناته مع الجليد ومع المحيطات يحافظ على عكس كمية مُحددة من ضوء الشمس بما هو معروف بتأثير ألبيدو تحت معامل 0.39، لأنه لو قلت نسبة انعكاس الإشعاع الكهرومغناطيسي أو زادت فإننا سنتجمد أو سنتبخر، بل حتى كثافة الهواء الحالية مناسبة للتنفس ومناسبة للرئة لكي تقاوم الهواء وتقوم بعملها بشكل صحيح، ولك أن تتخيل أن تملأ بالوناً بالهواء، أو أن تملؤه بالعسل، هُنَاك فرق كبير جداً، ولو كان الغلاف الجوي أقل كثافة من الحالي، لما تشكلت الغيوم ولما وُجدت المياه على سطح الأرض، بل لتبخرت وطارت في الفضاء كما حدث مع كوكب الزهرة قبل ملايين السنين، إذ تبخر الماء وانتهى من الكوكب.

النطاق الصالح للحياة

إنّ النطاق الصالح للحياة Circumstellar Habitable Zone هو المنطقة المحيطة بأي نجم وتصلح لتكوين حياة عليها، إذ يجب توفر شروط معينة في كل من الكوكب والنجم لجعل الحياة ممكنة، على سبيل المثال النجوم من النوع المُستعر الأعظم تُطلق أشعة قاتلة تجعل من الحياة أمراً مُستحيلاً، وكذلك تتأثر درجة حرارة النجم بعمره ولونه، فالنجم الأحمر قد قارب على الفناء، وبذلك تكون له درجة معينة من الإشعاعات والحجم والحرارة وهي لا تصلح للحياة، وباقي النجوم كذلك عدا النجوم البرتقالية كما شمسنا، فحرارتها وإشعاعاتها مناسبة للحياة عند مسافة معينة، والحسابات كثيرة ودقيقة جداً، وهي مُرتبطة أيضاً بعوامل في الكوكب نفسه كما أسلفنا مثل الغاز والماء والكثافة والغلاف الجوي وغيرها، وتحددها عوامل أخرى مثل الكويكبات والكواكب المحيطة والأقمار، وثمّة أهمية عالية لكوكب المريخ والمشتري كما ذكرنا تجعل الحياة على الأرض ممكنة.

تبعد عنا الشمس مسافة 8 دقائق وثانية ضوئية، ويبعد عنا القمر ثانية ضوئية واحدة، ولو اختلف بُعد القمر لما حدثت الظواهر المرتبطة به مثل المد والجزء، ولو اقترب لاصطدم بنا كما سيحدث مع قمري المريخ فوبوس وديموس يوماً ما، مع العلم أنّ قمرنا يبتعد عنا 2 سم سنوياً، ولو كبر حجم القمر أو صغر فستختلف الكثير من الأمور مثل المد والجزر، وسيتباطأ دوران الأرض حول نفسها، مما سيُؤَدِي إلى اختلاف مواعيد الليل والنهار وكذلك اختلاف في ميل محور الأرض، وبهذا سيحدث اختلاف الفصول واختلاف تنوع الكائنات.

ولكن، ماذا عن الضوء الصادر من النجوم! فالأطوال الموجية للإشعاعات الضوئية ما بين قيمة عليا ودنيا متباعدة جداً (10^25) وهو رقم واسع وله تأثير على الحياة، والأطوال الموجية القادمة من الشمس تتنوع وتختلف، لكنها ضمن إطار ضيق هو 0.2 – 1.50 مايكرون وهو رقم ضئيل جداً جداً بالمقارنة بالأطوال الموجية، وبالمناسبة هذا هو الرقم المناسب للحياة.

وماذا عن صلاحية هذه العوامل على باقي الكائنات الحية؟ كالنباتات التي تعد مصدر الغذاء والحياة على الأرض، نعم السؤال صحيح والإجابة نفسها، فعملية البناء الضوئي متوافقة بدقة مع ضوء الشمس، وليست أي شمس، شمسنا العزيزة، وكأن مهندساً واحداً صنع القفل وصنع مفتاحه، ويقول البروفيسور جورج جرينشتاين: إنّ النباتات لم تكن لتنجح أو تتأقلم أو تتطور مع ضوء آخر بموجات أخرى، فاقطع عن نفسك التفكير هذا، وكذلك هذا الضوء مناسب لنباتات البحر، يبدو أنّ المهندس لم ينسَ شيئاً من خريطة الإنشاء.

مهلاً، أليس من التعليمات المهمة في يوم الكسوف ألا ننظر للشمس مباشرة لأنّ إشعاعها سيؤذينا؟ ألا يعني هذا أنّ ضوء النجوم ضار للعين ومؤذٍ؟ هذا الكلام صحيح وأحييك لو فكرت فيه، إذ يرى العُلماء أنّ الأطوال الموجية الملائمة لحاسة البصر لدى الكائنات الحية هي الأطوال الموجية من الطيف الشمسي الخاص بنا مع وجود الغلاف الجوي الحالي مع وجود الطبقات المُختلفة التي تسمح بدخول جزئي للأشعة فوق البنفسجية وغيرها من الأطوال المُختلفة.

هذا كله يجعل كوكب الأرض كوكباً فريداً؛ فحجمه وموقعه ومحيطه وخصائصه لا يمكن أن تتكرر في هذا الكون مرة أخرى، ومن بين ملايين ملايين الاحتمالات المُستحيلة، ظهر كوكب الأرض بهذه المزايا، بل وعلى ما يبدو أنه متوافق مع الحياة التي ظهرت عليه وكأنه صُمم خصيصاً لهذا الغرض، ولهذا عزيزي كوكب الأرض، عليك بالفخر مرة أخرى، والشعور أنك لست كأي كوكب، فأنت الكوكب المميز الوحيد.

نظرية كل شيء

في الحقيقة، رغم التقدم الكبير في مجال علوم الكون إلا أنه لا شيء نهائياً فيها، فثَمّة اختلافات بين العُلماء في النظريات، مثل معضلة المعلومات Information Paradox، فالنظرية النسبية تقول إنّ المعلومات تختفي في الثقب الأسود، وعلى الجانب الآخر تقول نظرية الكم إنّ البيانات لا تختفي وتبقى في أفق الحدث، هذا يدفع العُلماء إلى العمل الدائم في محاولة البحث عن حل لهذه المعضلات.

نظرية كل شيء هي حلم العُلماء منذ عصر نيوتن، في كل فترة كانوا يعتقدون أنهم أطبقوا القبضة أخيراً عليها إلى أن يأتيهم من يقض مضاجعهم بنظرية جديدة، نظرية M أو نظرية كل شيء هي أمل العُلماء في حل كل هذه المشاكل، وهي تعتمد على نظرية الأوتار الفائقة في أساسها، هي تفسر أنّ الكون في أدق جزيئاته مكون من أوتار مُختلفة مثل وتر العود، هذه الأوتار تهتز بطريقة معينة فتنتج الجُسيمات الأولية التي نعرفها مثل الميزون والبوزون وغيرها، ولكن بنسب معينة.

تفسر هذه النظرية بعض المفاهيم الحالية، ولكنها تضع عقباتٍ أكبر في مواضع أخرى، وهُنَاك تعقيدات تَفُوق حتى عقول أكبر العُلماء، فنحن بالكاد تخيلنا كون من 4 أبعاد، فما بالكم بتخّيل كون من 14 بعداً، مشاكل التناظر المرآتي في أشكال كلابي ياو تجعلك تدخل في جحر أليس ولا تخرج منه، أما أكبر مُشكِلة لا يستوعبها العقل ببساطة هي الأكوان المتوازية التي أنتجها العلماء لحل مشاكل في النظرية، فأنتجوا عقبات غير مقبولة، لكن الحق يقال إنّ العالم ستيفن تراجع عن فكرة أنه يمكن للثقب الأسود أن يقذفك في كونٍ آخر، وتراجع كذلك عن وجود نظرية M واعترف بعدم جدواها.

إنّ التناظر العجيب في الكون في أبسط صوره يجعلنا نفكر بعمق؛ فالبروتون موجب والإلكترون سالب، وكلاهما يحملان الشحنة نفسها مع أن كتلة البروتون أكبر بما يزيد عن 1800 مرة عن كتلة الإلكترون، قد يخرج من يفسر هذه الصدفة العجيبة أنها صدفة واحدة تحدث في مليارات الأكوان المتوازية المُختلفة، وهي فرصة بعيدة بل خيالية، وبعيدة عن كونها علم، فالعلم جاء ليفسر ويبسط، لا ليضع نماذج مُستحيلة، وقد يخرج من يقول إنّ هذا التشابه في تكوين الذرة يساوي التشابه بين دوران الكواكب حول الشمس، وهذا دلالة على مصمم واحد لهذا الكون، كلها أفكار، ما الجدوى منها؟ لا أعلم حقيقة، لكن أشعر أنّ جدواها قريب من جدوى الكلام المكتوب هنا عن نظرية كل شيء.

أَتُراني كُنتُ يَوماً نَغَماً في وَتَرِ ….. أَم تُراني كُنتُ قَبلاً مَوجَةً في نَهرِ

أَم تُراني كُنتُ في إِحدى النُجومِ الزُهرِ ….. أَم أَريجاً أَم حَفيفاً ….

لَستُ أَدري

الماء

لو كنتَ درستَ الفيزياء الطبية في الجامعة ورسبت بها، لعلمتَ مدى أهمية الكتب التي تتحدث عن الجُزيء المُعجزة، جُزيء الماء، نعرف أنّ حالات المادة الثلاثة المشهورة هي الصلبة والسائلة والغازية، في حالة المادة الصلبة تكون ذرات المادة شبه ثابتة ولا تتحرك، وكذلك في الوسط الغازي تكون المسافات بعيدة جداً وتتحرك بطريقة لا تسمح بتكون تفاعلات كيميائية حيوية، لكن الوسط السائل هو الوسط المناسب لحدوث التفاعلات الكيميائية، حاول أن تشرب الشاي بالسكر دون سائل، لحظة! لا معنى أصلاً لكلمة تشرب دون الحالة السائلة!

الذوبان هي إحدى خواص السوائل، ذوبان الملح في الماء عملية مُدهشة جداً، فجزيئات الملح تختفي بين فراغات جزيئات الماء بطريقة كيميائية مخططة، وهذا أمرٌ يجعل التفاعلات الكيميائية مُمكنة، ولولا الذوبانية لما رأينا التفاعلات الحيوية التي تحدث بالمليارات كل ثانية داخل جسم الإنسان، تخيّل ترعاك عشتار لو أنّ الكون حينما انفجر وانطلق ليبلغ لاحقاً قد تكونت فيه حالات المادة وكانت الحالة الصلبة والسماقية والغازية، والحالة التي كنت تعرفها باسم الحالة السائلة لم تتكون فيه، أليس هذا احتمال كبير جداً في كون يسير بالصدفة كما يقول علماء الطبيعة ونظرية M!

هذا السائل الذي لا طعم ولا لون ولا رائحة له، مميزٌ عن كل السوائل الأخرى التي غالباً لها لون أو طعم أو رائحة، هذا المذيب العالمي الذي يعتبر من المواد الرخيصة على الأرض، لهو أغلى المواد في باقي الكون، يعد الماء حالة خاصة مُختلفة عن بقية السوائل؛ فالسوائل حينما تنخفض درجة حرارتها كباقي الحالات الأخرى يتقلص حجمها، وحينما تتقلص وتنكمش تزداد كثافتها، وهذا يعني أنها تصبح أثقل، وبذلك يجب أن تهبط للأسفل، إلا عزيزنا الماء، إذ يتقلص حجماً وصولاً إلى درجة حرارة 4 مئوية، ثم يبدأ حجمه بالتمدد! لذلك نرى الثلج يطفو فوق سطح الماء وليس العكس، ولتعلم مدى أهمية هذا الأمر البسيط الذي قد تقول عنه صدفة، انظر للمحيطات والبحار! وتخيل ترعاك عشتار مرة أخرى لو أنّ الماء حينما يتجمد يهبط للأسفل، أخبرني كيف ستعيش الكائنات؟ وكيف ستتحرك في مكان كله مجمد؟! إنّ تجمد سطح الماء عند درجة 4 مئوية يمنع تجمع المحيطات ويمنع وصول حرارة مياهها للصفر في عملية دقيقة ومصممة في عدة خطوات وكأنها خوارزمية برمجية كتبتها المهندسة أمل، ولعلّك تفكر هنا عن فوائد تمدد الماء حين التجمد في الصخور والمساهمة في تفتيتها ونقل المعادن المُختلفة في الكائنات الحية.

في الفيزياء هُنَاك شيء يُسمى السعة الحرارية Heat Capacity، وهي ببساطة قدرة المواد على حفظ وتخزين الحرارة، والماء من أكثر السوائل التي تحفظ الحرارة، إذ يغلي عند درجة حرارة 100 درجة مئوية، سوائل أخرى تغلي عند درجة حرارة 30 مئوية وبعضها عند 40 مئوية، الكحول مثلاً تراه يتطاير بمُجرَّد وضعه على الجلد، هذا لأن درجة غليانه ليست بعيدة عن درجة حرارة الجسم، السعة الحرارية العالية للماء تجعله يحتفظ بالحرارة لمدة طويلةً جداً مقارنة بباقي المواد، وتجعله يسخن ببطء مقارنة بباقي المواد، مثلاً مقارنة بقطعة المعدن، فنرى الغلاية تسخن بسرعة وتبرد بسرعة، أما الماء بها فيتأثر أقل من المعدن، هذه الحرارة النوعية للأجسام المليئة بالماء لها تأثيرات على الكوكب لا يمكن تخيلها.

فنسيم البحر للمدن القريبة من الشاطئ أمرٌ ملحوظٌ جداً، في النهار تخزن البحار كميات كبيرة من الحرارة وتبدأ تفقدها تدريجياً في الليل بعكس رمال الشاطئ، فلو جلست على شاطئ البحر ليلاً ستجد أنّ الماء أكثر دفئاً من الرمال، وفي النهار تجد أنّ أشعة الشمس قد سخنت الرمال أسرع من ماء البحر أو ماء المحيط، لذلك في المناطق الساحلية تجد عدم تقلب شديد لدرجات الحرارة كما المناطق القارية، وذلك بسبب نسيم البحر، نسيم البحر له دور هائل في حفظ الحياة في الكوكب، ولولاه لتحولت الكرة الأرضية إلى مكان متقلب الحرارة، ولما استطاعت الكائنات من العيش بما في ذلك النباتات، إنّ حفظ المناخ وتيسير التحولات المناخية هي إحدى اللمسات الهندسية المُمكنة بسبب الماء فقط.

لنكتفي بهذا عن النسيم ونعود إلى جسم الإنسان، تخيّل لو أنّ السائل الأساسي الذي يجري في جسم الإنسان هو الكحول، وتخيّل أنك خرجت في ليلة باردة من ليالي الشتاء لشراء حاجيات للأستاذة جينا بعد أن أصرّت عليك، ماذا سيحدث لك؟ لن تتخيل! إنك ستتجمد بسرعة، ستفقد حرارة جسمك بسرعة شديدة ليست كما لو كان جسمك مكون من ماء، ولنفترض أنك عدت قبل أن تتجمد وجلست بجانب المدفئة، فحينها ستغلي مكونات جسمك بسبب غليان السائل الأساسي لو كان كحولاً، أو لنقل لو كان أي شيء غير الماء، فالماء يلعب دوراً لا يمكن وصفه في حفظ درجة حرارة الجسم وتغييرها ببطء حتى لا نفنى ونموت.

التوتر السطحي

ماذا عن التوتر السطحي للماء؟ هل هو أمرٌ مُهم؟ دعني أخبرك أنه أمر بالغ الأهمية؛ فالتوتر السطحي هو الطبقة التي تتكون على سطح السوائل نتيجة جذب الجزيئات لبعضها البعض، فتكون سطح يبدو كما لو أنه جلد، هُنَاك سوائل لديها توتر سطحي عالٍ وهُنَاك سوائل لديها توتر سطحي منخفض، والماء من السوائل ذات التوتر السطحي المرتفع، لو نظرت إلى أي كأس ماء بخط مستقيم بين عينيك وسطح الماء، ستجد أنّ هُنَاك خط ظاهر، أخبرني هل هو مُحدب أم مُقعر، لنِرَ حس المغامرة والاستكشاف لديك.

هذا الجلد له مشاهدات عديدة، فترى الحشرات تمشي على الماء مثل البعوضة بل وتضع بيضها بطريقة هندسية كأنها درست الفيزياء، ويمكنك أن تضع ورقة شجر فتطفو أو حتى إبرة، وهنالك تطبيقات عملية مثل الملابِس المضادة للماء، وهو ما يجعل كائن مثل الباسيليسق (الحقحق أو Basiliscus) لديه قدرة الجري على الماء، لا تكن بسيطاً وتخبرني أنه عرفها صدفة عبر تجريبه أن يجري فاكتشف التوتر السطحي، أرجوك، لا تجعل البيسيلسك أذكى منك، ولا تخبرني أنه رأى المسيح فتعلم منه، آآآه علمنا الآن لماذا سار على الماء يسوع المسيح، لقد كان خبيراً في الفيزياء!.

تعلم الآن لماذا الصابون يُنظف الأوساخ، لأن الصابون يخفف التوتر السطحي للماء، وهذا الأمر أدى لاحقاً إلى صناعة المؤثرات السطحية Surfactants المشهورة اليوم التي تنظف أصعب الأوساخ، وتدخل في مجالات فيزيائية كثيرة.

لنعود إلى الفائدة الأهم للتوتر السطحي، إنها الفائدة التي تجعلنا أحياء! فلولا التوتر السطحي المرتفع للماء مع المواد المحيطة به لما استطاعت النباتات نقل الماء إلى الأعلى، لعلك تنتبه كل يوم إلى الأشجار العالية التي تنقل الماء إلى أمتار طويلة بها دون مضخة مياه، وتساءلت حتماً عن السبب، لأنك تملك عقلية المستكشف والباحث، دعني أخبرك أنّ السبب يعود إلى التوتر السطحي للماء وخاصية هنا تسمى الخاصية الشعرية التي يدرسها الأطفال في المدرسة، عبر جلب أنبوبين زجاج أحدهما أرفع من الآخر فنرى الماء يرتفع في الأنبوب الرفيع أكثر من الأنبوب الآخر، ويستمتع الأطفال بفكرة الأواني المستطرقة وفكرة نقل الماء إلى المنازل في هذا الدرس الجميل، بالتأكيد للتوتر السطحي فوائد حيوية كثيرة، لا يتسع نقاشها هنا، فقط عرضنا مثالاً واحداً بالغ الأهمية.

ولكن ماذا عن انسيابية الماء؟ ماذا لو كانت انسيابيته كالعسل أو كالكحول؟ هل سيكون له تأثير على جسم الإنسان؟ هُنَاك أبحاث تخبرنا أنّ مريض السكري حينما تزداد لديه نسبة السكر في الدم، فإن الدماء تصير أقل انسيابية، مثلاً السكر في الماء يجعله كثيف وغليظ أكثر ويشبه قطر العسل، وهذا ما يُؤَدِي إلى زيادة أمراض القلب والشرايين، وسيصبح انتقال الدم في الشعيرات الدموية عملية صعبة ولها تبعات أخرى، وهذا على المستوى المرئي، أما على مستوى الخلايا والتفاعلات الكيميائية فسيصبح الأمر شبه مُستحيل؛ لأن حركة الجزيئات ستكون صعبة جداً، أي أنه لن تكون هُنَاك حياة لو كان سائل غير الماء هو الأساس، لعلك تعلم الآن لماذا أغلب جسمك مكون من الماء، ولماذا الدم وحده مكون فيما يزيد عن 95% منه من ماء.

إن انحلالية (ذوبانية) الأكسجين في الدم تعتمد على جُزيء الماء وخصائصه، ولهذه الذوبانية نسبة نادرة تكاد تكون 1 من مليون بالنسبة للغازات الأخرى، ولو كانت النسبة أقل أو أكثر لكانت هُنَاك صعوبة في حفظ الأكسجين ونقله في الدم، فحينها إما سيصل الأكسجين إلى الدم بكمية أقل وبذلك فناؤنا، أو سيصل بكمية أكبر وبذلك فناؤنا أيضاً، نحن نعلم أنّ الأكسجين يشكل عبئاً على الخلية، وهذا ما تقوم به دورة كريبس للتخلص منه دورة حمض الليمون، ولعلك سمعت بالاختناق بالأكسجين ذات مرة، سنعود إلى الماء مرة أخرى في الفصل القادم حين الحديث عن الحياة، أبحاث علمية كثيرة تتكلم عن هذه الجزئية البسيطة من العالم المحيط بك، الماء! سيُدهشك جزيء الماء المعجز إن يحق لي استخدام هذه الكلمة، جزيء الماء المعجز في كل جزء من جزئياته، مُعجَز في تفاعل جزيئاته ببعض، مُعجَز في ذوبانيته، مُعجَز في نقله للإلكترونات، مُعجَز في كل شيء.

والماء من الجوانب الجميلة التي يتفق فيها العلم مع الدين، إذ يقول الكتاب المقدس “وروح الله يرف على وجه المياه” (تك2:1)، وقال أيضاً: “لتفض المياه زحافات ذات أنفس حية، وليطر طير..“، ويقول القرآن بوضوح “وجعلنا من الماء كل شيء حي” فلا حياة لأي كائن إلا بالماء، وهذا ما يقوله العُلماء، فحينما يبحثون في أي كوكب عن حياة أو إمكانية الحياة، تراهم يبحثون عن الماء، لعلك الآن تعلم أكثر من السابق لماذا دائماً يهتمون بالماء وبالماء تحديداً، بالتأكيد أنت لا تعتقد أنّ العُلماء فجأة أصبحوا كلهم مُؤمِنين لكن هذه الحقيقة البسيطة للمتدينين كشفها العُلماء بحل لغزها الكيميائي والفيزيائي بدقة كبيرة، وإن بقينا نذكر دقة كل مادة أو كل كوكب أو كل مكون في الكون لما انتهبنا.

المبدأ البشري

يعتقد أينشتاين أنّ مصمم الكون لا يلعب فيه بالنرد، بل ويريح أينشتاين الاعتقاد بأن العالم يسير وِفق قوانين منتظمة مترابطة ولا يسير بشكل عشوائي. حينما يخبرني أحد العُلماء أنه من الممكن أن يكون هُنَاك نسخة مني في كوكب آخر، وتكون زوجتي غير زوجتي الحالية، ولي عدوي لدود هو المعلم رشدان، هذا أمر لا يجعلني مرتاحاً، ولا يجعلني أقول أَعظِم بالكون! يريحني التفكير بأن هُنَاك نظام وتناغم، وجود التناغم Fine Tuning أمر يجعلك ألا تخاف يوماً من الاستيقاظ وإيجاد نفسك على كوكب آخر من قبيل الصدفة، هذا التناغم بالكامل يبدو وكأنّه مخصص للإنسان سيد الكون الحالي، المجرة مبنية لتكون نافذته، والكوكب مصمم ليكون قصره، وباقي مكونات المكون مفصلة على هواه، وهو ما يراه عالم الفيزياء فريمان دايسون، مع أنّ الإنسان لا شيء في هذا الكون، إلا أنه يملكه بالكامل للأسف وهو لا يستحق.

ساد في القرن الثامن عشر جوٌّ من الاعتقاد بأنّ الكون مادي بالكامل، وأنّه أزليٌّ والعلم سيفكك كل شيفراته، وهذه النظرة القديمة تلاشت في القرن العشرين حين بدأت الاكتشافات تهل على كل الأصعدة، وظهرت نظرة جديدة منطلقها المبدأ البشري، وملخصها أنّ الكون قد صُمم خصيصاً للبشر، ليلائمهم ويستكشفوه، ذكرنا سابقاً أنّ ظروف المادية نشأت بدرجة أساسية نتيجة الصدام مع الكنيسة، وبعد أن فازت المادية بدأ العُلماء إرساء أسس القوانين الطبيعية وتكوين صورة أوسع، وقد ظهرت هذه النظرة للعلماء في جو من الصفاء.

وعلى هذا بعد أن كان الإنسان كائناً يعيش في كوكب متواضع يدور حول نجم عادي مثله مثل ١٠٠ مليار نجم آخر كما في النظرة القديمة للعلم، أصبح الآن في النظرة الجديدة يقوم بدور المشارك في مسرحية كونية عظيمة، إلى جانب المبدأ الإنساني والتأكيد على أنً جميع الأحداث الكونية منذ بداية الانفجار العظيم وما تلاه من أحداث قد صُممت لتسمح بوجود كائنات واعية في مكان ما في هذا الكون الشاسع، وفي فصل من فصول مسرحه، لكي يمارس الحياة فيه ويبدأ باكتشافه، كل هذه الأدلة حملت في طياتها الإقناع الكافي بنشوء تصور كوني جديد للعالم [2].

إنّ الصراع بين النظرة المادية والنظرة الإيمانية للعالم قد اقتربت من التلاشي في هذا القرن، الخلاف الذي كان دائراً سابقاً بين العلم والدين قد اقترب من الزوال، فالعلم متصالح مع نظرية الانفجار العظيم، ومتصالح مع عظمة جسم الإنسان، ومتصالح مع الأفكار التي تقول إنّ هُنَاك عقل ودماغ، والعقل ليس هو المادة الدماغية، وهذه النقاط كانت سابقاً أساس المشكلات، إنّ المبدأ البشري لكارتر ينص على أن الكون وثوابته الجوهرية لا بُدَّ أن تكون لتسمح بقٌبول مراقبين داخله في مرحلة ما، بمعنى آخر ما معنى وجود هذا الكون دون وجود أحد يفهمه ويستوعبه، ولا أحد يستوعب هذا الكون أقل من الإنسان.

وتذهب النظرية النسبية أبعد من ذلك، فالمُشاهد في النظرية هو أساس التجربة، وليس العكس، فالتجربة تتم لأنّ المُشاهد هو الذي ينفذها، بحواسه وعقله وإمكانياته وتأثيره، ولولا المُشاهد لما كان لأي تجربة أو عملية في هذا الكون أي معنى!

وما الخلاصة!

من الواضح حسب العُلماء أنّ الكون قد نتج عن انفجار عظيم، تكونت بسببه الذرات والمادة، ثُم المجرات ثم الكواكب والأرض، ومن ثَم تكونت الأرض بشكلها الحالي، وتم كل ذلك وفق نظام مُحدد ودقيق، إذا كنت مادياً ستجد أنّ هذا محض احتمال، وإذا كنت مُؤمِناً ستقول سبحان الله، ثم تخبرني أنّ الله بعد ذلك قال للإنسان اهبط على الأرض وهي جاهزة بعد أن أنهى بنيانها، أي أنّ جزءاً تكون عبر الزمن، وجزءاً آخر هبط جاهزاً من السماء، ويرى أنصار الطبيعة أنّ كل ذلك تمَّ بلا هدف أو غاية مُحددة، ويرى المُؤمِنون أنّ هذا تم لهدف معين وواضح وبخطوات مدروسة من مهندس الكون لنحصل على كوكب صالح للحياة، وهي الغاية من كل هذا السرد، وهذا الباب المتواضع سيفتح لنا أول أبواب التفكير، باب الحياة.

صورة 1 حوار في فيلم دكتور سترينج بين مُؤمِن ومادي:

المعلم الأقدم: أنت رجل تنظر للعالم من منظور ضيق، وقضيت حياتك بأسرها محاولاً توسيع منظور رؤيتك له؛ لترى أكثر؛ لتعرف أكثر، والآن لا تتقبّل احتمالية صحة الأمر؟

دكتور سترينج: لا، إنما أرفض تقبّلها لأنّي لا أؤمن بالقصص الخرافية عن القوة الروحية وقوة الإيمان، نحن مصنعون من المادة ولا شيء غيرها، ما نحن إلا قطرة ماء ببحر عالم لا يُبالي بوجودنا حتى.

الباب الثاني: الحياة

ومن المُفترض أن تكون النظريات والقوانين على المستوى الحيوي أفضل من نظيرتها على المستوى الكمي والكوني، إذ يجب توفر قوانين ثابتة وواضحة على الأقل، إلا أننا سنرى أنه مستوى مليءٌ بفجوات كبيرة لم يُغطِها العلم، هذه الفجوات تجعل العُلماء حائرين كما لو أنهم في ميكانيكا الكم الحيوية، سيركز هذا الفصل عن الحديث عن نظرية التطور بشكل واسع، ومحاولة تفسيرها وفهم آلياتها وكيف نشأت الحياة من لا شيء أو كيف نشأت الحياة من الحياة.

وإذا أردنا الحديث عن المواضيع المتعلقة بالخلق والتطور بدقةٍ واضحةٍ وفهمٍ كافٍ لاستيعاب كل الأفكار، فإنه يجب النزول إلى المكون الأساسي لكل الكائنات الحية ألا وهو الخلية، وحينما نذكر الخلية يتوجب الإشارة إلى طريقة عملها ومحتوياتها وتفاعلاتها الكيميائية وموضوعات الوراثة والجينات، فدون فهم هذه المواضيع، لن يمكن رؤية إلا جزء صغير جداً من الصورة الكبيرة، ولعلي في هذا الفصل أتكلم عن الخلية الحيوية وجزء صغير من علم الخلية Cell Biology، ثم علم الأحياء الجزيئي Molecular Biology، انتهاءً بمواضيع في علم الجينات Genetics، وإذا كنت مختصاً يمكنك تجاوز هذه المواضيع والانتقال لما بعدها مباشرة، لكني أدعوك للمرور عليها وتذكر جزء من ذكريات الدراسة الجميلة.

ثَمّة مُشكِلة حقيقية في فهم أو تخيل أي موضوع يتعلق بالكائنات الحية دون فهم مواضيع الخلية، فحينما يتحدث شخص تخصصه مثلاً علم اجتماع، يخبرك أنه يمكن للمادة الحية أنّ تأتي من المادة غير الحية! ويضرب مثال ظهور الدود في اللبن، مستشهداً بذلك فكرة أنّ الحياة تنتج من اللاحياة، وهذا ما كان مُختلف عليه في زمن لويس باستير (التوالد التلقائي) وانتهى قبل 200 عام، فأنت تعلم حجم الأزمة الموجودة لديه والفرق العلمي الكبير، فكيف لشخص لا يعرف أنّ التوالد التلقائي انتهى أمره علمياً في يومنا هذا ويفكر أن يفهم شيئاً عن التطور، أي شخص يعرف عن علم الخلية والانقسام الخلوي والزايجوت وتعقيد الخلية، يفهم أنّ الحياة يصعب أن تأتي من لا حياة، لذلك إذا كنت غير مختص فأرجو منك الاهتمام بهذا الفصل، سأحاول تبسيطه قدر المستطاع، إذ يحتوي هذا الفصل أيضاً على مصطلحات ومبادئ لازمة لاحقاً لفهم التطور، فأرجو تجرعه بالكامل.

لا يمنحنا الدين إجابات كاملة، كيف تشكلت الأرض، كيف كان شكلها قبل مليون سنة أو مليونين، هل نزل الإنسان على الأرض وكانت هُنَاك الحيوانات، أم نزلت الحيوانات بالتدريج ومن ثم نزل الإنسان، ليس من واجبات الدين تقديم الإجابات كما يقدم نفسه، بل هي من واجبات العلم، وعلى العلم أن يكون علماً وليس خيالاً علمياً أو روايةً ترقيعيةً.

الخلية

مقدمة

حينما أطلق تشارلز داروين نظرية التطور في القرن التاسع عشر، كان العُلماء لا يزالون يؤمنون بالتوالد التلقائي، وكانوا بعيدين 5 سنوات عن تجربة لويس باستور، وكان كل تصور العُلماء في ذلك الوقت عن الخلية أنها جسم هلامي دائري مثل الفقاعة يُؤَدِي وظيفة بسيطة، مكونات الخلية وآلية عملها أمرٌ لم يكونوا يعرفونه كما يعرفه أقل طالب في الابتدائية في أيامنا هذه، أما علوم مندل الخاصة بالوراثة فقد تم البدء بدراستها في بداية القرن العشرين، أي بعد داروين بـ50 عام بالمتوسط، لذلك كان يمكن في تلك الحقبة بناء آليات وسيناريوهات عظيمة بكل سهولة، وبعد أن نخرج سوياً في جولة بسيطة مختصرة في ملاهي الخلية، سترى كم هي الخلية أعقد من أعقد مدينة في العالم، جسور وممرات وبنايات ومؤسسات ومهام متنوعة وشرطة ومهندسون وبناؤون ومنظمون وحانوتية ومقابر وبوابات وحراس، وكل ما تتطلبه مدينة كاملة؛ لكي تستمر في العمل، وهذا كله في خلية واحدة ذات دور واحد في جسم يتكون من آلاف الخلايا المُختلفة والتي يزيد عددها عن المليارات، ولعلك يجب أن تراجع الحديث عن الرقم مليار كما أشرنا الحديث عنه.

بعيداً عن الفايروسات، تُعتبَر الخلية أصغر شيء حي نعرفه، وهي أصغر مكون في الحياة، فالحياة عبارة عن خلايا مترابطة ومتشابكة، على الأقل هذا ما يقوله العُلماء إلى هذه اللحظة، تختلف الخلايا في الشكل والحجم حسب نوعها ووظيفتها، لتناسب الشكل الذي صُنعت له، مثلاً كريات الدم الحمراء لها شكل معين ودرجة عالية من المرونة تناسب انسيابها ومرورها من الأماكن الضيقة في الأنسجة، كذلك الكائنات الحية الصغيرة وحيدة الخلية مثل البراميسيوم والتي هي كان حي متكامل مكون من خلية واحدة، لديها مواصفات خاصة بها تسمح لها مثلاً بالحركة عبر الأهداب، وتكاثرها بما يلائم حالتها الحية، ولو تطرقنا إلى شكل كل خلية في جسم الإنسان وملاءمة هذا الشكل مع وظيفتها لاحتجنا إلى نقاط حبر كثيرة، وبشكل عام فإن الخلايا الحيوانية أكبر من الخلايا البكتيرية، وبشكل عام خلايا الإنسان أكبر من خلايا الكائنات الأخرى في الحجم، مثلاً الخلايا العصبية في الإنسان أكبر من الخلايا العصبية في الفئران، لكن في بعض الأجزاء من الكبد والكلى نرى نفس حجم الخلايا في الكائنات أجمع، المُختلف هو عدد الخلايا لتكون عضواً أكبر.

الخلية هي مصنع متكامل، كائن حي وحده، يتكون هذا الكائن الحي من عناصر الأرض الأساسية الستة للحياة وهي: الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين والفسفور والكبريت، ويشكل الماء الذي هو هيدروجين وأكسجين 79% من الخلية الحية، والماء مرتبط بإتمام عمليات الخلية وليس مُجرَّد وسط عادي، كما عرضنا في الفصل السابق، وكما سنعرض في هذا الفصل.

صورة 2 الخلية من الداخل باستخدام مجموعة تقنيات تصوير مُختلفة، المصدر www.digizyme.com

يتكون الجسم البشري من مئتي نوعٍ مُختلف من الخلايا، تشكل تقريباً 37 تريليون خلية في جسمه وبعض المصادر ترجعها إلى 100 تريليون خلية [10]، وارجع مرة رابعة إلى فصل المليار لتفهم معنى العدد المذكور والتريليون هو ألف مليار أو مليون مليون، ويُسعدني أن أخبرك أنّ مقابل كل خلية في جسم الإنسان، تعيش 10 خلايا بكتيرية، أي أنّ جسم الإنسان يحتوي على 370 تريليون خلية بكتيرية على أقل تقدير، تعيش بطرق شتى ولها دور أساسي في حياته.

لو أردنا عد هذه الخلايا كلها بفرضية أنّ كل رقم يحتاج إلى ثانية في عده، فإن تريليون ثانية ستساوي 31 ألف عام، أي أنّ 37 تريليون خلية هي 31000 * 37 عام، أي 1.15 مليون عام، وأنا أعلم أنك عزيزي القارئ ستمر على هذا الرقم مرور الكرام ولن تقول واو، أو تقف للحظات لتر كم هو الإنسان كائنٌ بسيط، لأنه سيصدق لاحقاً رجل بنظارات سميكة يلبس معطفاً أبيضاً حينما يخبره أنّ هذه الأرقام مُجرَّد عشوائية مع القليل من الصدفة يمكن أن تتحقق في الواقع! ولعمري ما سلّمت بكلام عالِم مباشرة، سواء كان عالم علم أن عالم دين، وفي كل موقف أعملت عقلي قدر المستطاع لأميز بين هالة العالِم أو الشيخ وقلب المنطق، فقد يكون ما عرضه العالم أو الشيخ من تجربة صحيح، لكن استنتاجه خاطئ، والعقول تتفاوت في تفسير الحدث، ومن حقي أن أفسر بما أملك من منطق.

ويرى العُلماء أنّ أي جسم تتوافر فيه على الأقل المتطلبات الثلاثة التالية نستطيع أن نعتبره خليةٌ حية [10]: أن يكون كياناً منفصلاً يحاط بغشاء سطحي، ثم أن يتفاعل مع البيئة المحيطة ليستخلص طاقة تكفيه للبقاء والنمو، وأن يتكاثر هذا الجسم. لهذا لا يتم اعتبار الفايروسات أحياناً ككائنات حية، لأن كل الفايروسات تنقصها جزء أو أكثر من هذه الصفات المهمة [11].

قد تكون الخلية كائناً كاملاً كالكائنات أحادية الخلية، وقد تكون جزءاً من كلٍ تمارس عملية مُحددة في آلة أضخم هي النسيج، والنسيج مجموعة من الخلايا المتناسقة المشابهة تقوم بعمليات مُحددة، ومجموعة الأنسجة تكون عضو في جسم الكائن الحي، ومجموعة الأعضاء تكون أجهزة، ومجموعة الأجهزة تكون كائن حي كامل، وتتكاثر الكائنات البسيطة عبر انقسام الخلايا، ويمكن أن تنقسم بعض أنواع البكتيريا كل 20 دقيقة، أي أنها بعد 11 ساعة ستكون قد أنتجت ما يصل إلى 8 مليار عملية نسخ كاملة.

التكوين

تتكون الخلايا من أجزاء أصغر منها لها وظائفها المُحددة، وهذه الأجزاء تتكون من لبنات أساسية أصغر هي البروتينات والكربوهيدرات والدهون، والتي بدورها تتكون من أجزاء أصغر وصولاً إلى مركبات ومجموعات كيميائية معروفة مثل البنزين والكحول والاستر والأمين والماء وغيرها، الصفحات التالية قمت بقصها من كتاب الكيمياء الحيوية ولصقتها في هذا الكتاب، وكان يجب ذكرها لضمان تشكل صورة جيدة لدى القارئ عما نحن مقبلون عليه، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره لا محالة، قد تمل من الكيمياء ولكنها أساسية لفهم الحياة، لأن الحياة على المستوى الحيوي هي كيمياء بمستوى عالي جداً، والعلم الذي يبحث هذه التفاعلات الكيميائية على المستوى الحيوي اسمه الكيمياء الحيوية، على الرغم أنني نجحت فيها بصعوبة في الجامعة، إلا أنها علمٌ مدهشٌ وعبقري ويستحق الرسوب فيه.

تُشكل المكونات العضوية للخلية سلاسل طويلة مكونة من وحدات مكررة متصلة مع بعضها عبر روابط كيميائية يُطلق عليها مسمى الوحدات الأحادية مونومر Monomer، بينما يُطلق على الجزيئة الكبيرة جراء تكرار الوحدات الأحادية الوحدات المتعددة بوليمر Polymer، إنّ اختلاف عدد الوحدات المتعددة التي تُكوّن جزيئة كبيرة يُؤَدِي إلى تكوين جزيئات ذات صفات مُختلفة [12] لها خصائص مُختلفة عن بعضها البعض.

سنبدأ من الدرجات الدنيا للخلية وصولاً إلى أعلى الدرجات، سنبدأ بمكونات الخلية الكيميائية، مروراً بالمكونات الأعلى مثل النواة والغشاء وغيرها، وصولاً إلى شرح تعقيدات معينة في أجهزة جسم الإنسان، ثم وصولاً إلى الجهاز الكامل ألا وهو الإنسان نفسه، ولعلك تستغرب بأي مستوى سنبدأ، سنبدأ بالماء!

جزيء الماء كيميائياً

لماذا حينما ذكرنا الماء سابقاً كان بهذه الروعة؟ ولماذا يبدو وكأنه غير كل السوائل الأخرى؟ حتماً هذا لأمر مهم وليس اعتباطياً، إنّ جزيء الماء المُدهش يعمل كيميائياً بطريقة جميلة وعجيبة متكاملة مع تصميم الخلية.

من المعروف أنّ الماء من المواد التي لا حمضية لها، هو متعادل، فلا هو قلوي ولا حامضي، ولذلك الماء النقي على مقياس الحمض الهيدروجيني pH هو 7، في درجة حرارة 25 درجة مئوية، ولكن هذا على المستوى المنظور، أما على المستوى الجزيئي فالأمر يختلف كلياً، فالماء القطبي على المستوى الجزيئي ينقسم إلى قسمين، قسم حمضي، وقسم قلوي، كيف يحدث هذا إليك هذا التفصيل:

صورة 3 شكل الماء على حرف V هو ما يعطيه جزء كبير من خصائصه الفيزيائية النادرة.

من الخصائص المميزة للماء: شكله، ولعلك تجد كلمة V-Shape منتشرة في هذا المجال، ووجود جزيء الماء بهذا الشكل يمنحه المزايا الكيميائية الرائعة به، فالماء المكون من عنصري الهيدروجين H والأكسجين O بنسبة 2 إلى واحد يُوجد في حالة ليست كما هو مكتوب H2O بل في حالة HOH،منقسم في شكلين هما OH و H3O، وهذا ما يمنحه شقين، شق حمضي وشق قلوي، ويحمل بذور تعادله بنفسه، وهو ما يُسمى بـ Self-ionization أي التأيين الداخلي كما في (شكل 12 التأيين الذاتي للماء) في عملية انتقال لحظية للبروتون Autoprotolysis، وتحدث عملية انقسام الماء إلى هذين المركبين الحمضي والقلوي في أجزاء صغيرة جداً جداً من الثانية في كل لحظة حسب معادلة هندرسون هاسلباخ، تتفكك جزيئاته وتعود وتتجمع فيكون على المستوى الذري ناقل جيد للتفاعلات، وعلى المستوى المرئي مادة متعادلة لا قلوية ولا حمضية يكاد تعادلها يخطفك.


شكل 12 التأيين الذاتي للماء

معادلة1 تحلل الماء الذاتي

H2O + H2O ⇌ H3O+ + OH

H3O+ + OH → 2H2O

وتسمح قطبية الماء بأن يكون مذيب عالمي يذوب في حبه كل من المركبات الهيدروكسيلية والأمينات ومركبات الثيول والإسترات والكيتونات، وعدد كبير من المركبات العضوية الأخرى المُختلفة، وهذا لأن الماء على المستوى الذري قلوي وحمضي، ومرة أخرى عملية تفككه وإعادة تكوين جزيء الماء تحدث في أجزاء بسيطة من الثانية، ليعود إلى وضعه المتعادل قبل أن يبدو عليه ذلك! هذا ما يجعله وسطاً مناسباً كمحلول منظم Buffer Solution أي يمنع انزلاق الوسط بسرعة من قلوي إلى حامضي أو العكس، عظمة على عظمة يا ماء، صحيح أنّ هذه الميزة موجودة في مواد أخرى، لكنها مع المزايا الأخرى للماء تجعله فريداً حقاً.

هذه الميزة الفريدة للماء تسمح له بتكوين روابط هيدروجينية بسهولة، وهذا ما يجعل سعته الحرارية مرتفعة، فتكسير الروابط الهيدروجينية H-Bonds يتطلب حرارة عالية نسبياً وهو ما يحفظ الجسم كما ذكرنا من التجمد أو الغليان، وتلعب هذه الروابط الهيدروجينية دوراً أساسياً في تكوين الأحماض الأمينية والبروتينات في جسم الإنسان كما في (شكل 13 مجسم البروتين)، لا أتكلم عن التفاعلات الكيميائية في السوائل، بل أتكلم عن شكل البروتين ثلاثي الأبعاد في الفراغ.


شكل 13 مجسم البروتين

شكل البروتين في الفضاء مع مكوناته الكيميائية، وهو أمر أساسي لكي يقوم البروتين بدوره الوظيفي، ويعتمد هذا الشكل بدرجة كبيرة على الروابط المُختلفة على رأسها الروابط الهيدروجينية.

مكونات الخلية

الكربوهيدرات

تنتج المواد العضوية من عملية تثبيت ثاني أكسيد الكربون المتوفر في الغلاف الجوي عبر تحويله إلى كربوهيدرات Carbohydrates من خلال عملية البناء الضوئي كالسكروز والنشا والسليلوز، وتشترك هذه المواد في عملية توليد الطاقة أثناء عملية التنفس، والطاقة المتولدة هي المحرك الأساسي لجميع التفاعلات الكيميائية في الكائنات الحية.

تقدم الكربوهيدرات لجسم الإنسان الكثير من الفوائد؛ إذ تُعتبَر مصدراً أساسياً للطاقة، وهي تخزن الطاقة الكيميائية على هيئة مركبات غنية بالطاقة مثل GTP,ATP والجلوكوز-1- فوسفات، وتدخل الكربوهيدرات في تكوين بعض محتويات الخلية مثل: الأحماض النووية والبروتينات والدهون وتدخل كذلك في بناء جدار الخلية.

رسم توضيحي 2 التركيب الكيميائي للسيليلوز وهو عبارة عن تجمع جزيئات جلوكوز

تتكون الكربوهيدرات على المستوى الجزيئي من ألديهيد أو كيتون متعدد الهيدروكسيل لها صيغة (CH2O)n، وتُصنف الكربوهيدرات إلى عدة تصنيفات حسب عدد ذرات الكربون في الحلقة الأساسية، أو حسب نوع المجموعة الكيميائية إذا كانت كيتون أو ألدهيد أو حسب نوع التحلل، وتُصنف الكربوهيدرات بناءً لقابليتها على التحلل المائي ونتائجه الى:

  1. السكريات الأحادية:

هي الكربوهيدارت التي لا يمكن أن تتحلل إلى أشكال أخرى أبسط بواسطة مادة حمضية أو قاعدية، وتدخل في التركيب الكيميائي للنيوكليوتيدات Nucleotides، فمثلاً السكر خماسي رايبوز يوجد في الحمض النووي الرايبوزي (RNA)، أما السكريات السداسية مثل سكر دي جلوكوز الذي يوجد في عصير الفواكه يُعد مصدراً مهماً للطاقة.

  1. السكريات الثنائية:

وهي الكربوهيدرات التي ينتج عن تحللها المائي جزيئان من سكر أحادي، ومن هذه السكريات سكر اللبن (اللاكتوز) الذي يتحلل مائياً إلى وحدتين من السكريات الأحادية هما الجلوكوز والجالاكتوز.

رسم توضيحي 3 التركيب الكيميائي للسكريات المتعددة ونلاحظ التصميم الهندسي في علاقتها ببعض حين حدوث عملية البلمرة أو التجميع

  1. السكريات المتعددة:

تتكون السكريات المتعددة من سلاسل أطول من جزئين من وحدات السكريات، محتويةً على وحدات بنائية من السكريات الأحادية المتكررة، ومن هذه السكريات النشا الذي يخزنه النبات في الدرنات والبذور، والجلايكوجين الذي يخزنه الكبد، والسليلوز الذي تتركب منه معظم جدران الخلايا والأصماغ النباتية، وهذه المواد تتحلل مائياً لينتج منها وحدات متعددة من السكريات الأحادية.

رسم توضيحي4 تراكب وتداخل السكريات الأحادية لتكوين سكر متعدد من سكريات أحادية إلى ثنائية إلى متعددة

البروتينات

تُعتبَر البروتينات Proteins المُكون الأساسي للكائنات الحية، إذ تُشكل 80% تقريباً من الوزن الجاف للخلية، وتشمل مركبات عضوية ونيتروجينية تدخل في تركيب بروتوبلازم (المادة الحية) جميع الخلايا [13]، وتكثر نسبة المواد البروتينية في الأنسجة الحيوانية عنها في الأنسجة النباتية، ولا يمكن للحيوان الاستمرار في الحياة دون الأغذية البروتينية.

الوظيفة الأساسية للمواد البروتينية هي بناء الأنسجة، فلا يتم تخزين المواد البروتينية إلا في حالات خاصة كما في البقوليات كالفول والعدس، ويختلف الوزن الجزيئي للبروتينات فنجد بروتينات تبدأ من عدة أحماض أمينية وبعضها ونجد وزن بعضها من 5000 إلى عدة ملايين، كما وتحتوي بعض البروتينات على الفسفور وعناصر أخرى مثل الحديد والمنغنيز والنحاس واليود، وتتكون جزيئة البروتين الطبيعي من سلسلة واحدة أو أكثر من السلاسل الببتيدية التي تتكون من الأحماض الأمينية Amino Acids التي ترتبط مع بعضها البعض عبر روابط ببتيدية، ويحتوي جسم الإنسان على ما يزيد عن 150 ألف بروتين مُختلف تقوم بوظائف تضمن بقاء الإنسان على قيد الحياة.

الإنزيمات

هي محفزات مصنوعة من البروتين تُبنى داخل الخلية الحية، وتعمل كعوامل مساعدة لتسريع التفاعلات الكيميائية، وهي ذات تخصص عالٍ في استهداف نوع محدد من الجزيئات، وتحوي الخلية الواحدة ما يصل إلى 1000 نوع من الإنزيمات المُختلفة، وهذا السبب الذي يجعل الخلية تعمل بكفاءة عالية، ولولا الإنزيمات لاستغرقت بعض العمليات مليون ثانية لتتم بدلاً من ثانية واحدة!

تتألف الإنزيمات من الأحماض الأمينية نفسها الموجودة في البروتين، وتستطيع العمل باستقلال خارج الخلايا الحية، وتعود الأشكال المجسمة الخاصة للإنزيمات إلى وجود التسلسل المعين للأحماض الأمينية التي تؤلف كل إنزيم، وهي ذات شكل هندسي مُحدد ثابت، هذا ما يصنع الإنزيم ويضمن له الدور الفعال المتخصص في عملية التحفيز، مثل القفل والمفتاح، وهُنَاك أنواع مُختلفة من الإنزيمات تقوم بعمليات مُحددة في الخلية، مثلاً هُنَاك الإنزيمات المؤكسدة والمختزلة والناقلة والمحللة والمقسمة وغيرها، وهي تعمل بكفاءة كيميائية كما لو أنها مختبر كامل من الكشف والتحديد والانتقاء والتفاعل.

الليبيدات

الليبيدات Lipids أو الدهون مُكوِّن أساسي في جسم الإنسان، تتكون من الأحماض الدهنية ذات الوزن الجزيئي العالي ومواد أخرى مثل الفوسفوتيدات والإستيرولات والكاروتينات، تعمل الدهون على تزويد الجسم بالطاقة، وهي المصدر الثاني بعد الكربوهيدرات، مع العلم أنّ نفس الكمية من الدهون تعطي طاقة أكثر من نفس الكمية من الكربوهيدرات، وهذا يرجع إلى الروابط الهيدروجينية (تذكر جزيء الماء)، كما تعمل الدهون كعازل للحرارة في الجسم، وتدخل في تركيب أغشية الخلايا المُختلفة.

رسم توضيحي 5 بعض أشكال الدهون في جسم الإنسان

إنّ الجهاز العصبي غنيٌّ بالمادة الليبيدية والمواد الدهنية التي تقوم بتجهيز الجسم بمواد تُعرف بالأحماض الدهنية والتي لها دور أساسي في تكوين أجزاء من الخلايا، وعند ارتباط الليبيدات مع البروتين الليبوبروتينات Lipoproteins، وهي مُكوِّن مهم لعدد من الأغشية مثل أغشية الخلايا، إذ يتكون غشاء الخلية من طبقتين من الليبيدات تحيط الخلية بالكامل، وتوجد الليبيدات في كافة أجزاء النباتات بما في ذلك الجذور والسيقان والأوراق والأزهار وكذلك الكثير من المواد في جسم الإنسان مثل الكوليسترول والستيرويدات وفيتامين دال والكورتيزون وأحماض الصفراء.

رسم توضيحي6 الغشاء الخلوي للخلية مكون من طبقتين من الليبوبروتين

الأحماض النووية

وهي الجزيئات التي تحمل المعلومات الوراثية في الخلايا، وتلعب الدور الرئيسي في نقل المعلومات الخاصة ببناء البروتينات، وتُصنف الأحماض النووية Nucleic Acids على نوعين هما.

  1. RNA: الحامض النووي الرايبوزي (RNA) RiboRucleic Acid، إذ يحتوي على سكر الرايبوز Ribose.
  2. DNA: وهو يتكون من سكر الرايبوز منقوص الأكسجين DeoxyriboNucleic Acid (DNA).

وكلا النوعين يتكون بشكل أساسي من بوليمرات خيطية مكونة من وحدات بناء تعرف بالنيوكليوتيدات Nucleotides، وترتبط النيوكليوتيدات مع بعضها عبر روابط فوسفاتية ثنائية الإستر، إذ ترتبط مجموعة الفوسفات المرتبطة مع ذرة الكربون 5 للسكر المكون للنيوكليوتيد الأول مع مجموعة الهيدروكسيل المرتبطة مع ذرة كربون رقم 3 للسكر المكون للنيوكليوتيد التالي له، وسيتم الحديث عنهم أكثر بعد قليل.

الأحماض الأمينية

هي مركبات عضوية تحتوي على مجموعة الأمين (NH2)، ومجموعة حمض الكربوكسيل (COOH)، وسلسلة جانبية متصلة تسمى R والتي يتفرد بها كل حمض أميني، والأحماض الأمينية هي الحجارة الأساسية في بناء البروتينات، فالبروتينات تتكون من سلاسل من الأحماض الأمينية كما في )شكل 16 تكون الرابطة الببتيدية بين الأحماض الأمينية(، الأحماض الأمينية عليها الكثير من العلامات المُدهشة، فهُنَاك 500 حمض أميني مصنفين لغاية اللحظة في الطبيعة، يدخل تقريباً 20 منها في بناء جسم الإنسان، 20 نوع مُختلف تتراكب وتشكل الحياة التي نعرفها، منها الجليسين glycine، والألانين alanine، والأرجينين arginine، والهيستيدين histidine، واللايسين lysine، والفالين valine، والليوسين leucine، مرة أخرى كل الكائنات تتكون من تراكب هذين ال20 حمض أميني كما في )شكل 13 مجسم البروتين(، كل عضو في جسمك أو كل خلية أو كل نسيج من ملايين الأجزاء هو عبارة عن تسلسل الأحماض الأمينية الـ20، نصف هذه الأحماض الأمينية تقريباً لا ينتجها الجسم، وهو بحاجة لها من مصدر خارجي، وتُسمى الأحماض الأمينية الأساسية.

شكل 14 الأحماض الأمينية في جسم الإنسان

ليقوم الجسم بإنتاج ما يحتاجه من أحماض أمينية، فإنه يعمل على هضم البروتينات من الغذاء؛ فيحلل البروتين إلى أجزائه الصغرى وهي أحماض أمينية حتى تتمكن الأمعاء من امتصاصها، فيعيد الجسم تركيبها من جديد ويبني بها المنشآت التي يحتاجها كما في )شكل15 سلسلة من الأحماض الأمينية متصلة فيتكون بروتين(، مع العلم أنّ ما يهضم هذه البروتينات هي بروتينات أخرى، وهُنَاك أحماض أمينية غير موجودة في النباتات وهي موجودة فقط في الحيوانات، لذلك الإنسان بحاجة إلى تناول كميات من اللحوم ولو ضئيلة لكي يحصل على الفائدة الكاملة.


شكل15 سلسلة من الأحماض الأمينية متصلة فيتكون بروتين

تتحد الأحماض الأمينية ببعضها البعض لتكون سلاسل طويلة تسمى البروتينات، نهاية كل حمض أميني يتصل ببداية حمض أميني آخر فتتكون رابطة تُدعى الرابطة الببتيدية، إذ يخرج من هذا التفاعل جزيء ماء، وهذه الرابطة هي الرابطة الأساسية في تماسك سلاسل البروتينات.


شكل 16 تكون الرابطة الببتيدية بين الأحماض الأمينية

من بين كل مجموعات التكوين الأساسية لجسم الإنسان، حازت الأحماض الأمينية برعاية خاصة بسبب تكوينها البروتينات، ويعتقد العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنّ سر بداية الحياة ينبع من الأحماض الأمينية، لكن الأحماض الأمينية مُعقَّدة أكثر مما نتصور وهذا ما سيتم نقاشه.

التناظر

في الكيمياء العضوية، أي ذرة كربون يتصل بها أربع ذرات مُختلفة Asymmetric يطلق عليها اسم الذرة النشطة Chiral، ويُصبح لهذه الذرة خاصية التمايز الضوئي Optical Isomer، إذ تعكس الضوء باتجاه اليسار أو اليمين (مع أو عكس عقارب الساعة)، ويمكن فحص هذه الخاصية في المركبات باستخدام أجهزة الاستقطاب الضوئي Polarimeter، وتُسمى المواد التي تقيس خاصيتها هذه الأجهزة بالمواد ذات الخاصية التماكبية Stereoisomers.

هذه المركبات التي تحتوي على ذرة الكربون النشطة، يمكن أن تُوجد فيزيائياً في الفراغ في شكلين، الشكل الأول ويسمى مركب أيمن (يميني Dextrogyre) ويُرمز له بحرف D، أما الشكل الثاني فيسمى مركب أشمل (أعسر Levogyre) ويُرمز له بحرف كما لو أنّ كل مركب يقف أمام المرآة فيرى انعكاس صورته عليها، ويُطلق على المركبين في هذه الحالة متمابكان Enantiomers.

رسم توضيحي 7 شكل المركبات في التماثل الضوئي، هو نفس المركب كيميائياً، إلا أنّ له خواص فيزيائية مُختلفة

مرة أخرى المركب الكيميائي نفسه يمكن أن يُوجد في صورة اتجاهها يمين أو أن يكون في صورة اتجاهها شمال كما في (شكل 17 التماثل الضوئي كما لو أنّ المركب هو يدك أمام المرآة)، وهذا الأمر له تأثير كبير على فعالية المركب كيميائياً، فبعض المركبات حينما تكون يمين تملك فعالية كيميائية أكثر بعدة مرات مما لو كانت شمال، فالمورفين أحد أفضل المخدرات التي تُسبب إمساكاً شديداً، فقط الصيغة العسراء منه هي الفعالة في إحداث تسكين الألم، أما الصيغة اليمين فليست كفاعلية الصيغة العسراء، أي أنك ستفحص المورفين اليميني كيميائياً فستجده مورفين، إلا أنه غير فعال! وللعلم كل بروتينات الإنسان مكونة من اتجاه واحد وهو الاتجاه الأعسر، الشمال.


شكل 17 التماثل الضوئي كما لو أنّ المركب هو يدك أمام المرآة

شكل البروتينات

تحظى البروتينات بأهميّة عُظمى في بناء الحياة على هذه الأرض، إذ تُشكل أساساً للكثير من العناصر البنيوية في الخلية، وتُساهم تقريباً في كل عمليات الجسم، في الواقع لا توجد عملية بسيطة لا تتم دون بروتينات، تبدأ هذه المركبات من تركيبات بسيطة من عدة أحماض أمينية، وصولاً إلى بروتينات مُعقَّدة من آلاف الأحماض الأمينية، وربما تصل الملايين أحياناً، وإنّ أبسط خلية حية بحاجة إلى 300 بروتين مُختلف لكي تعمل، وتعد سلاسل الأحماض الأمينية الطويلة بناء هندسي خاص مُختلف، فهي تتشكل في الفراغ بشكل معين وطريقة معينة تسمح بترابطها لتقوم بوظيفتها على أنسب وجه، ويُحدد شكل جزيئة البروتين بمستويات أساسية هي:

التركيب الأولي Primary Structure

وهو ترتيب تتابع الأحماض الأمينية عبر الروابط البيبتيدية المكونة للبروتين، وفي حال أصاب التركيب الأولي أي خلل لبروتين ما فإنه قد يحدث تأثيرات مرضية أو فيسولوجية عديدة، فعند حدوث خلل ما في تركيب بروتين الهيموجلوبين يظهر مرض فقر الدم المنجلي، والسبب في هذا الخلل يعود إلى استبدال الحمض الأميني جلوتاميك أسيد Glutamic Acid بالحمض الأميني فالين Valine إذ ينتج خلايا منجلية الشكل تعمل على انسداد الأوعية الدموية الصغيرة، وتوقف نقل الأكسجين إلى الأنسجة المُختلفة، وتؤدي عادةً إلى الموت قبل البلوغ.

شكل 18 التركيب الأولي للبروتينات من الرابطة الببتيدية من الأحماض الأمينية

التركيب الثانوي Secondary Structure

وهو التركيب أو الشكل الذي يظهر على السلاسل الببتيدية عندما تُنتج حلقة على شكل حلزوني إما حول نفسها أو حول سلاسل أخرى، وتعمل هذه الروابط على تثبيت بناء هيكل البروتين وتأتي الرابطة الهيدروجينية على رأس هذه الروابط المكونة لهذا التركيب، وتأخذ السلاسل الببتيدية ثلاثة أشكال مُختلفة، هي أنموذج ألفا إذ تحتوي على سلسلة ببتيدية واحدة تلتف على نفسها وتلتف على طول السلسلة التفافاً حلزونياً، وأنموذج بيتا وهو التركيب البسيط غير الملتف، ويحتوي على سلسلة ببتيدية واحدة تمتد ذهاباً وإياباً مكونة صفائح، وتعمل الروابط الثانوية (الروابط الهيدروجينية) على تثبيت هذا التركيب، وأخيراً الشكل جاما إذ يجتمع الأنموذجان ألفا وبيتا معاً بالإضافة إلى ترتيبات عشوائية لا يحددها نظام معين.

التركيب الثالثي Tertiary Structure

يحدد هذا التركيب منحنيات في السلسلة وليست السلاسل لولبية الشكل، ترجع هذه المنحنيات في أغلب الأحيان إلى تركيب السلاسل الجانبية للأحماض الأمينية وفي هذا التركيب تُشكل السلاسل الببتيدية حلقة ملتفة على بعضها، ويصبح للبروتين شكل كروي وشكل ثانوي ليفي عبر تكوّن سلاسل ببتيدية متوازنة مع بعضها تظهر على شكل كتل ملتفة حول بعضها، ولها صفة مرونة الشكل، ويعتمد نشاط الإنزيمات في جسم الإنسان بشكل أساسي على التركيب الثالثي للبروتين، ويثبت التركيب الثالثي للبروتين بواسطة الروابط التالية: جسور ثنائي الكبريت، وروابط إلكتروستاتيكية، وروابط هيدروجينية، وروابط كارهة للماء وللنهايات غير القطبية.

التركيب الرابعي Quaternary Structure

هذا التركيب الذي يُحدد مستوى التجمع أو البلمرة في جزيء البروتين، فجزيئات البروتين في العادة تتكون من وحدات صغيرة متجمعة مع بعضها لتكون المركب الكلي للبروتين، ومثال على ذلك إنزيم الفوسفوريلز الذي يحتوي على أربع وحدات ثانوية متماثلة لا يظهر نشاطها الإنزيمي إلا بتجميعها مع بعضها، والروابط التي تعمل على تثبيت التركب الثالثي للبروتين هي نفسها التي تدخل في تثبيت التركيب الرابعي للبروتين، وإنّ وجود الروابط الهيدروجينية يسمح بتكون شكل البروتين الأساسي لعمله.


شكل 19 شكل الروابط في تكوينات البروتين

أشكال التركيبات المُختلفة للبروتين في الفضاء ثلاثي الأبعاد والروابط المكونة لكل منها.

نلاحظ في الصورة (شكل 19 شكل الروابط في تكوينات البروتين) أنّ الروابط الهيدروجينية تسمح بتكوين روابط معينة تلوي شكل البروتين، وهذا الشكل المنحني للبروتين يسمح له بمُمَارسة مهامه العادية، يجب أن يندهش عقلك الآن حينما تعرف أنّ كل الإبداع الهندسي في الماء لغاية عظيمة واضحة وهي السماح بتكون البروتين! وكل هذه العظمة السابقة لنصل لتكوين روابط هيدروجينية في البروتين.

إنّ الحياة مُعقَّدة في كافة نواحيها، إنها مُعقَّدة على الصعيد الجزيئي كما هي على الصعيد الحياتي، تُعَد فكرة استبدال الكبريت في الروابط بمادة السيليكون -على سبيل المثال- أمراً مُستحيل كلياً، وإنّ فكرة بناء عناصر للخلية مغايرة للمخطط الذي صممت له هو أمر مُستحيل، وفكرة أن تقوم الخلية على سبيل الخطأ بإحلال مادة مكان مادة على سبيل المثال لهو عيبٌ خَلقي كبير سيمنع استمرار حياة الخلايا؛ فكل تركيب في الخلية مبني على ما هو قبله وبذلك يستحيل أن تكون أي عملية تغييرية ذات فائدة، نحن نتكلم عن مليارات المكونات في الخلايا المترابطة، وتغيير واحد سيهدم كل شيء، ففكرة وجود خلل جيني في شمشون الجبار جعل جسمه يستبدل الكربون بالحديد في خلاياه لهو أمرٌ نابعٌ من أفلام الخيال العلمي لا أكثر.

تركيب الخلية


تتكون الخلية من عدة منظومات مستقلة تُؤدي أدواراً مُختلفة، تسبح هذه المنظومات في مادة تكون تقريباً 50% منها تُسمى السيتوبلازم إذ تحتوي على العصارة الخلوية (السيتوسول)، كما وتحتوي الخلية على شبكة طويلة ممتدة من صفائح غشائية مسطحة تسمى الشبكة الإندوبلازمية، تحتوي هذه الشبكة غير الملساء على الريبوسومات التي تقوم ببناء البروتين، في حين تقوم الشبكة الإندوبلازمية الملساء بدور رئيسي في أيض الدهون، وهذه الشبكة عبارة عن أخاديد طويلة ومنتظمة الترابط.

رسم توضيحي 8 تركيب الخلية النباتية والحيوانية

غشاء الخلية

رابط 1 علم الأحياء: تركيب الخلية

https://bit.ly/3cnXApE

يمكنك الاستزادة أكثر عن تركيب الخلية من هذا الفيديو، لتتصور أكثر ما نحن مقبلون عليه.

إنّ حدود العالم هي حافة الكون، وحدود العقل هي لغته، وحدود الخلية هي غشاؤها المحيط بها، لخلية الإنسان غشاء مُعقَّد في بنائه يسمى الغشاء البلازمي، وهذا الغشاء مكون من طبقتين فوق بعضهما من الدهون (الليبيدات) Phospholipid Bilayer يُسمى الغشاء الخلوي، ويضُم أماكن مخصصة للارتباط والاتصال والإدخال والإخراج، إذ يدخل الأكسجين من الخارج وتخرج الفضلات من الداخل، ولكل نوع من الفضلات آلية مُحددة للخروج ولكل نوع من المدخلات آلية مُحددة للدخول أيضاً، حيث هناك شيفرة خاصة تسمح بدخول المادة أو خروجها.

يحتوي سطح الخلية الواحدة على ما يقارب 5 آلاف بوابة لدخول وخروج المواد، وتدخل المواد عبر 3 طرق رئيسية هي الطريقة المجانية إذ لا تخسر الخلية أي طاقة وتُسمى النقل السلبي Passive Transport، وهُنَاك مواد يتم نقلها باستخدام بذل الطاقة إذ تدفع الخلية ATP لتسمح بدخول المواد عند الحاجة وتُسمى النقل النشط Active Transport، وهُنَاك طريقة ثالثة تسمى النقل المساعد Facilitate Transport إذ تتحايل الخلية وتنقل المادة بمساعدة مادة أخرى ستدخل الخلية بسهولة دون طاقة كما في (رابط 2 علم الأحياء: النقل في الخلية)، فتجعل الخلية المادة الأخرى تتصل بها وتدخل معها.

تحتوي الخلية الحيوانية على ما مقداره 1 على 20 من تركيز الصوديوم بداخلها عما هو خارجها، وحسب الضغط الأسموزي فإنه يجب أن يكون التركيز على جانبي غشاء نفاذ متساوي، وبسبب عدم التساوي يجب أن تُوجِد الخلية آلية لدفع الصوديوم خارجها، وهذا يتطلب طاقة كثيرة، والحقيقة ثلث طاقة الخلية تذهب في هذه العملية، ولو لم تتم العملية هذه لانفجرت الخلية.

تحتوي النباتات على جدار يُحيط بها يُسمى جدار الخلية يختلف في تركيبه عن الغشاء الخلوي بالكامل، وهو أقوى منه ويحفظها من الجفاف والصدمات، تحتوي بعض الكائنات أحادية الخلية مثل البكتيريا على الغشاءين معاً، غشاء خلوي وجدار خلوي، الجدار الخلوي أقوى من الغشاء الخلوي ويحفظها في ظروفها الصعبة، إذ تكون هذه الكائنات معرّاة في مواجهة العالم الخارجي بعكس خلية جسم الإنسان التي يحميها الجلد وعوامل أخرى، والجدير بالذكر أنّ الجدار الخلوي للخلية هو ما يجعل بعض المضادات الحيوية فعالة ضد البكتيريا ولا تضر الإنسان، مثل مضادات عائلة البنسلين Penicillin والسيفالوسبورين Cephalosporin والفانكومايسن Vancomycin، إذ لا تحتوي الخلية البشرية على جدار خلوي فلا ضرر عليها، مع العلم أنّ حجم الخلية الحيوانية يصل إلى 1000 مرة حجم الخلية البكتيرية.

رسم توضيحي 9 تركيب جدار الخلية


رابط 2 علم الأحياء: النقل في الخلية

https://bit.ly/35WJSJk

يظهر على غشاء الخلية مجموعة كبيرة من البروتينات تُدعى المستقبلات تصل إلى 10 آلاف نوع، هذه المستقبلات هي نقاط اتصال الخلية مع العالم الخارجي، أو مرابط للعالم الخارجي ليتصل بالخلية، مثلاً يريد جسم الإنسان إرسال هرمون معين أو أمر ما للخلايا، فيبدأ بإفراز مادة مُحددة من مئات المواد المُختلفة (الهرمونات على سبيل المثال) فترتبط بسطح الخلية على أحد المستقبلات ثم يبدأ تأثير المادة فيفهمها المستقبل ويقوم بإرسال إشارة إلى داخل الخلية حسب نوعها، كذلك فإن هذه المستقبلات هي ما ترتبط بها الفيروسات والبكتيريا كالمفتاح والقفل فيبدأ تأثير الفايروس، وهُنَاك علاج جديد للفايروسات يمنع اتصال مستقبل الفايروس مع مستقبل الخلية فلا يحدث المرض، وقد صنف العُلماء مستقبلات وحددوا وظيفتها وقاموا بالتأثير عليها، مثل مستقبلات ألفا وبيتا بأنواعها المُختلفة، وجاما وكابا وميو ومئات الأنواع المخصصة في كل موضع في جسم الإنسان ذات وظيفة مُحددة.

هُنَاك حالات من ارتباط القفل والمفتاح في المستقبلات، فبعض المستقبلات يتصل اتصالاً كلياً بالمادة، وبعضها يتصل اتصالاً جزئياً، وبعضها حينما يتصل يجعل الخلية ترسل إشارات للداخل مستمرة وبعضها متقطع، وبعضها اتصاله بالمستقبلات دائم وأبدي، وبعضها مؤقت، وبعضها اتصاله بها يجعل التأثير يبدأ، وبعضها لا يجعل التأثير يبدأ بل يشغل المكان دون تأثير Agonis, Antagonist, Partial Agonist، وهذا ما يجعل أدوية مثل النالوكسون Naloxone مُفيد في علاج إدمان الهيروين والأفيونات، فهو يتصل بالمستقبلات نفسها ويمنع اتصال الهيروين، لكن اتصال النالاتاكسون لا يجعل الخلية ترسل إشارات، وهُنَاك الزغيبات التي تجعل مساحة سطح الخلية يزداد إلى 30 ضعفٍ، فيصبح سطح الخلية ملعباً واسعاً مستعداً لآلاف الإشارات الداخلة والخارجة في كل لحظة، ولو شبهنا الخلية بالمصنع، لكانت النواة هي مكتب التنسيقات، والأغشية هي الطاولات والمكاتب التي توضع عليها الأعمال المُختلفة.

لا تقتصر الأغشية على خارج الخلية، بل يوجد بداخل الخلية أغشية لكل عُضَيَّة (تصغير عضو)، إذ تسمح بترتيب المواد والمكونات حتى لا يصبح تداخل وتصادم في العمليات، وفي الحقيقة حجم الأغشية داخل الخلية يساوي حجم الغشاء المحيط بها مضروب بمائة، بل ونجد أنّ للميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء غشاءً مزدوجاً بالإضافة إلى وجود أجزاء من الدنا فيهم.

الأُنيبيبات الدقيقة

كلمة أُنيبيات Microtubule هي تصغير لكلمة أنابيب، وإن كان الغشاء الخلوي هو جدار المنزل، فهذه الأنابيب هي أعمدة المنزل، والأُنيبيات هي شرائط ديناميكية تشكل هيكل الخلية وتمنح السيتوبلازم بعض الصلابة وبعض الشكل حتى لا تنكمش الخلية، وهي الطرق التي ترتبط بها المكونات لكي تسير من وإلى عُضيّات الخلية المُختلفة، فكيف للغشاء أن يرسل مادة معينة دخلت إلى النواة، أو كيف يحدث العكس، أو كيف تتم عملية نقل المواد بشكل عام في الخلية، كله يتم عبرها.

يتكون هذا الأنبوب من بروتين يُدعى تيوبولين، كل جزيئان متصلان من التيوبولين يكونان دايمر (ألفا تيوبولين + بيتا تيوبولين)، وهو اللبنة الأساسية لبناء الأنابيب، ويتم بناء الأنابيب وفق نظام مُحدد وهو وجود ألفا وبيتا من التيوبولين متراصين في دائرة مكونة من 13 بروتين على امتداد طولي، لاحظ 13 وحدة، لا 12 ولا 14، 13 كما لوحة العشاء الأخير كما في (شكل 20 تكوين الأنيبيات الدقيقة).


يبدو الأمر كما لو أنّ طوب من نوع 1 يتصل بطوب من نوع 2 ويتكون جدار، لكن الأمر مُعقَّد أكثر، فهذا الطوب ليس بطوبٍ تقليدي، بل بروتين مشوه الشكل يتصل ببروتين مشوه الشكل في فضاء ثلاثي الأبعاد تنشأ بينهم رابطة معينة، ويتم الترتيب بالترافق لآلاف البروتينات، بل والملايين لتشكيل هذه الخيوط الطويلة، ولو أنّ كل عملية تتم فكرنا بها بهذه الطريقة لعرفنا كم هي الخلية مُدهشة.

هُنَاك حركة في الأهداب والسياط تتطلب وجود مكوّن آخر يتيح الحركة وهو بروتين يدعى الداينين، إذ يسمح هذا البروتين للأُنبيبيات المتجاورة بالارتباط ببعضها ثم الانزلاق بطريقة متناسقة لتحدث الحركة في السوط وهي مثل السلسلة الموجية، إذ يقوم الجزيء الخلفي بدفع الجزيء الأمامي فتحدث عملية متسلسلة لتحدث الحركة ويتمكن هذا البروتين من مشي 220 خطوة في الثانية الواحدة!


شكل 20 تكوين الأنيبيات الدقيقة

رسم توضيحي10 بعض أنواع وأحجام الأنيبيات الدقيقة

هذه العملية مسؤولة عن عمليات كثيرة في الكائنات الحية، ففي بعض الأمراض إن حدث خللٌ ما في ذراع الداينين فإنه لن يحدث الانزلاق؛ ولن تحدث الحركة؛ ومن ثَمَّ سيموت الحيوان المنوي، ونحن نعلم أنّ الحيوان المنوي يحتاج إلى تحريك سوطه ليصل إلى البويضة، لك أن تتخيل أنّ خطأً واحداً سيُؤَدِي إلى فناء الجنس البشري، لا أعلم كيف تطورت هذه العملية المُعقَّدة في الحركة لتكون بهذا الاتساق وتُحدِث حركة على مدى كل الأنبوب دون أي خطأ في الـ 13 * 2 بروتين في مليون دائرة! تخيّل أنّ تطوير عملية كهذه نتيجة العشوائية يتطلب ما لا يقل عن مليون مليون احتمال يجريها بشري في مختبر وليس نتاج الصدفة في مستنقع من الماء، وفي حالة قيام إنسان عاقل نحن بحاجة إلى 60 سنة، أما في حالة المستنقع نحن بحاجة إلى 100 ألف سنة، ستموت كل الأجناس البشرية ولن يبقى لها أثر، هذا فقط للحفاظ على خطوة من خطوات حركة الحيوان المنوي المسكين.

ولو حدث هذا الخلل في المراحل الأولى من تكوين الجنين (خلل في الأسواط) لظهر خللٌ مسجل باسم مُتلازمة كارتاجنر Kartagener syndrome ويحدث فيها مضاعفات مثل عدم القدرة على التنفس بسبب عدم قدرة الرئة على التخلص من المخاط، ومشاكل في الأذن الوسطى وعقم عند الرجال والنساء، كما وتُسبب حالة مرضية تسمى بانقلاب وضع الأحشاء Situs inversus، وحينما نستعرض بعد قليل قاعدة الطفرات الجينيةGenetic Degeneration عند البشر التي تزيد فيها الأمراض عن 200 ألف مرض، ستفهم لماذا يعتبر هذا الرقم بسيطاً، فنحن بتنا نعرف أنّ أي نقص بسيط في وظيفة بروتين سيسبب أمراضاً لا حصر لها، بشكل عام للأهداب دورٌ عظيمٌ في الجسم وثَمّة مجموعة أمراض مرتبطة بمشاكلها تُسمى الاضطرابات الهدبية ولها دراسات واسعة وتُصنف كمُتلازمات مُنفصلة وهي كثيرة وعجيبة ومتنوعة [10].

بالإضافة لهذه الأنابين التي تكوّن الأهداب، هُنَاك أنابيب متحركة لها عمليات مُعقَّدة أكثر لأنها عبارة عن أعضاء حسية، إذ تستخدم كمستقبلات ميكانيكية وكيميائية وتساعد في عملية الشم والإبصار، أي أنّ الجسم يُعيد استخدام الأجزاء نفسها لتقوم بوظائف أخرى، وهذا في عالم البرمجة أو عالم الهندسة الصناعية يُسمى Reusability، وهي تنم عن تخطيط فائق للموارد، ولعلي أزيدك من الكنافة قطعة أخرى أنّ هذه القابلية لإعادة الاستخدام أعلى مما نتصور، فيمكن لأنابيب طويلة أن تتفكك في ثوان ويعاد تركيبها في ثوانٍ أيضاً، وهذه الخاصية الديناميكية أشبه ببناء حائط من 100 صف في ثوانٍ، وإعادة تفكيكه واستخدامه في مكان آخر، وهي أساس نقل المواد في مواضع الخلية المُختلفة، ولا تبقي الخلية هذه الأنابيب ممدودة طوال الوقت، لأنها تجعل الخلية صلبة أكثر من اللازم، وتجعل مواردها غير كافية، لذلك يجب عليها أن تُعيد استخدامها من موضع إلى آخر، ولهذا وجب تفكيكها ونقلها دائماً، ولك أن تتخيل سير العملية بالكامل، فهُنَاك آلات مسؤولة عن التفكيك، وآلات تمسك بالقطع المفككة، وآلات تنقل القطع وآلات تسلم القطع لتتجمع حسب المخطط، في حين وُجود مواد معينة يُؤَدِي إلى إيقاف كل العملية، فمادة مثل الكوليشسين تجعل التيوبولين لا يُربط ببعضه، وهو ما استُخدِمَ سابقاً كعلاج لالتهاب المفاصل، ويُستخدم اليوم في الطب بكثرة، بالإضافة لمادة التاكسول التي تُستخدم كعلاج للسرطان، وكلاهما مُستخلص نباتي.

بالإضافة إلى قدرة الأُنيبيات على مسك هيكل الخلية، فإنها تُستخدم كسكك حديد للحركة، سنتطرق إلى آليتها في فصل المسامات النووية، وهُنَاك آلية حركة لبروتين الكينسين إذ يتم الانتقال بالقفز وليس بالسير على سكة الأنيبيات، ويقفز البروتين في خط مستقيم، كما يأخذ هذا البروتين شكل الحرف Y مقلوب، فالقدمين لأسفل، ويقفز هذا البروتين على الخيط الرفيع كما يقفز البهلوان على خيط مشدود ويحمل فوقه بالونة كبيرة من الفجوات العصارية ينقلها من مكان لآخر كما في (رابط 3 آلية سير الكاينسين)!

رسم توضيحي 11 شكل الأنيبيات الدقيقة ممتدة إلى النواة


رابط 3 آلية سير الكاينسين

https://bit.ly/2RQ53Vd

هُنَاك نوعان آخران من الأُنيبيات أو الخيوط أو الألياف الصغيرة، وهما الخيوط المتوسطة والخيوط الدقيقة، فالخيوط المتوسطة أكثر متانة من الأنيبيبيات الدقيقة وهي مسؤولة عن متانة الخلايا وتشكيل الهيكل الخاص بها، تسمى الخيوط المتوسطة بهذا الاسم ذلك لأن قطرها ١٠ نانومتر وقطرها يقع بين قطر الخيوط الدقيقة بسمك ٦ نانومتر والأنيبيبات الدقيقة بسمك ٢٥ نانومتر [10]، وإنّ عملية تنظيم الخيوط الدقيقة وتشييدها تتم عبر جهاز مستقل مخصص في الخلية يُدعى الجسيم المركزي (السنتروسوم) وهو الذي ينظم الأُنيبيبات الدقيقة حسب مُتطلبات شكل الخلية أو حركتها أو انقسامها.

أما الخيوط الدقيقة فتتكون من بروتين مُختلف يُدعى الأُكتين، وهو بروتين كروي الشكل، يمتلك آلية مُختلفة في تكوين الخيوط عن آلية بروتين التيوبولين الموجود في الأُنيبيات الدقيقة، كما وتكون هياكل العضلات، وللعضلات آلية هندسية مُعقَّدة في انقباض وانبساط خلاياها، وهي آلية يكرهها طلاب الأحياء، والأنيبيات الدقيقة واحدة من العناوين التي سنتطرق لها مرة أخرى في عملية النسخ والمضاعفة، وهي من المواضيع القليلة التي سنستفيض في توضيح عظمتها، لأنها من أبسط المواضيع، وهي تعد مثالاً على تعقيد أبسط جزئيات الحياة، أما مواضيع الخلية الأخرى فسنذكرها للاطلاع ولن نتعمق فيها.

الليسوسومات والبيروكسيسومات

تنتمي الليسوسومات والبيروكسيسومات إلى مجموعة الأجسام الدقيقة، مثل الكلايوكسيسومات، والسفيروسومات، والميلانوسوم، إذ تقوم كل منها بمهام مُختلفة، فالليسوسومات تشبه معدة الخلية، وهي عبارة عن فجوات عصارية تحتوي على إنزيمات تحلل المادة المهضومة أو بقايا الخلايا الميتة، كما يمكنها أن تساهم في عصر الخلايا الدخيلة كالبكتيريا، وكذلك تفعل البيروكسيسومات، لكن الفرق هنا أنّ الليسوسومات توجد في الخلايا الحيوانية فقط، أما البيروكسيسومات توجد في كل حقيقيات النواة (الخلايا التي يحاط نواتها بغشاء)، مع فرق آخر أنّ الليسوسومات لها دور أوسع في عملية التكسير والتحليل، والبيروكسوم Peroxisome يُجري عمليات تحليل عبر الأكسدة، و البير أوكسيد هو فوق أكسيد الهيدروجين وهو مادة ضارة جداً من نتاج التكسير، لكن تحتوي البيروكسيسيدات على إنزيم حفّاز يقوم بتكسير الماء الثقيل، مع العلم أنّ البيروكسوم في خلية الإنسان يحتوي على 50 إنزيم على الأقل، وهي بيئة مناسبة لتوليد العديد من الإنزيمات، ونستحضر هنا المادة الصفراء في الغدة الصفراوية التي تكسر الدهون.

يتم إنتاج البروتينات الخاصة بمحتويات الليسوسومات والبيروكسيسومات في أغشية الشبكة الإندوبلازمية، ويتم شحنها لاحقاً إلى جسم مخصص لهذا الأمر اسمه جهاز جولجي، وهو مجموعة من الحويصلات الغشائية المنبسطة التي تستقبل البروتينات المخلقة حديثاً من الشبكة الإندوبلازمية، وتجمع البروتينات الجديدة في فجوات عصارية لتوزيعها أو تعديلها لاحقاً، الأمر أشبه بالمخزن إذ يمتلك غرفاً مخصصة مثل الأكياس المسطحة، كما يلعب جهاز جولجي دوراً في تكوين البروتينات السكرية وكذلك في تصنيع الأنسولين والعصارة المعدية، ولهذا الجهاز آلية خاصة لتجميع البروتينات وترتيبها، ولكن حتى لا يصبح كتابنا كتاب أحياء سنكتفي بهذا الجزء البسيط عنه.

الميتوكوندريا

رابط 4 كيف تنتج الميتوكوندريا الطاقة

https://bit.ly/33UwDpH

تُعتبَر متقدرة الطاقة (الميتوكوندريا) ثاني أكبر عضو في الخلية بعد النواة، هي مكان إنتاج الطاقة في الخلايا الحية، وتحتوي المتقدرة على شريط وراثي من الدنا يحتوي على ريبوسومات لإنتاج البروتينات من هذا الشريط، وإنزيمات خاصة بها تزيد عن 50 إنزيم، وهي تنقسم أحياناً لتنتج متقدرتين، وتلتحم في أحيان أخرى لتنتج متقدرة كبيرة، وإن كانت المولدات في منازلنا تنتج الكهرباء لكي نستخدمها، ففي الميتوكوندريا يتم إنتاج ثلاثي فوسفات الأدينوسين Adenosine Triphosphate ATP، وهو العملة التي يتم إرسالها في الخلية للقيام بعمليات تحتاج إلى طاقة، وتتم هذه العملية في الميتوكوندريا عبر أحد معجزات الخلية في دورة متكاملة تُدعى دورة حمض الستريك، أو كريبس سايكل Krebs cycle كما هي مشهورة في المعاهد العلمية نتيجة إلى مكتشفها، إذ يتم التخلص من العنصر الضار (الأكسجين) للحفاظ على الحياة، يتم استهلاك الـATP وإنتاج جزيء ماء ومركب ADP ثنائي فوسفات الأدينوسين، ثم يتم إعادة استهلاك الـADP وتحويله إلى ATP وهكذا، وفي هذا المقام لا بد من شرح دورة كريبس كأنموذج من بين آلاف النماذج على آلية عمل الكيمياء في الجسم.

رسم توضيحي 12 مكونات الميتوكوندريا

دورة حمض الليمون

دورة كريبس، أو دورة حمض الستريك، أو دورة tricarboxylic acid، هي عملية تحدث في كل الخلايا التي تحتوي على ميتوكوندريا لتوليد الطاقة (كريات الدم الحمراء مثلاً لا تحتوي على ميتوكوندريا)، إذ يتم استخدام الكربوهيدرات والدهون وبعض الأحماض الأمينية وحرقها باستخدام الأكسجين لاستخراج طاقة نقية، وينتج ثاني أكسيد الكربون وماء كمخلفات للعملية، وينتج أيضاً الـATP الذي يمكن استخدامه في كل مرافق الخلية لتوليد الطاقة.

تبدأ العملية كلها بارتباط Acetyl CoA مع Oxaloacetate في ظل وجود إنزيم Citrate Synthetase فينتج عنها ستريت [14]، وهذه خطوة رقم 1 كما في )معادلة 2 خطوة رقم 1 في دورة كريبس(


معادلة 2 خطوة رقم 1 في دورة كريبس

Condensation

ثم تتبعها عملية Isomerization تنقسم إلى عمليتين كيميائيتين، ثم عملية نزع هيدروجين ثم نزع مجموعة كربوكسيل فينتج ثاني أكسيد الكربون، إلى أن تنتهي بالعملية رقم 10 إذ يرتبط الـ NADH2 & FADH2 بنظام نقل الإلكترونات لكي يتكون الـATP من عملية الفسفرة [15].


شكل21 مخطط كيميائي لدورة حمض الليمون

ونرى في هذه العملية الطويلة الترابط والترافق كما في )شكل21 مخطط كيميائي لدورة حمض الليمون(، فكل عملية مرتبطة بالعملية التي تسبقها، ولو حدث خطأ بسيط في أي خطوة من الخطوات فستتوقف العملية وتشتعل الميتوكوندريا ومن ثَمَّ تفشل عملية توليد الطاقة، ومن الملاحظ في العملية أنها تتم فقط في ظل وجود تنفس هوائي، إذ لا يمكن أن تتم دونه رغم أنّ الأكسجين عنصر ضار في بناء الخلايا. هذه الدورة مستمرة ولا تتوقف إذ ترتبط المخرجات النهائية بالمدخلات وتبدأ مرة أخرى من جديد، ومن المُدهش حقاً أنّ هذه العملية لا تهدر طاقة تُذكر، لا يوجد عنصر ATP واحد مستهلك من المجموع الإجمالي، أي أننا نولد طاقة دون أن نخسر شيئاً، ففي العادة نحن نبذل طاقة معينة لتوليد طاقة أكبر، لكن في دورة كريبس نُولّد طاقة دون بذلها، وهذا يعيدنا للتصميم الهندسي العبقري للميتوكوندريا لإنشاء طاقة غير مكلفة، في العادة لو وصل جهاز للاستفادة ما نسبته 30% من الطاقة فإنه سيكون جهازاً خارقاً، فمثلاً في السيارة أقصى ما يمكننا أن نستفيد من حرق الوقود فيها هو ما نسبته 20% فقط من الطاقة المولدة.

وهنا نتساءل عن دورة كريبس التي تمثل عملية واحدة من ملايين العمليات المُعقَّدة داخل الخلية، وفي كل ثانية تتم ملايين المرات داخل جسم الإنسان، وبعد الشرح الكيميائي من 10 خطوات لإتمام العملية، هل من الممكن أن تكون هذه العملية بهذا الإتقان والتتابع والطاقة المهدرة شبه الصفرية قد تمت بين جزيئات كيميائية دون تخطيط مسبق، حينما تضع في حساء آلاف المركبات الكيميائية وتتم به عملية مكررة 3 مرات بانتظام وترافق،

https://bit.ly/2EtwZLn

رابط 5 شرح دورة كريبس

يتجه تفكيرك إلى أنّ هذا الأمر مُستحيل إتمامه دون تدخل، فما بالنا ب 10 عمليات مترافقة في بناء متخصص، كأن العملية تتم وفق خط إنتاج متكرر إلى ما لا نهاية.

هذه العملية الكيميائية بحاجة إلى خبير كيميائي لكي يصممها، ونحن البشر لم نستطع تصميم مثلها حتى هذه اللحظة، بل وجدناها هكذا في الطبيعة فدُهشنا حينما اكتشفناها، لم أجد من يوضح لي بخطوات معقولة كيف يمكن لهذه العملية أن تتم كيمائياً، ويتم حفظها في سجلات الخلية لتجريها الخلية لاحقاً دون خطأ، ولعلي أدعوك بعد هذه الفقرة إلى رؤية كيف تقوم البلاستيدات الخضراء في النباتات بتوليد الطاقة من الشمس، في عملية كيميائية أطول من دورة كريبس، أو أن ترى كيف يقوم أي كائن حي بتوليد عمليات الكيمياء الحيوية في جسمه، سترى العجائب إذا تابعت مواد مرئية تحاكي الحياة، وستعلم لِمَ الحياة مُعقَّدة فعلاً!

الريبوسومات

تُوجد الريبوسومات على جدار الشبكة الإندوبلازمية التي تنتج ما تتكون منه الحياة بالكامل، فهي تنتج البروتينات من الأحماض الأمينية، بعض الخلايا تنتج يومياً ما يزيد عن عشرة مليون ريبوسوم، بمعدل سبعة آلاف ريبوسوم كل دقيقة، وكل منها له نحو ٨٠ بروتيناً؛ الأمر الذي يتطلب إنتاج نصف مليون بروتين كل دقيقة في السيتوبلازم [10]، تُستجلب هذه البروتينات إلى النواة بمعدل ١٠٠ بروتين لكل مسام في الدقيقة، أعلم أنّ الأرقام ضخمة، وهذا للخلية الواحدة من مليارات الخلايا في جسمك الآن، ولا نريد أن نجري عملية حسابية مرعبة مرة أخرى، فالأرقام الكبيرة تذكرنا بالنقود التي لا نملكها.

إنّ عملية تصنيع البروتينات عملية مُعقَّدة، فيتوجب على الأحماض الأمينية أن تأتي للريبوسومات، وبعد أن يتم ربط كل حمضين برابطة ببتيدية يجب أن تبقيهم مخزنين ومثبتين للربط بحمض ثالث وهكذا لحين الحصول على السلسلة الصحيحة الطويلة للبروتين، علاوةً على تعقيد تنظيم عمليات الإدخال والإخراج لهذه المواد في الريبوسومات، أصعب من إدخال المواد عبر غشاء الخلية، وهذه الريبوسومات بحاجة إلى دليل إجرائي، وهذا الدليل الإجرائي من العمليات التي تحدث داخل الخلية وتشعرك كما لو أنّ لها عقلاً يفكر، لنتخيل أننا نمتلك مصنعاً يقوم بإنتاج دمى أطفال يومياً، وهُنَاك عامل على خط الإنتاج مهمته أن يأخذ أصابع الدمية من زميله ويركبهم في يد الدمية، ومن ثم تسليم اليد لشخص آخر ليكمل سلسلة الإنتاج، ستكون الآلية كالتالي:

  1. سيذهب العامل إلى الدليل الذي كتبه مهندس العملية.
  2. سيقوم بفتح الصفحة التي تُعني بعملية تجميع الأصابع.
  3. ثم يكتب الخطوات بدقة (ينشئ نسخة) إذ هو ينفذ المكتوب ولا يحفظ الخطوات.
  4. سيعود إلى خط الإنتاج ويتأكد من أن كل شيء في مكانه.
  5. سيقوم بقراءة التعليمات سطراً سطراً، وينفذ كل سطر وينتقل إلى السطر الذي يليه.
  6. سيتأكد أنّ العملية تمت بنجاح، إذ يعيد القراءة ويتأكد من كل خطوة (عملية فحص أخيرة).
  7. سيسلم اليد التي بها الأصابع لمن بعده في خط الإنتاج.
  8. يكرر العملية.

هذه الخطوات في المثال السابق تحدث في كل مرة يتم تصنيع فيها بروتين في الريبوسومات، الجدير بالذكر أنّ النوية (نواة بداخل النواة) تقوم ببناء الريبوسومات (بالإضافة إلى صناعة الرنا)، وذلك باستخدام جينات مخصصة لهذا الغرض باستخدام الرنا ريبوسوم الذي سيتم ذكره لاحقاً، والجدير بالذكر أيضاً أنّ النُّوية تنتج ما يصل إلى 10 مليون ريبوسوم في اليوم الوحد في حالة حدوث انقسام للخلية، مرة أخرى 10 مليون وحدة مصنعية للبروتينات دون خطأ، مرة ثالثة 10 مليون وحدة مصنعة للبروتينات في اليوم للخلية الواحدة، عند حدوث انقسام للخلية، 10 مليون وحدة مصنعية وكل واحدة فيها مكونة من آلاف البروتينات.

العمليات ليست كيمياء

كل عملية كيميائية في الخلية تتكون من 3 أقسام وهي:

  1. قسم موضع حدوث التفاعلات الكيميائية، إذ يتم وضع مرّكب أ على مرّكب ب، ثم ج على ب.
  2. قسم خط الإنتاج، إذ يتم تسليم المادة أ إلى القارورة 1 ووضع المادة ب بجانب المادة أ في القارورة 1، والمادة المستخرجة من القارورة رقم 1 يتم وضعها مع المادة ج في قارورة رقم 2، مع وجود عوازل ومحيط معين وجدران وخطوط سير لتسليم المواد وأخذ المواد وإخراج الفضلات.
  3. كُتيب التعليمات، إذ يُدوّن فيه أنه يجب وضع المادة أ على المادة ب قبل أن نضع المخرج على المادة ج، وأنه يجب أخذ المُخرج وتسليمه للحاج رشدي ليقوم بدوره ببيعه في السوق وهكذا.

في كل العمليات التي نقوم بوصفها نكون في الغالب نصف جزء فقط من التفاعلات الكيمياء الحيوية، وهي فصل واحد من العمليات، ولا نصف الفصل رقم 2 أو الفصل رقم 3، ففي دورة كريبس المُعقَّدة لم نذكر إلا التفاعلات الكيميائية الخاصة بالدورة، لم نذكر كيف تتم حسب دفتر التعليمات، ولم نذكر كيف تستلم الخلية كل مادة من المواد الخارجة، ولم نذكر كيف تسلم الخلية كل مادة من المواد الداخلية، وغيرها من العمليات السابقة واللاحقة، وهذا يُعيدنا إلى التفكير في تعقيد العمليات الكيميائية وأننا يجب ألا نستهين بأي جملة تُقال لنا في عالم الأحياء، بل يجب أن نفكر فيها لأنها حتماً أكثر تعقيداً مما نتخيل.

رسم توضيحي 13 تحتاج أبسط التجارب الكيميائية إلى بيئة منعزلة وحجرات وأنابيب ودرجات حرارة مُختلفة، هذه الدوارق والأنابيب موجودة في كل تفاعل كيميائي من مليارات التفاعلات التي تحدث في جسم الإنسان كل ثانية.

إنتاج الدهون

لا يوجد جزء في الخلية لا يقوم بمهام متعددة، كل جزء هو نتاج هندسة دقيقة ليحفظ المساحة ويقوم بتقليلها عبر قيامه بعدة مهام كانت ستحتاج إلى أجزاء أخرى تشغل حيزاً من مساحة الخلية لتنفذ مهام الخلية، الشبكة الإندوبلازمية مثال آخر على هذا التصميم العبقري، فبالإضافة إلى دورها في صناعة البروتين، نجدها تعمل كمخزن خلوي للكالسيوم، وتعمل الشبكة الإندوبلازمية أيضاً على بناء إنزيمات زميلتها الشبكة الإندوبلازمية الملساء، وهي مسؤولة أيضاً عن بناء وصناعة الدهون (الليبيدات)، ويتم إنتاج الدهون في الخلايا الفردية على سطح الشبكة الإندوبلازمية على هيئة قطرات صغيرة، ومع أنّ الدهون التي نراها موجودة حول حواف شرائح اللحم أو حول محيط الخصر تبدو ككتل صلبة متجانسة، إلا أنها في الواقع توجد في شكل قطرات دهنية محاطة بغشاء داخل خلايا فردية تسمى الخلايا الدهنية أو الشحمية Adipocyte أو Lipocytes.

إنّ تناول المزيد من المواد الغذائية سيُؤَدِي إلى تراكم الخلايا الشحمية عبر إنتاج المزيد من القطرات الدهنية التي تتحد مع جيرانها فتصبح أكبر حجماً، مكونةً النسبة الأكبر من حجم الخلية الذي قد يزيد ١٠٠ مرة عن الحجم الطبيعي، وهكذا فإن السُمنة خللاً في توازن الطاقة الذي يَنتج عن التراكم المستمر للقطرات الدهنية داخل الخلايا الشحمية، لكن لا تقلق، فالجسم مُهيَّأ ومُبرمج للتعامل مع هذه الحالة.

على الرغم من نظرتنا للقطرات الدهنية باعتبارها مُجرَّد مستودعات تخزين بسيطة، إلا أنّ الدراسات الحديثة بينت أنها عُضيّات بارزة، وأنها ليست مُجرَّد كتل من الدهون بأي حال، كل حقيقيات النواة تملك القدرة على تكوين الدهون التي تُنتج كل الزيوت والشحوم المتكونة طبيعياً، فمن زيت بذور اللفت إلى زيت الزيتون في الخلايا النباتية، إلى دهون الحليب واللانولين ودهون الخنزير في الخلايا الحيوانية، وتتركز هذه الجزيئات الدهنية على سطح الشبكة الإندوبلازمية، ثم تنضغط مكونة قطرة تكون محاطة بغشاء دهني وحيد الطبقة، وتظل ملاصقة للشبكة الإندوبلازمية؛ حيث توجد الإنزيمات التي تحفز تكون الدهون [10]، ولأنّ عملية بناء الدهون تحتاج إلى طاقة وفيرة، فإننا نرى بوضوح ارتباط الميتوكوندريا بأماكن بناء الليبيدات، إذ ترتبط الميتوكوندريا حرفياً بسطح الشبكة الإندوبلازمية بواسطة مجموعة من البروتينات الغشائية، في خريطة هندسية لتوفير نقل الطاقة وتسريع البناء.

النواة

مقدمة

على الرغم من كون نواة الخلية أكثر مكونات الخلية تعقيداً ومع ذلك فهي أكثرها تنظيماً، فالتعقيد الشديد في العمليات يتطلب تنظيماً شديداً لمنع حدوث الأخطاء، وتحتوي نواة الخلية على العنصر الأهم في بناء الخلية، ألا وهو شريط الدنا، الذي يحتوي على المعلومات المهمة في كيفية بناء الخلية وهو قاعدة بيانات توضح مخطط بناء الخلية وكيفية قيام الخلية بأنشطتها الحيوية المختلفة، وتنقسم الأنوية في الكائنات الحية إلى حقيقيات النواة كما خلايا الإنسان، إذ تكون النواة في مكان مخصص محاطة بغشاء تحتوي على الكروموسومات، وإلى بدائيات النواة، إذ تكون محتويات المادة الوراثية عائمة في الخلية غير محاطة بغشاء [10].

المسامات النووية


شكل 22 بروتينات المسامات NPC

تحتوي الخلايا حقيقية النواة على غشاء مزدوج يُحيط بها، والغشاء الخارجي مكون من خيوط الشبكة الإندوبلازمية ثم يتبعه فراغ نووي يليه غلاف آخر داخلي مكون من بروتينات ليفية يعرف باسم الصفيحة النووية تحمي الخلية من الانضغاط الميكانيكي، ونقاط ربط وارتكاز بين غشاء الخلية ومكونات السيتوبلازم، وأي خلل في هذه الركيزات سيُؤَدِي إلى أمراض عديدة مسجلة ومشهورة مثل أمراض ضمور العضلات.

يسمح هذا الغشاء بدخول المواد وخروجها بطريقة منظمة وصارمة جداً، وهذا الدخول والخروج يتم عبر بوابات معينة تُدعى المسامات النووية Nuclear Pore، وكما نعلم أنّ اللبنة الأساسية لكل شيء في الخلايا هي البروتينات، وآلة البروتين المسؤول عن البوابة هي بروتينات مجتمعة اسمها The nuclear pore complex (NPC) كما في )شكل 22 بروتينات المسامات NPC) وهي المسؤول عن دخول المواد وخروجها من النواة إلى السيتوبلازم في الخلية، وتتكون هذه الآلة من 500 إلى 1000 بروتين مجتمعة تقوم بمهمة دقيقة، وهذا ما يجعله أحد أعقد الآلات الخبيرة في الخلية، ولعلك تستغرب أنّ في الثانية الواحدة تصل عمليات الدخول والخروج إلى ما يزيد عن 1000 عملية، 1000 عملية في ثانية واحدة! في كل خلية في الـ37 تريليون خلية دون خطأ واحد، أي أننا نتكلم في اليوم عن رقم مهول في أقل الظروف سيكون عدد العمليات اليومي هو 10^27 عملية في اليوم دون أخطاء تذكر، 1 أمامه 27 صفر، ولو كانت نسبة الأخطاء 1 في المليار لما كانت هُنَاك حياة من أصله، ولعلنا نستطرد في شرح هذه الآلية كي لا ننسى كم أنّ الخلية مُعقَّدة!

إنّ هذه القناة مُعقَّدة جداً في آلية عملها، أغلب المواد لا يمكنها أن تدخل عبر النقل المجاني Passive Diffusion أي دون طاقة، فهي بحاجة إلى بذل طاقة لكي تدخل الخلية، وحتى تدخل البروتينات عبر المسامات يجب عليها أن تصطف وفق آلية معينة، إذ يجب على البروتينات التي تدخل المسامات أن تمتلك تسلسل حمض أميني معين يسمىNuclear Localization Signals، ويتم التعرف عليها بواسطة ناقل مُحدد اسمه Importin، إذ يفحص البضاعة المراد نقلها عبر mRNA cargo، ويتأكد من أنّ تسلسلها صحيح، وكأنه يفحص نصاً لغوياً للتأكد من سلامة قواعده النحوية، ثم يلتصق به مثل المفتاح والقفل ويأخذه عبر المسامات التي بها الـ NPCعبر اتصال تسلسلي بالبروتينات الموجودة بالـ NPC إلى أن يدخل إلى الخلية.

أضحى الطرد بداخل الخلية، يجب أن نقوم بفك وإخراج الناقل Importin؛ لكي يبقى في الخارج وينقل بروتيناً جديداً، ولهذا يأتي ناقل آخر اسمه Ran به GTP فيتصل بالناقل Importin ويقوم بالارتباط به ويجعله ينفك من البروتين المنقول، فيصبح الاتصال بين الـImportin والـRan، ويبقى البروتين المنقول وحده في النواة، ثم ينتقل الـ Importin والـRan المتصلين سوياً مرة أخرى من المسام عبر آلة الـ NPC بطريقة تسلسلية تتابعية، إلى أن يخرجا خارج الخلية، فيأتي بروتين آخر موجود في السيتوبلازم اسمه Ran به GAP فيحول الـGTP في الـRan إلى GDP فينفك الـRan عن الـImportin، الآن بقي أن نُعيد إدخال الـRan الذي يضم الـGDP إلى داخل النواة مرة أخرى وتحويله إلى Ran به GTP، ليكون جاهزاً للاتصال والإخراج لاحقاً، وهذه العملية تتم عبر ناقل آخر اسمه NTF2 يتصل بالـRan الذي به GDP ويدخل أيضاً عبر المسامات بآلية معينة تتفهمها [16] البروتينات الموجودة في الـNPC.

في داخل الخلية ثَمّة بروتين يُدعى Ran به GEF يحفز الـRan الذي به GDP لكي يُطلق الـGDP ويربط بدلاً منه GTP فيعود الـRan به GTP جاهز للاتصال من جديد، وهذه العملية المُعقَّدة جداً جداً والمدروسة بتخطيط هندسي عالٍ لا يمكن أن تتم إلا عبر تصميم متكامل عبقري، فلا يمكن أن تتم مثلاً دون أي بند من بُنود هذه السلسلة المتكاملة، ووجود أي عنصر ناقص يجعل العملية تفشل برمتها، إنّ بقاء الـRan المحمل بـ GTP داخل الخلية والـRan المحمل بـ GAP خارج الخلية أمر مهم للعملية، ولو حدث العكس لما تمت العملية من الأساس، هل انتهت العملية هنا؟ لا، لم تنتهِ؛ لأنّ هُنَاك نواقل لم نكمل ماذا حصل بها مثل الـ NTF2 وغيرها، وهذه المركبات هي كيمياء عمياء لا تعي.

ماذا عن عملية إخراج المواد من النواة إلى السيتوبلازم، أي العملية العكسية لما فوق، فلو كان هُنَاك بروتين نريد إخراجه، سنعيد الآلية نفسها، فهُنَاك ناقل mRNA cargo يفحص الأحماض الأمينية ويتأكد من أنّ تسلسلها صحيح تحت مسمى Nuclear Export Signals، وهذا كله عبر ناقل يُدعى Exportin فيتصل الـRan المحمل بـ GTP فيرتبط بالبروتين الخارجي والبروتين الناقل وتتحرك الثلاث عناصر سوياً عبر المسامات إلى الخارج بطريقة تتابعية، ثم يحصل تحلل مائي لـGDP فتنفصل العناصر، ثم يأتي ناقل آخر ليعيد الـ Exportinعبر المسامات إلى داخل النواة.

هذه الآلية المُعقَّدة التي يفحص بها Exportin أو الـImportin تسلسل الأحماض الأمينية بين ملايين الاحتمالات ويسمح فقط لأنواع بروتينات معينة كي تلج إلى داخل النواة أو خارجها وكأنه آلة ذكية مصممة بطريقة تَفُوق قدرتنا على المستوى الجزيئي لفحص هذه الشيفرات، لا يمكن أن نفكر بعدها إلا في تصميم هندسي متكامل، من المُستحيل أن يكون هذا النظام المُعقَّد قد جاء نتاج العشوائية، العقل لا يتقبل هذا الافتراض، هذا النظام وُضِع هكذا مرة واحدة، وضعه المصمم على خريطة ثم نفذه وقال له انطلق، هذا تعقيد غير قابل للاختزال فلا يمكن لأجزاء أن تبدأ ثم نضيف عليها أجزاء أخرى بعد 1000 عام، ثم نقول أننا قد أضفنا جزءاً آخراً بعد 4 آلاف عام إلى أن باتت بهذا الشكل، وإنني على استعداد لأن أدعو أي شخص على فرشوحة شاورما ليخبرني كيف لهذا النظام أن يكون قد أتى عبر مراحل متتابعة منذ آلاف أو ملايين السنين!

طبعاً، لعدد الثقوب وآلية توزيعها وترتيبها وحجمها في الغلاف وتكوينها، وترميزها بل وحتى أنواع النواقل المُختلفة للبروتينات المُختلفة تصاميمها الخاصة عجائب أخرى يمكن أن نستغرق عشرات الصفحات لشرحها، فعلى سبيل المثال يملك الـ NPCدورٌ مُساعدٌ في إصلاح تسلسل الدنا المعطوب عبر آلية كيميائية دقيقة بالاعتماد على بروتينات الميوسين الناقلة، والسؤال هنا، كيف تميز الـNPC الدنا التالف وتميز بينه وبين الرنا وتقرأ تسلسل قواعده بدقة وتحدد بعدها الفرق بين آلاف البروتينات المُعقَّدة في البناء!، والاحتمال هنا احتمال مُستحيل في هذا الجزيء الضئيل، الاحتمال هو 1 من 10^202 أي واحد من 10 أمامها 202 صفر وهو أكبر من كل احتمالات الكون فهو رقم أكبر من كل الجُسيمات في الكون، لأن بروتيناً واحداً فقط غير مناسب قادر على تدمير النواة وتخريبها، فليفسر لي شخص مرة أخرى هذا النظام الفائق بكلمات مفهومة!

هذا يكشف الدور الطبيعي للدنا كونه غير فعال بنفسه، إذ يجب أن يُقرأ ويُفسر أولاً إلى رنا RNA ليصبح ذا فائدة في الخلية، وهذا يجعلنا نتساءل، أين الطفرات في الدنا؟ إنّ الخلية لا تقبل الطفرات، ولا تقبل الدنا التالف لأنه بلا معنى، فيجب أن تقوم بإصلاحه أولاً لتستفيد منه وتقوم بقراءته لاحقاً إلى رنا ذو معنى للخلايا، وهذا ما سنوضحه في دور الدنا وآلية عمله.

هُنَاك آليات عديدة وطويلة للنقل بين الخلية ومحيطها الخارجي، وبين نواة الخلية وأجزاء الخلية، ولكل آلية خطواتٌ طويلة مُدهشة تَسُر الباحثين المتأملين، لا يسعني هنا إلا أن أذكر قفص الكلاثرين Clathrin (شكل 23 قفص الكلاثرين لنقل المواد ) الذي يقوم بحمل الجزيئات ونقلها داخل الخلية كما لو كانت خزنة مصفحة تنقل النقود من الخزينة العامة إلى خزينة البنك.


شكل 23 قفص الكلاثرين لنقل المواد [1]

الدنا

عند ذكر الدنا DNA الخاص بالحياة، فإننا نتطرق إلى شيءٍ كبيرٍ وعظيمٍ جداً، وهذه جملة اعتيادية في مقدمة شيء غير اعتيادي، تحتوي النواة على المادة الوراثية للكائن الحي، مرتبة في مجموعة من اللوحات تسمى الصبغيات (الكروموسومات)، يمكن تبسيط الفكرة بالقول أنه -نظرياً- لو تمكنا من زراعة أي نواة خلية فيمكننا أن نحصل منها على الإنسان الكامل نفسه، لأن الدنا عبارة عن مركز تخزين المعلومات وهو مثل القرص الصلب الذي يحتوي كل بيانات الكائن الحي، وبالمناسبة هو بمساحة 455 مليار جيجا بايت، كل خلية فيها دنا في النواة بهذه المساحة التخزينية! وهذا ما يجعل الباحثين يعملون دائماً على محاولة صناعة أقراص تخزين حيوية من هذه الشرائط الكيميائية.

إنّ الهدف الأساسي لنواة الخلية الحية هو إنتاج وبناء وإصلاح هذه الأشرطة التي تحتوي على المورثات (الجينات أو الشيفرات) التي تحتوي على بُنود وتفاصيل وعمليات حياتنا بالكامل، فضلاً عن قيام النواة بتخزين هذه الشرائط، إلا أنها مسؤولة عن نسخها بالكامل حينما تنقسم، وهي مسؤولة عن تسيير كل عمليات الخلية بناءً على التعليمات المخزنة فيها.

يُطلق على مجموع المُورثات في الكروموسومات بالجينوم أو المجموع الوراثي، ومن المفترض أنه يشكل خريطة مفصلة لبناء الإنسان وسير حياته من المهد إلى اللحد، كيف تتكون الخلية الأولى، كيف تنقسم، كيف تتكاثر، كيف يصبح طفلاً، كيف ينمو ليصبح إنساناً بالغاً، ما لون عينيه، ونوع بشرته، كيف ترسل كل خلية إشارات إلى غيرها، وكيف كيف كيف كل شيء، بل وتحتوي الخلية على لحظة فناء الإنسان البيولوجية سواء من أمراض أو من نهاية طاقة انقسام الخلايا النهائي (نظرياً).

تحتوي الكروموسومات على الصفات والعمليات في أشرطة من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA هذه الشرائط تحتوي على كل ما يلزم لكي يعمل جسمنا بالكامل [17]، وتحتوي كل خلية حية على ما يزيد عن متر ونصف من هذه الشرائط متصلة، مهمة هذه الشرائط هو حفظ كل المعلومات الخاصة بالكائن الحي ونقلها ونسخها وقراءة تسلسلها لاستمرار الحياة، أتَفهّم أنّ هذه الأسطر بسيطة، لكن ما تقوم به شرائط الدنا هو الحياة بأكملها، هيّا نحاول الغوص في الأعماق أكثر الآن، أرجو إضافة المزيد من الرصاص.

تحتوي نواة الخلية البشرية على 46 كروموسوماً مصطفة في 23 زوج من الكروموسومات تحتوي على المادة الوراثية، والكروموسوم موجود في الخلية على شكل الحرف X، وكل كروموسوم تقريباً لديه طول وانحناء مُختلف عن الآخر، في داخل هذه الكروموسومات خيوط ملتوية من الدنا، هذه الخيوط مرتبة ومكونة من فقرات معينة أشبه بالتعليمات تُدعى المورثات (الجينات)، وإنه من المفترض أنّ لكل جين بداية ونهاية وهدف معين، مثل طريقة صناعة بروتين معين، هذا الجين مكتوب بأحرف كيميائية هي الأحماض النووية، (شكل 24 الدنا في نواة الخلية)


شكل 24 الدنا في نواة الخلية

يحتوي كل كروموسوم على جينات مُختلفة لبناء أجزاء مُختلفة وتفسير عمليات مُختلفة، وهُنَاك من 20 ألف إلى 25 ألف جين مسؤولين عن بناء البروتينات (الرقم ٢٣٦٠٠)، وهُنَاك تقريباً العدد نفسه من الجينات غير مرتبطة ببناء البروتينات، وهي جينات لها علاقة بتفسير بناء البروتين عبر الرنا RNA، أي أنّ خلاصة عدد الجينات تقريباً في جسم الإنسان قد يصل إلى 50 ألف جين مرتبة في سلاسل الحمض النووي الدنا مكتوبة بأحرف الأحماض الأمينية، وملفوفة في شرائط تسمى بشرائط الكروموسومات، مرة أخرى نصف الجينات توضح كيف نبني البروتين، ونصفها الآن يوضح كيف نقوم بتفسير بناء البروتين.

تحتوي كل خلية في نواتها على الجينوم البشري كاملاً والجينوم هو كتاب تعليمات الإنسان، وتم تنفيذ مشروع ضخم لدراسة وتفكيك الجينوم البشري تحت مسمى Human Genome Project، وقد أدى هذا إلى الحصول على كتاب مكون 3.3 مليار حرف هو محتوى كل الدنا البشري، والجدير بالذكر أنّ ترتيب المُورثات في الكروموسومات هو ترتيب مُحدد وواضح وله هدف، وكل كروموسوم يحتوي على مورثات تقوم بوظائف معروفة، ومرة أخرى نظرياً لو أخذنا نواة خلية وزرعناها في بويضة، يفترض أن نحصل على إنسان كامل.


تحتوي كل خلية في أجسادنا على مركبين من المواد الوراثية وهما الدنا DNA والرنا RNA وهذين المركبين هما المسئولان عن قراءة وتخزين المعلومات الوراثية الخاصة بكل إنسان، وهما مسئولان عن إنتاج خلايا الجسم الجديدة وإنتاج البروتين اللازم للحياة، وكل كائن حي لديه جيناته (مورثاته) الخاصة التي يعتمد وجوده عليها، فمثلاً ميكوبلازما جينتاليوم Mycoplasma genitalium أحد أبسط أنواع البكتيريا الموجودة لديها ٥٠٠ جين تقريباً، وبكتيريا الإيشريشيا كولاي Escherichia coli أشهر أنواع البكتيريا التي تعيش في الأمعاء لديها ٤٣٠٠ جين، في حين أنّ فيروس الإنفلونزا (أصغر الفيروسات) الذي يسيطر على الخلايا التي يصيبها حتى يتكاثر لديه ١١ جين فقط.

عندما ننظر إلى هذين الحمضين نجد أنّ لهما وظيفتين، فعلى المدى القصير يقومان بتشفير جميع معلوماتنا الوراثية ويقومان بنسخ الجينات اللازمة للبناء، أما على المدى الطويل فيقوم الدنا بتخزين المعلومات الوراثية لنقلها عند انقسام الخلية إلى خلية أخرى، أما الرنا فوظيفته قراءة وفك تشفير المعلومات الموجودة في الدنا.

رسم توضيحي 14 تركيب شريط الدنا

الأحماض النووية

يتكون الدنا من شريطين ملتفين حول بعضهما البعض بشكل حلزوني، يحتوي هذين الشريطين على تعليمات مكتوبة وواضحة يمكن قراءتها في أي وقت، أما الرنا فيتكون من شريط واحد، والمكون الأساسي لهذه الأشرطة شيء يُدعى النيوكليوتيدة، هذه النيوكليوتيدة عبارة عن مركبات كيميائية تتكون من ثلاث وحدات بنائية هي:

  1. سكر خماسي.
  2. مجموعة فوسفات ³(PO4) مرتبطة بجزيء السكر عبر ذرة الكربون الخامسة.
  3. قاعدة نيتروجينية ويمكن اعتبارها الحرف الذي يكتب فيه التمايز بين المركبات، وتحتوي الحياة على 4 أحرف (مركبات كيميائية)، وهما في الدنا: أدينين ويرمز له [A]، ثايمين [T]، غوانين [G]، سايتوسين [C] [18]، وعلى سبيل المثال فإن TTA هي شفرة الحمض الأميني الليوسين، و TTT هي شفرة الفينيلالانين.

ترتبط النيوكليوتيدات مع بعضها في سلسلة عبر روابط تساهمية (مثل بناء البروتينات من الأحماض الأمينية) بين سكر أحد النيوكليوتيدات وفوسفات النيوكليوتيدة التالية لتكون العمود الفقري للدنا، ترتبط قواعد سلسلتي عديد النيوكليوتيد النيتروجينية مع بعضها وفق قواعد مُعينة مُسبقاً تُدعى قواعد الترابط الزوجي (A مع T وG مع C) وذلك عبر روابط هيدروجينية بسلسلتين ضد متوازيتين (الاتجاهات المتعاكسة) [19]، ولتحزيم هذا التشكيل الكيميائي آلية طويلة وروابط وهيكليات مُعقَّدة مثل هيكليات وروابط البروتين كما تم ذكرها.

والحقيقة أنّ محاولة تفسير أو فهم لماذا يظهر الدنا بهذا الشكل الكيميائي الخاص وليس بشكل آخر يقودنا لذهول يُؤَدِي إلى خروج العقل عن طوره، ولو أننا وقفنا عند كل مركب كيميائي ودرسناه من ملايين المركبات الكيميائية في الخلية لعرفنا عظمة الحياة، فمثلاً الهيكل الأساسي المكون من مجموعة الفوسفات الذي يربط النيكليوتيدات قادر على ربط النيوكليوتيدتين مع بقائه مؤيناً، والشحنة السالبة الناتجة من هذا التأيين تسمح بتثبيت المفاصل الفوسفاتية وحمايتها من التحلل المائي، مع الإبقاء على الجزيئات داخل الأغشية، ولا يوجد مركب آخر يُلبي الأدوار المُختلفة للفوسفات في الكيمياء الحيوية، وفي هذا الصدد نشر العالم فرانك ويسثايمر بحثاً بعنوان لماذا اختارت الطبيعة الفوسفات Why nature chose phosphates [20] لتوضيح هذه العظمة في هذه الجزئية غير المذكورة من جزيئيات الحياة الأخرى، ويوحي العنوان كما هو ظاهر أن الطبيعة المكونة من رمال وأنهار لديها الوعي لخلق الكائنات بما يناسبها بعد أن درست العناصر الكيميائية واختارت الفوسفات بعد التأكد من فعاليته.

أما الرنا فيختلف في دوره قليلاً عن الدنا ولتوضيح ذلك لننظر إلى أنواع الرنا:

  1. الرنا الرسول Messenger RNA (mRNA): أو اختصاراً المرنا، يقوم بنسخ أجزاء الشفرة الوراثية، إذ ينقل تلك الأجزاء إلى الريبوسومات والتي هي مصانع البروتين، ولكي يُصنع البروتين في الريبوسومات هو بحاجة إلى دليل إجرائي، وهذا دور الرنا، نسخ التعليمات من الدنا ونقلها إلى الريبوسومات.
  2. الرنا الناقل Transfer RNA (tRNA): بعد أن جلبنا الدليل الإجرائي نحن بحاجة إلى عامل يجلب لنا الأحماض الأمينية من السيتوبلازم لبناء البروتين، لعلك تذكر أنّ البروتينات مصنوعة من طوب اسمه الأحماض الأمينية، ولعلنا نذكر أنّ لكل حمض أميني ناقل خاص، وهذه العملية تسمى الترجمة Transcript.
  3. الرنا الريبوسومي Ribosomal RNA (rRNA): وهو المُكون الرئيسي للرنا الكلي في الخلية ويمثل نسبة 80-85% [18]، والذي أيضاً يمر على عُضيّات خاصة في الخلية مثل السبليسوسومات والسنيربوسومات.

حينما تنقسم الخلية فإنّه يجب عليها مضاعفة الدنا في نواتها لكي تنال الخليتان الناتجتان على المعلومات نفسها الموجودة في الخلية الأصلية، وللقيام بهذه العملية الطويلة السريعة تقوم إنزيمات التوبوإيزوميراز topoisomerase بفك تحزيم سلسلة الدنا أولاً ثم تقوم بفك السلسلة المضاعفة، ثم تقوم إنزيمات أخرى كعامل مساعد مثل إنزيم الهيليكاز helicase الذي يحل الروابط الهيدروجينية بين النيوكليوتيدات ويفصل السلسلتين عن بعضهما، ثم يُنتج سلسلتين متكاملتين عبر إنزيم بوليميراز الدنا DNA polymerase، ثم تبدأ عملية النسخ، حرف بحرف إلى أن ننسخ الـ3.3 مليار حرف في كل الكروموسومات وترتيبها بنفس الشكل وبنفس محتويات الخلية الأخرى مثل جهاز جولجي والميتوكوندريا التي يجب أن تكون متساوية تقريباً في الخليتين، الأمر أشبه بنسخ مكتبة وذلك عبر قسمها لقسمين، إذ نقوم بتصغير المبنى واستخدام مواده الخاصة لبناء آخر ولكن بصورة مصغرة، وكذلك نقوم بنسخ كل الكتب حرفاً حرفاً، ولعلي أذكر أن لكل نوع من أنواع الرنا آلية نسخ خاصة ومواضع خاصة لنسخه ولك أن تتخيل تعقيد العملية هذه بالمجمل والتي لا أنوي ذكر شيء آخر غير نسخ 3.3 مليار حرف بطريقة مرتبة، وهي أكثر تعقيداً من نسخ الكتب في المكتبات وترتيبها في موضع جديد دون أي خطأ، إذا لم يدهشك هذا، فلا داعي لإدهاشك بالشرح.

رسم توضيحي 15 شرح لعملية الانقسام، نجد في كل خطوة من الخطوات التخطيط العجيب والدور الوظيفي لأجزاء الخلايا المُختلفة في عملية الانقسام.

النسخ والمضاعفة

تهدف عمليتا النسخ Transcription والمضاعفة Replication إلى إنشاء نسخة من الدنا وإنتاج أجزاء جديدة بالاعتماد على الأحماض الأمينية، لكن عملية النسخ تهدف لإنشاء نسخة من الدنا إلى الرنا، أما عملية المضاعفة فهي إنشاء نسخة من الدنا إلى الدنا، عملية النسخ هدفها بناء البروتينات، وعملية المضاعفة هدفها انقسام الخلية.

في عملية النسخ (شكل 25 عملية النسخ) والتي تبدأ من داخل النواة، يجري أولاً نسخ تسلسل قواعد النيوكليوتيدات المكونة لشفرة بروتين معين من قالب الدنا مما يُؤَدِي إلى إنتاج جزيء جديد من الرنا الرسول والذي ينتقل خارج النواة، وأثناء ذلك يخضع لعملية تعديل تُسمى التضفير، وما أن يصل هذا الرنا الرسول إلى السيتوبلازم حتى تتحد معه الريبوسومات، إذ يعمل بعدها كقالب للربط بين الأحماض الأمينية في البروتينات، في عملية تُسمى الترجمة.

يقوم الرنا الناقل بنقل الأحماض الأمينية إلى الريبوسوم وبعد انتهاء هذه العملية تدخل البروتينات المُتكونة على الشبكة الإندوبلازمية الحيّز الموجود بين أغشية الشبكة الإندوبلازمية في عملية طي أخيرة قبل تمريرها لمواقع أخرى مثل أجهزة جولجي، وقد تدخل السكريات أيضاً في هذه العملية المعروفة باسم الارتباط بالجليكوزيل، وتخضع البروتينات المخلقة حديثاً لمراقبة جودة صارمة، وإن حدث أن وُجد بها عيب من أي نوع، فإنها توسم بواسطة جزيئات اليوبيكيتين كي تتعرض للانحلال السريع، وما أن يتم بناء البروتينات الجديدة وتُطوى حتى تصبح بحاجة إلى الوصول إلى وجهتها الأخيرة داخل الخلية بين مليارات جزيئات البروتينات الأخرى التي تُخلّق وتتحلل على نحو دائم، وقد تحتاج بعض البروتينات أن تمر عبر حاجز غشائي أو حاجزين قبل الوصول إلى المكان الذي ستؤدي فيه وظيفتَها [10].

والجدير بالذكر أنّ الخلية تنسخ 100 قاعدة نيوكليتيدية في الثانية الواحدة ويمكن أن يصل هذا العدد إلى 1000 قاعدة في الثانية، وهذا كله دون خطأٍ واحد وذلك بوجود إنزيمات لمراجعة وتصحيح أي نيوكليوتيد غير مطابق، مع احتمال حدوث خطأ واحد فقط في الغالب في كل مليار نيوكليوتيد [10]، ويقوم بعملية توزيع الحصص بين الخليتين عُضية مُختصة ودقيقة تُدعى المريكز Centriole، سأترك لك المجال لتحسب كم عملية نسخ تحدث يومياً في جسم الإنسان، لأنّ الرقم لن يكون لطيفاً.


شكل 25 عملية النسخ

إذ يتم فك الشريط المزدوج وقراءته قراءة حرفية في الرايبوسوم

وحتى نقوم ببناء نسخة من الدنا الجديد، يقوم إنزيم يُدعى الرنا بوليميريز RNA polymerase بنسخ محتويات الدنا قطعة بقطعة ولتسهيل العملية يجب فصلها في خطوات مُبَسطة:

  1. تنفصل شرائط الدنا المزدوجة، إذ يعمل أحد الشرائط كقالب للنسخ، وتقترن نيوكليوتيدات الرنا مع نيوكليوتيدات الدنا للقالب ويبدأ هنا دور الرنا الرسول الذي يقرأ ويفسر.
  2. تقترن النيوكليوتيدات مع بعضها البعض وفقاً لقواعد مُحددة وهذه القواعد منها: أزواج الأدينين (A) مع الثيمين (T) أو اليوراسيل(U)، وأزواج السيتوسين (C) مع الجوانين(G).
  3. يحتوي الرنا الرسول على المعلومات اللازمة لتحديد تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين لتبدأ عملية نقل الأكواد الجينية وفق آلية مُحددة وكأن الرنا الرسول إنسانٌ واعٍ.
  4. يتصل الرنا الرسول بمنطقة على الشريط تُدعى المُحفز وهي نظرياً بداية الجين المراد نسخه وهي عملية طويلة بحاجة إلى أدوات خاصة تدعى عوامل النسخ، فأنت لكي تنسخ مجلدات يجب أن تحدد بداية المجلدات والصفحات، وإلى أين تتوقف وهذه العملية بحاجة إلى أدوات.
  5. تبدأ عملية طويلة من النسخ والفحص والتأكيد، ويتم صنع نسخة لكل شريط من الدنا ويصبح جاهزاً، ويتحكم في هذه العملية ما يقارب 3000 بروتين مُختلف.

شرح مرئي أكثر عبر هذين المقطعين:

رابط 6 استعراض لعمليات الدنا

https://bit.ly/3hW8uEd

رابط 7 شرح ثلاثي الأبعاد لعملية مضاعفة الدنا

https://bit.ly/331eY0g

ولك أن تتخيل أنّ الفايروس الذي يُعد أبسط الكائنات غير الحية يفهم هذا الأمر المُعقَّد بدقة شديدة! إي ومونيكا، يا من تشكو من صعوبة مادة علم الخلية عدة مرات، عليك أن تخجل من نفسك، فالفايروس يفهمها بدقة عالية تَفُوق فهمك، فهو يدخل الخلية ويحقن الدنا الخاص به بدقة عالية في عملية النسخ، ويخدع الخلية ويجعلها تنسخ الدنا الخاص به لتصنع فايروسات كاملة وبذلك يقتلها ويسيطر عليها، وليس نوع واحد من الفايروسات، بل كل الفيروسات على هذا المنوال العبقري، كل الفايروسات هي كائنات لا تعيش إلا بداخل الخلايا Obligate intracellular parasites، ولعلي أدهشك بأن هُنَاك بعض أنواع البكتيريا كذلك، لا تعيش إلا داخل الخلايا مثل الكلاميديا والريكيتسيا، بالإضافة إلى بعض الحيوانات الأولية protozoa والفطريات، جميعها يفهم الخطوات بدقة عالية، أيّ تخطيط هندسي متكامل هذا!


رابط 8 عملية حقن فايروس سارس لأشواكه

https://bit.ly/2M8rqpf

وقد ذكرنا أنّ العُلماء لا يرون الفايروسات أحياناً ككائنات حية، لكن دعونا ننظر فقط إلى آلية ارتباط الفايروس بالخلية ولنحكم بأنفسنا، ليتسنى للفايروس إطلاق شيفرته الوراثية، تقوم الخلايا بنسخ الجينوم الخاص به، كما في (رابط 8 عملية حقن فايروس سارس لأشواكه)، إذ ترى أنّ الفايروس كائن لديه غاية، يعرف جيداً تصميم الخلية، ويعرف كيف يتصل بها، ويعرف كيف يخدعها ويُدخل فيها أشرطته الجينية لتقوم الخلية بصناعة ملايين النسخ منه، بجينوم كامل وغشاء خلوي وبروتينات مُختلفة، إذ يمتلك إنزيمات مخصصة لنقل جينومه، كذلك تقوم هذه الإنزيمات في بعض الأحيان بتعديل شكل الجينوم لكي يتقبله الكائن الضحية، فقد تقوم بلف شريط الرنا المستقيم إلى دائرة حتى تستطيع إدخاله في النواة! وبروتين S الموجود على سطح الخلية في آلاف المواضع، يتكون العنصر الواحد منه من 1160–1400 حمض أميني على حسب نوع الفايروس! إنه أعزائي العُلماء كائنٌ واعٍ لما يفعل، وليس كائناً غير حي!

إصلاح الدنا

إنّ عملية إصلاح الدنا التالف من العمليات المهمة التي تمارسها الخلية في كل لحظة، فلا يمكن النسخ من شريط تالف، ويتطلب الأمر إصلاح ذات الشريط قبل بدء النسخ، فلكل جزء في الدنا دور وظيفي مهم، والمهام الوظيفية هذه لم تكن مفهومة سابقاً وليست مكتملة حالياً، لكن لا يوجد هُنَاك دنا دون وظيفة حسب مشروع إنكود كما سنتطرق له، كله موجود لدور مهم ومحفوظ، ولكي تبدأ العملية تعثر الخلية على شريط دنا تالف فتبدأ سلسلة من العمليات على رأسها بناء خيط Filament من النواة للشريط وفي عملية أيضاً طويلة يتصل بروتين الحركة ميوسين Myosin بهذا الخيط ويتصل بالشريط التالف، ويبدأ بعملية السحب )شكل 26 آلية سير الميوسين على قدمين(.

ولبروتين الميوسين قدمان ينقلان الشريط إلى الكروموسومات، وتبلغ كل خطوة ١٦ نانومتراً؛ مما يتطلب ٦٢ خطوة لكي يتحرك مسافة ميكرومتر واحد، ويمكن لهذا البروتين قطع عدة ميكرومترات في بضع دقائق وهي مسافة منتصف الخلية، يحاط كل جزيء ميوسين بأسطوانة من ٦ جزيئات أكتين (البروتين المكون للخيوط الدقيقة)، فقد يسمح للجزيئات بأن تنزلق بعضها فوق بعض. وهُنَاك أكثر من ٤٠ نوعاً مُختلفاً من الميوسين في الثدييات وهي مع بروتين الأكتين الخيطي توفر القوة الحركية الخاصة بانقسام الخلية وحركتها وحصولها على مواد خارجية، هذه العملية البسيطة هذه في الشرح، مكونة –بدورها- من عشرات البروتينات والنواقل والتفاعلات الكيميائية لكي تتم.


شكل 26 آلية سير الميوسين على قدمين

وكل جزيء طاقة ATP يحرك الميوسين بمقدار 37 نانومتر

نلاحظ أنّ للميوسين قدمين يرتبط بهما عبر الخيوط، فيمسك الحمولة ويسير بها إلى أن يوصلها إلى بر الأمان، إذ يحمل الدنا الجريح على ظهره كإنسان عاقل ويسير به عبر المسام نحو غرفة الصيانة في النواة.

صورة 4 سيارة النانو

لقد تطلب من مجموعة علماء أنتجوا مركباً بسيطاً على المستوى النانوي يتحرك بطريقة بدائية أن يقدموا ما يزيد عن 280 صفحة من البيانات والرسومات دليلاً على صحة تجربتهم وكيفية عمل مركبهم البسيط [21]، فقد احتوت على عشرات التفاعلات الكيميائية الدقيقة في درجات حرارة مُختلفة وتحت تأثير مؤثرات فيزيائية متنوعة، لكننا سنرى أنّ العُلماء في التفاعلات على المستوى الحيوي يقولون، لقد تطورت اليد إلى جناح، بكل بساطة! هذا الاستشهاد لتوضيح أنّ جزئية الحركة في الميوسين هي أمر على المستوى الكيميائي مُعقَّد ومُعقَّد جداً، لكننا في شرح الأحياء نستخدم كلمات بسيطة مثل: تحرك الميوسين!

الجينات

الجين هو تسلسل مُعيّن في شريط الدنا له بداية مُحددة ونهاية مُحددة، ومن المفترض أن يحدد عملية ما (افتراضياً)، سبق وأن ذكرنا أن هُنَاك تقريباً 23600 جين في شريط الدنا الكامل في كل خلية، وللتأكيد فإن الجين ليس بروتيناً، إنه مُجرَّد وصف تسلسل للأحماض الأمينية لكي يقرؤه الرنا في عملية النسخ أو المضاعفة.

 وهُنَاك نوعان واضحان من الجينات –كما سبق الذكر– الجينات المسؤولة عن تعليمات بناء البروتين protein-coding genes، والجينات المسؤولة عن باقي العمليات الأخرى اسمها noncoding genes، وفي شيفرة الجينات نجد أنّ هُنَاك نقاط مُحددة تبدأ فيها تعليمات تنفيذ الأوامر ونهاية التنفيذ وتوضيح عملية النسخ في الانقسام الثنائي للخلية، وهذا ما سيتم توضيحه، ومع تطور العلم وتقدمه لم تعد فرضية ]جين واحد-إنزيم واحد[ صحيحة في هذا العصر one gene—one mRNA—one polypeptide، فحين تمت تجارب هذه الفرضية على عين ذبابة الفاكهة كانت مناسبة في ذاك الوقت، أما الآن فالموضوع مُعقَّد، الجينات تتداخل بالإنزيمات وبالمرنا، جين واحد، بولي بيبتايد واحد، إنزيم واحد، مرسال واحد، كلها تغيرت [22]، وقادنا هذا إلى علم جديد يُدعى علم فوق الجينات Epigenetics.

إنّنا بالبحث بشكل أكثر عمقاً وجدنا أنّ جيناً واحداً قد ينتج عدة مرنا، كما يمكن أن يكون الجين الواحد جزءاً من عدة عمليات نسخ إنزيمية تحت مسمى Alternative Splicing، كذلك هُنَاك مفهوم بدأ يطفو بعنوان Protein Moonlighting، إذ تؤدي سلسلة ببتيد واحدة عدة سياقات بيولوجية في سياقات مُختلفة، وبذلك يتضح أنّ مفهوم الجين هو وحدة التوريث unit of heredity قد تغيّر بالكامل، لأنّ الأمر مُعقَّد أكثر بكثير من الحالة العلمية السابقة، والأمر مرتبط بعملية تصميم هندسية وليس تجميعاً بسيطاً، فمثلاً في حقيقيات النواة لا توجد حدود واضحة بين الجينات في عملية النسخ الإنزيمي، ما يجعل من المُستحيل تحديد عملية ربط بسيطة بين عمليات النسخ الإنزيمي الأساسية وبين ما ينتج من هذه العمليات.

حتى في محاولة رسم الجينوم، كانت النسخ الإنزيمية متداخلة بشكل كبير، إذ يستحيل ربط علاقة واحد إلى واحد بين تسلسل دنا عادي وبين نسخ إنزيمي له أو وظيفة مُحددة [22]، وتوجد أمثلة عديدة على عمليات نسخ إنزيمية تتم عبر أكسونات من مواضيع جينية مُختلفة بعيدة عن بعض مئات آلاف النيوكليتيدات، الخلاصة أنّ الجينات مرة أخرى أمراً مُعقَّداً جداً يرجع إلى التصميم الذكي والمُعقَّد.

بالعودة مرة أخرى إلى Alternative Splicing وهي عملية يُمكن فيها بناء أكثر من بروتين من جين واحد، لا شك أنّ الثدييات وخصوصاً البشر أكثر تعقيداً من الديدان الأسطوانية، لذلك كان الأمر بحاجة إلى دراسات أكثر في البشر، على الرغم من أنّ حقيقة علم فوق الجينات والـ Alternative Splicing لا تزال أدوارهم غير مكتشفة بالكامل في حقيقيات النواة، لكن هُنَاك حقيقة واضحة هي أنّ الـAlternative Splicing مهم جداً للتنوع الجيني وتوليد التنوع البروتيني.

وللتوضيح نسأل: كم عدد البروتينات المُختلفة التي يمكن تكوينها من سلسلة دنا واحدة؟

الجواب باختصار: كثير.

للعلم، يمكن للخلية الواحدة إنتاج 38,016 بروتين عبر إعادة تعديل واستخدام pre-mRNAs، والرقم الأقرب حالياً للجينات المرمزة للبروتين هو 19600 جين موثقة في الإنسان، في حين أنّ دودة الأرض لديها 20470 جين موثقة لترميز البروتين! وهذا يعني الأمور التالية:

  1. ليست الجينات من تصنعنا.
  2. لو أنّ التطور دقيق، فالدودة التي في بداية سلم التطور يجب أن يكون لديها جينات أقل لحدوث طفرات جينية أو جينات خردة.
  3. ينتج الجسم ملايين البروتينات المُختلفة، وعلى هذا فالـ19600 جين لترميز الملايين هذه لا تكفي للتفسير، ونحن في حالة أعمق مما يبدو عليه الحال.

ثَمّة ظواهر أخرى غريبة في عالم الجينات، نذكر واحدة منها فقط، فلو تم إتلاف أو إزالة جين لأي سبب من الأسباب (طفرة مثلاً) وحذفه من كل السجل الجيني، فيمكن لعدة عمليات معينة في الخلية أن تقوم بإعادة استحداث هذا الجين في عملية تُسمى Genetic compensation أو Genetic robustness [23] وقد تم رصد هذه الظاهرة في كائنات مُختلفة مثل الفئران والأسماك والنباتات.

فوق الجيناتEpigenetics

حسناً، الأمر مُحير قليلاً، فنحن بتنا نعتقد أنّ خصائصنا الكاملة من مظهر وسُلُوك ومعتقد مكتوبة حرفاً حرفاً في الجينات، وأنّها المسؤولة عن سير حياتنا وتصرفاتنا، فنحن نرِثها من آبائنا، وعلى هذا فستنتقل إلينا صفاتهم في حياتنا، لكن للأسف هذا غير صحيح، هذا ما يقوله علم فوق الجينات Epigenetics، وهو علم حديث موثق ويميل إليه العُلماء في الفترة الحالية لما له من أدلة واضحة في مواضيع الصحة مثل السرطان واختراع أنموذج دواء Temozolomide وتطبيقات أخرى في مجال الخصوبة ووراثة الأبناء، بل حتى تطور الدماغ وتطور أمراض مثل الانفصام ثنائي القطبية [24]، وبعد فهم كثير من المواضيع الأخرى التي كانت عالقة، مثل فهم تكيّف سكان التبت في ظروف حياتهم [25]، أو استيعاب أجساد سكان شعب الباجاو في قدرتهم على الغوص، ويمكن ببساطة أن نقرب الفكرة بأنّ الجينات هي مكونات الطبخة نجدها موضوعة على الطاولة، ولكن الـ Epigenetics هي الطاهي، وهي من تختار ما يجب أن يكون داخل الطبخة، حسب الظروف المحيطة.

وما يقوله العلم هو أنّ العوامل الخارجية المحيطة بنا هي التي تؤثر على آلية عمل الجينات وطريقة تفعيلها أو تعطيلها، هذه العوامل لا تؤثر على تسلسل النيوكليتيدات، ولكنها تؤثر على تمثيل الجينات Gene Expression دون التعديل في الدنا نفسه، أمثلة العلم هذا وحقيقته في كل مكان، مثلاً في نمو الكائن الحي وانقسام الخلايا الجذعية، الأمراض النادرة، تغيير لون الفئران بناء على طعامهم، بل في التوائم البشرية هذا الأمر واضح، فالسكن والمأكل المُختلف يغير كل شيء فيهم بالكامل، فلا يمسون توائماً، بل وطوال الفترة الماضية فشل العُلماء في ربط الصفات الإنسانية بالجينات.

نحن نعلم أنّ الجسم مُكون من بروتينات، والبروتينات هي المسؤولة عن عمل الجسم وأنها من تقوم بنسخ الدنا وشيفرتها مكتوبة في الدنا الذي نحصل عليها من آبائنا [24]، تملك الخلايا في الكائن الحي الدنا نفسه، ولكنها تنقسم عبر العوامل فوق الجينية Epigenetics إلى خلايا عصبية وخلايا دم وخلايا عضلية وغيرها، وذلك عبر تقنيتين معروفتين في هذا العلم وهما إضافة مجموعات ميثايل methyl أو تعديل في بروتينات الهيستون كما في (شكل 27 عملية مثيلة جينات الأغوطي)، ولهاتين التقنيتين دوراً في تمثيل الجينات، وتشكيل الخلايا، فعلى سبيل المثال، الفئران التي حصل لها مثيلة methylation في جينات الأغوطي (نوع من القوارض) كانت سمينة وذات لون أصفر، وعلى الوجه الآخر النوع الذي لم يحدث له مثيلة كان لونه بني وغير سمين مع العلم أنها تملك الدنا نفسه عند الفحص.


شكل 27 عملية مثيلة جينات الأغوطي

الأمر نفسه تم على ذبابة الفاكهة (الدروسوفيلا) إذ تم إجراء التجارب على الدنا لهذه الحشرة، فقد كان لدى الحشرات الدنا نفسه ولكن بلون عيون مُختلف [26].

تعد بكتيريا Helicobacter pylori من النماذج العالمية التي تتكيف بناء على الظروف المحيطة، ولديها تنوع جيني كبير، وهي البكتيريا المشهورة المسببة لمشاكل المعدة، وتُعالج الآن بالعلاج الثلاثي والعلاج الرباعي لأنها تتغير باستمرار، وفي دراسة بينت أنّ ما يزيد عن سلالة من هذه البكتيريا تتغير لمواءمة البيئة ويتم التغيير عبر عوامل فوق جينية [27] وليس عبر تغيير الدنا.

العديد من العوامل قد تؤثر في آلية عمل الجينات وخلال فترات مُختلفة من حياة الكائن، وعلى الرغم من وجود عوامل كثيرة ما زالت مجهولة إلا أنّ هُنَاك شواهد واضحة على دور عوامل البيئة، والضغط النفسي، والشيخوخة كعوامل سلبية على تأثير فوق الجينات، ودور واضح لعوامل أخرى ذات طابع إيجابي مثل الرياضة والأكل الصحي.

بل وتُشير دراسات حديثة إلى أنّه قد يكون عدد أنواع الكائنات الحية أقل مما هو موجود، ففي دراسة حديثة على كائنين من المفترض أنهما أحافير حية من جنس النوتيلوس Nautilus هما Nautilus stenomphalus و Nautilus pompilius(شكل 28)، اتضح أنّ الدنا لكلا الكائنين المصنفين مُختلفين هو دنا واحد متطابق! وتعود كل هذه الاختلافات الظاهرة إلى عوامل فوق جينية! بل وتشير دراسات أخرى حديثة إلى أنّ كلاً من الماموث الصوفي Columbian mammoth والماموث الكولومبي Woolly mammoth هما نوع واحد وليسا نوعين، فقط الاختلاف بينهما في العوامل فوق الجينية [28]، وهذا يعني أنّ النبي نوح حينما أخذ في سفينته كل الأنواع، كان عليه أن يأخذ سلفاً واحداً ويترك الباقي للعوامل فوق الجينية، اللعنة، كم أحب العلم!


شكل 28

Nautilus Stenomphalus Nautilus Pompilius

ونجد تطبيقات عديدة في الحيوانات والكائنات الحية لتأثيرات العوامل فوق الجينية، فالتحول في الكائنات هو مثال مباشر على تأثير فوق الجينات، لأنّ الدنا نفسه يتحول إلى يرقة ويتحول نفسه إلى شرنقة، ويتحول نفسه إلى فراشة، كذلك اختلاف النملة العاملة عن النملة الجندي هو فقط لعوامل فوق جينية سببها الغذاء فقط، وكلا الدنا واحد رغم الاختلاف الهائل في الشكل والوظائف بين أنواع النمل، والأمر نفسه في دنا النحل، وكذلك دراسات حديثة تشير إلى أنّ اختلاف مناقير عصافير داروين هو ناتج فقط لعوامل فوق جينية، لأنّ الدنا واحد بينهما.

تفعيل الجينات

دعونا نعود إلى عام 1944م، تحديداً إلى الشتاء القارس في أوروبا، حينما كانت ألمانيا تحتل هولندا وتفرض عليها حصاراً شديداً في تلك الأيام، مما اضطر الناس إلى تقليل الطعام والاقتصاد فيه لأعلى المستويات وصولاً إلى مرحلة المجاعة في مناطق كثيرة، وقد اضطر الناس إلى أكل العشب ونباتات التوليب، بالإضافة إلى قيامهم بحرق الأثاث للحصول على بعض التدفئة، وعرفت هذه الفترة باسم شتاء الجوع الهولندي أو شتاء الجوع أو المجاعة الهولندية Dutch famine، جميعنا نعلم أنّ الجوع ونقص التغذية يؤثران سلباً على صحة الإنسان، ولكن ما تأثير ذلك على صحة أبناء هؤلاء الجوعى؟ وأبناء أبنائهم؟ أي كل سلالتهم من بعدهم؟

نتيجةً لدراسة السجلات الصحية الجيدة في هولندا، تمكن العُلماء من ملاحظة هذه السلسلة من التجارب الحية للمواليد وأوزانهم وصحتهم بعد عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتهاءً بنتائج مذهلة وغريبة، ما وجده العُلماء هو أنّ الأطفال الذين كانوا في أشهرهم الأولى في الحمل من هذه الفترة المليئة بالجوع كانت ولادتهم بأوزان طبيعية، لكنهم عانوا من سمنة في سنوات حياتهم اللاحقة، أما الذين عانوا من المجاعة في أشهر الحمل الأخيرة، كانت ولادتهم بوزن أقل من المتوسط، واستمروا كذلك لبقية حياتهم، وبمستوى أقل من متوسط الوزن للناس من حولهم.

العجيب أيضاً أنّ هذه الصفات تم توريثها إلى أبنائهم أيضاً، أي الأحفاد (الأجيال التالية) من الأمهات التي عانت من الجوع، مع أخذ الاعتبار أنّ طبيعة أكل الناس عادت إلى ما كانت عليه قبل الحصار، وأنه لم تعد هُنَاك مُشكِلة في التغذية، ويُشير العُلماء إلى أنّ التغييرات هذه في متوسط الأوزان عائدة إلى تأثيرات البيئة في جينات الناس وليس إلى مشكلات التغذية، وفي وصف آخر إنّ الظروف الخارجية على الجينات أدت إلى تغييرات طويلة موروثة على الأحفاد، لحظة، أليس هذا ما كنا نعتقده بأنه تطور؟

من المنطقي أيضاً أنّ التغييرات البيئية لا تملك القدر الكافي لتغير ترتيب الدنا، إذ لا يزال الأبناء قد حصلوا على جيناتهم من آبائهم وأمهاتهم في فترة قصيرة، أي أنه يجب أن يكون هُنَاك مفهوماً آخراً ما دامت الجينات هي نفسها، يجب أن يكون هُنَاك عوامل أخرى أثرت على شكل الجينات التي يجب أن تتفعل في هذه الظروف القاسية، يقول العُلماء أنهم حددوا هرمون شبيه بهرمون الأنسولين الشبيه بهرمون النمو على أنه الهرمون المسؤول عن هذا الأمر [29].

يقول الدكتور Bas Heijmans أنّ العوامل فوق الجينية هي الآلية التي يتم من خلالها مواءمة أو تطوير الأشخاص للظروف السريعة المحيطة، ومن الممكن أنها السبب الرئيسي المؤثر على أطفال شتاء الجوع الهولندي، أما عالم الأعصاب Oded Rechavi يقول أنّ هؤلاء الأطفال بدا عليهم التأثير الكبير الوراثي من خلال جوع آبائهم.

تكمن المُشكِلة في دراسة هذا العلم هو أنّ ملاحظة تأثيره لا تتم على الجيل الحالي، بل تتم على الأجيال اللاحقة، الأمر الذي لا يعطي نتائج واضحة ودقيقة، كذلك حداثة هذا العلم فقد بدأ تسجيل ملاحظاته منذ وقت قريب، تُشير الدراسات على عظام أبقار البيسون في منجم الذهب الكندي إلى أنّ العوامل فوق الجينية كان لها أثر كبير على التغييرات الظاهرية في أجسام هذه الأبقار لتواجه تغييرات المناخ وتتكيف معها، وهذه التغييرات أسرع بكثير من التغييرات التقليدية التي يرسمها أنموذج التطور في الانتخاب الطبيعي، وهذا ما تقوله دراسات جامعة Adelaide عبر دراسة العظام ودراسة تفعيل بعض الجينات وتعطيل أخرى في الدنا نفسه دون وجود تغيير على تسلسل الدنا نفسه، دون وجود عملية تطور كما هو التطور لقياسي الذي يفرضه التطور.

سبق وتحدثنا عن فئران الأغوطي، فقد تم تفعيل بعض الجينات في سلسلة الدنا نفسها وتعطيل أخرى، ونتج ولادة فئران مُختلفة الشكل واللون؛ مع أنها تتبع تسلسل الدنا نفسه، وذلك عبر تزويد الأم بفيتامين بي 12، يقول التطور في الدارونية الجديدة أنّ الطفرات والانتخاب الطبيعي هما السبب الأساسي للتنوع الحيوي على الأرض، وهذا ما يجعلهم يعارضون بشدة ما توصل إليه علم فوق الجينات، وما زالوا يصرون على أنّ التطور عملية بطيئة وطويلة، وأنّ الطفرات العشوائية هي المسؤولة عن هذه التغييرات الهائلة.

يضيف علماء فوق الجينات أنّ الأمر ليس له علاقة بالتطور، بل هو موجود فعلياً داخل تسلسل الدنا الحالي، هناك مجموعة كبيرة من الجينات الداخلية التي تنتظر عوامل معينة من البيئة لتتفعل أو تتعطل داخل الكائن الحي، وهو يشبه وجود صفحات مطوية في كتاب، تنتظر أن تصل إلى فصل معين لتُفتح للقارئ حسب ظروف معينة يحددها الكاتب.

وهذا ما يقود العُلماء إلى أنّ هذه جينات موجودة ومكتوبة في دليل الكائنات تتفعل أو لا تتفعل بناءً على أمر ما، وليست أموراً إضافيةً لم تكن موجودة في تسلسل الدنا وفجأة ظهرت عليه [29].

وقد أكّد الدكتور دينيس نوبل أنه بعد ما توصل إليه العلم في علم فوق الجينات، يجب على التطوريين إعادة كتابة نظريتهم بطريقة جديدة لأنها كانت تعتمد على الطفرات والانتخاب قبل معرفة تأثير العوامل فوق الجينية ودورها، بل يضيف أنه بعد فهمنا للجينات، تأكدنا أنها في الحقيقة غير ذات قيمة واقعية، وهي معلومات مجهولة Passive إلى أن يقوم جزء آخر من الجسم بتفعيلها مثل بروتين ما، كما سنوضح.

ونستذكر هنا العالم الفرنسي لامارك إذ كان يتبنى فكرة أنّ الصفات الوراثية مكتسبة من الصفات الأبوية، مثل أنّ طول عنق الزرافة مكتسب من أباء الزرافة التي أطالت رقبتها لتصل إلى الأشجار الطويلة، وهذا ما رفضه العُلماء من بعده في أماكن كثيرة، ولكن العالم دينيس نوبل يرى أنّ ما يقوله لامارك أقرب إلى الحقيقة من باقي نظريات التطوريين الجديدة، وذلك بالاعتماد على علم فوق الجينات الذي بين أيدينا.

يقول البرفسور آلان كوبر ما خلاصته أنّ التغييرات السريعة في الصفات الوراثية للتكيف مع تغييرات المناخ السريعة ليست ناتجة من عملية تطور تعتمد على الانتخاب الطبيعي والطفرات، بل هي أقرب لما يقوله علم فوق الجينات، وهذا يجيب أسئلة كثيرة كنا نطرحها وننتظر الإجابة عنها، وهذا ما يبين أن المصمم قد كتبها وكانت إحدى التقنيات التي أودعها في خلقه لمواءمة التغييرات البيئية الكبيرة [29].

البيضة أم الدجاجة

بات لدينا معلومات بسيطة عن التعقيد الكبير في بناء الخلية وآلية عملها وتصنيع الدنا والرنا، وبتنا نعرف أنّ الرنا بوليميريز RNA polymerase هو الإنزيم المسؤول عن بناء الدنا أو الرنا، وهذا المركب مكون من البروتينات، والبروتينات لا يمكن أن تصنع إلا من رنا بوليميريز، والذي يتم صناعته أساساً من الدنا، والدنا يصنع عن طريق الرنا والرنا يصنع عن طريق الدنا، فمن أتى أولاً، الرنا أم الدنا؟

رغم توفر الأدلة على أنّ الدنا أتى أولاً، إلا أنّ كمّاً من العُلماء المُؤمِنون بالتطور لا يزالون يعتقدون أنّ الرنا أتى أولاً، لأنّ الرنا أسهل في تركيبه من الدنا، أيضاً الرنا موجودٌ في بدائيات النواة، إذ أنّ النواة دون غشاء، ويعتقد التطور أنها أساس الخلايا حقيقية النواة لاحقاً، كما أنّ الرنا يُؤَدِي أدواراً أخرى بعيدة عن النسخ مثل كونه عاملاً محفزاً في عمليات كيميائية مُحددة، أي أنه يتصرف كالإنزيمات وفي أحيان أخرى كالبروتينات.

ولكن، إن كان كل شيء على ما يرام، فلماذا تطور الدنا إذا كان الرنا قائماً وكافياً؟ نعلم أننا كبشر لا نطور أجنحة لأنها لا تلزم، ولم نطور مدخل USB لأنه لا يلزم، لكن، لماذا تُطور الخلية شيئاً إضافياً ما دامت تعمل بكفاءة!

الجواب الحالي هو أنّ الدنا يملك شريطين والشريطين أفضل في حماية الشيفرة الجينية، فلو حدث تلف في شريط فالشريط الآخر يحميه ويحفظه وهذا أفضل في الحماية والتعديل، وهذا الجواب الجميل أشبه بقصص ألف ليلة وليلة، كيمياء غير واعية تُنتج كل هذه الآليات العظيمة نتاجاً عشوائياً، وكأنها ذات عقلٍ يفكر ويبتكر هذه الأجهزة التي تَفُوق تخيل البشر، وفي كتابنا ذكرناها في بضع صفحات استرقناها من عدة مجلدات حتى نستوعب جزء منها وبالكاد فهمناها، أما الطبيعة الذكية فتقوم بما هو أعظم، نريد إجابة أعمق أعزاءنا العُلماء، وهُنَاك شواهد أخرى منها:

  1. هُنَاك عملية مُعقَّدة وطويلة لإصلاح الدنا التالف وهذه العملية تحتاج إلى إنزيمات عديدة وعلى فرضية أنّ الحياة نشأت في بحيرة ماء وقليل من أشعة الشمس، دون وجود بروتينات وإنزيمات الصيانة والتصليح فإن الدنا الطويل هذا -وحتى في الفايروسات- لم يكن ليكون لو تكون صدفة دون هذه البروتينات.
  2. بات واضحاً أنّ الدنا وحده لا يكفي، دون العوامل فوق الجينية ودون بيانات فوق الجينات التي تبيّن هيكلية بناء البروتين وكثير من الأمور مثل هيكلية تصليح الدنا.
  3. لا يمكن للكائن أحادي الخلية أن يتطور إلى كائن ثنائي الخلية، لأنّ المعلومات (الجينات) المسؤولة عن تمييز الخلايا عن بعضها وتكوين أنظمة جديدة تأتي من الآباء وليس من الأبناء، فمثلاً الدودة المسطحة flatworm C. elegans يحتوي ذكرها على 1031 خلية تحتاج إلى معلومات دقيقة لتمييز خلاياها القليلة نسبياً لتخصيص كل نوع من الخلايا، وهذه المعلومات تأتي من الأسلاف السابقين لها بواسطة دنا غير مرمز، وهذه المعلومات حتماً لم تأت من الفراغ أو وليدة الصدفة من الأب الأول.
  4. على الفرضية القائمة أنّ البكتيريا على الأغلب كانت أول الكائنات الحية على الأرض، البكتيريا بشكل عام عمرها ما بين دقائق معدودة إلى بضعة أسابيع دون وضع الخمول الذي تكون فيه عمليات الخلية متوقفة، فكيف يمكن للخلية الأولى في هذا الوقت القياسي تكوين هذه الأنظمة المُعقَّدة للانقسام، والتكاثر، والنسخ والمضاعفة والنواة والكروموسومات والهيستونات والشكل الثلاثي والرباعي للبروتين وغيرها؟ مع الجدير بالذكر أنّ هذه العمليات إما تأتي سوياً أو لا تأتي، فلا معنى للدنا دون الرنا والعكس، فكلاهما يعتمد على الآخر وكلاهما معتمد على البروتين وكلاهما يعتمد على الجدار الخلوي والريبوسومات، وفقد عنصر واحد من الألف عنصر يجعل الخلية غير قادرة على أن تعيش حتى في أبسط صورها، فإمّا أن يقوم الجدار الخلوي بإدخال العناصر المهمة وإمّا الموت، إما أن تقوي الألياف والخيوط هيكل الخلية أو تنضغط وتموت، وإما أن تصنع الريبوسومات مجموعة متنوعة من البروتينات وتُوجدها في وقت واحد أو لا خلية من الأساس، وإما الرنا يقوم بالنسخ والقراءة وإما فلا استمرار، وإما الرنا يعرف عمله مع وجود الإنزيمات الأخرى والنقل والتخزين وإما الموت، كل جهاز من هذه الأجهزة هو جهازٌ مُعقَّد وكامل ولا يمكن أن يعمل دون الأجهزة الأخرى، ولا يمكن لخلية فرصة نجاتها في مياه راكدة وملايين العناصر حولها تهددها بالخطر أن تستعير من هذه البيئة ميتوكوندريا كاملة وترتبط بها عبر مدخل USB فائق وتنقل الكهرباء منها وسبحان دوكينز تكون في الخلية مصابيح موجودة بالصدفة سابقاً تعمل على كهرباء الميتوكندريا بكفاءة ودون استهلاك وأسلاك التوصيل جاهزة، كأن أسافر إلى المريخ وأجد أكلتي المفضلة على طاولة في كوخ جميل، وموسيقى رومانسية مشغلة وبالتأكيد زوجتي تكون جالسة فبدونها لا معنى للرومانسية وللعملية ككل.

حسناً، هُنَاك أمور أكثر غرابةً من الدنا في الكائنات المُختلفة، فهُنَاك مثلاً الدنا ذو الأربعة أشرطة بدلاً من اثنين، وهُنَاك دنا به زرنيخ بدلاً من الفسفور، وهُنَاك رنا به شريطين أيضاً وهو موجود في بعض الفايروسات مع بعض التغييرات الطفيفة حينما يصيب الفايروس حقيقيات النواة، وهُنَاك الفايروسات العكسية التي تصنع الدنا من الرنا بدلاً من العكس، هُنَاك أمور مُختلفة كثيرة ولذلك لا يمكننا بناء آلية واضحة لتحديد من أتى أولاً، لكن الأمر الحتمي أنّ البروتين والرنا والدنا والريبوسومات والغشاء والخيوط وجهاز جولجي وغيرها من الأجهزة كانت موجودة دفعة واحدة.

مشاكل الدنا

لبنات البناء

تعددت أوصاف الدنا مثل كونه عقل الخلية، أو الحاسوب المحرك، لُغة البرمجة العليا فيه، مخطط عمل الخلية، وغيرها من الأوصاف الكبيرة الضخمة التي تجعل الدنا يلبس عباءة أكبر من حجمه، وبتنا نعرف أنّ الدنا لا يتكون من بروتينات وكيماويات مختلطة ليقوم بتشكيل دور لُغة برمجة، إنما هو ترتيب لبعض القواعد النيتروجينية وبعض المواد الأخرى غير البروتينية، إنه لا يحتوي على ذاكرة الخلية ولا خط سير الحياة.

نستطيع القول أنّ الدنا قاعدة بيانات مرتبة تحتوي على بُنود جسم الكائن الحي، تلجأ إليها آلات الخلية لأخذ البيانات اللازمة لها لإنتاج البروتينات، وتصنيع الجسور، وتشييد المباني، ويرجع السبب في وصفها كقاعدة بيانات إلى أنّ لُغة بناء الدنا ليست لُغة ذات قواعد برمجية أو نحوية، فمثلاً لو أردت أن ترسم مُجسماً سُداسياً، فستقوم برسم نقاط مُحددة وقياس المسافات بينها ثم تبدأ بتحديد الخطوط من النقاط لبناء المجسم الثلاثي على نحو مخطط وواضح، أو مثلاً أردت بناء بيت، فستقوم بإنشاء خريطة تحتوي على خطوات بناء البيت مفصلة، لكن هذا الأمر مفقود في لُغة الدنا، قاعدة البيانات لا تحتوي على الخطوات اللازمة لهذا الأمر، أو يمكن القول أنّ هذا ما اكتشفه العُلماء لغاية اللحظة، نحن نعلم أنّ الدنا مكون من أربع قواعد نيتروجينية تصف ترتيب الأحماض الأمينية في بروتينات الجسم، ولا شيء آخر لكيفية بناء البروتين.

لنضرب مثالاً لتوضيح الفكرة، لنفترض أنك ولدت في بيت يتكلم 40 كلمة فقط، والكلمات هي أنواع طعام مُختلفة، ولا يملك أي أحد في البيت كلمات أخرى وصفية لأفعالهم، لديكم 40 كلمة فقط، والكلمات هي كلمات أطعمة أساسية مثل خيار، خبز، خس، لحمة، بطاطس، وإذا أردت أن تخبر أمك بأنك تريد ساندويتش هامبرجر فكل ما عليك إلا قول التالي:

  1. خبز
  2. خيار
  3. لحمة
  4. خس
  5. بطاطس
  6. خبز

لكنك لن تستطيع وصف عمليات صنع الساندويش، أنت تملك كلمات البناء الأساسية فقط ولا تملك كلمات التخطيط.

تتكون لُغة الدنا من 24 كلمة فقط، 20 منهم أسماء لبنات البناء، و4 كلمات هي أفعال: ابدأ، توقف، استخدم، تجاهل.

هذا على سبيل المثال ما هو مكتوب في الدنا:

  1. لايسين، برولين، فالين، سيرين، ثايروسين، توقف.
  2. ثايروسين، فالين، فالين، سيرين، فالين، ثايروسين، توقف.

بالنظر إلى هذا التوضيح نفهم بالضبط أنّ الدنا مُجرَّد قاعدة بيانات لا توصف بناء كامل ولا مخطط هندسي متكامل، مُجرَّد ترتيب لعناصر البناء، أي حجر أضعه فوق أي حجر، لكن الحائط هذا أين موضعه في المجسم ككل، والحائط ذاك ارتباطه بحائط آخر فوقه أو تحته أو عن يمينه أو عرضي أو طولي وغيرها من الصفات البنائية غير موجودة فيه، بل وحتى الشكل الثلاثي للمكونات وكيف يتم تشكيلها، وغيرها من هيكليات تخطيط البناء غير موجودة فيه [30].

في الدنا لا يتم تحديد شكل البروتين، إنما يتم تحديد مكوناته فقط، مع أننا رأينا أن تركيب البروتين مُعقَّد جداً وآلية إعداد البروتين غير متوفرة في الدنا، ولو أردنا بناء حقيقي بلُغة هيكلية حقيقية سنقول مثلاً:

  1. كرر هذه الخطوة 8 مرات.
  2. تابع هذه العملية 4 مرات إلى حين أن يتقاطع نهاية السلسلة مع السلسلة الفلانية التي بنهايتها كذا.
  3. تابع هذه العملية ثم احني الخط حينما يمس العنصر باء العنصر جيم.
  4. اجعل موضع العنصر ص يرتبط بموضع 6 في العنصر س.

سنرى هذه المُشكِلة بشكل حقيقي في فصل تحول الكائنات، لكن هذه الفقرة الصغيرة تضعنا أمام تحدٍ حقيقي مرعب، هل الدنا وهم؟ ويعطي معلومات مجهولة ولا قيمة لها! فمن الذي يبني هذا الكائن العظيم الذي يقرأ الكتاب؟ من الذي يصمم مليارات الخلايا والروابط والعمليات فيه؟

تفسير الدنا

حتى لو كان الدنا يَصِف هذه اللبنات البنائية، فإننا كبشر لا نملك أي آلية أو فهم لكيفية التدخل ومقاطعة عمليات البناء التي تحدث بالشكل الذي نريده، هذه اللبنات بحاجة إلى مصمم ذكي يقوم باستخدامها وفهمها، هذه الآليات موجودة في العضيات الأخرى وليست موجودة في الدنا كما يبدو، فبمُجرَّد أننا نعرف مقادير كعكة البرتقال، لا يعني ذلك أنه يمكننا صنعها، بل نحن بحاجة إلى طباخ يعرف الخطوات، حتى في الحاسوب ولغات البرمجة، فلو لدينا كود برمجي متقن الصنع، فإن الحاسوب لا يمكنه فهمه إلا بوجود برنامج وسيط يُسمى المفسر أو المترجم.

وفي ظل وجود لبنات بنائية وعدم وجود تعليمات واضحة للبناء كما سبق التوضيح مثل تعليمات بناء ثلاثي الأبعاد مثلاً، وعدم وجود شخص ماهر يفهم العمليات كالمفسر، فإنّ عملية بناء الخلايا أمرٌ مُستحيل بالشكل الحالي، الأمر يحتاج إلى بحث أكثر من قبل العُلماء، لأن ما هو موجود الآن يرجع إلى قوى عظمي، شئت أم أبيت أن تصدق هذا، لكن هذا العلم يا عزيزي، وإلى أن يأتي علم آخر، عليك أن تؤمن بوجود هذه القوى الخارقة، لا تريد أن تسميها الإله، سمِها مايكل جاكسون، لكن يجب أن تقر بوجودها.

بعد البدء في مشروع ENCODE في عام 2003م، لم يعثر العُلماء في الدنا على آلية واضحة لبناء إنسان كامل واعٍ مفكر على الشكل الذي نراه، لا يوجد هيكل ثلاثي ولا مخطط واضح لبناء الإنسان، هي مُجرَّد لبنات وطوب لا أكثر، لكننا نعلم أن الطوب ليس المنزل، هُنَاك المخطط وهُنَاك خراطيم المياه وهُنَاك السباكة والحديد المسلح وهيكلية الأرضية والمغاسل والهدف من كل جزء وغيرها، وعلى الرغم من ظهور محالات تفسير هذا النقص مثل جينات النحت hox genes إلا أن كل المحاولات كلها لا تزال ضعيفة جداً لتفسير هذا السُلُوك.

حجم الدنا

ولو كان الدنا يَصِف أعضاء الجسم بدقة كاملة، لتوجب على حجم الدنا أن يكون أضعاف أضعاف الحجم الحالي، ولكن التشابه الغريب في حجم الدنا الخاص بالإنسان وبعض النباتات والحيوانات التي تصغره حجماً أمر لا يمكن تفسيره، فعلى سبيل المثال من المفترض أن تكون عدد أوراق مخططات بناء ناطحة سحاب أضعاف أوراق مخطط بناء منزل، هذا أمر بديهي جداً، لكننا نلاحظ العكس! فحجم الدنا على ما يبدو نسبي مقارنة بحجم الكائن وتعقيده كما في (شكل 29 حجم الجينوم مقارنة بتعقيد الكائنات)، ومُختلف جداً في عدد قواعده، وعلى الرغم من تقدم وتعقيد الثدييات، إلا أننا نجد حجم الدنا الخاص بها أقل من حجم الدنا الخاص بالبرمائيات أو حتى النباتات المزهرة! بل، لو قمنا بمقارنة بيانات دنا البرمائيات والنباتات المزهرة بالإنسان لوجدناها أكثر بعشر مرات على أقل تقدير.

المُضحك أنّ عدد جينات نبات الأرز يتراوح ما بين 32 ألف جين إلى 50 ألف جين، في حين أنّ الإنسان الذي يُعتبر أكثر المخلوقات تعقيداً يصل عدد جيناته إلى 23 ألف جين فقط، أي من المفترض أنّ الأرز أكبر منا بضعفين ونصف على الأقل، ويفوق عدد جينات سمكة الينفوخة Tetraodontidae ونبات الخردل كذلك عدد جيناتنا، أما السلمندر فله 10 أضعاف ما لنا! يا لفضيحتنا بين الكائنات، ولكن، ماذا عن الزهور؟ لعلي أصدمك بزهرة باريس جابونيكا Paris japonica التي تتميز بامتلاكها 149 مليار زوج من القواعد النيتروجينية، أي أنها أكبر منا ب50 ضعف [31]، يعني حبيبي الإنسان وكنت تحسب أنك جرم صغير! وفعلاً أنت جرم صغير، انصرف أيها الإنسان من أمامي، وإيتوني بزهرة الجابونيكا.


شكل 29 حجم الجينوم مقارنة بتعقيد الكائنات

دائماً ما افترض العُلماء أنّ حجم شريط الدنا الحالي هو الحجم الكافي لبناء الإنسان، كل ما يلزم لبناء الإنسان موجود في ذلك الشريط الطويل، ولكن لم توجد دراسة كافية لتوضح أنّ حجم الدنا الحالي كافٍ لهذه العملية، صحيح أنكم تسمعون البعض يقول أنّ 90% من الشريط لا قيمة له، كأن تقول إنّ المال المطلوب لشراء هذه السيارة يجب ألا يقل عن 100 ألف دولار، فيسلمك أحدهم مبلغ 5 آلاف دولار! أتخبرني أن 90% منه غير لازم، وهو لو كان كاملاً لا يكفي!

هُنَاك المزيد من العمل على العُلماء لتحديد إجابات هذه الأسئلة، وتحديد ما هو الجزء المسؤول عن ترجمة الدنا وتحديد سيره ووضع المخطط لعملية البناء، هُنَاك محاولات لربط هذا الأمر أثناء تكوين الجنين، لكن هذا غير ملائم كما يبدو، فتكوين الجنين أيضاً يحتاج إلى معلومات تَفُوق حجم الدنا الحالي [32]، بل حتى العُلماء لديهم معضلة كبيرة في تفسير تلقيح الخلية وتحولها إلى طفل في معضلة اسمها problem of morphogenesis [33] [34] فمن الواضح مرة أخرى أن شيفرة الدنا لا تسمح إلا بتشفير بنية الإنزيمات والبروتينات، لكنها لا تحفظ الخطط والعمليات والهياكل الشكلية، على سبيل المثال يداك وقدماك مُختلفتان بالشكل وفي الأداء وفي الهيكلية، ولكن كيميائياً كلاهما مكونان من التركيب نفسه، الخلايا نفسها، الأعصاب نفسها، الجلد نفسه، الشعر نفسه، والدنا نفسه في كل خلية، في الواقع الدنا نفسه في كل خلية، وهو لا يفسر هذا الاختلاف في الوظيفة أو الشكل [35].

الخردة

في بداية اكتشاف الدنا كانت هُنَاك مناطق في الجينوم البشري لا يُعرف الهدف منها، وما هي العمليات المرتبطة بها، وهي نسبتها كبيرة جداً تزيد عن 90% من المساحة الإجمالية ولعلها سميت بصحراء الحمض النووي، وقد أدّى هذا بسرعة إلى إطلاق اسم Junk – DNA عليها، أي الأحماض النووية الخردة التي لا لزوم لها، وقد كتب ريتشارد دوكينز كتاب عنها وقال بأنها نتاج تطور الإنسان من الأسلاف السابقة، وتحمل مهام سابقة حينما كان قرد أو حوت أو دودة، ولا داعي لها، وانتبه إلى أنّ هذا تخمين وليس علماّ ناتجاّ عن تجارب كافية، لكن لنمضِ.

حسناً، الصورة الحالية تقول عكس ما قاله دوكينز في القرن الماضي، فالعدد الآن يزيد عن كون 80% من الجينات فاعلة ونعرف الهدف منها وليس العكس[36]، في كل الأحوال فإن العدد النهائي للجينات التي ترمز البروتينات لا يزال غير معروف ومُختلف عليه، ومرة أخرى هذا الكلام قد تغير بعد عام 2012م بالكامل بسبب مشروع إنكود Encode بعد عمل 440 عالم و32 مختبر حول العالم، إذ توصل المشروع إلى خلاصة مهمة هي أنّ الجينوم البشري به 4 مليون مفتاح لتفعيل وتعطيل الجينات كانت تسمى سابقاً “خردة”!

ويستكمل المشروع أنّ لهذه المفاتيح دورٌ حيوي في عمل الخلايا، وعمل الأنسجة والأعضاء الحيوية واعتبر هذا الاكتشاف اكتشافٌ فارق وقاطع في مجال العلم لما له دور مستقبلي من كشف الأمراض وتحسين حياة المرضى وغيرها من الأمور المرتبطة بفك لغز الحياة [37]، وحسب البروفيسور جوب ديكر عالم الأحياء الجزيئية في كلية طب جامعة ماساتشوستس يرى أنّ العظمة تكمن في كون كل جين يحيط به مجموعة من العناصر التنظيمية في هيكل ثلاثي الأبعاد مُعقَّد للغاية ولم يتم حتى الآن إلا وصف واحد في المئة منه فقط، وعلينا الاستمرار لكشف الـ 99% المتبقية.

بعد عام 2012م، لا شيء من نصوص الجينات الخردة يمكن أن يكون ذا قيمة أكبر، لا دراسات الحيوانات ولا دراسات البشر، لا يوجد دنا خردة، كنا فقط نجهل ما نراه، وحسب أيوان بيرني المشرف العام لمشروع إنكود [38]، فإن لفظة الدنا الخردة يجب أن تصبح من الماضي ولا يجب استخدامها مرة أخرى بل ويجب شطبها، وهذا بعد عشرات الأبحاث منذ الاكتشاف الهائل في الدنا في مشروع إنكود، فهو مصطلح عتيق منذ السبعينات، وعلى ما يبدو أن نسبة 80% من الوظائف المكتشفة في الدنا ستصل إلى 100%، ويرى أستاذ التطور الجزيئي دان جراور أنه إذا كان مشروع إنكود على صواب، فإنّ التطور خاطئ، وحسب عالم الأحياء بي زيت مايرز فإذا كان أكثر من 3% من الجينوم البشري له وظيفة، فإنّ التطور يمسي عملية مهدومة، ونحن عزيزي لدينا للأسف رقم بعيد بعيد عنك حياتي عذاب.

يمكن اعتبار عصر السبعينات بالنسبة للدنا مثل عصر الديناصورات بالنسبة لنا، ولعلي أُخطّئ من تسرع في خياله ليقول دنا خردة بدلاً من أن يقول لا أعرف، لكن حدث ما حدث، هذا يعيدنا مرة أخرى إلى أنّ العلم يدخل فيه الخيال أحيانا بدلاً من كونه علوم مُجرَّدة، العلوم لا تتسرع ولا تحكم إلا بعد التجربة، لكننا هنا نرى حكم على 90% من الجينوم البشري أنه خردة لمُجرَّد أنّ من وصف ذلك لا يعلم، وعلى ما يبدو فإن الدنا الخردة كان مهماً جداً للتطور فكان لابد من التمسك به إلى الرمق الأخير مهما قال العلم.

يقول البروفيسور Antony Jose أستاذ علم الخلية وعلم الوراثة الجزيئية في جامعة ماريلاند أنّ الدنا هو قائمة المكونات فقط ولا يوجد به تعليمات أو آلية صناعة العضيات، التعليمات موضوع مُعقَّد أكثر، هي مخزنة في الجزيئات التي تنظم عمل الدنا، والدنا ليس خريطة حياة الإنسان ولا يفسر سير العمليات، فإن مثلاً جينات لون عيون الإنسان موجودة في كل خلية من خلايا الكائن الحي، وإنّ عملية قراءة هذه المعلومة من الدنا واستخراجها في مرحلة ما، في مرحلة صناعة العين لهي عملية أخرى مسؤول عنها جزيء آخر، ومعلومات هذه العملية مخزنة في مكان آخر غير الدنا، وهذا ما سبق ذكره فصول الكتاب.

إنّ العُلماء غير قادرين على تحديد المكان المسؤول عن التعقيد في شكل أي عضو كالعين مثلاً، أو حتى تحديد أنّ كائناً ما لديه عين أو شيء يشبه العين عبر قراءة الدنا، هذه الأمور موجودة في مكان غير الدنا [39].

سؤال في هذا السياق يقول: لماذا لم يتخلص التطور من الجينات الخردة، أليست شيئاً لا فائدة منه؟ فلماذا لا يتخلص الانتخاب الطبيعي منها كما تخلص من مئات الأمور الأخرى، 90% خردة وباقية؟ لو كانت 10% لقلنا مقٌبول بقاؤها، لكن 90% من الدنا في كل خلية يتم نسخها بلا جدوى طوال ملايين السنين! لا يستطيع أن يحذف سطرين، ألا توجد معه ممحاة مثلاً! الفكرة نفسها حول أنّ الإنسان مثلاً يستخدم 10% من دماغه، لماذا لم يتخلص من الـ 90% المتبقية خلال فترة التطور، لماذا يستهلك مساحة وطاقة وهي من أهم بُنود التطور ويدفع فيها دون أن يقوم بالتخلص منها، أم أنّ التطور يستطيع أن يصنع جناحين من لا شيء وغير قادر على مسح شيء، مع العلم أنها أرقام غير صحيحة، لا أرقام الدنا، ولا أرقام الدماغ، فقط نحاول أن نتساءل بمنطق.

البروتينات

بناء البروتينات

كما رأينا فإنّ البروتينات هي لبنات بناء الحياة، وعلى هذا إذا أردنا بناء حياة جديدة أو فهم كيف نشأت الحياة، فإننا يجب أن نبحث في البروتينات ثم الأحماض الأمينية بشكل أعمق من ناحية التكوين والتركيب والتجميع، ولنرَ احتمالية إنشاء الحياة من خلال تفاعل الأحماض الأمينية ببعضها وتضاربها.

ذكرنا في فصل الأحماض الأمينية أنّ كل البروتينات الموجودة في أجسام الكائنات الحية تستخدم 20 نوعاً فقط من أنواع الأحماض الأمينية، هذه الأحماض الأمينية مكتوب آلية تصنيعها في ملف وصفي مكون من 4 حروف، فاحتمالية أن تخرج كلمات مُختلفة من 4 حروف هي 64 احتمال، ولو افترضنا أنّ الأحماض الأمينية هي قوالب بناء أو حتى هي شيفرات برمجية لكتابة أكواد برنامج حاسوب؛ فهذا يعني أننا نحتاج إلى 20 دالة من دوال لغتنا الكيميائية لبناء 20 حمضاً أمينياً تدخل في تكوين نحو 30 ألف برنامج مُختلف يصنع البروتينات للكائن البشري، أي تقريباً أننا سنستخدم دالة أو قالب بناء ما يصل إلى 8 مليار مرة، ولكن هل هُنَاك شروط معينة لبناء البروتينات في جسم الإنسان؟ والإجابة: نعم، وهي كالآتي:

  1. يجب اصطفاف الأحماض الأمينية المطلوبة في بناء سلسلة البروتين من النوع الصحيح وبالتتابع الصحيح.
  2. يجب أن تكون جميع الأحماض الأمينية في السلسلة عسراء، لا يمكن أن تكون يمينية، بل عسراء فقط! أمر مدهش!، أي أنّ الجسم فيزيائياً وكيميائياً عبر طرق مخبرية يحدد التناظر المرآتي للحمض الأميني وينتقي نصف الاحتمالات الموجودة! واو!

ثَمّة شروط أخرى مثل: تكوين الروابط الببتيدية وغيرها، ولكن ستكون لدينا أرقام احتمالات مخيفة بعد قليل، لذلك سنكتفي بهذين الشرطين، وبذلك فإنّ احتمال تكوين بروتين ما هو حاصل ضرب احتمال حدوث كل هذه الشروط مجتمعة، وبالنسبة لجزيء بروتين يتكون من سلسلة أحماض أمينية يبلغ طولها 500 حمضاً، فإنّ الحسابات كالتالي:

  1. احتمالية اصطفاف أحماض البروتين المطلوبة لبناء سلسلة البروتين من النوع والتتابع الصحيحين هي:
  2. 20 حمض أميني.
  3. احتمالية اختيار كل حمض أميني بالشكل الصحيح هي 1 من 20.
  4. احتمالية اختيار الـ 500 حمض بالشكل الصحيح هي 1 / 20 مرفوعة للأس 500 أي أن الرقم النهائي هو 1 من 10^650.
  5. احتمالية أن تكون جميع أحماض البروتين في السلسلة عسراء:
  6. 20 حمض أميني.
  7. إما أن يكون الحمض أعسر أو أيمن (كما وضحنا سابقاً في التناظر المرآتي).
  8. احتمالية أن يوجد الحمض الأميني الواحد في الحالة العسراء هي 1 من 2، أي النصف، إما صورة وإما كتابة.
  9. احتمالية أن يتم اختيار الـ 500 حمض عسراء في الوقت نفسه هي 1 / 2 مرفوعة للأس 500 أي أن الرقم النهائي هو 1 من 10^150.

لذا ستكون المحصلة النهائية للاحتمالات هي 1/ (10^650) × 1/ (10^150) = 1/ (10^800).

حسناً، الرقم 1 من 10 أمامها 800 صفر هو رقمٌ مُخيفٌ وهو أكبر من كل الأرقام التي استعرضناها في الكتاب، وهو بحاجة إلى أكوان كثيرة حتى يمكن احتمال حدوثه بالصدفة، وهو في علم الاحتمالات كما وضحنا سابقاً في فصل الاحتمال المُستحيل، هو احتمال فوق فوق فوق فوق المُستحيل، فـ 1 من 10^50 أمرٌ مُستحيل، فما بالك بـ 1 من 10^800، هذه الأرقام غير مفهومة في علوم البشر، ولا حتى في أعتى الحواسيب الحديثة، والفكرة تكمن أنه لو أردنا إعادة تجربة الصدفة في توليد بروتين ما، فإننا يجب أن نأخذ الاحتمالات بالأشكال التالية:

  1. يوجد في حوض ماء 20 حمض أميني جاهزين من الطبيعة وهذا شبه مُستحيل لكن لنفترض.
  2. الـ 20 حمض موجودين بكميات ليست بسيطة وبنسب مُختلفة.
  3. توجد بعض المواد المساعدة مثل الفسفور والكبريت، لتساهم في تكوين الشكل الثالثي للبروتين مثلاً.
  4. لا تتفاعل هذه المواد المساعدة مع الأحماض الأمينية.
  5. لا يوجد في حوض الماء هذا مواد سامة تتفاعل كيميائياً مع الأحماض الأمينية الـ 20.
  6. درجة الحرارة مناسبة، الضغط الجوي مناسب، ولا وجود للأكسجين بكثرة.
  7. حدوث عملية الترابط في فقاعة مغلقة حتى لا تفسد عمليات الترابط الببتيدي.
  8. درجة الحامضية pH مضبوطة حتى لا تتفتت الأحماض الأمينية أو الروابط الببتيدية المكونة.
  9. بعد تكون البروتين يتم نقله في مكان على جانب الحوض حتى لا يتفاعل معه مادة أخرى وتحلله.
  10. ترك هذه العملية تحدث مئات ملايين مليارات المليارات ملايين التريليونات الجوجليونات المرات بشكل عشوائي حتى يحدث في لحظة ما هذا البروتين.

فلنأخذ في عين الاعتبار أنّ الاحتمالات لا يجب أن تحدث كلها، فقد تتكرر العمليات العشوائية وقد لا تحدث من الأصل، نحن نتخيل أنّ حوض الماء وسط ذكي يلتقط الأحماض الأمينية ويقوم بتجريبها حسب دفتر الاحتمالات احتمال وراء احتمال ويضع على الدفتر علامة صح أنه جرب هذا الاحتمال وينتقل إلى الاحتمال التالي ويضع صح، حسناً، لا عزيزي هذا لا يحدث في الواقع.

كل هذا لتكوين بروتين واحد من مئات البروتين في أبسط الخلايا، بالإضافة إلى باقي المكونات المُرعبة مثل: الدنا أو الرنا أو غشاء الخلية أو الميتوكوندريا، الأجزاء المصممة عبر هندسة اصطناعية معمارية، علاوةً على التركيب والتداخل الوظيفي في المهام والنقل والتخزين والإشارات وغيرها في بناء بيت، كل ما نحسبه فوق هو بناء حائط من 500 طوبة فقط، ولم نتكلم عن باقي المنزل من كهرباء وتمديدات مياه وحماية وأجهزة إنذار واتصالات وسلالم وأماكن حرق وأماكن تدفئة ومخازن … إلخ، صدقاً يصعب التفكير.

احتمالات تكون البروتين

لا تنسَ أنّ العد للمليون يستغرق وقتاً كبيراً جداً والعد للمليار يحتاج عقوداً طويلةً، ولو أردنا ترك هذا الحساء لمليارات السنين لن يكفيه، ولو امتلكنا مليارات المليارات من الحاسبات الذكية بسرعات مذهلة موجودة لتحاكي تفاعل المواد في حوض الماء هذا، فلن يكفيها عمر الكون لإنتاج بروتين واحد بالاحتمالات العشوائية.

ولنتمكن من تخيّل استحالة هذه الأرقام، لنبيّن الأمر باستخدام ما في أيدي البشر من إمكانيات فجهاز حاسب يحتوي معالج CPU يعمل بسرعة 3 جيجا هرتز أي 3 مليار نبضة في الثانية، يحتاج إلى نحو 126 مليون مليون سنة لمُجرَّد العد من صفر إلى 10^30، أي أنّ هذا الحاسب لكي يعد إلى الاحتمال ذو 800 صفر، فإننا يجب أن نضع على يمين الزمن 126 مليون مليون سنة، أي 770 صفراً أخرى، مرة أخرى هذا فقط مع أننا فرضنا شرطين فقط، ولم نفرض باقي الشروط لأنّ الأرقام لن يتحملها الدماغ حينما نفكر بها، المُشكِلة أنّ الأرقام هنا تفقد معناها، ولو كنت مبرمجاً للُغة برمجة ما، ستعلم أنّ كتابة الشيفرة البرمجية (الكود) لبرنامج يعد الوقت المطلوب لإجراء أي احتمالات لا يتعدى 5 أسطر برمجية، إذ تحسب الوقت لكي يعد جهازك لـ10^10 وذلك بطرح وقت بدء العد بوقت نهاية العد، وبعد ذلك تضرب الرقم في 10^790، وهو أمر لا يستطيع فعله حاسوبك ولا أي حاسوب في العالم، جرب أن تضرب الرقم في 10^20 بدلاً من ذلك وستجد أن 10^30 مثلاً هو وقت فوق ال100 مليون مليون سنة، وهو رقم أكبر بكثير من عمر الكون وليس الكرة الأرضية فحسب، فعمر الكون 13.8 مليار سنة وهذا رقم صغير مقارنة باحتمالية العد من 10^30، فما بالكم ب10^800 لتصنيع بروتين واحد في بيئة مُعدّة له، وما بالكم بتصنيع باقي البروتينات وأجزاء الخلية، لاحظ أننا نتكلم هنا عن برنامج يجعل الحاسوب يعد عداً ولا يُجري تجارباً، نحن نتحدث عن برنامج عداد يضرب الأرقام فقط، أرقاماً أقل من الرقم 10^30، حقيقة بصفتي مبرمجاً أستسلم وأُسلّم بوجود قوة عظمى جداً فوق هذه الاحتمالات فلا مجال إلا لذلك.

في الحقيقة هذه الفكرة يؤمن بها كل الماديين الذين شاهدتهم، إلا مُحبّي البوب سينس والتيك أواي الذين شاهدوا عدداً من المقاطع على اليوتيوب مُعتقدين أنّ نشوء الخلية الأولى بالصدفة في إناء به بعض الحساء أمراً ممكناً حسب تجربة يوري ميلر، إذا استمعت لكارل ساجان أو لريتشارد دوكينز فسترى أنهم يعرفون صعوبة وجود الخلية الأولى من العدم بمحض الصدفة، وهم يعزون وجودها إلى مخلوقات ذكية أتت من كوكب آخر، سبحان المصممين الأوائل، سبحان المخلوقات الذكية التي ممكن أن تكون أي شيء إلا أن تكون الله، في الحقيقة أحترم العُلماء الذين يقولون أنه من الصعب وجود الخلية بالصدفة، وينتقلون إلى الحديث عن التطور بعد الخلية الأولى وليس قبلها، وكل ما يجري لمحاولات تفسير الحياة الأولى على الأرض هو محاولات فقط لتوضيح مقتطفات من عمليات الخلية وليست حبكة كاملة بعد، لو أردنا الحديث عن بروتينات أكبر قليلاً فالموضوع يأخذنا إلى أرقام مخيفة أكثر.

هذا يقودنا إلى فكرة أنّ العُلماء يؤمنوا قبل أن يكتشفوا، فحينما نرى أنّ الأرقام تقول أنه لا يمكن إلا أن يكون هُنَاك قوة فوق هذه الاحتمالات، ويؤكد العُلماء أنه من غير الممكن مستقبلاً أن نكتشف شيئاً آخراً ساعد الصدفة، فنحن هنا ندخل في مرحلة الإيمان كما الأديان، العُلماء مُؤمِنون بوجود حجاب سيُكشف عنه مستقبلاً، وهذا ما يؤمن به المُؤمِنون أنفسهم، فهُنَاك في المستقبل توضيحات ومكاشفات من الإله لهم في الدنيا والآخرة، وعلى هؤلاء العُلماء المُؤمِنين أن يتخلوا عن العلم، فالعلم يعترف بالموجود ولا يعترف بالإيمان، وحينما يؤمن العُلماء نستطيع أن نقول أنهم والمُؤمِنون سواء، فهذا العالِم يؤمن بوجود قوة سيتم الكشف عنها مستقبلاً ولا يتقبل الحقائق التي بين يديه، والمُؤمِن يؤمن بوجود قوة خارقة ستكشف عن نفسها بطرقٍ شتى وصولاً إلى يوم الحساب ولا يتقبل بوجود خالق غيرها، في كل الأحوال هذه الأرقام تدفعني إلى أن أفكر بوجود قوة عاقلة يجب البحث عنها.

رابط 9 مقطع يوضح تكون الدنا من البروتين

https://bit.ly/34EEKJ3

ولنفرض جدلاً بطريقة ما قد تكون بروتين في وسط بحيرة ماء من حساء الحياة، نحن نعرف أنّ قوانين الديناميكا الحرارية وخصوصاً القانون الثاني الذي عرضناه في الفصل الأول يحيلنا للتفكير إلى أنّ محيط البروتين المتكون مليء بالكثير من الإنتروبيا وبهذا سيتفكك البروتين وسيتكسر، إذن الخيار الأمثل هو أن يرجع خطوة للخلف وألا يتقدم للأمام، فنحن حينما نضع سيارة في الصحراء لا نتوقع بسبب العوامل المحيطة أن تتحول إلى طائرة، وما نجده بعد أشهر من تركها أنّ عجلها قد نقص منه الهواء، وزجاجها أمسى مخدوشاً من دفع الرمال، وطلاؤها قد تساقط من الأكسدة، ومحركها قد تلف وغيرها من الأمثلة، وفي الأحياء سيكون القانون نفسه، فالبروتين الأول أو حتى الخلية الأولى لو بقيت في وسطها ستتحلل وتموت لأنّ جميع العوامل حولها ستحاول قتلها وليس دفعها للأمام، فأين من يفسر هذه النقطة ويوضحها!

احتمال رسم الموناليزا

وبصفتي أعمل مُبرمِجاً منذ سنوات طويلة، أتفهم موضوع الاحتمالات وقدرات الحاسوب والتوليد العشوائي بشكل كبير، لذلك في هذا الفصل الجميل المقتبس من فصل أبدع حاسب وأبدع نظام تشغيل للمهندس محمد غانم، سنحاول أنّ نتفهم الأرقام الكبيرة التي ظهرت لنا فوق وذلك بالمنطق والماوس والكيبورد.

لنفترض أنّنا نريد كتابة برنامج بسيط يحاول أن يرسم الموناليزا عشوائياً، ولنأخذ شاشة حاسب بأقل دقة ممكنة حتى نجري تجربتنا، وأقل دقة شاشة يمكن أن نجرب عليها هي دقة فيها 480 × 640 نقطة، أي أنّ هذه الشاشة تحتوي على 307200 نقطة، البرنامج سيقوم بتوليد كل النقاط عشوائياً وحتماً ستكون إحدى التوليدات هي صورة الموناليزا.

صورة الموناليزا ملونة كما نعلم ورسمها سيكلف الكثير من الاحتمالات، لذلك سنخفض الألوان إلى 256 لوناً بدلاً من ملايين الألوان، اممم! دعنا نبسطها أكثر، لنبقيها على 16 لون حتى تنجح التجربة، أتعلمون سنكتفي بالأبيض والأسود فقط لتبسيط الأرقام، جيد! نريد خياراً أبسط، لأنّ أي خيار آخر ستنتج عنه أرقام مزعجة.

ما بين أن تكون كل نقاط الشاشة بيضاء، أو أن تكون كلها سوداء، فإن عدد من التباديل يساوي عدد الأرقام الثنائية التي يمكن وضعها في 307200 خانة، أي أنّ الاحتمالات المتاحة هي 2^307200 = 1092000^ احتمال وهي أكثر بكثير من الاحتمالات التي استعرضناها من مجموع كل احتمالات الكتاب للآن.

لو نجحنا في تجربة كلّ هذه الاحتمالات، فسنحصل بالأبيض والأسود على جميع اللوحات التي رُسمت أو لم ترسم بعد، وعلى كل صور الأشياء والأشخاص التي نتخيلها أو لم نتخيلها، وستظهر حتماً لوحة لمونيكا بيلوتشي مع ريناتو، هذا الكلام جميل وبسيط، لكن المُشكِلة تكمن في أنّ تجربة هذه الاحتمالات يحتاج إلى عمر يفوق عمر الكون بمليارات مليارات المرات، كيف ذلك؟ إليك التوضيح.

لنفترض أنّ لدينا حاسباً يستطيع رسم كل احتمال من هذه الاحتمالات في جزء من مليار جزء من الثانية وهذا أمر مُستحيل عملياً بأجهزة اليوم لكن سنفترضه، هذا يعني أنه يستطيع أن يرسم في عام واحد:

مليار × 60 ثانية × 60 دقيقة × 24 ساعة × 365 يوم = 22118400 مليار لوحة في العام، وهو ما يساوي تقريباً: 1018^.

وهذا يعني أننا نحتاج لكي نرسم كلّ اللوحات الممكنة، إلى عدد من الأعوام يساوي: 10^92000 تقسيم 10^18، أنت تعرف من الرياضيات أنّ قسمة الأسس تتم عبر طرح الأسس، وفي الواقع طرح العدد 18 من 92 ألفا سيعطينا رقم لا يبتعد كثيراً عن سابقيه.

دعنا نفترض أنّنا نستخدم مليار حاسب (10 أس 9) في تجربتنا، هذا سيعطينا (10^18) × (10^9) = 10^27 لوحة في العام، أعلم أعلم لا يزال الرقم تافهاً.

دعنا نفترض أنّ هُنَاك مليار كوكب مثل الأرض على كلّ منها مليار حاسب تشارك في العملية، هذا سيرفع العدد إلى (10^36) لوحة في العام، لا تقلق فأنا أعلم أنّ الرقم لا يزال غير مجدياً!

هذا يعني أننا نحتاج في سبيل رسم كل اللوحات إلى زمن يساوي 10^(92 ألفا – 36) من السنوات، أي نحو مليار مضروباً في نفسه 10 آلاف مرّة من السنوات، أعلم أنّ الرقم خرج من دماغك وأنك تخاف من هذا التفكير لذلك قرأته مسرعاً، لذلك نحن بحاجة إلى إعادة تبسيط الأمور، لنكسر الشاشة ذات الأبعاد 480 × 640، ولنستخدم شاشة دقتها 80 × 80 نقطة فقط، هذا سيجعلنا ننتظر 10^2000 من السنوات، أوبااا، ما زلنا لا نفهم الأرقام المرعبة هذه، إذن فلنقلص الشاشة إلى: 20 × 20 نقطة، أي نحو 5% فقط من أبعاد شاشة الحاسب الأولى القديمة، أي شاشة قطرها أقل من بوصة، هذا غير كافٍ لرسم لوحة واضحة المعالم والتفاصيل، لكن نتجاوز الأمر، وهذا يعني 2^400 = 10^120، وهذا ما يحتاج إلى أكثر من (10^80) عاماً لتجربتها، أي مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار سنة.

سنفترض أنّ لكل لوحة مليار نسخة مقاربة ناتجة عن اختلاف مواضع بعض النقاط، إذ يمكن مطابقتها بالصورة الحقيقية لكن باختلافات طفيفة، هذا مُستحيل مع لوحة حجمها 20×20 نقطة لكن لأجل الأخوّة سنتجاوز، هذا لن يغير شيء يُذكر في الأرقام السابقة، سننتظر 10^71 عاماً، بدلاً من 10^80 عام.

رابط 10 فيديو توضيحي لشرح النظام

https://bit.ly/34qD9Gg

رابط التحميل

http://bit.ly/37LtpYH

تكرم، مرة خامسة لأجل عيون مونيكا، لنكن كرماء، ونفترض أنّ لكل لوحة مليار مليار احتمال، هذا سيجعلنا ننتظر 10^62 عام، أنت لا تصدق هذا الكلام، حسناً لا مُشكِلة، هاك الرابط بالأسفل به الشيفرة البرمجية لتجربة الأمر بنفسك.

لو قمنا بتشغيل هذا البرنامج العشوائي لرسم اللوحات بافتراض أنه لن يكرر أي لوحة -وهذا لن يحدث في الواقع- فما هو احتمال أن نحصل على اللوحات الموجودة في متحف اللوفر، أو حتى على لوحة الموناليزا فقط؟ لو جربت البرنامج السابق، فلن تحصل إلا على فوضى من النقاط البيضاء والسوداء.


شكل 30 برنامج المتاهة

يمثل (شكل 30 برنامج المتاهة) برنامج اسمه Maze يحاول حل متاهة تتكون من ٢٠×٢٠ خانة، عند الضغط على زر “متاهة عشوائية” سيرسم البرنامج الصورة الصغيرة التي تكلمنا عنها هنا وذلك بتلوين الخانات عشوائيا بالأبيض والأسود، حاول أن تجرب إلى أن تمل، وانظر هل ستحصل على كلمات أو على صور لها معنى أم لا، لا تنسَ أن تلاحظ أننا تحكمنا في عشوائية الأبيض والأسود، فقد تكون النقاط السوداء أقل من ثلث النقاط البيضاء، ليجد الإنسان الآلي طرقاً يمشي فيها لأنّ البرنامج يعتبر الخانة السوداء عائقاً، أيضاً لاحظ أنك لا تستطيع فعلياً كتابة البرنامج الذي يحفظ الصور العشوائية في ملفات، لأنك لو فعلت هذا فستستهلك كل مساحة القرص الصلب قبل أن تحصي من الاحتمالات عدداً ملموساً.

وماذا لو علمت أنّ عدد أنواع الأحياء على سطح الأرض يقدر بنحو 4.5 مليون نوع، فما هو احتمال أن نحصل على لوحات ثنائية البعد من اللونين الأبيض والأسود لأيّ من هذه الأحياء عبر برنامجنا للرسم العشوائي!

هذا الاحتمال سيساوي 4.5 مليون من (10 ^120) أي 1 من (10^113).

دعنا نفترض أنّ لكل لوحة مليار مليار نسخة مقاربة، أي أنّ الاحتمال سيكون 1 من (10^96)، وإنّ كمية الاستحالات التي توضحها لنا الأرقام يظهر عبثية التفكير في خيار الاحتمالات عبر الصدفة، هذا ونحن نتكلم عن لوحة بحجم صغير 20 نقطة × 20 نقطة وثنائية البعد أي مسطحة بلونين فقط هما الأبيض والأسود، فما بالنا عندما نتكلم عن مجسمات ثلاثية البعد، وما بالنا لو لم تكن هذه المجسمات مُجرَّد رسوم، بل كائنات حية من لحم ودم تحمل تركيباً تقنياً مُعقَّداً، يستغرق الكلام عنه آلاف المجلدات من حصيلة بحوث العُلماء عبر القرون.

لعلك تعلم أنّ الكائنات الحية يمكن تشبيهها بالبرامج التشغيلية في الحاسوب فالجينوم الخاص بها يشابه عدد أسطر الشيفرات البرمجية، هذا لو افترضنا أنّ شيفرة الدنا كافية في بناء نظام الإنسان الكامل، وما استعرضناه يبين أنها غير كافية، ولكن افترض أنها كافية، وإنّ تغيير حرف واحد من الكود البرمجي قد يُؤَدِي إلى دمار البرنامج بالكامل، نسيان فاصلة واحدة قد توقف المشروع بالكامل، وتغيير شيء واحد في سطر ما سيجعل البرنامج يعمل بطريقة سيئة تجعل العملية فاشلة برمتها، وهذا ونحن نتكلم عن برنامج بعدة أسطر، فما بالكم ببرنامج بألف سطر، أو مليون سطر؟ أو بلايين الأسطر المتداخلة.

كل خلية في الكائن الحي تحتوي في نواتها على الكود البرمجي لكل الكائن يمكن نقلها والقراءة منها، في جسم الإنسان في كل خلية يُوجد هذا الكود البرمجي بالكامل، ولو قمنا بمقارنة هذه الشيفرات الحيوية مع الشيفرات البرمجية سنرى مدى تعقيدها، وهناك من عمل على هذا الأمر كما في (شكل 31 عدد أسطر شيفرات الكائنات)، نلاحظ فيها أنّ الفأر يمتلك 120 مليون سطر برمجي في نواة كل خلية من خلاياه، وأنّ تغيير سطر واحد في البرنامج ينتج عنه أخطاء في البرنامج تؤدي إلى تلفه، وما حدث أبداً أنّ خطأً برمجياً في أحد البرامج أدى إلى حصول البرنامج على ميزة جديدة لم تكن موجودة فيه، مثلاً برنامج يقرأ ملفات صوتية، أمسى يقرأ ملفات صوتية وفيديو كليب بسبب خطأ ما، والخطأ في برنامج الحاسوب يساوي الطفرة في الكائنات الحية.

رابط 11 كم مليون سطر من الكود يستغرق الأمر

https://bit.ly/33UfYmk


شكل 31 عدد أسطر شيفرات الكائنات

ونلاحظ أنّ محرك الألعاب كراي انجين 2 يقارب في حجمه حجم البكتيريا، وكيرنال اللينكس القديم يحتوي على ضعف حجم البكتيريا

الكائنات الدنيا

كثيراً ما يتم ذكر البكتيريا والبراميسيوم والبروتوزووا وغيرها أنها من الكائنات الدنيا وأنها كائنات بسيطة وبدائية، ومع تقدم العلم أكثر في دراسة هذه الكائنات، وُجد أنها كائنات كاملة واعية لها مخططها في الحياة وهدف مُحدد وآلية عمل منتظمة، ولنأخذ مثالين لتوضيح الفكرة المرتبطة حول أنها كائنات مُعقَّدة.

تُعتبَر البكتيريا من أبسط الكائنات الحية وأولها حسب التطور، البكتيريا موجودة تقريباً في كل مكان على الأرض وهُنَاك أنواع عديدة جداً منها، وهُنَاك تصنيفات حسب معيشتها، وتصنيفات حسب شكلها، وهُنَاك حسب العائل مثل الإنسان أو النبات، فالبكتيريا التي تصيب الإنسان مصممة له وكأنها وجدت معه، لكن من المفترض أنّ الأشكال المُعقَّدة من الحياة (كالإنسان) قد تطورت من أشكال الحياة البسيطة (كالبكتيريا)، إذن، كيف صممت البكتيريا نفسها لكي تصيب الإنسان القادم منها بعد ملايين السنين؟

لا يهم هذا لدى التطور، كيف للبكتيريا أن تفهم جسم الإنسان ومستقبلاته وترتبط بها وكيف للفيروسات أن تفهم الشيفرة الوراثية الكاملة للإنسان الآتي بعد ملايين السنين بعدها، لنرَ هذه البكتيريا وبساطتها بعد رؤية حواسها التي تثير الدهشة والغرابة، وسنذكر فقط أجهزة الاستشعار التي بواسطتها تستطيع هذه البكتيريا الإحساس بالبيئة المحيطة والتفاعل معها، لكي تحافظ على نفسها وتبقى على قيد الحياة، وتحتاج البكتيريا أن تبحث عن الطعام، وأن تتعايش مع بيئات عدائية في أغلب الأحيان وغيرها من سيناريوهات الحياة القاسية.

تُعد الأوليات أكبر مجموعة من الحيوانات وحيدة الخلية وعلى رأسها في الشهرة هي الأميبا، ولُوحظ أنّ الأميبا تطارد وتمسك بأوليات أخرى مثل البراميسيوم، الأمر أشبه بأسد يطارد حماراً وحشياً، هُنَاك أيضاً مجموعة من الأوليات التي تسمى المصيصيات لا تطارد غيرها للحصول على الطعام، بل تُلحق نفسها بأسطح متعددة وتمد مجساتها وتنتظر مرور كائن غير محظوظ من الأوليات مثل البراميسيوم بالقرب منها، وإذا لامسته بمجساتها فإنّ الفريسة ستُصاب بشلل على الفور، وتقوم بامتصاص جسمه عبر المجس، مما يحول الفريسة إلى غلاف منكمش في غضون دقائق، والطريقة الفعلية لنقل محتويات الفريسة غير معلومة، لكنها مدفوعة بمجموعة مدهشة من الأنيبيبات الدقيقة التي توجد داخل مجسات المصيصيات.

بعد الحصول على وجبة جيدة، ربما تُقرر المصيصيات أن تتزاوج، وهي عملية تتطلب اتصال المجسات المتحورة مع بعضها البعض مما يسمح بتبادل النوى لديها، وهي تمتلك نواة كبيرة واحدة وثلاث أنوية صغيرة، وتعيش هذه الكائنات متصلة بصفائح الخياشيم لنوع من القشريات يعيش في الماء العذب وهو الجاماروس، إذ يطرح الجاماروس قشوره باستمرار، ويخاطر المصيص بالبقاء على قشرة خالية، وفقدان الدفق المستمر من المياه على صفائح الخياشيم وما تجلبه من فرائس [10].

غير أنّ الدندروكوميتس (أحد أنواع المصيصات هذه) يدرك المراحل الأولى لعملية طرح القشور ويتحول إلى شكل يحمل أجزاء تعرف بالأهداب، تسمح له بترك هذا الكائن والعثور على مجموعة جديدة من صفائح الخياشيم، وهكذا، فإنّ للكائنات وحيدة الخلية نمط حياة على درجة التعقيد نفسها الموجودة في العديد من الكائنات متعددة الخلايا.


يوجد في النباتات وحيدة الخلية مثل الطحالب الخضراء مثل النوع كلاميدوموناس بقعة عينية داخل البلاستيدة الخضراء تظهر تحت الميكروسكوب الضوئي، والبقعة العينية هي كتلة متشابكة من الأغشية تضم صفوف من الحبيبات التي تحتوي على نحو ٢٠٠ نوع مُختلف من البروتينات، بما في ذلك الرودوبسين الموجود في شبكية العين لدى البشر، و تجعل الإشارات الصادرة من البقعة العينية الحساسة للضوء السياط الموجودة على سطح الطحالب تتحرك في أشكال مُختلفة، إذ تسبح الطحالب باتجاه الضوء، ولكن بعيداً عن الضوء الشديد، وعلى الرغم من أنه قد يُنظر إلى البقعة العينية على أنها عين بدائية، إلا أنه لا يوجد هُنَاك آلية لتكوين الصور، وليس هُنَاك حاجة لذلك؛ إذ توفر البقعة العينية جميع المعلومات المطلوبة لاحتياجات الكائن، مما يساعده على تمييز إيقاع الليل والنهار والقيام بالنشاط الخاص بالتمثيل الضوئي على أفضل نحو ممكن [10].

أثناء دراسة احتمالات تكوين البروتينات لخلية الخميرة البسيطة توّصل كلٌّ من البروفيسور بيتر تومبا وجورج روز [40] إلى أرقام إحصائية مدهشة، فاحتمالية تكوّن سلسلة من رفات الإيثانول كانت احتمال واحد من 10^95 احتمال، ثم قام العالمان بجمع الاحتمالات كلها معاً ليظهر لنا رقم مرعب وهو 10 مرفوعاً للأس 79,000,000,000 مع العلم أنّ عدد الجزيئات في الكون يقارب من 10 مرفوعة للأس 79 دون باقي الأصفار [41]، وهذا ما يغير الفكرة عن الكائنات التي يُقال عنها أنها بسيطة، حيث يتضح أنها كائنات شديدة التعقيد.

بالمجمل هُنَاك الكثير من الأمور المُدهشة التي تقوم بها الكائنات البدائية وعلى رأسها البكتيريا مثل:

  1. تستطيع البكتيريا أن تشعر بالصوت وتميزه وتتصرف بناء عليه، أي أنّ للبكتيريا آذاناً كيميائية.
  2. تستطيع البكتيريا شم المواد الكيميائية وتتقرب إليها أو تبتعد عنها، وبناء على توافر معادن معينة في البيئة المحيطة تستطيع البكتريا أن تستشعر بها وتقترب منها أو تبتعد عنها.
  3. بعد أن تشم المواد، تتذوق البكتيريا هذه المواد وتميز ما يناسبها.
  4. تستجيب البكتيريا للضوء كما لو أنّ لها عينين، وتتصرف بناء على درجة الضوء.
  5. تشعر البكتيريا بالجاذبية.
  6. وتشعر كذلك بالمجال المغناطيسي.
  7. وتشعر كذلك بالضغط الأسموزي Osmolality وبالضغط الملحي Osmolarity وتميزه وتتصرف بشكلٍ واعٍ بناءً على ذلك.
  8. تُميّز وتشعر بالأس الهيدروجيني pH الذي له دور كبير في تحرك البكتيريا وعملياتها، ولديها مستقبلات إلكترونات، فهُنَاك بكتيريا تلتهم الإلكترونات.
  9. تُميّز تغييرات درجة الحرارة في الوسط المحيط.
  10. تحتوي على رادار يُميز الفيروسات المحيطة وتتصرف بناء على ذلك.
  11. ورادار آخر يُميز وجود مصادر طاقة قريبة لتتغذى عليها.

كل عملية من العمليات السابقة كلّفت البشرية عشرات الاكتشافات ومئات العُلماء لبناء أجهزة استشعار لها في هذا القرن المتطور، فضلاً عن مئات العمليات اليومية التي تقوم بها البكتيريا مثل تصنيع البروتينات والانقسام الثنائي والحماية وإدخال المواد وإخراج المواد والأكل والهضم والموت … إلخ، فلا أعلم كيف يمكن اعتبار البكتيريا كائن بسيط في ظل كل هذه العمليات!

السياط والأهداب

تتحرك هذه الكائنات البسيطة في الأوساط السائلة وتنتقل من مكان إلى آخر بتوجيه مُعين حسب رغبات المستشعرات عبر المحرك الحيوي الخاص بها، فعادة ما يحرك واحد أو اثنان من الذيول أو السياط الخلية عبر وسط مائي من خلال إحداث سلسلة من الموجات، أيضاً تتم الحركة نفسها عبر الأنسجة الطلائية التي تُبطِن بعض الأعضاء مثل الرئتين، والخلايا المغطاة بالعديد من السياط تسمى أهداب، وهي عادة ما توجد بأعداد كبيرة كالتي تحرك طبقة سطحية من المخاط في القصبة الهوائية، إذ تتحرك الأهداب جيئةً وذهاباً منتجةً طبقة مخاطية تتحرك بشكل منتظم لأعلى اتجاه الحنجرة، مما يمنع أي تراكم للعوامل المعدية المحتملة في مجرى التنفس.

رسم توضيحي 16 تركيب السياط في البكتيريا

تمتلك بعض أنواع البكتيريا سياطاً للحركة، وهذه السياط في وصف بعض الكتاب أكثر تعقيداً من طائرة بوينج 747! لاحظ أنّ السوط وحده أعقد من طائرة، وليست الخلية ككل، تتكون السياط من ذيل حلزوني صلب يعمل كجهاز دفع يدور عند قاعدته بواسطة محرك جزيئي، تكون السياط والأهداب في حقيقيات النواة مثبتة داخل الخلية بواسطة بنية تدعى الجسم القاعدي، وتنتج حركتها الشبيهة بحركة السوط داخل السوط نفسه بواسطة منظومة من الأُنيبيبات الدقيقة المنتظمة في بنية تسمى الخيط المحوري، في كتاب الخلية يقول دون فاوسيت، قليلة هي الأنشطة الخلوية التي أذهلت مختصي علم الخلايا أكثر مما أذهلتهم حركة السياط والأهداب، إذ يتكون خيط السوط المحوري من زوج مركزي من الأُنيبيبات الدقيقة محاط بتسعة أنابيب صغيرة محيطية وفي داخل الخلية يتكون الجسم القاعدي بفعل أسطوانة قصيرة مكونة من تسع مجموعات ثلاثية من الأُنيبيبات الدقيقة بلا زوج مركزي [10]، ولكن ما الذي يجعل هذه الحركة ممكنة؟ ما هو المحرك الرئيسي لها؟ في عام 2012 أحرز اثنان من العُلماء في جامعة أوساكا تقدماً في حل هذا السؤال بالاعتماد على تقنية التصوير Electron cryotomography، إذ وجدوا مصدر الطاقة الذي يجعل بكتيريا MO-1 marine bacterium قادرة على السباحة بكفاءة وهي واحدة من أقدم أنواع البكتيريا،

رابط12 شرح حركة السوط

https://bit.ly/2FTZumm

كان هُنَاك 7 محركات مرتبة بشكلٍ سداسي، مرتبطة بتروس تتفاعل مع 24 ترس بينية للحركة، إذ تتحرك التروس السبع في اتجاه، وتتحرك التروس الصغيرة في اتجاهٍ معاكسٍ لتضخيم عزم الدوران ولتقليل الاحتكاك، وسرعة هذا السوط عالية جداً مقارنة بحجم جسم البكتيريا حتى أُطلق عليه لقب سوط الفيراري، فهو ينقلها من مكانها 100 مرة طول الخلية في الثانية الواحدة، مع العلم أنّ الفهد الصيّاد أسرع المخلوقات يتحرك 25 مرة طوله في الثانية الواحدة، وهذا يجعلها بكتيريا طائرة وليست سابحة، ويقول العُلماء أنّ إيجاد بروتينات مصممة كما محرك الطائرة منذ القدم بحجم 50 نانوميتر وتتحرك 100 ألف مرة في الثانية لهو أمر محير جداً، وأزيدك من الشعر بيت أنّ كفاءة هذا النظام حسب قوانين الديناميكا تصل إلى 100% وهذه كفاءة مُستحيلة، لم يصل البشر بأعتى عقول مهندسيها إلى ربعها في صناعة أي محرك أو آلة، أي أنّ فقد الطاقة في هذا المحرك هو صفر، كل قرش طاقة يتم الاستفادة منه، وهذه قدرات فوق بشرية بمراحل، سبحانك يا صدفة ما أعظمك، ألم تستطيعي جمعي حينما كنت في أوروبا بمونيكا!

رسم توضيحي 17 تركيب سوط MO-1 marine bacterium

التطور

صورة 5 صورة تعبيرية عن كائن يتطور

نظرية التطور

نظرية التطور عبارة عن مجموعة من الفرضيات التي تحاول تفسير وجود الحياة على كوكب الأرض، وتؤكد النظرية على أنّ كل الكائنات الحية قد تطورت من سلف مُشترك عاش في الماضي السحيق، هذا الكائن أشبه بالبكتيريا أو أبسط منها، ثم تم إضافة تغييرات على الكائنات نتيجة عدة عوامل أدّت إلى انتقال الصفات إلى الأبناء، ثم تستطرد النظرية في العملية التطورية إلى أن تقول أنّ هُنَاك سلف ما شبيه بالقرود تطور منه الإنسان، ليس خلافنا أنّ السلف هذا تطور منه الإنسان أو تطور الإنسان والقرد على حد سواء، المهم أنّ كل الأسلاف بدورها انحدرت من كائنات أكثر بدائية، وبعد زمن طويل من سلاسل التطور، حدث الانحدار الحيوي وظهرت أنواع جديدة أكثر ذكاءً وقوة وأفضل من السابقة والزمن المذكور هنا زمن طويل وليس عاماً أو عامين بل ملايين الأعوام.

الكثير قيل وأقيل حول التطور وآلياته ومن واقع ما هو موجود ينقسم العُلماء المُؤمِنون بالتطور إلى عدة مدارس واتجاهات، فمثلاً هُنَاك التطوريون الذين يؤمنون بإمكانية نشوء الحياة من الصفر على الأرض، وهُنَاك من يؤمن بالتطور الموجه، أي أنّ الله أو الكائنات الفضائية أو ثانوس قد صنع الخلية الأولى أو أحد الأشكال البدائية ثم تطورت لاحقاً، أو أنّ الطبيعة أو الكائنات الحية لديها قوة ضاغطة نحو التطور، وهُنَاك نظرية التطور القديمة، وكذلك النظرية الحديثة، وهُنَاك النظرية الأحدث إذ تتعدل كل فترة وأخرى، لكن في كل المدارس أو الصور نجد أنّ نظرية التطور تعتمد على بعض المفاهيم الأساسية لتفسير نشوء الأنواع، أساسها التكاثر والتوريث Heredity، التنوّع Variation، والانتقاء Selection وبالمختصر:

  1. الطفرات Mutations العشوائية أو الذكية التي تمنح الكائن ما يعينه على ضغوطات الحياة.
  2. هُنَاك سلف أو أسلاف مُشتركة للكائنات انحدرت منها كل الحيوانات (النشوء والارتقاء).
  3. الاصطفاء أو الانتخاب الطبيعي Natural Selection إذ يتكاثر الأصلح ويحدث تهجينات تساهم في تأقلمه وتحسين الجنس، والزمن الطويل كافي بكل التغييرات هذه، ويُؤَدِي هذا الأمر إلى مفهوم آخر هو الانحراف الوراثي Genetic drift.
  4. انتقال المورثات أو هجرتها Migration أو انسيابها Gene flow، إذ يساهم هذا الانتقال إلى تداخل المورثات.

نحن الآن أمام خيارين لا ثالث لهما لتفسير نشوء الحياة، الخيار الأول: هو ظهور الحياة بسبب الخالق، أو الخيار الثاني القائل: إنّ الحياة ظهرت من لا شيء ثم بسبب الصدف والاحتمالات حدث التطور، وهُنَاك فريق يحاول أن يوفق بين هذين الخيارين، فينادي بالتطور الموجه، إذ لا نعلم كيف ظهرت كائنات دنيا، قد يكون شيء اسمه الله خلقها أو تطورت، نحن لا ندري بالضبط، لكنها تطورت وانحدرت إلى الأجناس العليا، بل حتى التطور الموجه به نظريات مُختلفة ومتضادة، مثل التطور البطيء، أو التطور السريع القافز، أو التطور المتوازي أو التطور المتباعد، والعديد من النظريات الفرعية الأخرى، وما زال العُلماء يتناحرون بلا اتفاق حتى يومنا هذا.

إنّ فكرة التطور ليست وليدة أفكار داروين، فقد تكلم في عصره علماء آخرون، وقبله أيضاً وقبله بفترات طويلة، بل وتكلم فيها علماء مُسلمون كُثُر مثل الجاحظ وابن خلدون، وتعود الفكرة في طرحها إلى زمن فلاسفة اليونان، وهذا أمرٌ منطقي فحينما ترى تقارب أشكال الكائنات يبدو أمامك نمطاً جلياً بوجود تطور من وإلى، فحينما تنظر إلى سلالات القرود وتقارنها ببعضها ثم بالإنسان، ترى حقاً أنّ هُنَاك شبه تسلسل وكأنك تنظر إلى الأقدم ثم الأحدث، وهذه ميزة كل عين ناقدة ثاقبة تحاول رؤية الأمور كما هي ومن ثم تحاول أن تفسرها، إلا أنّ تشارلز داروين في كتابه أصل الأنواع جمع كل الأفكار وأطلقها وكانت البداية، وألحقه بكتاب ذي أثر كبير اسمه أصل الإنسان The Descent of Man.

يتحدث كتاب أصل الأنواع عن مشاهدات داروين في رحلته على متن البيجل، ومن ثم قام بتدوينها على شكل نظرية بسيطة، كما يفكر كل طفل أو كل عالم حين يدون أفكاره البسيطة على الورق حتى يحفظها ثم يبحث فيها لاحقاً، وليس الهدف منها تثبيت حقائق علمية في المجمل، وفي كل كتابات داروين تراه يتكلم عن نظرية، نظرية وليس حقائق، مثلاً أن يقول إني رأيت حيوان أ، يشبه حيوان ب في كذا وكذا، فعلى ما يبدو أنّ حيوان أ كان سابقاً حيوان ب، وهكذا، ولا يؤكد داروين ما يشاهده وإنما يطرح أفكار.

ويجب التنبيه إلى أنّ كلمة تَطَوُّر كلمةٌ فضفاضة، فهي تعني الكثير، فالتطور يُستخدم في وصف التغيير الجيني عبر الزمن، وهذا ما يتفق عليه الجميع، ولكنهم يدعونه بالتطور مجازاً، والانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح يطلقون عليه تطوراً وهو التطور الذي لا يتفق الجميع على لفظته وهذا ما نتحدث عنه هنا، ومن المهم أيضاً التنويه على أنّ نظرية التطور قد مرت بتغييرات جذرية في مبادئها، فأيام لامارك قبل علم الوراثة تختلف عن أيامنا هذه، وعلى هذا كان يجب تغيير فكرة الانتخاب الطبيعي وتغذيتها بأفكار العلم الحديث، وظهرت الدارونية الحديثة التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، ولهذا تجد اختلافاً في تفسير بعض النقاط في الكتب القديمة عن الحديثة.

ثَمّة فرق بين مفهوم التطور ومفهوم التكيف، ففي الغالب حينما يذكر التكيف في سياق التطور فهو يُقصد به تطور حدث فعلياً على الكائن، في حين ذكر كلمة التكيف من المفترض أن تعني أنّ الكائن الحي يتفاعل مع بيئته فيقوم الدنا بتفعيل جينات معينة موجودة به سابقاً لتحاكي الظروف التي تعرض لها في البيئة، إذاً التكيف آلية موجودة مسبقاً في جينات الكائن وليست أمراً طارئاً عليه، وربط التكيف بالانتخاب الطبيعي أمر غير صائب، ولا يجب التطرق له خصوصاً بعد ظهور علم فوق الجينات وانتهاء هذه الفكرة القديمة.

وبقي أن نذكر قضية التهجين، فالتهجين ناتج عن اختيار صفات معينة مناسبة في الكائن من النوع نفسه، وتنتج عنها صفات مُفيدة لكن لا تنتج عنها صفات جديدة، فتزاوج إنسان طويل مع إنسان أزرق العينين ينتج عنه إنسان طويل وأزرق العينين، ولو زاوجنا طويل مع طويل يفترض أن ينتج إنسان طويل، لكن لا يمكن أن تنتج صفة جديدة كصفة الطيران، كل هذه الصفات موجودة ضمن حوض الجينات Genetic Pool وفي شيء آخر يطلق عليه الاختلافات فوق الجينية Epigenetic variation ولا توجد خصائص جديدة، كأن تقوم بخلط لون أصفر مع لون أحمر ويعطيك برتقالي، ظهور اللون البرتقالي موجود مسبقاً في النظام وليس أمراً جديداً خارقاً.

إنّ مناقشة نظرية التطور ومعارضة أي شيء فيها لا يعنى نبذ العلم، بل هي محاولة علمية كما سنرى لعرض العلم والرد على العلم بالعلم.

الانتخاب الطبيعي

في الغابة هُنَاك الأسود والغزلان، وفي جنس كل منهما أفراد يمتلكون صفاتٍ متباينة، ففي الغزلان تتوفر صفات القوة والمرونة العضلية في بعض الأفراد وأيضاً هُنَاك صفات الضعف والبنيان المتواضع في أفراد أخرى، تبقى الصفات متوزعة في القطيع دون مشاكل إلى أن يهاجمهم قطيع الأسود بشكل يومي، فسيتم اصطياد الغزلان الضعيفة بشكل أكبر، وسيتعايش أفراد الغزلان القوية وستتزاوج وتتكاثر وستختار الطبيعة بهذا الشكل الأفراد الأقوى والذين بدورهم سيتكاثرون مع الأقوياء وبهذا سيبقى نظرياً الأصلح أو الأكثر قدرةً على التكيف.

سادت هذه النظرة القديمة حول الانتخاب الطبيعي حتى ظهور النسخة الحديثة من نظرية التطور التي أكدت أنّ هذا لا يكفي لحدوث التغيير في الكائنات والسبب هو أنّ الانتخاب الطبيعي بشكله البسيط هذا لا يحدث، فالضعفاء لا ينقرضون بل يقل عددهم في فترة ما، ثم يعاود ظهورهم من جديد في فترات أخرى كما لو لم يتغير شيء، كذلك الجينات تبقى مخزنة لأجيال في الدنا وتظهر لاحقاً حتى لو مات كل الضعفاء في القطيع، والشواهد كثيرة مثل ظاهرة الفراشات البيضاء والسوداء في بريطانيا، والأهم من كل هذا أنّ الانتخاب الطبيعي لا يُؤَدِي إلى ظهور صفات جديدة، كأن تطير الغزالة أو تركب دواليب ويدفعها صاروخ، الانتخاب الطبيعي يُميّز الصفات من حوض الجينات فقط ولا بيانات إضافية تلحق بالدنا، لديك خزانة معدة مسبقاً بشتى أنواع الملابس، أنت تلبس اللباس المناسب لك في كل مناسبة، الملابس هذه موجودة في خزانتك وليست ميزة تطورية في جلدك، أنت تستخدم المتوفر غير الظاهر للجميع في خزانتك، وهذا ما يقوله العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنفسهم، أيضاً من المفترض ألا ينتج الانتخاب الطبيعي صفات مُفيدة فحسب فالقوي قد يكون لديه أمراض وراثية تنتقل إلى الأجيال اللاحقة، لذلك من المهم النظر للانتخاب كأنه عملية عادية وليست يد ذكية تنحت في الصخر، إنها عملية بلا هدف أو وعي.

رسم توضيحي 18 آلية الانتخاب الطبيعي

في الانتخاب الطبيعي يكون الأمر أقرب إلى الحصول على مزايا التهجين، فقد نستبعد صفات ونركز على صفات، وكل العاملون في مجالات إثبات حقيقة الانتخاب الطبيعي استطاعوا بعملهم أن يصلوا إلى نقطة معينة لا يمكن تجاوزها، إذ تعود الحيوانات والنباتات إلى نقطة البداية، برغم ما بذلوه من جهود جبارة طوال قرنين، فليس من الممكن الحصول على وردة زرقاء أو على شقائق نعمانية سوداء، ولم نرَ هذا حصل سابقاً ولن يحصل يوماً في الطبيعة رغم محاولات المهجنين، مرة أخرى لا يمكن أن ينتج أي أحد نوعاً جديداً بواسطة آليات الانتخاب الطبيعي، وهذا ما أدّى إلى تحديث هذه الفكرة وإضافة ملحقات مثل الطفرات وغيرها من المبادئ، لكن الموضوع بحاجة إلى المزيد من البحث، فالدراسات الحديثة تبين أنه حتى الحيوانات لا يلزمها التدافع والتمايز والتنافس لتعيش وتتكاثر [42]، فثَمّة أشخاص حينما تراهم تتعجب وتتساءل كيف تزوج هؤلاء، ليس هُنَاك ما يميز أحدهم، لكن ماذا نقول، الحب أعمى.

إنّ التقارب في الشكل أو في الدنا بين الكائنات لا يفسر لماذا توجد كل هذه الاختلافات بين الأجناس لاحقاً، فما سبب هذه الاختلافات في شكل الكائنات أو أجناسها، وما هي الميزة التطورية للبقرة عن الخنزير، لا يفسر الانتخاب الطبيعي هذا الأمر، لذلك لجأ العُلماء إلى إضافة فكرة الانتخاب الجنسي، إذ يفترض التطور أن يختار الذكر والأنثى في عملية التزاوج الأفضل، فينتج سلالات أقوى، ولكن هذه مرة أخرى فكرة غير دقيقة، فيتزاوج الأقوى مع الأجمل مثلاً في عالم الحيوان، فيبقى الأضعف يتزاوج مع الأبشع، ومن المفترض أن ينقرض ويتناقص الأضعف، لكن كما نعلم يجب على الضعيف أن يتزاوج، وفي عالم الإنسان نجد أنّ معايير الجمال مُختلفة، ومعايير القوة مُختلفة، فشخص قوي قبيح قد يكون غبي يتزوج من فتاة جميلة وغبية، وينتج سلالة قبيحة غبية، أو فتاة جميلة جداً تتزوج من غبي قد ورث مالاً، أو حتى شخص ذكي وقوي يتزوج من قبيحة لكن ذوقه هكذا، أو أنها أغرته بحركاتها .. إلخ، الجمال نسبي بين الناس، والقوة كذلك.

هُنَاك العديد من الأسئلة التي هي بحاجة إلى إجابة في الانتخاب الطبيعي، منها أنّ أي عضو جديد في الكائن الحي من المفترض أن يبدأ بسيطاً وغالباً معطوباً غير مكتمل فلماذا يختاره الانتخاب الطبيعي كصفة مُفيدة وهو تالف، فلا فائدة من نتوء في عظمة لتكوّن اليد مستقبلاً، لماذا يحافظ عليها الانتخاب الطبيعي وهي زائدة لا فائدة منها، أم أنّ الانتخاب الطبيعي لديه خريطة معمارية للبناء والهيكل، فيقول، دعوا هذه الزائدة، فهي ستكون حسب الخريطة المطبخ بعد آلاف آلاف السنين!

الطفرات

إنّ التطفر أو حدوث الطفرة عبارة عن عملية تغيير في تسلسل الأحماض الأمينية في خريطة الدنا، وتغيير تسلسل الدنا من المُفترض أنّ يغير في وظيفة الجين المسؤول عن شيء ما، نحن نعلم أنّ الدنا يتكون من 4 رموز ولنفترض أنها حروف كلمة أبجد، وكان الدنا مرتب لدينا بالشكل الحالي:

أبأببجداًأأأجدجأأأدجدأدأدأدأدأجبجبجبجبجبجب

وحدثت طفرة ما بسبب إشعاع أو مادة كيميائية، وأمسى الدنا منقوصاً بهذا الشكل.

أبأببجداًأأأجدجأأأدجأدأدأدأجبجبجبجبجبجب

فمن المُفترض حسب التطفر أن يعني هذا شيئاً ما، تغيير جين معين، تغيير شكل بروتين معين، أو ما شابه.

يُمكن للتطفر أن يكون مُفيداً أو ضاراً أو بلا أي تأثير للكائنات الحية، فالتطور لا يحاول أن يقدم للكائن الحي ما يريده على طبق من ذهب، هو عملية عشوائية فلا كوابح ولا خرائط له، وأغلب الطفرات لا تقدم فائدة في عملية التطور، هُنَاك نقطة مهمة هو أنّ في كل خلية دنا كامل لجسم الإنسان، ولو حدثت الطفرة في خلية جسدية Somatic cell في الجلد على سبيل المثال، فهذا سيؤثر على الخلية الأخرى المنقسمة منها، ولكن هذه الطفرة لا تنتقل للأجيال القادمة، ولكي تنتقل الطفرة للأجيال القامة يجب أن تحدث في خلايا التكاثر Reproductive cells، الحيوان المنوي في الذكر والخلايا المسؤولة عنه، والبويضة في الأنثى والخلايا المرتبطة بها، وذلك لتنتقل للأجيال القادمة، وإلا فلا هدف تطوري حقيقي من الطفرة.

الطفرات التي تحدث على الجينات تشبه طرق اللابتوب بالمطرقة، ستضره لأنك تمارس عملية هدم إلا إذا حالفك الحظ وهذا أمر نادر الحدوث، بشكل عام الطفرات المُفيدة إما هدّامة Constructive أو بنّاءة Destructive لكن على الأغلب فإن الطفرات هدّامة وليست بناءة، وإنّ التطور يرى خسارة أي جين مُفيد قد يُعد أمراً مُفيداً! كأن أقطع يدك وأخبرك أنك أصبحت أفضل لأنه لا يمكن الآن أن يتم تقييد كلتا يديك خلف ظهرك من قبل حكومتك الدكتاتورية!

مثال آخر على الطفرات الهدّامة هو ما يحدث في مريض الثلاسيميا المصاب بالملاريا، على الرغم من أنّ طفرة الثلاسيميا قد غيّرت في جسم الإنسان كثيراً، لكنها للأسف ليست مُفيدة، على الرغم أنّ مريض الثلاسيميا محفوظ من الإصابة بالملاريا، ولكن انظر إلى صحته ومتى يموت! والثلاسيميا مرض واحد من آلاف الأمراض الأخرى المرعبة التي تقلب حياة الإنسان رأساً على عقب، والتطفر في البشر يشابه التطفر في الكائنات الأخرى، الطفرات مسؤولة عن تغييرات كما حدث في مناقير عصافير داروين، فهي مثال على الطفرات الهدّامة (دراسات حديثة تحيله إلى عوامل فوق جينية كما أشرنا) ولكنها لم تقم بإضافة بيانات جديدة، أيضاً على الرغم من حصول ذبابة الفاكهة على أقدام في رأسها أثناء عمليات التطفر، واعتبر العُلماء أنّ هذا دليل قوي على قوة الطفرات، إلا أنه ما فائدة أرجل في الرأس! من أين تأتي البيانات الجديدة للكائنات الحية، مثل اليد أو العين أو السونار، علاوةً على أنّه لا يفترض أن يكون للصدفة علاقة بما قبلها، فطفرة جيدة ممكن هدمها أو إهدارها بطفرات لاحقة.

بالإضافة إلى أنّ أي تغيير غير محسوب في دنا الكائنات الحية قد يُؤَدِي إلى هلاكها، أبسط الأخطاء من تغيير شكل بروتين أو حذفه أو تعطيله ستكون كارثية على الكائن، فملايين الطفرات لن ينتج عنها ملايين الكائنات الطبيعية، بل سينتج آلاف الموتى، وآلاف الأمراض القاتلة، التي ستجعل الكائن غير قادر على التنافس.

لدينا لوحة الموناليزا، أطلقنا عليها طلقة نارية، هل نتوقع أن تتحول إلى لوحة أفضل! التطفر يفعل الشيء نفسه، طلقة إشعاعية ستثقب الصورة، ومادة كيميائية ستذيب اللون، كتاب من 1000 صفحة قمنا بتمزيق 5 صفحات عشوائية، أو قمنا بنقل 20 صفحة إلى مواضع مُختلفة هل سيبقى الكتاب مفهوماً؟ هل الكتاب الذي يتحدث عن الفيزياء النووية بعد التمزيق سيصبح يتحدث عن حياة الطيور في القطب الشمالي! هذا لا يحصل للأسف.

جرب برنامج يقوم بأخذ حروف من كلمات ويقوم بتبديلها في كلمات أخرى وانظر هل سنحصل على شيء مُفيد؟ ما هي احتمالات أن نقلب الأحرف لنحصل على شيء ذو قيمة، أو حتى الحصول على 3 كلمات متتالية مفهومة، لو افترضنا أن كل كلمة مكونة من 5 أحرف بالمتوسط، ولدينا 28 حرف، فإن الاحتمالات أمامنا هائلة للحصول على ثلاث كلمات متتالية مفهومة وذات معنى مرتبط.

يَفترض دوكينز في كتابه صانع الساعات الأعمى أنّ احتمالية أن يقوم قرد واحد بطباعة هذه الجملة ME THINKS IT IS LIKE A WEASEL هي 1 من 10^40 ولكنه يضيف أننا لو استطعنا حشد 10^40 قرد، ومع كل قرد منهم آلة كاتبه فإنّ حتماً أحدهم سيقوم بطباعة الجملة، ويا لذكاء القرد، فكيف ستضمن أنّ كل قرد لن يكتب ما قد كتبه القرد الآخر في محاولاته! حتماً سيجرب كل قرد كل احتمال، ولن يكون الأمر متتابع، فما قد كتبه القرد الأول قد يكتبه القرد الثاني، وسيجرب احتمال آخر، مع العلم أنه حينما سئل دوكينز عن جلب مثال واحد لطفرة أضافت معلومات وراثية لم يجد إجابة وقطع السؤال!

انسياب المورثات

إنّ انسياب المورثات Gene flow أو هجرتها من البُنود التي تكمل فكرة التطور، فانتقال الأفراد من تجمعات إلى تجمعات أخرى من الممكن أن يساهم حسب التطور في تحسين الصفات وتحديثها، وانتقال البذور إلى بيئات جديدة، أو انتقال البشر إلى مدن جديدة مُختلفة عن السابق من الممكن أن يُظهر نُسخاً من الجينات كانت غير موجودة (حسب

التطور) وهو من العوامل المهمة في الاختلافات الجينية حسب (شكل 32 انسياب المورثات).


شكل 32 انسياب المورثات

لنتساءل مرة أخرى، من أين تأتي المعلومات الجديدة؟ فحوض الجينات يحتوي على المعلومات الوراثية في الأصل، ولا يتم إضافة معلومات جديدة، فاليد قد تصبح أضخم أو أصغر، والذراع قد تصبح أطول أو أقصر أو ربما منحنية قليلاً، لكن لا تتحول الذراع إلى جناح، لا يوجد أي تفاصيل إضافية يمكن إضافتها على أيّ جزءٍ صغير في الكائن الحي، وهذا ما سيُوضحه التطور الصغروي.

التطور الصغروي والكبروي

التطور الصغروي

حسب نظرية التطور لقد تطور عصفور الدويري ليناسب المناخ في أمريكا الشمالية، وتطور البعوض ليناسب التغييرات المناخية في العالم، وتطورت الحشرات فأصبحت مقاومة للمبيدات الحشرية ومقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، ومن المفترض أنّ هذه أمثلة على التطور الصغروي أو الميكروي أو المجهري أو Microevolution، والذي من المُفترض أنه التغييرات التطورية التي تحدث في النوع الواحد في إطار محدود من القطيع.

من أمثلة التطور الميكروي الشائعة حسب نظرية التطور هي طفرات الملاريا، إذ كان هُنَاك طفرات هدّامة فأصبح كائن الملايا مضاداً للمضادات الحيوية، فقد حدث هذا الأمر مع الإنسان في الثلاسيميا، لكن لا أحد يمنحك تفسيراً على المستوى الحيوي أو الجزيئي كيف تطورت جينات الدويري لتناسب البرد مثلاً، أو كيف تغير جسمه بدقة وكيف أنتج مواداً جديدة وغير في هيكلية عمله بشكل يسمح له بالقيام بهذه العملية، أو كيف للحشرات أن تطور نفسها عبر الطفرات لكي تصبح منيعة ضد مواد معينة دون التغيير في جسمها والتأثير على عمل الأعضاء الأخرى، هذه النقاط البسيطة هي مربط الفرس حينما أريد أن أفهم، يخبرك التطور أنّ الأمر يعود إلى الأيائل فهي كانت كذا وأمست كذا في الكروموسومات، لكن ليس هُنَاك توضيح متكامل مترابط، ولا سجلاً واضحاً للتغييرات، إنها أشبه بفكرة تخيلية وليس هُنَاك أي دلائل عليها، ولو كنت مُؤمِناً وأردت الانتقال للتطور لما قبلت بأنصاف الحلول، أنصاف الحلول موجودة في الدين، أما العلم فيفترض به أن يقدم حلولاً كاملة لأنه يرفض أنصاف حلول الدين. يسأل شخص ما لماذا السماء زرقاء، فيجيبه آخر لأنه اللون الذي تحبه الطبيعة! وأتساءل لماذا يجب أن يتم تفسير كل شيء لم نعرف إجابته بهذا الشكل غير العلمي، هل لرغبتنا بحدوثه أي علاقة بالحقيقة؟ ما هي العلاقة الاستنباطية في هذه الفكرة الألمعية، بل الواضح في صور ما يسميه العُلماء بالتطور الصغروي هو بروز فكرة التكيف والتخطيط المُعَد مسبقاً.

وتظهر هذه الصورة بوضوح في مقاومة البكتيريا، وهي الآلية التي سنحاول فهمها وتحليلها لتوضيح جدوى التطور فيها، فمقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية يمكن أن تتم عبر آليات كثيرة منها:

  1. تقوم البكتيريا بإضافة مجموعات كيميائية للمضاد الحيوي أو إلى مستقبلات المضاد الحيوي، فيصبح المضاد الحيوي غير قادر على إجراء تأثيره ويصبح بلا قيمة، مثلاً تقوم البكتيريا في مستقبلاتها بإنتاج بروتين مُختلف عن الذي ترتبط به المضادات الحيوية وتكمل عملها بهذه الخطة رقم B، أو أن تقوم بتغيير هيكل غلافها الخارجي بالكامل.
  2. تقوم البكتيريا بإنشاء مضخات Efflux pumps تقوم بضخ المضاد الحيوي بعيداً عن الخلية، لكي يبقى تركيزه داخل الخلية في الحد الأدنى قدر المستطاع، لتقليل خطر المضاد الحيوي على عضيات الخلية.
  3. تقوم البكتيريا بتقليل نفاذية الغشاء الخلوي، فيقل دخول المضاد الحيوي إليها.
  4. تنتج البكتيريا إنزيمات تقوم بتدمير المضاد الحيوي وتكسرّه، كما يحدث في مقاومة البنسيلينات عبر إنزيم البيتا لاكتاميز β-lactamase الذي يؤرق الطب والعُلماء حول العالَم لما للبكتيريا من مقاومة سريعة حتى في أحدث المضادات الحيوية.

تملك بعض أنواع البكتيريا عدة آليات لمقاومة المضاد الحيوي وليست آلية واحدة، وبعضها يقوم بنقل خطة المقاومة إلى خلية أخرى عبر عدة طرق سجل العُلماء منها ثلاثة وهي:

  1. الاقتران Conjugation: ترتبط الخلية بخلية أخرى كما التزاوج، وتنقل الدنا الخاص بالمقاومة عبر جسيم صغير يسمى البلازميد Plasmid.
  2. التحويل Transformation: يمكن للخلية أن تجمع الدنا من الوسط المحيط وتضيفه في جينومها، مثلاً تأخذه من خلية أخرى ميتة متحللة.
  3. التوضيح Transduction: تنقل الخلية الدنا إلى خلية أخرى عبر فايروسات مخصصة Bacteriophage وهذا ما فتح آفاقاً واسعة في الطب الحديث، لأنّ هذه الفايروسات تصيب البكتيريا وهي لا تملك القدرة على مضاعفة الجينوم الخاص بها بنفسها.

رسم توضيحي 19 نقل مقاومة المضادات الحيوية عبر الطرق الثلاث المعروفة، المصدر Nature, Furuya and Lowy

هذه الطرق الهندسية المُتقنة في كشف المضاد كيميائياً عبر مُستشعِرات خاصة، وتمييز نوعه وفحصه وتحليله في مختبرات البكتيريا، ثم أن تقوم البكتيريا عبر خطة كاملة في جينومها بصناعة إنزيم مكون من مئات الأحماض الأمينية التي يتم إنتاجها بآلية دقيقة ونقلها وفق آلية دقيقة إلى مواضع مخصصة لتقوم بتكسير المضاد الحيوي تكسيراً لم يستطع العُلماء في كل المختبرات التوصل إلى فهمه إلا بصعوبة بالغة، لهو أمرٌ لا يمكن أن يعزوه صاحب منطق إلى صدف عشوائية، بل هي آلية مترابطة متكاملة مُعقَّدة أتت كما هي في لحظةٍ واحدة، بل وأن تملك البكتيريا الواحدة عدة طرق مُختلفة لمواجهة المضاد وأن تغيّر من حوائطها وبواباتها وهيكلها وغيرها، وأن تقوم البكتيريا نفسها بإفراز مضاد مُختلف حسب المضاد الحيوي الموجه لها، بالإضافة إلى قدرتها على نقل هذه الميزة إلى خلايا أخرى بطرق تخاطبية متقدمة لهو أمر يفوق التخطيط البشري مجتمعاً، فما بالك بمن يقول إنها صدف! والصدف التي ستأتي بإنزيم واحد فقط مخصص مكون من 270 حمض أميني من هذه العملية لا تكفيها احتمالات الكون كله، بالإضافة إلى أنّ فقدان أي جزء في هذا السيناريو الكامل سيُؤَدِي إلى عدم مقاومة البكتيريا ومن ثَم موتها!

لقد اكتشف العُلماء بكتيريا مقاومة محفوظة منذ مئات السنين، أي قبل ظهور مضاداتنا الحيوية، وهذا يعني أنّ المقاومة الحالية أمرٌ أصيل في البكتيريا وليس دخيلاً عليه، وكل ما في الأمر أنً البكتيريا الضعيفة تموت، وتبقى البكتيريا المقاومة لتنمو، وهذا التعقيد المُهيَّأ مسبقاً دفع علماء البكتيريا إلى التصريح بأن ما يقال حول تطور المقاومة أمرٌ ناقص ولا يجب تكراره، أمثال البروفيسور إرنست تشين الحاصل على جائزة نوبل في إنتاج البنسلين مع ألكسندر فيلمنج، وكذلك أشار الدكتور سيلمان واكسمن مكتشف مضاد الستربتومايسين الحيوي والحاصل على جائزة نوبل بقوله: إنّ ربط التطور بآليات المقاومة البكتيرية هو محض خيال علمي، وهذا ما أكده البروفيسور فيليبس سكيل مطور المضادات الحيوية بقوله: إنه ليس هُنَاك علاقة بين نظريات التطور الدارونية والمقاومة البكتيرية، ولماذا نقحم التطور في هذا الموضوع من الأصل!

التطور الكبروي

إنّ أي تغير فوق مستوى الأنواع Species، أي على مستوى العائلات Families أو الشُعب Phylum أو الجنس Genus، يُسمى بالتطور الكبروي Macroevolution وقد ينتج لنا حسب نظرية التطور نوعين مُختلفين من الكائنات الحية، إذ يحدث تغير في نسبة ظهور جين ما داخل مجموعة من الكائنات الحية وذلك بالتركيز على القطيع ككل وليس على أفراد مستقلين، ويبدو هذا ظاهراً على الكائن الحي.

ويمكن حسب التطور أن نلاحظ هذا الأمر بالنظر إلى شجرة الحياة أو السجل الأحفوري للكائنات، والسبب الرئيسي لحدوث هذا التطور هي مبادئ التطور مجتمعة التي ذكرناها بالأعلى، فمثلاً التطفر عملية صغيرة وبسيطة، لكن بدمجها مع العمليات الأخرى عبر ملايين السنين يحدث أن يتطور الحوت إلى دب، كما يقول التطور.

والنوع Species هو مجموعة من أفراد الكائنات الحية التي يمكنها من التزاوج فيما بينها وإنتاج نسل خصب، وهذا أبسط تعريف للنوع، ويتشارك أفراد هذا النوع فيما بينهم بحوض الجينات Gene Pool فقد تختلف الأفراد بصفاتها الظاهرة لكنها مخزنة في أشرطة الدنا، وحينما يحدث تزاوج يتم تهجين للصفات فينتج صفات جديدة لأفراد النوع.

رسم توضيحي 20 آلية عمل التطور الكبروي

هذا الكلام يشبه أن أجلب لك حوضاً مليئاً بالأحرف العربية وأقول لك اغرف منه، فتغرف أحرف فيكون لديك كلمات مثل ثصقي لبافثقف ؤرءرءؤيس، وكلما غرفت خرجت بكلمات جديدة من الأحرف نفسها، لكن أن تغرف ويخرج لك كلمة فيها حرف انجليزي هذا مُستحيل، كل الكلمات ستكون من سياق الأحرف الموجودة في الحوض، إنّ التطور يفسر اختلاف النسل، لكن لا يوضح كيف أتت صفات جديدة، من أين ظهرت صفة الطيران لدى الخفاش، من أين ظهر حرف ال E وحرف ال Y متقنين النحت في الحوض، الآلية الوحيدة في كل آليات التطور هي الطفرات، والطفرات كما عرفنا هي هدامة وضارة، ودمج ملايين السنين مع العمليات الأخرى لا ينتج لنا شيئاً.

إنّ تطور بروتين واحد من مجموعة أحماض أمينية كما رأينا يكلف ملايين ملايين الاحتمالات وكلما تعقد بات الأمر مُستحيلاً أكثر، فـ500 حمض أميني أعطتنا أرقاماً لا يمكن استيعابها وهي تَفُوق جداً احتمالات الكون الممكنة، فما بالكم ببروتين يحتوي على 2000 أو 20000 ألف حمض أميني، ونحن نعلم أنّ ال500 حمض أميني لو أصبحت 501 فقط، لتضاعفت الأرقام بصورة مرعبة، ناهيك بعد أن تحاول الطبيعة بالصدفة ملايين المرات ولا يموت الكائن الحي بمنتجات ضارة تتوصل الطبيعة لآلية ذكية، فتقول هذا البروتين الذي أنتجناه مُفيد، امسحوا ال 254896325 تجربة الأخرى الفاشلة من السجل، ودعونا نقوم بكتابة هذا البروتين في الدنا، تفضل أيها الرنا هذا المركب الجديد، وقم بتسليمه إلى الدنا، وأخبره أنه بروتين جديد ومُفيد، وقم بتدوينه في سجلاته، وسجل أين سنستخدمه، وكيف نستخدمه ومتى نستخدمه وهيكليته الثلاثية سجلها أيضاً، وقم بترتيب الموضوع مع مجموعات الريبوسومات والنواقل وغيرها لكي يصنعوه بدقة ويُلحقوه بالنظام ككل.

بعد إجراء نماذج المحاكاة الحاسوبية وجد كل من العالم دوريت والعالم شميت أن المدة الزمنية اللازمة لتثبيت طفرة واحدة في أسلاف الرئيسيات (البشر والقرود وغيرها) هي 6 ملايين سنة [43] وذلك في بحث قاما بنشره عام 2008م في مجلة علم الوراثة لفهم وتقدير المدة الزمنية المطلوبة لتثبيت الطفرات داخل المجموع السكاني للنوع، وأضافا أنّ الحصول على اثنتين فقط من الطفرات وتثبيتها عبر التطور في البشر بمجموع سكاني صغير سيحتاج إلى 100 مليون سنة، 100 مليون سنة لتُثبِت طفرتين، وليس مليون طفرة، أي أنّ تثبيت طفرتين في الجنس الواحد هي أكبر من العمر الزمني لتطور البشر، وهذا يتوافق مع الحديث السابق عن بناء البروتينات، إذن ستفشل كل المحاولات لتفسير ظهور الصفات الجديدة، وهنا يجب التذكير أنّ عدد الأجناس الموجودة في الكائنات الحية يقدر بمئات الآلاف، وكل جنس منها من المفترض أنه تطور بالطفرات المُفيدة والضارة في مسار متكامل لتخرج ملايين الأنواع بهذا الشكل، هُنَاك 2400 نوع من جنس الأفاعي المُختلفة في الشكل والخصائص والمزايا كما لو أن كل منها وجد بهذا الكمال المتقن!

هُنَاك نقطة إضافية، إنّ الحديث في سياق التطور نراه في سياق تطور الخلايا والمعدات الحيوية، لكن ماذا عن نظام التشغيل الذي يربط الأجزاء ويشغلها سوياً، كيف تطور أو كيف أتى إلى الوجود، فوجود قطع عتاد الحاسوب أو جوال حديث مع بعضها لا يعني أنها ستؤدي وظيفتها، بل يجب وجود نظام تشغيل أكثر تعقيداً من العتاد لينظم العمليات ويربط هذه الأجزاء بكفاءة، كل الحديث يتم في تطوير المعدات ولا أحد يذكر كيف تطورت عقلية عمل النظام.

تجارب

حاول العالم ريتشارد لينسكي اختبار التطور على المستوى الحقيقي في المختبرات، فقام بتنفيذ تجربة في 24 فبراير لعام 1988م لتأكيد التطور واستمرت التجربة سنوات طويلة (30 سنة تقريباً) كافية لتوالد68,000 جيل من بكتيريا الإشريشيا كولاي، توصل فيها إلى أنّ التطور ليس كما كان يُعتقد [44]، بل والطفرات التي سجلت في البكتيريا دائماً وأبداً هي طفرات هدامة (تقريباً 30 طفرة)، ولم توجد طفرات بناءة.

كُتبت العديد من الأبحاث لتوضيح حدوث تغيير في بكتيريا التجربة تحت مسمى التطور، لكن الحدث الأهم أنه لم يتم إضافة جين واحد على الـ 68 ألف جيل، جين واحد فقط كل ما كنا نريده، للأسف لم نَرَه، هذا يقودنا إلى الاستنتاج السابق أنّ التطور لا يضيف بيانات جديدة، بل يقلل منها، بل وهُنَاك 12 سلالة قد ماتت أثناء التجربة نتيجة لفقد الجيناتGenetic degradation فقد فقدت بعض صفاتها من ثَمَّ لم تستطع التكيف في الوسط المحيط، وهو ما سنتطرق له أيضاً في الانحلال الجيني.

وكما نحن معتادون على أنّ العُلماء المُؤمِنون بالتطور يدعون حدوث تطور، فقد أعلن بعضهم ذلك في عملية تنظيم النيتروجين في البكتيريا، إلا أنّ الأبحاث الأخرى أكدت أنّ هذه الخصائص موجودة في جينات البكتيريا، وكل ما تم هو تفعيل للجينات الموجودة نتيجة لعوامل فوق جينية، وبعض هذه التغييرات تم نقلها من سلالة إلى أخرى عبر البلازيمد، وهي طريقة موجودة في الخلايا البكتيرية وليست حادثة جديدة، لا أعلم ما هو أكثر من 68 ألف جيل أثبتت عدم وجود أي جين جديد، بل وأثبتت فقد للمعلومات، لنستنتج بذلك أنّ فكرة التطور الكبروي مُجرَّد فكرة في عقول العُلماء وليست حقيقية.

في تجربة أخرى لمحاكاة التطور، تقدم الورقة المنشورة عام 2015م أنموذجاً حاسوبياً لحساب الوقت اللازم للحصول على سلسلةٍ قصيرة للغاية من القواعد النيكليوتيدية مُحددة الوظيفة، وتثبيتها في أجيال من القردة العليا عن طريق الآليات الداروينية بالطفرات والانتخاب الطبيعي، إذ يحاكي برنامج Mendel’s Accountant عملية الطفرة والانتخاب الطبيعي عبر تحديد بداية ونهاية مستهدفة من سلاسل النيوكليوتيدات فلا يقل عدد الجيل عن 10 آلاف فرد، مع عمرٍ للجيل يبلغ 20 عاماً وفرض انتخاب قوي للغاية (انتقاء بنسبة 50٪).

تم إنشاء طفرات استبدال عشوائية ضمن سلسلة البداية، وكلما نشأ جزء في السلسلة المستهدفة تم تعيين ميزة إنجابية مُحددة لجميع الأفراد الذين يحملون هذا الجزء، وبوصول السلسلة المستهدفة إلى درجة التثبيت في الأجيال تم إيقاف التجربة، ومن ثم تم جدولة إحصائيات الوقت اللازم، وكانت النتيجة أنّ الأفراد من هذا النوع سيحتاجون إلى فترات زمنية طويلة جداً لإنشاء حتى أقصر سلسلة من النيوكليوتيدات الوظيفية.

وكان الوقت اللازم لإنشاء سلسلة من اثنتين فقط من النيوكليوتيدات المطلوبة في المتوسط هو ​​84 مليون سنة، أما الوقت اللازم لإنشاء تتابع من خمس نيوكليوتيدات هو في المتوسط ​​2 مليار سنة، وحتى مع زيادة معدلات التطفر وافتراض زيادة الطفرات المُفيدة وزيادة عدد الأفراد في الجيل فإن الأرقام ما زالت مرعبة [45]، ثم تستخلص الدراسة أنّ الوقت اللازم لحصول الطفرات بالاعتماد على الآليات الداروينية تشكل عائقاً كبيراً أمام التطور الماكروي (الكبروي) للرئيسيات، وإنّ عملية إنشاء أي سلاسل مُفيدة مُحددة من اثنين أو أكثر من النيوكليوتيدات بالآليات الداروينية تصبح مُشكِلة كبيرة [46].

ولم تنجح إلى الآن أي نظرية أو مجموعة نظريات في تفسير كيف يمكن للتطور أن ينتج عضواً متكاملاً في أي كائن، ولا أعلم كيف يمكن في عالم التجربة والمعرفة الاعتماد على شيء لا أصل له لتشييد أبراج علمية به.

شجرة الحياة

هي رسمة نظرية وضعها داروين يعتقد فيها تاريخ تفرع الكائنات من أسلاف سابقة (العلاقة الفيلوجينية)، يوضح فيها كيف تفرّعت الحياة وتطورت من كائن إلى آخر ومن سلف إلى سلف، تفيد هذه الشجرة في دراسة الأنواع وعلاقاتها الجينية والأبوية ببعضها البعض، وكان يأمل داروين دائماً أن تتضح الصورة باكتمال السجل الأحفوري، ولكن ما حدث لاحقاً هو أنّ السجل الأحفوري لم يأتِ بأي اكتمال فلقد كان العصر الكامبري في أيام داروين هو أقدم العصور المكتشفة في عام 1859 [47].

ما يبعث على الضيق أنّ لشجرة الحياة صوراً مُختلفة ومسارات متشابكة وعدة رسومات، ولا شيء ثابت فيها، وهي تتغير شبه سنوياً، قد أتقبل هذا الأمر على أنه نظرية، لكن ما لا أتفهمه هو اعتماد العُلماء المُؤمِنون بالتطور هذا الأمر كمُسلمة علمية ثابتة، نحن في التطور ما زلنا في مرحلة النظرية، ولم نعتمد قواعد نهائية بعد.

ويطالب العُلماء المُؤمِنون بالتطور ممن ينتقدونها أن يقدموا شجرة أفضل! والحجة دائماً على من ادّعى وليس على الطرف الآخر، يخبرني صديق أنه كان مع مونيكا بالأمس، فأخبره لا أصدقك، بل وأطلب منه أن يعطيني دليل، هل رآكم أحد، هل هُنَاك صور؟ لا أتوقع منه أن يخبرني أعطني دليلك على أنني لم أكن برفقة مونيكا، هذا غير منطقي، ولا هزل فيه.

حاول العُلماء المُؤمِنون بالتطور لاحقاً الاعتماد على التحليل الجزيئي والساعة الجزيئية في الكائنات كعمادة لشجرة التطور، كذلك بعد فهم الشفرة الوراثية لأول مرة أتت فكرة أنه من الممكن استخدام تسلسلات الدنا ومقارنات البروتين لبناء الأشجار التطورية، ويا حبذا لو كانت الأشجار المبنية على الأدلة الجزيئية تطابق تلك الأشجار المبنية في الخصائص التشريحية، سيكون أفضل دليل متاح على حقيقة الأنموذج الشجري للتطور الكبروي، لكن لم يتفق العُلماء بعد على أي شيء يساهم في دفع شجرة الحياة إلى الأمام.

والساعة الجزيئية Molecular clock هي تقنية تحليل وراثية تعتمد على الفكرة القائلة أنّ الطفرات تحدث بتتابع وبنمط مُنتظم على فترات طويلة من الزمن في جينوم الكائنات الحية، ولهذا يمكن اعتمادها كطريقة رياضية ليتمكن العلماء من محاولة تقدير الزمن الذي انفصل فيه نوعان عن سلفهما المشترك أثناء التاريخ التطوري [48].

صدقاً، كيف يفعل العُلماء هذا الأمر؟ كيف يقومون ببناء الشجرة بالاعتماد على الجينات، وعلى فرضية أنّ هذا أفضل ما توصل إليه العلم، تتم الطريقة ببساطة بأن يختار العُلماء جيناً ما أو مجموعة من التسلسلات الجينية الموجودة في العديد من الكائنات، ويتم تحديد تسلسل النيوكليوتيدات داخلها، ويتم بناء الشجرة التطورية لاحقاً بمبدأ أنّ الأنواع الأكثر تشابهاً في تسلسل النيكليوتيدات الأكثر قرابة وارتباطاً ببعضها البعض، يبدو الأمر سهلاً نظرياً، لكنه صعب عملياً.

نشرت مجلة نيو ساينتيست [49] مقالاً بعنوان: لماذا كان داروين مخطئاً بخصوص شجرة الحياة تبين فيه ظهور مشكلات عديدة حين قام علماء البيولوجيا الجزيئية بتحليل الجينات لأشكال الحياة الأساسية الثلاثة وهي البكتيريا والبكتيريا القديمة وحقيقيات النواة، فلم تسمح هذه الجينات لهذه الأشكال الأساسية للحياة أن تنتظم في شكل شجر، فقد توقع الجميع أنّ قياس تسلسلات الحمض النووي سيؤكد الشجرة المبنية على الرنا لكن ذلك نجح في مرات قليلة وفشل في أغلب المرات، ولتوضيح النتيجة فقد حصلت التحليلات على تحليل الرنا للكائن أ أقرب إلى الكائن ب من الكائن ج، ولكن الشجرة المبنية على الحمض النووي تشير إلى العكس.

ويوضح التقرير أنّ الأبحاث تشير إلى أنّ تطور الحيوانات والنباتات لا يشبه الشجرة، هذا النوع من التضارب دفع عالم الكيمياء الحيوية التطوري فورد دوليتيل إلى أن يقول: “التطور السلالي الجزيئي قد فشل في إيجاد الشجرة الحقيقية، ليس بسبب عدم ملاءمة الطريقة العلمية أو اختيار الجينات الخاطئة، وإنما يرجع ذلك إلى أنّ تاريخ الحياة لا يمكن أن يُمثَّل في شجرة بشكل ملائم [50]”، وتشير إحدى الدراسات التي تمت في 2009م إلى أنّ التحدي الرئيسي في دمج الكميات الكبيرة من المعلومات في الاستدلال بأشجار الأنواع هو أنّ تاريخ الأنساب المتضاربة في كثير من الأحيان موجود في جينات مُختلفة في جميع أنحاء الجينوم [51].

قرد التارسير

صورة 6 قرد التارسير

التارسير Tarsius هو أحد أنواع القردة البدائية الذي ينتمي إلى رتبة الرئيسيات التي ينتمي إليها الإنسان والقردة العليا، ومن المفترض أن تتوافق العلاقة الفيلوجينية بين التارسير وباقي القردة حسب شجرة الحياة أو السيناريو المكتوب في كتب التطور، لكن المُقاربات الجزيئية والجينية للتسلسلات الهرمية داخل شجرة التطور أظهرت شيئاً يختلف عن شجرة القرابة التشريحية المُفترضة، وذلك بعد دراسة المقارنات بين الجينات المسؤولة عن السيتوكروم بي التابع للميتوكوندريا، ويا للغرابة! وُضع التارسير ضمن أنواع مُختلفة بالكامل لا تربطها أي علاقة تطورية قريبة مع القرود، كما وأظهرت قرابة وطيدة تربطها بالحيتان والقطط والفئران، ليبدو أنّ التارسير أتم انفصاله عن باقي القرود قبل الحيتان والقطط بدلاً من أن تُظهِر المقاربة علاقة مباشرة للتارسير برتبة الرئيسيات وباقي القردة [52] [53].

ولكن ما هو هذا السيتوكروم؟

السيتوكروم هي مجموعة من البروتينات التي تُوجد في كل الأحياء داخل المملكة الحيوانية وتعمل كعوامل حفازة في عمليات الكائنات الكيميائية، وتتكون من 100 حمض أميني في تركيب بالغ التعقيد وهي متنوعة ومُختلفة ومن أشهرها السيتوكروم سي Cytochrome C، وقد كان العُلماء يُعلقون آمالاً كبيرة على دراسة تسلسل السيتوكروم سي باعتباره دليلاً جزيئياً على التطور في القرن العشرين، معتقدين أنّ متابعة التغيرات الطفيفة في تسلسلات الأحماض الأمينية المكونة له سيُؤَدِي إلى تتبع العلاقات التطورية وشجرة القرابة.

في البداية قدّم العلماء السيتوكروم سي كدليل على التطور، وكمثال فإنّ الاختلافات بين الإنسان والكلب ظهرت بفارق أقل مقارنةً بالاختلافات بين الإنسان والأسماك، تتماشى هذه الأدلة مع نظرية التطور إذ يجب أن يكون الإنسان أكثر ارتباطاً بالكلب منه للأسماك، لاحقاً، امتلك العُلماء مكتبة هائلة من البيانات عبر فحص تسلسل أحماض الأنواع المُختلفة بدءاً بالبكتيريا انتهاءً بالإنسان لغرض إعادة تتبع التغيرات وغيرت كل شيء، فقد قامت الدكتورة مارجريت دايهوف في مشروع أطلس بالتوصل إلى نتائج مخيبة للآمال بعد شراكة وأبحاث عديدة، وكانت نتائج مقارنة مصفوفات الأحماض مُخالفة لما يتوقعه الباحثون في مجال التطور.

وفقاً للعُلماء المُؤمِنون بالتطور، فإنه عبر تحليل الفروقات في تركيب بروتينات السيتوكروم سي؛ يمكن إنشاء البروتينات مثل سيتوكروم سي؛ لإنشاء شجرة تتطابق مع الأشجار التي تم إنشاؤها بالاعتماد على أدلة تصنيفية من كائنات مختلفة، أشار عالم البيولوجيا الجزيئية مايكل دينتون إلى أنه عند قياس نسب الاختلاف في تركيب السيتوكروم سي بين نوع محدد وأنواع أخرى فإنّ التغيرات تكون منتظمة، فمثلاً الاختلاف بين سيتوكروم سي في الحصان وسمك الكارب والأرنب والسلحفاة والضفدع والدجاجة يكون ثابتاً بحدود الـ 13%، وكذلك فإن الاختلاف بين سيتوكروم سي في البكتيريا وفي الحصان والتونا والخميرة والحمامة والقمح والعثة يتراوح بين 64% إلى 69%.

وهذا يناقض الفكرة التطورية بأنّ الأسماك أسلاف الضفادع، والضفادع أسلاف الزواحف، والزواحف أسلاف الثدييات، وإلا أليس من المفترض أن يكون الاختلاف بين السمكة والضفدع والزاحف والثديي في تركيب سيتوكروم سي تصاعدياً؟ أيضاً تُظهر المقارنات الجزيئية مسافات متقاربة جداً بين الأسماك والبرمائيات إذا ما قمنا بمقارنتها مع الزواحف والثدييات وهذه مشاهد معاكسة للتصور التطوري على مستوى درجات القرابة الجزيئية.

وعند التوغل أكثر سنجد المزيد، فالسيتوكروم سي في السلحفاة أقرب إلى الطيور مما هو عليه للثعبان، وهو من فصيلة الزواحف نفسها رغم علاقة القرابة التطورية، وليس هذا فحسب، بل وُجد أن الثعبان أقرب إلى الإنسان في 14 اختلافاً، مما هو عليه للسلحفاة (قريبته في شجرة التطور) إذ وُجد أنه يملك معها 22 اختلافاً.

وكان من المفترض أنّ البشر والخيول أكثر قرابة لأن كليهما من الثدييات المشيمية، ومُشتركين في سلف تطوري مزعوم أقرب من الكنغر الجرابي، إلا أنّ السيتوكروم سي في الإنسان يختلف عن الحصان في 12 موقعاً لكنه يختلف مع الكنغر في 10 مواقع فقط، ويبدو أنّ الدجاج والبطريق أكثر قرابة فيما بينهما من قرابتهما مع البط والحمام، والسلاحف أكثر قرابة مع الطيور منها للأفعى، والقرود والإنسان تختلف عن الثدييات المشيمية أكثر من الكنغر من الثدييات الجرابية بعيدة الصلة.

كثيرون من علماء البيولوجيا الجزيئية مثل ريتشارد إي ديكرسون مدير معهد البيولوجيا الجزيئية في جامعة مينيسوتا والبروفيسور الإيطالي جيوسيبي سيرمونتي أستاذ علم الوراثة يرفضون دلالة البيولوجيا الجزيئية على التطور، إذ يُعلق جوسيبى في مقاله قائلاً: “من وجهة نظر الكيمياء الحيوية فإن الحصان هو نفسه حشرة الحصان [54] [55] [56] [57] [58] [59] [60]”، أي أنّ جينات الحصان هي نفسها جينات أي حشرة، ولا يمكننا تحديد عبرها من هو الحصان من الحشرة، كذلك هُنَاك العديد من الدراسات الواضحة عن عدم وجود شجرة الحياة، إذ يحاول العُلماء معرفة العلاقات الشجرية لـ 1.8 مليون نوع، لكن لا يمكنهم تصنيف 23 نوعاً من الخميرة [61]، وسلسلة إخفاقات شجرة الحياة طويلة لا تنتهي.

التفسير التطوري

في الحقيقة، تُثَار قضايا التطور منذ سنوات في كل المحافل ودائماً ما يرتبط نقاشها بقضية الدين والإلحاد، فالمتدينون يرون أنّ الله خالق الكون والإنسان، والماديون يرون أنّ الطبيعة بالاعتماد على التطور والنشوء هي من أوجدت الإنسان، والتطور كما قال كارل ماركس أساسي في تفسير أسس التاريخ الطبيعي لآراء الماركسية، وهو بعيداً عن ماركس أقرب للكتاب المقدس أو للقرآن لمن لا يسلم بالإيمان الإلهي، ولكن ماذا عن العلوم والتقدم العلمي في مجال الطب والتشريح والكيمياء الحيوية وغيرها من العلوم؟ هل للتطور دور كبير وهائل فعلياً؟ للإجابة عن هذا السؤال ننظر ماذا يقول البروفسور مارك كيرشنر رئيس قسم البيولوجيا كلية هارفرد للطب، إذ يقول: “في الواقع، وعلى مدى السنوات المئة الماضية، وقد تقدمت أغلب فروع البيولوجيا باستقلال عن التطور إلا البيولوجيا التطورية نفسها! البيولوجيا الجزيئية، والكيمياء الحيوية، علم وظائف الأعضاء، كلها لم تتخذ التطور في الاعتبار”.

أعلم أنّ هُنَاك المقولة التي تقول بأنه لا يمكن فهم الحياة بعيداً عن التطور، لكن للأسف هذه المقولة غير صحيحة، فمئات الأبحاث وضحت أنّ تفسيرنا للأمور من وجه نظر تطورية أنتجت مُشكِلة وأعاقت تقدم العلوم، ولعلي أذكر في علم التشريح والوظائف الإنسان الأعضاء الأثرية -سنتطرق لها– والتي دمرت الملايين وأعاقت حياتهم وأفسدت الأبحاث لتأكيد النظرية رغم اتضاح أنها خطأ بالمطلق، وتأخير مثلاً تسجيل المساريق Mesentery وغيرها من الأعضاء ذات الوظيفة الأساسية، وكذلك في علم النفس إذ أدى الاعتماد على التطور إلى حدوث فجوة كبيرة أخرت العلوم لفترات لا بأس بها، ويمكن أن نقول أنّ الاعتماد على التطور وحده لتفسير الظواهر مُشكِلة، وقبول جميع التفاسير هو الحل، لماذا نفسر أن الجوع يحسن من عمل الخلايا بسبب تطور الإنسان في الغابة، ولا نفسره بعشرات التفسيرات الأخرى، بل إنّ وضع التفسير بهذا الشكل المباشر دون بحث وتأكيد لهو أشبه بالتفسير الديني، فكل شيء جاهز ولا يمكنك إعمال عقلك، وبعدها بعقود نكتشف خطأ التفسير بعد أن يكون البشر قد خسروا المزيد.

على مدار الـ 150 عام السابقة، تم وضع قوانين كثيرة للتطور، وذلك لتبيان أنّ التطور حقيقة علمية تخضع للقوانين والقواعد، وسنتناقش في الباب القادم فكرة هل نضع القاعدة بعد المشاهدة، أم نضع القاعدة قبل المشاهدة ونجري التجربة للتأكد وذلك في نقاش فلسفي علمي.

عقبات في وجه الارتقاء

السجل الأحفوري

إنّ السجل الأحفوري من الأعمدة المهمة في نظرية التطور، وتكمن فكرته في أنّ الكائنات السابقة بعد موتها قد دفنت في الأرض، وحتماً أنّ الأرض قد حفظت عدداً كبيراً منها في طبقاتها، وإذا قمنا بالتنقيب في طبقات الأرض السابقة سنجد هذه الكائنات، هذه الكائنات تحتوي بالتأكيد على حلقات وسيطة ظهرت أثناء تطور الكائنات المختلفة، على سبيل المثال حينما انتقل الحوت إلى اليابسة وبدأ يتحول إلى دب، على الأغلب ترك بقايا كائن ما بين الدب والحوت، مثلاً حوت يمشي على رجلين، أو حوت له بداية ظهور رجلين وبه بعض أجزاء التنفس الهوائي واستقامة القامة وغيرها، بل ومن المفترض أن نجد آلاف الأشكال الانتقالية أثناء تحول الحوت إلى دب، وقِس على ذلك باقي الكائنات الحية أثناء تحولها لكل كائن حي، يجب أن نجد لها آلاف الأشكال الوسيطة، وآلاف الحلقات ما بين انتقاله من كائن إلى آخر، أي أننا أمام ملايين ملايين الكائنات الانتقالية التي يجب أن تكون موجودة في الأرض، وهذا هو السجل الأحفوري.

كان داروين يأمل كثيراً في كتابه أصل الأنواع في السجل الأحفوري بأنه سيكون هُنَاك على الأقل آلاف الشواهد فيه إن لم يكن أكثر، وكان يؤمن بأن السجل الأحفوري سيكتمل يوماً ما وسيكون دليلاً على نظريته، وهو ما فتئ يقول: إذا كانت نظريتي صحيحة فسيكون هُنَاك الكثير من الحلقات الوسيطة الضائعة أثناء التطور والانتقال [62, 63]، وهو فعلاً ما يُمليه المنطق، وهذا ما شجع العُلماء من بعده إلى تكثيف البحث أملاً في إيجاد هذه الحلقات، وإيمانهم بأن الطبقات الجيولوجية المُختلفة ستكون ككتاب تاريخ حاضر على التطور، لكن ما وجده العُلماء لاحقاً كان عكس ما توقعته النظرية [64].

وجَديرٌ بنا أن نذكر ما قاله داروين عن المتحجرات، بالإضافة إلى جملة لو كان افتراضي صحيحاً فإننا سنجد آلاف الأشكال الانتقالية، فقد قال أيضاً عن عيون المخلوقات أنها شيءٌ مُبهر، إذ آمن داروين بأنّ العين تجعل نظريته في مهب الريح، فالكمال في عيون الكائنات أمرٌ مُدهشٌ في الإنسان وفي حيوانات قديمة كثلاثيات الفصوص، فالكمال هذا مُدهشٌ لدرجة أنه يجب أن تكون العين موجودة بهذا الشكل مرة واحدة، ويقول وكأنّ خالقاً قد أوجدها، ذكر بالضبط ما يشير إليه العلم الحديث عن التعقيد غير قابل للاختزال Irreducible Complexity، ما يُدهشك هو تجاوز هذه الصفحات من كتاب أصل الأنواع وإهمالها، لكن لا بأس.

إنّ وجود عظمة أ في طبقات الأرض ظهرت قبل عظمة ب لا يعني أن العظمة ب تطورت حتماً من العظمة أ، حينما تحفر وتجد في الأرض عظمة ترقوة بشرية، وتحفر أكثر وتجد عظمة ساق لكائن البيسون، فهذا لا يعني أنّ الترقوة ظهرت من عظمة البيسون، لأنّ التتابع لا يعني الترافق، وحتى الترافق لا يعني التتابع، وهذا ما سنعرضه في فصل الاستدلال، أنت بحاجة إلى دلائل كثيرة قبل أن تخرج بحكم أو نظرية.

نقطة مهمة أخرى وهي وجود أحفورة في طبقة قبل مليون عام، لا يعني أنّ الكائن لم يكن موجود قبلها بمليوني عام، لا يعني أنّ هذه الأحفورة هي بداية ظهور النوع نفسه، فقد يكون هُنَاك أحافير أخرى مندثرة لم نكتشفها بعد، أو أنّ هُنَاك طبقات قد طُمست من السجل الأحفوري لأي سبب كان، إنّ الأحافير لا تُثبِت شيئاً، بل تستطيع أن تنفي شيئاً، هي تنفي أن يكون هناك كائن موجود قبل 100 عام، لأننا وجدنا أحفورة لكائن قبل 500 عام، ولكنها لا تُثبِت أنّ ثَمّة كائن قد ظهر قبل 1000 عام في أول وجود له، هي أداة ناقصة فقط تفيد في توضيح تسلسل في منتصفه إن وجد، لكنها لا تُثبِت أي ابتداء.

هُنَاك 9 مليون كائن حي تقريباً، لكل كائن 1000 صورة انتقالية تطورية على الأقل، ولكل صورة 10 أحافير، أي من المفترض أن نجد 9 مليون * 10000 أي 90 مليار أحفورة، هذا الرقم سينقص جرّاء عوامل التعرية والضغط وما لم نكتشفه، ولكن ماذا اكتشفنا من كل هذه الأرقام في النهاية، اكتشفنا نسبة لا تكاد تذكر، لا تنسَ أننا وجدنا أحافير للبكتيريا القديمة فما بالك بكائنات كبيرة لم نجد لها أثر.

ناهيك بأنّ الأحافير لا تعطينا تصوراً عن سُلُوك الكائنات، فالهيكل العظمي للشمبانزي يشبه بشكل كبير الهيكل العظمي للبونوبو إلا أنّ الاختلاف السُلُوكي بينهما شاسع، ويتم تصوير أحافير البشر بهذا الشكل، فأحافير عظمية تشبه الهياكل الحالية للبشر يتم تشبيهها على أنها كانت بسيطة التفكير وأقرب إلى تفكر الحيوان، وهذا كله علمياً لا يصح.

إنّ متابعة موضوع الحفريات أمرٌ مُتعبٌ وشائكٌ لأنه يحتوي على كثير من التضارب والتلاعب، فمن حفرية أيدا Ida للليمور [65] التي أشار فيها العُلماء بأنها حلقة وسيطة ثم اتضح أنها مُجرَّد ليمور عادي، إلى حفرية لوسي للقردة التي بعد أن صدقنا أنها حلقة وسيطة اكتشفنا أنها مُجرَّد قرد مُنقَرِض وغيرها مما سنراه في الفصول التالية، ولكن بشكل عام السجل الأحفوري حالياً يمكن الاعتماد عليه بسبب وجود المنحنى التحصيلي، ولدينا أحافير تمكننا من الحكم حول تسلسل الحياة على كوكب الأرض وبخطية سيرها.

يمكن أن نلاحظ في السجل الأحفوري ظاهرة موثقة في الأبحاث تسمى بالثبات Stasis إذ تظهر الأنواع أنها تحافظ على شكلها الأصلي دون تغيير رغم ملايين السنين التي مرت عليها، وآخر ما تم توثيقه في جامعة هارفارد هو سلطعون عمره 99 مليون عام محفوظ في كهرمان في حالة ممتازة سمحت بإجراء دراسة تشريحية على خياشيمه وأعينه وأجزاء أخرى باستخدام تقنيات المسح والتصوير، وخرجت بنتائج أنّ السلطعون يبدو كما لو أنه سلطعون حديث Modern-Looking Crab كما في (شكل1 أحفورة السلطعون بعمر 99 مليون عام)، في حين أنّ السلطعونات حسب نظرية التطور والمستحاثات السابقة قد اعتمدت على أحفورة بعمر 50 مليون عام، وهذا يعني أنّ السلطعونات تسبق ما هو مكتشف ب50 مليون عام أخرى على الأقل، لأننا قد نجد أحافير بعمر 150 مليون عام بل ولربما ضعف هذا الرقم، من يدري، لا قاعدة لدينا لنفي هذا الأمر.


شكل1 أحفورة السلطعون بعمر 99 مليون عام [66]

الانفجار الكبير

في زمن داروين، كان العصر الكمبري هو أقدم عصر مكتشف (العصر كان قبل 544 مليون عام)، وكان هذا العصر يحتوي على مُشكِلة سميت لاحقاً بالانفجار الكمبري، فقد ظهرت حفريات وآثار ومتحجرات أغلب الطوائف الرئيسية في الكائنات الحية فجأة في السجل الحفري وبشكل مماثل لما هي عليه إلى اليوم، هذا الأمر حيّر داروين في كتابه أصل الأنواع [63]، ولحله اقترح داروين أنّ هُنَاك طبقات كانت قبل العصر الكمبري سنكتشفها لاحقاً وسنرى أنّ فيها كائنات أكثر وأعم من كائنات الطبقة الكمبرية لأنّ ما اكتشفناه من سطح الأرض شيئاً بسيطاً مقارنة بما سنكتشفه لاحقاً، وبالفعل بعد داروين اكتشف العُلماء المزيد من الأحافير والطبقات في الصين وكندا وجرينلاند، لكن بعكس ما توقعه داروين، فقد كانت الطبقات السابقة لا تظهر فيها كائنات كثيرة وقد ظهرت الكائنات فجأة كلها في العصر الكمبري كما لو أنها سقطت من السماء بالشكل الحالي نفسه، ولو أنّ أحدنا جالس يراقب الوضع في تلك الأيام، من المُفترض أن يرى كائنات تتساقط من السماء! وكعادة العُلماء المُؤمِنون بالتطور بخيالهم الواسع في محاولة منهم لحل هذا الأمر اقترحوا شيئاً سُمي بالتوازن المُشكل والذي يفترض حدوث تغيير سريع على الكائنات في مدة زمنية قصيرة ثم ركود بلا تغيير لمدة طويلة، ثم اخترعوا مفهوم التوازن المتقطع أو القفزات المفاجئة، والذي يفترض ظهور أنواع جديدة في سجل الحفريات فجأة بلا تدرج، ثم استقرارها لملايين السنين بلا تغيير، وكما يبدو هذا أمر غير دقيق، فأين ملايين السنين لحدوث طفرات جديدة، فضلاً عن ظهور كائنات جديدة!

حينما تفاجئ العلماء بأي فكرة تصدمهم، تلاحظ أنهم يقولون نحن نعرف هذا الأمر مُسبقاً فلا داعي للقلق، ثم يطلقون عليه لفظة مثل التوازن المشكل، أو الحبل المتقطع، وكأنهم بهذا المصطلح قد وضعوا حلاً للمُشكِلة وأجابوا علمياً عن التساؤلات، وهذه المشكلة تتكرر في كل المواضع التطورية.

 

رسم توضيحي 21 اقتراحات التطور لحل مُشكِلة الانفجار الكبير

يتفق الجيولوجيون على وجود ترسيبات عمرها 3 مليارات سنة في كل من أستراليا وأفريقيا، تحتوي هذه الطبقات على بكتيريا مُتحجِرة أحادية الخلية قادرة على البناء الضوئي، والطبقات من حينها إلى العصر الكمبري لم يحدث أي إضافة لها تُذكر مرتبطة بكائنات العصر الكمبري، وما وجده العُلماء قبلها هو بعض الكائنات المتعددة الخلايا التي لا علاقة لها تطورياً بالكائنات المُعقَّدة في العصر الكمبري، وبقيت هذه الصورة البسيطة إلى أن انتقلنا إلى الصين في ثمانينيات القرن العشرين واكتشف العُلماء أحد أقدم الطبقات في العصر الكمبري، إذ استغرب العُلماء من التشابه الكبير بينها وبين الكائنات الموجودة في يومنا هذا، ومن الغريب أنّ الكائنات كلها ظهرت في هذا العصر في مدة 10 مليون سنة فقط، وهي غير كافية لظهور طفرتين متتالين وتورثيهم للأجيال السابقة، فضلاً عن ظهور أنواع كاملة، والمقصود هنا بكاملة أي لها عيون وقلوب وأجهزة مُعقَّدة، هذه الدهشة دفعت العُلماء للإيمان أنّ الحياة ظهرت فجأة بهذا الشكل المُعقَّد فعلاً، وهُنَاك من استطرد منهم وقال إنّ فهمنا للتطور خاطئ، مُنبهاً على أنّ الأفرع في التطور وصلت من الأساس إلى أكبر تفاوت شكلي في وقت مبكر من تطورها [67]

حينما يقسم العالم الكائنات، يعتمدون غالباً على التقسيم السائد ألا وهو تقسيم لينيوس، إذ يقسمونها إلى ممالك مثل مملكة الحيوان ومملكة النبات، ثم يقومون بتصنيفها إلى شعب مثل شعبة الحبليات، ثم إلى طوائف مثل الثدييات، ثم إلى رتب مثل الرئيسيات، ثم رُتَيبة مثل النسناسيّات بسيطة الأنف، ثم رُتَيبة صُغرى مثل نسناسيات نازلة الأنف ثم فصيلة عليا مثل القردة العليا، ثم قبيلة مثل أشباه البشر، ثم جنس مثل الهومو، ثم نوع مثل الإنسان، هذا التقسيم الطويل الدقيق من المفترض أنه تطور على مدار ملايين السنين لتظهر الشعب ثم الرتب ثم الفصائل ثم الأنواع، لكننا رأينا في العصر الكمبري أنه كان جاهزاً! الأنواع والشعب موجودة منذ ذلك الوقت ولم تظهر لاحقاً.

وهذا كلام العالم جيفري شوارتز أحد منظري التطور حينما قال: إنّ المجموعات الحيوانية الرئيسية تظهر في السجل الأحفوري كما تظهر أثينا من رأس زيوس، تامة النضح متحمسة للانطلاق [68]، لذلك يؤمن العديد من العُلماء المُؤمِنون بالتطور اليوم بأن شجرة الحياة وآلية تطور الكائنات حسب الشجرة هي أمور غير دقيقة، ويجب حذف الشجرة بالكامل لأنها فشلت في كل بند من بُنودها، وإلى أن يحدث أن نجد اختراق ما قوي، سنقوم ببناء شجرة أو شجيرات من جديد [68].


شكل 33 كائنات ظهرت في العصر الأوردوفيشي

ثلاث كائنات ظهرت فجأة في العصر الأوردوفيشي، وهي 1- نجوم البحر Starfish، 2- عريضات الأجنحة Eurypterus، 3- المرجانيات المجعدة Tetracorallia

هُنَاك مشكلات كثيرة في السجل الأحفوري غير مرتبطة بالانفجار الكمبري منها مثلاً أدلة تطور أجنحة الحشرات، وتطور الفراشات ودخولها في الأطوار البينية، وأدلة تطور أجنحة الطيور أيضاً، بل وأجنحة الخفافيش وأجنحة السمك الطائر! فكيف أمسى للأسماك جناح والطيور ظهرت بعدها من المفترض، بل وتطور البكتيريا وتطور الزهور، فكل هذه الصور وجدت بضربة واحدة كاملة، وفي (شكل 33 كائنات ظهرت في العصر الأوردوفيشي). تظهر ثلاثة كائنات ظهرت من العدم في العصر الأوردوفيشي الذي يلي الكامبري مباشرة.

رسم توضيحي 22 من المفترض أن نجد ملايين الأشكال الانتقالية للنوع الواحد، فاستطالة القدم تحتاج لآلاف المراحل الانتقالية، فضلاً عن الأشكال الأخرى التي ستنتج من الطفرات ولن يكتب لها البقاء.

مرة أخرى إنّ الانفجار الكمبري يُبين أنّ الكائنات ظهرت فجأة إلى الوجود ولم تتطور، وهذه النقطة كافية لدحض كل مزاعم السجل الأحفوري، لكن لنكمل.

سمكة الكهوف الشوكية

تُعَد سمكة كويلاكانث من الأسماك الكبيرة والقديمة التي يقول العُلماء أنها من قبل زمن الديناصورات، وهي سمكة مُنقَرِضة عثر على بقايا لها في المستحاثات، وقال عنها العُلماء أنها حلقة الوصل بين كائنات البحر وكائنات البر، فهي تحتوي على صفات انتقالية بين الأجناس المُختلفة، وقد حدث هذا التطور العجيب قبل 70 مليون عام، وقد اعتدنا هذه الأرقام الكبيرة هذه التي لا معنى لها في تفسير المراحل الانتقالية.

يبدو أنّ العُلماء يحبون دائماً إكمال أحجيتهم مثل وجود سمكة في مراحل انتقالية كان يجب أن تعيش بالقرب من سطح الماء للانتقال لليابسة، وأبسط الطرق غير العلمية لدى العُلماء هو اتباع الأسلوب غير العلمي، فقالوا هي سمكة مُنقَرِضة وذيلها وزعانفها هي أقدام بدائية، وبعض أحشائها هي بداية نشوء رئة ولديها دماغ كبير، وهذا كله من آثار عظام لا يمكن الجزم بأجزائها الرخوية، لكن السمكة غير موجودة ولا أحد يرانا يا حبيبتي فدعينا نمارس ما نحب، لك أن تتخيل أنّ بناء صرح ضخم يتم عبر هذه الآلية البسيطة، وجد العُلماء آثار عظام فقالوا أنها حلقة وسيطة للانتقال إلى اليابسة قبل 70 مليون سنة، وتحولت هذه السمكة إلى عصفور اسمه الوينستكنون ثم إلى كائن يشبه القنفذ اسمه الششمونتوخ وهكذا، هذا ليس علم، أو هذا هو أحد عيوب العلم التي يجب ألا تجعله إله، سنتطرق إليه في الفصل القادم.

هذه النظرية العلمية أمست قاعدة في التطور منذ عام 1839م إلى أن وصل الصيادون إلى أعماق أكثر في المحيطات مع تطور التكنولوجيا المستخدمة، ثم حدثت المفاجأة في نهايات عام 1938م؛ إذ اصطاد أحد الصيادين سمكة كانت لغرابة الصدفة هي سمكة الكويلاكانث المُنقَرِضة!

صُدم العُلماء جداً في ذلك الوقت، وهي حسب قول العُلماء كالعثور على ديناصور حي في هذا الزمن، هي أحفورة حية تسبح في أعماق المحيطات، وهذه صدفة أخرى أنها لم تكن قريبة من السطح بل كانت في الأعماق، فهذا يعني أنها لم تكن أبداً مقربة من فكرة الانتقال إلى اليابسة، بعد تشريح السمكة أظهرت النتائج أنّ السمكة دماغها صغير لا يتعدى 1.5% من حجم تجويف الجمجمة وباقي ال98.5% هي دهون، والرئة هي مُجرَّد مثانة هوائية [69]، وأنّ الأقدام المزعومة هي لزعانف تمتد بعيداً عن الجسم لا أكثر.

عثر العُلماء بعد ذلك على أسماك كثيرة من هذا النوع، أكثر مما كانوا يتوقعون، بل وقاموا بتصنيف نوعين منها، ولكل منها اسم علمي مستقل ومنفصل، وكان سبب عدم ظهور هذا النوع هو أنها من أسماك الأعماق، ويعتقد العُلماء أنه قد يصل عمرها إلى 60 عام، ووزنها إلى 90 كليو جرام، وطولها قد يزيد عن 2 متر، صحيح أنّ السمكة معرضة للانقراض، لكن لحسن الحظ أو لرعاية المولى أو لرعاية الطبيعة مشكورة أظهرتها لنا قبل انقراضها لكي نناقش آلية نظرية التطور.

صورة 7 سمكة كويلاكانث المصدر: Simon Maina/AFP.

عثر صياد كيني على سمكة كويلاكانث عام 2011م، والصورة من عمال في المتحف الكيني يستعرضون السمكة الأحفورة الحية.

لاحقاً، أظهرت الحفريات أنّ السمكة يرجح عمرها إلى 410 مليون عام، وهذا رقم آخر لا معنى له في شجرة التطور لأنها غير دقيقة، فشجرة التطور تخبرنا أنّ الأسماك ظهرت قبل 470 مليون عام، وظهور سمكة مُعقَّدة جداً بعد 60 مليون عام من ظهور الأسماك أمر لا يمكن حصوله! إلا أنّ هذا الرقم يُعطينا انطباعاً أنّ الكائنات كانت بهذا الشكل منذ وجدت مرة واحدة ولم تتطور تدريجياً [70].

هذه السمكة كانت تحتوي على صفات وخصائص لربما سبقت الثدييات في شجرة التطور المتخيلة، فقد يكون لها مشيمة تغذي بها صغارها وتوفر لهم الأكسجين، ولديها عمليات إخراج الفضلات، كذلك فإن صغارها تخرج من أمها إلى الحياة كاملة النمو تقريباً جاهزة للانطلاق، كما وهُنَاك دراسات تخبرنا أنّ السمكة تميّز المجالات الكهرومغناطيسية، بل وقد تتواصل عبر الإشارات الكهربائية فيما بينها، أيضاً المُدهش في هذه السمكة أنّ جميع الأسماك العظمية Osteichthyes ما عدا الكويلاكانث تسد احتياجاتها من الماء عبر شرب ماء البحر المالح، ثم تتخلص من الملح الزائد عن حاجتها، بينما جسم الكويلاكانث المُعقَّد في نظامه يُحاكي نظام سمكة القرش الذي يصنف ضمن الأسماك الغضروفية Chondrichthyes.

وبعد تحليل دنا هذه السمكة، بات يُعتقد أنها أقرب إلى الأسماك الرئوية من باقي التصنيفات الأخرى، والجدير بالذكر يُعتقد أنّ هذه الأسماك الرئوية قد ظهرت قبل 270 مليون عام لكن سمكتنا ظهرت قبل 410 ملون عام! وفي الأسماك الرئوية تتنفس الأسماك الأكسجين الموجود في الماء فتتحور مثانتها الغازية إلى ما يشبه الرئة ثم يتم تحويل النشادر إلى بول، ويحبس هذا البول ذو المستويات المميتة -مقارنة بالإنسان- في دم السمكة، ثم يتم ضبط معدل هذه المواد الموجودة في الدم وفقاً لمعدل ملوحة الماء المحيط بها، ويسمح فك السمكة لها بأن تأكل أسماكاً كبيرة، كذلك أسنانها مناسبة لهذه العملية، كما أنّ عمودها الفقري معبأ بسائل، وسمكة الكويلاكانث تملك الإنزيمات اللازمة لإنتاج البول أي أنّ لها خصائص ليست موجودة في أي نوع آخر في الطبقة التي تندرج تحتها، وهي الخصائص نفسها لدى أسماك القرش التي تُصنف ضمن طبقة مُختلفة تماماً.

الكثير يقال حول هذه السمكة، ولكن ما قيل كافٍ، وكل هذا الإسهاب لنعلم أنّ كل بند صغير في شجرة التطور أو في المستحاثات تم بسببه تشييد مبانٍ ضخمة وهو محض خيال علمي، وإنّ الحفريات أو المتحجرات التي بنى عليها العُلماء وجود مخ كبير ورئة وأقدام وغيرها من الصور التي تبدو حقيقية هي نتاج خيال وليس علم، فالأجزاء اللينة الرخوة من الجسم بعكس العظام مثلاً لا يمكن أن تظهر بشكل نصف قطعي في الأحافير لكي نبني عليها فرضيات، أو أن نقوم برسم إنسان كامل مع زوجته وكوخه بسبب العثور على ضرس! كما فعل التطور في سن نبراسكا، ثم يقولون لك هذا علم! والعُلماء المُؤمِنون بالتطور يحاولون دائماً سد الفجوات الانتقالية، ولكن كيف يسدوا فجوة وهذه السمكة القديمة بقيت حية لهذا اليوم بعكس نظرية التطور، فتراهم يقولون، هي تتطور من يومها ببطء شديد لا نكاد نراه بسبب عدم وجود ضغط تطور واقع عليها كوجود عدو أو نقص في التغذية، لكن الحقيقة أنّ السمكة الحالية تقريباً هي السمكة نفسها التي عاشت قبل 410 مليون عام ولا تطور لافت حدث لها، وهذا ما يجعل العُلماء في حيرة من أمرهم، ورغم هذا لا يغيرون نظريتهم!

طائر الأركيوبتركس

في عام 1861م، اُكتشفت حفرية لريشة في منطقة سولنهوفن في جنوب ألمانيا وكانت أول حفرية لريشة يتم العثور عليها، وفي العام نفسه تم اكتشاف حفرية الآركيوبتركس Archaeopteryx التي اُعتبرت إحدى أيقونات التطور، وعلى خلاف آثار الريش الذي كان محفوظاً في بعض حفريات الآركيوبتركس، فإن الريشة المعزولة تم حفظها في غشاء داكن بصورة جيدة.

يُوجد في يومنا هذا عشرة أحافير أركيوبتركس تقريباً، الحفرية الأولى كانت في عصر داروين وكتب عنها، وهُنَاك حفرية عام 1877م التي عرفت باسم عينة برلين وهي الأكثر حفظاً واكتمالاً، ثم اكتشفت حفريات أخرى عامي 1993م و2003م.

 

رسم توضيحي 23 حفرية طائر الأركيوبتركس

السيناريو المعتمد في التطور هو أنّ الأركيوبتركس جد الطيور كلها، وأنه ديناصور تطور وأصبح لديه أجنحة ثم تطورت منه الطيور، دون دليل قطعي افترض العُلماء أنه جد الطيور لمُجرَّد أنهم وجدوه في طبقات سفلى ببعض الأجنحة، وأسنان كما الزواحف، وفعلياً لا يمكن بدقة رسم شكل الكائن من خلال عظام المستحاثات، فعن طريق الأحفورة لا تستطيع تأكيد وجود الغضاريف أو الجلود أو الشعر … إلخ؛ لأنه لا يبقى لها أثر، وكل ما نراه مُجرَّد محاولات نتغاضى عنها، ومن المُفترض أن نجد ملايين الأشكال الانتقالية في فترة ما بين الزواحف والطيور، مُفترض أن يحدث تطور في يد التمساح فتصبح جناحاً، ومرة في ذيله، ومرة في منقار، ومرة ريشة على أذنه، ومرة ريشة على ظهره ومرة أخرى ستتطور ساقه وتطول، ومرة ومرة ومرات، ومن المفترض أن يحدث الشيء نفسه لكائنات أخرى مثل السحلية والأفعى وغيرهم في مراحل تطورهم، لكن حتى الآن لم نجد 100 أحفورة في أفضل الحالات ولا واحدة منها تدل على مرحلة انتقالية من كائن لكائن، وحسب النظرية يجب أن نجد ملايين الأحافير الانتقالية لكننا لم نجد إلا 100 أحفورة وليس بينها أحفورة واحدة تُؤكد عملية انتقال حقيقة.

رسم توضيحي 24 صور مُختلفة لجماجم الكلاب مع الذئب، سيصعب تخيل شكل الكائن منها، جرب أن ترى صورة كلب البكيني، وتقارنها مع كل البلدوغ، كلاهما يختلف في الشكل، إلا أن الجمجمة متطابقة.

رسم توضيحي 25 صور جماجم كائنات مُختلفة تتشابه فيما بينها، سيصعب تخيل الشكل الحقيقي للكائن بناء على شكل جمجمته، علاوةً على تخيل باقي أعضاء جسمه من بعض العظام غير المترابطة.

وقد تم تصنيف الأركيوبتركس على أنه مرحلة انتقالية لسببين: الأول وجود أسنان في فكه، والثاني وجود مخالب يتمسك بها في الشجرة، وهاتان هما الركيزتان الأساسيتان لدى العُلماء المُؤمِنين بالتطور، لكننا نعلم أنه يوجد في الوقت الحالي طيور تمتلك الميزتين هاتين نفسيهماّ مثل طائري Touraco و Hoatzin، وهذا حسب نظرية التطور مُفترض ألا يكون صحيحاً، المراحل الانتقالية يُفترض ألا تعمّر ملايين السنين، كيف أنّ للطيور الحالية هذه المزايا الأصيلة فيها، سؤال بحاجة إلى إجابة من العُلماء، وهُنَاك سؤال مهم آخر كيف تطور الطيران في الطيور Avian flight؟ هذا يقودنا إلى أن نفكر كيف يمكن لزاحف أن يطير، والجواب: عبر طريقة من طريقتين وقد وضع العُلماء بعض النظريات في هاتين الطريقتين ونذكر النظريات أولاً ثم الطريقتين:

  1. نظرية الهبوط أو القفز من الأشجار، والذي قال بهذه الفرضية هو أوثونيل شارليز مارش عام 1880م
  2. نظرية القفز لأعلى أو أنموذج العدو السريع، والذي قال بهذه الفرضية صمويل ويندل ويلسون عام 1879م.
  3. نظرية الانقضاض، التي تحدث عنها التطوريون الثلاثة جارنر وتيلور وتوماس عام 1999م.
  4. نظرية الانحدار السريع بمساعدة الجناح، وهو تحديث لأنموذج العدو السريع وظهر في 2008م.

فالزاحف إما كائنٌ كان على الأشجار وهرب من فريسته أو لاحقها، أو كائنٌ كان على الأرض قفز وراء الفرائس أو هرب منها فتطورت قدرته على الطيران، ولو كان الزاحف قد بدأ التطور من الأعلى (الأشجار) فهو حتماً طور شيئاً أشبه بالمظلات، ولو كان الزاحف قد بدأ التطور من الأسفل (الأرض) لساعدته عضلات الساقين في القفز، وهنا نرى أنّ الطريقة الأولى أسهل، فتطوير جلد أشبه بالمظلة أسهل من تطوير عضلات قوية بحاجة إلى غضاريف وأوردة وشرايين معينة وآلية قفز مخصصة، وهذا يعني أننا نبحث عن كائن منتصب أكثر منه يسير على أربع.

هذا الكلام مهم لتحديد السلف السابق، فلو كانت النظرية الأولى الخاصة بالأشجار، فهذا يعني أنّ السلف المُشترك للطيور كائن زاحف يسير على أربع، أما لو كانت نظرية القفز صحيحة، فنحن بحاجة إلى كائن يسير على طرفين بدلاً من أربعة أطراف، ويستخدم الطرفين (اليدين) لاصطياد الفريسة.

في السجل الأحفوري نجد أنّ الزواحف التي تسير على أربعة أرجل كانت تسبق الأركيوبتركس بكثير، وأما التي تسير على رجلين والتي تشبه الأركيوبتركس فقد ظهرت بعده.

هذا يعني أنه لا يمكننا أن نعتمد على الزواحف التي ظهرت بعده، ويمكننا الاعتماد على نظرية الأشجار، وهي منطقية أكثر، لكن للأسف مرة أخرى وجد العُلماء أنّ القدمين الخاصتين بالأركيوبتركس أقرب لديناصور يمشي على قدمين من أطراف زواحف تمشي على أربع، ولكننا رأينا فوق أنّ الزواحف التي تسير على قدمين ظهرت بعد الأركيوبتركس ولم تظهر بعده!

لكن ماذا عن سلف الأركيوبتركس؟ فقد وجد العُلماء أنّ أقرب سلف له هو كائن الكومسوجناثس والذي عاش بعده بعشرات ملايين السنين (شكل 34 الكومسوجناثس)، وعلى الرغم من أنّ العقبات كثيرة أمام التطور في كلا الفكرتين، إلا أنهم يعتقدون أنها غير مهمة، يجب النظر فقط للكائنات التي تشبه الأركيبوبتركس والانطلاق منها، وعدم التفكير في الآلية، تكرم.


شكل 34 الكومسوجناثس.

وهنا نطرح السؤال المهم، كيف يمكننا تصنيف حيوان بأنه زاحف أو طائر، أو نصف طائر، أو زاحف؟ أليس هذا أول سؤال كان يجب أن نسأله قبل الانطلاق في فهم آليات التطور؟ حسناً يتم هذا على حسب ميزة أساسية، فالطائر يمتلك ميزة خاصة به وهي عظمة القص، يتصل بهذه العظمة عضلات الجناح حتى يستطيع أن يرفرف بواسطتها، ومن المُفترض أن تكون عظمة قوية وتسمح للهواء أن يدخل بنمط معين حتى يحدث الطيران… إلخ، الآن الأحفورة السابعة للأركيوبتركس بوضوح تحتوي على هذه العظمة ظاهرة كما الطيور الحديثة، ولهذا بعد تأكيدها رأى العُلماء أنه طائر كامل ويطير وليس مُجرَّد مرحلة انتقالية، فلو كان الأركيوبتركس ديناصور متطور، يجب أن يكون أقرب إلى الديناصورات من الطيور بشكل واضح، ويجب أن يحتوي على صفاتها، صحيح أنّ التطور يقول أنّ الطيور ديناصورات حية، إلا أننا لا نعتقد أنّ التي ريكس يشبه الدجاجة، فكيف نحكم على أنّ هذا الكائن هو سلف ذلك الكائن، إذا سلمنا بفكرة أنّ الطيور كانت ديناصورات، فيمكننا القول إنّ الإنسان كان سمكة، بالكفاءة نفسها والقوة ولا فرق.

من المُفترض أيضاً أنّ هذا الطائر هو مرحلة انتقالية، ولكن هُنَاك مستحاثات طيور كاملة ظهرت قبله ب 70 مليون سنة على الأقل منها طائر الببروتوافيس Protoavis [71] وطائر Aurornis xui و Longisquama، فالأركيوبتركس متوقع ظهوره منذ 150 مليون سنة، وهُنَاك مستحاثات طيور ظهرت منذ 220 مليون سنة! هذا يعني أنّ الطيور موجودة قبل المرحلة الانتقالية هذه، إذن لا يمكن اعتبار طائرنا مرحلة انتقالية، وهُنَاك طيور أخرى ظهرت بعده بفترة قريبة جداً كاملة مثل طائر اللونجسكواما Liaoningornis وبناءً على هذا يصعب القول أنّ الأركيبوبتركس هو الطائر الأول أو المرحلة الانتقالية الأولى.

ولكن ماذا عن أسنان الأركيوبتركس؟ هل هي أسنان زواحف أم أسنان طيور؟ أم هي مرحلة وسيطة؟ في الحقيقة هي أسنان طيور بنسبة 100%، فأسنان الطيور مفلطحة وغير مشرشرة وجذورها عريضة، بينما أسنان الديناصورات (الزواحف) عكس ذلك، العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنفسهم يقولون الآن من المُستحيل أن تكون الطيور تطورت من الزواحف لأسباب كثيرة جداً بل من المفترض العكس أنّ الزواحف قد تطورت من الطيور، ويقولون أيضاً أنّ الأركيوبتركس طائر حقيقي مكتمل الصفات وليس حلقة انتقالية، ومنهم العالم التطوري الشهير ألان فيدوتشيا، في كتاب أصل الطيور وتطورها، إذ قال إنّ الأركيوبتركس طائر كامل وليس مرحلة ولا يصلح ليكون مرحلة، سأسمع أحدهم يقول إنّ النظرية غير معتمدة على العُلماء الكبار حتى التطوريون منهم، وحينها سوف أسألك علامَ هي معتمدة؟ على إيمانك!

تشبه عظام الأركيوبتركس في تجويفها عظام الطيور الحالية، وهذا يعني أنه طائر كامل وليس زاحفاً متحوراً، فالريش يبين أنه من ذوات الدم الحار وليس من ذوات الدم البارد، أي أنه طائراً وليس زاحفاً، وهُنَاك دليلان قويان من الأحفورة يؤكدان عكس ما يقوله العُلماء المُؤمِنون بالتطور الأوائل بأنه يشكل حلقة انتقالية وأنه كان لا يطير، أما الدليل الأول فإن الريش غير متماثل asymmetrical feathers وهي من صفات الطيور القوية، والدليل الثاني وجود درع أو عارضة لعظمة القص keeled sternum تؤكد أنه خُلق جاهزاً للطيران.

وقد قام الباحثون في مجلة Scientific Reports باستخدام تقنية تصوير الفلورسنت المحفز بالليزر LSF لحل لغز الريشة التي تحدثنا عنها في منطقة سولنهوفن في جنوب ألمانيا والذي دام لأكثر من 150 سنة، إذ تُظهر الدراسة الحالية أنّ الريشة مُختلفة عما هو في الطيور الحديثة بافتقادها للخط الوسطي على شكل حرف S، وتقول الدراسة أنها ربما تعود إلى نوع غير معروف من الديناصورات، وأنّ إسنادها إلى أركيوبتركس كان خطأً أي أنّ الموضوع من الأساس فقد جدواه [72].

إنّ قصة سلف الطيور طويلة ومليئة بالمشكلات والهفوات والتلاعب، بل بها فضائح قوية هَزّت العالم حينما تم اكتشافها مثل فضيحة البامبيرابتور وفضيحة الأركيورابتور وفضيحة الحمض النووي للديك الرومي [68] وعلى ما يبدو أنها لن تنتهي قريباً!

رسم توضيحي 26 حسب نظرية التطور فإن التي ريكس هو سلف الدجاجة.

هُنَاك في جزء ما في دماغ الطيور منطقة لحسابات الطيران المُعقَّدة، ثم السرعة اللازمة، الارتفاع المطلوب، الحمولة الممكنة، الاتجاهات الحالية، البوصلة المخصصة، الوقت المُحدد، جميعها متناسقة مع خلايا الجسم، كما ولديه أجهزة استشعار الطعام عن بعدـ وآليات لزيادة أو تقليص كل هذه الخيارات في حالة الراحة في الهواء أو الهروب من الأعداء، آليات مُختلفة للهبوط والإقلاع، كذلك مُحددات مُختلفة للطيران المرتفع والمنخفض، وهذا كله دون برج مراقبة أو GPS أو قمر صناعي أو موجات راديوية أو غيرها، إنّ الطيران عملية مُعقَّدة سواء على المستوى الحسابي أو على المستوى الفسيولوجي، إذ يجب على الطيور أن تمتلك قدرات متكاملة لتستطيع الطيران ولا مجال للتجربة والخطأ.

تناظر الكائنات

نجد في التشابه الوظيفي Analogies بين الحيوانات أنّ للطيور جناحين وللفراشة والخفاش كذلك، وهم كائنات مُختلفة تشترك في وظيفة الطيران في أجزاء معينة من جسدها، وهُنَاك التشابه البنيوي Homologies، إذ تقترب بنية العضو وتختلف في أدائها مثل عظام الجناحين في الخفاش وعظام الزعانف في الدلافين وعظام اليد في الإنسان، وقد لعب كلا التصنيفين دوراً أساسياً في التصنيف الحيوي لاحقاً، فالتشابه الوظيفي يشير إلى أنّ التكيف حدث بناءً على ظروف خارجية، والتشابه البنيوي يشير إلى وجود قرابة بنيوية عميقة ، واعتبر داروين أنّ التشابه البنيوي دليلاً دامغاً على التطور، واعتبر العُلماء من بعده أنّ هذا أمراً مقدساً لا نقاش فيه، بينما يرى الخلقيون أنّ التشابه البنيوي دلالة على وحدة المصمم، أو على بصمته.

يرى أي إنسان غير مختص أنّ رباعيات الأطراف كلها مثل الطيور والزواحف والثدييات متقاربة كما لو أنّ الأطراف مُشتركة ثم تكيّفت لاحقاً لتلائم مهمتها، ولعله يصدق أنّ الجينات الخاصة بجناح الخفاش هي الجينات الخاصة نفسها بيد الإنسان وقد تم توارثها من سلف مُشترك، وهذا أساس من أساسات الدارونية، وقد حاول العُلماء مراراً وتكراراً توضيح أنّ التشابه البنيوي ليس بسبب تشابه جيني، إلا أنّ القارئ غير المختص لا يعرف هذه المعلومات المختصة.


إنّ آلية إرسال الأمواج الصوتية للتعرف على المحيط في الخفاش تشترك في الجينات مع نظيرتها لدى الحيتان والدلافين [73] [74]، وإذا علمنا أنّ التطور يقول أنّ لكل من الحيتان والخفافيش سلف مختلف عن الآخر، فكيف تطورت نفس الأجزاء الوظيفية بنفس الجينات في كائنين مختلفين! هذا لا تفسير له إلا من خلال الأمرين التالين:

  1. أن يكون هناك سلف مشترك قديم جداً قد طور هذه الجينات وأبقاها مختفية إلى أن استخدمها الأحفاد بعد ملايين السنين، وهذا ينافي فكرة الانتخاب الطبيعي بالتخلص من الأعضاء الضامرة وكذلك فكرة تطوير الكائن صفات لا فائدة منها إلا بعد ملايين السنين دون هدف واضح.
  2. أو أن يكون مصمم جهاز الحوت للموجات الصوتية، هو مصمم الجهاز نفسه عند الخفاش، وهو يقول، إنها بصمتي، إنها الجينات نفسها أضعها كيف أشاء، بل وسأجعل جينات الحصان أقرب لجينات الخفاش منها لجينات البقرة! مع أنّ البقرة والحصان متشابهان بالشكل، في حين يختلف الخفاش والحصان كثيراً، بل سأجعل القطط والكلاب أقرب الكائنات للحصان، وليس البقر [75] [76].

من المُفترض حسب نظرية التطور أنّ أسلاف الرخويات قد انشقت عن الفقاريات في العصر قبل الكمبري [77]، وهذا يعني أننا كبشر نرتبط بديدان الأرض ونجم البحر أكثر من ارتباطنا بالأخطبوط، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون عيون الكائن البسيط البدائية في السلسلة موجودة في الأخطبوط، لكنا نرى على العكس من ذلك فعلى الرغم من انحدار الأخاطيب في مرحلة أسبق في التطور، إلا أنها تتميز بنظام رؤية شديد التعقيد كالذي يميزنا نحن البشر كما في (شكل 35 التطابق البنيوي بين عين الأخطبوط وعين الإنسان).


شكل 35 التطابق البنيوي بين عين الأخطبوط وعين الإنسان [77].

إنّ بُنية عين الإنسان مُتشابهة مع بُنية عين الأخطبوط، ولكننا نعلم أنّ السلف المُشترك لكليهما لا يملك عيناً، وهذا الأمر وغيره من الأمثلة تُحتم على مؤيدي نظرية التطور إعادة تعريف التشابه البنيوي، فالتشابه البنيوي غير مرتبط بالسلف المُشترك كما يقولون، والتشابه في البنية والموضع لا يخدم الحقيقة، وعلينا الاتفاق على جزئية هل يفسر التناظر السلف المُشترك، أم أنّ التناظر يفسر التشابه البنيوي، فعين كل من الإنسان والأخطبوط متناظرتان وليس لهما سلف مُشترك، في حين تبين أنّ لأطراف الفقاريات أصل مُشترك.

ولكن، ماذا عن التحليل الجزيئي، هل يساهم في حل هذه المعضلة؟ للأسف لا دلائل العُلماء المُؤمِنون بالتطور ولا دلائل من هم ضدهم تنهي المُشكِلة هذه، فكل الدلائل ضعيفة، والخلاصة أنّ التحليل الجزيئي للدنا لا يمكن أن يثبت أو ينفي التشابه البنيوي، ولكن ماذا لو اتجهنا للسجل الأحفوري، هل يمكن أن يبين التشابه البنيوي؟ للأسف هو لا يكفي ولا يمكن الاعتماد عليه، ولا حتى يمكننا الاعتماد على النمو الجيني أيضاً، فمعظم أطراف الفقاريات على سبيل المثال، تنمو أصابعها من الأمام للخلف، أي في الاتجاه من الذيل للرأس، ونراه بوضوح يحدث في الضفادع، لكن السلمندر أحد أقرب أقرباء الضفادع يقوم بهذه العملية بطريقة معاكسة تماماً، وهذا يعني أنّ تطور السلمندر جاء من بيئة أخرى هذا لو افترضنا وجود التشابه البنيوي بناءً على النمو الجيني، ولحل هذه المُشكِلة الكبيرة، اقترح العُلماء أنّ السلمندرات تطورت وحدها باستقلالية عن باقي رباعيات الأرجل! وهذا أمر غريب جداً كحل بدلاً من رفض النظرية، وهُنَاك أمثلة أكثر قسوة لو سرنا على هذا المنوال.

لكن، ماذا لو اعتمدنا على الجينات؟ فحينها يجب أن نجد جينات اليد في الإنسان قريبة من جينات اليد في الحوت من حيث التسلسل والشيفرات، ولكن للأسف ما وجده العُلماء أنّ الصفات المتناظرة لا تستدعي بالضرورة أن تكون محكومة بمورثات مُشتركة [68]، بل والأكثر غرابة مما نتخيل، تتطابق بعض الجينات العادية التي تساهم في نمو ذبابة الفاكهة مع جينات لدى الفئران والديدان وقنفذ البحر، ولو قمنا بنقلها بين هذه الكائنات المُختلفة لما حدث أي تغيير! وهذا يقودنا إلى سؤال مهم، ما دام أنها الجينات نفسها بين الكائنات، لِمَ لا ينمو من جنين الفأر ذبابة فاكهة! هُنَاك أمثلة عديدة لا تُحصى على تشابه الجينات واختلاف الشكل أو البنية الناتجة، وهذا يقود العُلماء إلى تكثيف البحث في العوامل فوق الجينية أو ترك هذا الموضع بشكل عام والبحث في مكان آخر.

رسم توضيحي 27 جناح كلٌ من الخفاش والطيور.

تتكون أجنحة الخفاش من جلد ممدود بين عظام الأصابع والذراع، وفي الطيور تتكون من ريش يغطي كافة الذراع، وهذا اختلاف كامل بين جناح الخفاش وجناح الطيور وهذا يبين أنّ كلا الجناحين لم يتم توريثه من سلف مُشترك، وعلى مستوى أعمق الأمر نفسه بين يد الإنسان ويد القرد، هُنَاك اختلاف كبير لا يمكن أن نعزوه للتشابه البنيوي [78].

التفاسير الغائية لا توضح كيف ظهرت الأعضاء بل ولماذا ظهرت، التفسير الذي يقدمه العُلماء المُؤمِنون بالتطور بالإضافة إلى كونه اعترافاً ضمنياً بالغائية في الحياة، فإنه لا يُعد تفسيراً لكيفية ظهور هذا النمط من الأساس، فهو أشبه بشخص حاول تفسير ظهور السيارة بقوله إنّ السيارة قد وُجدت ليركبها الناس ويتنقلوا عبرها لمسافات طويلة دون تعب، وإن كان الخفاش قد طور يده في الغابة إلى جناح ليطير، وطور البطريق جناحه إلى مجداف ليسبح بمهارة، فهذا يعني أنّ التطور ذكي ويقيس البيئة ويفهمها ويسير بناءً عليها وليس أمراً عشوائياً، بل هو أمر ذو غاية، وإلا لماذا لم يتطور جناح البطريق إلى جناح جميل يشابه الطاووس، ولماذا لم يتطور جناح الخفاش إلى جناح خاص بالتجديف في الماء! أليس هذا ممكن عشوائياً! ويُضايقني في هذا المقام سماع جملة: ولا يمكن تفسيره إلا في سياق التطور، إنّ تقهقر الأجنحة وفقدانها لدورها الوظيفي الأساسي وهو الطيران وتحولها إلى مجداف أو دفة هو أمر يمكن فهمه بأنه تصميم دقيق، ولا يُمكن تفسيره في سياق الصدفة، إنها جملة تناقض العلم الذي يخبرك بالبحث في كل الخيارات، أما التطور فيخبرك أنه يجب ألا ترى إلا من خلال هذه النافذة، لماذا لا تكون الجملة، ويمكن تفسيره في سياقات منها التطور! وكأننا هربنا من سطوة رجال الدين، إلى سطوة رجال التطور.

يقول نيوتن: “هل يمكن أن تكون مصادفة أنّ كل الطيور، والحيوانات، والإنسان لها مواصفات الجانب الأيمن والجانب الأيسر نفسها –ما عدا الأمعاء الداخلية– (يقصد القلب في اليسار.. إلخ)، وعينان اثنتان فقط لا أكثر على جانبي الوجه وأذنان اثنان فقط لا أكثر، وأنف واحد بفتحتين وإما ذراعان أو جناحان وساقان ولا شيء أكثر، ألا تلفتنا تلك الوحدة الظاهرة إلى شيء سوى هيمنة وإشراف مؤلف قدير [79]”.

تطور أجنحة الحشرات

تكمن المُشكِلة في التناظر الوظيفي في أنه من المُستحيل أن يكون قد حدث بالصدفة في كائنات مُختلفة وفي فترات وأوضاع وظروف مُختلفة، يستحيل أنها وجدت نفس الحل لنفس المُشكِلة، علاوةً على حدوث الطفرات والعمليات على مدار ملايين السنين وبملايين الطفرات والخطوات، نجد أنّ الكائنات تطفرت وتطورت بالهيئة نفسها فقد نما لها جناحان، الطيور والحشرات والخفافيش والأسماك الطائرة، كلها تطورت بالآلية نفسها رغم الصدفة، رغم الظروف المُختلفة، أمرٌ مُحيرٌ بالفعل ولا يتقبله العقل، إلا إذا كان هُنَاك -واتساب- لتتواصل الخلايا فيما بينها! الأمر نفسه حدث في الذئب الأسترالي والذئب الأمريكي فكلاهما نشأ في منطقة ما، لكنهما تطورا بالشكل نفسه وتشابهت أعضاءهما، بل حتى الأعضاء التناسلية تشابهت تطورياً.

حسناً، لنعود إلى الموضوع الأساسي، أحد الأسئلة التي تطرح دائماً ولا يُجاب عنها هو: كيف تطورت أجنحة الحشرات؟ هل في السجل الأحفوري ما يوضح هذا الأمر؟ على الأقل يجب أن نرى نماذج مُختلفة (مفترض لا نهائية) في تطور أجنحة الذبابة أو اليعسوب أو الدبور وغيرها من الحشرات، ويشاع بين العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنّ سبب تعقيد بنية الحشرات هو ظهورها قبل 480 مليون سنة في العصر الأوردوفيشي، وهو الوقت نفسه الذي ظهرت فيه النباتات! وكان أول طيران ناجح في العصر الديفوني قبل 400 مليون عام، فهُنَاك نوع من القشريات تطور واستطاع الطيران، وهذا أمر وُجد بالصدفة في السجل الأحفوري لحشرات محفوظة بدقة! وأي محاولة تُثبِت أنّ الحشرات قد تطورت منذ زمن قريب سيفشل، لأنه لا يلبث أن تظهر اكتشافات أنّ الحشرات وأجنحتها أقدم مما يتخيله العُلماء، هي موجودة مع النباتات! وبشكلها الحالي تماماً، إنها وجدت هكذا!

بل وعلى العكس تماماً على مدار 480 مليون سنة وجدنا حشرات فقدت أجنحتها، من المُفترض أن يحدث هذا في مسار من المسارات، ففقد المعلومات الوراثية مُشكِلة كما سنتكلم لاحقاً، ودعونا لا نذكر هنا نظرية تطور نصف الجناح، فهي تجعلني أتخيل نصف المطلوب مني في لقائي مع مونيكا بيلوتشي، ماذا سأفعل به؟ بل وأشارت دراسة حديثة إلى أنّ الكائنات قد تفقد أجنحتها أو القدرة على الطيران عبر الزمن إذا لم تستخدمها كثيراً وليس العكس، إنّ ضياع الجينات وفقدها يُشكل مُشكِلة حقيقية.

تطور الثدييات

وفقاً للسيناريو الأكثر قٌبولاً وانتشاراً فإن الحياة انتقلت من البحر إلى البر، من الأسماك والبرمائيات إلى البر منذ ملايين السنين لتظهر بعدها الكائنات الأرقى أو الأحدث مثل الزواحف والطيور والثدييات، والسبب في هذه الفكرة الأساسية كما أشرنا في حساء الحياة هو وجود الماء والأملاح والمعادن وكل المكونات في وسط يسمح لها بالتفاعل، وقد دعم هذا الأمر بشدة وجود الملح (ملح الطعام؛ كلوريد الصوديوم) في أجسام الكائنات الحية، وهذا يعني أنّ الكائنات ظهرت في البحار والمحيطات أولاً ثم انتقلت لليابسة، إلا أنها لم تستطع أن تتخلص من الأملاح أثناء مسيرة التطور وبقيت الأملاح في دمائنا كدليل على البحيرة الأولى.

هذه الفكرة جميلة لكنها بحاجة إلى مراجعة وفق العلوم الجديدة التي بين أيدينا، لنبدأ بالملح، إنّ أي طالب علوم يعرف أهمية الأملاح في جسم الإنسان، فجسم الإنسان كهربائياً يعمل على المحاليل الملحية الموجودة فيه، فلولا هذه المحاليل لن يعمل القلب، ولن تعمل خلايا الأعصاب ولن تعمل الخلايا ضمن النسيج، بل حتى الخلية نفسها من الداخل لن تعمل، لا البوابات ولا النواقل ولا الريبوسومات ولا الرنا ولا النواسخ ولا الليسوسومات ولا الميتوكوندريا ولا أي جزء في الخلايا، والملح في جسم الإنسان يكون على شكل أيونات سالبة وأيونات موجبة، ولكي تنتقل أي إشارة كهربائية من مكان إلى مكان، نحن بحاجة إلى تحريك الإشارات الكهربائية هذه، والعملية متداخلة إذ تدخل فيها أملاح الصوديوم والبوتاسيوم والكلور وغيرها في توليفة مُعقَّدة تسمح بانتقال الإشارة، وأي نقص في أي عنصر تحدث مشاكل جمة في جسم الإنسان، قد يتوقف القلب أو الأمعاء أو كل جزء من جسم الإنسان.

قَد سألتُ البحرَ يَوماً هَل أَنا يَا بحرُ مِنكا ….. هَل صحيحٌ مَا رَواهُ بَعضُهُم عَنِّي وَعَنكا

أَم تُرى ما زَعَموا زُوراً وبُهتاناً وإِفكاً ….. ضَحِكَتْ أَمواجُه مني وقَالت

لَستُ أَدري!

أَيُّها البَحرُ أَتَدري كَم مَضَت أَلفٌ عَلَيكا ….. وَهَلِ الشاطِئُ يَدري أَنَّهُ جاثٍ لَدَيكا

وَهَلِ الأَنهارُ تَدري أَنَّها مِنكَ إِلَيكا ….. ما الَّذي الأَمواجُ قالَت حينَ ثارَت

لَستُ أَدري

يَرقُصُ المَوج وَفي قاعِكَ حَربٌ لَن تَزولا ….. تَخلُقُ الأَسماكَ لَكِن تَخلُقُ الحوتَ الأَكولا

قَد جَمَعتَ المَوتَ في صَدرِك وَالعَيشَ الجَميلا …… لَيتَ شِعري أَنتَ مَهدٌ أَم ضَريحٌ

لَستُ أَدري

فيكَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ أَصداف وَرَملُ ….. إِنَّما أَنتَ بِلا ظِل وَلي في الأَرضِ ظِلُّ

إِنَّما أَنتَ بِلا عَقل وَلي يا بَحرُ عَقلُ ….. فَلِماذا يا تُرى أَمضي وَتَبقى

لَستُ أَدري

رسم توضيحي 28 مراحل حركة الإشارات في النبضة القلبية، ونلاحظ في كل مرحلة دور الأملاح، ففي المرحلة الأولى يدخل الصوديوم ثم يتوقف دخوله تماماً، ثم يتم إدخال الكالسيوم في المرحلة الثانية، ثم في الهبوط على المنحني المرحلة الثالثة سيبدأ دخول البوتاسيوم، ثم في المرحلة الرابعة يبدأ دخول الصوديوم بنسبة قليلة من جديد، وهذه العملية تحدث مليارات المرات كل ثانية في كل عملية نقل أي إشارة أو تحريك أي خلية عضلية.

تنتقل الكهرباء في القلب كما في الأعصاب وذلك عبر عدة مسارات في عدة خطوات، كل خطوة منها تتم عبر أجزاء معينة منها، وهُنَاك مناطق في القلب لتسيير الإشارة وجعلها تستمر مثل الـSA Node والـ AV Node وغيرها، وهي ما تُفيد في عملية تراها دائماً في صعق القلب كما في الأفلام حينما يموت البطل.

بل حتى الأعصاب لا تعمل إلا بالأيونات، فأي إشارة من أي خلية لخلية أو من الدماغ لأي خلية أو عضو تنتقل عبر الأيونات بسرعة البرق، وتطبيق هذا الأمر كبير جداً في الأدوية والمخدرات وغيرها، لُغة التواصل في كل جسم الإنسان هي الأيونات السالبة والموجبة الآتية من الأملاح، وحينما تكلمنا عن النقل، مثل Passive Transport وغيرها من طرق النقل التي تحدث في اللحظة مليارات المرات هي تعتمد على الأيونات.

إنّ تصميم أو هيكلية الخلايا والأنسجة والأعضاء والجسم ككل تعتمد على وجود الأملاح، هذه المعمارية مصممة ومهيكلة على الورق قبل أن يتم إنشاؤها.

رسم توضيحي 29 تتابع حركة الأملاح في نقل الإشارات الكهربائية.

جميعنا نعلم أنّ الدلافين والحيتان تصنف من الثدييات وليست من الأسماك، وهي تعيش في الماء بعكس باقي الثدييات، ولكن كيف ظهرت هذه الثدييات المائية؟ كان داروين عام 1859م يرى أنّ الحوت قد تطور من الدب وعاد إلى الماء، ثم قال العالم فلاور في عام 1883م إنّ الحوت جاء من إحدى فصائل ذوات الحوافر، وفي بداية القرن العشرين اتجه التطور إلى أنه أتى من السيردونتات المُنقَرِضة، ثم قالوا بل من آكل الحشرات، إلى أن وصلنا إلى ستينيات القرن العشرين والنظرية التي يتم سردها بأن الحوت جاء من حيوان يشبه الذئب.

يرى التطور أنّ الثدييات قد تطورت من الزواحف، وكما نعلم فإنّ الثدييات والزواحف تطورت من البرمائيات التي غادرت الماء بسهولة، وأصل البرمائيات أسماك كما نعلم، ولكن السؤال هنا: كيف للزواحف التي تركت الماء أن تعود إليه؟ أم أنّ البرمائيات تطورت إلى الحيتان مباشرة بقفزة كبيرة؟ وإذا كانت الزواحف تطورت مرة أخرى إلى الحيتان ثم عادت إلى الماء، فكيف لها أن تفقد ما تطورت منه، كيف تفقد أرجلها وفراءها ونظام التكاثر الثديي وتتحول إلى كائنات بحُريّة، ولكنها أبقت على الرئتين ولم تعد لتتنفس عبر الخياشيم! السيناريو كما ترون مُعقَّد وغير مفهوم، ولِمَ حصل هذا؟ وما هي الميزة الحقيقية للتطور؟ ما الذي يميز الحوت مثلاً عن غيره من الثدييات التي تعيش على اليابسة؟ وهل من الصواب أن يتطور الكائن كل هذا التطور ويبقى حبيس رئتيه؟ عليه أن يصعد إلى السطح للتنفس كل دقائق، ولماذا لم يصغر حجمه وتبقى رئتيه كبيرتين؟ ونحن نعلم مسبقاً أنه لم يُوضَّح لنا كيف يفقد الكائن عبر آليات التطور أعضاءً كاملة، وكيف يكتسب أعضاءً كاملة أخرى كالزعانف وغيرها!

لقد قاربت ملامح قصة تطور الحوت على الاكتمال عام 1966م، على يد عالم الأحافير فان فالين حين رصد بعض التشابهات بين أحافير وسطية الحوافر Mesonychids وهي مجموعة من آكلات اللحوم المُنقَرِضة مع عظام أحافير الحيتان [80]، هذه لقد امتلكت هذه الحيوانات المُنقَرِضة الشبيهة بالذئاب أسناناً ثلاثيةً تشبه تلك الموجودة في الحيتان الحالية، فاستنتج العالم فان من تلك التقاربات أنّ الحيتان انحدرت منها، وقد أكمل العُلماء الدراسة من بعده بالاعتماد على الحوت الباكستاني Pakicetus والذي ظهر قبل 50 مليون سنة، ثم الاعتماد على الروديسيتوس Rodhocetus، وهو كائن ظهر قبل 46 مليون سنة [81]، وهو الكائن الذي يُفترض أنه يُشكل حلقة انتقالية بين البر والماء، ويُفترض أن يمتلك أطرافاً وذيلاً تشبه أطراف الحوت، إذ رسم مكتشفه الدكتور فيليب جنجريتش كل هذه الأعضاء الانتقالية من خياله إذ لا يوجد ذيل، وسيناريو سير التطور هو كالتالي:

  1. ظهر الـPakicetids قبل 50 مليون سنة.
  2. ثم ظهر الـAmbulocetids قبل 49 مليون سنة.
  3. ثم ظهر الـRemingtonocetids قبل 49 مليون سنة.
  4. ثم ظهر الـRodhocetus قبل 47 مليون سنة.
  5. ثم ظهر الـBasilosaurids قبل 40 مليون سنة.

رسم توضيحي 30 مراحل تطور الحوت.

وقد عَثَرَ العُلماء عام 2016م على أحفورة لحوت مائي كامل من نوع الباسيلوسورس Basilosaurus، وتم تأريخ ظهوره إلى 42 مليون سنة، أي أننا وجدنا حوتاً كاملاً في فترة قريبة جداً، وهذا يُلغي الكلام السابق، وأزيدك من الشعر بيتاً أنّ هذه الحفرية وُجدت في البيرو! أي بعيداً عن كل المسرح التطوري، وهذا سؤال آخر يجب الإجابة عنه.

حينما نعثر على أحفورة فإننا نستطيع الإجابة عن سؤال يقيني واحد، أنها كانت لكائن حي دُفن بعد موته في هذا المكان لنجد آثاره فيما بعد، هذه الحقيقة الوحيدة الثابتة، وغير ذلك من استنتاجات تبقى استنتاجات وليست تأكيداً علمياً كما يحدث، فالأحفورة لا نَجِدها وبجانبها شهادة ميلاد، اسمها كذا وهي ابنة كذا، لا نستطيع أن نجزم كما يفعل التطور بأننا وجدناها في الطبقة كذا فهي حتماً سلف كذا، فلو وجدنا حفرية خفاش، هل سنقول مثلاً هو ابن الثدييات لو لم يكن هُنَاك خفاش بيننا؟ بالطبع سيقول التطور إنه حتماً طائر تطور من سحلية اسمها الفيقوفيتش (اسم خيالي) وكانت تعيش في الكهوف ولها ريش خفيف!

مع تطور شجرة الحياة، اكتشف العُلماء أنّ الذئب الذي اعتمدوه كمصدر للتطور يوجد به عيب، وهو بعيد عن كونه قريب للحيتان، ولذلك نجد خطأ الاستدلال الدائري ظهر مرة أخرى في التطور لتُثبِت وجهة النظر، فنحن نستدل في العادة بالأحافير لرسم السيناريو، إلا أننا هذه المرة سنستخدم السيناريو لتأكيد تسلسل الأحافير.

لدينا المزيد، هل تعلم أنّ الحفرية الأولى للحوت الباكستاني هي عبارة عن جزء من الفك وجزء من الجمجمة كما في (شكل 36 الحفرية الأولى للحوت الباكستاني). إلا أنّ العُلماء استنتجوا منها كل الاستنتاجات الضخمة، مثل شكل الحوت وزعانفه وأنه كان يسبح ويصطاد السمك! لا أدري ماذا أقول لكن لنكمل، وبعد ذلك بسنوات طويلة وفي بدايات القرن الحادي والعشرين تم اكتشاف أحفورة أفضل وتحتوي على قطع أكثر للحوت الباكستاني، وكما أراها في (شكل 36 الحفرية الأولى للحوت الباكستاني). أنها كائن ثديي وليست حوتاً، فهل ترونها أقرب للحوت كما العُلماء؟ أم أقرب للثدييات كما غير العُلماء؟

إذا كنت تراها كما الثدييات فأنت مُصيب، لأنّ العُلماء يقولون بوضوح أنها كائن ثديي كامل وليست مرحلة انتقالية [82].


شكل 36 الحفرية الأولى للحوت الباكستاني.

حينما بدأت بكتابة هذا الفصل، كنت أكره التفكير في كتابته، لما فيه من تغيير وتلاعب، فحينما تم تأكيد أنّ الحوت الباكستاني حيوان ثديّ، قام العُلماء برسمه مرة أخرى بأرجل قصيرة ومنحنية للخلف وبطريقة توحي أنه حوت سبّاح، لم يكتفِ العُلماء بحذف هذا السيناريو من التطور، بل قاموا باعتبار كائن الـ Ambulocetus حلقة مفقودة!

هل يتطوع عالم ما لإخبارنا كيف تم التوصل إلى صورة كائن حي كما هو مرفق بالأسفل من بعض العظام فقط؟ كيف تم وضع زعانف على يديه وقدميه من بعض العظام؟ أنا أتساءل ولا أتهكم! الأمر مشابه لما حدث مع كائن الـRodhocetus، وقد اعترف العالم جنجريتش الذي أخرج السيناريو البوليودي لاحقاً أنّ الذيل والزعانف وغيرها كان من فضاء خياله الواسع [83] [84].

رسم توضيحي 31 صورة الكائن الحقيقي دون إضافات.

حسناً، كما نرى فإن كل السيناريو الموجود محض تخيُّل أو تم تعديله لاحقاً، لكن (الصورة 8 صورة تعبيرية عن الحوت في مراحل تحوره). ستبقى محفوظة في خيالك مهما حاولت أن تمحوها، وستبني عليها الأفكار التي تقول: إنّ التطور ممكن.


صورة 8 صورة تعبيرية عن الحوت في مراحل تحوره.

ثَمَّة إشكالية إضافية في شجرة تطور الحوت، فطوال هذه الاكتشافات، كان العُلماء يَعزُون فيها إلى أنّ الحيوان أ ظهر بعد الحيوان ب وهكذا، لكنهم كانوا يترفعون في رسم شجرة الحياة عن وجود سلف مُشترك وتسميته، ولأننا لم نوضح في الكتاب آلية قراءة شجرة الحياة وفهم الرسومات المتعلقة بها، إلا أنه باختصار يجب أن يكون لكل كائن سلف مُحدد واسم خاص، وفي شجرة الحوت لا يوجد أسلاف بالمطلق.

لا تنسَ أنّ كل هذا السيناريو الضخم وعشرات الأنواع التي كتبها العُلماء جاءت فقط لأنهم وجدوا بضعة أحافير، والتي من المفترض أن نجد الملايين منها حتى نقول أنه قد حدث بالفعل، وما عزز هذا التيه أكثر أنّ الإشكالية تعدّت فقر السجل الأحفوري في عدد الأحافير إلى عدم تقديمه أي بيانات جزيئية أو سُلُوكية أو بيانات عن الأنسجة الرخوة التي تساعد في إجراء المقاربات المطلوبة، وهذا ما قام بدارسته وتوثيقه العالم O’Leary في سجل في سجل الحيتان الأحفوري، وأنتج رسماً بيانياً، وقرّب إلينا الفكرة عبر رسم بياني يحدد حجم البيانات التي يمكن أن يزودنا بها سجل الحيتان الأحفوري ومثّل البيانات التي يصعب جمعها بمنطقة سوداء تُمثل غالبية المساحة البيانية.

رسم توضيحي 32 رسم بياني لبيانات الحوت المتوفرة مقارنة مع البيانات غير المتوفرة للحكم بدقة على تطور الحوت

[85].

لكن، هُنَاك من الأساس اختلاف بين العُلماء على سلف الحوت، فهل هو كائن من مُزدوجات الأصابع Artiodactyls أم كائن من وسطية الحوافر Mesonychians؟

لو اعتبرنا الحيتان أقرب الأقارب لمُزدوجات الأصابع Artiodactyls سيكون علينا تجاهل التشابه بين الأسنان وشكل الجمجمة، ولو اعتبرنا الحيتان أقرب الكائنات إلى وسطية الحوافر Mesonychians فعلينا تجاهل التشابهات بين عظمة العقب واعتبارها مُجرَّد تقارب convergences [86]،

بعيداً عن متاهة السلف المجهول فإن الاختلافات بين الحوت البحري والسلف البري لا تُعد، وتكاليف التحول إلى الحيتان مرتفعة جداً، ويجب أن يحدث التطور بسرعة ضوئية وبعدد هائل من التكيفات والطفرات المُفيدة، والتي حسب التطور لا تتعدى 10 مليون سنة حسب السجل الأحفوري لتحول ثدييات اليابسة إلى حيتان ماء، هذا أمرٌ مُستحيل من ناحية التطور، ستحتاج الحيتان إلى العديد من المزايا الفريدة حتى تتمكن من العيش في الماء مثل ملامح الهيكل العظمي التي يجب أن تتغير جذرياً، وكذلك آليات وظائف الأعضاء للكائن الحي.

على سبيل المثال لا الحصر، فإنه في وقت مبكر قبل 49 مليون سنة كان من المُفترض أن يشرب الحوت الجوّال Ambulocetus المياه العذبة طوال حياته أما الحوت الأولي Protocetid فقد شرب المياه المالحة قبل 47 مليون عام، أي أنّ تغييراً متطرفاً في وظائف أعضائه يجب أن يحدث في مدة أقل من 3 ملايين عام، وهنا سيتوجب على هذا الحوت الأولي التطور بطريقة دقيقة لإنتاج التحسينات في وظائف الأعضاء خلال حقبة الثلاث ملايين عام القصيرة جداً في التطور، وفي الوقت نفسه يجب عليه أن يطور مُختلف الآليات الحيوية والعضوية مثل الغطس لمسافات طويلة وتبادل الأكسجين مع تطوير نظام شامل لتنظيم درجة الحرارة وتخزين الدهون في وقت قصير يخالف كل النظرية، مع اختلاف نوع من تغذية الحيتان عن الحيوانات البرية في آلية اصطيادها، فالحيتان يجب أن تكون مجهزة لهذه التغييرات وأن تكون مستعدة للغوص العميق، وإمكانية إرضاع صغارها في الماء.

إحدى الإشكاليات في الثدييات هي كونها من ذوات الدم الحار فهي تمتلك درجة حرارة ثابتة أعلى من درجة حرارة الزواحف والأسماك والبرمائيات، وهناك مشكلة عظيمة لكي يحافظ كائن ثديي يعيش في الماء البارد على درجة حرارة جسمه، إلا أننا نرى الحيتان قد صُممت بهياكل مخصصة مُعقَّدة ولديها المبادلات الحرارية المعاكسة countercurrent heat exchange التي تحافظ على حرارة جسمها ثابتة [87] كما في (شكل 37 المبادلات الحرارية المعاكسة في الحيتان)، إذ تتحرك الدماء باستمرار من اللسان لباقي الجسم وتعود في دورة للمحافظة على حرارة الأعضاء كاملة.


شكل 37 المبادلات الحرارية المعاكسة في الحيتان.

شكل 38 آلية عمل المبادلات الحرارية المعاكسة في الحيتان.

ماذا عن تطوير نظام السونار المتقدم الموجود في الحيتان؟ وتحديد الأماكن عبر صدى الصوت كوسيلة للاتصال تحت الماء من خلال الموجات الصوتية، وهو النظام الدقيق الذي تحسده عليها أكثر الغواصات تقدماً، إذ يمكنها الكشف عن سمكه في حجم كرة الغولف على مسافة 70 متر! كيف أتى هذا النظام من العدم في فترة قصيرة؟ بل هل من الممكن للطبيعة أن تطور هذا النظام؟

يقول العالم روري هاولث بعد أن درس هذا النظام في الدلافين إنّ تلك الأنماط لا بد لها من تصميم رياضي بالغ الدقة لكى تعمل، فنظام السونار موجود في نتوء دهني في جبين الحيتان والدلافين يسمى البطيخة، وهو عبارة عن عدسة من تجمعات دهنية مُختلفة مصممة لتركيز الموجات الصوتية المنبعثة في شعاع يمكن للحوت أن يوجهه كيفما شاء، ويجب أن تكون التجمعات الذهنية المُختلفة مرتبة بالشكل الصحيح والتسلسل الصحيح حتى يتسنّى لها فهم أصداء الصوت العائدة، كل نوع من هذه الدهون مُختلف عن الدهون الطبيعية وهو نوع فريد من نوعه، وتتكون هذه الدهون من خلال عملية كيميائية مُعقَّدة باستخدام بروتينات ومصانع مُختلفة [88]، ليتطور هذا الجهاز، يجب أن تتخيل جهاز أكثر تعقيداً من سونار أحدث غواصة ظهر من تلقاء نفسه عزيزي صاحب العقل الكبير.

هذا التفصيل البسيط في هذا الجهاز الصغير، يأخذك للتفكير في بقية أعضاء جسم الحوت، يجب أن تفكر في الشرايين الممدودة، الأعصاب المتفرعة، الخلايا الجديدة، الخرائط الحيوية وغيرها، ولا تنسَ أنّ هذا كله موجود في بنك المعلومات في الدنا، مرسوم بدقة كيف نبنيه وكيف نصلحه حتى نستطيع إعادة بنائه من جديد في الأبناء، إليك بعض النقاط المُدهشة في الحوت:

  1. عيون مصممة لمعاملة الرؤية بشكل مناسب تحت الماء مع عوامل الانكسار، بالإضافة إلى قدرته على تحمل الضغط العالي.
  2. آذان مصممة بشكل مُختلف عن تلك الثدييات البرية التي تلتقط الموجات الصوتية المحمولة جواً ومع طبلة الأذن محمية من الضغط العالي.
  3. يفتقر الجلد إلى الشعر والغدد العرقية بالإضافة إلى طبقة دهون للعزل الحراري وتحمل الضغط.
  4. التنفس على الجزء العلوي من الرأس blowholes، وهذا يتطلب تغييراً جذرياً في هيكلية جسم الحوت.
  5. ظهور ذيل الحوت والجهاز العضلي المرتبط به بالكامل.
  6. تعديل الجنين في موقف المقعدية للولادة تحت الماء.
  7. تعديل الجنين نفسه ليتلاءم مع البيئة الجديدة.
  8. تعديل الثدي ليتمكن الأطفال من الرضاعة تحت الماء.
  9. فقدان الحوض والفقرات العجزية.
  10. إعادة تنظيم الجهاز العضلي ليتناسب مع السباحة وحركة الجسم الانسيابية.
  11. التبول وعملية الجنس والولادة وغيرها، نحن نتكلم عن كائن جديد!

لا أعرف ما هو مُدهش أكثر من هذا، فكل خطوة من الخطوات مُعقَّدة جداً حينما أتخيلها، تخيلت نفسي أتعلم السباحة، بصعوبة تامة بعد أشهر تمكنت من السباحة جيداً ولم أتغير مع ذلك! فما بالكم بذئب يسبح، ومطلوب منه أن يغوص في البرودة والضغط ويغير طعامه وأسنانه ومعدته ورئتيه ورؤيته وغيرها.

لا يتوفر وصف للصورة.

رسم توضيحي33 خلاصة سيناريو تطور الحوت.

يجب أن نفكر في كيفية حُدوث هذا السيناريو المُعقَّد في إضافة المزايا لكل كائن تحول في نظرية التطور، وفي كل فقرةٍ انتقالية، حتى نقول إنّنا نفكر بشكلٍ علمي، بل ويجب إحداث التفكير في أبسط الأمور، مثلاً لماذا تملك الحيوانات خمسة أصابع، وليس سبعة أو عشرة، لماذا تطورت اليد بهذا الشكل ولم تتطور إلى شكل آخر. إنها أسئلة بسيطة، لكنها جاءت في صلب عملية التطور، وكيف يقول العُلماء أنّ الزواحف حصلت على هذه الميزات وأمست ثدييات من الأساس؟ الأمر ببساطة كالتالي: بعض الزواحف التي عاشت في المناطق الباردة قبل 310 مليون سنة بدأت في تطوير طريقة للتدفئة، وانخفض فقد جسدها للحرارة بعد أنّ غطّتها القشور، ثم تطورت القشور إلى فرو، وبدأت تُفرز العرق كتكيّف آخر في عملية تطور التدفئة، ولكن بالصدفة لعقت صغار هذه الزواحف بلعق عَرَق الأم حتى ترطب نفسها، وهنا بدأت غدد ما بإفراز عرق ذي كثافة أعلى تحول في النهاية إلى لبن.

الحليب كان أساسه غدد عَرَقية! إلى اليوم لم تستطع البشرية تصنيعه في المختبرات ونحتاج إلى حلب الأبقار وندمر الكوكب مضطرين لهذا الضرر جراء الأبقار وتكلفة تربيتها العالية على البيئة، لتأتي وتخبرنا أنّ الحليب المُغَذي المليء بالبروتينات والدهون والأملاح والمضادات هو عَرَق مُحسّن!

حسناً، عملية لعق غدد العَرَق قد حولتها إلى ثديٍّ يَدُر حليب، ولكن كم مدة حصول هذا التحول؟ يوم؟ شهر؟ مليون سنة؟ فنحن نعرف أنّ الصغار المولودة حديثاً لن تتحمل أكثر من عدة أيام دون حليب، أم أنّ الصغار كانت تأكل اللحوم وتلعق العَرَق؟ ولاحقاً بعد ملايين السنين من تطور الغدد الثديية وبروز الحليب تركت اللحم وأسقطت طقم الأسنان وقالت: ماما ماما أولديني دون أسنان وبمعدة مجهزّة لِلَّعق، لا أريد اللحم فهو يسبب السمنة، وقالت الأم حاضر يا بنيتي لك هذا، نحذفلك الأسنان من جيناتك وأنتِ طفلة، ونركب لك أجهزة متخصصة للتعامل مع الحليب، مبسوطة يا بنيتي؟ الله يخليلنا إياكي يا ماما ويخليلنا الحليب طعمه لذيذ، من دونك يا ماما ما عرفنا نشرب الحليب، وعاش الجميع بسعادة وهناء.

العث الإنجليزي المنقط

بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا وبدأ معها التلوث، ولُوحِظ أنّ أغلب الفراشات داكنة اللون بالقرب من المدينة أصبحت أكثر اسوداداً من غيرها بسبب التلوث المرتفع، إلى أن قام الطبيب وعالم الأحياء البريطاني برنارد كيتلويل بتنفيذ التجارب لتوضيح السبب وتوصل إلى أنّ الانتخاب الطبيعي هو السبب، فكيف ذلك؟

كان لون جذوع الأشجار في بلدة مانشستر فاتح اللون، فأصبحت العثّة ذات اللون الداكن التي تقطن الأشجار واضحة الظهور لأي نوع من الطيور التي تشكل طعاماً لها، بعكس الفراشات ذات اللون الفاتح التي بدت غير واضحة الظهور للطيور التي تتغذى عليها، لذا تعرضت الفراشات داكنة اللون أكثر للالتهام وتضاءلت نسبة نجاتها، هذا ما أوحت به تجارب الطبيب برنارد، كان ذلك مثالاً تطورياً دامغاً عند بعض العُلماء على الانتخاب الطبيعي.

لكن هُنَاك أمرٌ حيّرَ العُلماء! ففي مدينة برمنغهام ومدينة ويلز والمناطق الريفية كانت النتائج مُختلفة عن التجارب السابقة، لقد أيقن العُلماء بوجود عوامل أخرى تدخلت وسببت هذا التغيير في الفراشات، ففي الريف لا يوجد تلوث، ولكن هُنَاك زيادة في الفراشات الداكنة، لاحقاً حتى بعد تطبيق قوانين الحد من التلوث تناقصت أعداد العث الأسود في شمال لندن -كما كان متوقعاً– ولكنها ازدادت في الجنوب، هذا يعني أنّ الموضوع مُعقَّد بالفعل ولا يُفلح عامل واحد بتفسير كل ما يحدث!

وبعد أن قام العُلماء بالمزيد من الأبحاث اتضح عدم صدق الدراسات! بل وظهر التلاعب الواضح في التجارب والنتائج السابقة، فأغلب الفراشات بلونيها الفاتح والداكن تقف في الحقيقة تحت فروع الأشجار ولا تقف على جذوع الأشجار، أي أنّ الصور التي كانت في الأبحاث هي عملٌ مسرحيٌ بحت [68] وأنه حين أجرى العالم كيتلويل التجربة لتأكيد التطور بهذا المثال استخدم فراشات ميتة عبر لصقها على الجذوع بل واستخدم أنواعاً مُختلفة من الفراشات!

أصبح لدينا الآن تجربةً قائمة على أنّ الطيور تصطاد الفراشات الداكنة التي تقف على جذوع الأشجار وتراها بوضوح، وهذه التجربة أدت إلى ظهور فرضيات جديدة، بعد أن عرفنا أنّ هذه الفراشات تختفي دائماً تحت الأوراق وتكون غير ظاهرة، لذا لا تراها الطيور، فكل ما سبق من نتائج وخلاصات ونظريات يجب دحضها.

التعقيبات الأخرى على هذه القصة كثيرة، فالفراشات الداكنة لم تَمُت، لو افترضنا أنّ التجربة من الأساس صحيحة، وقلَّ عددها في هذه المدينة وازدادت في مدينة أخرى، ورأينا أيضاً أنه عند اختفاء العامل الطارئ، عادت الأعداد كما كانت والنسبة بين الفراشات الداكنة والفاتحة طبيعية، أي أنه لم ينتهِ النوع الأضعف، بل توارى وعاد من جديد، ولا يظهر الانتخاب الطبيعي أبداً فناء النوع، بل يظهر قلته وظهوره لاحقاً، أيضاً لم يحدث ظهور لنوع جديد أو صفة جديدة أو عضو جديد، كل هذه الصفات موجودة في الدنا ولا تغيير!

لاحظ أيضاً تحول الانتخاب الطبيعي الذي من المفترض ألا نراه من عامل فعال ومؤثر على مدى ملايين السنين إلى عامل فعّال ومؤثر في مدى سنوات فقط عندما يؤمن به التطور!

الأعضاء الأثرية

الأعضاء الضامرة أو غير المهمة أو الأثرية vestigial organs أو أي مسميات أخرى، هي قائمة بما يقارب 180 عضو سردها داروين وغيره موجودة في جسم الإنسان لا فائدة لها، ويعتقد التطور أنها أُهملت أثناء مسيرة التطور الطويلة، إذ كان الإنسان البدائي يستخدمها، لكن بعد ذلك تلاشى دورها وأهملها، إلا أنها بقيت دليلاً شامخاً على حقبة تطور الإنسان.. إلخ وباقي الكلام الإنشائي، بل وحتى اعتبرت بعض المراكز أنّ هذه الأعضاء ضارة ويجب إزالتها فوراً مثل الزائدة الدودية.

قائمة الأعضاء طويلة، منها: الزائدة الدودية وضرس العقل وشعر الإنسان والعصعص واللوزتين والغدة النخامية والغدة الصعترية والصنوبرية، وغيرها من الأعضاء التي لا يفتأ يستغرب المرء من قراءتها في القرن الحادي والعشرين لاعتبارها أعضاء ضامرة أو غير مُفيدة.

ثم توصل العُلماء إلى أنّ لهذه الأعضاء مهاماً وظيفيةً مهمة كأي عضو في جسم الإنسان، ولن تجد شخصاً في هذا القرن يقول أنّ الغدة النخامية بلا فائدة، أو أنّ اللوزتين والزائدة الدودية بلا فائدة.

حتى لو بترنا العضو ولم يحدث ضرر على الجسم فهل هذا يعني أنه غير لازم؟ لو قطعنا يد شخص ما فإنه لن يموت، ولكن اليد عضو مهم يا أعزائي العُلماء، فللزائدة الدودية مثلاً دورٌ في جهاز المناعة والدفاع ضد البكتيريا، وفي إنتاج هرمونات معينة، وضروس العقل التي تُنتج بالتنسيق مع الأسنان الدائمة كأنها مصممة في حزمة واحدة، تضبط الأسنان وتسد الفراغات بحشر الأسنان.

ويقول التطور أنّ بعض هذه الأعضاء قد أضيف بالخطأ إلى القائمة، وبعضها نأسف لاعتبارها أثرية، فنحن لم نكن قد اكتشفنا بعد الجهاز المناعي أو باقي الهرمونات، وأنا أقول وماذا عن آلاف أو ملايين الحالات التي تأثرت وتسببتم لها بالضرر جرّاء فلسفتكم الأيديولوجية الزائدة، كم من مريضٍ تم إزالة العصعص له فعانى الويلات أثناء الجلوس أو النوم أو التبرز، كم من مريض عانت مناعة جسمه بسبب رفع اللوزتين اللتان تُعدان خط الدفاع الأول للجسم، وكم من شخصٍ خلع ضرس العقل فور بروزه وسبب له مشاكل في فرط أسنانه، وكم من مريضٍ تم إزالة الغدة النخامية له فأصبح يعاني من كل المشاكل مجتمعة في حزمة واحدة بعد أن تشتت وظائف هرمونات جسده، وكم من مريضٍ قُلبت حياته رأساً على عقب جراء إزالة الغدة الصنوبرية، وكم من عملية إزالة للزائدة الدودية أُجريت بغير وجه حق إلا للتكسب وكم وكم وكم، ثم يأتي عالم تطوري ويقول نشك في أنّ لهذه الأعضاء فائدة قليلة أو قد يكون لها فائدة ما ونعتذر لاحقاً، لا يا عزيزي اعترف وقل دمرنا حياة الملايين بسبب تسرعنا ورغبتنا بالسبق التطوري، وقد وجب تقديم اعتذار لأنّ هذه الظواهر للأسف منتشرة حتى يومنا هذا، خلع ضرس العقل، استئصال الزائدة الدودية، واستئصال اللوزتين وغيرها من السُلُوكيات، هي بحاجة إلى اعتذارات واضحة حتى تُمسح كلياً من عقول الأطباء، أو على الأقل يجب أن يتم مسحها من كتب الأحياء الداعمة للتطور، التي ما تزال تُعتبَر أنّ الزائدة الدودية مثل عظام الحوت الخلفية ومثل نتوءات الأفاعي الخلفية هي نماذج لأعضاء أثرية.

الجميع يُشجع على الاكتشاف العلمي والملاحظة، لكننا ضد التسرع خصوصاً في مواضيع تصل إلى إزالة أعضاء من جسم الإنسان لأنّ الأمر ليس لعبة، العلم بحاجة إلى التأني، هُنَاك اختلافات ظاهرة ساعدت في عملية التسريع، مثل كون الزائدة الدودية في الإنسان أصغر من مثيلتها في الرئيسيات، وهذا جعل العُلماء يعتقدون أنها أصبحت أقل وافترضوا أنّ الإنسان لم يَعُد يعتمد على الألياف النباتية مما أدى إلى تقلصها وضمورها، وهذا حكم مُتسرع جداً، لأن هُنَاك رئيسيات مُختلفة المستويات يختلف بها حجم هذا العضو المهم، إذن فالأمر ليس تطورياً بحتاً.

حسناً، حتى لا أقوم بمراجعة فائدة كل عضو، ومراجعة موضوع مُندثر أصلاً، هُنَاك كتاب يوضح كل عضو وكل فائدة منه بعنوان Vestigial Organs Are Fully Functional [89] يَضُم التفاصيل كاملة، المهم أنّ عدد هذه الأعضاء الضامرة انخفض منذ العام 1890م من 180 عضو، ليمسي في عام 1999م صفراً كبيراً [90]، ولربما أغرب ما في الأعضاء الضامرة، أنّ العُلماء المُؤمِنون بالتطور استخدموها سابقاً كدليل عن التطور حين قالوا بأنها بلا فائدة، ثم حينما اكتشف العُلماء فائدتها، استخدموا فائدتها كدليل عن التطور! وهذا شأن كل اكتشاف طبي، حيث يعزوه العُلماء إلى قدرة التطور الخارقة، كما حدث -على سبيل المثال- في عظمة الحوت الخلفية التي تساعد في الجنس ومثلها العظمة المُختلفة بين الإنسان والشمبانزي التي تساعد في العملية الجنسية، إذ كانت بلا فائدة وأكد العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنها: دليل على التطور، وحينما تم اكتشاف فائدتها قال العُلماء المُؤمِنون بالتطور إنها: دليل على التطور، وهذا يا سادة ليس علماً، بل هذا كلام الكهنة الذي نحاربه.

رسم توضيحي 34 بعض الأعضاء الضامرة.

نظرية التلخيص

أكثر ما يضايقني هو أنهم درّسونا نظرية التلخيص في المدرسة، تخيّل طالب في المرحلة الثانوية يدرس هذا الموضوع على أنه أمرٌ علميٌ حقيقي، على الرغم من أنه أمرٌ مُنتهٍ منذ قرن ونصف قرن، لكن ماذا نقول، نظام التعليم متخلّف في دولنا العربية، ولكن عمّ نتكلم بالضبط؟

القصة تقول كان يا مكان في سابق الزمان دكتور يُدعى إرنست هيجل، كان مختصاً في مجال الحيوانات البحرية، وقد قام بتقديم مجموعة من الرسومات للجنين البشري أثناء نموه، وشبّه هذه الرسومات بالحيوانات التي تطور منها الإنسان، وهذا ما أطلق عليه تسميه أنّ الإنسان يلخص تطوره في نموه كجنين، ففي رسوماته يظهر أنّ للإنسان ذيل، وأحياناً يظهر له خياشيم، وأحياناً يكون في كيس كصفار البيض حينما كان جد جده كناري أحمر، ولكم أن تتخيلوا هذه الرسمات منذ عام 1874م، أي في العصر الحجري بالنسبة للعلم، عصر القش وبيوت الطين، عصر الديناصورات بالنسبة لنا كبشر الآن، لاحقاً تحدى البروفيسور ويلهيلم كذب هيجل قائلاً: إنّ الرسومات مُزورةٌ وإنّ هيجل قد بالغ في التزوير ليثبت نظريته، مثلاً الذيل ما هو إلا العمود الفقري لكن هيجل أضاف بعض اللمسات الذهبية على الرسمة، وأكمل دحض بقية أكاذيبه حول الخياشيم والصفار وغيرها، فما كان من هيجل إلا أن قام واعترف بما قام به في حدث يشبه ما يحدث في أفلام المافيا حينما يسأل الزعيم الموظف: ماذا فعلت بالرسومات؟ يجيبه: أنت تعرف، فيقول له لا أعرف، فيقول إرنست أنت تعرف لقد بالغت، فيقول له كيف بالغت أخبرني بحق الجحيم كيف بالغت، فيقول ورحمة أمي كنت متقاتل مع مراتي يومها وأخرجت غليلي في الرسمات وحدث ما حدث، سامحني يا توني، سامحني.

بل وكانت حجة هيجل أنّ التزييف هذا قريب جداً وعادي مقارنة بما يفعله العُلماء في زمانه [91, 92] [93]، فما دام التزييف in public وفي سبيل الـ science، فـ so what لِمَ لا أفعلها أنا أيضاً! ولعل هذا الموضوع المنتهي قد وضعت له 3 مراجع لجملة هيغل، لعل أحد الحمقى الذين شاركوا في وضع المنهاج قد لاحظوا أنّ هيجل في عام 1908م قد اعترف بجرمه أي قبل 100 عام من وضعه للمنهج! أنا لا أعلم حتى لماذا ذكرت رسومات هيجل في كتابي!

ولعله من المحزن أنه تم كشف هذا الخداع من قبل العُلماء المؤيدين للتطور، وقد كتبوا عنه بوضوح أنه أمر من المعيب ذكره، ومع هذا هُنَاك من العلماء المؤمنين بالتطور من يدافع عنه ويضع الحجج، بل ويحاول إثباته في القرن الحادي والعشرين وذلك بالاعتماد على قوانين فون باير التي تختلف عن فكرة التلخيص أو النشوء الحيوي، ولعلنا نذكر أنّ الاختلاف في الأجنة المبكرة راسخ في الأوساط العلمية بعكس ما يقوله هيجل أو غيره، فلا خياشيم في جنين الإنسان ولا سحلية في شكل جنينه، هذا كلام طواه العُلماء بقوة ولا مجال للعودة فيه.

تطور الإنسان

لا شكَّ أنّ تطور الإنسان من أهم المواضيع التي يجب الحديث عنها في التطور، فتشابه الإنسان والقرود أمرٌ واضحٌ جلي، والتشابه يظهر في الشكل والهيكل والتصرف والطعام والقبيلة والأفعال وحتى في وضعيات الجماع، الأمر مُتقارب جداً، وهذا يجعلنا نتساءل هل الإنسان قردٌ مُتطورٌ؟ هل هو مُجرَّد حيوان ناطق ومتطور قليلاً أم أنّ الإنسان كائنٌ مُختلف؟ هذا ما سنراه في السطور القادمة، ولعلك قد تسمع تحذير يقول لك إياك أن تعتبر أن الإنسان أرقى الكائنات، إياك أن تفكر هكذا، فما هو إلا كائن انشق عن مسار القرود، وكل التغييرات العقلية اللاحقة هي مُجرَّد تغييرات في الدرجة وليست في النوع.

نرى دائماً صورة القرد الذي يمشي ويصبح نصف إنسان ثم يتحول إلى إنسان مُنتصب القامة، فقد وُجد في القرن العشرين العديد من الاكتشافات الأحفورية التي أتمت صورة تطور الإنسان من أسلاف سابقة حسب التطور، إذ تستند معظم حجج السلف المُشترك بين الإنسان وأشباه القرود على التشابه في التشريح والتشابه في تسلسل الدنا، في حين أننا رأينا حين الحديث عن الجانب الحيوي الكيميائي وحين الحديث عن التناظر أنّ التشابه في البُنى المُعقَّدة بين كائنين لا يعني بالضرورة وجود مسار تطوري بينهما ولا يعطينا أي معلومات حول الآليات المسؤولة عن الارتباط الظاهري بينهما، وخصوصاً إذا كان الأمر يتطلب تغييراً جينياً جذرياً بينهما، في الحقيقة إنّ ذكرنا لتوريث طفرة متتالية في الإنسان الذي يتطلب تطوره ملايين السنين، يحيلنا إلى إدراك صعوبة فكرة تطور القرد إلى إنسان، فالاختلافات هائلة ولا يمكن جمعها أصلاً، وفي كل الأحوال لننطلق.

سلسلة تطور الإنسان من أجناس سابقة سلسلة متغيرة ولا يوجد فيها ثوابت، فهي تتغير وتتعدل كل فترة بشكل كبير، في عام 2017م تم اكتشاف أقدم جمجمة بشرية لإنسان في المغرب وهذا ما جعل العُلماء يضيفون 100 ألف عام على تاريخ البشرية بضغطة زر، كأن يكون لديك بنطال مرقع وتضيف له رقعة جديدة، هذه الجمجمة تتَفُوق في تاريخها على الجمجمة المكتشفة من قبل في إثيوبيا، التي قُدر عمرها ب 195 ألف عام، وبذلك يصبح عمر الجنس البشري تقريباً 300 ألف عام فقط! لعلك بعدما رأيت الأرقام المخيفة سابقاً تضحك على هذا الرقم الذي يجعل الإنسان إنساناً من كائن أقرب إلى القرود.

رسم توضيحي 35 سلسلة تطور الإنسان من القردة العليا حسب أحد السيناريوهات.

تقول النظرية إنه قبل 15 مليون سنة انفصلت القردة العليا عن أسلاف قرد الغابون، ثم بعدها بسبعة ملايين سنة انفصلت الشمبانزي وأشباهها عن الغوريلا، ثم قبل 4.4 مليون سنة ظهر الإنسان البدائي أرديبيتيكوس ثم تلاه بعد 2 مليون عام الإنسان الماهر هومو هابيليس، ثم قبل 700 ألف عام فقط ظهر إنسان يدعى إنسان نياندرتال (للعلم هو إنسان متكامل مدفون بطريقة بشرية[94])، وهو أصل الإنسان الحديث الذي ظهر لاحقاً بعد 400 ألف عام؛ أي قبل 300 ألف عام من الآن، ووجدت عظام إنسان النياندرتال في القرن التاسع عشر، ولم يكن له أي أهمية إلا بعد اجتهاد العُلماء المُؤمِنين بالتطور عليه مثل هكسلي صاحب الصورة الشهيرة لعظام هياكل الحيوانات، ظلَّ هذا الأمر لسنوات طويلة أساسياً في عملية التطور إلى أن ظهر حسب الشجرة التطورية أنه ليس إنساناً، إنما هو حلقة ما أثناء عملية التطور، ولكن ظلّت صورة رجل الكهف مسيطرة على عقول البشر.

يُشكّل اكتشاف وجود إنسان منتصب القامة (هومو إريكتوس Homo erectus) منذ 3 مليون سنة و7 مليون سنة مُشكِلة حقيقية للعلماء المؤمنين بالتطور، فهم يقولون حسب جدول التطور البشري من سلف مُشترك مع القرد قد بدأ ذلك منذ 6 مليون عام، ووجود إنسان منتصب القامة يجب أن يكون في 1.6 مليون عام على أفضل تقدير، وانقراضه قبل 400 ألف عام، لكن ما حدث هو وجود إنسان منتصب القامة منذ 7 مليون عام، أي حتى قبل السلف المُشترك مع القرد! وهذه معضلة حقيقية، وتشير الدراسات إلى وجود هذا الإنسان قبل 50 ألف سنة فقط، وهذا أيضاً تعارض كبير مع النظرية التي باتت كلها أرقام، وقد كان من الأفضل علمياً إلغاء هذا التسلسل بعد الاكتشاف العلمي، بدلاً من إضافة رقعة جديدة، فكيف نجد في تسلسل يجب أن يكون بالتدريج أنّ الجد يسبق الابن، ونجد أنّ الابن عاش مع الجد في الهرم التسلسلي وهذا مرفوض حسب النظرية، هُنَاك أيضاً حفرية إنسان دمانيسي وهي محمية في دولة جورجيا الأوروبية أي خارج أفريقيا حسب نظرية التطور التي تقول أنّ البشر الأوائل كانوا في أفريقيا، تدل على أنّ كل أنواع البشر البدائية كانت واحدة وهي بعمر 1.8 مليون سنة لإنسان كامل الهيئة.

أغلب الظن أنّ هذه الاكتشافات تعود إلى أجناس بشرية مُختلفة ولربما مُنقَرِضة وليس لأشكال تطورية مُختلفة، مثلاً جنس بشري في التبت يختلف عن الجنس البشري الأفريقي، أو قوقازي وغيره وهُنَاك أجناس مُنقَرِضة، الكثير من النقاط مرتبطة بهذا التسلسل ما زالت شائكة، فحجم عقل الإنسان منتصب القامة قريب من الحجم الحالي وهو 1350 سم مكعب، ومن المفترض ألا يزيد عن 1000 سم مكعب في أحسن الأحوال، كذلك وُجود كوخ لإنسان عاقل Homo sapiens قبل 3 مليون سنة في أفريقيا معضلة حقيقية للتطور لأنها تنسف فكرة تطور الإنسان الحالية بالكامل، علاوةً على أنه لا يوجد إلا مستحاثات قليلة عن كل العملية، ولو كانت النظرية صحيحة لوجدنا عشرات الآلاف من المستحاثات، و7 مليون عام لا تكفي لإحداث 10 طفرات فما بالك بملايين ملايين التغييرات.

ثَمّة قصص عديدة وغريبة في سلسلة تطور الإنسان، فترى العُلماء يجدون ضرساً ما فيقومون برسم قطيع من البشر في الكهف، رجل وامرأة وأبناء وغابات ووجوه مُختلفة من جراء هذا الضرس، صدقاً أتكلم ولا أمازح، وتمثل أحفورة سن نبراسكا دليلاً على هذا الكلام، وبعد سنوات طويلة من اعتماد السن على أنه أصل ما للإنسان، قرر العُلماء أنه سن خنزير وأنه ليس سن إنسان، لكن، لماذا لم تمسحوا رسمة الإنسان في القطيع التي بقيت في أذهان البشر؟

هُنَاك أيضاً واقعة الفتاة أردي وواقعة إنسان بلتداون، فقد أضيفت سلسلة كاملة في التطور جراء الحصول على أحفورة بها جزء من جمجمة وفك سفلي به اثنين من الأسنان يشبه أسنان القرد، وكانت هذه الحلقة المفقودة التي يقول عنها العُلماء دائماً ويحلمون بها، وانطلق القطار لسنوات إلى أن بدأت الاكتشافات الجديدة للأحافير تصطدم بأحفورة بلتداون، ولهذا أعاد العُلماء فحص الأحفورة عام 1953م، ويا للهول! الجمجمة جمجمة إنسان كامل قديمة، والفك فك قرد من نوع أورانغوتاون معاصر، وكان قد تم معالجة الفك كيميائياً لجعله يبدو أحفورة، كما تم برد الأسنان بعناية لتبدو بحجم أسنان الإنسان [68].

لكم أن تتخيلوا بقاء هذه الكذبة 40 عاماً إلى أن اكتشف زيفها عالِم آخر، ونقول أنّ العلم حقيقة مطلقة، حقيقة مطلقة جعلت العُلماء الآخرين لمُجرَّد أنهم يصدقون بالتطور لا يفحصون العينة! أي منطق هذا، صحيح أنّ هذه الكذبة لم تعُد تُذكر في كتب التطور لكن العُلماء المُؤمِنون بالتطور يستخدمونها أنها خير دليل على أنّ العلم يصحح ذاته، 40 عام وكثير من البشر ماتوا وهم يعتقدون أنّ أصلهم قرد وتصرفوا تصرفات حيوانية جراء هذا الأمر، وما زلتم لليوم تتمسكون بنفس الأفكار ونفس الرسومات رغم الترقيع الكامل في البنطلون، إلا أنكم لا تريدون تغييره!

مجموعة بسيطة من العظام الأحفورية تجعل العُلماء يحددون الشكل والتسلسل الهرمي للبشرية، وأستغرب من وجود فكرة كهذه، ففكرة وجود إنسان إفريقي وإنسان صيني في الوقت نفسه ممكنة جداً، ولكن لو وجد العُلماء المُؤمِنون بالتطور جمجمة وجه إنسان صيني قبل 100 ألف عام، ووجدوا جمجمة إنسان أفريقي قبل 50000000 عام لقالوا الإنسان الصيني حتماً تطور من الإنسان الأفريقي! لا توجد أحفورة مدفونة مع شهادة ميلادها! ونحن نعتمد على الرقم 50000000 و100000 فنقول حتماً هذه الأحفورة كافية للاستدلال! هُنَاك فجوات كبيرة في الأرقام.

السيناريوهات مُختلفة فمرة يصفون إنساناً منحني القامة مثل القرود ومرة ينتصب قليلاً لأنه صار يستخدم الأدوات وتارة ثالثة ورابعة وهذا ما جعل أصواتاً كثيرةً في السنوات الأخيرة تنادي بفشل كل هذه السيناريوهات الخيالية لاصطناع أسلاف للإنسان (Homo habilis – rudolfensis – erectus) وما يؤكد هذا ما أشار إليه كاتب العلوم جيمس شريف حول تحدثه إلى 150 عالماً من علماء الآثار والتشريح وطبقات الأرض والوراثة والتطور حول موقع إنسان نياندرتال من تطور البشر، والحقيقة أنه حصل على 150 إجابة مُختلفة [68]!

يخبرنا التطور أنّ الحصان احتاج إلى 65 مليون سنة ليتطور في إطار النوع نفسه، لم ينتج نوع آخر، بل الحصان تطور وتحسن قليلاً وبقي حصاناً، 65 مليون عام للحصان في ذاته، فكيف يمكن لقرد أن يتحول إلى إنسان أو حتى دودة إلى زاحف في 300 مليون عام، بل ونجد أنّ نباتات كثيرة كما هي لم تتغير منذ 260 مليون عام، كذلك بعض الكائنات مثل سمكة الكويلاكانث لم تتغير منذ 100 مليون عام، لا صفات جديدة ظهرت عليها، لكن من المُفترض حسب التطور أنّ القرد تحول إلى الإنسان الحالي في 5 مليون عام!

القردة العليا

ماذا عن علاقة الإنسان بالقرود؟ إذ يرى العُلماء أنّ الإنسان والقرود قد تطورا من سلف مُشترك، وقد تعودنا أنّ الشمبانزي هو الأقرب لنا حسب نظرية التطور، لكن دعني أخبرك أنّ البونوبو أقرب إلى البشر من الشمبانزي، نعم! هذا صحيح، وكل ما كنت تؤمن به قد تغيّر.

رسم توضيحي 36 القردة العليا.

 في دراسة حديثة، أجرى الباحثون مقارنة ثلاثية من الأنواع الثلاثة (الإنسان، الشمبانزي، البونوبو) مع التركيز على التشريح العضلي لكل منهم في مركز جو للدراسة المتقدمة لعلم الأحياء المائية البشرية، وكانت النتيجة أنّ البونوبو هو أقرب سلف حي للبشر وخصوصاً أنّ بنية عضلات البونوبو لم تتغير كثيراً منذ ملايين السنين، وهي الأقرب للإنسان.

وفقاً للتطور فالإنسان والشمبانزي يشتركان في سلف مُشترك منذ 6 ملايين عام على الأقل، ثم يرى التطور أنّ الإنسان الحديث ظهرت عليه علامات التباين من سلف لم يحدد بعد منذ 2 مليون عام مضت، وتبدأ قصة الانقسام البشري الحديث من القرود وتحديداً البونوبو والشمبانزي منذ نحو 8 ملايين سنة، ولكن الدراسات الحديثة جداً أثبتت أنّ هذا خاطئ، بل على العكس من ذلك، انقسم الشمبانزي والبونوبو قبل 2 مليون سنة فقط، فقد أدّى هذا الانقسام في نهاية المطاف إلى بونوبو وشمبانزي بعد تطوير سمات لكل منهما.

رسم توضيحي 37 تطور القردة العليا.

يرى العُلماء عبر الأبحاث أنّ قصة تطور القرود مُعقَّدة أكثر من قصة تطور البشر، والعُلماء ليسوا متيقنين بعد من السلف المُشترك ولا يزالون يدورون في دوائر وحينها نتساءل: كيف يمكن لهذه النظريات أن تُدَرَّس كما لو أنها حقائق؟ [95]، ماذا عن القردة العليا التي اكتشفت في أمريكا الجنوبية؟ فوفقاً لنظرية التطور تُعتبَر أفريقيا مسرح العالم التطوري، وللإجابة عن هذا الاكتشاف المُدهش دعني أستعرض معك هذا السيناريو الذي يرويه العُلماء:

“قبل 36 مليون عام، وجدت مجموعة من القردة نفسها في المحيط الأطلنطي بعد هبوب عاصفة شديدة، إلا أنّ الحظ كان حليفهم فوصلوا أمريكا الجنوبية، حتماً هذا السيناريو يحتاج إلى الكثير من الخيال العلمي، فنحن لم نجد أبداً حفرية لقرد متعلقة بجذع شجرة في المحيط، لكننا نعلم أنّ هذه الأحداث لا بد وأنها قد حدثت في الماضي [96]”. وأقسم لكم أن هذا الكلام ممن يدّعون أنهم علماء وأنهم أهل الدقة والبحث.

ولكن أعزائي العُلماء ماذا عن الضفادع، والسحالي، وليمور مدغشقر، والقردة الإفريقية، والطيور والحشرات وغيرها، هل كلها يا للحظ ركبت المحيط في العواصف ونجت؟ لو قلت لي أكلها حوت يونس وأوصلها بسلام، أو أتى فضائيون ونقلوها لصدقت أكثر من هذا السيناريو.

المراد بالسطور السابقة هو توضيح أنّ التطور ما زال نظرية ولا شيء فيه نهائي، ولا يجب أن نعتمده بالشكل الواسع الذي يستخدمه العالم الآن، وما زال العُلماء يصنفون الإنسان والشمبانزي وإنسان الغاب والغوريلا والبونوبو تحت تصنيف القردة العليا، وسنرى أنّ الإنسان يختلف كلياً عن القردة العليا في كل شيء.

 سلف الإنسان الجديد

لعلنا سمعنا بقصة التقارب بما نسبته 98% بين البشر والقرود، والحقيقة أنّ الرقم كبير جداً!، إنّ نسبة تناظر الجينات بين القردة العليا والإنسان تشير إلى أنها لا تزيد عن 85% في أحسن تقدير، وأنّ 98% رقم كان قد ظهر لأنّ العُلماء قارنوا أجزاء من الدنا وليس الدنا كامل [97]، ولا شيء يضاف أكثر لإنهاء هذه الخرافة المنتشرة في ظل الأبحاث الحديثة والدقيقة. فشقائق النعمان لديها تكتلات في حمضها النووي كثيرة مشابهة لدنا الإنسان، بل وتبدو جينات الشقائق شبيهة بجينات الفقاريات بشكل كبير كما لو أنها فقاريات، وظهرت تلك التكتلات أقل شيوعاً بكثير في ذبابة الفاكهة والديدان الخيطية عنها في الفقاريات، ومع هذا لم يقل أحد أنّ شقائق النعمان تقرب للإنسان.

لكن، هل لو كانت كلمات جملة نفسها هي كلمات جملة أخرى باستثناء أنه قد تم ترتيبها بشكل مُختلف، هل هذا يعني أنّ كلا الجملتين تُؤديان الغرض نفسه؟ شكر خليل صديقه محمود، وشكر محمود صديقه خليل، الكلمات نفسها، لكن المعنى يختلف كلياً، وهذا ما نراه بين شقائق النعمان والإنسان، ولكن لا يذكر أحد التشابه، إلا أنّ التطور في حالات أخرى مُختلفة يذكر التشابه كما سنرى بعد قليل.

لا يجب أن نغفل عن أنّ اختلاف خلايا الإنسان من خلية عصبية إلى عضلية إلى كبدية إلى مئات أنواع الخلايا يعود إلى عوامل فوق جينية وليس إلى عوامل داخلية، لأن الدنا في كل هذه الخلايا متطابق بنسبة 100%، الدنا نفسه في كل خلايا الإنسان ومع هذا نرى الاختلاف العظيم في الشكل والوظيفة والأعضاء.

ولو كانت جينات الكائنات مُختلفة بالكامل ولا علاقة بينهما لربما سمعت جملة: أليس من المناسب لمن صممها أن يضع بعض اللمسات المُشتركة ليبين لنا وجود أرضية واحدة أو مخطط واحد يدل عليه قد انطلق منه!

وما دامت العلوم تصلح نفسها بنفسها فإنّ العُلماء العظماء يقولون إنّ لدينا دراسات جديدة الآن أقوى من السابق، وهي تعطينا مؤشراً أفضل، فدراسات أحدث تشير إلى أنّ الإنسان يشترك مع الفأر بنسبة 90% من جيناته، والدراسات الأحدث تشير إلى أننا نشترك مع الكلب بما نسبته 95% من جيناتنا، وأنّ الإنسان تطورياً أصله كلب.

لا أريدك أن تنصدم، ولا أريدك أن تقول أوووه إنّ كثيراً من البشر كلاب، وتتذكر صديقك الذي خانك، لا لا، هذا ليس مقياساً للعلوم، مقياس العلوم كبير، ولديه أدلة، فمثلاً يشترك الإنسان مع الكلب بما يزيد عن 350 مرض جيني، وهذا يعني وجود فعلاً قرابة لدرجة ليست بسيطة، ويشترك أيضاً ببعض الأمراض مثل خلل التنسج dysplasia وسرطان الغدد الليمفاوية lymphoma وحتى أنواع الحساسيات المُشتركة [98] [99].

دراسات أخرى تدعم هذا الاتجاه، مثلاً تطور جمجمة الإنسان من جمجمة الكلب أمر يرجحه العلم، دراسات حديثة تؤكد هذا الأمر [100]، لأنه يفسر كثير من الأمور بالنسبة للعلماء، وتتناقل بعض الدراسات أنّ الإنسان أيضاً قد يكون أصله دودة الأرض، فدودة الأرض أول كائن يحمل الهيموغلوبين في دمه لذا حتماً هي جد الإنسان، وتطورت الكائنات منها على شكل متدرج ومتشجر إلى أن وصل إلى الإنسان، لكن هذا السيناريو يفشل بسهولة إذا تتبعنا وجود الهيموجلوبين في الكائنات، إذ كانت بعض الكائنات الأقدم بكثير مثل بكتيريا Vitreoscilla تحتوي على هيموجلوبين أحادي [101]، فضلاً عن اختلاف لون ونوعية الدماء في سلسلة الكائنات الوسيطة، كيف يكون السلف دمه أحمر وتركيبه يختلف عن الابن الذي دمه أزرق أو أخضر أو بنفسجي ويختلف عن الأحفاد الذين دمهم أحمر مرة أخرى، هل قفز التطور من الأجداد إلى الأحفاد ولم يمر في الآباء؟ كيف؟ بالإضافة إلى أنّ نوعية الدماء مشتتة في الأجناس المُختلفة بشكل يشير إلى عدم وجود مسار تطوري صحيح بينهم، وانظر إلى (شكل 39 اختلاف ألوان الدماء بين الأنواع). ولترَ التعقيد الكيميائي والاختلاف الكامل في الشكل الكيميائي.


شكل 39 اختلاف ألوان الدماء بين الأنواع.

الخلاصة من هذا السرد السريع هو توضيح أنّ العُلماء لا يزالون مختلفين على أي بند من بُنود التطور، فدودة الأرض، والقرود والكلاب والموز وغيرها قد تكون أجدادنا.

تزاوج الإنسان والشمبانزي

ضمَّ كتاب أصل الأنواع لداروين فكرةً أساسية في تطور الكائنات عبر مبدأ التهجين، واعتقد أنّ لتهجين الكائنات دورٌ كبيرٌ في بُروز الصفات الجديدة، ولكن، ما هي حدود التهجين؟

حدود التهجين معروفة ثابتة فلا يمكن لأعضاء من أجناس مُختلفة الإنجاب، بل يتم الإنجاب في النوع نفسه فقط، أما عملية التزاوج فهي بعيدة عن الإنجاب وهي ممكنة جداً بين الأجناس، فنرى بشر يتزاوجون مع الحمير أو الخنازير أو الأفاعي أو حتى الدلافين، البشر معروفين بحبهم للتجاويف، لكن هذا لا ينتج عنه أي عملية إنجاب (إخصاب).

يمكن إخصاب وتهجين كائنات قريبة من سلالتين مُختلفتين Subspecies، ويمكن أن ينجح الإخصاب بدرجة أقل نتيجة لتزاوج نوعين مُختلفين Species في نطاق الجنس الواحد Genus، وفي الأغلب ينتج في الفصيلة نفسها حيوانات عقيمة مثل تهجين الحمار والحصان إذ ينتج بغل، والفرس والحمار الوحشي ينتجان الحصان المزرد.

وهُنَاك حالات نادرة للتزاوج بين جنسين مُختلفين Genera مثال على ذلك الماعز والخروف، لكن في الغالب كلما تباعد الأب والأم في التصنيف فإن الهجين يأتي عقيماً أو مريضاً ولا يعيش طويلاً أو يُولد ميتاً، وهُنَاك محاولات حديثة لتهجين على مرة ثانية مثل:

  1. Liger: أو الأسد الببري، هو نتاج زواج ذكر الأسد مع أنثى النمر يتميز بأنه أكبر حجماً من كلا الأبوين اللذان هُجِّن منهما، حتى أنه يُعد أكبر حيوان من فصيلة السنوريات في العالم، إذ يصل طوله إلى ثلاثة أمتار ويبلغ وزنه 550 كيلو جرام.
  2. ومن المعروف أنّ الهجين غالباً لا يكون الاختيار الأمثل في بيئته، فمثلاً الأسد الببري يكون ضخماً جداً، فيفقد بذلك قوة انقضاض الأسد ويفقد كذلك خفة وسرعة النمر.
  3. Tigon: التايجون هو نتاج زواج أنثى الأسد بذكر النمر.
  4. Litigon: اللاتايجون وهو هجين جيل ثانٍ جديد نتاج زواج أنثى التايجون بذكر الأسد، وقد حدث هذا الأمر المُدهش لأول مرة عام 1971م.
  5. Tiliger: الملاطون هو هجين جديد جيل ثانٍ من نتاج ذكر النمر بأنثى الأسد الببري وقد حدث هذا الأمر لأول مرة عام 2007م، وعلى الرغم من عقم ذكري اللايجر والتايجون إلا أنّ أنثى اللايجر من الممكن أن تنجب، وقد يصل طول التيلايجر إلى أربعة أمتار، ويصل وزنه إلى 600 كيلوجرام، وكما هو مُلاحظ في الصورة أنّ النمر السيبيري يبدو أمامهم قزماً، رغم أنه في العادة أكبر النمور على وجه الأرض.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏

صورة 9 الملاطون مقارنة بالنمر الببري.

هُنَاك تهجينات أخرى عجيبة أكثر بين أصناف السنوريات، لكن هذا الزواج محرم في الطبيعة، إذ ينتج عنه أبناء مرضى محملون بالسرطان، عمرهم أقصر بكثير من النوع الأصلي، كما أنّ هذا الزواج محرم في بعض الدول لأنه غير أخلاقي.

 نعود إلى موضوعنا، وهو تهجين الإنسان بالقرود! الأمر ليس مزحة لأنه مطروح عند العُلماء المُؤمِنون بالتطور، إذ عكف منذ بدايات القرن العشرين الكثير من العُلماء على تجارب غريبة لمحاولة إثبات هذه الرؤية الحيوانية للإنسان وتأكيد قرابته مع الشمبانزي الذي يعدونه أقرب الحيوانات (في وقتهم) إليه، وأنهم يتبعون العائلة نفسها في القردة العليا، خصوصاً أنّ فارق الكروموسومات بينهما صغير؛ فالبشر لديهم 46 كروموسوماً بينما الشمبانزي 48 كروموسوماً، وهذا يقارب حالات التهجين التي يتم إجراؤها مثلاً بين نوع الحمار 62 كروموسوماً وبين نوع الحصان 64 كروموسوماً فينتج البغل ولكنه يكون دوماً بغلاً عقيماً (63 كروموسوماً)، وهو ما يعني نظرياً أنه يمكن التهجين بالفعل بين الإنسان والشمبانزي، وقد أجرى علماء بعضهم كان قد حصل على جائزة نوبل هذه التجارب، وجرى في بعض هذه المحاولات عمليات تلفيق مثل تجربة تهجين القرد أوليفر، فقد ادّعوا أنه هجين ناجح واتضح لاحقاً أنه قرد فاشل.

وأنواع هجين كثيرة تفقد شكل فرائها الذي تتخفى به في بيئتها، أو تفقد صفات تحميها من الحر أو البرد، هذا يعني أنّ الانتخاب الطبيعي أو الطبيعة لا تشجع على استمرار هذا الهجين فضلاً عن أنه عقيم، وحتى لو تم تلقيح ذلك العقيم صناعياً بالوسائل الحديثة الموجودة في الطبيعة فإنه يعود من جديد إلى صفات الأبوين نفسها ولا يظهر له عضو جديد تماماً، مثلاً ظهور عضو لم يكن فيهما، مع ملاحظة أنّ كل ما يحدث في التهجين يتم من خلال حوض الجينات، ورغم كل تلك الحالات المتنوعة للتهجين التي رأيناها الآن إلا أنه لا يقع أبداً بين الإنسان وأي حيوان آخر مهما تقارب معه في العائلة أو في التصنيف العام (ثدييات مثلاً)، حتى لو تقارب مع الإنسان في عدد كروموسوماته الـ 46، لأنّ الإنسان كائن كامل مُستقِل يختلف عن باقي الكائنات.

الإنسان

تميز الإنسان

نستطيع أن نرى بوضوح اختلاف الإنسان عن القرود، فتصنيف الإنسان من فصيلة القردة العليا أمر يجب أن يتغير، إنّ الإنسان كائن يختلف كلياً عن باقي الكائنات، وهذه بعض الاختلافات بين الإنسان والقرد:

  1. السير منتصباً على قدمين مترافقاً مع تعديل تركيب الحوض والمخيخ، والحقيقة أنّ الأبحاث التي تتطرق إلى هذه النقطة طويلة جداً ومدهشة وتجعل من المُستحيل التفكر في وجود علاقة تطورية بين البشر والقرود.
  2. قصر الذراعان واستطالة الساق مع يد أكثر تخصصاً، وأصابع مع بصمات تمتلك حاسة لمس فائقة، وهو أيضاً ما له أبحاث عديدة مدهشة، الإبهام وحده له أبحاث خاصة، فما بالكم ببقية اليد التي تملك قدرة عالية على التحكم والثبات والتحرك في فضاء واسع.
  3. الاختلاف في الحلق والبلعوم نتج عنه القدرة على النطق، وتعديلات النظام العصبي المركزي خاصة منطقة الفص الصدغي التي سمحت بالتمييز المُحدد للنطق.
  4. زوال الشعر عن الإنسان وبقائه في مناطق مُحددة.
  5. قرب المساحة بين العينين بما يكفي لإدراك المسافات ورؤية المجسمات ورُقي شبكية العين وبراعة رؤية الألوان المُختلفة.
  6. اختلاف في جهاز العضلي في كثير من النواحي، فللاستقامة والمشي منتصباً عضلاتٌ مخصصة.
  7. القدرة العقلية الفريدة والفائقة، فلا التخيل أو التضحية أو الأبوة في الحيوانات مجتمعة تضاهي جزءاً مما لدى البشر، ومحاولة التقريب كما فعل داروين بأن الكلام مثلاً لديها أمومة والقرود لديها أمومة وتضحية قريبة من البشر، أمر غريب!

أيّ قرب بين أخلاق وملامح وصفات الكائن البشري والكائنات الأخرى، الذكاء الاجتماعي والقدرة على القراءة والكتابة والتخيل والوصول للقمر والتفاضل والفيزياء والفن والموسيقى، وكيف جاءت الإضافات الهائلة في البراعة الحركية؟ والقفزة النوعية المتمثلة باللُغة والفكر المُجرَّد والفن؟ كيف لهذه الخلايا أن تكون قادرة على الإبداع، وأيضاً رغبتنا الملحة في التعاطف وفعل الخير والإصلاح [102]، هل يمكن أن يوضح أحد كيف للدماغ البشري من الأسلاف السابقة الشبيهة بالقرود أن يوسع مداركه؟ ويا حبذا أن يكون التوضيح والشرح مع بعض التفاعلات الكيميائية في الدماغ، كيف نتج عنها الوعي واتخاذ القرارات والتفكير والتذكر والأحلام، الخلايا في محتواها لحم وشحم ودم، من أين جاءت بهذا الإدراك الذي نراه!

وفقاً لما نشرته الأبحاث، فإنّ الاختلافات الجينية بين الإنسان والشمبانزي على أقل تقدير هي 35 مليون زوج من قواعد الدنا، وكما رأينا سابقاً، فإن تثبيت طفرتين فقط [43] يتطلب 100 مليون عام، أي أنه حسب تاريخ التباين التطوري من السلف المُشترك بين الإنسان والشمبانزي قد حدث ما بين 5 – 7 مليون عام، وهي المدة الزمنية التي يُفترض أن يختلف فيها الإنسان عن الشمبانزي ما مقداره 35 مليون زوج من قواعد الدنا عن طريق أدوات التطور، فهي بالكاد تكفي لتثبيت طفرة واحدة فقط، وماذا عن كافة الاختلافات التي ذكرنا جزء منها، نحن نعلم أنها بحاجة إلى ملايين الطفرات البناءة المصممة، وليس طفرات عشوائية فحسب، لو أحضرنا بونوبو ووضعناه مليون سنة في مختبر مع علماء، لن يستطيعوا تطويره ليصبح ربع إنسان مثلاً.

بعد كل الحديث السابق بتنا نعرف أنّ الجينات ليست هي المسؤولة عن الهيئة والسُلُوك، ولو تطابق الكائنان بنسبة 90% فلا يعني أي شيء، الموز يتطابق بنسبة كبيرة معنا ونختلف عنه في كل شيء، فالجينات ليست هي الإنسان.

إنّ تعامل التطور مع البشر على أنهم حيوانات تطورت من القرود أدى لكثير من الجرائم في التاريخ، ففي كتاب أصل الإنسان يقول داروين: “المرأة أدنى في المرتبة من الرجل وسلالتها تأتي في درجة أدنى بكثير من الرجل”، بل وذهب داروين أبعد من ذلك حين قال “المرأة لا تصلح إلا لمهام المنزل وإضفاء البهجة على البيت، وهي بذلك أفضل من الكلب”.

يقول أستاذ تاريخ الطبيعة كارل فوجوت: “لقد أصاب داروين في استنتاجاته بخصوص المرأة وعلينا صراحة أن نعترف بالأمر؛ فالمرأة أقرب طبيعياً إلى الحيوان أكثر من قربها للرجل، ويقول أيضاً بوضوح أنّ “المرأة إعاقة تطورية حدثت للرجل، وكلما زاد التقدم الحضاري، اتسعت الفجوة بين المرأة والرجل، وبالنظر إلى تطور المرأة فالمرأة تطور غير ناضج” ووجد هذا الكلام قٌبولاً واسعاً من أنصار التطور، ولك أن تتخيل الأثر الذي لحق بالمرأة جراءه وتأخر البشرية بسببه، ولكن ماذا عن تأثيرها على الرجال؟

لعلنا نسمع بتفضيل الجنس الآري الألماني على باقي الأجناس، وهذا كان شعلة إضافية في الحروب العالمية التي أدت إلى مقتل ما يصل إلى 100 مليون إنسان، وتعامل كل من الألمان والروس بوحشية في الحروب لم يسبق لها مثيل، فمن مات مُجرَّد حيوان عادي لا قيمة له.

الجنس

لا أعلم من أين أبدأ، جميعنا نتفق على أنّ باب الجنس من الأبواب المهمة، سواء من ناحية فلسفية أو من ناحية تطورية، دعونا نرى ماذا يقول التطور عن الجنس، ولماذا يختار الذكر الأنثى الأجمل رغم أنّ التطور يخبره اختر تلك (من نظرة حيوانية)، ولكن قبل هذا لنوضح ما هو الجنس على المستوى الحيوي، بالتأكيد الهدف من العملية الجنسية هو المحافظة على النوع ولا خلاف في ذلك، الحفاظ على النوع من الهلاك والانقراض هو الهدف الأسمى لجميع الكائنات الحية.

في الكائنات الدنيا مثل البكتيريا لا يوجد جنس، هُنَاك عملية انقسام ثنائي تحدث فتنقسم الخلية إلى خليتين في عملية طويلة ومُعقَّدة، ومع تقدم الأحياء في شجرة التطور نرى أنّ الآلية تتعقد أكثر، إذ أصبح هُنَاك كائنان يجب أن يتلامسا بطريقة معينة لإنتاج أفراد جدد، وعلى الرغم من أنّ الجنس عملية مكلفة ومستهلكة للطاقة، إلا أنه حسب التطور فإنّ هذه العملية تطورت لتحقيق التنوع الحيوي بدرجة أساسية، ثمّة أسئلة كثيرة جداً لا يجيب عنها التطور.

مثلاً لماذا لم تطور الخلايا البدائية طريقة بسيطة للتنوع الجيني بدلاً من التعقيد الطويل في العملية الجنسية، لماذا تخسر الكائنات كل هذه الطاقة الهائلة، لماذا لم نعدل في آلية الانقسام وانتهى كل الموضوع، بل ما العيب بها؟ إنّ عملية الانقسام سريعة وجميلة وتجعل الكائن خالداً، فالبكتيريا لا تموت، بل تستمر في الانقسام إلى الأبد ما لم يؤثر عليها مؤثر فيزيائي مثل الحرارة، أما الكائنات الناتجة عن الزواج الجنسي فتستغرق وقتاً طويلاً لتبلغ، فالإنسان يحتاج إلى 20 عام تقريباً ليتزاوج، ويستغرق حمل أنثاه مدة 9 شهور، وتلد جنين بحاجة إلى 20 عام ليعيد الكرة، أليس من الأسهل علينا أن ننقسم؟ ولكن ما المحصلة أيضاً، هُنَاك موت بعد 70 عام، والتطور بدلاً من أن يحل مُشكِلة الشيخوخة ثبتها وزادها سوءاً.

بل حتى في التطور تطورت الكائنات إلى أنواع زواج متعددة، ولماذا بقيت القديمة؟ ما الميزة التنافسية أو التطورية في التبرعم في الخميرة عن الانشطار الثنائي في البكتيريا؟ أو التجرثم كما في الفطر؟ أو ما ميزة التكاثر بالدرن كالبطاطس، والفسائل كما في الموز أو الريزومات عن الكرومات؟ أو التكاثر بالورق عن التكاثر بالترقيد، هذه كلها أنواع مُختلفة وغيرها الكثير من طرق التكاثر غير الجنسي علاوةً على التكاثر العذري لدينا في التكاثر الجنسي، التلقيح كما النباتات والإخصاب كما الرئيسيات أو الالتصاق بالفم كما البراميسيوم أو التكاثر العجيب في الهيدرا أو دودة الأرض، بل لماذا تتطور البكتيريا من الأساس إلى جنس بشري لتتكاثر؟ ما الهدف من التطور، ألا تقوم البكتيريا بدورها على أتم وجه.

العملية الجنسية

لعل أعقد ظاهرة بيولوجية عرفها الإنسان هي التزاوج في الكائنات الأرقى، وحينما نتكلم عن التزاوج نتكلم عن تغييرات كبيرة في الكائنات، فيجب على الكائنات أن تتمايز إلى ذكر وأنثى، الأنثى لديها الثدي للرضاعة والرحم للحمل وهرمونات الأنوثة، وآلية للطمث وآلية للولادة وحبل سري مُعقَّد ينقل الماء والدماء وينظم الحرارة ويخرج الفضلات ويُدخل المضادات ويحفظ الجنين، ولديها ملامح جمالية بسبب الهرمونات لتكون جذابة، صوت ناعم، شعر أملس، وجه أبسط، حوض مخصص للولادة، أثداء تثير الرجل ولا أعلم كيف حصل هذا تطورياً، إلية مستديرة، عظام أخف وعضلات أصغر لأنها لا تحتاجها، وغيرها من المميزات، والرجل على العكس من ذلك لديه كل هذه الصفات.

تمتلك المرأة مهبلاً بحجم القضيب خاصاً للتزاوج، ينتهي بقناتي فالوب وبويضات للتلقيح تسير في مسار مُحدد في القناة وفق آلية واضحة، وإذا لم تتم عملية التلقيح، تحدث عملية الطمث وفق آلية هندسية ليتخلص الجسم من البويضة الميتة، والرجل يمتلك قضيباً مُعَدّاً لهذه القناة، وغدة كوبر لإفراز مادة مغذية ومواد أخرى تنظف الوسط ومعادلة الحمضية، كما ويحافظ كيس الصفن على درجة حرارة الحيوانات المنوية، ومصنعاً للحيوانات المنوية لإنتاج ملايين الصواريخ الدافقة بآلية تحفظ طريقها، وتحتوي على بنك المعلومات، كما وتمتلك محركاً دافعاً لتتحرك في وسط مظلم بالاعتماد على الكيمياء ولمدة ثلاثة أيام، وللرجل قناة ليقذف الحيوانات المنوية ولديه مضخة لفعل ذلك.

البويضة مستعدة لانتظار الحيوان المنوي ومجهزة له، كأن المصمم صمم الحيوان المنوي والبويضة وقسمهم بالنصف ووضع كلٍ منهم في مكان، وحينما يصل الحيوان المنوي تبدأ العملية المُعقَّدة من التصادم والموت والذوبان من حمض الهيايولونيك وغيرها من المواد، وما إن يُفلح حيوان واحد بالدخول حتى تنغلق البويضة وتبدأ بانقسام مُعين وفق خطوات واضحة معروفة ودقيقة، لتبدأ الخلية الواحدة بالتحول إلى خلايا مُختلفة الوظيفة، بما يزيد عن 200 نوع بدقة وتسلسل دقيق، وهذا غيض من فيض من تعقيد العملية.

جديرٌ بالذكر أنّ الجسم مُهيَّأ لهذا الأمر، إذ تلتصق البويضة في جدار الرحم ويبدأ الدم بالتدفق وتبدأ الهرمونات بالعمل، فهُنَاك هرمونات تزود حجم الثدي وتهيؤه، وهرمونات توسع من البطن، وهرمونات أخرى تمنع التبويض، وغيرها الكثير من العمليات المرتبطة، ثم يبدأ الطعام بالوصول إلى الجنين عبر الحبل السري وفق آلية مُعقَّدة ومنظمة، ليبدأ الجنين بالنمو والاستعداد ويتشكل إما ذكراً أو أنثى.

انتظر! لا تقل سبحان شيء بعد، حتى لا تكون مؤمناً بالخرافة، وليس بالعلم، هذا الجنين مُهيَّأ لهذا الرحم وله وقت معلوم ودورة دموية مُختلفة وتنفس مُختلف أيضاً، فهو مجهز لهذه الرحلة الطويلة التي تنتهي بعملية المخاض والولادة، لتبدأ رحلة الرضاعة والنمو الطويلة وتغيير الجسم من دورة دموية وكبد وإنزيمات وهرمونات وملامح، حتى يصل إلى مرحلة البلوغ فيفرز الجسم هرمونات معينة لكي يرغب بالحصول على الطرف الآخر وتبدأ عمليات السعي والإغراء وغيرها لحين حصول الزواج، وإلا لما حدثت العملية الجنسية من الأساس، في الواقع تحدث تغييرات جسدية وتشريحية هائلة حين الانتقال من طور الجنين مروراً بمرحلة الرضاعة وانتهاءً بالبلوغ والكبر، وكأنّ كل فترة عمرية كائن مُختلف، وليس كما نعتقد أنها مراحل نمو جسدية في الحجم فحسب، وهذا أمرٌ يعرفه الأطباء، لذلك هُنَاك طبيب أطفال، وطبيب نساء، وطبيب كبار سن، وأدوية وجرعات وخصوصيات طبية لكل مرحلة عمرية.


رسم توضيحي 38 مراحل التبويض، ونلاحظ وجود جدول ثابت مرتبط بعمليات حيوية عديدة وفي أعضاء مختلفة.

لا شك أنّ عملية التبويض من أكثر العمليات التي تحدث في جسم المرأة تعقيداً، فهي تحدث عند بلوغ المرأة سناً معيناً يكتمل فيها نمو الجسم وإفراز الهرمونات اللازمة (من سن 12 – 50)، بطريقة دقيقة مترابطة مع كل أعضاء الجسم، إذ يؤثر كل هرمون بطريقة شديدة التعقيد على عمل الجسم، متبوعاً بعملية تغذية راجعة مُعقَّدة، فالـ Hypothalamus (منطقة في الدماغ) تفرز مواداً معينة لتعمل على تحفيز الغدة النخامية التي تفرز هرمونات بشكلٍ دوري، لتقوم بإجبار الجسم على إفراز هرمونات أخرى مثل المحوصل FSH والأصفر LH فيقوم الجسم بإفراز هرمونات مثل الأستروجين والبروجيسترون بأوقات معينة وبآلية إرجاع عكسية للـ Hypothalamusعلى مدار أيام مُحددة، حتى اليوم الـ12 من بداية الدورة الشهرية، ليصل الإنتاج الهرموني إلى أوجه، ثم تقل الهرمونات ويحدث الطمث، مع العلم أنه في كل يوم من أيام الدورة الشهرية تحدث تغييرات جسدية في الرحم وباقي الجسم موضحة في الصورة مثل توسع الشرايين وتسميك الرحم .. إلخ.

رسم توضيحي 39 آلية التبويض

أتساءل، ماذا لو فشلت أي جزئية من جزئيات هذه العملية؟ وما ذكرته هو نظرة سريعة للعملية، فالعملية بحاجة إلى مجلدات لشرحها فسيولوجياً وكيميائياً وحيوياً، ماذا لو لم يكن للحيوان المنوي مادةً يُذيب بها جدار البويضة؟! ستفشل العملية ويفنى الإنسان، إلا أنّ حيواننا المنوي حيوانٌ عبقري وعرف عبر العصفورة نوع المادة وصنعها مخبرياً وانتصر.

نستطيع أن نرى هذا في حالات العقم المنتشرة، خطأ واحد يدمر كل الأجهزة ويجعلها بلا فائدة، في ظل كل هذا التكامل، ألا يحق لنا أن نتساءل عن التصميم الدقيق؟ سيخرج شخص ويخبرني أنها عملية تطورية حدثت ببساطة في الديدان وتعقدت في القرود إلى أن وصلتنا بهذا التعقيد لنضيف عليها، حتى لو أضفنا عليها، أي خطأ بسيط في أي تعديل في أي جزء من جسم القرد في مسار تطوره إلى إنسان سيُفشل كل العملية، ولاحظ أنّ التغيير يجب أن يتم في الذكر والأنثى، في المرسل والمستقبل في اللحظة نفسها وإلا لما نجحت العملية، ويا سبحان الصدفة!

لا يتوفر وصف للصورة.

صورة 10 جنين عمره ثلاثة أيام!! وهو عبارة عن 8 خلايا فقط لا غير.

ولكن، لماذا لم تتطور الكائنات إلى أربعة أجناس بدلاً من جنسين؟ أليس الموضوع مُمتِعاً أكثر ومُفيداً للتنوع؟ لماذا تسير كل الكائنات على المنوال نفسه وكأنّ الرسام واحدٌ؟ نحن نعرف لوحات فان كوخ ونُميزها عن غيرها بسهولة، لماذا لم يحدث في مسار العملية التطورية أن خرج شيء عن المألوف، خرج شيء عن مسار فان كوخ.

حينما تطرح تساؤلات كهذه تجد إجابات عجيبة، فسؤال مثل لماذا الأطفال عيونهم كبيرة ووجوههم جميلة؟ نعلم أنّ هذا أمر مصمم بهذا الشكل ليغرس الرأفة في قلوب الكبار والأهالي، لكن لو سألت عالم تطوري لأخبرك أنّ الأطفال طوروا من قدرة معينة لتغيير ملامحهم حتى يجذبوا الكبار ويحنوا عليهم، يا سلام! لماذا القمر مستدير؟ لأنه أراد أن يكون مستديراً بدلاً من المربع حتى تحبه الشمس، الإجابة نفسها ولا فرق.

كيف لجينات صمّاء أنّ تختار الشكل الجميل للوجه؟ عشرات العضلات في الوجه وملايين الأعصاب كلها تتغير دون مخطط لتلائم شكلاً ما، كيف؟ إنّ شكل الطفل بحاجة إلى مصمم فنان ليرسمه، والكيمياء ليست عاقلة لتُخرج لنا جمالاً كهذا، وسنستعرض الجمال فلسفياً في الفصل القادم.

ونكرر لقد كانت الكائنات الدنيا مثل البكتيريا خالدة لا تفنى، فالبكتيريا تنقسم لا جنسياً إلى خلايا، وتستمر في الانقسام إلى ما لا نهاية، فالبكتيريا الحالية لكل سلالة هي نفسها قبل ملايين السنين انقسمت ولا زالت، لكن بعد أن حدثت التكاثر الجنسي بدأ للكائنات عمر مُحدد تموت بعد انتهائه، ونريد إجابة واضحة إذا كانت الكائنات تطورت، فلماذا لم تُحافظ على الخلود؟ لماذا نقصت وقلت مزاياها في التكاثر الجنسي؟ أليس هذا ضد التطور أصلاً؟

يستهلك الجنس الحالي طاقة كبيرة جداً للتكاثر، سواء في عملية إنتاج الحيوانات المنوية أو التبويض أو الدورة الشهرية أو الزواج أو العملية الجنسية أو العُقم أو نقل الصفات أو حتى تربية الأبناء غداً، وغيرها من الأمور التي لم تكن موجودة في التكاثر في البكتيريا، أين التطور من حل كل بند من هذه البُنود المعيبة والتي كانت غير موجودة سابقاً؟ ماذا عن إهدار الجهد في التصارع بين الذكور على الأنثى؟ أو ماذا عن هدر الكثير من الطاقة في إظهار الجمال الخارجي لإثارة الطرف الآخر، كما يفعل ذكر الطاووس مثلاً.

بالإضافة إلى أنّ التكاثر الجنسي في الرئيسيات ينتج أبناءً أقل، البشر مثلاً 1 كل 9 شهور، في حين أنّ التكاثر اللاجنسي ينتج المئات في ساعات، هل الميزة في تلاقح الصفات ونقل المعلومات المُفيدة؟ ألا توجد طرق أخرى أفضل لنقل الصفات بين اثنين، أو ثلاثة أو حتى عشرة مرة واحدة ودون تكلفة؟ وهل فعلياً التزاوج الجنسي ينقل المعلومات المُفيدة؟ ألم يستطع تطوير آلية أفضل لنقلها؟ ولا تخبرني أنّ الأمر يتم عبر الانتقاء الجنسي، فالصدر الكبير أو اللحية الغزيرة ليستا صفات حقيقية للبشر يجب أن ينتقوا بها، لكننا نعلم أن البشر ينتقون بناءً على هذه الصفات للأسف.

نعرف أنّ الطفرات لا تكفي لإنتاج صفات جديدة، لكن التزاوج أيضاً لا ينتج صفات جديدة، فاليد هي اليد، ولا يمكن أن ينتج عنها جناح في التزاوج، إلا إذا كنت تؤمن بتزاوج الكائنات بين الأجناس المُختلفة، فحينها أدعوك للتوقف عن مشاهدة رسوم الكرتون.

وماذا عن التزاوج بين الضعفاء، بين المشوهين جينياً، أليس من الأفضل للتطور أن يمنع هذا الأمر، ولا يخبرني أحدكم أنّ التزاوج يتم بين الأقوياء، فأقول له أنت لم ترى أم حسن جارتنا.

تخبرني أنّ التزاوج ظهر منذ 535435 ألف سنة في منطقة على جبل الزيتون في قاع الهامور، جيد! لكن أين المصدر الدقيق لهذا الكلام؟ إنّ عملية التزاوج والتلقيح والإنجاب مُعقَّدة، وأي خطأ يظهر بها يُؤَدِي إلى مشكلات جسيمة، ذكرنا بعضها فوق، ولنذكر فقط، ماذا لو دخل حيوانان منويان إلى الخلية، ماذا سيحدث في هذه الحالة؟ ماذا لو أفرز الجسم هرمون التستيرون للجنين وكان الجنين به مُشكِلة حساسية له ولم يتحول إلى ذكر، ماذا وماذا وماذا! متى ظهرت أول عملية تكاثر جنسي بين ذكر وأنثى؟ هل هي في نجم البحر الذي يملك آليتين، آلية جنسية وآلية غير جنسية؟ أم في سمكة Microbrachius dicki التي يصدع التطور رؤوسنا بها؟ أم هو طحلب Bangiomorpha pubescens.

كيف طورت الطبيعة آلية التكاثر اللاجنسي للتكاثر الجنسي؟ أو كيف تطورت الأمشاج الذكرية (الحيوانات المنوية) والأمشاج الأنثوية (البويضات)؟ وكيف تشكلت الغريزة الجنسية المقصودة؟ لم يعجبني التفسير التطوري أنّ الجنس مُمتِع عند جميع الكائنات بسبب طفرة جعلت مُمَارسة العملية مُمتِعة فازداد الإنجاب، وبهذا تكون الطبيعة قد انتقت من أصبحت العملية لديهم مُمتِعة بالانتخاب الطبيعي كون النوع استمر، لعل من كتبها لم يشعر بحياته بالشبق الجنسي، إذ يرتبط كل جسمك عصبياً وهرمونياً بهذه اللحظة، ولربما لم يشعر بالولع الجنسي والجوع للشريك الآخر، أخبرني الآن أنها مُجرَّد طفرة، أكيد فأنت لم تشعر بهذه النار التي تأكل جسمك وتهدم كل أفكارك.

الشُذُوذ الجنسي

في القرن الماضي أشار بحث إلى أنّ الشُذُوذ الجنسي سببه خللاً جينياً وليس مرضاً نفسياً، وهذا الجين موجود على الكروموسوم X في الموقع 28 (xq28)، أي أنّ الشاذ جنسياً مجبولٌ على مُمَارسة الشُذُوذ وليس بإرادته وليس عيباً نفسياً، وعلى هذا فإنه لا يحتاج إلى علاج نفسي، بعد هذا البحث تقريباً بدأ كل مجمع للطب النفسي حول العالم بحذف الشُذُوذ الجنسي من قائمة الأمراض النفسية، وأصبح الأطباء يقولون لأي شخص شاذ يرغب بالعلاج من الشُذُوذ: أنت لست مريض بل لديك جين الشُذُوذ الجنسي (Gay Gene)، لذلك لا حرَجَ عليك، مارس واستمتع.

لاحقاً، ظهرت دراسات كثيرة نفت بحث جينات الشُذُوذ ثم تم حسم الأمر في التسعينيّات بعدم وجود جينات للشُذُوذ، وباتت الدراسات تؤكد أنه لا وجود للشُذُوذ جينياً رغم محاولات البعض، وعادت بعض المراجع تصنف الشُذُوذ كمرض نفسي ويحتاج إلى علاج.

أما أسباب الشُذُوذ فكثيرة، إذ يُشكل العنف الأسري عاملاً مهماً، كذلك التعرض للاستغلال أثناء الصغر، وهُنَاك مشكلات نفسية سببها التفكك الأسري؛ فقد اعترف في دراسة 84% من المثليين الذكور أنّ آباءهم كانوا لا يهتمون بهم في صغرهم [103]، وهُنَاك أسباب أخرى مثل المشاكل الهرمونية، وقلة الأصدقاء في الصغر إذ تؤدي إلى حالة من عدم تحديد الهوية الجنسية.

لم يقُم أي عالم بإثبات جينات الشُذُوذ لاحقاً، بل حتى من نشر من العُلماء المتشجعين لهذا الأمر أبحاث كالعالم دين هامر عاد وتراجع عن كلامه قائلاً: “إنّ العُلماء يعتقدون أن هذا الجين ليس موجوداً من الأساس”، بل وذهب إلى أبعد من ذلك، فهو يعتقد أنّ أي محاولة لإثبات وجود هذا الجين هي محض هراء! هل تلاحظ معي الأمر؟

حتى دراسة دين هامر تم إعادتها على العديد من الشواذ وثبت أنها غير صحيحة، وهذا ما جاء في الدراسة المنشورة في مجلة سينس للدكتور جورج رايس وفريقه، فقد تم تجربتهم على عينة أكبر بكثير من عينة الدكتور دين هامر، ها قد أصبحنا نعلم أنه من المُستحيل أن يرتبط جين واحد بصفة جسدية، فما بالك وجود جين مرتبط بصفة سُلُوكية.

أُجريت دراسات كثيرة أخرى على التوائم الشاذين وأثبتت أنه ليس هُنَاك علاقة للجينات بالشُذُوذ فأحد التوائم كان شاذاً أما الآخر فلم يكن شاذاً، فبعد دراسة حديثة على نحو 470 ألف شاذ جنسياً، بينت الدراسة أنه لا يوجد أي جين مفرد مسؤول عن الشُذُوذ، مثلما كان يُعتقد سابقاً وجود جين مسؤول عن الشُذُوذ [104].

دراسة أخرى تدّعي وجود خمس جينات مُشتركة بين الشاذين، ووصف البروفيسور جانا أنّ تأثير هذه نقاط “تأثيراً ضئيلاً للغاية” وأنها تفسر مجتمعة “ما هو أقل بكثير من واحد في المائة في فروق سُلُوك المثلية الجنسية”، والمتغيرات الوراثية للشخص لا يُمكن أن تتنبأ على نحوٍ قاطع باحتمالية الشُذُوذ، وأشير هنا إلى أنّ العُلماء لديهم لُغة جميلة، فهم لا يقولون مُستحيل، أو كلياً، بل يقولون بشكل غير قاطع. هُنَاك أيضاً آلاف المتغيرات الوراثية التي ترتبط بتلك الصفة، ولكل من هذه المتغيرات تأثير ضئيل للغاية، أي باختصار أنّ الموضوع غالباً له علاقة بالبيئة، والتي لها علاقة بالعوامل فوق الجينية، ولا يمكن الاعتماد على الدنا وحده، ثم خمس متغيرات جينية فقط! فلو كان الموضوع حقيقياً، يجب أن نجد 100 جين على الأقل بنسبة واضحة قد تزيد عن 80%، لأننا نعلم كم أنّ العملية الجنسية مُعقَّدة ومئات العوامل تتداخل لحدوث الميول أو الشعور إن لم تكن أكثر، وتؤكد الورقة العلمية هذا الأمر بأن أنماط البشر السُلُوكية شديدة التعقيد، وليس من الصواب الاعتماد على الأسس الحيوية لتفسير السُلُوك الجنسي المثلي، ونظراً إلى أنّ معرفتنا عن الجينات “بدائي للغاية” العُلماء مرة أخرى مؤدبون، يقولون مُعقَّدة (أي مُستحيل دراستها الآن) و”بدائي للغاية”.

وهذا أدّى ببعض العُلماء إلى ربط الأمر بالعوامل الفوق جينية وليس بالجينات نفسها محاولة لإيجاد مخرج ما، ولكنهم غير متأكدين، يقولون قد يكون الأمر هكذا، وأيضاً قد تحبني سكارليت جوهانسن ونهرب سوياً إلى جزيرة ما، ولكن لماذا لا يزال الموضوع قائماً حتى هذا اليوم؟

الإجابة السهلة وهي: إنّ كسر أي قاعدة هو أمرٌ نُخبويٌّ جديد، ويا حبذا لو كانت هذه قاعدة دينية فهي ستُعتبَر انتصاراً جميلاً، ثانياً إنّ الأمر مُمتِع للبعض، الشُذُوذ مُمتِع وحلب البروستاتا مُمتِع للرجال Prostate Milking، ثالثاً هُنَاك نظام يبيع ملابس وأدوات ودورات وغيرها يتكسّب به ملايين الأشخاص حول العالم.

لدينا بعض البشر لديهم مثلاً نزعة عدوانية أو إجرامية أو عصبية أو حتى شبقية، فهل هذا يسوّغ لهم ما يفعلونه؟ هل لأنني أملك هرمونات زيادة تجعلني عصبياً، يمكن لطبيبي النفسي أن يخبرني أنت خلقت هكذا، وتصرف على سجيتك واغضب على من تشاء، أو أنت عزيزي المجرم افعل ما يحلو لك في إجرامك ولا عتب عليك.

فيما يخص شُذُوذ الحيوانات، يستشهد البعض أنّ بعض الحيوانات تمارس الشُذُوذ، وأنا ما زلت أستغرب من ربط سُلُوك البشر بالحيوانات، البشر الذين لديهم حُريّة الاختيار، لديهم التضحية والوفاء والارتباط والتعهد والصدق والأمانة والمفاضلة وغيرها من الصفات والمزايا غير الموجودة لدى الحيوانات، فهل الحيوانات ترسم أو تخطط أو تتأسف أو تعزف الموسيقى، كلا فلماذا ربط الإنسان بالحيوان في سُلُوكه؟ حسبك أنّ للحيوانات سُلُوكيات غير موجودة عند البشر، كقتل الإماء لأبنائها في بعض الحيوانات وأكل الإناث للذكور وغيرها من السُلُوكيات المُختلفة عنا نحن بني الإنسان، كل كائن حي يختلف في نوعه عن باقي الكائنات، وإلا لماذا سمي النسر نسراً والصقر صقراً والحمار حماراً.

أمّا الشُذُوذ في الحيوانات فالدراسات توضح أنّ سبب ظهوره أحياناً في بعض الحيوانات ليس لأسباب جنسية، فمثلاً تمارس الذكور الفائزة هذا الفعل على الذكور المهزومة كنوع من الهيمنة والتَفُوق وإثبات الفحولة لدى الإناث، أيضاً هُنَاك مشكلات في الشم لدى بعض الحيوانات إذ لا تُميز بين الذكر والأنثى وغيرها من الأسباب، لحظة! لا يوجد هُنَاك حيوان مثل الإنسان يمارس الجنس لأجل المتعة إلا نادراً جداً، فمفهوم الجنس لدى الحيوانات مرتبط بالتكاثر، ولا يرتبط بالمتعة كما البشر.

توضح الخبيرة سارة هارتويل أنّ القطط على سبيل المثال تقتل أبناءها بعد أن تختلط عليها الإشارات، إذ تتداخل لديها إشارات القتل وإشارات الصيد على أنه سُلُوك شاذ وسببه هرموني وليس سُلُوكاً طبيعياً، ويؤكد البروفيسور سيزار أدس عالم السُلُوك الحيواني وعلم النفس في جامعة São Paulo أنّ الذكور في عالم الحيوان حينما تتزاوج فهي تتزاوج للتعبير عن القوة فقط وليس من باب جنسي، وهذا ما يؤكده جاك لين شولتز في عالم الكلاب، إذ تتزاوج ذكور الكلاب للتعبير عن السيطرة والسيادة، أو قد يحدث أحياناً بسبب وجود مُشكِلة في حاسة الشم فلا يميز الكلب الأنثى من الذكر، ويؤكد أيضاً البروفيسور أنطونيو باردو المتخصص في أخلاقيات علم الأحياء Bioethics والبروفيسور تشارلز دبليو سوكاريديس على أنّ الشُذُوذ الجنسي غير موجود عند الحيوانات لأسباب جنسية، بل هو مقتصر على البشر.

ماذا عن الشُذُوذ الجنسي والتطور؟ كيف يفسر الانتخاب الطبيعي الشذوذ؟ من المُفترض أنّ الانتخاب الطبيعي يمسح الشُذُوذ الجنسي في سلالة البشر فهو عيب لا يتناسب مع مبدأ التكاثر ولا مع مبادئ أخرى، كذلك لو تكلمنا من وجهة نظر الجين الأناني، فالجين الأناني يلغي فكرة الشُذُوذ! ماذا لو قمنا بجمع الشاذين من الذكور والإناث في مدينة ما لمدة مائة عام؟ هل سترى بعد مرور المائة عام أي شخص في المدينة؟ بالطبع لن ترى سوى بقايا لبيوتهم وبعض العظام، وهذا ما يؤكد أنه مُنافٍ للطبيعة وللتطور لو أردنا الحديث من ناحية مادية بحتة، فالطبيعة مع حفظ النوع من الانقراض، والشُذُوذ يقول لك انقرض بهدوء، ثم فرضاً كان هناك جين شاذ، وتلاقي في ذكرين تزاوجا، كيف سينتقل الجين للأجيال التالية؟ عبر الهواء! من الطبيعي أن ينقرض في هذين الذكرين لأنه لن يحدث إنجاب.

تصف أحد الدراسات أنّ النظرية حول وجود جين الشُذُوذ تم تضخيمها كثيراً وتسويقها على أنها حقيقة علمية إلى أن تناسى العالم أنها نظرية للأسف [105]، وللأسف هذا ما يتم نشره إلى يومنا على الرغم من أنّ العُلماء ليسوا متأكدين من شيء بعد، لكن على الأكيد ألمانيا تمنعك من الزواج بامرأتين، لكن إن رغبت بالزواج من صديقيك فلا مُشكِلة!

أشار أستاذ الطب النفسي الحاصل على وسام التميز في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز الدكتور بول آر ماكهيو والذي له إسهامات عديدة متنوعة قائلاً: إنه لا يوجد شيء اسمه جينات المثلية الجنسية، بل وحتى أنّ المثلية هي رغبة خاطئة لا أكثر، وفي دراسة أخرى قام طبيب نفسي بمعالجة 200 مريض نفسي بالشُذُوذ من الجنسين وعادوا لرشدهم تماماً [106] باستخدام العلاج الترميمي، وهذا يؤكد أنّ الشُذُوذ مرض نفسي وليس جينات ثابتة.

الاضمحلال

إنّ مصطلح Devolution الذي يمكن أن يترجم إلى التهدم أو التقهقر أو التبوّر أو الانحطاط أو الانحدار (الحيوي) هو مصطلحٌ حديثٌ بدأ يبرز في السنوات الأخيرة نتيجة للأدلة الواضحة على أنّ الكائنات لا تتطور للأمام، بل تتطور للوراء backward evolution، بمعنى آخر أدق: إنّ الكائنات تخسر مزاياها ولا تكتسب الجديد كما هو كان مُتوقعاً، الكائنات آخذة بالانحدار إلى الهاوية عبر خسارة الكثير من المزايا والخصائص والفوائد إلى أن تفنى حرفياً، هي متجهة حسب نظرية التطور للأشكال السابقة لتطورها، للأشكال الأقل تطوراً.

هناك فكرة تنبع من عدم وجود غاية للتطور، فإذا كان الإنسان لا يلزمه أن يكون في الغابة كالسابق، لا يعيش في رعب وليس بحاجة إلى عضلات قوية ليدافع عن نفسه، فهو حتماً سيخسر كل هذه الخصائص في سبيل الراحة الحديثة، وهذا لتقريب الفكرة، التطور يسير حسب الانتخاب الطبيعي والطفرات وغيرها، ومن الممكن أن يسير للأمام والخلف، فهو غير عاقل ولا هدف مُحدد له.

تُعتبر طيور البطريق مثالاً مباشراً على التطور الرجعي، فهي لم تستخدم أجنحتها كباقي الطيور وهذا ما ظهر في حفريات يصل عمرها إلى 60 مليون عام، لذلك فقدت قدرتها على الطيران بالكامل أو أي عمليات كانت مرتبطة بها، ويحاول التطور الرد بأننا نفترض أنّ الطيران بطبيعته هو نقطة النهاية التي يعمل عليها التطور، وهو أمر غير صحيح، وهي إجابة لا أراها منطقية مع التطور، كذلك الأسماك المخاطية Hagfish حسب الحفريات المكتشفة كانت تملك أعين ترى بها بفعالية قبل 300 مليون عام، أمثلة أخرى سنتطرق لها أكثر في هذا الفصل [107]، وهذا هو المنطق في الكائنات، فالكائنات الكاملة بالشكل الحالي تفقد بسبب آليات الانتخاب الطبيعي والطفرات والانحلال الجيني الكثير من الخصائص، إنها عوامل نحت وتعرية الكائنات الحية.

الانحلال الجيني

الانهيار الجيني Genetic Entropy هو انحلال جينات Genetic Degeneration الكائنات الحية، إذ تتكسر الجينات وبيانات الكائن الحي، وهو حقيقة حيوية فيها جينيوم المخلوقات الحية ينتكس أو يفقد معلوماته ببطء نتيجةً لتراكم الطفرات الضارة.

بيّنت دراسة حديثة [108] أنّ كل شخص في كل جيل يُوَرِّث ما متوسطه 100 طفرة وراثية إلى أبنائه، وتؤكد الدراسة على أنّ القليل جداً جداً من هذه الطفرات مُفيد، أما الباقي فهو ضار ولربما له تبعيات قاتلة، والموضوع هذا موغلٌ في القدم، فعلى سبيل المثال هُنَاك أدلة على أنّ أحد الأجناس القديمة Homo floresiensis قد أصابها انتكاساتٌ جينيةٌ أدت إلى صغر حجمها وصغر حجم عقلها حتى صارت عرضةً للأمراض، بل حتى كل الأجناس الأخرى والمراحل التطورية التي يزعم العُلماء المُؤمِنون بالتطور للإنسان أنها قد مرت بنوبات متتالية أدت إلى حدوث تطور اختزالي Reductive Evolution مما أدى إلى انحدارها.

كما أنّ هُنَاك دراساتٌ علميةٌ واضحة أُجريت على الحيوانات مثل الماموث، أظهرت حدوث انتكاسات قادت الحيوانات إلى انهيارٍ جينيٍّ حدث بسبب الطفرات Mutational Meltdown مما أدى إلى فنائها، وانهيار الطفرات هو تراكم الطفرات الضارة مما سبب مشاكل في التنوع الجيني ومن ثَم ضعف التبادل الجيني ومن ثَم الانقراض [109] فالماموث الصوفي كان مرجحاً أنه انقرض لأسباب مثل تغيّر المناخ، أو بفعل البشر أو النيازك، لكن الدراسات الحديثة تفيد بأن السبب الحقيقي هو أنّ الماموث الصوفي قد انهار جينياً وذلك منذ 4 آلاف عام فقط في جزيرة في القطب الشمالي احتوت على مجموعة عانت من العيوب الوراثية.

يَمُر كلٌّ من الحيوانات والبشر بنفس مستوى الانهيار على مدار كل عام [110]، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النباتات، فقد بيّنت دراسة أُجريت على نبات الكاسافا حدوث هذه المُشكِلة [11]، بل حتى المخلوقات الأدنى مثل الفيروسات تواجه هذه المُشكِلة الشائكة [111]، إذ يجب على كل فايروسات الـ RNA أن تكون أصغر سناً ب 50 ألف سنة على الأقل وذلك في أسوأ تقدير؛ إذ تظهر دراسات فايروس H1N1 الخاص بالأنفلونزا أنّ التحلل فيه يسير بشكل أسرع من اللازم.[111].

هذا يعني أنّ الزمن يسير عكس نظرية التطور وليس معها، فالأنواع تفقد مزاياها وتنتكس جيناتها، والمعلومات الجينية تنقص ولا تزيد، وهذا ما يوضح سبب عدم تطور أي بروتين نعرفه.

رسم توضيحي 40 الانحدار أو التقهقر، هذا ما يأمل العُلماء حصوله في فايروس Covid19

 

التنوع الجيني

يُؤَدِي التنوع في الجينات Genetic Diversity الموجودة في الجنس الواحد أثناء عمليات التزاوج إلى ظهور صفات مُختلفة ومزايا متنوعة، وكلما زاد التنوع الجيني امتلك النوع قدرة أكثر على تحمل الظروف، وهذا مظهرٌ حيويٌ مهمٌ لحفظ الأنواع من الانقراض، وللأسف ما نراه أمامنا أنّ الأنواع تتجه إلى الانقراض بدلاً من الانتشار والانفتاح، ولو قام عالمٌ ما بدراسة مستوى تدهور الجينات لرأى نهاية العالم.

تشير دراسة حديثة إلى أنّ 93% من البذور المُختلفة التي بيعت في الولايات المتحدة منذ عام 1903 قد انقرضت عام 1983!، إنّ 93% نسبة كبيرة وضخمة لتحدث في غضون 80 عام، ولو تحدثنا عن 80 عام أخرى فنظرياً 93% من الـ 7% المتبقية ستنقرض، وهذا ما يترك لنا رقماً ضئيلاً من الأنواع، هذا خلال 160 عام فقط! وهذا يخالف كل توقعات التطور، فالأنواع تنحدر وتنقرض ولا تتطور [112].

رسم توضيحي 41 انحدار البذور.

من بين سبعة آلاف نوعٍ من التفاح كان ينمو في القرن التاسع عشر، يتوفر منها بضع مئات فقط في القرن العشرين، ويعتقد العُلماء أنّ السبب يعود إلى الانتقاء أو الانتخاب الصناعي وإلى التعديل الجيني الذي أُجريَ على النباتات الأمر الذي أدّى إلى سرعة التحلل الجيني genetic degradation وضياع الأنواع.

الإنتروبيا الجينية

إنّ كثرة الطفرات الضارة في جينات النوع الواحد من الكائنات الحية في منطقة محصورة، وانتقال هذه الجينات إلى الأبناء يُؤَدِي إلى كارثة جينية تسمى الانهيار الجيني Genetic meltdown، هذه الظاهرة منتشرة جداً في الفايروسات وهي موجودة للأسف في الكائنات العليا كالرئيسيات، ونسبة الطفرات المُفيدة للطفرات الضارة قد تساوي صفر!، إذن لا يحدث موازنة لكفة الجينات الضارة.

تم ملاحظة ورصد هذه الظاهرة في العديد من الكائنات الحية مثل نمر فلوريدا، وغوريلا السهول الشرقية، وهو نوع من الغوريلا يعاني من نقص من التنوع الجيني بين أبناء جنسه، فقد تم أخذ مجموعة من العينات على مدار عدة أجيال ودراستها، فكانت النتائج توضح أنّ الأجيال اللاحقة أكثر عرضة للأمراض الجينية، وأقل قدرة على التكيف في التغييرات المناخية، وصنفت بعض هذه النواقص على أنها نقص حقيقي في العملية الحيوية وليس مُجرَّد نقص بسيط.

تُظهِر بعض الدراسات أنّ البشر يعانون من هذه المُشكِلة، فنقص الخصوبة وضعف جهاز المناعة أحد أهم نتائجها، والمتاحف والبنوك الخاصة بالكائنات الحية تعطينا الكثير من المعلومات المُفيدة في هذا العصر لم تكن متاحة قبل مائة عام، فهي تحفظ عينات العظام والأسنان والوبر وغيرها من الأجزاء التي تحتوي على الجينات، وعلى هذا فإنه يمكننا إجراء مقارنة واضحة، فقد أظهرت المقارنات أنّ الكائنات الحية بحاجة إلى إنقاذ جيني Genetic rescue لأنها تفقد معلوماتها، كالكتاب مع الزمن تبهت وتختفي حروفه.

يُؤَدِي هذا الانهيار في النهاية إلى فناء النوع لأنه لن يستطيع العيش في ظل جسد هزيل مريض لا يستطيع مواجهة البيئة ويطلق العُلماء على هذه الظاهرة مصطلح دوامة الانقراض extinction vortex [113].

كذلك هُنَاك ظاهرة التآكل الجيني Genetic erosion، وهي عملية تتناقص فيها الصفات الجينية المحدودة للأنواع المهددة بالانقراض أكثر، لأنه لا يوجد حوض جينات واسع لتناقله بين النوع، فيصبح النوع غير قادر على تحمل الظروف المحيطة القاسية.

تغير الكائنات

إنّ جميع أنواع التكيف التي نلاحظها هي عبارة عن جينات وراثية موجودة سلفاً في الحوض الجيني للكائن ويتم تفعيلها حسب الحاجة فقط، وليس هُنَاك صفة أو وظيفة تظهر من خارج الحوض الجيني للنوع، وأقرب مثال هي البكتيريا وتحديداً بكتيريا Escherichia Coli الهاضمة للسترات، حين وضعها في ظروف أدت إلى غياب الجلوكوز التي تتغذى عليه تم تفعيل جينوم هضم السترات وتحويله إلى جلوكوز، وقد كان الجينوم المشفر خاملاً خارج منطقة النسخ الرنا لكن عند الحاجة تم مضاعفة نسخه Gene Duplication وفك تشفيره وتفعيله، فلا توجد معلومة جديدة تمت إضافتها من خارج الحوض الجيني للنوع وهذا ما قام بإجرائه لينسكي في تجربته التي سبق ذكرها في التطور الصغروي والكبروي [114]، وقد اكتشف العُلماء أنّ فرط الحساسية تجاه اللاكتوز lactose tolerance يتم تنظيمه بواسطة العوامل فوق الجينية، مثل مَثيلة مستويات من جينات MCM6 و LCT، [115] وهذا ليس نتاجاً تغييراً تطورياً بعكس ما كان يُعتقد سابقاً، وقد وتم مقارنة بكتيريا معزولة منذ ٢٥٠ مليون سنة بقرينتها الحديثة وتقريباً لم يتغير شيء ظلت بكتيريا كما هي [116].

وبشكل عام فإن التكيف البيئي وتغيير الصفات الظاهر في الكائنات ينبع من آليتين أساسيتين هما:

  1. عوامل فوق جينية موجودة مسبقاً في الكائن الحي.
  2. فقد أو تلف في البيانات يُؤَدِي إلى ترتيب المعلومات المتبقية.

على سبيل المثال، يؤثر الطعام وآلية التغذية على الكائنات بطرق شتى، فأسلحة الخنافس المقاتلة تتغير وفق عوامل فوق جينية مثل HDACs و PcG [117]، وكذلك يؤثر الطقس وتغيير المناخ على عمليات مَثيلة الدنا التي تقوم بتفعيل الجينات بغزارة [118]، وكذلك يؤثر الضغط النفسي على عمليات مثيلة الطبقاتGNAS isoforms وهُنَاك نتائج واضحة لهذا الأمر على عمليات تجديد الخلايا الهيكلية [119]، كذلك العوامل الضارة في البيئة مثل السموم تؤدي إلى تغييرات فوق جينية، فقد تم رصد تغييرات واضحة نتيجة لعوامل سامة في أسماك دانيو المخططة Zebrafish [120].

قاعدة بيانات الطفرات البشرية

تحتوي قاعدة بيانات الطفرات البشرية The Human Gene Mutation Database (HGMD) على قائمة بجميع الطفرات التي تُسبب أمراضاً بشرية تنتقل جينياً، وهذه القاعدة تتحدث دورياً، فلو قمت بزيارتها فستجد عشرات آلاف الطفرات المتعلقة بالأمراض قد أضيفت www.hgmd.cf.ac.uk بتاريخ 25/1/2021 يوجد 275716 ألف مدخل حيث:

  1. 10 % من الناس مصابون بأمراض جينية نادرة.
  2. الأطفال لديهم أعلى نسبة من الأمراض، و30% ممن لديهم هذه الأمراض من الأطفال يموتون قبل سن الخامسة.
  3. 95% من المصابين بالأمراض لا يملكون علاجاً معترف به بواسطة إدارة الغذاء والدواء FDA.
  4. 15 ألف مرض جيني موثق منها خلايا الدم المنجلية وغيرها من الأمراض الشائعة المسببة للصمم أو العمى بسبب الطفرات الجينية المتعددة.

وهُنَاك قاعدة بيانات DisGeNET التي تعرض الطفرات والاختلافات الجينية التي تسبب الأمراض، فهُنَاك 1,134,942 مرض مرتبط بالجينات (GDAs)، وما بين 21,671 جين و 30,170 مرض وإضراب وأثر وخلل مرضي غير طبيعي، وغيرها من الأرقام العجيبة، وعلى العكس فإنّ عدد الفوائد المسجلة من هذه الطفرات هو صفر، زيرو، إيفس، 0، لعل الصورة تصل.

وقد بتنا نفهم أنّ التطور يركز على حدوث الطفرات النافعة الهدامة لكي يتحسن النوع، كأن يفقد الكائن وظيفة الجين الأساسية بطفرة هدامة، ولكن لهذا الضرر نفع في مكان ما، كما في مقاومة البكتيريا وكما في مقاومة الملاريا في خلايا الدم المنجلية، وهذا يعني أنّ الأنواع ستفقد مزاياها الأساسية وتنحدر ولكن بفائدة! أي أننا سنهدم في الفائدة الأصلية، لعلنا نحصل على فائدة ولكن بدرجة أقل، وهذا يعني أنّ الكائنات متجهة تطورياً إلى الاضمحلال في أفضل حالات التطور!

الخلية الأولى

الصورة البسيطة عن تكون الحياة تقول في البدء كان ماء، والماء كان في مكان ما، وكان المكان الما في ظروف مواتية على سطح الأرض، واحتوى هذا الماء على جميع المكونات والعناصر الأساسية الكيميائية لنشوء الحياة، وبالقليل من البرق والضوء مع بعض الحرارة وشذرات براكين وبعض الأملاح المعدنية الصغيرة، بوم شاكالاكا، نتجت الحياة، هذا على الأقل ما تقوله محاولات نظريات التطور حالياً ويحاول العُلماء إثباته كما في تجربة يوري وميلر الشهيرة منذ أيام العالمين أوبارين وهالدن.

الشيء نفسه حدث للإنسان، فهو تكون من كائنات بدائية تفاعلت مع مواد بسيطة، شيئاً فشيئاً تطورت إلى أن أمسى هذا الإنسان الذي نعرفه وذلك عبر ملايين السنين، كما وأخذت الطبيعة بعض اللبنات من الأحماض، ووضعت بعض الغراء وقليل من العمليات الأخرى ثم أفادا كادابرا، أمست لدينا الحياة المُعقَّدة التي نحاول أن نفهمها منذ آلاف السنين ونفشل رغم عقلنا الواعي وجماد عقل الطبيعة.

السؤال الأول الذي يحاول جميع العُلماء الإجابة عنه هو سؤال كيف بدأت الحياة، أي كيف بدأت الخلية الأولى، وكيف تم بناء أول بروتين، من أتى أولاً البروتين أم الجهاز الذي صنعه؟ إلا أنّ الجهاز الذي صنعه تم صناعته بالبروتين أيضاً، وهو سؤال يشابه من أتى أولاً البيضة أم الدجاجة، ونحن بتنا نعرف أنّ صناعة البروتين عملية مُعقَّدة، وتكوُّن بروتين بالصدفة يتطلب احتمالات مادة مقدارها بليون مرة المادة الموجودة، وعدد الاحتمالات الممكنة هي 10^234 وهي أكبر مرات كثيرة من عدد البروتونات والنيترونات والإلكترونات في الكون، وهي بحاجة إلى مسرح مساحته 10^82 سنة ضوئية لتحدث فيه، أي أكبر من حجم الكون.

حقيقة لا يوجد عالم تطوري أو غيره في العالم تجرأ أن يقول نعرف كيف أتت الخلية الأولى أو الحياة الأولى، لا يوجد على الإطلاق، ولعلك تجد صديقاً يعرف الإجابة فهذا أمر طبيعي، أمّا أن تجد عالماً من العُلماء المُؤمِنين بالتطور فليس ممكناً، وقد سمعت بنفسي ريتشارد دوكينز حينما تم توجيه هذا السؤال إليه قائلاً: إنّه من الممكن أنّ لبنة الحياة الأولى أتت من الفضاء الخارجي، ثم تهرّبَ سريعاً لأننا قد نسأل وكيف تكونت الحياة الأولى في الفضاء الخارجي، ماذا تقول؟ نعم؟ ريتشارد دوكينز لا يعتد به؟ حسناً أوافقك الرأي.

يشير البروفيسور الكيميائي جيمس تور أحد أشهر علماء الكيمياء في أحد أبحاثه عام 2016م قائلاً: “إنّ من يقول إنّه يمكن التوصل إلى بناء خلية لا يعلم شيئاً عن التفاعلات الكيميائية، فجميع العُلماء لا يفهمون كيف تمَّ الأمر، وهذا ما يتم نقاشه في الغرف المغلقة بين العُلماء”، مع العلم أنّ البروفيسور جيمس أحد أفضل الكيميائيين في العالم ولديه ما يزيد عن 650 بحث علمي، وهو مختص في الكيمياء وعلوم الحاسوب وعلوم النانو، وهو يرى أنّ غير المختصين -كمشاهدين اليوتيوب- يفهمون التطور، إلا أنه كمختص لا يفهمه، لأنه يفهم بدقة كيف تتفاعل الذرات ولا يرى كيف يمكن أن يحدث هذا في التطور ! وهو يدعو أي شخص على الغداء أي وقت لكي يشرح له كيف يحدث التطور وخصوصاً على المستوى الحيوي، وهذا ما يجعلنا نتأكد أنّ أكثر المُؤمِنين بالتصميم الذكي هم العُلماء.

ويقول العالم يوجين فيكتوروفيتش كونين، عالم الأحياء الأمريكي الروسي وكبير الباحثين في المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية، وهو خبير معترف به في مجال الأحياء التطوري وعلم الأحياء الحاسوبي: “إنّ المجال الذي يدرس بداية الحياة هو مجالٌ فاشل”.

ويضيف العالم لي هارتويل الحاصل على جائزة نوبل في الطب: “مع احترامي لأصل الحياة، وجدت أنه كلما تعلمت أكثر عن الخلية، اتضح لي أنها أكثر تعقيداً، إنها مُعقَّدةٌ بشكل مذهل، ومن خبرتي فيما وصلنا إليه من علم اليوم، فلن نستطيع معرفة كيف أتت الخلية الأولى، هذا أمرٌ مُستحيل”.

رسم توضيحي 42 بهذه البساطة يرى بعض العُلماء تكون الخلية الأولى.

وقد بتنا نعرف أنّ هذا السيناريو البسيط ينقصه بعض التفاصيل، كأن ترى صديقك ترتكز عليه مونيكا بيلوتشي، فتخبره كيف هذا، فيقول لقد أُعجبت بي! أُعجبت بك!!!! أريد التفاصيل، أريد أدق أدق التفاصيل، لا أريد المشهد الختامي من الفيلم، أريد أن أشاهد الفيلم بالكامل، فالشيطان يكمن في التفاصيل.

كما صرح الباحث الألماني كلاوس دور بقوله: “إنّ النظرية الحالية عبارة عن مخطط للجهل” ويقصد هنا نظرية فهم الحياة الأولى، وهذا يتفق مع رأي الكاتب العلمي نيكولاس وايد: “بأن كل شيء حول أصل الحياة على الأرض غامض، وكلما ازدادت معرفتنا بالأمر ازدادت صعوبة اللغز”.

الخلايا أكثر تعقيداً مما يتخيل البشر، وعملية عقلنة نشأتها أمرٌ مُستحيل! وهذا يُشابه ما قاله البروفيسور فرانكلن هارلود نفسه “إنّ نشأة الحياة أمر غامض”، وكذلك رد البروفيسور جورج م. وايتسايدز في جامعة هارفارد حينما سئل كيف بدأت الحياة؟ أجاب: “لا أعرف ببساطة”.

وكما رأينا فإنّ تعقيد بناء الخلية وتعقيد تداخل الخلايا وتعقيد عمل الدنا وغيرها من الصور تقودنا في النهاية مع آراء العُلماء إلى أنه لا أحد يستطيع تفسير كيف بدأت الحياة على المستوى الكيميائي، لا أحد يمتلك الدليل أو الفهم، وكما رأيتم أنّ بعض العُلماء لشدة تعقيد الحياة يقولون أنها قد جاءت من كوكب آخر، ورأينا أنّ تكوين الدنا أو الرنا أو حتى البروتين الأول عملية صعبة ومُستحيلة، ولكن العُلماء لم ييأسوا، فهُنَاك تجربة حدثت ولم تعاد منذ خمسينات القرن الماضي لطالب وأستاذه في رسالة الدكتوراة سميت بتجربة يوري ميلر، إذ جهز ميلر دورق به مجموعة من الغازات وقام بتمرير شرارة كهربائية فيه وحصل على بعض الأحماض الأمينية [68]، في تجربة منظمة ومحكمة ومحسوبة منذ خمسينيات القرن الحادي والعشرين، بالرغم من التطور التكنولوجي اللاحق للتجربة، لم يتجرأ أحد على إعادتها أو تحسين مخرجاتها بشكل فاعل لإظهار نتائج مدهشة وذلك منذ سبعين عاماً.

كما في دورة حمض الستريك رأينا أنّ الأكسجين هو أحد المخرجات النهائية من الدورة، إلا أنّ الأكسجين ضار جداً للخلية وهو عنصر شيطاني يحرق كل شيء فيها ما لم يقم الجسم بالتخلص منه، ولو كانت بعض جزئيات الميثان لدينا في دورق تجربة يوري مثلاً إلى جانب الأكسجين ومررنا الشرارة لحدث انفجار هوليوودي، فلا الأكسجين مُفيد لبناء الكائنات لأنه يتفاعل معها، ولا هو مُفيد في وسط به شرارة ومواد قابلة للاحتراق، ولهذا اعتبر أوبارين وهالدن أصحاب الفكرة أنّ غلاف الأرض في مراحل تكون الخلية الأولى كان بلا أكسجين أصلاً، وأنّ الجو كان مليء بالهيدروجين والميثان وعناصر أخرى وأنّ ضربات البرق افتراضياً أنشأت الأحماض الأمينية.

وهذا يعني أنّ العُلماء قاموا بإدخال فرضيات معينة في التجربة للحصول على نتائج معينة ليست حقيقية، كأن أعمل لك سحراً وهو في الخفاء خدعة تكنولوجية، أو كأن تحضر بنفسك دورقاً يحتوي على غازي الهيدروجين والميثان، ثم تقوم بالسماح بمرور الهواء العادي، ثم تعرضه للقليل من التسخين والكثير من الشرارة، ثم تقوم بتركه في بيئة معزولة لمدة أسبوع، ستحصل حينها على الكثير من المركبات السامة، إضافة إلى أبسط حمضين أمينين وهما الجلايسين والألانين، وبتحسين التجربة فيما بعد ستحصل على أحماض أكثر ومواد أخرى، وهذا أمرٌ مُشابهٌ لما حصل في تجربة يوري ميلر.

بعد تجربة يوري وميلر بسنوات توصل علماء طبقات الأرض (جيولوجيون) إلى أنّ البراكين القديمة لا تختلف عن البراكين الحديثة، وجو الأرض قديماً لا يختلف عن جو الأرض هذه الأيام كثيراً، وأنّ جو الأرض قد احتوى على أكسجين قبل عمليات البناء الضوئي عبر تحلل الماء من خلال الأشعة فوق البنفسجية، وكانت هُنَاك أدلة كثيرة في الصخور تدل على هذه النتائج قبل 3.7 بليون عام، فقد وجد العُلماء إنزيماً خاصاً يسمى سوبر أكسيد ديسميوتاز (Superoxide dismutase) في الخلايا الحية لحمايتها من الأكسجين السام الموجود في الكائنات التي من المفترض أنها تطورت قبل عملية البناء الضوئي ليحميها من الأكسجين، فلو افترضنا أنّ هذه الكائنات هي الأقدم وتطورت قبل غيرها، فلم تحتوي على الإنزيم الذي يحميها من الأكسجين؟ فهذا تطورياً يبين أنّ الأرض سابقاً كان بها أكسجين خافت منه الكائنات الحية واستعدت له.

لاحقاً، صرح العالمان holland و Abelson أنه لا يتوفر دليل على أنّ جو الأرض كان خليطاً قوياً من الميثان والأمونيا، وأنّ هذا كان افتراض من أوبارين وهالدن، وهنا نعود لما تكلمنا عنه مسبقاً، العُلماء المُؤمِنون بالتطور خيالهم واسع ودائماً بلا أدلة دامغة، إنها لعنة مشاهدة الأفلام بكثرة، ولكي نقلل من اللغط، أثبت علماء آخرون مثل فوكس ودوز أنه لا يمكن إنتاج أحماض أمينية أساساً حين تعرض هذا الخليط لشرارة كهربائية، والمقصود هنا الخليط الأساسي الذي كان موجود على سطح الأرض يومها، ولهذا قام ميلر بمحاولة تصحيح تجربته وتعديلها؛ فأنتج الجليسرين عام 1983م الناتج من تعريض أول وثاني أكسيد الكربون لشرارة بسيطة بدلاً من الميثان، وكان هذا أقصى ما توصل إليه، وكالعادة هُنَاك ردود من علماء على هذه التجربة، ولكن العُلماء من تلك الأيام وقبلها قد ألقوا بتجربة يوري ميلر وراءهم لهذه الأسباب ولأسباب أخرى مثل استخدام يوري للمصيدة الباردة لإنجاح تجربته، ولا ننسى أنّ حمضاً أمينياً واحداً يُبعدنا كل البعد عن بناء بروتين واحدة، ويُبعدنا كل المسافة التي أبعدها عن مونيكا في الحصول على عضية خلية واحدة.

بعد فهم العُلماء أكثر لدور البروتين ولتعقيد بنائه ولوجود عقباتٍ كثيرةٍ في تكوين البروتينات من الأحماض الأمينية، اتجه العُلماء إلى البحث عن تخليق شيء آخر، شيء أكثر منطقية، سنخلص للآلة التي تصنع البروتينات. حسناً، الدنا كبير ومُعقَّد، فدعونا ننظر للرنا، فهو صغير ولطيف ومن الممكن التفكير في صناعته في حساء الحياة، فضلاً عن أنّ بعض الرنا يعمل أحياناً كإنزيم أي أنه بروتين أحياناً، ولهذا لماذا لا نفكر فيه، لكن هذه الفكرة ما زالت نظرية ولا أسس لكيف تطور الرنا دون الدنا ودون بروتين كما تكلمنا مسبقاً.

على مدار سنوات طويلة نطالع الأبحاث التي تشير إلى قدرة العُلماء على تخليق مكونات الحياة، ومن المفترض في ظل التطور العلمي الهائل ووجود ملايين العُلماء حول العالم وفي ظل ادعائنا أنّ الطبيعة بالصدفة أنتجت الحياة، فنحن بذكائنا الجمعي حتماً قادرون على فك بعض الألغاز الأساسية، مثل كيفية صناعة البروتين أو الرنا أو الميتوكوندريا أو حتى الغشاء الخلوي أو الأنيبيات الدقيقة أو أي مكون بسيط من مكونات الخلية، لكننا رأينا عكس ذلك، رأينا أبحاثاً تتحدث عن صناعة خلية كاملة صناعية بضربة واحدة! أنتم لم تستطيعوا صناعة برغي، فتقولون أنّكم صنعتم مكوك فضاء! وللأسف هذه الأبحاث تراها تعتمد على استخدام أجزاء سابقة كاملة من الحياة وتضيف عليها بعض النكهات وتقول It’s Alive.

تقول بترا شويل عالمة فيزيائية حيوية ومدير قسم بحوث الفيزياء الحيوية الخلوية والجزيئية في معهد ماكس بلانك للكيمياء الحيوية أنها دائماً ما كانت منبهرة بالسؤال عن كيفية بناء الحياة، وما هو الجزء المسؤول عنها، وأنّ العُلماء على مدار 20 عاماً يحاولون هذا الأمر، وتأمل هذه العالمة كما جميع العُلماء في مشروع BaSyC أن يقوموا ببناء الحياة، فالمبلغ المرصود مكون من عشر خانات لذا يجب أن ينجحوا، ولكن يجب أن نذكرهم أنّ احتمالية بناء بروتين به 20 حمض أميني رياضياً ودون عواطف كما فعلنا سابقاً هي تقريباً 1 من 10^202 وللتذكير إنّ كل عدد ذرات الكون هو 10^87 !

هُنَاك نقطة قد تكون غائبة ولكنها مهمة، الكيمياء ليست هي الحياة، فلو قمنا باقتطاع كل أجزاء الخلية وتركيبها معاً لن تتحرك الكيمياء ولن تنتج شيئاً، لو ماتت الخلية وقمنا بتقطيع أجزائها وتجميعهم مع أخرى لصناعة وحش خليّشتاين فلن تتحرك الخلية، الحياة ليست هي المكونات الكيميائية، إنّ البروتوبلازم الذي يقوم بعمليات الأيض والبناء المُختلفة لهو كيمياء حية! ولو نزعناه وتوقف عن الحياة (مات) لما صار بإمكاننا إعادة تشغيله من جديد، وكأننا أمام ذرات حية وذرات ميتة! لم يعجبني هذا الكلام في البداية فلقد كنت مُؤمِناً بأنّ العلم سيكشف السر، ثم تراجعت لاحقاً وتذكرت أني هنا أمسي مُؤمِناً ولست عالماً، حينها يكون ديني هو الإيمان التطوري وليس التجربة العلمية الحالية، لذلك لا مفر من التسليم بأن الحياة ليست كيمياء، على الأقل حتى هذه الأثناء، إلى أن يأتي عالم ويقول بالتجربة: اليوم صنعت لكم ميتوكوندريا حية من بعض المواد الكيميائية من حساء الحياة.

هل تعرف الطبيعة الكيمياء وتعقلها حتى تشيد بها الخلايا؟ هل تعرف الميثان من الإيثان من البروبان من البنتان؟ هل تعرف السايكلو أوكتان أم الألكان من الألكين، أم تميّز الكحول من الثيول من الإيثر، ولربما تستطيع أن تفرّق بين الأحماض والألدهيد والإستر، أو السبايرو من الباي سايكل، ولربما تُميز تفاعلات الإحلال من الاختزال من غيرها، ولربما تعرف عمليات إنتاج الألكينز عبر الاختزال من تفاعل وولف كيشنر أو جرينيارد، أو لربما تستطيع إجراء تكوين عبر عمليات كوري هاوس أو تفاعل فولدز، ولعلها تستطيع البدء بذرة كربون وتكملها إلى حلقة عبر تفاعل ديلزألدر لتقوم لاحقاً بتكرار التجربة ملايين المرات وتكمل تفاعلات أخرى لتكوين حلقة البنزين، ثم تفاعل إحلال لكي يتكون لدينا الفينول، أو تستطيع التمييز بين دوران المركبات الضوئية، وتميّز أنواع التنافر الكيميائي الضوئي، أم تميّز السوائل وأنواعها وطريقة تأثير الروابط فيها لعمل تجربة دقيقة دون نواتج أخرى، وغيرها من عشرات آلاف المُحددات الكيميائية، إنّ الطبيعة لو استمرت مليون عام، لن تستطيع إجراء عبر الصدفة سلسلة تفاعلات كيميائية لتخرج لنا مركب مثل الهيموجلوبين يتكون من مئات التفاعلات المتسلسلة، توضيح كيميائي أكثر في فصل الكيمياء الواعية.

إنّ القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أنّ كل شيء في الكون يتجه إلى التشتت والتفكك والفوضى كفيلٌ بتغيير كل نظرتنا الحالية عن تكون الحياة أو الخلية الأولى، فالخلية الأولى لن تصمد في حساء الحياة أمام الأحماض والحرارة والضغط الجوي والتغيير المناخي بين الليل والنهار والمواد السامة والعوامل الأخرى الموجودة، فكيف ستتكاثر وتنقسم وتقوم بمحاولات لا نهائية لعيش هذه الحياة في هذه الأوساط القاسية، ولا أعلم كيف لنا أن نؤمن بمُستحيل مثل الصدفة والعشوائية التي تُنشئ نظاماً بديعاً كالخلية الحية أو الكائنات الحية، وألا نؤمن بمهندس واحد، أليس هذا أسهل من الإيمان بمليون صدفة!

شكل 40 صورة اللوحة الأم

فليأخذ العُلماء معالج أي حاسوب، أو ليأخذوا اللوحة الأم Motherboard ويقوموا بتعريضها لجميع العوامل البيئية والجوية والفيزيائية، وليروا هل لو أعادوا هذه العملية على ملايين اللوحات ستتحسن أي منها؟ لا نريد أن تدعم معالج أحدث، نريدها أن تضيف خاصية جديدة لها، هل سيحدث هذا يوماً؟ بالطبع لا، فالقوانين تخبرنا أنها ستبلى وتفنى ولن يبقى منها جزء متماسك جراء تعرضها للعوامل البيئية المُختلفة. وتقريباً فإن كل دراسة علمية ترى أنها اكتشفت كيفية ظهور الحياة تقوم بإتباع العمليات التالية:

  1. تحضير بعض المواد الكيميائية بنقاوة عالية.
  2. خلط هذه المواد الكيميائية مع بعضها في وسط سائل بتراكيز معينة وبشروط مخبرية مُحددة.
  3. تكرارها إلى حين الحصول على مزيج من المواد التي تشبه إلى حد ما تلك المواد المُشكِلة للخلية الحية مثل الكربوهيدرات، والأحماض النووية والأمينية، والدهون.
  4. نشر ورقة علمية بعنوان جذاب وجريء عن أصل الحياة، بناء على تلك النتائج المصنوعة بدقة.
  5. التواصل مع الصحافة لنشر الخبر المخادع.
  6. مشاهدة العامة غير المختصين والذي يشجع جيل كامل من مؤلّفي الكتب المدرسية على وضع رسومات ملوّنة جميلة عن مركبات كيميائية تتجمع لتشكيل خلايا، ومن ثم لتشكيل مخلوق لزج يخرج من الحساء قبل ملايين السنين.

هذا الملخص من محاضرة حديثة لعالم الكيمياء الحيوية والنانوية جايمس تور، والذي يشكك في فرضيات أصل الحياة والتطور الدارويني، المحاضرة بالتعاون مع جامعة Andrews University [121]

رسم توضيحي 43 تبدو عملية البناء الضوئي من الخارج بسيطة ولطيفة، لكن حين التعمق في التفاصيل، نرى أنّ كل جزء منها عبارة عن عمليات كيميائية مُعقَّدة، لذلك يمكن أن تسمع أنّ النباتات قد امتصت الماء وفي ظل وجود الضوء أنتجت الكاربوهيدرات بالصدفة! في حين أنّ ما وراء هذا السطر أطنان من التفاعلات.

القرار

إنّ اختلاف الجينات بين الحيوانات كالخفاش والحيتان يجعل لكل من الخفاش والحيتان أدوار مُختلفة للجينات نفسها، وأحياناً تقوم الجينات نفسها بوظائف مُختلفة في كائنات مُختلفة، يقول التطور لقد حدث تغيير ما ليلائم الوظيفة دون أي تفسير، لو أخذنا موضوع مثل الجينات التي تتنبأ بالتغيير في الكائنات الحية، فإنّ العُلماء المُؤمِنون بالتطور يرونها دليلاً على التطور، والخلقيون يرونها دليل على التصميم، فمثلاً يرقة الفراشة الملكية caterpillar monarch butterfly تأكل نبات الصقلاب milkweed، وهو نبات سام كان يجب أن يقتلها، وما نراه عكس ذلك، فإن اليرقة تنمو على النبات وتأكل الأوراق وتخزن السم في أجسامها كنظام دفاعي ضد الطيور الجائعة.

يقول العُلماء المُؤمِنون بالتطور إنه تطور مذهل أدّى إلى تكيف اليرقة مع النبات والسم، بل وأدّى إلى تطوير آلية لحفظ السم كنمط دفاعي، ولكن الخلقيون يتساءلون كيف طورت الحشرة هذا الأمر، كيف عرفت السم، وكيف ميزته، وكيف عزلته عن الطعام، وكيف بنت مناطق لتخزينه وكيف وكيف وكيف، كل هذا يدلل على وجود تصميم ذكي وليس طفرات عشوائية، ومهما حاول التطور توضيح الفكرة ببساطة، مثل أنّ الحشرة طورت آلية لتمييز السم، فإنهم لا يبينون ذلك على المستوى الجزيئي، وجود مواد كيميائية سامة تقوم الحشرة بإنتاج مستشعرات مُعقَّدة لتمييز هذه المادة ونقل هذه الآلية المُعقَّدة إلى الجينات، كأننا أمام مهندس جينات ساحر يلعب بالجينات بخفة ونتكلم هنا عن مئات الجينات المتراكبة لإتمام هذه العملية … إلخ.

قام العُلماء أيضاً بتحديد ثلاث طفرات جينية على الأقل، تجعل اليرقة لا تموت من أكل السم، قام العُلماء بنقل هذه الجينات الثلاث إلى ذبابة الفاكهة، فأصبح لدى الذبابة مناعة ضد هذا السم، ورأى العُلماء أنّ وجود هذه الجينات بهذه الدقة لا يعدو كونه أمر خارج عن الصدفة، وهنا نتكلم عن ثلاث جينات كي لا تموت اليرقة، أما عزل السم وتخزينه فهذه آلية أخرى.

حدثت الفكرة نفسها في الجليكوسيد القلبي cardiac glycosides وهي مواد كيميائية تستخدم كدواء لمرضى القلب فهي تزيد من قوة عمل عضلة القلب، فهُنَاك مجموعة من الناس لا يستفيدون جيداً من هذه الأدوية مصنفين تحت عوامل مُختلفة 47 taxa، فقد وجد العُلماء أثناء الفحص أنّ هذا يرجع إلى إحلال أحماض أمينية في أربع مناطق وهي 111, 119, 120, وهُنَاك علاقة بين نوع عدم استجابة الدواء ومنطقة الإحلال في الكائنات، إذ يرى العُلماء المُؤمِنون بالتطور أنها صدفة عجيبة، بينما الخلقيون فيرونها تصميماً مدهشاً، ومهما أثبتنا إحصائياً أنّ الصدفة صعبةٌ هنا، فلن يهتم أحد بالأرقام [122].

نرى في كل فترة من الفترات تغييرات جوهرية في النظريات والفرضيات وذلك نتيجةً للاكتشافات العلمية، ولا شك أنّ العُلماء المُؤمِنين بالتطور قد قدموا كثيراً للعلم أثناء بحثهم عن إثباتات لفرضياتهم، لكن اتجاه العالم المادي للنظرية كأيديولوجية أكثر منه للعلم أمرٌ مقلق، لأنها باعتقادهم هي البديل عن وجود شيء اسمه الله خلق الكون، وهي تكمل البناء المادي الذي أوجدوه، يجب أن نعرف أنّ داروين حينما آمن بالتطور غير الموجه وبعده العُلماء، كانت أفكارهم عبارة عن أحلام ونظرة فلسفية، فهم افترضوا مجموعة من النظريات الكبرى لبناء الكائنات بالاعتماد على ملاحظات بسيطة جداً وتمنوا مستقبلاً أن يتم تأكيدها من قبل الباحثين والعُلماء، ورأينا أنّ الاحتجاج في كثير من الأحوال كان فلسفياً أكثر منه علمياً.

والظاهر أنّ العُلماء كلما بحثوا أكثر، وجدوا أدلة واضحة على الخلق المباشر، فقاموا بتعديل المسار قليلاً ثم انطلقوا من جديد، وللآن لا توجد آلية تطورية واضحة تظهر كيف يمكن إنشاء أجزاء جديدة تطورية أو بنية خلوية أو عضوية جديدة، رغم محاولة العُلماء تلبيس فكرة التطور الإبداعي بواسطة الطفرة الموجهة، وما يفرضوه ما زال مُجرَّد أحلام ولا يرقى للنظريات العلمية التجريبية، مثلاً انتقلت الحياة من البحر إلى اليابسة، والحوت تحول إلى دب وهكذا، هذه الجملة البسيطة بحاجة إلى 2 مليون خط وتوضيح، مثلاً هل يتطور الكائن البحري بناءً على بيئته الحالية أم بناءً على بيئته المستقبلية؟ إذا كانت الأولى فكيف يعيش على اليابسة والماء أنسب له؟ وإن كانت الثانية فمن أين أتته مواصفات البيئة المستقبلية؟ أترون أبسط الأفكار تفشل حين نقاشها علمياً، وهذه بعض المشكلات الأساسية التي لم يقم العُلماء بحلها إلى الآن، وعلى هذا ستفشل كل فرضياتهم لاحقاً:

  1. لا توجد آلية تشرح كيف تكون الحساء البدائي Primordial Soup، وكيف تكونت الخلية الأولى، أو نواة الحياة الأولى.
  2. كافة العمليات الكيميائية غير الموجهة لا تشرح كيف تكونت الشيفرة الوراثية، بل على العكس، ما هو واضح أنها صممت بواسطة مصمم أبدع منا جميعاً.
  3. الطفرات العشوائية لا تشرح أبداً الزيادة في المعلومات، بل على العكس تنقصها وتتلف الدنا، ولا توضح كيف تكونت الأجهزة المُعقَّدة غير القابلة للاختزال، الدنا لا يبين الصفات الشخصية للإنسان ولا خطة مسيره.
  4. الانتخاب الطبيعي ما زال يحاول جاهداً إصلاح الصفات المُفيدة في التنوع السكاني.
  5. غياب كامل للمستحاثات في السجل الأحفوري التي تبين التطور، وهنا على الشقين، الشق الذي يبين وجود ملايين المراحل الانتقالية بين الكائنات، والشق الذي يبين وجود عدد قليل جداً من المستحاثات والتي أثبت الخلق وليس التطور.
  6. علم الأحياء الجزيئي فشل في رسم شجرة الحياة، والتعارض الواضح بين أجنة الفقريات، يدحض السلف المُشترك.
  7. الدنا الخردة والأعضاء الأثرية والتلخيص وغيرها من المواضيع تظهر الكذب الدائم في فرض التطور.
  8. توزيع التنوع الحيوي على المكان والزمان أفشل العُلماء الجدد المُؤمِنين بالتطور.
  9. التغيير المناخي والتغييرات الهائلة في البيئة تؤدي إلى الانقراض وليس التنوع، فمثلاً 40% من الحشرات معرضة للانقراض بسبب تغيير المناخ والتلوث وغيرها من العوامل، ففي آخر 30 عام كان عدد الحشرات في العالم ينقص بمقدار 2.5% سنوياً، وهو ما يجعل العُلماء يعتقدون أنّ الحشرات قد تنقرض في القرون القادمة القريبة وهذا كله لنقص التنوع الجيني وليس لزيادته.
  10. تنوع عمر الشيخوخة في شجرة الحياة يقودنا إلى أنّ التطور لم يحل المُشكِلة الأساسية الدائمة وهي مُشكِلة الموت، بل كرّسها وقد كانت قبله غير موجودة كما البكتيريا.

فإذا قمت بوضع كتاب هندسي عن طريقة بناء ناطحات السحاب لمليون سنة في المكتبة، فلا يمكن للكتاب أن يبني ناطحة سحاب واحدة، إلا إذا جاء مهندس بعقل واعٍ وهدف مُحدد وقام بقراءة الكتاب وطبّق ما فيه، هذا الأمر هو نفس فكرة أنّ الدنا لا يمكنه أن يبني خلية من تلقاء نفسه، يجب أن يكون هُنَاك مهندس ذكي ليقوم بذلك، فالمعلومات وحدها لا تكفي، نحن بحاجة إلى ذكاء لربط المعلومات،

ولو كان التطور حصل لكانت هُنَاك ملايين الأدلة عليه، ولكن ماذا يقول العلم حول الأبحاث العلمية بشكل عام؟ حتماً يقول العلم الكثير، ولكن دعنا نرَ الأبحاث العلمية كلها جديرة بالنظر والأخذ بعين الاعتبار؟

في مقال بعنوان Why we can’t trust academic journals to tell the scientific truth، (لماذا لا يمكننا الثقة فيما تنشره المجلات العلمية حول العلوم) [123]، يقول الأستاذ جوليان كيرتشير: “إننا نعتقد أنّ إعادة التجربة العلمية سيُفضى إلى النتيجة نفسها، لكن ما يحدث في أغلب التجارب أنّ النتيجة تختلف عن المذكور سابقاً” وعلماء كثر حاولوا وفشلوا في الحصول على نتائج حتى متقاربة ورأينا هذا في تجربة الشُذُوذ كمثال، هُنَاك مشكلات أخرى كثيرة، كالدراسات غير الموثقة، والأبحاث التي لم يتم التأكد منها ومراجعتها، مُجرَّد أوراق تنشر ويتم تقديسها والبناء عليها، بل كل عملية العلوم تتم غالباً بالصدفة وليس كما يريد الباحث، وكل ما سبق بين يديك، عليك اتخاذ القرار بنفسك، وهي المُشكِلة الأزلية.

ولكني سأقرأ وأتخذ القرار، لا أحد يملك قراري أو حق توجيهه، أنا أرى المشاهد والتجارب من العُلماء مشكورين، ولكن حقي أن أٌعمل عقلي وأقوم بما أراه منطقياً، فالقرار هو قرارنا.

البناء الدقيق

لا أعلم من أين أبدأ في هذه الورقات، فعجائب الكائنات الحية من حيث التركيب أو التنظيم أو التشغيل مُدهشةٌ وتأسر العقل والخيال، حاول أن تنظر إلى أي كتاب لفسيولوجيا جسم الإنسان أو للكيمياء الحيوية، ستدهشك التصاميم والتنظيم الفائقين في بناء الكائنات، أي كتاب في علم الخلية أو في علم الفيروسات أو علم البكتيريا أو علم النبات سيحول دماغك إلى خلايا غير متجانسة، إلى بروتينات وأحماض أمينية لا يمكن تجميعها مرة أخرى، فمن أبسط الظواهر في الخلية كما تطرقنا إلى جزء منها، إلى أبسط الظواهر في عالم النبات، إلى تعقيد عمليات البناء الداخلية والمستشعرات الخاصة، إلى عمليات جسم الإنسان من عمل القلب والرئة والدماغ والكبد والتنسيق بينهم، على سبيل المثال تبث خلايا النسيج الدهني رسائل للدماغ بأننا قد اكتفينا بحاجتنا، فتوقف عن الأكل وأوقف الشهية، فيقوم الدماغ بإرسال رد إلى كل الأعضاء المرتبطة، توقفوا عن الجوع، توقفي أيتها المعدة عن القرقرة، توقفي عن إحساسك بالتعب أيتها العضلات ها قد أتاكِ الحليب، والعجب من إصلاح التلف وبناء الجديد في الأنسجة والخلايا والتنسيق العالي في جهاز المناعة المُدهش إلى آليات حرق الدهون ومن ثم العضلات وغيرها من الآليات، كل خلية ترسل مجموعة من الرسائل حولها بتصميم ذكي، حتى الخلايا السرطانية هي من تصميم الجسم وتفرز رسائل معينة، وهذا ما أدى إلى وجود فحوصات سريعة لاكتشاف السرطان عبر الجزئيات المرسلة، والخلايا المناعية قد تستقبل رسائل بالخطأ فتسبب مرضاً مناعياً Autoimmune، مثل الروماتويد الذي يقلب حياة الإنسان بالكامل، وصور كثيرة لا نهائية عن دقة الكائنات الحية.

يمكننا النظر إلى عملية النوم الغريبة التي يقوم بها الكائن الحي عبر أخذ قسط من الراحة التي تساهم في عملية تجديد الخلايا والأنسجة والأعضاء، وتزويد الجسم بالطاقة وتسريع عمليات الاستشفاء العقلي والنفسي، وهي عملية متناغمة مع عمليات الكائن الأخرى كالإدراك والحركات الإرادية، فالنوم لساعات مُحددة تتعارف عليه كل الأعضاء في السياق الحيوي نفسه وكأن المصمم قد وضع البُنود كلها مرة واحدة في كتاب تعليمات، ثم طبقه على الكائن الحي بعد أن تأكد من فعاليته.

ثم هُنَاك التكامل الدقيق في كيمياء الجسم، فأي مادة كيميائية جديدة تدخل إلى الجسم تقوم بالتأثير على أجزاء واسعة منه، انظر إلى العُلماء حينما يقومون بتطوير دواء ما، إنهم يستغرقون وقتاً طويلاً في تعديله كيميائياً تحت إطار علم يسمىStructure Activity Relationship، وذلك لتقليل ضرر الدواء على الإنسان، ومع هذا نجد بعد التعديلات التي لا تحصى تأثيراتٍ جانبية سيئة للأدوية على جسم الإنسان لما تحدثه من تفاعلات مع المواد الأخرى فيه، وهذا ما تحاول كيمياء النانو حلّه وذلك عبر تصنيع دواء مخصص لنسيج مُحدد لا يؤثر على غيره.

وحينما يصِف لك الطبيب دواءً معيناً، تجده يحذرك أنّ هذه المادة لا يمكن أخذها مع مادة أخرى أو طعام آخر لأنها تتفاعل أو يتغير مفعولها أو ربما تتلف، فعلى سبيل المثال لا يمكنك تناول البنسلين مع مضاد حيوي آخر من عائلة الأمينوجليكوسيد في نفس التركيبة الصيدلانية (الحقنة نفسها على سبيل المثال)، لأن أحدهما حامضي والآخر قلوي، فسيتفاعلان وينتج ملح في النهاية، ولا يمكنك تناول مضاد الالتهابات الديكلوفين مع الأسبيرين وهو أيضاً للالتهابات من عائلة NSAID نفسها لأنهما يحفزان تأثير بعضهما ويسببان نزيفاً دموياً، وصور كثيرة لا نهائية من التفاعلات والتداخلات المسجلة التي تجعل كل مادة كيميائية مهما كانت بسيطة تشكل خطراً على باقي مواد الجسم.

انظر إلى جسم الطفل الرضيع، لا يمكننا أن نصف له بعض الأدوية التي نصفها للبالغين، فعلى سبيل المثال يُمنع إعطاء الطفل مضاد حيوي مثل السيفترياكزون Ceftriaxone لأنه يرتبط ببروتين الألبومين Albumin الذي يرتبط به مركب البيليروبين Bilirubin، فيصبح البيليروبين حراً في جسد الطفل ويسبب له الصفار أو اليرقان Jaundice [124]، ومئات أو آلاف الأمثلة في دقة التفاعلات الكيميائية داخل جسم الإنسان وأنّ أي تغيير بسيط أو دخول مادة جديدة ستدمر كل النظام.

حتى الحيوانات البسيطة مثل كينورهابدايتس إيليجانس، وهي دودة مستديرة في حجم الفاصلة وطولها أقل من مليمتر واحد من فصيلة الديدان الخيطية التي ربما تمثل 80% من الحيوانات في العالم، بالرغم من أنها لا تمتلك دماغاً، إلا أنها تمتلك نظاماً عصبياً وآلية اهتزاز وقناة هضمية وقدرة على وضع البيض، فتبدأ حياتها بخلايا يبلغ عددها ١٠٩٠ خلية، تموت ١٣١ خلية منها خلال عملية الاستماتة أثناء النمو، وهُنَاك ٣٠٢ خلية عصبية من الخلايا الإجمالية تعيش داخل التربة وتتغذى على البكتيريا وتتكاثر عادةً كخنثى، عبر الإنتاج المتعاقب للحيوانات المنوية ثم البويضات، هُنَاك دودة واحدة ذكر من كل ٢٠٠٠ دودة، وبالنظر لحجمها تحتوي دودة كينورهابدايتس إيليجانس بشكل مُثير للدهشة على عدد كبير من الجينات نحو ٢٠ ألفاً، ونحن نعلم أنّ الإنسان المغرور لديه نحو ٢٤ ألفاً، مليارات الخلايا الإضافية والأجهزة المُعقَّدة والعمليات المُعقَّدة والمحصلة أربعة آلاف جين زيادة على كائن مكون من 1090 خلية! وكثير من جينات هذه الدودة خاصة بعملية انقسام الخلايا ٪٥٠ منها تشترك فيه مع ثمرة الموز، كما أنّ ثلثها له مثيل مباشر في الإنسان، لا أريدك أن تذهب بعيداً وتقول أصل الإنسان دودة، إياك أن تكون طالباً غير نجيب [10].

نشاهد النحل يتواصل بالرقص، والنمل يتكلم بالكيمياء فيما بينه ويتفاهم، ويقوم بتربية المن في غرف مخصصة لحلبها لاحقاً وكأنه راعٍ مَن واعٍ، والنملة تهاجم مخلوقات أكبر منها وتغرس سماً عصبياً فيقتلها وفق آلية ذكية تشير إلى معرفة النملة بأعصاب المخلوقات الأخرى وكأنها درست كيمياء حيوية، غرائب النمل وعجائبه كثيرة لن تنتهي، كل ما يسعني قوله هو أنً كل كائن حي عبارة عن نظام مُعقَّد متكامل مُختلف له من العجائب ما يأسر العقول.

نظام الدفاع

ومن صور تعقيد جسم الإنسان هو آلية تعامله مع الضغوط الحياتية stress، فمُشكِلة عصيبة تواجهه تؤثر عليه جسدياً ونفسياً، بل ويعد الاستيقاظ باكراً من النوم والقفز من السرير الدافئ إلى العمل البارد وسيلة تنبيه (ضغط stress)، فتبدأ عشرات العمليات في الجلد على الأقل لموازنة اختلاف الحرارة، ثم تنطلق مئات العمليات المتعاقبة من الإشارات والهرمونات والإنزيمات للتغيير الطفيف هذا.

لتتم هذه العملية -البسيطة في نظرنا- يقوم الجسم بإفراز هرمون الكورتيزون الشهير من خلال منطقة مخصصة له هي قشرة الغدة الكظرية، فضلاً عن أنّ الكورتيزون محكوم بالهرمون ACTH الموجه من الغدة النخامية أم الغدد والمايسترو الذي يضبط إيقاع جميع الهرمونات في عملية مُعقَّدة جداً جداً، إلا أنها أيضاً عملية متراكبة، فهذا الهرمون من الغدة النخامية يتحكم به هرمون آخر من Hypothalamus اسمه CRH والذي يرتبط بجهازنا المناعي، ويرتبط أيضاً بالبكتيريا المُفيدة في الأمعاء، نعم يا عزيزي هرمون CRH مرتبط ببكتيريا الأمعاء، هذا يعني أنّ النظام قد وضع مرة واحدة هكذا، لا يجوز أن تخبرني أنّ السيارة قد صممت على حدة، والطريق وإشارات المرور قد صمموا على حدة، ومصادفةً وُجد شرطي مرور يربط العمليات، والبكتيريا حسب التطور هي دخيلة وليست من بناء جسم الإنسان.

إنّ إنتاج الكورتيزون البسيط هذا يجب أن يتم بدقة بالغة، لأنه هُنَاك على الأقل 140 عملية مرتبطة بتأثير الكورتيزون، فبمُجرَّد إنتاج الغدة الكظرية لهذا الهرمون البسيط من المئات في الجسم، تنشط عملية الارتجاع السلبي negative feedback في الجسم، وهي عملية مفصلة طويلة في جسم الإنسان، خلاصتها أنّ جسم الإنسان يسير وفق نظام مترابط محكم لو فلت شيء منه لمات الإنسان.

يوضح (شكل 41 تجاوب جسم الإنسان مع الضغط). أنّ جهاز المناعة لديه تصميم مُعقَّد غير قابل للاختزال، فلا يمكن لعملية أن تسقط سهواً في النظام، وإن فشلت عملية فقد فشل النظام ككل.


شكل 41 تجاوب جسم الإنسان مع الضغط.

أما جهاز المناعة، فهو يُشكّل منظومة متكاملة تسير وفق آلية شديدة التعقيد، إذ يحتوي على خلايا متخصصة في الكشف والفحص والتبليغ والهجوم وتسجيل الأجسام المضادة وآليات قتل وتحشيد مُختلفة، وآليات أخرى لحفظ وتسجيل آلاف إن لم يكن ملايين المستقبلات للأجسام الغريبة لفحصها والهجوم عليها، وتتكامل هذه الخلايا والآليات المتنوعة في عملها مع أعضاء أخرى كالغدة الدرقية، والأوعية الدموية، والـHypothalamus ومع هرمون الكورتيزون ومع كل أجزاء الجسم الأخرى، بل حتى مع نظام الحياة مثل الصيام الذي يبدو كأنه مُصمّم لتحسين جهاز المناعة وتحسين إصلاح الخلايا،

القلب والأوعية

يتكون الجهاز الوعائي Vascular system من شبكة متنوعة من الأوعية التي تنقل الدم من وإلى القلب عبر دورتين، الدورة الدموية الصغرى (1) وتسمى الدورة الرئوية Pulmonary circulation، إذ يتم نقل الدم من القلب الأيمن إلى الرئتين لتبادلِ الغازات، ويتم طرد ثاني أكسيد الكربون وامتصاص الأكسجين ثم يُعاد إلى القلب الأيسر ليتم نقله في الدورة الدموية الكبرى Systemic circulation (2) من القلب الأيسر إلى الأنسجة المُختلفة ليقوم بوظائفه العديدة، ثم يعود مرة أخرى إلى القلبِ الأيمن لتتكرر هذه الدورة إلى أن يتوقف القلب.



والقلب مخصص ومبني لهذا السيناريو المُعقَّد فهُنَاك حجرات مخصصة لاستلام الدم وحجرات أخرى لضخه، وهُنَاك الصمامات والإشارات الكهربائية المتتابعة، وكما نلاحظ في صورة القلب أنّ جدار الغرفة السفلى على اليمين يبدو سميكاً، وهذا لأنه يقوم بضخ الدم إلى جميع أعضاء الجسم لذا يجب أن تكون هذه العضلة أقوى أجزائه، وكذلك الشريان الذي يستقبل هذا الضخ الشديد يجب أن يتحمل، وأي خلل في قوة العضلة يصيب الإنسان بأمراض كثيرة، يحاول الجسم التدخل لإصلاحه لكن يبقى التدهور سيد الموقف وندخل في ضعف العضلة حتى الموت.

رسم توضيحي 44 مسار الدورة الدموية

يحتوي القلب على صمامات ذكية تقوم بإدخال الدم في حجرة ومن ثم إكمال إرساله لحجرة أخرى مع عدم السماح بإرجاع جزء منه للخلف، وإذا حدث الإرجاع تفسد كل الدورة وتسبب أمراض تؤدي إلى الوفاة، كذلك القلب به آلية للتغذية ولو حدث انسداد في أي من الشرايين المغذية له نجد أن هُنَاك آليات لسد الفجوة، والأمر نفسه لو حدث مُشكِلة في كهربائية القلب يحاول القلب استمرار عملية النبض عبر 3 مواضع كهربائية تطرقنا لها سابقاً.

رسم توضيحي 45 الدورة الدموية الكبرى.

يعتمد القلب في عمله على الكهرباء والأملاح، وأي خلل يصيب سوائل وأملاح الجسم يحاول القلب أن يتجاوزها عبر عدة طرق وآليات معروف بعضها، وهذه الطرق والآليات هي ما أدت إلى اختراع أدوية تساعد في أمراض القلب مثل أدوية ACE Inhibitors أو ARBs أو Ca+ Channel Blockers وغيرها، والقلب متصل بالكلى لتنقية الدم من المخرجات، وأي خلل في الكلى يعني وداعاً أيها القلب الحبيب.

لو قمنا بوصل جميع الأوعية الدموية واللمفاوية في جسم الإنسان البالغ لوصلت إلى 150,000 كيلومتر، لاحظ كيلومتر، تشكل الشعيرات الدموية نحو 90% من الطول الإجمالي للأوعية، ولهذه الأوعية أنواع متنوعة ومُختلفة لتناسب عملها، وقياسات متعددة مناسبة لكل دور وظيفي، وتنقسم الأوعية الدموية إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي:

  1. الشرايين Arteries: وهي الأوعية التي تُصدّر الدم من القلب حاملة الدم المؤكسد إلى الأنسجة.
  2. الأوردة Veins: وهي الأوعية التي تعود إلى القلب محملة بالدم غير المؤكسد.
  3. الشعيرات الدموية Capillaries: أصغر الأوعية في الجسم ويحدث فيها تبادل المواد المُختلفة والغازاتِ بين الخلايا والدم.

ولعلك تعتقد عزيزي أنّ هذه الأوعية مُجرَّد أنابيب مصمتة! دعني أخبرك أنّ جميع الأوعية الدموية عدا الشعريات تحتوي على عضلات ملساء ونسيج ضام بالإضافة إلى الطبقة المبطنة، ويتكون كل وعاء دموي من طبقات تختلف في تركيبها وعددها، بحسب نوع الوعاء الدموي ووظيفته، وتفرز هرمونات عديدة منها ما يعمل كموسعات للأوعية وتسمى بموسعات الأوعية Vasodilators وهي أساس عمل مجموعة من أدوية القلب تحت بند موسعات الشرايين، كما سبق وذكرنا أنّ الأدوية كلها مواد موجودة في جسم الإنسان ولكنها معدلة قليلاً أو زائدة أكثر، فمثلاً لو أراد الجسم أن يضخ دماً لعضو لسبب ما كما في حالات التوتر أو القتال أو للهروب، فإنه في لحظات سيبدأ الجسم بإفراز هرمونات تجعل الأوعية تتسع لتستقبل المزيد من الدم، والمزيد من الأكسجين والتغذية والقدرة على العمل، والعكس صحيح، لو أراد الجسم تضييق شريان لسبب ما، مثلاً نزلة برد أو نزيف بسبب جرح ما فإنه يفرز مواداً معينة، وهُنَاك أدوية تساعد القلب في توسيع الشرايين فيقل ضغط الدم ويقل الضغط على القلب.

تختلف الشعيرات الدموية في طبقتها الداخلية في شكلها ووظيفتها حسب المكان الذي تُوجد فيه، ولكل نوع منها نفاذيته الخاصة بحسب وظيفته ومكانه، فالشعيرات الدموية في الكليتين تختلف عن الشعيرات الدموية في الدماغ، وتختلف عن الشعيرات الدموية في نخاع العظام مثلاً، ولعلك تعلم أنّ الشرايين مدفونة في الطبقات السفلى بالجسم أما الأوعية فهي أقرب إلى السطح، والسبب واضح لأن المصمم ذكي ويريد إخفاء الأوعية التي تحتوي على الأكسجين عن أي جرح، فالشرايين تحمل الأكسجين وضغط الدم فيها عالٍ، ولو أصابها جرح فسترى الدم يتدفق بسرعة وقوة وحينها سنخسر الأكسجين، إذن دعونا نضعها مخفية ونبقي على الأوردة ذات الضغط الخفيف والأكسجين الخفيف فوق.

يحتوي الشريان الأبهر (الأورطي) والشريان الرئوي وفروعهما على ألياف مرنة تمنحهما القدرة على التمدد ومقاومة ضغط الدم المرتفع، وأهم ميزة لهذه الأوعية هي سمك الطبقة الوسطى، أما الأوردة الكبيرة فتتميز بأنّ طبقتها الثالثة التي تسمى بالطبقة الخارجية وهي أكثر سمكاً من الطبقة الخارجية للشرايين؛ إذ تحتوي على ألياف شبكية وألياف مرنة تمنحها القدرة على استيعاب كمية كبيرة من الدم دون أن تتمزق وتعود إلى مرونتها بعد أن تتمدد.

رسم توضيحي 46 الدورة داخل القلب.

كما وتحتوي الأوعية الكبيرة على أوعية دموية تُسمى بأوعية الأوعية Vasovasorum في الطبقة الخارجية وفي الجزء الخارجي من الداخلية، تعمل على تغذية خلايا الوعاء الدموي لأن الجدار سميك فلا يستطيع التغذي من خلال انتشار الدم، وتضم الأوردة الكبيرة أوعية بنسبة أكبر لأنها تقوم بنقل الدم غير المؤكسد، وفي بعض المناطق تمتلك فيها الشعيرات خصائص فريدة لإدخال المواد، بل ومنع أخرى من دخول الأنسجة وتُوجد في مناطق حساسة في الجسم تتحسس لأي مادة كيمائية كالدماغ الذي يحتوي على الحاجز الدموي الدماغي Blood Brain Barrier [125] الذي يسمح بدخول مواد معينة للدماغ وفق آلية ذكية جداً.

تحتوي بعض الأوعية على أقفال لا تفتح إلا بمفاتيح خاصة، وبعد أن يدخل المفتاح القفل يقوم بتحريك آليات معينة داخل الوعاء متجاوبة مع حركة الجهاز الدموي ككل، كما وتحتوي بعض الشرايين على مُستقبلات خاصة فالشريان السباتي الموجود في الرقبة يحتوي على مستقبلات تعمل كحساسات للضغط والمواد الكيميائية في الدم وهي مستقبلات الضغط Baroreceptors وأيضاً يحتوي على المستقبلات الكيميائية Chemoreceptor، والتي تحظى بدورٍ مهمٍ في تنظيم الضغط وكمية الأكسجين في الدم خصوصاً الدم الصاعد إلى الدماغ.

وفي حال وجود خلل عضوي لدى الإنسان يُؤَدِي إلى فشل عمل القلب، فإنّ جسم الإنسان سيعمل على خطط بديلة لتعويض التلف الناتج عن هذه المشكلات في نظام مخصص مسبقاً، فيحاول القلب ذلك عبر 3 آليات مكملة هي:

  1. تفعيل تأثيرات الجهاز الودي Chronic Sympathetic Activation.
  2. تفعيل نظام الرينين-أنجيوتنسين Chronic Activation of RAAs.
  3. تعديل عمل عضلة القلب، إذ يتم تضخيمها وتغيير هيكليتها ووظيفتها وهذا ما يُؤَدِي بعد فترة من ترك المُشكِلة إلى حدوث التليف.

والجدير بالذكر أنّ آلية إعادة هيكلة أنسجة عضلة القلب Remodeling of cardiac tissue هي عملية منظمة وهندسية مصممة ومعدة بالتنسيق مع كل أجزاء الجسم وآلياته، ولا مجال لأن تكون قد تشكلت بواسطة علماء طب، ولذلك عملية علاج المرض تتطلب غالباً خليطاً من الأدوية الطبية حتى يساعد كل دواء آلية ما في هذه الهيكلية المتراكبة.

هل نتكلم عن الطحال؟ أم الكبد؟ أم نتكلم عن خلايا الدم نفسها وأنواعها وأدوار كريات الدم البيضاء المُختلفة وآلية عملها، أم آليات انخفاض وارتفاع الضغط وربطها في كل أعضاء الجسم، أم نتكلم عن آلية زيادة السوائل أم نقصها في الجسم، أم تأثير الغدة النخامية على عمليات القلب والجهاز الدوري، لا أعلم عما أتكلم لكني أعلم أنّ القلب والشرايين والشعيرات والطحال والكبد والكلى وأوردة الأوردة والكهرباء والأملاح ظهروا مرة واحدة، فلا يعقل أن يظهر القلب دون الأوعية، أو الأوعية دون القلب، أو أن نقول نشأت بالتدريج، كان للقلب ثلاث حجرات فصاروا أربع، وأنه كان هُنَاك أوعية فنشأت أوعية الأوعية.

إنّ وجود عضو بفعالية تقدر ب 5% لا تجعله عضواً وظيفياً، وبذلك فإن الأنموذج البدائي غير مكتمل الصفات لن يستمر طويلاً ليتطور إلى شكل مُفيد عبر الأجيال، ومن ثم فإما على جهاز الدورة الدموية أن يأتي كاملاً أو لن يأتي.

الكلى

إنّ لكل جزءٍ في الجسم مجموعة من المهام المُعقَّدة التي لا يمكن وصفها، كل جزء عبارة عن مئات بل آلاف أجهزة الإرسال WIFI التي ترسل إشارات مُختلفة من خلاياها إلى الخلايا الأخرى لتنسيق عمل الجسم بالكامل، وتستقبل كذلك آلاف الرسائل، على سبيل المثال نحن نعتقد من دراستنا في المدرسة أنّ الكلية وظيفتها تنقية الدم وإخراج البول، لكن الكلى لديها مئات العمليات الأخرى ولديها عمليات كبرى أساسية للجسم، مثلاً المسؤول عن مستويات إنتاج الدم هي الكلى! فهي تفرز هرمون الـErythropoietin المسؤول عن إرسال الأمر إلى نخاع العظام لتنشيط عملية صنع الخلايا الجديدة، والمحافظة على المستوى اللازم من كريات الدم الحمراء، والمسؤولة أيضاً عن الأكسجين في الجسم.

ماذا عن ضبط مستوى الأملاح، ومستوى ضغط الدم؟ فالكلى مثلاً تفرز إنزيم وبروتين الرينين المسؤول عن ضبط الأوعية في الجسم ومن ثم ضبط ضغط الدم، في عملية مُعقَّدة تحت مسمى Renin–angiotensin system، انظر إلى عملية تنقية الدم من الفضلات والمواد الكيميائية الضارة، وانتقائية خلايا الكلى في التنقية، إذ تُخرِج مواداً سامة معينة، ولا تخرج المواد المُفيدة، بل وتخرج المواد الضارة الجديدة التي لا يعرفها الجسم مثل الأدوية، عملية مُعقَّدة بشكل لا تكفي صفحات لشرحها، لقد صُممت من قِبَل مهندس ذكاؤه يفوق ذكاء العقول البشرية مجتمعة، ففي كل جزئية منها هُنَاك مظهر للتصميم الذكي، كمية تدفق الدم، وكمية خروجه، وآليات مُختلفة للتنقية، وآليات مُعقَّدة عبر خوارزميات مصممة للعمل المتناغم، لو فشل فقط 1 من 1000 منها لما نجحت الكلى في عملها ولما رأينا البشر، 180 لتر يتم تنقيته، لإنتاج 2 لتر من البول، والـ178 لتر يتم إعادتها للجسم من جديد صافية وجاهزة للاستخدام! ولنا أن نتخيل فقط فلتر الماء المنزلي الذي ينقي من 3 أو 4 مواد كم هو مُعقَّد، ولنا أن نتخيل الكلية الصناعية التي صنعها الإنسان كم هي ضخمة ومُعقَّدة لتتم بها عملية بديلة عبر الديلزة Dialysis، في الكلى هُنَاك حجرات مخصصة لتنقية الأملاح المُختلفة، كل جزء مخصص

بعناية لغرض مُحدد.

رسم توضيحي 47 مخطط نظام الرينين أنجيوتنسين، هذا النظام الفرعي والجانبي في عمليات الكلى مرتبط بدقة في كل عمليات الجسم، بدءاً بالدماغ مروراً بالقلب والأوعية ومتداخلاً مع الهرمونات والغدد وكل أعضاء الجسم، هذا النظام المُعقَّد الذي أتعب العُلماء في سبيل محاولة فهمه وصُمم من أجله تطبيقات طبية عديدة في حياة مرضى القلب والأوعية والكلى لا ينم عن تصميم عادي، بل ينم عن عبقرية في التصميم.

بل حتى الكلى قد تكون مسؤولة عن متوسط أعمار الكائنات، فدراسة حديثة تبين أنّ متوسط عمر الكائنات يعتمد على معدل الفسفور في الجسم، فالإنسان متوسط عمره 75 عاماً لأن الكلى تحافظ على معدل معين من الفسفور في الدم، وكلما زادت الكمية قل عمر الكائن وهرول إلى الشيخوخة، ولكن الجسم يحتاج إلى الفسفور، إذ تحتاج العظام إلى فوسفات الكالسيوم في وظائفها، ويتم التنسيق بين الكلى والعظام والغدد بآلية مصممة متبادلة على المحافظة على المعدل اللازم لجسم الإنسان.

التعقيد غير القابل للاختزال

صورة 11 تعقيد ينم عن تصميم

تفترض نظرية التطور أنّ الأعضاء والأنسجة في رحلة تطورها تمر في سلسلة من المراحل الانتقالية، ويقوم الانتخاب الطبيعي بتعديلها ببطءٍ شديد، ثم تُحافظ الأعضاء والأنسجة بذكائها على التغيرات المُفيدة ذات الوظيفة وتُزيل كل ما هو غير صالح أو أقل تكيّفاً، وقد أدرك داروين العقبات التي تواجه فرضيته وذلك في إنشاء التراكيب المُعقَّدة داخل الكائنات، وقد أطلق عليها تسمية: أجهزة مفرطة الإتقان والتعقيد.

الأعضاء المُعقَّدة لا تستطيع القيام بوظائفها إلا إذا وُجدت كاملة، والمراحل الانتقالية المتتالية التي يتوجب أن يسير بها العضو في طريق تطوره الطويل ليس لها أي دور وظيفي إلا إذا كانت موصوفة بدقة كمراحل من المنتج النهائي، ولا تقدم أي ميزة انتقائية، وبذلك يستحيل الدور المفترض للانتخاب الطبيعي في الحفاظ عليها وتثبيتها لأنها مُجرَّد أجزاء حيوية مشوهة ناقصة تُمثل عبئاً على حاملها يجب التخلص منه، فلا فائدة من نتوء في وجه يحتوي على 10 خلايا، سيعرف الجسم بعد مليون سنة أنها ركيزة لعامود من الخرسانة العصبية المسلحة سيرتبط بأنسجة معينة وتراكيب أخرى سيكون اسمها العين، الجسم لا يملك خريطة بنائية حتى يقول: أبقوا هذا النتوء فهو حجر في الموضع 384 حسب الخريطة سيتصل به الموضع 925 ليمر به عصب اسمه ج1426 فيكمل الدائرة.

الانتخاب الطبيعي كما بتنا نعرف عملية لا هدف لها، عمياء عن رؤية المستقبل، لا تمتلك أهدافاً أو غايات، لا يعلم الانتخاب فائدة تلك الخطوات الأولية لأنه يتعامل مع كل تقدم بشكل مستقل، ومعيارا التقييم في الانتخاب هما: النجاح في البقاء، والنجاح في التكاثر، وهو ما يجب أن يتوفر في كل خطوة من خطوات التغيير في نشوء العضو الحيوي، لكن الطبيعة غير الاختزالية للأجزاء الحيوية التي لا تقبل التدرج الوظيفي أو الإنقاص تفشل في هذه العملية تماماً، كذلك إذا كان هذا التغيير تم دون غاية مخططة مسبقة، فما الهدف أو الحكمة من البحث عن تفسيرٍ لشيءٍ نتج جراء الصدفة!

ولتبسيط الفكرة، لنطبق الفكرة نفسها على خطوات رسم شكل مُعقَّد على الورق، ليكن وجه إنسان، ولتكن الخطوط التي نخُطُّها على الورق هي الطفرات، وليكن الانتخاب الطبيعي هو الممحاة التي تُزيل أي خط رُسم عن طريق الخطأ في وجه الإنسان، أول مُشكِلة ستواجهنا في عملية رسم الوجه هي أنّ الخطوط المرسومة (الطفرات) تتم بشكل عشوائي، ونعي جيداً أنه لا يمكن لعدة طفرات أن تحدد بُنية الوجه المُعقَّدة، الأمر يتطلب تقدماً تدريجياً بطيئاً مُتمثلِاً في آلاف الطفرات المُتراكبة، ثم سنرى أنّ أي تقدم بطيء تُقدمه الطفرات أثناء مرورها في المراحل الانتقالية لا يحمل أي دور وظيفي للبنية النهائية لأنّ المخرج النهائي لا يمكن اختزاله وظيفياً، أي أنه لا يمكن لهذه الأجزاء غير الناضجة أن تمارس دوراً مُحدداً إلا إذا وُجدت مكتملة.

هنا يمكننا أن نستنتج أن الانتخاب الطبيعي (الممحاة) لا يستطيع تحديد الخطوط الصحيحة من الخطوط الخطأ التي رسمتها الطفرات المُتعاقبة لتقوم بإبقائها أو إزالتها، وبهذا سيبدو منطقياً أنّ فكرة نظرية التطور مُستحيلة التحقق، ونرى هنا أنّ آلية تطور البُنى المركبة لن تحرز أي تقدم، فهي مجرد مجموعة من الطفرات (خطوط عشوائية) التي سيقوم الانتخاب الطبيعي بمحوها أولاً بأول، لأنها ليست ذات فائدة، وهذا المثال البسيط لا يُساوي نقطة في بحر بناء عضو مُعقَّد كالعين، فالخطوط فيه ستكون بعيدة وفوضوية ومُختلفة الشكل والحجم واللون، أي أنّ التعقيد سيكون بمستويات متعددة.

يستعرض البروفيسور مايكل بيهي أحد منظري التصميم الذكي في كتابه صندوق داروين الأسود أمثلةً متعددةً من النظم غير القابلة للاختزال Irreducible complexity في الكائنات الحية على المستوى المجهري والآلات الجزيئية داخل الخلايا، ويُعرّف البروفيسور النظام غير القابل للاختزال بأنه نظام مركب من العديد من الأجزاء التي تتفاعل بتناسق شديد لإنتاج الوظيفة المسندة بالنظام، ويُتبع ذلك بأن إزالة جزء واحد من أجزائه يُعطل هذا النظام ويُوقفه عن العمل، وهذا يعني أنه قد تم تصميمه من البداية مع جميع أجزائه، وبذلك لا يمكن أن يتكون بعد سلسلة طفرات طفيفة يتم انتخابها، فالتطور لا يمكنه بناء وظائف مُعقَّدة خطوة بخطوة؛ لأن تلك الخطوات لا يمكنها توفير أي ميزة لحاملها، وهذا يعني أنّ الانتقاء الطبيعي لن ينتقي هذا النمو التطوري ويثبته، ولن يسمح لنظام غير كامل وغير فعال بالانتشار من جيل لآخر، فهو لا يُثبت سوى التغيرات الوظيفية وهذا ما تفتقده تلك النُظُم التي لا تعرف وظيفتها إلا بوجودها مكتملة.

لن يُحرز التطور أي خطوة دون وجود مَهمة وظيفية للمراحل الوسيطة؛ لأنه سيفقد معناه الحقيقي المتمثل في قدرة الانتخاب الطبيعي في تثبيت الميزات الوظيفية، وكان الحل الوحيد المتاح أمام التطور هو إيجاد وظائف لكل خطوة انتقالية في سبيل تطور التراكيب المُعقَّدة، وهنا تم استدعاء فرضية إضافية سُميت بفرضية التكيف المسبق Co-option أو exaptation، إذ تقترح فرضية التكيف المُسبق أو الخيار المُشترك آلية غير مباشرة لتطوير البنى الجسدية المُعقَّدة غير القابلة للاختزال الوظيفي، وذلك بافتراض وجود وظيفة ثانوية لأجزاء النظام في تراكيب أخرى والتي يمكنها أن تتكيف فيما بعد لإنتاج النظام الجديد، هذه الفرضية تفشل حين الحديث على المستوى الكيميائي أو حتى على مستوى ترابط الأجزاء المعقدة، كذلك لا تفسر من أين أتت معلومات الأجزاء الثانوية، إذ تفترض وجودها مسبقاً والمزيد من العقبات كما سيتم توضيحه.

يُعد ريش الطيور من الأمثلة الشهيرة على التكيف المُسبق، الذي يفترض التطور وجوده لتدفئة الحيوانات قبل أن يتكيف ويُصبح عاملاً رئيسياً للطيران، ويلجأ التطور في معظم القضايا المشابهة إلى مثل هذه الأفكار دون الخوض في تفاصيل علمية لتجنب الحرج، فنقاش الإشكالية على المستوى المجهري في تراكيب الآلات الجزيئية مثل السوط البكتيري، وآلية استشعار الضوء في نظام الرؤية، ونظام تخثر الدم البشري كمثال شهير استخدمه مايكل بيهي للاستدلال على حجته يظل عَصِيّاً على الحل، فدقة هذا التركيب تجعله يشبه الآلة الميكانيكية، فمثلاً الريش مصمم بآلية واضحة ودقيقة لكي يساهم في الطيران وليس مُجرَّد مادة للتدفئة، وكونه يحمل وظيفة أخرى تفيد في العزل والتدفئة لا يعني أنه تكيف من هذه الوظيفة تماماً بالضبط كأن نقول أنّ وجود جيوب بمعطف التدفئة لكي نضع بها متعلقاتنا يعني بأن المعطف الشتوي قد صُنع في البداية للاحتفاظ بالمتعلقات، هُنَاك نقطة أخرى إضافية فربط تطور الطيران بوجود الريش ليس صحيحاً، لأن الخفاش يُمكنه الطيران دون ريش كما تفعل الفراشة واليعسوب، وإذا احتاج الحيوان أن يُمسي طائراً فلن ينفعه زغب التدفئة في تطوير تلك الخاصية، وتقع تلك الطرق الاستدلالية تحت إطار مُغالَطة رجل القش، كما أنّ عضلات الجناحين وعظمة القص وباقي عظام الطيور بل وحتى رئتيها مصممة بطريقة معينة لأخذ الهواء وحفظه وإطلاقه بطريقة فيزيائية تساعد على الطيران، والعظام خفيفة والعضلات قوية، كله في نظام متكامل وليس كما يقول التطور.


شكل 42 قطع السيارة المختلفة.

تظهر في الصورة مكونات سيارة من نوع سكودا، هذه الأجزاء مجتمعة تكون السيارة العاملة، وهي بلا معنى إن لم يكن هُنَاك مصمم ذكي قد صنعها لمهمة ذات قيمة أسمى من هذه الأجزاء، فالأجزاء مجتمعة لا تؤدي غرضها دون وجود نظام أو سائق يقود السيارة، ودون برنامج تشغيلي داخل أجزائها منفردة أو مجتمعة، ولو قمنا بوضع هذه الأجزاء كما تظهر في الصورة لمدة ألف عام أو أكثر، لن تتكون السيارة، بل سنلاحظ أنها تآكلت بفعل الصدأ واهترأت، ولو تلف أحد هذه الأجزاء فلن نتمكن من شرائه من الطبيعة، بل علينا انتظار الصدفة وعوامل الزمن عبر ملايين السنين أن تصنع غيرها.

كما ونلاحظ أنّ الأجزاء في (شكل 42 قطع السيارة) كلها عبارة عن أجزاء كاملة منفصلة، خذ مثال البطارية أو الشكمان، هي ليست بالمستوى الكيميائي أي ليست في صورة زنك وهيدروجين وكربون، بل هي وحدات كاملة مستقلة تم تصميمها بمهارة وحرفية عالية لتتوافق مع الهدف الذي أُعدت له من قبل المهندس الأعلى، وعلى الرغم من وجودها في حالة وظيفية عليا وليست في صورتها الكيميائية البسيطة، إلا أنّ السيارة لن تتشكل بوجود الأجزاء الكاملة هذه قرب بعضها أو حتى فوق بعضها، فهذه الأجزاء مُصممة بطريقة تكاملية مع كل الأجزاء الأخرى، فالبطارية مُهيأة بقطبين وبقدرة كهربائية معينة ومهندسة صناعياً ليسهل تغييرها وصيانتها … إلخ، ومن المفترض أنه لا هدف نهائي من هذه الأجزاء إلا إذا تكاملت سوياً، فالنابض أو المقبض أو الترس لا قيمة له دون الأجزاء الأخرى، ولهذا تُصدم حينما تسمع أحد العُلماء أو ترى إحدى كتب الكيمياء الحيوية تقول أنه وفي لحظة ما تجمعت كل الأجزاء الحيوية الصغيرة للخلية وكونت الخلية الأولى، وكأن الميتوكوندريا وجهاز جولجي كانا مستقلين في حساء الحياة، وحينما تجمعا، يا للصدفة، كانت عمليات الإدخال والإخراج متطابقتين وكأن الصدفة جمعتهما عن حب!

والعين حينما يضرب الضوء خلاياها الحساسة، تحدث سلسلة من التفاعلات الجزيئية المُتعاقبة والتي يمكن تشبيهها بانهيار قطع الدومينو المُتراصَّة حين نسقط أول قطعة لتؤدي في النهاية إلى نقل النبض العصبي إلى الدماغ، وإذا ما فُقِد جزء في سلسلة قطع الدومينو أو كان معيباً لن يحدث بث للنبض العصبي مما يعنى ببساطة انعدام الرؤية، ويبين هذا أنّ العين أتت بضربة واحدة كما هي الآن، وسنذكر أيضاً عملية تَخثُر الدم، وذكرنا سابقاً سوط البكتيريا، وغيرها من العمليات في الكائنات الحية، فكل عملية هي نتاج التخطيط غير القابل للاختزال.

تفترض نظرية التكيف المُسبق وجود الأجزاء المُختلفة للنظام الحيوي المُعقَّد في سياقات وظيفية مُختلفة في وقت سابق خلال عملية التطور، وهذا الزعم لا يحل الإشكالية بقدر ما يزيدها تعقيداَ، فالأجزاء والبروتينات كانت موجودة في نظام مُعقَّد سابق آخر، وبذلك تم نقل المُشكِلة فقط من النظام الحالي إلى النظام السابق الذي لا يزال يواجه المعضلة نفسها، وسنتحول إلى سلسلة لا متناهية من الانتقالات دون الوصول إلى حل لأصل الإشكال القائم، علاوة على ذلك نوجه تساؤل حول السيناريو غير المعقول الذي سيجبر قطعة من نظام وظيفي قائم لتتخلى عن النظام الذي كانت تُشغله لتُدمره وظيفياً وتُهاجر بطريقة غير معقولة الكيفية، لتجد نفسها متوافقة تماماً مع أجزاء أخرى في نظام أخر قائم بوظيفة مُحددة، فتتداخل في النظام بدقة لتحول الوظيفة إلى وظيفة أخرى.

ليتمكن التطور من وضع اختبار حقيقي حول تفسير أصل آلة جزيئية متكاملة غير قابلة للاختزال وظيفياً يتوجب عليه تتبع الخطوات والشروط التالية وفقاً للبروفيسور أنغس مينوج:

  1. توافر وإتاحة كل الأجزاء اللازمة لتشكيل النظام المطلوب.
  2. تموضع الأجزاء في موقع البناء في الوقت الذي يتطلب وجودها فيه.
  3. التنسيق والتوافق لتلك الأجزاء في الوضع الصحيح لملائمة التركيب في النظام وفقاً للتوقيت والمكان المناسبين لتتفاعل بشكل صحيح داخل النظام.

ويسبق ذلك كله توفر تعليمات التجميع الخاصة لتلك الوظيفة على شريط الحمض النووي وإلا لن يتمكن من الاستمرار عبر الأجيال التالية، وهذه العملية يستحيل إرجائها إلى عمليات عشوائية فمصدر المعلومات الوحيد المعروف عبر التجارب البشرية هو التصميم الواعي، وهذا ما لم يتطرق إليه أنصار رواية التكيف المسبق.

يقول أحد العُلماء المُؤمِنون بالتطور سرعان ما سيتضح فيما بعد أنّ بيهي مخطئ، وأن التعقيد غير القابل للاختزال فتح باباً كبيراً لدعم نظرية التطور نفسها، وحديث هذا العالم هو ما يحيلنا إلى فكرة أيديولوجية التطور وليس إلى نقائه العلمي، يمكن مُراجعة تفكيك عالم البيولوجيا كينيث ميلر لمفهوم مصيدة الفئران، وكيف يمكن أن يتم اختزالها للاستزادة؛ فالعين التي ادّعى بيهي أنه لا فائدة من كونها نصف عين أو أقل، يتبيّن أنها قد تطوّرت وفقاً لعدة مستويات يمكن تلخيصها بالصورة التالية في عيون اللافقاريات البحرية، ابتداءً من البطلينوس Limpet وحتى الأخطبوط Octopus وهي خطوات بسيطة لكن البساطة لا تسعفنا في هذا المقام، لذلك سنسأل باستفاضة:

  1. تكون العين بسيطة وفقط تستطيع أن تكشف لك الليل من النهار دون أي رؤية أخرى.

ونستفسر هنا من العالِم، ماذا تعني بسيطة؟ مثلاً العين تحتوي على 10 مليون خلية، هل البساطة تعني 3 خلايا مثلاً؟ 100 خلية؟ وأبسط مُستشعِر يكشف الليل والنهار مكون من عدة أجزاء مثل العدسة والإلكترونيات والكهرباء والدوائر الكهربائية والغطاء والبرمجة، وكل جزء منها مكون من أجزاء أصغر مُعقَّدة ومُصممة بدقة ومن اختصاص مجال علمي منفرد، ولكي نحاكي العضو نحن بحاجة إلى تكامل كل هذه الأجزاء، والعضو لن يأتي بطفرة أو ألفي طفرة، لدينا مثلاً منطقة عصبية في الدماغ تفهم إشارة الليل والنهار، وهُنَاك عصبٌ بصري يوصل الإشارة من العين إلى الدماغ، وهُنَاك أوعية دموية تُوصل التغذية للخلايا الخاصة بالليل والنهار، وهُنَاك الخلايا نفسها وهي ذات تركيب مُعقَّد، إذ تحتوي على مواد كيميائية لتمييز الليل من النهار وتقوم بإخراج إشارة بناءً على ذلك، أيضاً أريد أن أفهم كيف لطفرة تغير في ترتيب بعض النيوكيلوتيدات أن تبتكر خلية ضوئية حساسة لها! مثلاً أنا أخبرك أنّ إطلاق الرصاص على كتاب شعر لعنترة بن شداد، سيحوله إلى كتاب وصفي لبناء خلية حسية كاملة تستشعر الليل والنهار!، هذه خلايا تحتوي على ملايين البروتينات لتعمل بكفاءة، وكيف ستعلم العين أن المادة الكيميائية مستشعرة للضوء، ولو فصّلنا أكثر لوجدنا أنّ الأمر مُعقَّد وليس شيء بسيط.

  1. يمنح التقعر في العين القدرة على تحديد اتجاه الظل لمن يقع في مجال البصر.

حسناً، تحديد اتجاه الظل، أتصور أن تكون العملية كما يراها العالِم كالتالي، إذ تقول الطبيعة: تفضل أيها الحمض النووي هذه الصعقة الكهربائية لتحدث طفرات حتى تستطيع تحديد اتجاه الظل، لحظة، الطفرة كانت ضارة، نعيد ونجرب غيرها غداً، طفرة أخرى، ما هذا طفرة ضارة أخرى لا معنى لها، ماذا بعد؟ 600 ألف طفرة، حسناً، أخيراً نجحت 3 طفرات، ويا للمصادفة كانت طفرات متتالية وأيضاً كانت رياضية (حسابياً) وذكية، يا لكرم الصدفة، بعد سكب الحبر على الأرض، ظهرت بالصدفة نظرية فيثاغورس مكتوبة بدقة، وهذا الحدث كان في طفرة في الدنا، الطفرة أدّت إلى تراص النيوكليتيدات بطريقة فيزيائية، 5000 نيوكلوتيدية كتبت كود لتحديد اتجاه الظل، ولقد كان هُنَاك تنسيق تصادفي عالي المستوى، بين الطفرة في العين ذاتها، وبين طفرة في الدنا أدت إلى كتابة خريطة بناء هذه الطفرات من جديد لكي تورثها للأبناء، ومن المُفترض أن يكون هُنَاك طفرات أخرى مرتبطة بالطفرات السابقة تقوم بترتيب تعمل على نقل الإشارة بين العين والدماغ، وطفرات أخرى عديدة أدّت إلى بناء العصب البصري وتطويره لفهم الإشارة الكهربائية، كل هذا في خليط من ملايين الطفرات الذكية والمتتالية ذات هدف.

  1. إذا كان الاتجاه يمين، فأعطي إشارة للدماغ شمال (العين تعمل بالعكس).
  2. الإشارة الكهربائية التي قدرتها 4 فولت وتكون متقطعة كالتالي: 0011001 تعني أنّ الاتجاه يمين.
  3. وإذا كانت 0010011 فهي تعني اتجاه الشمال.
  4. وإذا كانت 110011 فهي تعني في المنتصف.
  5. وإذا كانت 11111001 فهي تعني يمين ولكن باتجاه الجنوب وهكذا.
  6. هل حفظت الإشارات أيها الدماغ أم أعيدها من جديد؟، هذه 50 نيوكليتيدية تكونت بالصدفة أرجو أن تفهم سيدي الدماغ، افهمني ووصل أعصابك وافهم إشاراتك حتى يعتبرك الانتخاب الطبيعي عملية وظيفية وتخزنك.
  7. حسناً أيتها النيكيوليوتيدات، لقد فهمتكم، عُلم أرسل.
  8. شكراً أيها الدماغ أرجو أن توثق أيها الانتخاب الطبيعي، الأمور ممتازة، لتنتقل الصدفة إلى الخطوة التالية.
  9. لقد كتبنا الخوارزمية فقط، باقي أن نعدل في الخلايا، نريد أن نعدل الهيكلية حتى نصنع خلايا مُتراصة وتكون مقعرة بعد تراصها، الخلايا في المنطقة رقم 652 في الشبكة بها مُشكِلة، كل الخلايا مُتراصة ولكن هذه المجموعة مزاحة إلى الأعلى قليلاً، لقد أتلفت التراص الخاص بالتقعر.
  10. إلى أين أنت ذاهب؟ لم ننتهِ بعد!

باقي أن نعدل في بروتين الخلايا، نريد بروتين ذكي مكون من 1200 حمض أميني يفهم التقعر ويحوله إلى إشارة كهربائية حتى تفهمه الخوارزمية التي تولدت بالصدفة، أعتذر لقد نسيت، نعيد الطفرات من جديد إلى أن تضبط توليفة ما، اتركوني 2 مليون سنة وسوف أوافيكم، انتظروني، أنا صدقاً أتساءل، وهذه وظيفة العلم أن يتساءل ولا يقترح كلاماً دون دليل.

  1. زيادة التقعر هي المسؤولة عن التركيز.

نريد منك طفرات بحدود 320-502 طفرة جميلات ولطيفات، يأتوك من بين 1 مليون طفرة لأننا نريد حساب التقعر، ونريد أيضاً طفرات أينشتانية ذكية تكون قد درست فيزياء الضوء وبعض الرياضيات حتى إذا تراصّت النيوكليوتيدات وكُتبت خلايا، تكون لديها القدرة على قياس الزاوية الخاصة بالتقعر بطريقة جميلة ونظيفة ودقيقة، تجاوزاً ولأجل الأخوة لنجعلها نصف دقيقة، وأيضاً نريدها أن تتواصل مع العصب البصري وتوسعه قليلاً ليفهم الإشارة ولنرسل معها كُتيب تعليمات الإشارة للدماغ.

انتظر! ونريد حين زيادة التقعر، أن نزود عدد الخلايا، ونريد للخلايا المتقعرة أن تكون بناء على دالة قطع زائد + قطع ناقص، دالة دائرة سوف تفشل، نريد طرفها دائرة، ومنتصفها قطع ناقص، وعلى حفتها قطع زائد حتى يكون تقعر لذيذ، وتفضل هذه هي معادلة الخلايا الخاصة بالتقعر:

رسم توضيحي48 شكل القطع الناقص والزائد والدائرة

معادلة 3 ومعادلة القطع الناقص الرياضية



أرجو أن تدمج هذه الدوال مع بعضها البعض، ثم اضربهم في الخلاط مع بعض الخلايا والأحماض أمينية حتى تصبح عجينة الخلايا مقعرة، وأريد أن تفحصها لتتأكد أنها مقعرة جيداً، لا أريد أي خلية من النصف مليون خلية خارج خط الانحراف.

  1. تشكّل العدسة نوعاً من الوضوح وارتفاع حدّة الرؤية.

لا أستطيع أن أكمل منوال أسئلتي على العدسة الذكية التي تعمل تقريب للصورة ومتصلة بعضلاتٍ خاصة والتي تحتاج إلى أن نذهب إلى مختص بصريات حتى ينحتها ويصنعها لنا لأننا لن ننتهي من تخصيص كل جزئية فيها، وانتبه إلى أنّ العدسة مرنة وتستجيب للعضلات فالعضلات ذكية ومتصلة بإشارات الدماغ، لو ركزنا إبصارنا في كائن ما لقامت بالضغط على العدسة، والعكس صحيح، والتركيز هذا بحاجة إلى إشارات كهربائية من الدماغ لترسلها للعضلات، وتنسيق مضبوط وسائل زجاجي وفهم إشارات جديدة من الدماغ، أي أنّ الصدفة يجب أن تختار مادة خاصة، مرنة وشفافة، ومن المفترض أيضاً كل ملايين آلاف الخلايا الجديدة هذه أن تأتي نتاج 2 مليون طفرة وتكون وظيفية أو على مراحل وظيفية، وانتبه، الطفرة ذكية، فهي جلبت خريطة بناء العدسة في العين، ولم تجلبها في فتحة الأنف، سبحان الصدفة ما أبدعها وما أدقها.

رسم توضيحي 49 تحويل دائرة إلى مربع

إنّ عملية تحويل دائرة إلى مربع عبر طرق عشوائية تتطلب آلاف بل ملايين الاحتمالات، فاحتمالات إخراج نتوءات من الدائرة بشكل عشوائي لا نهائية مما سيُؤَدِي إلى حدوث طفرات لا نهائية تجعل النتوء داخلياً أو شاذاً، لذا هذه العملية البسيطة في هيكلية بروتين أو نسيج لن تحدث مطلقاً بالطفرات، فما بالنا بتغيير شكل عضو!

  1. زيادة صقل العدسة يُؤَدِي إلى رؤية متطورة جداً.

الطفرة ستجعل العدسة بدقة 120 ميغا بيكسل، وحينما أضع جوالي القديم في حمض أو أعرضه للإشعاع، سنلاحظ عبر ملايين السنين أنّ الكاميرا أصبحت Full HD وتحسن نظام التشغيل وزادت الذاكرة تلقائياً ثم عرضت الشاشة هذه الرؤية المتطورة جداً واسمحوا لي بالتوقف عند نقاش النقطة رقم 5 في طرح التطور لتفسير عظمة العين.

ستعلق قائلاً: سخافة! لكني أنتظر ردك على هذه السخافة بدقة علمية، وأنا سأنتظر الإجابة، لأني حينما رأيت بناء البروتين وبناء الدنا واحتمالية تكون بروتين بالصدفة من 10 أحماض أمينية كان أمراً مدهشاً ولربما يستغرق أعواماً، فما بالك بطفرة عشوائية في أحرف الدنا تُؤَدِي إلى إنشاء أنسجة كاملة بخلايا ذكية ومتخصصة بآليات جديدة مثل كشف الضوء وتُنشئ عصباً وغيره، التعقيد غير القابل للاختزال يعني إما أن يكون كل شيء أو لا شيء، لا يوجد حل وسط، شاشة الحاسوب أو الجوال التي تقرأ منها، إما أن يكون مصممها قد صممها كاملة، أو لا يمكن أن تكون قد وصلت إلى المستخدم على أجزاء على مدار آلاف السنين، ولعلك تصدق الصورة التي رأيتها في بداية الفصل هذا، صورة الحجارة على الشاطئ، لعلك تصدق أنّ هذه الحجارة رُصت بهذا الشكل المنظم نتيجة الصدفة، إياك ألا تصدق لأنك تكون قد كذبت العلم، فعملية رص وترتيب عشرون حمضاً أمينياً أصعب عشرات المرات من رص أضعاف هذه الصخور، فما بالك بابتكار خلايا ورصها، فضلاً عن أنسجة كاملة، وستسمع مصطلحات في عالم التطور مثل Self-Organization أي أنّ المواد الكيميائية كان بإمكانها التجمع بطريقة ذكية لتكوين البروتينات، وهي أبعد ما يكون عن الواقع.

ولكي يهرب التطور من التصميم الذكي، نراه يذكر مصطلحاً مطاطيّاً لا معنى له لكي تسرح فيه “التكيّف المسبق”، وكأن التطور مهندس ذكي يخطط مسبقاً لوجود تغييرات ما لكي يبني عليها أمور مستقبلية، ثم نجد التطور يخبرنا أنّ الأعضاء المندثرة تخلًى عنها الجسم لأنها لا تلزم، أما بناء أمور لا تلزم وتركها ملايين السنين أمر يفعله الجسم ولا يدثره، وهذا يطرح مجموعة نقاط:

  1. لماذا على التصميم الذكي أن يجيب على آلية حدوثه، التصميم الذكي أصلاً يؤكد وجود مصمم ذكي أوجده كذلك، لماذا عليه أن يجيب كيف قام المصمم الذكي بعمل هذا التصميم؟
  2. طالما هذا السؤال لا توجد إجابة عليه، لماذا نسير كما يسير التطور، باختراع وتطويع الأفكار لخدمة معتقداتنا غير المثبتة؟
  3. هل من المنطقي استخدام التقنيات الخاصة بالتطور التراكمي لإثبات التطور الموجه؟ فما نفيته قبل بقليل تحاول إثباته الآن.

ثم إذا احتدم النقاش سيطلب منك المُؤمِن بالتطور أن تجلب دليلك على أنّ العين تناسب دورها وأنّ الأعضاء مصممة بدقة لتناسب وظيفتها، وهذا حقه لكن طلبه يضعه في مُغالَطة عبء الإثبات Burden of Truth، لأن من يجب أن يقدم الدليل هو أنت عزيزي المُؤمِن بالتطور، فأنت من تنكر الوظيفة الحقيقية، بالضبط مثل وجود قطعة ما موضوعة لغرض مُحدد في الحاسوب، فإذا قلت إنها بلا فائدة، وجب عليك أن تجلب دليل على كونها بلا فائدة أو أنها لا تؤدي الغرض بدقة، أنت وليس من أعطاك الحاسوب الرائع لتستخدمه.

إنّ من يفترض أنّ التطور هو الطريقة الوحيدة لفهم العالم هو من يضيّق واسع برفضه وجود تفسيرات أخرى ممكنة، هو من يرفض الشمس التي تشرق بالتصميم الذكي في كل حين، ويغلق عينيه، ومن يرى بالتصميم الذكي هو من يؤمن بالتفسير المنطقي الأفضل في هذا الوجود، لا أمانع أن تقول لا يوجد إله، لكن على الأقل، أعمِل عقلك وقِر بالتصميم الذكي، إلى أن يكتشف العلم اللهو الخفي الذي وضع هذا التصميم، ولعلك تشاهد الفيلم الوثائقي “مطرودون: غير مسموح بالذكاء” فترى كيف أنّ كل عالم أو أستاذ يذكر التصميم الذكي يتم إقصاؤه وتهميشه في العالم الحر.

الكيمياء الواعية

إنّ كل مادة كيميائية تدخل جسم الإنسان سواء كانت طعاماً أو دواءً هي سم قد يفيد جسمه! تسبب كل مادة أضرراً عديدة على أنسجة ما في جسم الإنسان، لذا يحاول الجسم عبر تسخير الكيمياء أن يقلل من هذا الضرر قدر المستطاع معتمداً على النظريات الكيميائية الدقيقة، يحذو حذو مختبر كيميائي يضم مئات المختصين الذي يقرروا إجراء تعديلات كيميائية لكل مادة مجموعة لدرء خطرها.

بعد أن يتم امتصاص الطعام من الجهاز الهضمي في عملية دقيقة ومتنوعة الأجزاء، يمر الطعام عبر الوريد البابي Portal vein إلى الكبد أولاً ثم تنتقل المواد الممتصة إلى باقي الجسم، ليبدأ الكبد مُمَارسة ما يبرع به والقيام بما هو مصمم من أجله، ألا وهو إزالة أو تقليل السُمِية من المواد الغذائية عبر عدة تقنيات كإفراز الإنزيمات مثل إنزيم Cytochrome P450 في عملية تسمى إزالة السُّمِية، وإنّ المركبات الكيميائية داخل الجسم مواد شديدة التعقيد، ويدرسها علم في كيمياء الأدوية يركز على فهم الشكل الكيميائي وعلاقته بالتأثير الحيوي على الكائنات، وكيف يمكن كيميائياً تحسين تأثير أي مادة كيميائية عبر تقليل سُميتها أو تحسين عملها أو إطالة مدتها أو تحسين إخراجها بل وصناعة مادة مضادة لها داخل الجسم، وهذا ما يقوم به الكبد حرفياً.

وقد وجد العُلماء أنّ هُنَاك مجموعات كيميائية مُحددة تؤثر على خلايا معينة في جسم الإنسان، وببعض التعديلات الكيميائية المدروسة يمكن تحسين تأثيرها وتحقيق الاستفادة الطبية منها، فمثلاً المجموعات التي تحتوي على مجموعة أمين رباعية، يمكن أن تعمل كمسكن عضلي جيد، ولكي يعمل مركب ما على المستقبلات الأدرينالية Adrenergic يجب أن يكون له هيكلية معينة، وهكذا.

إنّ عملية تصميم الأدوية عملية مُعقَّدة ترتبط بعوامل عديدة مثل الحامضية والذوبانية والقطبية والذرات المجاورة للمجموعة الوظيفية والتهجين… إلخ، إذ يجب أن تكون المادة ذات حامضية معينة ليمتصها الجسم ثم ذات حامضية أخرى لتصل إلى الخلية، ثم ذات ذوبانية أخرى لكي تدخل الخلية وهكذا، إلى أن يتم تعديلها مرة أخرى لتخرج عبر الكلية، ولهذا تصل عملية اكتشاف دواء جديد إلى ابتكار ما يقارب 10 آلاف مادة كيميائية وتجربتها وتحسينها عبر عشرات المختصين في الأحياء والكيمياء العضوية والحيوية والأطباء والفنيين بتكلفة قد تصل إلى 500 مليون دولار، ومدة 10 سنوات في المتوسط، هذا كله لإخراج مركب واحد فقط لا يقتل الإنسان ولا يدمر الأنسجة ويتكامل مع مئات آلاف المركبات الأخرى في الجسم.

تبدأ عملية إزالة السُّمية من المعدة ثم تمر على بكتيريا الأمعاء ثم تصل إلى ذروتها في الكبد عبر تأثير المرور الأولي First pass effect وذلك عبر طورين كيميائيين عظيمين صنفهم العُلماء هما تفاعلات الطور الأول Phase 1 Reactions وتفاعلات الطور الثاني Phase 2، وعملية تحول المواد حيوياً باستخدام الكيمياء تتم داخل الجسم في الكبد وفي أماكن أخرى لكن سنركز على الكبد وعلى الطورين الشهيرين، إذ يجري فيهما تحويل المواد الكيميائية إلى مواد ذات ذائبية أعلى يسهل إخراجها عبر الكلى، وذات سمية أقل على الجسم [126]، وهذين الطورين متكاملين ولهما نظام برمجي موحد، إذ لا تتم العمليات عشوائياً بل عبر آلية واضحة وبمواد مُحددة لكل طور من الأطوار المُختلفة والمرتبطة بعمليات الجسم اللاحقة.

وفي تفاعلات الطور الأول تتم عدة عمليات كيميائية بطريقة دقيقة مباشرة وغير مباشرة حسب المادة إلا أنها في النهاية تتمثل في عمليات كيميائية على المجموعات الوظيفية في المركبات الكيميائية مثل العمليات التالية:

  1. أكسدة Oxidation.
  2. اختزال Reduction.
  3. تحلل مائي Hydrolosis

لا أريدك أن تفكر كثيراً حول كيف يمكن للكبد أن يحدد المجموعة الوظيفية الكيميائية في المركب ويستبدلها بمجموعة أخرى؛ لأن ما يقوم به الكبد كيميائياً أكثر تعقيداً من هذه العملية البسيطة، والمجموعة الوظيفية هي المجموعة التي تعطي المركب المُعقَّد وظيفته الكيميائية وهي ذات طرق تحديد كيميائية لا داعي لاستعراضها، ويعرف الكبد عمليات كيميائية شديدة التعقيد، مثل أنّ استبدال مجموعة كيميائية بمجموعة أخرى تُبقي على المركب فاعل، لكنها تقلل من درجة الحموضية أو تزيد من درجة الذوبانية، ويتم نقل بعض المواد من الطور الأول إلى الطور الثاني الأكثر تعقيداً، إذ تتم فيه عملية إضافة مجموعات وظيفية على المركب لتحويله إلى مركبات ذات فاعلية كيميائية أقل.

ولتوضيح جزء من العمليات الكيميائية، سنستعرض فقط عملية واحدة من عمليات الطور الأول، لأنّ ذكر جميع العمليات والأطوار سيُكلفنا مجلداتٍ كثيرة، لنستعرض عملية الأكسدة فهي الأشهر وتحدث بكثرة في الإنزيم Cytochrome P450، فهي تحدث على أحماض أمينية وستيرويدات والكثير من المواد العضوية في الكائن الحي، وتحدث أيضاً على مواد دخيلة على الجسم مثل الأدوية والمبيدات الحشرية والملوثات وكل ما لا يعرفه الجسم من مواد كيميائية، ولا أعرف ماذا أشرح من تعقيد هذه العملية، لأنها متكاملة ولها شروط كثيرة، ومن هذه القائمة الطويلة لبعض العمليات التي سجلها العُلماء، سنأخذ نموذجاً على عمليات الأكسدة:

Oxidative Reactionsتفاعلات الأكسدة

  1. Oxidation of aromatic moieties.
  2. أكسدة الأولفينات Oxidation of olefins.
  3. Oxidation at benzylic, allylic carbon atoms, and carbon.
  4. ذرات إلى الكاربونايل والإيمينات Atoms to carbonyl and imines.
  5. Oxidation at aliphatic and alicyclic carbon atoms.
  6. Oxidation involving carbon–heteroatom systems…
  7. أكسدة الكحول والألدهيدات Oxidation of alcohols and aldehydes.
  8. Other miscellaneous oxidative reactions.

وسنأخذ نماذج على أكسدة الحلقات الأروماتية Oxidation of Aromatic كما في (شكل 43 أكسدة الحلقات الأروماتية).


شكل 43 أكسدة الحلقات الأروماتية.

وكل سهم في (شكل 43 أكسدة الحلقات الأروماتية) (كحلقة البنزين) يشكل عملية مستقلة في هذا الجزء من عمليات الأكسدة على المواد الأروماتية وله قوانينه الخاصة، فمثلاً السهم الأول على اليسار والذي فيه تحول الأرين إلى أرينول نجده يمر بعدة مسارات لاحقة معدة خصيصاً له، ولكل مسار عوامل حفازة وشروط فيزيائية وكيميائية خاصة به، وقد تتم العملية في الطور نفسه أو في أطوار لاحقة كما في (شكل 44 بعض مسارات الأرين المُختلفة).


شكل 44 بعض مسارات الأرين المُختلفة.

شكل 45 مثال مباشر على عمليات أكسدة على دواء الباراسيتامول والفينيتوين وهرمون الجنس الإستراديول

[126].

العجيب أنّ هذه العمليات تحدث وِفق آلية معينة في إطار مغلق وحسب المواضع الكيميائية المُختلفة، فمثلاً لو حدثت عملية الأكسدة وكان في المركب مجموعة ساحبة للإلكترونات، فسيختلف موضع اتصال مجموعة الهيدلوكسيل OH من أورثو إلى ميثا إلى بارا في حلقة الفينول، وإذا كان في المركب أكثر من حلقة أروماتية فستحدث عملية الأكسدة على حلقة واحدة منها فقط! وإذا وُجد في المركب حلقتين أليفاتية وأروماتية فستحدث عملية الأكسدة على المجموعة الأروماتية، وهي تحدث لآلية كيميائية في الطبيعة، لكن كيف للجسم أن يفهمها ويحدد أنّ الحلقة الأروماتية حين تتأكسد أفضل من أن تتأكسد الحلقة الأليفاتية [127] من بين ملايين احتمالات التفاعلات الكيميائية التي قد تحدث في حالة واحدة من حالات عمليات الطور الواحد! هذا السؤال الذي لو أجاب عنه التطور وبين لنا كيف للكيمياء أن تكون ذكية وتفهم جسم الإنسان وتقدم هذه الآلية على ملايين المركبات التي تدخل الجسم وتفحصها وتجري عليها عمليات بناء على مجموعاتها وشكلها الكيميائي، سيكون قد ربح المليون.


هذا غيضٌ من فيضٍ من عمليات الطور الأول في الكبد، يمكنك رؤية العجب العجيب في مئات العمليات الأخرى يعرضها بشكل مبسط كتاب Wilson and Gisvold’s Textbook of Organic Medicinal and Pharmaceutical Chemistry، لتعرف كم درس كبدك الكيمياء العضوية ونال أعلى الدرجات بها، وليس الكبد فحسب، بل كل عملية تحدث من مليارات العمليات كل ثانية في جسم الإنسان، لهي عملية كيميائية دقيقة بحاجة إلى شرح وتوضيح من التطور، ولو قرأت أي كتاب عن كيمياء أي كائن حي آخر، ستندهش أشد الاندهاش، جرب ألا تفكر في مملكة الحيوان، وفكر في مملكة النبات فقط، وانظر لكتاب Chemistry of Plant Natural Products الذي يستعرض بعض تفاعلات النباتات التي نراها “بسيطة” في حين أنها أسطورية كيميائياً، ولعلك تتعجب أكثر حينما تعرف أنّ كثير من تفاعلات الكيمياء في جسدك تتم عبر روابط فاندرفالز Van der Waals، وهي روابط ضعيفة غير تساهمية، أي ليست دقيقة أو معدة للتبادل التام بين المركبات، لتتصور أكثر، بدلاً من أن يقوم البروتين بلمس الدنا لإحداث تأثير مُحدد، يلزمه فقط أن يمر بجانبه، ليقع التأثير المخطط له، وتظهر النتيجة الصحيحة، أي أنّ البروتين لا يلزمه أن يصافح الدنا، فقط يلزمه أن يشير من بعيد بالسلام قائلاً: لكم عيناك جميلات أيها الدنا، ليخجل الدنا وتحمر وجنتيه.

رسم توضيحي 50 الفرق بين الحلقة الأليفاتية والحلقة الأروماتية في الكيمياء العضوية كبير وجلي.

الأمراض الجينية

نعلم أنّ الإنسان يحمل 46 صِبغيّاً جسدياً (كروموسوم)، منها 44 صِبغياً تدعى الصِبغيّات الجسدية، وصِبغيّان يسميان الصبغيات الجنسية، المسؤولان عن تحديد جنس المولود:

  1. فإذا كان هذان الصِبغيّان هما (XY): فالجنس ذكر ويعبر عنه بالصيغة (46,XY).
  2. وإذا كان هذان الصِبغيّان هما (XX): فالجنس أنثى ويعبر عنه بالصيغة (XX,46).

لكن لو امتلكت الأنثى صبغياً جنسياً واحداً (X) بدل اثنين (XX)، يطلق العُلماء على هذه الحالة متلازمة تيرنر Turner’s Syndrome وهي من الشُذُوذات الصبغية الشائعة، وتحدث نتيجة غياب صبغي (X) غياباً كلياً أو جزئياً، وذلك لدى أنثى من كل 2500 أنثى مولودة، ويُميز هذه المتلازمة مظاهر عديدة مثل [128]:

  1. قِصر القامة وهو المظهر العام عند جميع المصابات.
  2. تورّم اليدين والقدمين وشُذُوذات في الأظافر والرقبة المجنحة والصدر المدرّع وتباعد حلمتي الثدي.
  3. قد يُصاب الجهاز القلبي الوعائي بارتفاع ضغط شرياني بسبب ضيق الشريان الأورطي.
  4. أما الجهاز الهيكلي فقد نشاهد فيه صغر الذقن في نحو 60٪‏ من المصابات، وغيرها من التشوهات العظيمة، وتأخر نمو عظمي وهشاشة عظام.
  5. قد يحدث في الجهاز البولي شُذُوذات في الكلى فتأخذ الكليتان شكل حدوة الحصان، وانسداد في الحالب.
  6. يحدث قُصُور مبيضي في الجهاز التناسلي لدى 95٪‏ من المريضات، وهذا في الغالب يُؤَدِي إلى انعدام الطمث وانخفاض هرمون الأستروجين، وبذلك يحدث العُقم ويقل تطور الثديين.

وغيرها من الأعراض مثل قُصُور الغدة الدرقية، وضعف الرؤية والسمع، وانخفاض قليل بمعدل الذكاء.

لكن، ماذا لو حدث خلل ما في كروموسومات أخرى، فمثلاً لو حدث في كروموسوم 21 نسخة إضافية لحصلنا على ما نراه دائماً من متلازمة داون، فهي سببها تضاعف الكروموسوم 21 وحصول الإنسان على 47 كروموسوم بدلاً من 46، ونعلم الأعراض المدمرة على جسم الإنسان نتيجة زيادة هذا الصبغي.

ثَمَّة أمراض كثيرة متعلقة بالكروموسومات ونتائجها مرتفعة جداً على جسم الإنسان، إما الموت وإما تشوهات كثيرة لربما كان الموت نهايتها أيضاً، سبق وتطرقنا إلى أمراض الجينات التي تعد بالآلاف، فأي خلل في الجينات نتيجة لطفرات مثلاً أو لمُشكِلة الانهيار الجيني تحدث مشاكل وأمراض مرعبة، فمُشكِلة في الجين المسؤول عن سُمك وريد سيُؤَدِي إلى ضعف الدم في العضو المرتبط بهذا الوريد، ومن ثم فقده لجزء كبير من دوره، مُشكِلة في بروتين معين تؤدي إلى حدوث مشاكل لا نهائية في كل الجسم.

ما أريد قوله إنّ العشوائية والصدفة غير مقٌبولتين في جسم الإنسان، غير مقٌبولة في عملية الإنتاج من الأساس، وأي تغييرٍ بسيطٍ أو خطأٍ تافهٍ يُؤَدِي إلى دمارٍ كبيرٍ وهائل، فكم هي احتمالية حدوث مُشكِلة في الـ 46 كروموسوم حينما ينقسم بشكل عشوائي ودون تخطيط مسبق؟ الاحتمالات تتعدى الملايين، مثلاً تشابك أطراف خطأ، اقتصاص خطأ، بنية خطأ، فقد كروموسوم، زيادة واحد، فقدان نصف كروموسوم، تلف مسبق، وجود مادة كيميائية في المحيط تفسد بروتين معين.. إلخ، وخطأ واحد يُؤَدِي إلى عدم تكون حياة، أو الموت الحتمي أو إذا كان محظوظاً ستحدث تشوهات مصيرها الموت.

انظر أيضاً إلى المشاكل التي تحدث جراء أي خلل في جسم الإنسان مهما كان بسيطاً، فترى الجسم كله يحدث له فقد في الوظيفة، فمثلاً لو أُصيبت عضلة الساق بطلق ناري، أو تم قطع القدم ووضع بدلاً منها طرف اصطناعي، ستتوقف كل ديناميكية حركة الساق بشكلها المُتناسق، الحركة الدائرة والمنتظمة والمتوافقة، ستعلم أنّ القدم أو الأعضاء وجدت كما هي بتصميم كامل، ولا يُعقَل أن يكون ظهر شيء منها بالصدفة أو على حدة، والدليل أنّ الاتزان والتناسق تفقده الأعضاء في أي خلل بسيط.

تخزين وحرق السكر

أثناء عملية هضم الطعام يقوم الجسم بتحويل النشويات والسكريات (الكربوهيدرات) إلى سكر الجلوكوز اللازم لنمو وتغذية الخلايا، لكن لو تناول الإنسان طعاماً أكثر من المطلوب وحصل الجسم على الكمية المطلوبة من الجلوكوز، فإنه سيقوم بتحويل الجلوكوز إلى مادة الجليكوجين في عملية تدعى توليد الجليكوجين Glyco-genesis وكلمة genesis تعنى توليد أو تخليق (شكل 46 توليد الجليكوجين)، وهذه العملية مهمة جداً في أجسام الكائنات لأنها تحفظ الطاقة لاستخدامات طوال الوقت، ولكن لماذا لا يحفظ الجسم الجلوكوز على الهيئة نفسها، لماذا يخسر طاقة في تحويله إلى جليكوجين وسيقوم مستقبلاً بخسارة طاقة حينما يعيد تحويله إلى جلوكوز، أليس من الأفضل حفظه على حالته العادية؟


شكل 46 توليد الجليكوجين.

والإجابة على هذا السؤال مدهشة، إذ اتضح أنّ هُنَاك العديد من الأسباب لهذا الأمر، وعلى رأسها أنّ الجلوكوز (السكر) لو قمنا بحفظه في منطقة بتركيز عالٍ في الجسم كالكبد والعضلات، فسيحدث ضغط إسموزي وستتجمع المياه لتعادل الضغط الأسموزي العالي للجلوكوز، أي أنّ كبدك سيزداد حجمه من الماء وسيحدث ضرر لا شفاء فيه، ومن ناحية أخرى: لنفترض أنه لديك مجموعة من الألواح الخشبية، هل تفضل أن تضعهم في المخزن فوق بعض دون ترتيب، أم تفضل وضعها مرتبة ومنظمة؟ أي الطريقتين تستهلك مساحة أقل؟ نحن نعلم أنّ الألواح المرتبة تستهلك مساحة أقل، أكيد دُهشت من التصميم الهندسي لهذه الفكرة كما اندهشت أنا و70 آخرون، ولنعلم أنه لا شيء اعتباطي في جسم الإنسان، هُنَاك أسباب أخرى مثل أنّ الجلوكوز يتكسر ولا يدوم، وأنه لا يمكنه مغادرة الخلية بعد دخولها بسهولة، رايح فين! دخول الحمام يا عم الجلوكوز مش زي خروجه.

رسم توضيحي 51 السكر المرتب، والسكر غير المرتب.

ويبدو واضحاً أنّ الأشكال المنظمة بعناية تستهلك مساحةً أقل من الأشكال غير المنظمة، حينما يرى الأنسولين أنّ الجلوكوز زاد عن حده في الجسم ولا فائدة منه فإنه يأمر الكبد عبر آلية طويلة أن يحول الجلوكوز إلى جليكوجين، ويحدث العكس حينما يحتاج الجسم إلى جلوكوز ولا يوجد كمية كافية منه، إذ يقوم الجسم بتحويل الجليكوجين إلى جلوكوز في عملية تُسمى تحلل الجليكوجين Glycogeno-lysis وكلمة lysis تعنى تحليل أو تفكيك أو تكسير، أي تكسير الجليكوجين (شكل47 تحلل الجليكوجين)، ويتحكم في هذه العملية هرمونان، هما الأنسولين من البنكرياس، والأدرينالين epinephrine من الغدة الكظرية، إذ يفرز البنكرياس الأنسولين استجابة لانخفاض الجلوكوز في الدم، وتفرز الغدة الكظرية هرمون الأدرينالين استجابة للضغط (خوف أو قتال)، وكلاهما يوقفان أي عملية توليد للجليكوجين موجودة حالياً، ولا يخبرني أحد هذا بديهي، فليس من البديهي أن تضغط على الزر فيفتح باب المصعد وفي اللحظة نفسها يضيء الضوء الموجود فيه، بل هو من تصميم المهندس والمهندس فقط من وضع هذه الحركة [129].


شكل47 تحلل الجليكوجين.

في حالات المجاعة أو الصيام أو الرياضة الشديدة يقوم الجسم عبر عملية ثالثة تُدعى استحداث الجلوكوز Gluco-neo-genesis، إذ يتم توليد الجلوكوز من مواد أخرى غير الكربوهيدرات (شكل 48 استحداث الجلوكوز)، نحن في حالة مجاعة ونريد استهلاك مصادرنا، لدينا مثلاً دهون، لدينا بروتينات إذا نفذت الدهون ولدينا أحماض أمينية أيضاً، كل ما يمكن حرقه لكي نولد طاقة، فيقوم الجسم بتوليد الجلوكوز من هذه المواد، وتحدث هذه العملية في الكبد وجزء صغير منها في قشرة الكلية، وجزء أصغر أكثر يحدث في العضلات وفي الدماغ أو القلب أو أي أنسجة أخرى، والعملية طويلة ومتداخلة فنجد هنا تدخل دورة كريبس ولدينا مسارات متعددة، نواتج متعددة من العملية مثل حمض اللاكتيك لذلك نسمع بأن لاعب كرة القدم بعد أن ركض مسافات طويلة أصابه تصلب العضلات [130].


حينما تحدث مشاكل في حرق السكر في الجسم لأسباب عدة كنقص في الأنسولين أو لعدم حساسية الخلايا (كما في مرضى السكري) تحدث حالة مرضية بعد فترة تدعى DKA Diabetic ketoacidosis، إذ تحتاج الخلايا إلى جلوكوز ولكن لا يوجد أنسولين، فيتم توليد الجلوكوز في الكبد من الجليكوجين المخزن ولا حرق لهذا الجلوكوز عبر عمليات إنتاج الجلوكوز، يحاول الجسم التخلص من هذه الكميات الكبيرة من الجلوكوز عبر آليات عدة، تصل في النهاية إلى ضغط على الكلى لتقوم بإخراج الجلوكوز، وتمتص الكلى الصوديوم والبوتاسيوم في العملية ثم تقوم بإخراجهم مع الجلوكوز في عملية تعرف بِدَر البول الأسموزي، وهذا ما يجعل مريض السكري يتبول كثيراً، ويُصاب بالجفاف إن لم يقُم بشرب كميات كبيرة من الماء، ورغم ذلك يستمر الجسم بإصدار إشارات الشعور بالعطش الشديد.


شكل 48 استحداث الجلوكوز

غياب الأنسولين يجعل الخلايا بحاجة إلى الطاقة، فتنشط عملية حرق الدهون الحرة من الأنسجة الدهنية lipolysis، وتتم في ضوء عملية تدعى beta oxidation وتحدث في الكبد أيضاً، وينتج عنها مواد كيميائية عضوية أساسها مجموعة الكيتون وتسمى ketone bodies، ولهذا السبب تسمى عملية Diabetic ketoacidosis وهي البديل للطاقة في غياب الأنسولين، ولو استمر الوضع سيقوم الجسم بحرق البروتينات إلى أن تتهدم الأجهزة وتكون رائحة أنفاس المريض كرائحة التفاح بسبب رائحة الكيتونات الأشبه بالفواكه، العملية متشعبة وتؤثر على كل عمليات الجسم ولها تداخل ما بين مثلاً السوائل والحامضية والـ buffer systemوغيرها الكثير، وهذا يقودنا إلى فكرة التصميم الكامل والذكي، فحتى في حال وجود مُشكِلة، هُنَاك خطط باء وجيم ودال بآلية مرتبة متناسقة مع كل أعضاء الجسم.

رسم توضيحي 52 مخطط عمليات حرق وتوليد الطاقة.

هذه صورة بسيطة من تفاعل إحدى العمليات، ولقد نجحت في مادتها الجامعية من أول مرة بأعجوبة، أما بقية التفاعلات ستجعل من دورة حمض الستريك مزحة.


الجدير بالذكر أنّ الكثير من التفاعلات التي تتنوع وتختلف كثيراً وتتكرر يومياً ملايين المرات تتم بدقة عالية وفق خطوات مدروسة، فتجد إحدى التفاعلات بحاجة إلى درجة حرارة منخفضة، ثم في الخطوة التالية إلى درجة حرارة مرتفعة، ثم منخفضة، ثم دخول مادة، وخروج أخرى، وحماية أجزاء معينة بإضافة مادة معينة، ثم العودة إلى خطوة سابقة وإزالة أجزاء معينة، وتكرار التجربة في خطوة معينة، وإن أبسط المواد الكيميائية والمؤثرات الفيزيائية كالضوء تؤثر على التفاعلات ما لم تتم في بيئة مغلقة! وقد ابتكر المصمم الإنزيمات للقيام بالعديد من هذه الأدوار في سلاسة ويسر.

تجلط الدم

من العمليات المُدهشة التي تحدث في جسم الإنسان عملية تجلط الدم وتخثره، فالجسم يقوم بإغلاق الجروح ومنع نزف الدم من خلال إغلاق الأوعية الدموية المصابة بواسطة الصفائح الدموية وبعض المواد الأخرى التي تشكل جداراً عازلاً يوقف فقد الدماء ويصلح الجرح.

شكل 49 تفاعل تكسير الجلوكوز، وهي عملية كيميائية طويلة وهي واحدة من ملايين العمليات المشابهة!

يُعد تجلط الدم من المواضيع التي يخصها علم الأحياء بالدراسة العميقة، وهي من العمليات الحيوية الكفيلة بحفظ استمرار عملية تجلط الدم، تحدث عملية تجلط الدم عبر عاملين اثنين هما العامل الخلوي (الصفائح الدموية) والبروتين (عامل التجلط)، ولقد خضعت عملية تجلط الدم التي تحدث في جسم الإنسان لأبحاث كثيرة، ولهذا تم فهمها بشكل كبير، وذلك لما لها من تطبيقات وأدوار مهمة في مجالات الطب [131].

تبدأ عملية تجلط الدم بعد تلف الغشاء المبطن لجدار الوعاء الدموي على الفور، فتحدث بعض التغيرات في الصفائح الدموية وفي أحد بروتينات البلازما وهو الفيبرينوجين الذي يمثل أحد عوامل تجلط الدم، لتعمل الصفائح الدموية على تكوين سدادة صفيحية على منطقة الإصابة بالوعاء الدموي، وتحدث عدة عمليات متسلسلة أخرى إذ تستجيب البروتينات الموجودة في بلازما الدم والتي تعرف بعوامل التجلط أو عوامل التخثر، وتتفاعل في صورة شلال مُعقَّد لتشكل خيوط الفيبرين التي تقوي الجبيرة التي كونتها الصفائح الدموية من قبل.


شكل 50 سير عمليات وعوامل تخثر الدم.

كما نرى في (شكل 50 سير عمليات وعوامل تخثر الدم). هُنَاك عدة عوامل مسؤولة عن عملية التجلط، وتتمثل العملية في مسارين منفصلين ويُعد مسار العامل النسيجي مساراً رئيسياً؛ إذ تبدأ فيه عملية تحفيز تدفق الثرومبين الذي يعد أهم عناصر شلال التخثر من حيث الأدوار التي يلعبها في تنشيط التفاعلات في عملية تجلط الدم، ينتشر العامل VIIa في صورته النشطة بعد إصابة أحد الأوعية الدموية، وينفصل العامل VII عن مسار الدورة الدموية ويتحد مع العامل النسيجي الذي تحمله وتنقله الخلايا الحاملة إلى العامل النسيجي مكوناً مركباً مُعقَّداً مع العامل النسيجي واختصاره TF-FVIIa، وبدوره يقوم هذا المركب TF-FVIIa بتنشيط العاملين IX وX، ويتم تنشيط العامل VII نفسه بفعل الثرومبين والعامل XIa النشط والعامل XII والعامل Xa النشط، يقوم كل من العامل Xa النشط والعامل Va النشط بتكوين إنزيم البروثرومبينيز الذي يعمل على تنشيط بروتين البروثرومبين وتحويله إلى الثرومبين [132].

ثم يقوم الثرومبين بتنشيط العناصر الأخرى الموجودة في شلال التخثر، بما في ذلك العاملين V وVIII الذين يعملان على تنشيط العامل XI الذي يقوم بدوره بتنشيط العامل IX، وكذلك يقوم الثرومبين بتنشيط العامل VIII وتحريره من التصاقه بعامل فون ويلبراند، يعد العامل VIIIa النشط هو العامل المساعد للعامل IXa النشط، إذ يتحدان معاً ليُكوّنا المركب الإنزيمي الذي يقوم بدوره بتنشيط العامل X، وتستمر دورة عملية تجلط الدم.

يبدأ مسار التفعيل الآخر بتكوين مركب أولي على الكولاجين عن طريق الكينينوجين HMWK والبريكاليكرين والعامل XII، ثم يتحول البريكاليكرين إلى الكاليكرين، وكذلك يصبح العامل XII عاملاً نشطاً بعد تفعيله، فيقوم العامل XIIa النشط بدوره بتفعيل العامل XI ليصبح عاملاً نشطاً، ثم يقوم العامل XIa الفعال بتنشيط العامل IX الذي يعمل مع العامل VIIIa النشط، وهو عامله المساعد على تكوين المركب الإنزيمي الذي يقوم بدوره بتنشيط العامل FX ليصبح عاملاً فعالاً.

يُؤَدِي الثرومبين العديد من المهام والأدوار في هذا المسار، إذ يتمثل دوره الرئيسي في تحويل الفبرينوجين إلى الفبرين الذي يمثل العنصر الأساسي في تكوين الجبيرة لوقف نزيف الدم، وإضافةً إلى ذلك، يقوم الثرومبين بتنشيط العاملين VIII وV وبروتين C المثبط لهما في وجود مادة الترومبوموديولين thrombomodulin، كما يعمل على تنشيط العامل XIII الذي يُكوِّن روابط تساهمية مع بوليمرات الفيبرين الثابتة، يظل شلال التخثر في حالة تزيد معها احتمالية تكوُّن الجلطات الانسدادية من خلال التنشيط المستمر للعاملين VIII وIX لتكوين المركب الإنزيمي، حتى يتم خفض تلك الاحتمالية بفعل مضادات التجلط [133].

هُنَاك بعض العوامل المساعدة في عملية التجلط مثل عنصر الكالسيوم ومركب الفوسفوليبيد، إذ يساهم الكالسيوم في الربط بين المركبات من خلال رواسب معينة موجودة على العاملين Xa وIXa النشطين من ناحية ويقوم أيضاً بتفعيل عوامل أخرى في العملية ككل، أيضاً يُعد فيتامين K عاملاً أساسياً بالنسبة لإنزيم جاما جلوتاميل كربوكسيليز الذي يفرزه الكبد والذي يضيف مجموعة كربوكسيل إلى رواسب موجودة على العوامل II وVII وIX وX، هذا بالإضافة إلى عدد من البروتينات مثل بروتين S وبروتين C وبروتين Z.

العجيب أنه رغم توفر هذه العوامل في الدم، وتسري بسريانه، إلا أنها لا تنشط إلا عند حدوث جرحٍ ما بالفعل، إذ تتكاثف وتتفاعل وفق آلية دقيقة جداً وتعمل على انسداد الجرح، أي خطأ أو نقص في أحد العوامل سيُسبب أمراضاً خطيرة تمنع تجلط الدم، وثَمّة آليات معينة تساعد على الحفاظ على تنشيط الصفائح الدموية وتفعيل شلال التخثر بطريقة منظمة ومنع حدوث جلطات اعتباطية في الجسم، فبروتين C من العناصر الرئيسية الموجودة في الدورة الدموية التي تُعتبَر مضادة لتجلط الدم، مع عوامل أخرى كثيرة، وبعد عملية الإصلاح وبناء الجبيرة تكون الجبيرة أكبر من اللازم وبحاجة إلى نحت وتنعيم وإزالة الزوائد، لذا يقوم بروتين البلازمين بتحليل الفبرين إلى نواتج تحلل الفبرين التي تثبط تكوّن كميات إضافية من الفبرين.

هذا الفهم الدقيق لعملية التخثر أدّى إلى إنتاج أدوية تمنع تجلط الدم كالأسبرين والكلوبيدوجريل والديبيريدامول والتيكلوبيدين، وأدوية أخرى تقوي التجلط، بل وساعدت العُلماء على استخدام عوامل التجلط في تطبيقات كثيرة، كتذويب الجلطات للمصابين بجلطات في القلب مثلاً، واستخدام الهيبارين والوارفارين المضاد لتجلط الدم وما شابهه من مشتقات الكومارين، والكثير من الأدوية والآليات لعلاج الأمراض أو للمساعدة في عملية العلاج والتشافي. أما عن الأمراض الجينية التي تصيب هذه العملية المعقدة فحدث لا حرج، وقد كنت قد وضعت جزء منها في هذا المكان لكني أزلتها لأنها تتعدى الثلاث صفحات، وكل هذا الاستطراد في الشرح وكل هذا التوضيح هو لإيصال الرسالة الهامة، العمليات هذه معقدة بشكل كبير جداً جداً، وهي مصممة بدقة عبقرية، ويستحيل أن تنتج جراء الصدفة.

الغريب أنّ هذه العملية المُعقَّدة موجودة في كل الثدييات تقريباً، والسؤال المعهود: ماذا لو حدث التطور جزيئياً وفقدنا أحد أجزاء سلسلة تخثر الدم؟ هل كان ليحدث هذا التسلسل وينسال تتابع التخثر؟ إنّ أي توقف أو أي مُشكِلة في هذا التسلسل سيكون الدم قد نفد من الجسم ومات الكائن على الفور، وهذا يقودنا إلى فكرة أنّ من صمم الكائن الحي قد صمم آلية الجبيرة هذه، صمم الاثنين في وقت واحد، صمم المصعد وصمم آلية عمل الكوابح حتى لا يقع المصعد في حال وقوع خلل ما وانقطع الحبل، ومن غير المنطقي الاعتقاد أنّ الكوابح في المصعد تطورت تلقائياً، والكوابح لا تساوي في تعقيدها جزءاً من عملية التخثر.

تحول الكائنات

الاستحالة أو التحول Metamorphosis عملية مُدهشة نرى فيها الحيوان بعد أن يفقس أو يولد يتحول من كائن إلى كائن آخر، وفي المرحلة الأولى يكون جسده بحالة معينة، ومن ثم ينتقل إلى الحالة الكاملة في مرحلة تحول كاملة كما لو أنه كائن آخر مُختلف، وتحدث هذه العملية في كثير من الكائنات كالحشرات والبرمائيات والرخويات والقشريات واللاسعات وشوكيات الجلد وحبليات الذيل، وعادة ما يصحب ذلك تغير في الموطن أو السُلُوك [135] [136].

لنأخذ مثال تطور العثة من يرقة إلى فراشة، إنها تتحول بالكامل حرفياً، فيتحول فيها الجلد أو القشرة، وتموت العضلات ويتكون أجزاءً جديدة بدلاً منها، كذلك الجهاز العصبي والجهاز التناسلي بالكامل لا يكون أي منهما في الطور السابق ويأتيان بضربة واحدة في الطور الجديد، العيون المُعقَّدة التي ترى الألوان كما البشر تأتي كاملة في الطور الجديد أيضاً، خرطوم التغذية، الأقدام، قرون الاستشعار، الأجنحة… إلخ نحن نتكلم عن ظهور كائن كامل جديد، وهُنَاك كائنات تمر بعدة مراحل مُختلفة للتحول، فهي تتحول من بيضة egg إلى يرقة caterpillar ثم إلى عذراء pupa ثم إلى الطور البالغ adult، وهذه الأطوار المُختلفة في مراحل حياة الكائن لا يمكن تفسيرها بالتطور، فالتطور يحاول أن يُفسر بالطفرة والانتخاب الطبيعي ظهور جناح من الذراع أو يفسر ظهور جناح من لا شيء، لكنه لا يفسر ظهور كائن كامل من كائن كامل ليتحول لاحقاً إلى كائن آخر، لا يفسر ظهور ثلاثة كائنات وأحياناً أربعة كائنات بمحض الصدفة، ولا يفسر مثلاً تشرنق الكائنات بين الأطوار المُختلفة لأنه كما يبدو أنّ العملية مخطط لها، ولو قسنا بمقياس التطور سنجد أنّ كل كائن جديد يحتاج إلى ملايين السنين لينتج من طفرات، فالفراشة ستحتاج إلى ملايين السنين لتتطور، الكائن الواحد * 4 أي يساوي 200 مليون سنة لتطور الفراشة إذا جاز التعبير.

لا يفسر التطور من الأساس هذه العملية مهما حاول والأمر أشبه بولادة طائرة من دراجة هوائية، لا علاقة بينهم! هل الظروف البيئية هي السبب؟ السجل التطوري؟ للأسف التطور لا يملك إجابات، لماذا لا يحدث لاحقاً تطور إلى الشكل النهائي، لمَ هذا الهدر في الطاقة، ولمَ هذا الجهد في البناء بلا هدف؟ بعض الزيزيات Cicada تبقى 17 سنة مدفونة في الأرض في طور الحورية بلا فائدة تتغذى فقط من جذر الشجرة لتتحول بعد 17 سنة إلى عثّة بالغة، ولتموت بعدها في عدة أيام، كائنات مُختلفة في مرحلة حياة الكائن الواحد، 17 سنة مدفون خامل ليعيش 10 أيام ويموت [137].

تُعتبَر ذُبابة مايو Mayflies من الكائنات ذات الأجنحة البدائية، ولكن كيف نصِف هذا الكائن بالبدائية وهو يعيش تحت الماء بالقرب من السطح ولديه أعضاء كالخياشيم، إذ يستمر خلال عامين إلى ثلاثة أعوام بالأكل والتنفس والنمو تحت الماء، ثم ينطلق منها إلى الهواء لمدة يوم واحد فقط، وعليه أن يلتحق بسربٍ ما ويتزاوج ويضع البيض ثم يموت، وهذا يؤكد حسب نظرية التطور أنّ أصل الذبابة سمكة تحولت فطارت! أليس هذا منطق التطور؟ والشيء نفسه يحدث للبعوض، إذ يعود إلى الماء ليتكاثر ويضع البيض [137] وهذا يقودنا إلى أنّ أصل البعوضة هو ذبابة مايو، أليس من الممكن أن تكون سمكة من نوع آخر ذات خياشيم تطورت بنفس خطوات سمكة ذبابة مايو فأصبح لديها الجناح نفسه وآلية التزاوج والتكاثر نفسها في مسار منفصل!

لا يمكننا نسيان تحول الحشرات الاجتماعية مثل النمل، فيرقات النمل ليس لها أرجل وهي غير قادرة على العثور على الطعام أو الحركة أو التنظيف، لذا تعتمد بشكل كامل على رعاية النمل العامل البالغ 24 ساعة، ومن دونها سيموتون بسرعة، ويحتاج النمل الصغير إلى العمال البالغين لقطعهم من شرانقهم في نهاية مرحلة الخادرة [138]، وهذا يجعلنا نتساءل كيف تمت هذه العملية؟ فإذا لم يكن للنمل العامل والنمل المتشرنق آلية جاهزة، فمن أين أتى هذا التكامل بين الدجاجة والبيضة؟ وهذه المرة يجب أن يوجدا سوياً، يجب أن تُوجد مراحل التحول كما هي لتحمي نفسها من الانقراض، فوجود مراحل مدهشة مُختلفة مثل اليرقات لبقائها في معدة كائن آخر، والحوريات للسباحة، والعث أن تطير وتتكاثر لهو أمرٌ مُدهشٌ، ويَنِمُّ عن تصميم وليس تطفراً وتطوراً.

Stages of Monarch butterfly

شكل 51 تحول الفراشة الملكية Photos by Bob Moul, www.Pbase.com/rcm1840 :Danaus plexippus.

مراحل تحول الفراشة الملكية Danaus plexippus:

  1. اليَرَقة Larva: بعد أن تطل اليرقة من البيضة، تتغذى على أوراق نبتة الصقلاب milkweed وتستمر في هذه المرحلة لمدة أسبوعين حسب درجة الحرارة.
  2. الخَادرة Chrysalis: بعد أن تتخلق اليرقة من بشرتها الخارجية وتصنع الشرنقة، تُعلّق اليرقة نفسها على غُصين مناسب، فتتحول إلى خادرة، وهنا تبدأ الإثارة؛ إذ تذوب معظم أنسجة اليرقة ويتم إعادة تشكيلها إلى فراشة في إطار برنامجها الجيني، إذ تبدو فيه مثل إناء الشمع.
  3. قبل الفراشة: وأثناء استمرار التحول، تصبح الشرنقة شفافة بشكل واضح ونستطيع رؤية ألوان الفراشة.
  4. مرحلة ما بعد القشرة: بعد 9-15 يوماً تظهر الفراشة أخيراً، ويبدأ ضخ الدم إلى الجناح من الدماء التي قامت بتخزينها في عروق الجناح، تنتظر الفراشة حتى تجف وتتصلب أجنحتها لتطير بعيداً وتبدأ دورة الحياة من جديد.
  5. الأنثى البالغة: إنّ وجود أوردة أكثر سُمكاً ونقص العقد في عروق الأجنحة الخلفية العليا يجعل الأنثى مميزة عن الذكر.

ولأن هذا المجال شائكٌ وغريبٌ، فإنّ القليل من العُلماء المُؤمِنون بالتطور طرقوا أبوابه، ونتج كالعادة تفسيرات عجيبة، مثل أنه أصاب بعض البيوض قديماً جفاف أو مشكلات في المحيط، فاضطرت الكائنات التي فيها أن تخرج بحثاً عن الطعام قبل وقت تحولها إلى الطور البالغ، لذا حدث هذا الانتقال العجيب، وكما هو واضح هذا مُجرَّد خيال لا ينطوي على أي علم، مُجرَّد تخيل، وذلك لأن الكائنات في البيوض لا تأكل وكثير منها بلا فم أصلاً، الأكل والمضغ والاستفادة من الطعام والإخراج من صفات الطور البالغ [139] [139].

ما سيُدهشك حقاً ويُعيد إليك فكرة أنّ الدنا لا يقدم أي تفسير لشكل الكائن أو العضو المنتج للمرة الرابعة على الأقل، أنّ الدنا لكل الأطوار المُختلفة في الأشكال المُختلفة هو نفسه، ففي الفراشة التي تمر بأربع مراحل مُختلفة نجد أنّ الدنا نفسه ولا تغيير فيه، فكيف للجينات أن تكون نفسها ولها أربعة أشكال حيوية مُختلفة بالكامل! لو كان الدنا يبيّن المظهر الخارجي phenotype للكائن فلن يحدث التحول الظاهري لهذا الكائن، وهذا يُبيّن أنّ هُنَاك طبقة معلوماتية أخرى غير الدنا تتحكم في الشكل أو المخرج النهائي، وكما أشرنا سابقاً هُنَاك دلائل على أنها طبقة فوق الجينات [140]، وهذا يؤكد فكرة أن جميع التحولات مُخطط لها مسبقاً في نظام جاهز.

وهنا نرى أنّ التطور لا يُقدم تفسيراً لهذا الأمر المُدهش، والدنا يُظهر العكس، لا دلائل في السجل الأحفوري، فلماذا لا نقول أنّ هذا النظام المُعقَّد التصميم قد ظهر مرة واحدة بهذه الهيئة دون تعديل؟ ما العيب في هذا، لنقل هذا الكلام حالياً أفضل من أن نسمع جملة المُؤمِنين: إننا في المستقبل سنحل اللغز.

السُلُوك المبرمج

إنّ السُلُوك المبرمج أو الغريزة أو الفطرة من الأمور التي تُشغل تفكير العُلماء كما تُشغل تفكير الجميع، ففكرة اتخاذ دودة القز الأوراق الثابتة المُتعددة كوسيلة للتمويه من الطيور فكرة ألمعية، هذه الفكرة نتفهمها إن صدرت من إنسان ذكي يحاول البقاء على قيد الحياة، لكن أن تصدر من دودة لديها جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سُلُوكها الحياتي لهو أمرٌ صعب التقرير، دودة تفتقر للقدرة على تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف هو أمر مُعقَّد ويحتاج إلى مراجعة، فكيف تتمكن هذه الدودة أن تبتكر وسيلة دفاع معقدة وهي لا تملك ذكاءً أو آلية تفكير أو بعد نظر وتخطيط!

يرفض بعض العُلماء المُؤمِنون بالتطور التمسك بمفهوم الغريزة لأنّ تفسير السُلُوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السُلُوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يتوافق مع التطور بحيث لا يمكن الحديث عن السُلُوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل، هذا الرأي بدأ به تشارلز داروين، إذ اعترف بهذه الحقيقة فذكر أنّ سُلُوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديداً لصحة نظريته، ووصف الغرائز بأنها تمتاز بتأثير بالغ وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس.

إنّ التفكير في نشوء الغرائز أو كيفية ظهور الغريزة لأول مرة أو كيفية اكتساب الحيوانات لها لهو أمرٌ مُحير، وهي الأسئلة التي دائماً ما تُسأل من قبل المُؤمِنين وتكون الإجابة عليها من قبل العُلماء المُؤمِنين بالتطور هي: “تكتسب الحيوانات أنماطاً سُلُوكية عن طريق التجربة ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي، وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السُلُوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة”، وقد بتنا ماهرين في فهم أساليب الخيال العلمي لدى العُلماء، لذا سنناقش الغريزة بشكل فلسفي في الفصل القادم.

إنّ فكرة اختيار السُلُوكيات المُفيدة عبر الانتخاب الطبيعي لا يحل المُشكِلة القائمة، فما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية تناقل الغريزة، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود، وإفراز عاملات نحل العسل للشمع، يقتضي وجود نوع من الأنماط السُلُوكية المُعقَّدة كالتصميم والتخطيط للمستقبل، وهذا ما لا يمكن توارثه عبر الأجيال، إنّ سُلُوك العاملات القاصرات في مملكة النمل يتطلب منها أن تكون على دراية تامة بالحسابات وذات خبرة واسعة، كيف تَسنّى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السُلُوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر، ومن الخطأ أن نتحدث عن اكتساب الأنماط السُلُوكية الغريزية بالتطبع وتوريثها إلى أجيال لاحقة، لأن هُنَاك غرائز مُحيرة، كالتي يحظى بها النمل والنحل ولا يمكن اكتسابها بالتطبع.

ولا يمكن افتراض أنّ النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج، لسبب وحيد هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير فهي عقيمة، ولهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السُلُوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة.

كذلك كيف نفسر سُلُوك الكائن الحي المتطور الذي تعرض بناؤه الحيوي البيولوجي إلى تغيير، فالأسماك تمتلك صفات خاصة من حيث التكاثر والصيد والدفاع عن النفس وإنشاء منازلها بطريقتها الخاصة، وهي صفات تتوافق مع الوسط المائي الذي تعيش فيه، وهُنَاك أنواع من الأسماك تقوم بلصق بيضها تحت الأحجار الموجودة في قاع البحر ثم تقوم برفرفة زعانفها فوقها لتتيح لها أكبر كمية من الأكسجين.

أما الطيور فتضع بيضها في أعشاش ذات بناء خاص لهذا الغرض وترقد على بيضها مدة زمنية حتى يفقس البيض، بعض الحيوانات تقوم ببناء مساكنها على أطراف الأشجار العليا باستخدام الأغصان وقشور الأشجار، والطيور تُصمم أعشاشها باستخدام الأعشاب والنباتات، ثَمّة أساليب مُختلفة للحمل والولادة والرضاعة والعناية في كل الكائنات، وكذلك هُنَاك أسلوب خاص للصيد مُختلف لكل نوع من أنواع الأحياء، بعضها يبقى كامناً للصيد يكون فيها مُتَخفياً بلون المكان الموجود فيه، وحيوانات أخرى تعتمد على السرعة والمباغتة، وغيرها من الاختلافات بين كل نوع، لذا كيف تتمكن الكائنات في وقت قصير أن تغير من سُلُوكها المُبرمج هذا وتورثه بشكل كامل، فمن أسماك تفقس تحت الصخور، إلى أعشاش هندسية تُبنى فوق الأشجار بآليات تزاوج ورضاعة وإنجاب مُختلفة.

لكن، ماذا عن الإيثار في سُلُوك عاملات النحل؟ إنها تقوم بلسع أي حيوان يدخل إلى خليتها مع علمها يقيناً أنها ستموت، وتضحي بحياتها من أجل سلامة باقي أفراد الخلية، وكذلك يقوم ذكر البطريق وأنثاه بحراسة عشهما حتى الموت، فالذكر يسهر على رعاية الفرخ الجديد بين ساقيه طيلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، وتذهب أنثاه إلى البحر لتجلب الغذاء في تبادل مهم للأدوار، وماذا عن رعاية الكائنات المتوحشة لصغارها؟ أليس من المفترض أن تلتهمهم؟ من أين جلبت هذه العاطفة والحنان على أبنائها، الكثير من الأفكار التي لا تنتهي في عالم الحيوان عن الغرائز المُختلفة مثل الإيثار والفن والهندسة والتصميم والتضحية والتخطيط تجعلك تفكر في أنها أُودعت في الكائنات لأنه لا يمكن لآلية جينية أن تخزن شكلاً هندسياً لعش الطيور أو لخلايا النحل.

تمتلك حشرات القُرَّاد (القمل) القدرة على تحديد نوع الثدييات المارة من أمامها عن طريق رائحة حمض butyric acid الموجود في لبن الثدييات كما في السناجب، ومن غير المنطق أن تسأل إذا كان بمقدور السناجب أن تعُد إلى رقم عشرة؛ لأن العد في حقيقة الأمر غير مرتبط بحياة السناجب؛ فالسناجب بارعة في استرجاع المكسرات، ومن المعروف أنها تخزن الاحتياطي منها لفصل الشتاء، عن طريق تخزينها في ثقوب الأشجار أو دفنها تحت الأرض، كما وتحظى السناجب على القدرة على تذكّر المناطق التي أخفت فيها الطعام عند الحاجة إليه، ولا يمكننا أن نتنافس مع السناجب في هذه المهمة؛ فجنسنا البشري لا يحتاج لهذا النوع من الذاكرة لأجل بقائه كما تحتاجه بعض حيوانات الغابة لمواجهة برودة فصل الشتاء القاسية، وإلا لسادت السناجب.

تعقيد الكائنات

يحتوي دماغ الإنسان على ما يقارب ١٠ مليار خلية عصبية، ترتبط كل خلية فيه مع آلاف الخلايا الأخرى، مما يسمح للدماغ بتخزين ونقل المعلومات، وذلك عبر نقل الإشارات الكهربائية داخل الخلية والإشارات الكيميائية بين الخلايا في شبكة مُعقَّدة تمتد من الدماغ إلى الجسم، وهُنَاك ملايين الخلايا العصبية الحسية التي تحتوي مستقبلات تحوّل المُثيرات من البيئة كالضوء واللمس والصوت والرائحة إلى إشارات كهربائية تنقل للدماغ، كما وترسل خلايا عصبية حركية أخرى معلومات من الدماغ إلى العضلات والغدد المفرزة للهرمونات، وتنقل الخلايا العصبية الوسيطة المعلومات بين الخلايا العصبية الحسية والحركية [10].

وترى إنساناً يحظى بجسد مكون من 37 تريليون خلية، كل خلية فيها مولدات طاقة ومصانع وأجهزة تخزين وتشفير ونسخ بيانات وجسور ومقابر وشرطة ونواقل، وينظر إليك بعينين تملكان نظام تصوير مميز بدقة فائقة بآلية مدهشة لالتقاط وتخزين الصور في أجزاء من الثانية، وبجسده المذهل الذي تديره 640 عضلة، مع قلبه الذي يعمل منذ عشرين سنة بلا توقف، وآليات إدراك ووعي وتفكير لم يتمكن العلم من فك أدنى أسرارها بعد، ولا يزال فيه من الغموض ما يُمَكّنه من تحريك اللسان المرتبط بالفك بـ17 عضلة، ويسألك بغرابة: ما هو دليلك على تعقيد الكائنات؟!

إنّ طول شريط الدنا الموجود في الخلية الواحد يصل إلى 2 متر ولو تم توصيل كل شرائط الدنا الموجودة في كل خلايا الإنسان لملأت المسافة بين الأرض والشمس 100 مرة! وهذا ما دفع الملحد الشهير أنتوني فلو إلى الإيمان بوجود خالق بعد أن ألّف عشرات الكتب العلمية في المادية، وكان مُتَمسكاً برأيه حول عدم وجود خالق لهذا الكون ما يقارب نصف قرن!

تَخيَّل، 2 متر في الخلية الصغيرة! ولدينا 37 تريليون خلية في أجسامنا، كل خلية تحصل على الغذاء والطاقة وتخرج الفضلات وتتواصل مع غيرها في نظام متكامل، يستحيل أن يكون هذا الأمر نتاج صدفة ما، شريط الدنا في جسمنا يمكن أن يلف محيط الشمس 4 آلاف مرة على الأقل! والشمس أكبر من الأرض مليون مرة، وهذه الأشرطة ليست صماء، بل في كل ثانية يتم قراءتها ونسخها وأخذ المعلومات منها ملايين المرات! أرقام لا يتحملها العقل، هي نتاج الصدفة! أي عاقل يقول هذا! ولو قمنا بكتابة المادة الوراثية على ورقة بيضاء بحجم A4 لتطلب الأمر منا أوراق بيضاء سيصل طولها مرتبة فوق بعضها إلى ارتفاع ناطحة سحاب وهذا كله في الخلية الواحدة!

إنّ جسم الإنسان مليء بالأرقام، ولنكن سطحيين ونذكر بعضها، إذ يبلغ عدد العظام 206 عظمة، بينما يصل عدد العضلات إلى 640 عضلة، ويملك 24 ضلعاً، ويحتوي القلب على أربع غرف، وتبلغ درجة حموضة الدم 7.4، وعدد فقرات العمود الفقري 33 فقرة، ويبلغ عدد عظام الأذن الوسطى 6 عظمات، بينما يبلغ عدد عظام الوجه 14 عظمة، وعدد عظام الجمجمة هو 29، العضلات في الذراع البشرية وحدها عددها 72، ومتوسط ​​طول الأمعاء الدقيقة هو 7 متر، ومتوسط ​​طول الأمعاء الغليظة هو 1.5 متر، ومتوسط ​​حجم الدم من 4 إلى 5 لترات، وعدد العظام على القدم البشرية هو 33 عظمة، وعظام اليد 27 عظمة، وعدد عظام الأطفال حديثي الولادة هو 306 عظمة.

لو أردنا تدوين المعلومات التي يحتويها جينوم الإنسان (3,3 مليار زوجاً من القواعد)، بافتراض أننا سنكتب كل 1000 منها في كتاب يضم 100 صفحة، فإننا سنحتاج نحو 3300 كتاباً بهذا الحجم لكتابتها! نحن نتحدث عن نواة خلية بشرية واحدة، أما إذا قمنا بقراءة جينوم إنسان ما بسرعة ثانية لكل حرف على مدار 24 ساعة يومياً، فسنحتاج قرناً كاملاً لنتمكن من قراءة كتاب الحياة ويفض الهوى سرها المغلقا.

ويحتاج الكاتب الماهر على لوحة المفاتيح الذي يكتب بسرعة 360 حرفاً في الدقيقة في مدة ثمان ساعات كل يوم إلى ما يقارب 50 عام ليطبع كتاب الحياة دون أي خطأ وكأنه روبوت لا يخطئ، وإذا فردنا دنا أي إنسان يمكن لخيط الدنا المجمع الوصول من الأرض إلى الشمس ذهاباً وإياباً 600 مرة.

لو قمنا بجمع عشرات المصانع الحيوية في مصنع واحد، لما وصلت إلى الدور الحقيقي الذي يمارسه مصنع الكبد في جسم الإنسان، هل يظن أحد ما أن يكون مصنع شركة تيسلا لبناء السيارات قد جاء عبر عشوائية أنتجت هذه الدقة، أو فوضى أنتجت هذه المعرفة، أو لاوعي أنتج هذا الوعي، أو لامنطق أنتج كل هذا المنطق من العدم، أو أنّ مصنع تيسلا قد تحول بالصدف عبر الزمن من مصنع رقائق بطاطس قديم هجرناه ملايين السنين!، كل الذكاء البشري والخبرات البشرية والعمل ليل نهار لبناء مصنع بضخامة مصنع مثل شركة صناعة سيارات تترابط مع عشرات المصانع حول العالم المتخصصة في صناعة قطع ما لتتكامل في المصنع الأخير، وحتماً أي مصنع تركناه لملايين السنين لن يتطور بفعل الرياح والشمس والتفاعلات، بل سنراه مُسح عن الوجود بالفعل بعد مئات السنين بفعل قوانين الديناميكا الحرارية، فأنت لا تتوقع أن يتطور مصنع مركون من إنتاج الرقائق إلى إنتاج البسكويت، فما بالك بإنتاج سيارات ذكية، كما لا ننسى أن جميع العناصر الأساسية للحياة مركبات نشطة كيميائياً، وأي لقاء لها في الهواء الطلق، سيجعلها تتحلل حسب القوانين الفيزيائية والكيميائية، ولن تطول أيام انتظارها.

الحيوان الزومبي

رابط 13 Body Invaders | National Geographic

https://bit.ly/36pQkIT

على الرغم من جمال دبابير الزنبار الطفيلي Parasitoid wasp إلا أنها تحظى بدورة حياة شرسة مقارنة بالحشرات الأخرى، إذ تقوم أنثى هذا الدبور بالبحث عن ضحيتها لتبدأ بمهاجمتها على الفور بمُجرَّد أن تلمحها ويبدأ الهجوم بلسعة أولى بهدف تخديره ومنع مقاومته، وما إن تهدأ الضحية حتى تقوم بلسعه مرة أخرى، لكن هذه المرة برأسه وبسمٍ مُختلف عن السم الأول ليتسنى لها على إثره التحكم بالضحية، ثم تقوم بسحبه إلى حفرة كانت قد جهزتها مسبقاً لتقوم بدفنه فيها، تبقى الضحية حيّة طوال هذه الفترة إلا أنها لا تستطيع إبداء أي حركة أو مقاومة، في هذه الأثناء تبدأ اليرقة داخل جسم الضحية بالتهامها وهي حية حتى تكبر، وتخرج من جسمها حشرة بالغة مستعدة لإكمال دورة الحياة.

هُنَاك نوعٌ آخر من الطفيليات يقوم بمهاجمة الحلزون يدعى ليوكوكلوريديوم بارادوكسوم Leucochloridium paradoxum، يتحكم هذا الطفيلي بجسد وعقل الحلزون جاعلاً رأسه وقرونه بارزة للطيور الجارحة ليسهل عليها إيجاده واصطياده، وذلك عبر القيام بحركات متتالية يمكن ملاحظتها بسهولة، حتى تقوم الطيور بأكل الحلزون ويتكاثر الطفيلي ويكمل دورة حياته في داخل هذه الطيور.

رابط 14 Zombie Snails | World’s Deadliest

https://bit.ly/3jnPMqQ

أتساءل، كيف امتلك هذا الكائن البسيط هذه القدرة على الدخول إلى جسم الحلزون والسيطرة عليه بطرق كيميائية دقيقة، ومن ثم فهم أنّ الحركة بهذا الشكل ستجذب الطيور التي لها عيون، من أين له بكل هذه القدرة الخارقة للمنطق!!

رابط 15 ‘Zombie’ Parasite Takes Over Insects Through Mind Control

https://bit.ly/3cRZ3ET

تُلقب فطريات الأوفيوكورديسيبس بفطريات نملة الزومبي؛ لأنها تعمل على تغيير طبيعة النمل والحشرات التي تفترسها، إذ يبدو على الحشرة المصابة سُلُوكاً مغايراً عما عهدته الطبيعة عليها، مثل أن تمشي عشوائياً وتسقط بلا معنى، تغرس هذه الفطريات نفسها في دماغ وجسم الحشرات فتؤثر في وظائف الجهاز العصبي وحركات العضلات، وتدفع هذه الفطريات النمل إلى البحث عن مكان رطب وبارد كسطح أوراق النباتات السفلي وهي البيئة المثالية لتكاثر الفطر، دافعة النملة للعض على جانب الورقة، ثم تمنع عضلة فك النملة من تحريكها فلا تستطيع النملة أن تترك الورقة وتظل معلقة، لاحقاً تقوم الفطريات بقتلها لكي ينمو الفطر داخل رأسها، ثم تنمو أبواغ الفطر وتنفجر فتنشر الجراثيم التي تلتقطها مجموعات النمل الأخرى.

ويقوم دبّور الصرصور الزمردي بتحويل الصراصير إلى زومبي قبل أن تضع بيضها بعد أن تشل حركته مؤقتاً بواسطة سمها اللاسع، وتحقن مجموعة من السموم العصبية في دماغه، هذه السموم تمنع الحركات التلقائية والمُعقَّدة مثل المشي، ثم يكسر الدبور أطراف قرون الاستشعار الخاصة بالصرصور، ويسيطر على حركته بالكامل ليقتاده إلى عشّ قام بتجهيزه مسبقاً ليضع بيضه على بطن الصرصور، لتتغذى اليرقات على الصرصور بعد أن تفقس، ويظل الصرصور حياً لعدة أيام إلى حين تكوُّن الشرنقة، ولا يُبدي الصرصور أيِّ رغبةٍ في الهرب رغم أنّ أعضاءه تُنهَش.

أما طُفيليات الديدان الشعرية التي تعيش في المياه العذبة، تُصيب حشرات كالصراصير والجنادب لتنمو الدودة بداخله وتتغذى على أجزاء جسمه الداخلية، ثم تُنتج في مرحلة النضج بروتينات تقوم بحقنها في دماغ العائل لتتمكن من التحكم في جهازه العصبي، وفي ظل سيطرة الدودة يغوص العائل في الماء ويغرق المضيف، أما الدودة الشعرية فتخرج مواصلةً دورة حياتها في جسم عائل جديد.

بل حتى الكائنات الأولية وحيدة الخلية مثل التوكسوبلازما تقوم بهذا الدور، فهي تصيب الخلايا الحيوانية مثل خلايا القوارض، إذ تفقد الفئران والجرذان والثدييات الصغيرة غريزة الخوف من القطط ويجعلها تنجذب أيضاً إلى رائحة بول القطط لتزيد احتمالية وقوعها كفريسة، ثم تنتقل معه إلى أمعاء القط وتتكاثر بداخل أمعاءه، ويسبب هذا الطفيلي داء المقوسات لدى القطط، ويمكنه الانتقال إلى البشر مسبباً أمراضاً كثيرة [141].

وهذا ما يجعلنا نتساءل دائماً، من أين لتلك الكائنات الدقيقة هذه القدرة العالية جداً على السيطرة؟ من أين لها هذا الفهم الدقيق لأعصاب وعقول وآليات عمل الكائنات الأخرى لتتمكن من السيطرة عليها!

دببة الماء

صُنفت دببة الماء Tardigrade بأنها أعتى الكائنات على الأرض، وهي كائنات مجهرية تتحمل أقسى البيئات دون أن تتأثر أو تصاب بسوء، مثل الغليان أو التجمد أو السحق أو التجفيف أو حتى إطلاقها إلى الفضاء الخارجي فهي تبقى حية، وتستطيع هذه المخلوقات العجيبة أن تعيش في أي مكان، فقد أظهرت البعثة الفضائية TARDIS (دب الماء في الفضاء) والتي أُجريت عام 2007م أنّ بإمكان دببة الماء أن تبقى على قيد الحياة حتى في الفراغ الخاوي للفضاء الخارجي، وتُشير أبحاث أخرى إلى أنّ دببة الماء تعود لعصور غابرة تمّ تأريخ أحافيرها لفترة تعود إلى ما قبل 500 مليون سنة.

هل تستطيع أي نظرية تفسير كيف لدب الماء أن يستطيع تطوير جينات تتحمل الإشعاع الفضائي؟ في حين لم يستطع تطويرها أذكى المخلوقات، وهل فهمت الجينات والكيمياء آلية عمل الإشعاع بعد عدة تجارب أجرتها، ثم اتخذت قراراً ذكياً بكيفية التصدي له؟

صورة 12 دب الماء، المصدر Shutterstock

تستطيع دببة الماء الصمود في درجات الحرارة القُصوى، إذ بإمكانها البقاء على قيد الحياة في بيئات فائقة البرودة، في درجات حرارة تصل إلى 272.8 سلزيوس، وتُعتبَر الحياة من دون ماء مُستحيلة تماماً لمعظم الحيوانات، لكن هذا لا ينطبق على دببة الماء التي تستطيع الصمود أيضاً في حالات الجفاف الشديدة، وقد وجد الباحثون أنّ دببة الماء في حالات الجفاف تدخل في حالة سُبات عميق يتجعد فيها الدب إلى قشرة جافة كما لو أنه كائن غير حي، تستطيع هذه المخلوقات المُدهشة البقاء في حالة السبات لعدة عقود، إذ ينخفض النشاط الأيضي لدببة الماء إلى مستوىً متدنٍ جداً يصل إلى 0.01% من المستوى الطبيعي.

 تمتلك دببة الماء بروتينات فريدة مقاومة للجفاف، توجد هذه البروتينات بشكل هُلاَمِيّ (لزج) عند وجود الماء، لكنها تتحول إلى بنية شبه زجاجية في حالات الجفاف الشديدة فتحمي بذلك جميع المواد الحساسة للجفاف في داخل الخلية من التعرض للأذى، ففي عام 1995م، تم استعادة حياة دب مائي مُتيبس منذ ثمانية أعوام، كما بإمكان دببة الماء أن تتحمل تكوّن الجليد داخل خلاياها في حالات البرد القارِس؛ إذ تنتج مواد كيميائية تدعى عوامل الثلج النووية ice nucleating agents، التي تساعد على تشكيل بلورات الثلج خارج خلايا دببة الماء بدلاً من داخلها لتؤدي بالنهاية إلى حماية جزيئاتها الحيوية من التلف بسبب البرد الشديد.

كما بإمكان دببة الماء تَحمّل حالات الضغط الشديد والتي قد تؤدي إلى هلاك معظم الحيوانات على الفور، إذ تستطيع البقاء على قيد الحياة (في حالة السبات) تحت ضغط 600 ميغا باسكال، وبإمكانها أيضاً تحمّل كميات ضخمة من الطاقة الإشعاعية؛ فهي تحتوي على بروتين يدعى بالبروتين المرتبط بالـ DNA-associating protein Dsup والذي يحميها من أخطار أشعة X، وهذا ما يجعله كائناً خالداً من الموت عبر الظروف المحيطة.

وإذا حاول الناس التفكير في الخلود فعلى الأغلب ستدور في رؤوسهم تصورات مثل امتلاك قُدرات شفاء غير محدودة، وامتلاك القدرة على عكس عملية التقدم في السن بصورة غير محدودة (الخلود البيولوجي)، وأخيراً عدم القابلية للتدمير؛ أي عدم الموت مهما حصل من ظروف مؤثرة، وإذا حدث وتوفرت الصفات السابقة في كائن واحد فيمكننا القول عندئذ أنه كائن خالد، حسناً، هذا الكائن غير موجود، لكن هذا لا يعني عدم وجود كائنات تمتلك قدرات خلود جزئية كما دب الماء.

axolotl
يتمتع السلمندر المكسيكي Axolotl بقُدرات شفاء وتجديد خارقة، فتجديد الأجزاء المبتورة أحد أبسطها، مقارنة بإمكانيته لإعادة توليد أعضاء أكثر حيوية، بما يتضمن أجزاء من الدماغ، ويقبل جسده أية أعضاء تُنقل إليه ويقوم بإخضاعها إلى سيطرته بشكل كامل، بما يتضمن العين وأجزاء من الدماغ، أما القنديل الخالد Turritopsis Dohrnii، من الكائنات القليلة المعروفة التي تمتلك خلوداً بيولوجياً، إذ بإمكانه عكس تحوله الجنسي بالكامل إلى مرحلة ما قبل النضوج بعد أن يتخطى مرحلة البلوغ، ونظرياً بإمكانه فعل هذا الأمر لعدد غير محدود من المرات، هذا الأمر يُماثل قولنا أنّ هُنَاك شخص يمكنه العودة ليصبح طفلاً في كل مرة يبلغ فيها سن الثمانين، لعدد لا نهائي من المرات [142].

صورة 13 السلمندر المكسيكي المصدر: stock.adobe.com

الملاريا والبلهارسيا

تتكون دورة حياة البلهارسيا من مرحلتين: مرحلة في العائل الأساسي (الإنسان) ومرحلة في العائل الوسيط (القوقع)، تبدأ المرحلة الأولى بالتزاوج ثم تعيش الديدان الصغيرة في الأوردة الكبدية لفترة تقدر ب 5 – 8 أسابيع إلى أن تنضج الذكور جنسياً، يحمل الذكر أنثاه في قناة الاحتضان التي من دورها تهيئة الأنثى لنضج أعضائها التناسلية وتضمن حدوث التزاوج حتى تقوم بوضع البيض وهي مستقرة بداخله، لاحقاً، تضع الأنثى البيوض في الأوعية الدموية حتى تمتلئ الواحد تلو الآخر، وتحتوي هذه البيوض على شوكة لتُثبِتها في جدران الأوعية الدموية، في حين تعمل القشرة على إفراز مواد تُذيب الأنسجة لتساعد البويضة على اختراق جدار المثانة أو المستقيم لتصل إلى تجويفهما ومنهما إلى خارج جسم الإنسان [143].

شكل 52 دورة حياة البلهاريسيا.

تأتي المرحلة الثانية من دورة الحياة بعد أن تنتقل البيوض إلى الماء العذب، حين تخرج يرقات الميراسيديوم كاملة النضح، ويبحث الميراسيدوم عن العائل الوسيط (القوقع) المناسب له في غضون 30 ساعة وإلا فإن مصيره الموت، يخترق الميراسيديوم الأنسجة الداخلية للقوقع المناسب له ويتحول إلى كيس جرثومي يُسمى الإسبروسيست لتبدأ خلاياه بالانقسام لاجنسياً، إذ ينشأ جيل ثاني من الإسبروسيست ليترك الكيس الجرثومي بعد تحولها إلى يرقات تسمى السركاريا (الطور المعدي) الذي بدوره يخترق طبقة جلد للإنسان، فتتجه الأسبوروزويتات إلى الكبد مباشرة، وتقوم بقضاء فترة الحضانة لتلك الجرثومة بالكبد، ويتم فيها التكاثر اللاجنسي وتنقسم النواة وينتج عنها الميروزويتات، ومن بعد ذلك تنتقل إلى مجرى دم جسم الإنسان وتقضي فترة يتم فيها مرور عدة دورات لاجنسية، ينتج عن ذلك التكاثر “الميروزويتات” بعدد أكبر من التي تم إنتاجها في المرحلة السابقة.

تمكث الميروزويتات في جسم الإنسان، في مجرى الدم تحديداً لتعمل على تفتيت كريات الدم الحمراء مسببة ضرراً جسيماً، إلى أن تقوم بعوضة بلدغ الإنسان لتنتقل الميروزويتات إليها فتحمل البعوضة العدوى، وبذلك يتم نقلها لأشخاص آخرين، بعد ذلك يتم تحرير الأسبوروزويتات وتتجه في طريقها إلى الغدد اللعابية في البعوضة وتكون على هيئة أشكال حلزونية دقيقة للغاية، وتكون جاهزة للانتقال من خلال الجزء التي تقوم البعوضة باللدغ به وعبور جلد الإنسان وصولاً إلى مجرى الدم، لتعيد الدورة السابقة من جديد.

شكل 53 دورة حياة البلهاريسيا.

وفي الحقيقة لا أعلم أدق من هذا التصميم الهندسي المتكامل، دورة حياة في 3 كائنات بعدة تحورات كاملة، وكأن البلهاريسيا صُممت لتناسبها، وأي انقطاع في أي كان منها لانتهت البلهارسيا، ولا مجال للتطور في هذا الأمر، أعتقد أنّ الصورة واضحة من تكرار نقاش استحالة تطور الأجزاء على حدة، ولا يمكنني إلا أن أقول، سبحان المهندس!

خلد الماء

يُعد خلد الماء أو البلاتبوس أو منقار البطة أحد أغرب الكائنات الحية، إذ يمتلك البلاتبوس مجموعة من الخصائص المُختلفة من عدة أنواع مثل الطيور والزواحف والثدييات، فيشبه البلاتبوس في بعض وظائفه الطيور إذ يضع البيض، ولأنه من الثدييات فإنه يقوم بإرضاع صغاره، ويحظى بمنقار شبيه بمنقار البط لكنه يشبه الثدييات في امتلاكه فرواً أنيقاً يشبه فراء الثعالب، ويمتلك ذيلاً على شكل مجداف كالسنجاب، يتحرك مثل الزواحف لكنه ليس من الزواحف، ويختلف منقاره عن البط بأنه لحمي يستطيع الإحساس به، إذ يستطيع من خلاله البحث عن طعامه تحت الماء بواسطة نبضات كهربائية يطلقها من منقاره فيعرف بها مكان فريسته كما يفعل سونار الخفاش والحوت.


كذلك يتميز حيوان البلاتبوس بوجود غشاء بين أصابع قدميه مثل البط، فيقوم باستخدام قدميه الأماميتين كمجداف للحركة تحت الماء، في حين تحتوي القدمين الخلفيتين على مخالب حادة يستخدمها لزيادة سرعته أثناء السباحة أو الحفر، كما تحتوي هذه المخالب أيضاً سماً قاتلاً يستخدمه البلاتبوس لقتل أعدائه! وهو يُعد من الثدييات السامة القليلة، حقاً إنه حيوان عجيب وغريب.

صورة 14 البلاتبوس.

رسم توضيحي 53 تتميز بعض الكائنات الحية بقدرتها على عكس الأضواء تحت أنواع الأشعة المُختلفة، في الصورة على اليسار البلاتبوس، على اليسار في الأعلى العقرب، وفي الأسفل البندقوط، ويعتقد العُلماء أنها طريقة للتواصل بين الكائنات.

عند أول ظهور لحيوان البلاتبوس في بريطانيا، ظن العُلماء أنّ منقاره مُجرَّد خدعة، وأنّ شخصاً ما قد قام بتركبيه، لذا حاول أحد العُلماء إزالته بمقص قبل أن يتأكد أنه حقيقي بالفعل، ويدرج العُلماء البلاتبوس ضمن الثدييات، ولم يقم أحد بتصنيفه على أنه شكل انتقالي بين الثدييات والطيور رغم محاولات في بعض الأحيان، ويشبه البلاتبوس معظم الروابط المفقودة المفترضة بين الحيوانات، ومع هذا يتم إدراجه في إحدى المجموعات التصنيفية الحية ولا يدرج ضمن مجموعة تصنيفية مختلطة، ولكم أن تتخيلوا لو وجدنا هذا الكائن ضمن الطبقات ككائن منقرض سابق!

يحظى منقار البطة بالقدرة على عكس الأضواء المميزة تحت الأشعة فوق البنفسجية، كالتي يتمتع بها بعض الحيوانات الأخرى كالعقارب والسناجب والبندقوطيات، وهذا أمر لا يستطيع العلم تفسير حدوثه، ويميل العُلماء إلى اعتبار هذه الميزة خاصة بالتواصل والتزاوج بين أفراد النوع الواحد.

محار المياه العذبة

رابط 16 Natural Fish Lure | Lampsilis Mussel and Bass

https://bit.ly/34hyK7f

رابط 17 Riffleshell Epioblasma torulosa suffocates a darter

https://bit.ly/30qxu0I

يدفن محار المياه العذبة من نوع lampsilis ventricosa جزءاً من جسده في قاع النهر كباقي المحارات، لكنه يتميز بإخراج جزء منه على شكل سمكة لها زعانف جانبية مكتملة وذيل وحركة سمكية منتظمة، لكي يحاول السمك أن يتناولها، والسبب يعود إلى أنّ هذا المحار تحتفظ إناثه الحبلى خارج جسدها الرخو بصغارها داخل جراب مُنتفخ يشبه تماماً السمكة، وتعرّض الأنثى صغارها لهذا الخطر لأنها تريد ذلك، فدورة حياة الصغار لا تتم إلا داخل خياشيم الأسماك حتى تتطفل عليها، أي أنّ السمكة الزائفة مُجرَّد شرك لجذب الأسماك لمحاولة أكله، وحين تنقض هذه السمكة على الشرك أو الطعم لأكله تتحول من صياد إلى فريسة، ثم في خطوة خاطفة تنفث المحارة يرقاتها في فم السمكة فتنتقل يرقاتها مباشرة إلى خيشوم السمكة لتتغذي اليرقات على دمائها.

يستخدم هذا المحار طرقاً مُختلفة لنصب الفخاخ، منها استخدام بعض أجناس المحار للإضاءة أو استخدام الألوان المُبهرجَة، بل ونجد أنّ المحار Lampsilis Ventricosa يستخدم طرق خداع فوق إبداعية، إذا يفصل سمكته الزائفة عن جسده الأساسي، رابطاً إياها بخيط طويل لا تراه الأسماك الأخرى، ثم يقوم الماء بتحريك هذه الجزء المخادع ليبدو كما لو أنه سمكة تسبح.

يُعد ابتكار الأشراك الذكية سمة مرتبطة بأجناس هذه المحارات، والمُذهل أكثر في هذه العملية كونها انتقائية، إذ تصنع المحارة الطعم حسب طبيعة السمكة المُتطفِلة.

إذن كيف لهذه الأساليب فوق العبقرية أن تكون جاءت نتيجة جانبية كالطفرات العمياء، وكيف يمكن للانتقاء الطبيعي أن يقف وراء جميع الابتكارات الحيوية، كما لا أتصور كيف للمحارة أن تعرف أنّ خياشيم هذه الأسماك تحتوي على دماء فقامت بإجراء تعديلات جذرية في أطفالها وطورت كل هذه الآلية ليلتصق أطفالها في الخياشيم بدلاً من إطعامهم بطريقة أخرى أبسط، هل تستطيع المحارة فحص الخياشيم وتحديد إذا كان طعمها لذيذاً أم لا، وأنها تحتوي على حديد وبروتين فيجب أن نوجه أبناءنا لتناول هذا الطعام ونطور كل هذه الآليات! أليس من المنطق القول أنّ هذا التصميم تم بواسطة مصمم يعرف البيئة والضحية والفريسية والمواليد الصغار وقام بوضع خطة متكاملة! فضلاً عن التفكير في عبقرية الحيل.

ضفدع الخشب

تتصدى الكائنات الحية في المناطق الباردة لانخفاض درجات الحرارة عبر طرق متنوعة كالهجرة واكتناز الدهون والجلد السميك أو حتى عبر الفرو الكثيف أو البيات الشتوي وغيرها من الآليات المعروفة، لكن الاستراتيجية التي يقوم بها ضفدع الخشب مُذهلة بحق، إنه يتكيف مع حرارة التجمد ويستسلم له!

ما يحدث مع ضفدع الخشب wood frog, Lithobates (Rana) sylvaticus أمرٌ يتحدى قوانين الأحياء في تعريف الحد الفاصل بين الموت والحياة، فهو يُجمِّد أغلب ماء جسده ويتحول إلى قطعة من الجليد، يستمر في هذه الحالة عدة أسابيع دون أي إشارة فعلية تدل على الحياة، فقلبه يتوقف تماماً عن النبض، وتتجمد الدورة الدموية، لا تنفس ولا أي نشاط دماغي، فقط مجموعة من الخلايا تعمل دون وجود أعراض كائن حي.

العديد من الآليات يقوم بها لتجاوز هذه الحالة الخطرة، ولحماية خلاياه من التلف أثناء تشكل بلورات الثلج ذات الأطراف الحادة، ينتج بروتينات هيكلة الجليد أو ice-nucleating proteins في محيط الخلايا لتسمح بتحويل السوائل إلى بلورات ثلجية بعيداً عن الأغشية حتى لا يصيبها أي ضرر، وفي الأثناء نفسها يطلق هذا الضفدع المبردات Cryoprotectants وهي مواد تعمل على خفض درجة حرارة تجميد الخلايا، والمبردات هي مواد كيميائية ذات تركيز مرتفع مثل الجلوكوز واليوريا [144].

مساكن الطيور

تنتشر الطيور في جميع أنحاء العالم، وتقطن الطبيعة في أعشاش ومساكن تختلف في أحجامها وأنواعها، فقد تم تصنيف نحو عشرة ألاف نوع تقريباً، ويمتلك كل نوع من هذه الطيور عُشاً خاصاً به ليضع به بيضه ويحميه من خطر الأعداء.

يجيد مهندسو الطبيعة الصغار تشكيل سلال منسوجة بإتقان من النباتات والخشب وخيوط العنكبوت والطين، إذ تستخدم هذه الطيور مناقيرها وأرجلها في جلب وخياطة تلك الهياكل المُذهلة، كما وتستخدم بطونها لتصميم التجويف المناسب لوضع البيض بأمان، وتستغرق عملية البناء والتصميم البديعة تلك من أسبوع إلى أسبوعين، هل تصدق؟ هذا الكائن الصغير يُصمم منزله بكل تلك المهارة دون الحاجة إلى معلم أو استشارة والديه، وأنّ ذلك الإتقان وتلك المهارة المدموغة في طبيعتها موجودة في المعرفة القبلية لديها، في عقلها تولد متعلمة كيف تبنيه، ولو تم فصلها عن أهلها ولم تراهم، فإن هذه الطيور ستبني الأعشاش نفسها!

شكل 54 أعشاش الطيور الهندسية.

على سبيل المثال، تستخدم طيور التعريشة Bowerbird أسلوب التودد لجذب الإناث في موسم التزاوج، إذ يقوم ذكر طائر التعريشة ببناء عش على شكل تعريشة جميلة ومُنمقة، ويُزين مدخل عشه بالعديد من الصخور الملونة والفواكه الجميلة والأعشاب الزاهية ليجذب الإناث إليه، في مشهد درامي وتخطيط رومانسي يفوق رومانسية دون خوان دي ماركو.

شكل 55 أحد نماذج عش طائر التعريشة.

أو كما يفعل طائر الكافور القزمي في بناء عشه المميز عبر حفره في الأرض بمساحة قد تصل إلى 34 متر مربع، أو كما تفعل طيور اليقنة أفريقية حينما تضع بيوضها في مركب متحرك في المسطحات المائية، أو كما في الحائك الاجتماعي Sociable Weaver التي تنسج أكبر عش في عالم الطيور كله، فقد يحتوي العش على 100 غرفة منفصلة ومجهزة بعصى ضد هجوم المفترسات كالثعابين، كذلك نرى العجب في طائر الفران الذي يصنع عشه من الطين كما لو أنه يبني فرناً طينياً حرارياً، أو كطائر الرميزية الذي يبني مدخلين لعشه، أحدهما مزيف في الأعلى والآخر حقيقي في الأسفل،

رابط 18 The Indonesian Mimic Octopus

https://bit.ly/3jpLGyn

الأخطبوط المقلد

تحظى الأخاطيب بقدرة مُدهشة على التمويه، فهي تقوم بتغيير ملمس ولون جلدها متجنبةً بذلك مفترسيها، لكن الأخطبوط المقلد Mimicus Thaumoctopus أذهل الجميع بقدرته على تغيير أبعاد جسده ولونه بدرجة فائقة كما لو أنه طينة تشكيل لينتحل مظهر حيوانات بحرية أخرى مثل ثعابين البحر والأسماك المفلطحة بل وحتى سمكة الأسد، وهي استراتيجية عبقرية يستخدمها لتجنب الحيوانات المفترسة.

التعايش والتطفل

تتعايش الكائنات سوياً أو تتقايض أو تتعاون أو تتبادل المنفعة، فنحن البشر على سبيل المثال نتنفس ما تخرجه الأشجار، وهي تقتات على ما نزفره، في عملية متكاملة لاستمرار الحياة على الأرض وحفظ المصادر وعدم هدرها، وتترابط الكائنات الحية بعدة صور على رأسها التكافل الذي يشكل علاقة وثيقة بين كائنات حية من أنواع مُختلفة، فهُنَاك الطيور التي تلتقط المواد الغذائية من فراء الغزلان، وتتيح الغزلان ذلك بكل سرور لتخلصها من الديدان والحشرات المتطفلة في فرائها، وتعيش أسماك المهرج بين أذرع زنبقة البحر، وتتمتع بحماية أذرعها الحارقة، وتلتقط زنبقة البحر بقايا الطعام التي تسقط من فم السمكة، وكلما ابتعدت أسماك المهرج عن أذرع زنبقة البحر، تعرضت للافتراس والخطر، وهي العلاقة نفسها بين رجل الحرب البرتغالي Portuguese man o’ war وهو نوع من قناديل البحر، وبين سمكة صغيرة تدعى نوميس البيولا Nomeus albula.

هُنَاك علاقة أخرى موجودة بين الأسماك القوبيونّة والروبيان، فهما يعيشان معاً في جحر في قاع البحر، إذ يحفر الروبيان الجحر ويبقيه نظيفاً، ويحرص على إزالة الرمل من أمام فتحته، وتقف الأسماك القوبيونيّة على باب الجحر لتحذر صديقها الروبيان الأعمى من الخطر، ويحرص الروبيان على لمس ذنب الأسماك القوبيونيّة بواسطة مجسّاته، وتقوم الأسماك القوبيونيّة بإصدار الإشارات له من خلال حركات الذيل للتحذير من الخطر.

كذلك يتغذى طير القراد Tick bird على الحشرات المتطفلة التي تصيب جلد فرس النهر، وكذلك نرى طائر النياح شوكي الجناح Spur-winged أو طير التمساح دائماً في صحبة التماسيح، وتصاب التماسيح بديدان العلق Leeches التي تتغذى عليها الطيور، وبذلك تتخلص التماسيح من طفيلياتها، أما زاحف طراطرة Tuatara فيقطن في أعشاش بعض الطيور التي تبني أعشاشها على الأرض وخصوصاً طيور البحر المسماة بطيور النوء Petrels وهي تحفظ العش نظيفاً من الحشرات والطفيليات إلا أنها قد تأكل بيض العصافير أيضاً إذا لم ينتبه لها الطائر.

وتُصاب الكثير من الخنافس الكبيرة بطفيليات صغيرة تدعى الحلم Mites، يعيش على جسم هذه الخنفساء الكبيرة عُنكبيات تسمى بالعقارب الكاذبة Pseudo scorpions تتغذى على الحلم، فتظهر العقارب الكاذبة كعقارب صغيرة لتخيف المفترسين، وتكون بعض الأزهار مُهيَّأة، إذ يمكن إخصابها بواسطة أنواع معينة من الحشرات، التي تزورها لجمع الرحيق Nectar، ويعتبر هذا نوعاً من الارتباط أو التعايش بين النبات والحيوانات يستفيد منه الطرفان.

أما في علاقة التطفل فإن الطفيلي يكسب حين يعيش على أو في مخلوق آخر، والحاضن يخسر، فالبكتيريا والفطريات مصممة بدقة لتتطفل على كائنات أخرى كذلك قمل الرأس وقرادة الكلب، يتطفل قمل الرأس على فروة رأس الإنسان ويتخذ منها مأوى له كما توفر له الغذاء الكافي والبيئة المناسبة للتكاثر، في حين يتضرر الإنسان من وجود القمل بشكل كبير، وقد يصاب الإنسان بالعديد من أنواع الديدان كالإسكاريس والدودة الشريطية وغيرها، وتشاطرنا الغذاء وهذا ما يُؤَدِي إلى ضرر بالغ للإنسان، كذلك البعوض الذي يشعر بمهمة وطنية حين يتناول وجبة دسمة من الدماء التي تشبع جوعه الدائم.

أما في علاقة المُعايشة فهُنَاك رابح يستفيد من العلاقة، لكن ليس هُنَاك خاسر لأن الطرف الآخر لا يتأثّر بها، على سبيل المثال، البرنقيل هي سرطانات صغيرة تعيش في الماء وتلتصق بظهور الحيتان أو قواقع السلاحف، توفّر الحيتان والسلاحف للبرنقيل عائلاً متنقلاً، كذلك حماية من الحيوانات المفترسة وفرصاً للعثور على الغذاء من دون أن تتأثّر هي نفسها بذلك.

من أهم أسباب عيش الحيوانات في تجمعات هو التحذير من الخطر المُحدق عبر توفير وسائل دفاع وتنبيه ذات جدوى مرتفعة، على سبيل المثال ترفع الأرانب ذيولها بشكل قائم في حال الإحساس بالخطر لتنبيه أفراد القطيع، وتقفز الغزلان كما لو أنها تؤدي رقصة، أما الطيور الصغيرة فتُصدر أصواتاً مُحددة في حال أحست بالخطر، أما الكلاب البرية التي تعيش ضمن مجموعات تضع حراساً مناوبين على مداخل محيطها ويبدأ بنُباح متصل إن رأى أحدهم شيئاً يقترب.

مئات صور التطفل بين النباتات نفسها أو بين النباتات والحيوانات، أو بين الحشرات والنباتات أو الأشنات والطحالب، مئات الصور بين الكائنات المُختلفة كلها تشير إلى تكامل هندسي لا غير، لأن هذه الكائنات بسيطة وليست عاقلة لتفهم في السياسة، لتفهم الألعاب غير الصفرية، وتفهم نظرية السجينان ونظريات الألعاب ككل، والتي توصلنا إليها في القرن الماضي فقط، كذلك يجعلنا نتساءل عن كيف تهيأت كائنات دنيا للتطفل أو التعايش مع كائنات من المفترض أنها ظهرت بعدها بملايين السنين، هل كانت تعرف المستقبل؟

الخاتمة

إنّ ما تم ذكره في هذا الفصل حول الخلية ومكوناتها وآلية عملها هو جزءٌ صغير من تعقيد عمليات الحياة، وأنا أنصح بقراءة كتب علم الأحياء والكيمياء الحيوية لرؤية كم أنّ الحياة مُعقَّدة فوق تخيلات العقل البشري، وأنها ليست مُجرَّد مزحة عابرة، وهي مدهشة التركيب والتصميم وتجعلك حائراً لما يحدث في نبات واحد، فما بالك بكائنات كاملة مُعقَّدة!

حاولت توضيح الفكرة حول جهل العُلماء بمصدر الخلية الأولى، وتوضيح جزء من تعقيد الخلية وتكوين البروتين والدنا والرنا، وأنّ الدنا لا يمثل شخصية الإنسان، وأنَّ هُنَاك الكثير من الأمور التي لم يكتشفها العلم حول كيفية بناء جسم الإنسان من الدنا، وتوضيح التطور وأفكاره السائدة والعقبات التي تمنع العقل أن يتقبله، فالعقول لا تؤمن بالاحتمالات المُستحيلة، ثم استرقنا النظر إلى بعض الكائنات المغمورة في سبيل تبسيط وإيصال الفكرة.

أتصور أنه بعد مرور بضعة عقود من الزمن سيكون هذا الفصل بلا معنى، لأن العلم سيكون قد حسم أمر التطور وستصبح نظرياته من الماضي، أو أنها ستصبح حقائق علمية، وأنّ ما كتبته هو جهد وُلد ليعيش بين جدران السنوات القادمة، وما خلف هذه الجدران هو الموت الحتمي، سيقول العُلماء عن هذين القرنين قرني الجنون، فكيف لهذه البرتقالة الجميلة اللذيذة ذات الألوان الدافئة والرائحة الأخّاذة أن يصدق بعض البشر أنها جاءت نتاج صدفة ما وأنها كانت بالصدفة مهيأة ليأكلها ويستفيد من موادها الكيميائية بدقة متناهية.


إِنَّ في صَدري يا بَحرُ لَأَسراراً عِجابا ….. نَزَلَ السِترُ عَلَيها وَأَنا كُنتُ الحِجابا

وَلِذا اِزدادَ بُعداً كُلَّما اِزدَدتُ اِقتِرابا ….. وَأُراني كُلَّما أَوشَكتُ أَدري

لَستُ أَدري

إِنَّني يا بَحرُ بَحرٌ شاطِئاهُ شاطِئاكا ….. الغَدُ المَجهول وَالأَمسُ اللَذانِ اِكتَنَفاكا

وَكِلانا قَطرَةٌ يا بَحرُ في هَذا وَذاكَ ….. لا تَسَلني ما غَدٌ ما أَمسُ إِنّي

لَستُ أَدري

الباب الثالث: فلسفة

مقدمة

يُعد علم الفلسفة أحد أهم العلوم التي أهملناها وما زلنا، وعلى النقيض من كل العلوم، فإنّ علم الفلسفة يهتم بطرح الأسئلة ولا يهتم بالأجوبة نظير اهتمامه بالأسئلة، إنه علمٌ يشجع على التفكير، هو علمٌ يبحث عن إجاباتٍ لمشكلاتٍ غالباً لن تكون نهائية، نبحث نحن البشر دائماً عن إجابات مُجرَّدة ونهائية تُريحنا وتُخرج عقولنا من طور المعركة، لكن هل نستطيع في رحلة الحياة الحصول على إجاباتٍ نهائيةٍ مُحددة وقاطعة؟ هل تمنحنا الحياة إجاباتٍ تبعثُ على اليقين والراحة؟ هل لو أتعبنا أنفسنا في إيجاد إجابة كاملة مُطلقة لوجدناها؟ هل هي موجودة في هذا الكون؟ هذه التساؤلات وغيرها من الأفكار المتناثرة سنعرضها هنا سوياً.

مسيرة الفلسفة

إنّ حصر مسيرة الفلسفة في سطور يَئِد آلاف بل ملايين السنوات من أعمار العباقرة في مصباح صغير، لا تليق بقدرة ما فيه، ولا تليقُ بالإمكانات الهائلة التي قدمتها الفلسفة لهذا العالم، لكن علينا تقبل وجود الجني في المصباح، وعليك أن تفهم أنك علاء الدين، وكل ما عليك فعله هو دعك الكتب لترى العالم من زاوية أخرى.

تبدأ الفلسفة من العصور القديمة، في الغالب من العصر اليوناني ولكن أول من سنبدأ معهم هم أفلاطون وسقراط وأرسطو، وقد لُقّب أرسطو بأبو المنطق؛ إذ قام بوضع أسس المنطق التي أصبحت لاحقاً مفتاح كل صاحب تفكير سليم، وسيتجلى لنا هذا في تفكيره في السببية والغائية، واقتراحه بأنّ هُنَاك علة أولى وهي الافتراض المسبق بوجود الله، ولربما نظريته الفطرية هي الأهم، إذ يؤكد فيها أفلاطون ما أكد أستاذه سقراط من قبل على أننا نولد جميعاً بنوع من المعرفة، فعلى سبيل المثال جميعنا يعرف أنّ الكثير حينما نأخذ منه يقل، والموجب مع السالب يتعادلان، وذلك في نظره لأننا نملك أنفاساً خالدة كان لها وجود سابق، وكل ما في الواقع نتذكره مما مضى، وهذا ما قاده إلى فكرة وجود عالمين، العالم الحالي المألوف، وعالم آخر هو عالم المُثل أو عالم الصور الكاملة، وهو عالم القوالب الأساسية التي نستمد منها الأفكار الأساسية الكاملة، فالكرسي الذي أمامنا ما هو إلا صورة أو نسخة من صورة كاملة في عالم ما، عالمنا محاكاة لما في عالم المُثل، والسبب يعود في وجود هذا العالم أننا حين ننظر إلى شجرة ما فإننا نحكم عليها جميلة أو غير جميلة بناءً على صورة كاملة في خيالنا أتينا بها من عالم المُثل عن شجرة كاملة بهيئة معينة، ورغم أنّ الإنسان هنا على الأرض، إلا أنّ روحه تنشد العودة إلى موطنها الأصلي بين الآلهة، لأنّ فطرة الإنسان مدموغ فيها بقايا من صور ذلك العالم الجميل، هي الأصل والمرجع الذي يقارن به كل ما يراه في عالم الواقع، وكلما واجه في هذا العالم جمالاً، اعتبرت روحه صورة باهتة عن الأصل في عالم المثل، فضلاً عن محاولة أفلاطون تفكيك الأشياء بين المركب والبسيط، والاعتماد على المفارقات في فهم الأشياء، وغيرها من الأفكار التي تعد أساس علم الفلسفة، كانت ولا تزال تُناقش عبر الأزمان، وما الفلسفة إلا حواشي على أفلاطون.

بشكلٍ عام فكل علم الفلسفة وإضافات الفلاسفة من بعد أفلاطون وأرسطو، إما تتفق مع أرسطو في الاعتماد على الحواس، أو تتفق مع أفلاطون في الاعتماد على العقل وهذا ما سيتم توضيحه.

حاول أوغسطينوس بعد أفلاطون فهم الخير والشر، فأعاد قول من سبقه بأنّ الشر هو غياب الله، وأنّ الشرَّ لا يأتي إلا من عصيان كلام الله، فالخير من الله، أما الشر فهو من صنع البشر حينما يبتعدون عن الله، وشكر أوغسطينوس الخالق على إتاحة حُريّة الاختيار لنا، وإلا كان من الممكن أن يخلقنا أخياراً وانتهى الأمر، ولكنَّ البشر استخدموا تلك الحُريّة في ارتكاب الشرور، وكما عهدت البشرية مناقشة ثنائية الإنسان، المادة والروح، فقد ناقش أوغسطينوس هذه المسألة واعتقد بوجود الثنائية مع عدم خلود الروح [145] كذلك اعتمد على الغائية في الانطلاق إلى مفهوم وجود العالم.

ثم جاء توما الإكويني الأشهر في مجال اللاهوت المسيحي، إذ تَبَنّى كل ما قاله أرسطو في مجال الفلسفة تقريباً، ومنحه سمةً دينية، وهكذا أصبحت أفكار أرسطو جزءاً من الدين، ورأينا دوره في الفلك سابقاً وكيف ثبتت أفكار توما لأنها جاءت بصبغة دينية وأصبحت حجر الأساس لمن بعده، وكالمعتاد أدار نقاش حول الإنسان وانتهى بما أقرته الأديان السماوية، أنّ الإنسان يتكون من عقل وشهوة وعليه أن يسمو بعقله عن شهوته.

ومع بداية الاكتشافات العلمية وخصوصاً ما تمّ على يد كوبرنيكوس وغاليليو وكيبلر انكسر حاجز الخوف في أوروبا بين العلم والدين وانطلق الفلاسفة، ونذكر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر مع مارثن لوثر الذي رفض قوانين الكنيسة ورفض صكوك الغفران ورفض الوساطة مع الله ورفض بعض الأسفار (الأبوكريفا) وغيرها، وانطلق المذهب البروتوستانتي الإصلاحي ففتح باب التفكير على مصراعيه وأعاد النظر في مُسلمات الكنيسة، ثم بدأت في عصر النهضة رؤية جديدة للإنسان، فالإنسان بات الآن شيئاً مميزاً ويجب التعمق في فهمه وتسليط الضوء عليه.

وكانت معركة أخرى مشتدة بين العقل والحواس، من يأتي أولاً؟ ومن المسؤول عن المعرفة؟ كان من المهم فهم هذه المسألة في العلوم وذلك للبناء عليها لاحقاً، فجاء ديكارت الذي أكّدَ ما أكّدَه أفلاطون حول كون العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة وليست الحواس؛ لأن انكسار الضوء في الماء مخادعٌ، وحواسي ترى الأشياء على غير حقيقتها لكن عقلي يعرف الحقيقة، ولنكون متأكدين من هذا القرار يجب علينا أن نحذف كل الأفكار السابقة ونبدأ من جديد، نبدأ العمل على أرضية قوية وننطلق.

إنه من الجيّد أن نشك في كلِّ شيءٍ كان مُسلّماً، لهذا يُسلّم ديكارت -مؤسس الفلسفة الحديثة- بمبدأ الشك، فقد انطلق فيه وقام بتجزئة المشكلات وحلّها وكأنها مسائل رياضية ببرهان واضح عبر عدة قواعد إجرائية بسيطة، ولقد شكّ ديكارت في إمكانية وجود جسمه من الأساس، ولكن ما دام الإنسان يُفكر، إذن هو موجود، ومرة أخرى تعمق ديكارت هو الآخر في موضوع الجسد والعقل وظلت الفلسفة تائهة من بعده تبحث عن إجابة.

أعادت قوانين نيوتن عبر تفسير الحركة وتفسير القوانين الطبيعية للمادية وجودها ضد المثالية، فالمادية تقول أنّ جسد الإنسان يتكون من المادة وكذلك روحه وضميره، وأن المادة سابقة للوعي وهذا ما كان يقوله الفيلسوف توماس هوبس متماشياً مع ما قاله ديمقراطيس قبله بألفي عام، ويصف مبدأ المثالية الإنسان بأنه مكون من جسد وروح، أي أنّ الإنسان مكون من مادة وشيء آخر ليس من هذا العالم، وبذلك عادت عقول الفلاسفة إلى العمل من جديد وعادت معركة المثالية والمادية، نتج عن هذه المعركة فكرة أن الإنسانُ آلةٌ كبيرة تعمل وفق القوانين المادية والتفاعلات الكيميائية، وعقله كذلك مُجرَّد تروس ميكانيكية وبعض التفاعلات الكيميائية أي أنّ الإنسان محكومٌ بقوانين المادة وتفاعلاتها، وهي من توجد وعيه، إذ يمكن التحكم بأفعال الإنسان ديناميكياً وكيميائياً، كذلك يمكن توقعها عبر دراسة المعطيات السابقة واستنتاج المخرجات اللاحقة، والأهم من هذا الإنسان ليس مُخيراً، بل مُسير حسب قوانين المادة وهذا ما تم نقاشه فلسفياً في العالم سابقاً تحت مسمى الجبرية.

يحاول سبينوزا في القرن السابع عشر متأثراً بديكارت فهم جوهر عمل الأشياء، فكيف يمكن للقرار العقلي أن يدفع شيئاً مادياً كالجسد؟ وكيف يمكن العكس حين يؤثر الجسد في العقل؟ ومن ثم سيفكر في القانون الأخلاقي عبر طرحه لسؤال: هل نستطيع بالنور الفطري أن نتصور الله كمشرع يسن القوانين البشرية؟ ومع بروز سبينوزا سيخبو دور العقلانيين وسيبرز دور التجريبيين (الماديين) لأنّ سبينوزا رفض ثنائية ديكارت.

سيقود قطار الفلسفة الفلاسفة التجريبيون أمثال جون لوك وبريكلي وديفيد هيوم، الذين يعتمدون في المعرفة على الحواس قبل العقل، إذ كان يعتقد أرسطو أنّ لا شيء يوجد في العقل (المعرفة القبلية) قبل أن تكتشفه الحواس (من إنتاج التجارب)، وقد بدأ جون لوك بفكرة بسيطة عمادها أنّ جميع الأفكار في عقلنا تشكلت نتاج تجاربنا المُختلفة، ومن المُفترض أن يُولد الإنسان كتاباً أبيضاً لتقوم التجارب لاحقاً بخط الكلام فيه، هذه التجارب تنتج عن الحواس كالنظر والشم والتذوق، ولا يقبل العقل نتاج الأفكار بسهولة بل يُحاربها ويُواجهها ثم تنطبع تلقائياً في عقله، وهذا ما أكده الفلاسفة بأننا نولد بقابليات وليس بأفكار، وقد انتهى لوك إلى أنّ هُنَاك نوعان من مصادر التجربة، المصدر الأول وهو الإحساس الخارجي الذي يتم عبر حواسنا، أما المصدر الثاني فهو الإحساس الداخلي الذي يتم بواسطة استشعار أفكار داخلية كالتفكير والشك والاعتقاد والإرادة، وكل شيء في عقولنا جاء عبر أحد هذين الطريقين.

وفي هذا المسار لم يُعجَب ديفيد هيوم بمبدأ الاستقراء فحاول أن يفسر السببية بطريقة خالفت العُلماء في عصره، كما حاول تفسير الأخلاق بفكرة المذهب الذاتي، وكونك ترى شخصاً شريراً، فهذا يعني أنك تكرهه بالدرجة الأولى.

يأتي في زمان هيوم الأسقف الإيرلدني جورج بيركلي ليضيف لمسة إلى المثالية، إذ قال: إنّ الموجودات المعتادة في حياتنا كالشوكة والسكين ما هي إلا أفكار في عقول من أدركها حسياً، أي أنها غير موجودة إلا بعدما أدركناها، وأنّ هذه الأفكار تحفظ في جزئية الروح وليس في جزئية المادة، وذهب بيركلي إلى أبعد من هذا حينما قال إنّ الاعتقاد بوجود الله أسهل من الاعتقاد بوجودنا، ولم يكتفِ بيركلي بالتشكيك في الأمور البسيطة، بل شكك بالفضاء والزمن وأنها ما هي إلا أفكار بعيدة عن الحقيقة المطلقة.

اعتقد كانط أنّ معرفتنا بالعالم لا يمكن أن تأتي عبر التجارب وحدها، وهو أول فيلسوف أقر بأنّ كلاً من العقلانيين والتجريبيين كانوا على خطأ، وأنّ العلم البشري يستطيع أن يدرس العالم المرئي لنا عبر حواسنا، لكن العالم الذي لا نستطيع رؤيته عبر حواسنا (العالم الميتافيزيقي) هو مهمة الدين، لذلك يجب على العلم والدين ألا يتصارعا، لأن لكل منهما مساره الخاص، وفي الحقيقة نرى أنّ هذه الجملة سبقه بها الفيلسوف ابن رشد.

رسم توضيحي 54 مدرسة أثينا، للفنان الإيطالي رافائيل عام 1509م، تصف الفلاسفة وهم يتحاورون، ومن بينهم الفيلسوف ابن رشد.

مع نهاية هذه الفترة انتهت الخلافات بين العقلانيين والوجوديين، وابتدأت الفترة الرومانسية في أواخر القرن التاسع عشر بدعوة أخذ النفس من قيود كانط على العقل وبزوغ فكرة الأنا ونظرتي الخاصة للعالم والاستمتاع في الدنيا والاندماج مع روح العالم، مما أدّى إلى ظهور الأشخاص المميزين وإبراز الأنا الفعلية للإبداع من الفن والرسم والموسيقى، والميل للكسل والحب والحنين للماضي وسحر الشرق وأسراره وغيرها، وهذا ما جلب لنا لاحقاً الفن السريالي.

يُعتبر الفن في الفترة الرومانسية وسيلةً للتعبير عن المعرفة والأفكار، فمن سيمفونية القدر لبيتهوفن، إلى لوحات فينسينت فان كوخ المُختلفة، وغيرها من الصور التي تحاول الإجابة عما عجزت عنه الفلسفة بكلمات اللُغة الضيقة عبر انسياب الأفكار والأحاسيس في اللوحات والموسيقى والمنقوشات والتماثيل بما يُلغي الحدود بين الواقع والخيال، فقد أشار الفنان الألماني شيلر بقوله: “إنّ الفنان في عالمه يكون أشبه كما في لعبة ولكنه حرٌ ويضع قواعدها بالشكل الذي يحتاجه” [145]

أنجبت الرومانسية الألمانية للعالم الفيلسوف هيغل، الذي اعتقد أنه ليس على الفلسفة أن تبقى في هذا الإطار البحثي الضيّق، بل يجب أن تنظر بشكل أوسع على مر التاريخ البشري ككل، تحدّث هيغل عن روح العالم ولكن عبر نظرته الخاصة، فهو لا يقصد اشتراك المخلوقات كلها وترابطها وكأن للعالم روح واحدة، بل كان يرى في روح العالم وجود الظواهر ذات الطابع الإنساني، لأنّ الإنسان فقط من يملك فكراً، ولكن أعظم ما أضافه هيغل هو محاولة فهم الفلسفة في إطار حركة التاريخ، بعكس من سبقه من الفلاسفة حينما تجردوا من كل الأفكار وخرجوا من العالم ونظروا له كمراقب خارجي مثل ديكارت وكانط وهيوم، قام هيغل بمحاولة فهم الفلسفة حسب تطور الفهم الإنساني عبر الأجيال والأزمنة والأماكن والظروف.

اتفق الفيلسوف شوبنهاور مع كانط في عالم الظواهر لكنه اعتقد أنه عالمٌ وهميٌ محكومٌ بالإرادة باستمرار، وخالف هيغل الذي آمن بنهايةٍ سعيدةٍ لتاريخ البشرية، فهيغل كان يرى أنّ البشرية ستصل إلى عالم كمال الأفكار، لكن شوبنهاور قرر أنّ هذا كلامٌ فارغٌ، وآمن أنّ البشر سيظلون عبيداً لرغباتهم وسيستمرون في البحث عن رغباتٍ جديدة دائماً، أي الدخول في صراع جديد وعذاب آخر، ولا حل لهذا الأمر إلا بالزهد وإنكار الذات والاعتماد على التفكير والتأمل وغيرها من الصور البوذية.

وفي هذه الأثناء برز الفيلسوف الوجودي كيركيغارد أو كيركغور، الذي عارض كانط في فكرة إمكانية تأسيس التفكير الديني والأخلاقي على العقل، لأن الإيمان غير معقول في أساسه، وحاول فهم الوجود البشري الذي يحاول دائماً الإنسان أن يهرب منه بالاعتماد على الروتين التغافلي، وقد قسم حياة الإنسان إلى ثلاث مراحل تبدأ بالمرحلة الجمالية، ثم مرحلة المتعة والاكتشاف والبحث عن الذات والحياة، ثم تتبعها المرحلة الأخلاقية بعد التشبع ووضع قوانين للحياة من قبل الشخص، لكن قد يمر الإنسان فيها بمرحلة ملل ويرغب الإنسان في الاستمتاع من جديد وهذا يحدث كما نسمع في أزمة منتصف العمر أو أنّ شخص ملتزم قد انحرف في أمر ما، ثم المرحلة الدينية وهي المرحلة التي يقفز فيها الإنسان إلى أعماق الدين عبر العقل مبتعداً عن المتعة مقابل الإله.

ثم نعود من جديد إلى رحاب المادية العملية مع كارل ماركس الذي رأى أنّ الفلاسفة يكتفون بتفسير العالم لكنهم للأسف لا يعملون على تغييره، وآمن أنّ الظروف المادية (الاقتصادية مثلاً) هي التي تؤثر على سير العالم وتعمل على تغييره، بعكس هيغل الذي رأى أنّ الظروف الروحية للعالم هي ما تسعى لتغييره، وأنّ من يسعى لفرض فكرة ما سواء كانت خيراً أو شراً هي الطبقة المُسيطرة وليس الطبقة العاملة (البروليتاريا)، وترى الفلسفة الماركسية أنه لا يمكن تحقيق أهداف العمال إلا عبر العنف في قلب النظام الاجتماعي بالكامل، ويجب على الطبقات الحاكمة أن تخاف وتحسب الحساب للعمال، لأن هذه الطبقات هي من ستخسر كل شيء، أما العمال فلن يخسروا سوى قيود العبودية، وأمامهم كل شيء ليربحوه.

كان هيغل يرى أنّ الروح هي أساس الإنسان، وبذلك هي الدليل على وجود الله، إلّا أنّ الفلسفة المادية بمنطلقات ماركس رأت العكس وأنّ الجسد هو أساس الإنسان وليس الروح، وبهذا رأى ماركس أنّ التاريخ صراع بين الإنسان والطبيعة وهو ما يُؤَدِي إلى تصادم لاحقاً بين الطبقات الاجتماعية مؤدياً إلى ثورة، وأنّ ما رآه الفيلسوف أوجست كونت غير صحيح، داعياً إلى فكرة ماركس نفسها دون الصراع الطبقي ودون ثورة، بل عبر التآزر والتعاون بين الطبقات، فكل فرد في المجتمع يجب أن يقوم بواجباته، وحتى الأغنياء إن قاموا بواجباتهم فهم أخيارٌ أيضاً.

لاحقاً، ظهر الفيلسوف العظيم فريديريك نيتشه، الديناميت المتفجر بأقل لمسة، الذي لم تعجبه فلسفة هيغل، ولنستطيع فهم نيتشه نحن بحاجة إلى فهم هيغل وكانط، الأمر الذي يجعل فلسفته مُعقَّدة وغريبة، بالإضافة إلى أنّ نيتشه قدمها في ثوب أدبي بلُغة ألمانية، مما جعل المترجمين في حيرة، فما بالك بالقارئ العادي! يحاول نيتشه نقد كانط لأنه يعتقد أنّ أفكار كانط ذات مصدر لاهوتي، إذ يحاول كانط نقد العقل بالعقل عبر جعل العقل سلطان، في حين يعتقد نيتشه أنه يجب صَبّ التركيز على القيم.

ثم تبدأ الفلسفة الوجودية Existentialism مع هيدجر ويليه نيتشه ثم سارتر، إذ تنطلق الفلسفة الوجودية من الإنسان والذي هو الكائن الوحيد الذي يعي وجوده، ولهذا فإن سارتر قال إنّ الوجود يسبق كل تفسير أو سؤال، فالوجود يسبق الماهية أو الجوهر، وعلينا أن نَكُف عن طرح الأسئلة عن الطبيعة الأبدية للإنسان، فنحن في واقع نصنعه بارتجالنا وعلينا أن نقرر أي الخيارات نتخذ في حياتنا ونتحمل تبعية هذه القرارات، فلا أحد منا سارقٌ بطبيعته، بل هو اختار أن يكون كذلك.

ظهر العديد من الفلاسفة في القرن العشرين مثل الفيلسوف فتجنشتاين الذي يرى أنّ حدود لغتنا هي حدود عالمنا، إذ تنشأ المشكلات الميتافيزيقية بسبب محاولة أن تقول اللُغة ما لا يمكن أن يُقال، ويرى فتجنشتاين أنه ما لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عنه يجب عليه أن يصمت عنه، وبهذا يعارض أفكار ديكارت إذ يرى أنّ الفكرَ لُغويٌ لا أكثر وأنّ اللُغة نتاج اجتماعي وعلى هذا لا يمكن للوعي أن يكون خاصاً، وهذا يعني أنّ سعي الشخص المختص الفينومينولوجي عن اليقين قد أُسيء تصوره [146] لأنّ ما نفكر به هو اللُغة وهي نتاج اجتماعي.

تطور علم النفس

على الرغم من أنّ العقل البشري كان ولا يزال أكثر الموجودات في هذا الكون تعقيداً، إلّا أنه في بداية القرن التاسع عشر سادت فكرة أنّ الإنسان مُجرَّد آلة كبيرة، فكما اليد تحركها العضلات فإنّ الدماغ تحركه عضلات معينة وهو نتاج التفاعل الكيميائي فيه، وعلى هذا فإن الدماغ محكوم بتفاعل كيميائي عبر معادلة معروفة، أي أنّ الدماغ لا يملك إرادة حرة، بل هو مسيّر بقوانين المادة، قراراتنا وآلامنا وتفكيرنا كلها تفاعلات وهي من تتحكم بالإنسان، ويمكنها التلاعب في فكر الإنسان وتوقعه بسهولة، فصيرورة الفكر لدى عقل الإنسان مثل صيرورة البول بالنسبة للكلى.

وعلى الرغم من التطور العلمي الهائل في يومنا هذا، إلا أنّ القوانين التي تحرك النفس البشرية وتجعله يُغيّر رأيه بين فينة وأخرى ويتخذ قراراً مصيرياً قد يودي بحياته لا تزال مخفية، وكل ما يحاول العُلماء اكتشافه هو القشرة العليا من علم النفس البشرية، فهم يحاولون فهم السُلُوك وتفسيره، لا الغوص في ترابط الدماغ بالعقل، ولعل أحدُنا يتساءل، ولماذا إذاً نحاول ونجيب! أجيب: ولِمَ لا نحاول فك طلاسم العقل والدماغ والنفس البشرية؟ وماذا سيخسر العُلماء في المقابل إن فشلوا!

يحاول علم النفس أن يدرس سُلُوك الإنسان وعملياته العقلية وتأثير هذه السُلُوكيات على من حوله وقد كان أرسطو يتساءل في زمنه عن العلاقة بين الجسد والنفس، وقد رأى أنّ الوعي يكون في القلب وليس في الرأس، وأنّ الروح هي ما يميز الإنسان عن الجماد وقد تابع فلاسفة الإغريق هذه التساؤلات حول الجسد والروح والمادة والعقل، لكنها كانت أفكاراً لا تفسر آلية عمل النفس البشرية، تبعهم ابن سينا في اعتقاده وجود علاقة بين اللُغة والفكر والإدراك الحسي والأخلاقي، وتبعه الغزالي والرازي مستخدمين الدين في تفسير باقي مكنونات النفس البشرية، فالرازي على سبيل المثال قد سجل في كتابه قائمة بأمراض عقلية بل وعالج بعضاً منها.

ثم في عصر التنوير كما رأينا ساهم كل من جون لوك وديكارت وغيرهم من الفلاسفة في تطوير الصورة عن العقل والنفس فديكارت مثلاً ميز بين الجسم والذي هدفه كخاصية شغل حيز من الفراغ وهو جزء ميكانيكي بحت، وبين العقل الذي دوره أن يفكر وأن يشعر، إلى أن قام العالم فونت في القرن التاسع عشر بفصل علم النفس عن الفلسفة مؤسساً بذلك علم النفس التجريبي، وفي القرن التاسع عشر أضافت أفكار داروين الطابع الحيواني على السُلُوك البشري فالإنسان لم ينفصل عن كونه حيواناً، وميكانيكية الجسد كما رآها ديكارت والغريزة وغيرها من الأفكار السائدة أدّت إلى ضرورة بروز تطور جديد على أفكار علم النفس، لأنّ التساؤلات قد زادت كثيراً وأصبحت بحاجة إلى إجابات واضحة، مثل ما هي مشاعر الإنسان؟ وكيف نفسر سُلُوكه تجاه غيره؟ كيف يتحول الإنسان إلى قاتل متوحش؟ وكيف يمكن أن نعيده إلى بيت البشرية من جديد! ومع الدارونية ظهرت أسئلة حُريّة الإرادة بقوة، فهل يملك الإنسان إرادة حرة أم أنه مجبولٌ على فِعل ما يُمليه عليه جسده؟ وما هي حقيقة الوعي والإدراك؟ وما علاقة الكيمياء بالتفكير؟ وبشكل عام هُنَاك ثلاث مدارس أساسية في علم النفس، المدرسة التركيبية، والوظيفية، والتحليل النفسي.

وقد بدأ العُلماء استخدام مفاهيم ونظريات أكثر عمقاً، مثل دراسات تكيّف الإنسان مع البيئة على المستوى العقلي، وظهرت تصنيفات وتحليلات واضحة، وكان هذا أول انطلاق في المفهوم الوظيفي في علم النفس وقد سُميت بالمدرسة التركيبية، إذ ركزت على محاولة فهم تركيب الوعي البشري عبر محاولة جعل البشر يصفون مشاعرهم، مثل شعورهم برائحة الأزهار أو غروب الشمس، وقد حاولت التعرف على مشكلات المريض عن طريق الشخص نفسه وهذا ما قد يساعد في حل مشكلته، وكانت مُشكِلة هذه المدرسة اختلاف المشاعر عند كل إنسان بسبب ما هي مرتبطة به من القيم والخبرات السابقة لكل تجربة، ثم قام العالم ويليام فونت عام 1879م بتأسيس المنهج التجريبي بعد أن أجرى تجارب على عمليات التذكر والتعلم والحواس والتفكير والانتباه والتغيرات التشريحية وقد سُمي هذا الاتجاه بالاتجاه التجريبي.

حاول ويليام جيمس أن يفهم لماذا نشعر هكذا، ولماذا لا نشعر بصورة أخرى في موقف مُحدد، حاول أن يفهم وظيفة السُلُوك، ولذلك سُميت هذه المدرسة بالمدرسة الوظيفية، وقد كانت متأثرة بأفكار داروين إلى حد كبير، وقد ركزت على فهم وظائف الدماغ وتقسيماته، ومحاولة تحديد منطقة التخيل والتفكير والكتابة والكلام والحركة والسمع وتفسير الإحساسات وإعطاؤها معنى وغيرها من الصور.

وقد وُجهت انتقادات كثيرة للمدرستين على رأسها أنه يجب دراسة السُلُوك الظاهر للإنسان (ما هو ملموس)، وفي كل الأحوال ساعدت المدرسة السُلُوكية على دفع علم النفس إلى الأمام بوتيرة مرتفعة.

اتضح للعالم سيجموند فرويد بعد عدة محادثات قام بإجرائها مع مرضاه أنه كلما تحدّث المريض عما في أعماقه بشكل أكبر، تحسنت أعراض مرضه، نتيجة لذلك قام فرويد بدعوة مرضاه إلى التحدث بحُريّة أكثر عما يجول في أعماقهم، ليتمكن من تحليل ما في نفوسهم بشكلٍ أدق، وسميت هذه المدرسة بمدرسة التحليل النفسي، وقد أثبت فرويد وجود حياة لاشعورية إلى جانب الحياة الشعورية، وأنّ الإدراك والتفكير والرغبات اللاشعورية (الباطنية) تقوم بتوجيه سُلُوك الفرد، والحياة الباطنية هذه قد تكون سبباً في ظهور الأمراض النفسية أو الاضطرابات العقلية، كذلك أشار إلى استخدام الإنسان لمجموعة من الحيل الدفاعية أثناء تعامله مع البيئة ومع المحيطين به أسماها بآليات الدفاع.


اعتقد فرويد وجود علاقة تدافع بين الإنسان والمجتمع المحيط؛ إذ يرغب الإنسان بأن يُخرج غرائزه وشهواته الكاملة لكن المجتمع بقوانينه يمنعه من فعل هذا الأمر، بمعنى آخر أراد فرويد القول أنّ الإنسان يفكر في الجنس بشكل أساسي لكن قوانين المجتمع تكبحه، فالإنسان ليس كائناً عقلانياً بقدر ما هو كائنٌ شهوانيٌ، وأكد على أنّ كل شيء يمكن تفسيره من منطلق الغرائزية لدى الإنسان، بل حتى الطفل الرضيع حينما يرضع من أمه يرضع بسبب الشهوة وهو لا يدري، وفي كتابه تفسير الأحلام أشار فرويد إلى أنّ كل ما هو مستطيل في الحلم هو رمز للعضو التناسلي للرجل مثل الطاولة والسلم وغيرها، وكل ما هو دائري هو رمز لعضو الأنثى، وكل ما هو حركة في الحلم هو رمز للعملية الجنسية، وما الأحلامُ إلا انعكاسٌ للغرائز الجنسية البشرية، وبذلك توصل إلى أنّ الهستيريا والأمراض النفسية هي نتيجة كبت جنسي حدث في فترة الطفولة.

رسم توضيحي 55 تقسيم الدماغ مناطقياً، وهو ما متعارف عليه بين العُلماء في وظيفة كل منطقة فيه

أشار فرويد بوضوح إلى أنّ سبب الأمراض النفسية التي يعاني منها البشر هو الكبت الجنسي، وأننا بالتنقيب في عقل المريض يمكننا التوصل إلى المُشكِلة التي عانى منها في الصغر، وغالباً تُشكِل هذه المشاكل وعي الإنسان وهو لا يدري، في منطقة لا يتحكم فيها وهي على الأغلب المنطقة الأكبر في عقله وهي صحراء اللاوعي Unconsciousness أو اللاشعور أو العقل الباطن، واعتبر العالم كارل يونج لاحقاً أنّ اللاوعي هو أصل التفكير لدى الإنسان من حيث لا يدري.

لقد أضاف فرويد الكثير والكثير إلى علم النفس، أضاف العقد النفسية مثل عقدة أوديب التي فيها رغبة الأبناء الجنسية بمخالفة الآباء وعقدة إلكترا إذ تشعر المرأة بأنها أقل من الرجل لأنها لا تمتلك عضوه القوي، وأضاف الكثير من الأمراض النفسية وطرق علاجها، وما الأحلام إلا عمل فني يمارسه كل إنسان، وتطرق إلى عيوب الإنسان مثل النسيان ونسيان الأسماء وفلتات اللسان وأكد على أنها ليست إلا انفلاتات من اللاوعي، ما عرضه فرويد كان شديداً جداً لدرجة أنه لاقى أكثر مما لاقاه كوبرنيكوس وداروين، وللعلم أنه حينما وُلد فرويد لم يكن كتاب أصل الأنواع لداروين قد ظهر بعد.

ومن المفترض أنّ الوعي أو الشعور ينشد الثقافة، أما اللاوعي أو اللاشعور فينشد الفطرة الدفينة في النفوس، وإننا عندما ننكر جزءاً من حياتنا الواعية ينشأ تعويض في منطقة عميقة يمثلها اللاوعي أو العقل الباطن، إذ تُثبِت الأحلام أن ما يُقمع يظل باقياً ويظل قادراً على النشاط والتأثير [147]، وأيّاً كان الأمر فالحقيقة أنّ الشعور أو الوعي في الحياة السوية، هو الذي يظل مسيطراً على اللاشعور، أما في حالات الاضطراب النفسي فإن اللاشعور يطفو إلى السطح ويمارس عمله بحُريّة بعيداً عن رقابة الشعور، وتظهر أحياناً سيطرة اللاشعور في بعض المواقف كما في فلتات اللسان، ويظهر ذلك في أعماق النصوص الأدبية والأعمال الفنية، لأنّ المبدع سوف يظل يكرر ماضياً منغرساً في الأعماق، الأمر الذي يدعو المبدع إلى محاولة استدعاء تلك الذكريات وصياغتها بشكل يُتيح له إنكار محتواها الواقعي عند الحاجة.

وقد حاول علماء مجال علم الأعصاب فهم جوهر القرار والوعي عند الإنسان أمثال العالم شرنغتون وإكلس وسبري وبنفيلد الذين توصلوا بعد أن أفنوا حياتهم إلى أنّ الإنسان يتكون من جزأين: جسد يفنى وروح لا يعتريها الفناء [2]، وكان يُعتقد سابقاً في القرن المادي أنّ الإحساس والإدراك أمران كيميائيان ويمكن تفسيرهما عبر التفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل الدماغ، إلى أن توصلوا إلى أنّ العقل والدماغ أمران منفصلان، فالإدراك والأفكار ليسا من المادة الدماغية وهي من تؤثر عليه وليس العكس.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شعر كثير من علماء النفس أمثال ماسلو وفرانكل وماي أنّ إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغاءه في المذهب السُلُوكي قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، وظهرت في خمسينات القرن الحادي والعشرين قوة عُرفت فيما بعد باسم علم النفس الإنساني، وقد آمن رواده بأولية العقل وبعدم قابلية حصره في الخواص الكيميائية والفيزيائية للمادة، وأنّ الإنسان يمثل قوة واعية تملك حُريّة التصرف والاختيار، ومن ثم رفضوا تفسير السُلُوك البشري كله بلُغة الدوافع والغرائز والضرورات البيولوجية وردود الفعل الآلية.

وقد آمنوا عوضاً عن ذلك بما يسمى بالقيم الأخلاقية والجمالية والجوانب الروحية والنفسية والفكرية [2]، وهي ما نقلت دراسة علم النفس من علمٍ حيواني بحت أو غريزي إلى علم من العلوم الراقية التي تحاول فهم الإنسان بمعزل عن الدارونية بحسب تميزه العقلي والروحي والنفسي والقيمي، وهذا ما أدّى إلى تأسيس علوم إنسانية نفسية لا تنطلق من التفسير الحيواني للإنسان، ولعلك إذا قرأت أي كتاب علم نفس تطوري ستصاب بكمية من الذهول تتناسب طردياً مع كمية التفسيرات الحيوانية لأبسط التصرفات البشرية، والتي لا تعدو كونها سوى أفكار نظرية لم تحصل على تجارب كافية أو تجارب من الأساس، لكن الهدف كان إقحام التطور الحيواني في السُلُوك البشري وتفسيره من هذا المنظور فقط، وكأن العقل البشري هو عقل قرد أو كلب لكنه موضوع في وعاء يشبه الإنسان، وكأن العقل البشري -من منظور تطوري- لم يتطور عن عقل القردة العليا.

 

المنطق

لم يدرك الفيلسوف الأثيني أرسطو حينما بدأ تساؤلاته أنه سيؤسس أحد أعظم العلوم لاحقاً، ألا وهو علم الفلسفة، وفي الحقيقة قد بدأت الفلسفة بكونها علماً حينما تم تأسيس علم المنطق، وعلم المنطق يتمثل في قواعد عقلية تساعد على التصور والاستدلال بصورة صحيحة لدى أي إنسان، والقواعد العقلية هي القواعد التي لا تستطيع العقول السليمة إنكارها، مثل أنّ النقيضان لا يجتمعان [148]، وأنني كباقي الرجال لا نخشى زوجاتنا ونفعل ما نشاء، وأننا لو أخذنا من مجموع كبير كمية أقل سينقص المجموع، وغيرها من القوانين التي لا يختلف عليها البشر التي تجعل العقل يملك آلية لترتيب الأفكار والانطلاق بمبادئ تفكير سليمة، ولأهمية علم المنطق نرى كثير من العلوم تدرّسه بعدة طرق، فمثلاً طلاب البرمجة يدرسون رياضيات متقطعة أو منفصلة Discrete Math وتصميم منطق حاسوب والنظام الثنائي، وطلاب العلوم أو الرياضيات يدرسون Horn Logic، وهُنَاك First Order Logic وحتى في الويب في الـ Ontologyنرى علم المنطق حاضراً، وكذلك في المحاماة وفي الفلسفة، بالإضافة إلى أن العالم كله مستقبلاً سيتحدث بجانب اللُغة الشفهية لُغة برمجية، فلا بد أن يعرف: ما هو المنطق.

تختلف القواعد العقلية عن القواعد العلمية، فالقواعد العلمية بحاجة إلى إثبات وتجربة، مثل قواعد الفيزياء والكيمياء والطب والفلك، وكذلك تختلف عن القواعد المعرفية التي تُثبِت في العلوم مع المُمَارسة مثل القواعد الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، أما المنطق فهو خطوات لتفكر بطريقة صحيحة، لكن، انتبه! فهذا لا يعني أنّ المنطق سيجعل أفكارك صحيحة.

فمثلاً لو قلنا أنّ:

  1. كل غني سعيد (مقدمة).
  2. خليل غني (مقدمة).
  3. إذن خليل سعيد (نتيجة).

هذه طريقة تفكير منطقية، ولكنها لا تعني أنّ القضية صحيحة أو أنها مادة ناجحة للقياس؛ فليس كل غني سعيد، والدليل خليل، لكن لنفرض صحة الجملة الأولى والثانية، فإن النتيجة في الجملة الثالثة ستكون صحيحة، إنها طريقة التفكير المنطقية في تحليل القضايا، وتُدعى هذه الطريقة في علم المنطق قضية قياس، وهي تتكون من مقدمة كبرى (كل غني سعيد)، ومقدمة صغرى (خليل غني)، والنتيجة (خليل سعيد)، والقياس هنا أول أداة في الاستدلال المنطقي.

وقد يرى أحدنا أنّ التصور والاستدلال بصورة صحيحة أمراً بسيطاً، لكن في الحقيقة دون وجود قواعد ستختلف كثير من الأمور حين الاستدلال، وستكون هذه القواعد مُفيدة حينما نحاول توضيح نقطة ما أو حينما نقوم بنقاش الآراء حول موضوع ما.

ينقسم علم المنطق إلى عدة أبواب لكل باب منها فائدة مهمة، ففي باب التعريفات نستطيع أن نعرّف الأشياء تعريفاً أقرب إلى الصواب، وفي باب الاستدلال نستطيع أن نستدل على شيء ونحصل على أي نتيجة بطريقة صحيحة.

إنّ كلمة العلم في المنطق ترمز إلى مطلق الإدراك، وهذا يعني أنّ كل ما ندركه في أذهاننا يسمى علماً، سواء أدركنا حيواناً أو جماداً أو أي شيءٍ كان، وسواء كنا متأكدين مما أدركنا أو كان مُجرَّد ظن أو حتى توهّم فإن ذلك كله يُسمى علماً، أما كلمة علم في العلوم الأخرى فتعني الإدراك القاطع الذي لا يحتمل غيره، فالمنطق ليس مُطلقاً، ولكنه أعلى ما وصلنا إليه حتى هذه اللحظة من قواعد مُثبتة [148].

وتتكون مراتب العلم في المنطق من عدة مستويات، أعلاها مستوى اليقين وفيه يعتقد الإنسان أنّ صحة موضوع ما قد تصل إلى نسبة 100%، ثم الظن أي أنك تعتقد بصحة الموضوع من 51% إلى 99%، وأما الشك فهو أن تدرك موضوع ما بنسبة 50% فأنت على الحياد لا تستطيع الجزم إما بنعم أو لا، ثم الوهم وهي نسبة ما بين 1% إلى 49% أي أنك تعتقد أنّ أمراً ما غير موجود بنسبة كبيرة، ثم الجهل البسيط وتشكل نسبته 0% وتعبر عنه بلا أعلم، ثم الجهل المركب وهي نسبته أقل من 0%، وفيه أن تحكم يقيناً أنّ خليل غني، أو بائس فقير، فأنت هنا مخطئ ونسبتك في الصواب ليست صفر، بل سالبة لأنك لم تصمت وقلت ما لا تعلم [148].

لكي نحكم على شيء ما، لا بد لنا من تصوره، لأن أي حكم دون تصور لا يمكن أن يكون صحيحاً، وبعد أن نقوم بتصور الشيء نستطيع إطلاق الحكم عليه بشيء يدعى التصديق، فالمنطق يقول التصور يأتي أولاً ثم التصديق لاحقاً، وحينما أخبرك أنّ السماء زرقاء، فأنت ستتصور السماء أولاً، ولون زرقتها ثانياً، ثم ستؤكد قولي بأنها زرقاء أي أنك صدّقت المقولة، وهذا هو الترتيب الطبيعي للمنطق.

رسم توضيحي 56 بشكل مبسط ومختصر آلية عمل معالج الحاسوب، وهو مخطط عملياتي وليس هيكلياً، فالمخطط الهيكلي للمعالجات القديمة الأولى تحتاج إلى صفحات أكثر من صفحات هذا الكتاب، وكل عملية تطوير على المعالج أضافت مئات الصفحات، إلى أن وصلنا إلى المعالجات متعددة الأنوية، وكل جزئية في المعالج مصممة بدورها بطريقة مُعقَّدة، مثال على ذلك وحدة الحساب والمنطق ALU التي تم تصميمها لعناية شديدة لكي يقوم الحاسوب بإجراء العمليات المنطقية مثل أو، و، لا، وغيرها.

يتفق الجميع على أنّ التصور الفطري الذي لا يحتاج إلى إثبات مثل: البحر من الماء هو تصورٌ ضروريٌ لا حاجة لأي إثباتات له، وأنّ التصور الذي بحاجة إلى تأمل ونظر وتفكر حتى تُثبِت الصورة في الذهن هو تصور نظري، والتصديق كذلك، فلو قلنا إنّ السماء فوق، والأرض تحت، والبحر به ماء، لما احتجنا إلى حكم عليه وهو تصديق ضروريٌ، والتصديق النظري هو الذي بحاجة إلى تأمل ونظر وبحث، ولأننا على كوكب الأرض فالسماء فوقنا لا تحتاج إلا لتصديق ضروري، ولو قلنا هذه الجملة في لعبة حاسوب كانت فيها الأمور مقلوبة لما كانت هذه الجملة صحيحة.

الشيء نفسه نسبي بالنسبة للتصديق النظري، فلو قلت لك جملة مثل الخراج بالضمان لكانت بحاجة إلى تأمل وتصور وفهم بالنسبة لك، لأنك بحاجة إلى توضيح وفهم الخراج وكذلك الضمان، ولكن لو قلتها لشخص متخصص في الفقه لكانت مفهومة له دون أي مُشكِلة لأنه يعرف الخراج والضمان ويعرف ما يترتب عليهما، وسيحكم على القضية بالصواب أو بالخطأ بسهولة، وهذا ما يجعل التصور ضرورياً عند أشخاص، ونظرياً عند آخرين وهذا من منابع الاختلاف بين البشر والأمر نفسه بالنسبة للتصديق.

أما الأداة الثانية في الاستدلال المنطقي فهي الاستقراء، ولتكن مثلاً جالس في طريق ما تراقب السيارات المارة، ومرت من أمامك 1000 سيارة، ولاحظت أنّ كل السيارات لها 4 عجلات، ستصدر حكماً كلياً مفاده أنّ لكل سيارة أربع عجلات تحركها، هذا الحكم يدعى الاستقراء، أي أنك استقرأت السيارات فخرجت بهذه النتيجة، أو أنك تعلمت الشطرنج ولعبت في عدة أماكن، فحينها ستستقرئ أنّ اللعبة تتكون من 8 بيادق، ليسوا 7 وليسوا 9 بل 8، أو أنك ذهبت إلى السعودية ووجدت الناس هُنَاك مُسلمين، قابلت 1000 شخص وكانوا مُسلمين، هنا تكون قد استقرأت من السعودية أنّ أهلها مُسلمين، وحكمك نتيجة ما رأيت، ولنذكر أنّ دايفيد هيوم يرى أنّ الاستقراء لا يقدم سوى الاحتمال وليس اليقين، فلربما تكون هُنَاك سيارات ذات 5 عجلات ولكننا لم نرها، ولربما كانت هُنَاك نسخ من الشطرنج ذات 10 بيادق، ولربما كانت هُنَاك غربان بيضاء لكننا لم نرها!

الاستدلال

إحدى عقبات تفاهم البشر أنهم يتواصلون عبر اللُغة، فالكلمات حمّالة أوجه ومعانٍ عدة، فمعاني هذه الكلمات تتغير من زمن إلى زمن، فكلمة عصابة قديماً تختلف عن عصابة حديثاً، واللبن هو مخيض الحليب في بعض اللهجات وفي لهجات أخرى الحليب هو مخيض اللبن، فلو قرأت كتاباً قديماً أو مُختلف الثقافة بعض الشيء، قد تُسيء فهم المقصود منه، إنّ معضلة الكلمات لا يمكن الفكاك منها عند البشر.

 فجملة بسيطة مثل قلبه كبير لها عدة دلالات ومدلولات، وحسب الموضع المستخدمة فيه يمكن فهم معناها (دال ومدلول)، فحينما نقول في فلسطين قلبه كبير (الدال) تشير إلى أنه شخص طيب ومتسامح (المدلول)، أما لو سمعناها في مصر (الدال) فتدل على أنه رجل يعشق الجميع (المدلول)، وفي مجتمع آخر تعطي انطباعاً أنه رجل يحب النساء، وربما تشير في المغرب العربي إلى رجل رياضي وهكذا، فالألفاظ والمصطلحات تترك دلالات معينة في عقولنا نتيجة الثقافة التي نشأنها عليها منذ الصغر، وفي الغالب نحن البشر نقوم بإسقاط المعنى الذي ورثناه من البيئة على المعنى في النصوص، حتى الكلمات البسيطة مثل أكل وضرب تمتلك معانٍ عدة في اللُغة بحسب المجتمع الذي ذكرت فيه.

حتى المصطلحات التي من المفترض أن تكون موحدة نجد فيها اختلافاً في الدلالة، فمن المفترض أنّ كلمة العدل عند الجميع نابعة من كونها كلمة مُجرَّدة جامعة لأسمى معاني المساواة والإنصاف وعدم الظلم وغيرها، لكن قد يراها شخصاً أبيضاً عاش في أمريكا في القرن الثامن عشر أن يعيش الشخص الأسود على رغيفين في اليوم بدلاً من رغيف، هذا العدل لديه، ونحن نراها أن يعيش الأسود والأبيض في المجتمع سواسية لا فرق بينهم على الإطلاق، ومُغالَطة الأكثرية يجب ألا تنطلي علينا بعد الآن.

بل حتى الكلمات المُجرَّدة والجامدة تختلف الدلالات فيها من فرد لآخر، فلفظة ساعة قد تخطر في ذهن السامع على أنها ساعة حائط، بينما يتخيل آخر ساعة يد، وربما يتشكل رقم6 بجانبه صفرين (06:00) في ذهن ثالث، وقد يتخيل أحدهم صورة مزولة، كذلك الأمر لو قلنا سيدة جميلة، فهُنَاك من يتخيل هيفا، وهُنَاك من يتخيل مونيكا، وهُنَاك من يتخيل جارته، وهُنَاك من يتخيل سيدة مريضة بمرض عضال غريب ولكنها بالنسبة له قمة الجمال، وقِس على ذلك كل المصطلحات التي نعتبرها مُجرَّدة، لهذا الأمر لا تستطيع إيصال المعنى الذي تقصده تماماً، ومن المؤسف أننا لا نمتلك طريقة أخرى للتواصل كالتخاطر مثلاً كأن أضع ما أتخيّل بالضبط في عقلك مباشرة، لأوصل لك ما في داخل دماغي من فكرة كاملة وبالمعنى الذي أقصده، وفي أي حديث أو تصور يجب تحرير المصطلح من الاعتبارات الثقافية والإرث السابق كي يستطيع المنطق أن يتحدث بلُغة أقرب للجميع.

لوحات فنية عالمية مشهورة

رسم توضيحي 57 تُعتبَر لوحة ثبات الذاكرة، والتي تسمى أيضاً إصرار الذاكرة، من أشهر اللوحات العالمية للفنان الإيطالي سلفادور دالي، وقام برسمها عام 1931م، تثير هذه اللوحة أسئلة حول فلسفة الزمن، وكيفية رؤيته بمناظير مُختلفة، ومفاهيم متنوعة.

ولعلك تجد اثنين يتناقشان في جزئية ضيقة جداً فتقول يا لعقولهم! إنّ العدل معروف ومفهوم، ولكنا بتنا نعرف أنّ التصور والتصديق أمران مُختلفان من شخص لآخر حسب خبراته وثقافته، فالمسألة الزنبورية التي شغلت العالم قبل قرون، مسألة تافهة في وجهة نظر غير المختصين، ولكنها أخذت حجماً كبيراً لأن المختصين يرونها جوهرية وذات دلالات مُختلفة، فكثير من المسائل قد تكون في نظرك بسيطة إلا أنها ذات قيمة في نظر غيرك، ففي بيت شعر لأحمد شوقي يقول فيه:

وطَني لَو شغِلتُ بِالخلدِ عَنهُ نازَعَتني إِلَيهِ في الخلدِ نَفسي

يقول فيه الشاعر حرفياً أنني حتى لو كنت في الجنة فإنني سأشتاق إلى وطني، وهذا معنىً فاسدٌ بالنسبة للمُؤمِنين، لأنّ الجنة هي قمة المتع واللذات، فكيف يشتاق من في الجنة للأرض؟ وقد يستطرد هذا المُؤمِن فيقول هنا الشاعر يقصد أنّ الجنة متعها كاذبة ولن يستمتع الإنسان فيها بعكس ما يقول الله، أي أنّ شوقي لا يُسلّم بما يقوله الله، أي أنه منكِر فهو كافر، هذا التسلسل يعود إلى دلالات الوعي لديه، وللاستدلال الذي قولب به أفكاره السابقة.

وفي الحقيقة شوقي لم يقصد كل هذا، وإنما عبّرَ عن شِدّة حبه لوطنه بقوله حتى في الجنة سيشتاق إليه، وهذه الجملة كالزهرة لو تأملناها من بعيد لوجدناها زهرة جميلة، لكن لو فتّشنا فيها لوجدناها تتكون من طلع وميسم ومتاع وأجزاء حيوية ولأصبحت غير جميلة من الداخل، مثل كلمة تقبرني، فهي من بعيد جميلة وقمة الحب، ومن الداخل قبيحة جداً، لكنها في الاستدلال اللبناني تحمل أعلى معاني الحب.

يواجه الكثير من الناس مشكلات مشابهة في فهم مواضيع معينة وخصوصاً المواضيع الدينية، فأمرٌ بسيط يفعله المُسلمون مثل الأضحية أو الصدقة يُعَد أمراً عظيماً عندهم، لكن لا معنى له لشخص قادم من أوروبا، لأنه سيتساءل، وما الفائدة من توزيع اللحم على الناس؟ وما الفائدة من أن تقوم بنفسك بإخراج صدقة مالك وتبحث عن الفقير وتسلمه بنفسك؟ أليس من الأفضل أن تخصم الدولة من دخلك هذا المبلغ وتوزعه على الفقراء في آلية منظمة لا علاقة لك بها ولماذا توزع اللحم فلتعطهم الأموال ولهم الحُريّة في شراء ما يريدون، ولو جئنا بشخص من الأمازون في قرية نائية لوجد أنّ الأضحية وتوزيع الأموال باليد لها قيمة عظيمة جداً وأنها عين الصواب، لكن لو جئنا بشخص قرأ تاريخ الأمم لقال إنّ الصدقة والأضحية هي عادات وثنية، ولو جئنا بفيلسوف مُسلم لقال إنّ تسليم الصدقة باليد تطفئ نار الحقد والحسد الطبقي أو المعيشي بين الغني في محيطه مع الفقير، وتجعل الابتسامة مصاحبة للفقير حينما يرى الغني، وتجعل الغني يرى بيوت الفقراء ويدخلها ويتفكر في بذل المزيد بدلاً من كونه يسكن في برج عاجي بعيداً عن الناس تشغله أمواله وترفه عن النظر للفقراء في محيطه ما دام أنّ الدولة ستخصم المبلغ من راتبه دون أي اعتبارات أخرى!

يُقسّم المناطقة (علماء المنطق) الدلالة إلى أنواع، فهُنَاك الدلالة العقلية التي تحيلك إلى أن تقول أنّ قطعة الحلوى التي كانت في الثلاجة قد اختفت لأن أحدهم أخذها ولم تختفِ بلا سبب، وهُنَاك الدلالة الطبيعية التي تحيلك لأن تعرف أنّ احمرار وجه شاب في حضور أنثى تعني أنه خجل أو العكس، وأنّ المُصاب حينما يقول آآآآي أو أوو فهذا يعني أنه يتألم، وكذلك تجمّع الغيوم دلالة غالباً على اقتراب هطول المطر، وهُنَاك الدلالة الوضعية مثل إشارة الواي فاي wifi الآن في أي مقهى تعني أنّ هُنَاك إنترنت مجاني في الداخل، ويُسمي المنطق مثالنا السابق حول قلبه كبير بالدلالة الوضعية اللفظية، إذن في الدلالات الوضعية نفهم أنّ الألفاظ والمعاني مُتغيرة من شخص إلى آخر، ودلالة المطابقة أمرٌ ممكنٌ ولكنه نادر، لأن الأغلب هو اختلاف الدلالات والأفهام.


ويجب التوضيح أنّ هذا التعقيد يصاحبه تعقيد مضاعف في كل وحدة بنائية فيه، وكل هذا التعقيد هو لكي يُؤَدِي الحاسوب العلميات الذهنية، كل الشرح في الفصل الثاني عن عمليات مادية، ولم نتطرق إلى الشرح المنطقي أو الذهني أو كيفية عمل نظام تشغيل الإنسان في عمق الدماغ، فنحن ببساطة لا نملك شيفرات برمجية له.

رسم توضيحي 58 إحدى هيكليات معالج إنتل كور القديمة

السببية

بطبيعة العقل البشري وصيرورة الأحداث في حياته فإنه يحلل الأمور ويحاول فهمها ثم يكوّن الروابط بين الأجزاء، لقد رأى العقل خليل يكسر الزجاج، فعلم أنّ الزجاج لكي يُكسر لا بد له من كاسر، ولو رأى غداً زجاجاً مكسوراً سيربط الأمور كما رأى سابقاً ويقول لا بد أنّ شخصاً ما قد كسر الزجاج، قد يكون خليل أو غيره، وقد يفكر ويقول حسناً لا يوجد أحد هنا لذلك قد يكون من كُسِر من قبل أحد الطيور أو صدى الصوت إذا كان يعرف القليل من الفيزياء وغيرها من الاستنتاجات، سواء فهم الإنسان العالم بعقله أو أدركه بحواسه فهو يعرف أنّ هُنَاك سبب أو علة لأي حدث في الوجود فلكل سبب مُسبِّب.

قال أرسطو إنّ غاية العلم هي معرفة الأسباب، وفعلياً مبدأ السببية Causality من أهم المبادئ التي قامت عليها العلوم الحديثة، لأن العُلماء يؤمنون أنّ الظواهر مرتبطة بقوانين ذات مسببات مُحددة، لذا يمكن التنبؤ بالنتائج نفسها إذا وقعت الأحداث نفسها، وقد أماطت الفيزياء الحديثة اللثام عن العالم حول كونه مبنياً من معادلات فيزيائية، إذ يمكن قراءتها وإعادتها من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين، ومع وجود محاولات متعددة مُختلفة حول تفسير السببية إلا أنّ محاولات تفسير السببية تنبع من مجتمعين لا ثالث لهما هما:

  1. جمعٌ يحاول إثبات السببية لإثبات أنه لا بُدّ للأشياء من مُسبِّب وهو الخالق.
  2. جمعٌ يحاول نفي السببية لإثبات أنه لا مُسبٍّب للأشياء.

والحقيقة أنّ كلا الفريقين يستعرض وجهة نظره بالقياس على أمور مُحددة، فالسببية تنطلي على أشياء معينة عقلية أو حسية في الوجود، والانتظام أو الترافق أمرٌ آخر في مكونات أخرى، وقوانين الفيزياء عكسية في أحيان، وفي أحيان غير عكسية، وفي أحيان أخرى لا معنى لها.

وإذا كانت الظواهر واضحة لي فقد تكون غير واضحة لك، ودون أن أقدم لزوجتي هدية فإنها ستعد لي الطعام الذي أحب وستقابلني بوجه بشوش، أكيد حضرتك عزيزي غير المتزوج يا من تشاهد هوليوود تعتقد أنه يجب تقديم هدية لرسم الابتسامة على وجه زوجتك، وهذا استنتاج عقلي أو ذهني، أما أنا صاحب التجربة فلدي استنتاج بعد تجربة وبعد حاستي التذوق والملمس التي مررت بهما، وهي ناتجة عن الانطباعات الحسية التي خضتها سابقاً، فالتجربة لا تعطي لأحكامها كليّة حقيقية وصارمة، بل تمنحها كليّة مفترضة ومقارنة من خلال الاستقراء عبر منحنا كلية عمومية في كل ما شاهدناه حتى الآن، وما شاهدناه حتى الآن هو الذي يُعطينا الثقة بأنّ ما توصلنا إليه من عموميات كلية، إذ لم نعثر على استثناء حتى الآن لهذه القاعدة أو تلك، ولهذا يتم استخدام التعميم في سياق الحديث البشري، أما التخصيص فهو حالات خاصة، البشر يحبون الجمال لذلك يُحبون مونيكا بيلوتشي، أما من يحب القبح فهو حالة شاذة.

في كل الأحوال يعتمد البشر على السببية في كل تفاصيل حياتهم، بدءاً من وضع المنبه في الصباح ثم الإفطار للاستقواء وارتداء الملابس لنبدو بمظهر مناسب، والخروج إلى العمل لكسب قوتنا، مروراً ببراهين المحامين واستنتاجات القاضي ومخرجات كود المبرمج وحقنة الدواء من الطبيب … إلخ، ولا أعلم موضع لم ينجح قانون السببية بتفسير ما حدث به إلا في حالة الإيمان والمعجزات، وحالياً مع تطور العلوم بدأنا نفك لغز المعجزات، مثل السير على الماء والولادة من أم وشق البحر والنجاة من النار وعلاج المرضى وغيرها، أصبحت المعجزات لعبة بين يدي الأطفال، تخبرني أن مريم بنت عمران كان عندها معجزة وهي كون فاكهة الشتاء في متناولها في الصيف فأقول لك هل تمزح معي، حتماً كان لديها ثلاجة سامسونج!

بل حتى الدين يقول إنّ قانون السببية سار على الأنبياء ولو لم يأخذوا بالأسباب لفشلوا وانتهوا، فإن تقرأ تنجح، وإن تزرع تحصد، وإذا تعرضت للغرق وكنت لا تجيد السباحة فإنك حتماً ستموت لو لم تحصل على تدخلات خارجية، والعلم التجريبي مبني بشكلٍ كامل على السببية، بل كل المعارف البشرية قائمة على السببية، وقد ثبت العُلماء في أذهانهم أن للكون قوانيناً منتظمة يحاولون من خلالها فهم الكون وآلية عمله، وإلا ما الفائدة من البحث عن القوانين لو لم يكن الكون منتظماً، والسبب نفسه سيفضي إلى النتيجة نفسها، لا نضمن أنّ الشمس ستشرق غداً ولكن الظاهر من القوانين الحالية أنها ستشرق غداً وإلا سيكون الكون فوضوياً وليس كما نراه ونتنبأ به.

آلية السببية

السببية هي علاقة بين حدثين، السبب والأثر، والأثر نتيجة للسبب، لذا يجب على السبب أن يكون سابقاً للأثر، والمفهوم الفلسفي للسببية يُعنى بفهم العلاقة بين السبب والأثر، من ناحية القوانين والظواهر والمفاهيم والتسلسل، وكان طاليس قد فسر بمبدأ العلة حركة الكون واعتبر أن لكل متحرك محرك، وقطعاً لا بد أن ينتهي الحال بمتحرك ليس له محرك، وهذا أيضاً ما نقله الفارابي بنكهة إسلامية، وأضاف إليها أنّ العلة الأولى علة مرتبطة بالوجود الأساسي وأنها أساسية ودائمة، إذاً فهي علة بلا علة بل هي موجودة بذاتها وليس بغيرها، وانتهى الأمر بهيدجر الذي أكمل الطرح قائلاً أنّ العلة هي السبب الكامن وراء وجود كل الأشياء، ولا شيء في هذا الكون موجود دون علة، وهذا أمر بدهي ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بعقولنا وآلية عملها، وما دام العقل مُشترك بين جميع الناس، إذن يُمسي مبدأ العلة مبدأً إنسانياً أولاً وعقلياً ثانياً، ومبدأ العلة لا يحتاج إلى تفسيرٍ إضافي لكي يفهمه البشر، لأن العقل البشري مجبولٌ على فهم العلة في ذاته وهذا ما أكدت عليه الفلسفة الوجودية لاحقاً حينما قالت إن الوجود هو العلة والعلة هي الوجود، ولا ننسى أنّ هُنَاك فرق بين السبب والعلة فكيف حدث الأمر يتم بالسبب، ولكن لماذا حدث الأمر هي العلة منه.

ثَمّة مُشكِلة حقيقية في السببية يجب فهمها، فالشيء إذا تكرر ارتباط وجوده بشيء آخر سُمي في عالمنا بأنه سبب له وهذا ما يُعرف بمبدأ السببية، وهذا صحيح إلى حدٍّ ما لكنه ليس دقيقاً، فمثلاً نحن نعرف أنّ تكرار سطوع الشمس كل يوم يرافقه إنتاج المخابز للخبز الطازج، ولكن هل سطوع الشمس هو سبب إنتاج الخبز؟ هل البرق هو سبب الرعد؟ الترافق أو التتابع أو التجاور لا يعني السببية أو الارتباط لا يقتضي السببية Correlation does not imply causation، هذا الكلام صاغه الغزالي ثم تبعه الفيلسوف دايفيد هيوم فالغزالي ينفي السببية العادية وهيوم ينفيها بالمطلق، فهيوم يرى أنّ بعض الأحداث تكون منتظمة دون سبب.

ويُضيف هيوم: إنّ رؤية أي شيئين أو فعلين مهما كانت العلاقة بينهما، لا يمكن أن تعطينا أي فكرة عن أي ارتباط بينهما، والتكرار لا يكشف ولا يُحدِث أي شيء في الموضوعات، هو فقط يؤثّر في العقل عبر الانتقال المُعتاد الذي يُحدثه، وإنما نحن نلاحظ الواقعة الحادثة، ونعتقد تبعاً لهذا الارتباط المستمرّ، وأن الأشياء تتّحد بالضرورة في الخيال، فإذا حضر أحد الانطباعين قفز إلى أذهاننا زميله المرتبط به كما اعتدنا.

وفي الحقيقة يرى الغزالي وهيوم أنه لا توجد علاقة حقيقية بين ظاهرة السبب والمسبب إلا فقط ما لاحظه الناس ثم قاموا فربطوا بين الحدثين لأنهما اقترنا زماناً ومكاناً، وهو لا يعدو إلا أمراً افتراضياً قائماً في الذهن البشري، لأنّ العقل يعمل بهذا الشكل وهو ما يُسمى بـتداعي المعاني، لأننا رأينا هذا الأمر مسبقاً فقد اعتدنا عليه لا أكثر.

يرى الغزالي أنّ إطفاء الماء للنار وإحراق النار للأشياء، ليس أسباباً ومسببات، لكننا تعودنا على هذا الحدث حينما نقرب القطن نحو النار ويحترق مباشرة، كما تعودنا على أنّ تقريب الماء من النار يتبعه انطفاؤها، ومع هذا فإنّ الماء ليس هو سبب إطفاء النار، ولا النار سبب إحراق الثوب، بل أنّ الفاعل في كل الأحوال هو الله، وهو قادر على تغيير هذه العادة، بالطبع لم ينكر الغزالي علاقة السبب بالمُسبِب، بل أراد أن يذكرنا بوجود خالق للأسباب.

جميع الآراء حول السببية صحيحة، ولكن لكل منها مستوىً خاصاً، فظاهرياً بل وعلمياً السبب والمسبب مرتبطان، فنحن نعلم الآن أننا حينما نأكل يمتص الجسم الطاقة من الغذاء وتستخدمها الخلايا في إنتاج ما تحتاجه إلى نهاية السلسلة الكيميائية، ولكن فلسفياً نحن لا ندري لماذا يحدث هذا! يحيلنا هذا إلى ما أراده الغزالي في مغزاه، وهو وجود قدرة أعلى هي من تسبب الأسباب التي لا نعرف لماذا تحدث بهذه الدقة بعد الترافق، وهذه القدرة سمِها ما تشاء إلى أن نعرف السبب الحقيقي للعلة ومنشئها.

على مستوى حاسة البصر نحن نبصم بأصابعنا العشرة على أنّ السبب والمسبب مرتبطان، لكن على المستوى الفلسفي أو الحقيقي بعد تشغيل عقولنا لا ندري لماذا حصل هذا، إنما اعتدنا أن نؤمن أنّ الكون يسير بنظام وقوانين تتابعية كما أرادها المخرج.

وهذا يعني أنّ هذا القانون هو من نتاج المصمم، والمصمم هو من يمتلك قدرة تسيير الواقع كيفما يشاء وهذا يقودنا إلى استنتاجات أخرى، مثل أنّ للمصمم قوانينه الخاصة التي تسري على عالمه، قد تتشابه مع عالمنا وقد لا تتشابه، أيضاً يمكن لهذا المصمم أن يتلاعب إن أراد في صيرورة العلة في هذا الوجود.

أيضاً، يقودنا هذا إلى أنّ العلم التجريبي كله غير صحيح قياساً لأننا نعتمد فيه على الترافق فيما نلاحظ وليس السبب الحقيقي للعلة، وهذا ما يضع كل معارفنا العلمية والحسية في مهب الريح، ويعيدنا إلى فكرة أنّ الإنسان بعقله لا شيء، بل مُجرَّد آلة تسير كما أراد لها المصمم أن تكون، آلة تافهة مسيرة لن تخرج أبداً لتصل إلى العلة الحقيقية لأي شيء كان، فلا تطمع كثيراً ولا تفكر فيما هو أعلى منها، بل عليها أن تفكر في نطاق حدودها المرسومة.

نلاحظ أنّ كل من المُؤمِنين والماديين يتلاعبون بالأسئلة حول الخالق، فيقول المُؤمِن “من خلق الكون؟” وهذا افتراض بأن الكون مخلوق، فيقول المادي “كيف أتى هذا الكون؟”، فيرد المُؤمِن بسؤال أشد مكراً: “ما سبب بداية وجود الكون؟” وتتوالى التراشقات بهذا الشكل، لنعود إلى فكرة عرضناها مسبقاً وهي أنّ للكون بداية أدّت إلى نشوئه وهي الانفجار العظيم، وأنّ الكون ليس أزلياً، أي له بداية، وكل صاحب عقل يسأل ماذا قبل، يجيب الماديون بأنه حتماً كان هُنَاك شيء قبل (لاحظ اعتمادهم على السببية) أو يقولون متحذلقين: لا ينفي الانفجار العظيم وجود شيء سابق (تلاعب لفظي للابتعاد عن السببية، لكنه يا عزيزي سببية مقنعة رغماً عنك) وهذا يعيدنا إلى الدماغ البشري الذي لا يتوقع إلا وجود سبب سابق لحدوث الشيء، الكرسي صنعه النجار لا محالة، أو أنّ الكباب على الطاولة قد وضعه شخص، لا يوجد خيار آخر.

رسم توضيحي 59 تدحرج السببية، لا بد للسبب من مُسبِّب.

ولكن يمكننا أن نتفق هنا أننا والعُلماء نصف ما يحدث في الطبيعة ولا نفسره، لا محالة إلا للتسليم بالسببية، فالعقل لا يمكنه فهم الأشياء دون مبدئها، صحيح أنّ شروق الشمس ليست غايته فتح المخابز لكن المخابز تفتح بسبب شروق الشمس، هذا على الأقل ما اتفق عليه البشر، ولو لم يفتح أحد المخابز يوماً سيكون هُنَاك سبب آخر أقوى من سطوع الشمس، كالمرض مثلاً، حتى لو لم ندرك الأسباب الظاهرية لهذا الأمر.

ولهذا أسئلة مثل: من برمج المبرمج أو من خلق الخالق أو من فعل الفاعل، تشبه سؤال من وصل قبل الأول! فهذا سؤال غير صحيح على الإطلاق على الأقل حسب العقل البشري، فلا يوجد من وصل قبل الأول، ومن ثم يتضح أنّ سؤال من خلق الخالق سؤال غير صحيح فلا يوجد من وصل قبل الأول، وتتوقف عند أول السلسلة المنطقية للأسئلة، ولذلك يُسمي المُؤمِنون الخالق بواجب الوجوب، أو الأول الذي لم يصل قبله أحد، هو الأول ننطلق منه ولا يُنطلق عليه، مثل أن تقول لفظة خارج الكون فلا يوجد شيءٌ فيزيائيٌ خارج الكون، وهنا عزيزي العقل عليك أن تُسلّم بأنك لا تتخيل من قدِم قبل الأول، وهذا أمر طبيعي ولا داعي للحرج منه، فالاستدلال خارج الزمان أو المكان هو أمر خارج عن قدراتنا، والزمان موجود بعد الانفجار العظيم كما هو المكان.

رأى الفيلسوف ابن سينا أنه يجب أن يكون هُنَاك قوة واجبة بذاتها، والعالم الحالي هو ممكن بذاته، وواجب بغيره (بالله) وهذا الإله هو واحد لا يصدر عنه إلا واحد هو العقل، والكثرة إنما تبدأ بهذا العقل الأول، وحينما نتعقله بعلته يصدر عنه ثالث، عقل يدبر الفلك الموجود، وبتعقله لذاته تصدر عنه نفسه.

يحاول أرسطو أن يفسر السببية بالتفكير في الغائية Teleology، فهو يُسلّم أنّ لكل سبب غاية، فحينما كسر محمد الشباك كسره لغاية وليس اعتباطاً، والأمر يتعدى البشر بل حتى الطبيعة، فحينما تمطر السماء، بعيداً عن السبب المادي من تجمع وتكثف بخار الماء، إلا أنها تمطر ليرتوي الزرع والحيوان، ولماذا أيضاً؟ ليستفيد الإنسان سيد المخلوقات في النهاية، الأمر أشبه بفكرة المبدأ البشري، وهذا يجعلنا نفكر ببساطة لماذا تتجمع الأسماك سوية في المحيطات، علاوةً على أنّ السبب المادي هو حماية أنفسها أو غيره، فالغاية هي أن يصطادها الإنسان بسهولة، قد تبدو الفكرة ساذجة، لكن التفكير بهذا الشكل يجعل لكل سبب في الدنيا متبوعاً بغاية نعرفها أو لا نعرفها، ويرى أرسطو أنه ما دام لكل شيءٍ علة (على الرغم أنّ المحركات لديه مجرد علة)، فإنه لو تتبعنا العلل إلى بداية الزمان فإنه لا بد من وجود علة أولى مسببة لكل العلل، ولهذا فإن التصميم الذكي يتوافق مع فكرة وجود علة، ويتوافق مع المنطق العقلي .

وبقي أن أشير إلى أنّ عدم تكرار حدوث الشيء هو الصدفة وليس التكرار، فتكرار موت من تم قطع رقبته هو من الأمور العادية، أما قطع رقبة أحد ما وعدم موته هو الصدفة، فالديمومة عكس الصدفة والصدفة هي الشيء غير العادي، وهذا يؤكد أنّ السببية هي الأساس لفهم الكون مهما حاولنا التفلسف، وعثورنا عدة مرات على عظمة (أ) في طبقات الأرض السحيقة قبل عظمة (ب)، لا يعني أنّ عظمة (ب) ظهرت من (أ)، في هذا الأمر يمكن أن نقول أنّ التتابع أو الارتباط لا يعنيان السببية.

إنّ التفكير في عدم وجود مبدأ السببية يضعنا أمام عالم مُرعب، عالم يسير وفقاً لأهواء شخص ما لا نعرفه، المُؤمِنون يعرفونه ويطمئنون به، غيرهم يبحثون عن القوانين ليطمئنوا، لكن لنتفق أنه يستحيل العيش في عالم فوضوي بلا قوانين فلسنا المختار نيو أو أي متحكم علوي في النظام الحالي.

الحتمية

ينطلق مفهوم الحتمية من فكرة أنّ كل ما يحدث في الكون من ظواهر محيطة مع إدراك الإنسان لها هي نتاج لسلسلة ظواهر مُحددة مسبقاً يُؤَدِي بعضها إلى بعض حسب قانون سببي ما، فالأحداث التي تحدث متعاقبة في الزمن هي أحداث مترابطة ذات هدف مُحدد سابقاً، وهي في إطار القوانين الكونية التي يستحيل فيها الصدفة، ولهذا نرى أنّ الحتمية قريبة من السببية في بعض الأحيان ولكنها تختلف في المعنى والمغزى، ويختلف العُلماء في منبع الحتمية، فبعضهم يؤمن أنها تنبع من قوانين الواقع الفيزيائي، وآخرون يرون أنها تنبع من ذاتية السببية بمعنى آخر هي مكتوبة علينا من قوة عظمى، ولكن التجريبيين لا يرون في الحتمية أي شيء ذي معنى لأن التجربة هي مصدر معرفتنا وتتابع الأحداث حاصل، لذا نَجِد أنّ الضرورة الملحقة بعلاقة السببية لا يمكن أن تكون إلا وهماً أو حدثاً نفسياً.

في الغالب نحن نعرف تسلسل الأحداث الفيزيائية حسب قوانين الكون، فلو أنّ كرة صدمت مزهرية زجاجية بقوة ووقعت المزهرية على الأرض فإننا نعرف أنّ المزهرية سوف تنكسر، هذا التسلسل في عقولنا تسلسل ناتج عن التجربة وعن ثقتنا في قوانين الكون الثابتة، ولكن ماذا عن أفعال الإنسان، هل هي حتمية؟ هل نملك إرادة حرة، أم نحن نخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء في أدمغتنا، يقول لابلاس: “إنّ الله يعرف التسلسل في الماضي ويعرف المستقبل”، وجميع الحوادث المستقبلية مُحددة مُسبقاً ومعروفة فيما يُعرف بمفهوم القدرية، فكل أحداث الكون تسير وفق مخطط رياضي دقيق من بدايته حتى نهايته، ولكن، ماذا عن البشر… هل أفعالنا مُحددة مسبقاً ونسير في طريق حتمي؟ بالتأكيد هذا سؤال مهم ولعله أساس كل الأسئلة الأخرى، وهذا ما سنعرضه في الفصل القادم.

مع تقدم العلم ووصوله إلى أصغر مكونات المادة اكتشف العلم أنّ جسيمات المادة لا تتصرف حسب القوانين المنطقية التي نعرفها بالعقل، على الأقل حتى هذه اللحظة، وكما وضحنا ذلك في علم مستقل عن علم الحركة الكلاسيكي اسمه ميكانيكا الكم، وحسب مبدأ الشك فإما أن تحدد سرعة الجسيم بدقة كبيرة على حساب الموضع أو أن تحدد الموضع بنسبة كبيرة على حساب السرعة، ولهذا لا توجد حتمية في عالم الكمّ فحينما نؤثر على جُسَيم بمؤثر ما فإننا قد لا نستطيع التنبؤ برد فعل الجسيم بالضبط بعكس العالم الكبير إذ لكل فعل رد فعل.

لذلك نجد ماكس بورن أبو الفيزياء الحديثة يفرق بين السببية والحتمية، فهو يرى أنّ السببية علاقة أساسية بين كل الأشياء في وجودها من المكان والزمان، ولكن تنتفي الحتمية في فيزياء الكم حينما نعجز عن التنبؤ التام بكل شيء، وأنّ هذا يرجح كفة الدين حيث الله هو وحده الذي يعلم ما تؤول إليه الأشياء.

بالسببية نعرف أين ستتجه الأمور بشكل حتمي، لكن في العالم الصغير، للأسف هُنَاك أسباب لكن لا حتمية في سيرها.

يرى أتباع التفسير العقلي للسببية في العالم (أتباع منهج أرسطو) أنّ هُنَاك عنصر ميتافيزيقي يربط بين السبب والمسبب وهي الضرورة أو الحتمية، أما أتباع التفسير الحسي المبني على الحواس لا العقل (الميل للمادة أكثر) فيرون أنّ السببية مُجرَّد تتابع بين حادثين متتالين قد ربط بينهم الاقتران الزماني والمكاني والتتابع، وبعيداً عن خوضنا في تفسير السببية مرة أخرى وأنواعها للتوضيح، فإن الخلاف لا يزال قائماً حول الحتمية ولم ينتهِ، ولن ينتهي في القريب العاجل.

الوجودية والعبثية

تقوم فكرة الجوهرية التي تتبناها الديانات على أن وظيفة الدين هي تبيين ما يجب أن يكون الإنسان عليه ليكون موجوداً في هذا الكون وذا فاعلية فيه ومتوافق معه، أي أنّ الجوهرية تقول إنّ الإنسان يصل إلى هذه الدنيا بتعليمات وحدود وأهداف مكتوبة مسبقاً من مصممه وعليه أن يسير عليها ليحقق المطلوب منه في الدنيا، وليكون ما هو (الماهية) في هذا العالم عليه أن يتبع التعليمات العليا، مثل أنه يجب أن يعمل الخير كما يريد الدين، ويجب عليه أن يبني ويجتهد ويساعد غيره ويخاف من الحساب والعقاب وغيرها من الأفكار التي يجب أن يسير عليها، وباختصار فإنّ معنى الإنسان يأتي مسبقاً قبل ولادته، ولا يجب أن يبحث عن معنى الحياة بشكل مبدئي لاحقاً، لأنّ الماهية سابقة للجسد.

على النقيض تماماً تعتقد الوجودية التي أسسها الفيلسوف سورين كيركغور وأكمل مسيرتها نيتشه أنّ لا جوهر للإنسان قبل وجوده، لا جوهر للإنسان وهو من عليه أن يعطي المعنى لوجوده في حياته، أي أنّ وجود الإنسان يسبق جوهره، على الإنسان أن يُوجد ثم يكون وجوده في العالم كما يشاء، فالجسد سابق الماهية والإنسان بشخصه هو محور أي عملية، وكل شخص منفرداً يجب أن يجد معنىً لحياته منفرداً وليس الدين أو المجتمع، لاحقاً أضاف الفيلسوف جان بول سارتر للوجودية فكرة أن الجسد هو المكون الأساسي للوجود الإنساني ولا شيء غيره.

تحاول الوجودية إخراج الإنسان من القولبة أو النمطية إلى حُريّة تحديد الحياة لكل إنسان، ظهرت لاحقاً محاولة للجمع بين الجوهرية والوجودية وذلك للجمع بين الفكرتين وإيجاد حل للدين واللادين وذلك بالفكرة القائلة أنّ الخالق خلق الوجود ولكن لم يعطِه معنىً مُحدداً.

العدمية

ينبع مبدأ العدمية من فكرة أنّ العالم كله بما في ذلك وجود الإنسان لا معنى أو غاية حقيقية له وكذلك المبادئ الدينية والأخلاقية لا قيمة لها ما لم يَصِغ الإنسان هدفاً ما فيها، وتحاول العدمية أن تجد حل للصراع الدائم في عقل الإنسان بين إيجاد معنىً لحياته وفشله في تحقيق ذلك المعنى، إنها بحث عن معنى في عالم اللامعنى، بحث عن جواب في عالم اللاجواب، وفيها أنّ البحث عن معنى للحياة هو عبث لا معنى له، لأنّ العالم الحالي لا معنى قاطع ونهائي له، وتخبرك العدمية بكل وضوح: لا تبحث أصلاً عن ذلك المعنى لأنك لن تجده، ونجد أنّ الأديان كما في الإسلام أجابت ببساطة عن هذا السؤال العظيم في معنى الوجود، وذلك بأنك مخلوق لكي تعبد الخالق، كيف وأين ولماذا بالضبط والمزيد من التفاصيل وماذا سأستفيد….إلخ، بعض هذه الأسئلة غير مجاب، يخبرك الدين أنك موجود للعبادة والإعمار ومحاولة العيش بسعادة، لاحقاً، عند تصحيح ورقة إجابتك ستتعرف على كل شيء، لكن الآن لن تحصل على إجابات إضافية.

تحاول هذه الفلسفة أيضاً أن تقول إنّ الإنسان وُجد وله إمكانيات محدودة، فلا يجب عليه أن يصبح حالماً مجنوناً، ولا يمسي مكتئباً محبطاً، عليه أن يدرك أنّ هذه هي قدراته، هو ليس سوبرمان أو نصف إله، بوضوح عزيزي الإنسان أنت هكذا معيوب، فتعايش مع عيبك، وهذا يا عزيزي لا يتعارض بالمطلق مع العدمية، بل هو أساسي فيها لأن العدمية تحاول أن تنكر كل فكر إيجابي كالقيم الأخلاقية والمبادئ الدينية، ولو شتمتك فهذا ليس بشيءٍ ذا قيمة.

وحسب الفلسفة العدمية فإنّ معرفة حدودك وأن الحياة عدمية من المفترض أن يحفزك على أن تستغل حياتك في كل جوانبها لأن الحيوان هو من لا يدرك العدم، أما الإنسان فمن المفترض أنه يفهم العدم ويتحرك نحو الوجود هرباً منه، وبإمكانك أن تكون أي شيء تتمناه، لكن لا تتمنى السيء لأنه في النهاية ستشير إليك أفعالك، فالإنسان مُعرّفٌ بأفعاله، وأنت يا عزيزي اخترت هذه الأفعال، في منهجنا الفلسفي هذا لا شيء مكتوب في القدر، أنت من كتبت حياتك، فأنت مسؤول عنها، فإذا كنت أنانياً أو مغروراً فأنت استحققت هذا اللقب بجدارة وأنت رغبت بأن تكون كذلك وهذا خلاصة وجودية الفيلسوف إيميل سيوران.

تنقسم العدمية الوجودية إلى مدارس وتتصل فلسفتها بجوانب كثيرة أخرى مثل الأدب والموسيقى والفن وحتى الأفكار مثل الأخلاق، وبذلك أمست أقرب إلى الأيديولوجيا أو الدين، فالعدمية الأخلاقية تفترض أنّ الأخلاق لا وجود بشكل مُجرَّد من المُجرَّد من العواطف فلا فرق بين الأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة سوى في المنظور البشري والأخلاق بناء بشري وهي نسبية حسب ما يرونه أخلاقياً أو غير أخلاقي وهذا ما رآه نيتشه في أوروبا، إذ أصر على أنّ الفلسفة العدمية هي الهواء الذي يستنشقه سكان أوروبا كل يوم، وحاول نيتشه جعل الغاية من هذه الفلسفة تحرير الفكر من التفكير العدمي وذلك بتوضيح أنّ معنى الموت يضع معظم الناس في مواجهة خطر اليأس وعدم جدوى الحياة، وتتداخل العدمية والعبثية كثيراً وكذلك فلاسفتها لذلك آثرت الحديث عن الفكرة العامة وليس الميل إلى التعريف.

يتساءل البعض، لماذا يرى الفلاسفة العدميون أنه لا يوجد هدفاً أو قيمة في الحياة، رغم أنهم قاموا بكتابة كتباً قيمة وفكروا كثيراً ليتركوا أثرهم ولا يندثروا بين ثنايات التاريخ، الإجابة تكمن في أنّ اتهام العدمية بالسلبية وإشاعة روح اليأس ليس أمراً صحيحاً على الرغم من ظاهر لفظة العدم المخيفة، بل وكما رأينا فالعدمية تحاول أن تشجعك على الإنتاج وليس الفناء والاندثار خلال مسيرتك في البحث عن الحياة.

تشجعك العدمية على التشكيك في استخدام الوعي في كل ما يحيط بك، فحتى الأخلاق قد تكون مطاطة ويمكن استبدالها، وعزيزتي المرأة انتظري قليلاً لأنه عليك الحذر، فالعدميون يقولون إنكِ من جلبهم لهذا الطيش العبثي (العالم)، وهو يتمنى لو أنك لم تجلبيه للحياة من رحم الحياة، وكل الخطايا أصغر من أن يأتي طفلٌ إلى هذا العالم، لذلك يهاب العدميون من الزواج والإنجاب والفيلسوف العدمي الكبير شوبنهاور مات دون أبناء، وقد أوصى الفيلسوف أبو العلاء المعري أن يُكتب على شاهد قبره “هذا جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحدِ”.

رسم توضيحي 60 هدايا العدميون.

يأتي لاحقاً الفيلسوف ألبير كامو ليكمل بناء العبثية قائلاً في مقاله أسطورة سيزيف: إنّ المُشكِلة الفلسفية الوحيدة التي يجب أن نبحث فيها هي مُشكِلة الانتحار، وسيزيف في الميثولوجيا الإغريقية هو ابن ملك وتاجر لئيم خدع إله الموت، فعاقبه زيوس بأن جعله يحمل صخرة من أسفل الجبل سيراً إلى أعلاه، وحين يصل إلى قمة الجبل جعلها زيوس تتدحرج من جديد إلى قاع الجبل فيرفعها ليعيد العملية نفسها مراراً وتكراراً إلى الأبد.

في حين يرى ألبير كامو أن سيزيف اختار أن يضيف لحياته العابثة معنى بفعلته اليومية التي لا قيمة لها، وهذا ما تفعله كل الموجودات البشرية وبين كل هذا الجنون في العالم يتمثل أمام الإنسان ثلاث خيارات وهي:

  1. الانتحار: ولكن، لا يواجه العبثية بهذا التصرف بل يصبح عبثياً أكثر.
  2. الإيمان بالدين: ورأى كريغور أنّ هذا أمر أساسي، واعتقد ألبير كامو أنه انتحار فلسفي.
  3. قٌبول العبثية: ويرى كامو أنّ إيمان الإنسان بالعبثية يعطيه حُريّة مطلقة، فدون قوانين أخلاقية يكون الإنسان حراً ويجد لنفسه مساراً خاصاً خالصاً.

صورة 15 لوحة تجسد سيزيف للفنان فرانز فون شتوك.

وبصفتي إنسان بسيط يبحث عن أبسط الأفكار، أرى أنّ الوجودية والعدمية تنطلقان من منطلقات الدين نفسها، حيث ضرورة السعي في الحياة وعدم اليأس بل وسيفهم كلٌ من المتدين والعدمي أنّ مبادئ الأخلاق لا اختلاف فيها، مثل العدل والمساواة والصدق والأمانة وغيرها، وإنّ وجود مبدأ مثل العدمية فيه أنّ الحياة بلا قيمة يجعل تحرير مصطلح العدمية من سوئه لا فكاك منه ويخلق لدى الإنسان مفارقة، بالإضافة إلى أنّ العدمية تظهر كآلة تفرّغ الإنسان من كل ما هو إنساني، وبذلك سيتفرغ من أسباب الحياة والرغبة في استمرارها أيضاً، منطق الدين أبسط في هذه النقطة، ناهيك بأن بزوغ العدمية حركت الثقافة الأوروبية كلها متجهة نحو كارثة الحروب في بداية القرن العشرين.

إنّ وجود أفكار مثل أفكار سيوران الذي يرى أنّ مُشكِلة الحياة الأساسية هي أننا قد ولدنا فيها، أو أفكار مثل ينقصني الشجاعة ويملؤني الخوف من الله لأنهي حياتي، لكن لا خيار إلا بالاستمرار، والحياة تصعب أكثر وأكثر لآخر لحظة، والإنسان بلا هدف وحيد، وأنّ العمل والجامعة والزواج ملهيات عن الغاية الأساسية لإنسان خلق بلا معنى كامل، يحاول أن ينسى السؤال الأساسي الوجودي بالبحث عن هذه المُلهيات وغيرها لهي نقاط سلبية لا أعتقد أنّ لها أثراً جيداً على الإنسان رغم صدقها في كثير من الأحيان، فالاهتمام في حياة الإنسان يجعله مُنتِجاً وذا فاعلية وهمة عالية ودافعية في الحياة، سواء كان هذا الاهتمام حقيقياً أم كاذباً فلسفياً.

تاريخ الفلسفة

على الرغم من أنّ الفلسفة اختراع روماني بحت نقلها العالم ومنهم المُسلمون في فترة من الزمن ونفخوا عن كتبها الغبار، عبر ابن سينا والكندي والفارابي وابن رشد والغزالي، إلا أنّ أوروبا ما لبثت إلا أنّ استعادت ملكها بعد عصورها المظلمة، ليكملوا ما بدؤوه، لكن هذا لا يمنع من دخول جوانب غير أوروبية وغير رومانية في الفلسفة.

تعرض الكتب الفلسفية الفلسفة كما صدرت في قارة أوروبا فقط وكأن لا علاقة لأي شخص في العالم في التأثير في الفلسفة وهذا حسب ما هو ظاهر مُشكِلة لأن الكتب تجاهلت تأثيرين:

  1. تأثير عوالم أخرى وعلماء من حضارات أخرى ساهمت في مسيرة الفلسفة بقوة، والمُسلمون لديهم فلاسفة أثروا في الفلسفة كثيراً، وقد ذكرت العديد من الكتب الغربية الغزالي وابن رشد وغيرهم بتمجيد.
  2. تأثير فلاسفة مثل محمد وعيسى وموسى وإبراهيم وبوذا وزرادشت وغيرهم، ستتعجب من تسميتهم فلاسفة ولكن لمَ لا؟ هذا ما سنوضحه الآن.

إننا نرى بوضوح في موضوع السببية، أنّ ما قاله ديفيد هيوم هو حرفياً ما قاله أبو حامد الغزالي، وهناك علاقة بين شك ديكارت وشك الغزالي، وكذلك علاقة بين أفكار لايبنتز وأفكار الغزالي، ونرى أنّ أرسطو افترض مسبقاً وجود الله وسماه العلة الأولى وهذا يدل على أنّ هُنَاك مرجع ديني لهذه الفلسفات، فالفيلسوف يملك رؤية للمفاهيم ويحاول الإجابة على أسئلة تَفُوق أحياناً قدرات العقل ويبحث في خبايا العقل، ولربما سبق زمانه بأفكار غريبة مثل المساواة بين الرجل والمرأة وخلود الروح وثنائية الجسد والروح وغيرها، فلماذا لا يتم دراسة تاريخ الفلسفة في وجود الأنبياء عفواً الفلاسفة موسى وغيره!

كما أنّ فكرة الثنائية بين المادة والروح، العقل والجسد لهي واضحة أنها من منبع ديني، وإلا لماذا لم يخرج فيلسوف بثلاثية أو رباعية! العقل والجسد والتنور، المادة والروح والأثير، هذه الثنائية وغيرها من الأفكار توضح أنّها منسوخة من دين سماوي لا محالة، وكثير من منشأ الأفكار الأخرى ديني وتناقلها الناس حتى وصلت إلى الفلاسفة فتفلسفوا فيها، كما أفعل الآن.

صورة 16 قائمة بالفلاسفة المُسلمين من أحد المراجع الأجنبية.


يرى هيغل أننا يجب أن ندرس الفلسفة في إطار حركة التاريخ، فالنهر على سبيل المثال هو نهر لكنه يختلف من ثانية لأخرى في مجراه، ولا يمكننا إطلاق على نقطة مُحددة فيه على أنها نهر، بل كل ما فيه يمثل كونه نهراً [145] فمنسوب المياه وكمية الحصى والطمي واتساع المجرى وضيقه وغيرها من الصور تتحكم في آلية عمله، فمثلاً لا يمكننا فهم قٌبول الناس بفكرة العبودية ببعض الأزمان بل وتشجيعهم عليها، بعيداً عن فهم المرحلة التاريخية التي مرت فيها هذه النقطة، يرى هيغل أنّ الأفكار كلها صحيحة في زمانها، لأنه من الصعب إخراجها من إطارها التاريخي الزمني، فأفكار أرسطو في زمانه صحيحة، وكذلك أفكار أفلاطون، فلا أحد منهم على خطأ وما دامت الأفكار تُبنى فوق بعضها البعض، فعلى الأغلب الفلسفات الحديثة أصح من الفلسفات والأفكار القديمة لأنها تطورت، فقد استطاع النهر عبر آلاف السنين تفتيت الكثير من الصخور التي كانت تقف في طريقه، ويعتقد هيغل أنّ فكر العالم سيتطور أكثر إلى أن يكون أفضل.

لكن فكرة هيغل لن تغير كثيراً في معتقدات البشر إذا درسناها بهذا الشكل، ماذا لو رأينا فيلسوفاً قد أضاف للعالم ما لم يكن متاحاً في سياقه التاريخي، كسر 50 قاعدة سائدة، وأضاف 100 قاعدة غيرها، ألا يعطينا هذا انطباعاً عن تدخلات خارجية ليست من هذا العالم، إنّ مجرى التاريخ البسيط قد حطمه الفيلسوف موسى، والفيلسوف عيسى، والفيلسوف محمد، وأي مجرى يُسيّرهم! هم من صنعوا المجاري والأنهار وفجروا العيون، لم تكن أفكارهم أبداً في سياقها التاريخي، بل كانت سابقة لزمانهم، ومغيرة لمئات الأفكار في زمانهم، ألا يشير هذا لشيء؟ لا مُشكِلة لدي أن تقول من الصعب أن أؤمن أنهم مرسلون، لكن على الأقل آمن أنهم عباقرة جداً، اجتمع في كل شخص منهم حزمة من الفلاسفة وأخرجوا لنا ما بدا منهم.

ومن الملاحظ أنّ المُؤمِنين أقل طرحاً للكثير من الأسئلة الفلسفية، هذا لأن الدين أتاح لهم مرجعاً يشمل الكثير من الأسئلة المشابهة وإجابات متوافقة مع الفكر الديني، أما من لا يرجع للدين، فمن البديهي أن يملك أسئلة أكثر من غيره، وبالمناسبة ليس أغلب الفلاسفة ملحدين، ولكن مرة أخرى هذه الأسئلة في الدين مجاب عنها، أما في غير الدين فهي بحاجة إلى إجابة، لذا هذه الأسئلة في مكانها الصحيح، سواء كنت مُؤمِناً بالإله أم بغيره.

العقل

كما رأينا فقد انقسم الفلاسفة إلى معسكرين: معسكر العقل ومعسكر الحواس، بين العقلي والتجريبي، بين الانطباعات المسبقة والانطباعات الحادثة، وهل يصل الإنسان إلى المعرفة عبر الاستنتاج والاستدلال؟ أم يصل إلى المعرفة نتيجة التجربة والملاحظة، وسنحاول أن نستعرض آراء كل معسكر لنرى أين العالم من العقل والحواس.

لقد حاول كانط في كتابه نقد العقد الخالص أن يناقش قضايا العقل المُختلفة، ويقصد بالعقل الخالص العقل كما وُلد قبل أي تجربة، وقد أراد كانط وصف الإدراك الحسي، ثم أن يفحص إن كان هُنَاك إدراك يسبق الحس ومستقل عنه، وذلك في محاولة لوصف الفكرة والعقل قبل أن توجد تجربة أو يختلط بها، وقد أطلق لاحقاً عليها تسمية المعرفة القبلية، أي المعرفة التي لا تتطلب البرهان.

أطلق الكاتب الروماني شيشرون تسمية قانون الطبيعة على العقل الخالص إذ قال: “إنّ القانون الصحيح هو العقل الخالص المتفق مع الطبيعة، والذي يدخل في نطاقه العالم بأسره، والسَّرْمَدِيُّ الذي لا يتبدل، وليس من حقنا أن نقاوم ذلك القانون، وليس في مقدورنا أن نلغيه، ولا نستطيع أن نتحرر مما يفرضه علينا من التزامات بالتشريع، أياً كان هذا التشريع ولسنا في حاجة إلى أن ننظر خارج أنفسنا، لنبحث عن شرح له أو توضيح. وهذا القانون لا يختلف في روما عنه في أثينا، ولا في الحاضر عنه في المستقبل، وهو قانون صحيح ثابت عند جميع الأمم، ومن عصاه فقد أنكر نفسه، وأنكر طبيعته” [147].

قيلَ لي في الدَيرِ قَومٌ أَدرَكوا سِرَّ الحَياة ….. غَيرَ أَنّي لَم أَجِد غَيرَ عُقولٍ آسِنات

وَقُلوبٍ بَلِيَت فيها المُنى فَهيَ رُفات….. ما أَنا أَعمى فَهَل غَيرِيَ أَعمى

لَستُ أَدري

قيلَ أَدرى الناسِ بِالأَسرارِ سُكّانُ الصَوامِع ….. قُلتُ إِن صَحَّ الَّذي قالوا فَإِنَّ السِرَّ شائِع

عَجَباً كَيفَ تَرى الشَمسَ عُيونٌ في البَراقِع ….. وَالَّتي لَم تَتَبَرقَع لا تَراها

لَستُ أَدري

العقل والدماغ

شاع في القرنين الماضيين صراع بين معسكري المثالية والمادية، فالمعسكر الأول يرد الظواهر إلى الفكر ولربما يشكك في وجود العالم كله، أي أنّ الوعي يسبق المادة، بينما يرى المعسكر الثاني العكس، فهو يرى أنّ العقل هو نتيجة تفاعلات كيميائية ينتج عنها كل ما نراه من إدراك، أي أنّ المادة سابقة للوعي، وهذا بطبيعة الحال يتماشى مع الكون المادي الذي نعيشه.

ومن المهم التفرقة بين العقل والدماغ، فالدماغ هو المادة الحية الموجود داخل الجمجمة، أما العقل فهو الجانب غير المادي المسؤول عن الوعي والتصور والإدراك والتفكير، ولم أرَ إلا قلة قليلة تقول بأن العقل هو الدماغ والسبب في هذا يعود إلى الأبحاث الحديثة في مجال الأعصاب.

على الرغم من أنّ القرن التاسع عشر كان قرناً مادياً بامتياز كما سبق التوضيح، إلا أن طموح العُلماء لم يتوقف، فقد آمن العُلماء أنهم في القرن العشرين سيفكون لغز الدماغ بالكامل، وسيتحكمون في التفكير والوعي والإدراك والذكريات والأحلام والصور، وسيقومون بحذف وتعديل أي صورة تظهر في دماغك.

لكن ما حدث مع علماء الأعصاب لاحقاً وخصوصاً العالم ويلدر بنفيلد غيّر كلَّ شيء بالكامل، إذ قام هذا العالم بدراسته من خلال عملياته الجراحية التي أجراها على أدمغة ما يزيد عن ألف مريض وهم في حالة الوعي، ومن ثم أطلق ملاحظاته حول وظيفة الدماغ لتكون في كمالها أوضح من أدلة العمليات والتجارب التي سبقته والتي كانت قد أُجريت على أدمغة أشخاص في غير وعيهم بل وعلى حيوانات أحياناً، ويعد بنفيلد أول من قام بدمج مباحث الأعصاب وفسيولوجيا الأعصاب وجراحة الأعصاب وتوّج عمله في كتابه لغز العقل ليكون كنزاً للعلماء من بعده.

بدأت تجارب بنفيلد على مرضى الصرع في محاولة لعلاجهم باستخدام الجراحة، فقد كان بنفيلد يُخدّر مرضاه تخديراً كاملاً فيدخل المريض في حالة الغيبوبة، ثم يقوم أثناء الجراحة بإزالة جزء من جمجمة المريض، ومن ثَم يعيد المريض إلى وعيه، والجدير بالذكر أنه لا يوجد في الدماغ أعصاب حسية، لذا لا يشعر المريض بأي ألم حينما يتم لمس الدماغ والتلاعب به، واستخدم بنفيلد في تجاربه على الدماغ قطباً كهربائياً، ليحدد المناطق التي تسبب نوبات الصرع للمريض ومن ثَم يزيلها.

لاحظ بنفيلد أنه حينما يلامس القطب الكهربائي منطقة النطق الواقعة في الدماغ فإنه يحدث فقدان مؤقت (حبس) للقدرة على الكلام عند المريض، ونظراً لانعدام الإحساس في الدماغ فإنّ المريض لا يُدرك أنه مُصاب بالحبسة إلّا عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم الكلام فيعجز عن ذلك، وفي التجربة تم عرض صورة فراشة وقام بنفيلد بوضع القطب الكهربائي، إذ يُفترض وجود قشرة المخ الخاصة بالنطق، فظلّ المريض صامتاً للحظات ثم طقطق بأصابعه كما لو كان غاضباً، فقام بنفيلد بسحب القطب الكهربائي فتكلم المريض وقال: الآن أقدر على الكلام إنها فراشة لكني لم أستطع النطق بكلمة فراشة [2].

لقد تعرف عقل المريض على الصورة المعروضة على الشاشة وأرسل طلباً لمركز الكلام في دماغه لكي ينطق بالكلمة التي تقابل المفهوم الماثل في ذهنه لكن تعذرت العملية، هذه التجربة وغيرها قادت بنفيلد إلى فكرة جوهرية هي أنّ آلية النطق والكلام ليست هي عملية التفكير والإدراك، وإلا لأصبح من المفترض إذا توقفت منطقة الكلام أن تتوقف منطقة الكلمات المسؤولة عن التفكير فيها، وما الكلمات المنطوقة أو المكتوبة إلا أدوات للتعبير عن الأفكار، ولكنها ليست هي الأفكار بالمطلق.

وقد أُجريت تجارب تبين صحة هذه الفرضية وذلك حينما حصل ما هو معاكس للنظرية السائدة، إذ قام بنفيلد بوضع القطب الكهربائي في مناطق الدماغ المسؤولة عن الحركة فقام المريض بتحريك يده وكان بنفيلد يسأله مراراً عن ذلك وكان جوابه على الدوام أنا لم أُحرك يدي بل أنت الذي حركتها وحدثت التجربة نفسها في النطق فقال المريض: أنا لم أخرج هذا الصوت أنت من سحبه مني.

وهذه الحركات اللاإرادية تُشبه ردّ فعل الساق حين النقر على الركبة بمطرقة خفيفة، وهذا أيضاً يحدث مع القطب الكهربائي فهو قد يُؤَدِي إلى أحاسيس بسيطة كأن يجعل المريض يُدير رأسه أو عينيه أو يُحرك أعضاءه أو يخرج أصواتاً وقد يُعيد إلى الذاكرة إحساساً حياً بتجارب ماضية، أو يُوهمه بأن التجربة الحاضرة هي تجربة مألوفة أو أنّ الأشياء التي يراها تكبر وتدنو منه، ولكن المريض يظل بمعزل عن كل ذلك وهو يصدر أحكاماً على كل هذه الأمور.

ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة انتهى بنفيلد إلى أنّ عقل المريض الذي يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بُدّ من أن يكون شيئاً أخر يختلف كلياً عن فعل الأعصاب اللاإرادي، ومع أنّ مضمون الوعي يتوقف إلى حد كبير على النشاط فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك [2].

وباستخدام أساليب المراقبة هذه استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق والحركة وجميع الحواس، إلا أنه لم يتمكن من تحديد موقع العقل أو الإرادة في أي جزء من الدماغ، فالدماغ مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة ولكنه فيما يبدو ليس مقر العقل أو الإرادة.

وقد أوضح بنفيلد أنه ليس في قشرة الدماغ أي موضع يمكن من خلاله أن نجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئاً أو يصطنع القياس المنطقي أو يقوم بحل مسائل في الجبر، صحيح أننا يمكن أن نحرك مواضع عبر التلاعب بقشرة الدماغ، لكن لا يوجد موضع بالمطلق يمكن أن نجعل المريض يريد تحريك هذا العضو، أي لا يوجد موضع لاتخاذ إرادة تحريك أي عضو، لذلك الواضح أنّ العقل البشري والإرادة البشرية ليس لهم أعضاء جسدية، يستحضرني هنا مقطوعة من أعظم السيمفونيات في هذا العالم وهي السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، والتي كان قد ألّفها وهو مصاب بالصمم الكامل، لكنه كان يسمعها في عقله، يسمع النوتات تتطاير من أمام أذنيه في عالم اللامادة ويقوم بتلحينها على البيانو.

صورة 17 ولادة فينوس للرسام ساندرو بوتيتشيلي. فيها الآلهة فينوس تخرج من البحر كامرأة كاملة.

هذه التجارب تُبين أنّ الخواص العليا للعقل والوعي هي التي تملك زمام الأمور؛ فهي من تتحكم في العمليات الفيزيائية والكيميائية، وهي التي تحدد حركات جسم الإنسان، ويقول بنفيلد: “إنّ العقل لا الدماغ هو الذي يراقب ويوجه في آن واحد، فالعقل هو المسؤول عن الوحدة التي نحس بها في جميع أفعالنا وأفكارنا وأحاسيسنا وعواطفنا”.

إنّ العقل الواعي من يتيح وحدة التجربة الواعية لا آلية الأعصاب، وفي هذا السياق يقول بنفيلد: “إنّ الحاسبة الإلكترونية والدماغ كذلك لا بد من أن تبرمجها وتديرهما قوى قادرة على الفهم المُستقل، وما تعلمنا أن نُسميه العقل هو الذي يركز الانتباه فيما يبدو، والعقل يعي ما يدور حوله وهو الذي يستنبط ويتخذ قرارات جديدة وهو الذي يفهم ويتصرف كما لو كانت له طاقة خاصة به، وهو يستطيع أن يتخذ القرارات وينفذها مستعيناً بمُختلف آليات الدماغ”، ولذلك إنّ توقع العثور على العقل في أحد أجزاء الدماغ، أشبه بتوقع كون المبرمج جزء من الحاسب الإلكتروني، ويؤكد عالم الأحياء أدولف بورتمان على أنّ أي كمية من البحث على النسق الفيزيائي أو الكيميائي لا يمكنها أبداً أن تقدم صورة كاملة للعمليات النفسية والروحية والفكرية [2].

وعلى ما يبدو أنّ بنفيلد قد حسم الجدل بين العقل والمادة إلى الأبد مُبيناً أنّ العقل شيء مُختلف عن المادة، فقد أكد أنّ تفسير العقل على أساس النشاط العصبي داخل الدماغ سيظل أمراً مُستحيلاً كل الاستحالة، مع العلم أنّ بنفيلد قد بدأ أبحاثه بهدف إثبات العكس كغيره من العُلماء إذ سعى جاهداً إلى إثبات أنّ الدماغ يفسر العقل، لذا بدأ أبحاثه مسلحاً بجميع افتراضات النظرة المادية إلى أن حملته الأدلة إلى الإقرار بأن العقل البشري والإرادة البشرية حقيقتان غير ماديتين، وعلى هذا آمن بنفيلد بحق بوجود الروح وأن العقل والإرادة غير ماديين، وعلى ما يبدو أنه كلما تقدم العلم سيقوم بفك المزيد من خبايا الدماغ والعقل، لكن سيبقى هُنَاك حد فاصل يصعب تجاوزه، ومع كل هذه الاكتشافات والإثباتات فإن النظرة المادية للدماغ هي أحد الأمور التي تراها في علم النفس التطوري، والذي لا يزال يستخدم في القرن الحادي والعشرين في يومنا هذا معتمداً على فكرة أن العقل نظام جسمي يعمل بمثابة حاسوب من الدارات التي تطورت كي تولد السُلُوك الملائم للبيئة [150] والوعي هو جزءٌ ضئيل من محتوى العقل وعملياته!

لقد صار بالإمكان عبر عالم الحاسوب تقريب الصورة بشكلٍ أفضل، فالحاسوب يشمل مُكونين: مُكون مادي ومُكون برمجي، وإن احتوى أي عتاد مادي على نظام داخلي ليعمل، إلا أنه يبقى بحاجة ملحة إلى نظام تشغيل يتحكم في سير كل الأجزاء سوية، وفي الحقيقة ما رأيت إلا نادراً في هذا اليوم من يقول بعدم وجود شيء غير مادي يتحكم في الإنسان، سَمِّهِ الروح، سَمّهِا النظام، سَمِّهِا شيئاً غير مكتشف، لكن العلم يسلم بهذا بكل وضوح، وعليك أن تُسلِّم به عزيزي المُؤمِن المادي، ومهما كنت مريضاً فإنّ الرقم 5 سيبقى أكبر من الرقم 3 في عقلك، فالعقل قادر على السمو فوق الحدود المادية، إذ يرى ديكارت أنّ العقل لا يشيخ لأنه الروح، والعقل لا يتجزأ حينما نفقد جزءاً من جسدنا، والعقل يستطيع فهم الأرقام واللُغة والمنطق وهذا ما لا يُمكن للمادة استيعابه، كذلك يستطيع العقل أن يستدعي صوراً ولحظاتٍ من الذاكرة، وهذا في ظل وجود الإدراك الحسي الحالي، دون أن تتداخل اللحظات والصور الزمنية بين الحاضر والماضي، وقد تخوننا الذاكرة ونضغط عليها حتى نتذكر اسم شخص قد نسيناه، ويا للعجب، نتذكر اسمه بعد أن نكون قد “عصرنا عقلنا”.

اقترح أحد العُلماء في محاولة لتقريب تصور عمل العقل والدماغ تجربةً سُميت بتجربة ماري، افترض فيها أنّ ماري عالمة أعصاب في المستقبل القريب عاشت كل حياتها في حجرة ذات لونين فقط: أبيض وأسود، ولم ترَ لوناً آخر سواهما، لكنها خبيرة في منطقة دماغية مسؤولة عن رؤية الألوان، وتعرف كل شيء عن التفاعلات الكيميائية والفيزيائية في الدماغ وآلية عمل الدماغ وفهمه لمعلومات الصور وحفظها واسترجاعها، وتعرف الطريقة التي تقابل بها أسماء الألوان الأطوال الموجية في الطيف الضوئي في آلية عمل الدماغ، ولكن يبقى هُنَاك أمرٌ أساسي حول رؤية اللون تجهله ماري، كيف عساها أن تحدد لون ما كالأحمر؟ وهذا يعني أنّ هُنَاك حقائق عن الخبرة الواعية لا يمكن استنباطها من الحقائق الكيميائية والفيزيائية المتعلقة بعمل الدماغ.

حينما فتح بنفيلد جمجمة مرضاه لم يخَف من أن تطير فكرة في نقطة كيميائية وتقع خارج الدماغ، تعامل مع الدماغ كأي عضو حيوي مثل الكبد والكلى ولم يخف فقدان شيء ما، كما أنّ خلايا الإنسان وبروتيناته ليست من تقرأ الكتاب الآن، إنها مسؤولة عن نقل الإشارات فقط وهُنَاك شيء آخر يكون الصورة هذه، المادة غير قادرة على التصرف الحر أو التخطيط، إنها غير قادرة على بناء تصورات لمنازل وجبال ومغارات وأشخاص وغيرها، هذه القدرة الذهنية تَفُوق كل القدرات التي يمكن شرحها، وهي حتماً ليست من تفاعل الكربون مع الهيدروجين، وفي هذا السياق دعونا نتساءل من يتحكم بالآخر؟ العقل بالدماغ، أم الدماغ بالعقل، أو من هو الأسمى والأعلى درجة في مستوى التحكم!

صحيح أنّ معرفة المتحكم يعد أمراً صعباً؛ لأننا منذ بداية حياتنا حتى نهايتها لا نستطيع أن نفصل الاثنين عن بعضهما البعض، إلا أنّ بعض الشواهد تفيد بأن العقل هو المسيطر على الدماغ، فالبشر يصومون قاهرين أجسامهم المادية لتهذيب أخلاقهم غير المادية، ولو كان الجسد المسيطر لما استطعنا القيام بهذا الصيام القاسي، ولما استطعنا الاستيقاظ مضطرين أو الدراسة مكرهين رغبةً في تحقيق شيئاً أكبر، ولما ذهب الجندي متسلحاً بحب وطنه ليلقي بنفسه في مهاوي الردى.

إنّ من يتم بتر ساقه أو يده أو استبدال أي عضو من جسمه بعضوٍ آخر سواء عبر الاستبدال أو الزرع أو عبر الأطراف الصناعية يبقى كما هو، فلا ينقص ولا يتغير، يبقى تفكيره وذاته، أي تبقى الأنا كما هي، فلا يقول أنا نفسي ولكن أنايا دون يد، العقل كما هو سواء قبل أم بعد، أيضاً إذا قرأتُ كتاباً وانسابت فكرةٍ في عقلي قد تغيرني بالكامل وتجعلني أتخذ قرارات مصيرية لم أتخذها على جسدي سابقاً، وأنا نفسي وفكري لست كأنا كما كنت قبل ثلاث سنوات من الآن، أنا أختلف كلياً، مع بقاء جسدي كما هو، إلا أنّ الوعي مُتغير كما يرى بوذا؛ فتفكير الإنسان سلسلة متغير من الدورات النفسية التي تجعل الإنسان يتغير كل لحظة عن الأخرى.

حُريّة الإرادة

تستهوينا عبارات مثل الحُريّة الفكرية أو لكي تكون إنساناً عليك أن تُحررَ عقلك وغيرها من العبارات التي تؤكد على أنّ الإنسان حر وسيد قراره، ولا شيء كائن إلا ما يكتبه الإنسان بخط يده، ويستطيع الإنسان أن يكون ما يريد، هذا ما تُنادي به الوجودية والقدرية وغيرها، لكن دعونا ننظر إلى داخل هذه العبارات ولنرى إلى أي مدى هذا الإنسان حر، ولنبدأ عبر ضرب الأمثلة، ولنتساءل: هل يقرر الحوت أن يزحف على اليابسة أم هو مضطر أن يسبح في الماء؟ هل يقرر القرش ألا يفترس الأسماك حين يراها؟ هل يمكنه أن يصبح نباتياً! كلا فهو يعيش وفق قوانين الطبيعية التي وُجد فيها، هل يمكن لشجرة امتصت ماءً أكثر في تربة ٍغنيةٍ أكثر ألا تثمر أكثر من مثيلاتها؟ هل يستطيع الطفل ألا يبكي؟ أو هل يمكنه ألا يلتقم أي شيء كحلمة الثدي حينما يتم تقريبها له؟ كل هذه الصور لا يمكنها الخروج عن قوانين الطبيعة بالمطلق.

هل لا يستمتع الرجل بإبراز قوته واستخدامها؟ هل لا تستمتع المرأة بإبراز مفاتنها ورقتها وجمالها؟ كلا فكل منهما يسير وفق الخطة الطبيعية، نعم نملك القدرة على التفكير والتحليل والتخيل، لكنها قدرة في إطار مُحدد، كما أني أملك القدرة على تحريك رقبتي، ولكن في إطار ضيق، فلن أستطيع تحريكها بدرجة 360 درجة.

كل هذا قرره شيء خارج عنا، سمِّها الطبيعة أو الله أو كريشناه، لكن لتعلم أنّ حُريّة إرادتك تكون في حدود القوانين الطبيعية، لا يمكنك ألا تكون إنسان وتخرج عن طور الطبيعة الإنسانية، وفي هذا يقول شيلنغ أنّ الوعي والطبيعة ليسا شيئين منفصلين، بل إنهما شيءٌ واحد، فالعالم موجود في الله الذي يعرف ماذا يخلق، ويقول فيخت وما الطبيعة إلا إحلالاً لحكمة عليا، أي مبدئياً هناك قيود معينة وأفكار مُحددة لا يستطيع أي إنسان تجاوزها.

يقول سبينوزا: إذا سألنا الطابة الملقاة في الهواء هل أنت حرة، فإنها ستجيب: نعم، أنا حرة، مع أنها ليست كذلك، هُنَاك من دفعها ولكنها في تلك اللحظة اعتقدت أنها حرة، لذلك رأى سبينوزا أن الإله واجب، لأنه هو الحر الوحيد، وهو من أوجد القانون الذي هو نظام، والنظام أتى من فاعل، ولا معنى للقانون دون مُوجد، هُنَاك من نظّم الأشياء بهذا الشكل، فلا يجوز الاستدلال بالقانون على انضباط الأشياء دون وجود الله.

ولنتساءل، من أين تأتينا الأفكار؟ هل وقفت يوماً في مكان ما لإلقاء مجموعة من الجمل المترابطة وبعد الانتهاء قلت لا أعلم كيف أتاني الكلام، لقد ذهب خيالك بعيداً وتركت اللاوعي يتحدث، لقد خرج الكلام من قلبك ولم يخرج من رأسك، وغيرها من العبارات التي تدل على الذهول كيف أتتك هذه الجمل، أو أنك جالسٌ في نقاش فلمعت في خيالك فكرة جهنمية قلت هذه ستقلب الطاولة، أجبني من أين بزغت هذه الفكرة في دماغك؟

وقد حاولت دراسات كثيرة أن تؤكد أنّ الدماغ هو المسؤول عن القرارات والأفكار وأنّ قراراتنا تتحدد بصورة مسبقة في اللاوعي قبل زمن طويل من دخولها مرحلة الوعي، وادعت أنها وجدت بعد الدلائل الكيميائية، لكنها لم تكن كافية أبداً، فهي لم توضح أنّ الدلائل الكيميائية ناتجة لكي يتدفق سائل ما في الدماغ ليعمل أو حتى يستهلك الدماغ بعض الطاقة أو حتى أن يبدأ الدماغ بإعطاء إشارة للسان لكي يتكلم، وقد بتنا نعرف أنّ الترافق لا يعني السببية! والحقيقة أنّ سؤال كيف يأتي الفكر والحديث كان مطروحاً منذ القِدم، طرحه كل الفلاسفة على مر العصور ولم يصلوا إلى صورة مرضية، والظاهر أنّ الأفكار تأتي من عالم الأفكار الذي لا نعلم عنه شيئاً، العالم هذا مقارب لعالم الأفكار أو المثل عند أفلاطون، أو هي باختصار ليست من العالم الذي نعرفه، لا أتكلم عن مزج الأفكار السابقة لتتولد فكرة جديدة، بل أتكلم عن فكرة جديدة كلياً أو فكرة ظهرت من العدم.

هذا الحديث كله بعيداً عن الفلسفة المادية، فالفلسفة المادية لا يوجد بها حُريّة إرادة مهما تحايل العُلماء، فهي تقول قولاً واحداً أنّ احتكاك الذرات ببعضها وتفاعلها كيميائياً وفيزيائياً ينتج ميكانيكياً التفكير، وقراراتنا هي نتاج تفاعلات كيميائية، ويمكن أن نتحكم قليلاً ببعض المواد الكيميائية بدرجات معينة فيُنتج الدماغ الفكرة التي نرغبها، ولا مجال أن يتحرر الإنسان من هذه التفاعلات، لأنّ دماغه مكونٌ من تفاعلات فقط، نحن تجاوزنا هذه الفكرة مع علماء الأعصاب مثل شرنغتون وبنفيلد وإكلس وغيرهم، ومرة أخرى، قلة قليلة في يومنا هذا تقول أنّ العقل نتاج تفاعلات كيميائية بحتة، صحيح أنّ الدوبامين والسيروتونين والإندورفينات endorphins وغيرها من المواد لها تأثير على عمل الدماغ، لكن الأساس هو العقل، ولو كان الإنسان سعيداً أو حزيناً فهو من سيُحرك الخلايا لإنتاج هذه المواد وليس العكس، وهنا نتساءل، إذا كانت المادية تخبرنا أنّ الإنسان نتاج تفاعلاته الكيميائية فحسب، فلِمَ يحاسب الإنسان على أفعاله؟ لماذا نلوم هتلر على جرائمه، إنه مُسيّر ولم يكن يوماً مُخيّراً، وما نفع مراكز إعادة التأهيل؟ وما نفع السجون؟ والمستشفيات النفسية والأطباء النفسيين في علاج مجرم ما! إنها الكيمياء فحسب، إننا بحاجة إلى كيميائي لتحسين سُلُوكه، ولسنا بحاجة إلى نفساني.

يوضح عالم الأعصاب جون إكلس ذلك فيقول: “لقد تعلمت بالتجربة أني أستطيع عبر التفكير والإرادة أن أتحكم في أفعالي إذا شئت، لكن لا أملك القدرة على أن أُقدم تفسيراً علمياً كيف يستطيع التفكير أن يؤدي إلى الفعل، وحين يؤدي التفكير إلى الفعل، أجد نفسي مضطراً كعالم متخصص في الأعصاب إلى افتراض أنّ تفكيري يُغيّر بطريقة تستعصي على فهمي أنماط النشاط العصبي التي تؤثر في دماغي”.

وقد لاحظ الفيلسوف إدموند هوسرل هذا الإشكال فقال: لقد تقدم الإنسان في كفاحه الوجودي بسبب الانتقاء الطبيعي في نظرية التطور الحديثة، لذلك تقدم وتطور عقله بالطبع، وقد تطور مع العقل كل الوظائف اللازمة له، ولا سيّما الصور المنطقية، هذا يدفعنا إلى التفكير أنّ القوانين المنطقية هي سمة عارضة للبشر، وأنها قد تختلف في سلسلة التطور البشري [15].

Surrealist Art The Son Of Man Painting
ولنُقرّب الصورة أكثر، حينما نرى شمعة، فإنها كما نعلم تنتج لدينا نتيجة انعكاس الضوء على العين، فتقوم العين بتحويلها إلى إشارات كهربائية لكي يفهمها الدماغ بدوره، لكن العين ليست العضو المسؤول عن الرؤية، إنما هي العضو الذي يحوّل الضوء إلى إشارات، أما مسؤولية الإبصار موجودة في الدماغ، ماذا لو كان الإنسان غائباً عن وعيه؟ وقمنا بفتح عينه وجعلنا الضوء يمر عبرها وحدثت التفاعلات الكيميائية والفيزيائية نفسها في شبكة العين وانتقلت للدماغ، هل ستحدث الرؤية؟ ثم إنّ الدماغ المكون من شحمٍ ولحم ويقبع في صندوق مغلق من أين ظهرت هذه الصورة التي تراها الآن من إدراك ما حولك، وبالمناسبة هذا أحد أمراض الإبصار، إذ يرى بعض البشر كل شيء، لكنهم لا يستطيعون أن يميزوا ما هو، مثلاً قد يرى تفاحة، ولكنه لا يستطيع الجزم بأنها تفاحة، إلا إذا تحسسها وشمها وتذوقها، حينها سيقول أنّها تفاحة، فمهما كرهنا الأمراض إلا أنها تبقى نافذتنا لفهم أنفسنا.

صورة 18 لوحة ابن الإنسان للفنان رينيه ماغريت، إذ تشير إلى رغبتنا الملحة إلى رؤية كل ما هو غير ظاهر

مثالٌ آخر، في عملية فقد الذاكرة المؤقتة بعد ضربة في الدماغ أو إصابة، سيقول الطبيب بعد فحص نشاط الدماغ بأنه سليم ولا مُشكِلة فيه، لكنه يحتاج إلى تحفيزٍ ما ليسترجع ذاكرته، وبما أنّ نشاط الدماغ طبيعي ولا اختلاف فيه، فهذا يعني أنّ الإشارات الكهربائية ليست هي المسؤولة عن وجود صورة التفاحة في الدماغ، ولا صور التفاح الكثيرة، الأحمر والأصفر والأخضر والملون والحامض واللامع وغيرها، طبقات الصورة ليست هي الإلكترونات الكهربائية السارية في الأسلاك العصبية، بالإضافة إلى أننا لو استقطعنا جزءاً كبيراً من الدماغ، فلن تذهب بالمقدار نفسه الصور والمخيلات المحفوظة.

من المؤكد أنّ الكيان المادي والكيان البرمجي في الإنسان يرتبطان ارتباطاً وثيقاً فهما متداخلان ومتكاملان، وأي تأثير في أي جانب يؤثر على الآخر، لذا لا تسألني هل نظام التشغيل (الكيان البرمجي) موجود في القرص الصلب Hard Disk؟ أم في المعالج CPU أم في الذاكرة RAM، لأنه موجود في كل الأجزاء لكي يعمل، ولو أزلنا قطعة من قطع الذاكرة سيبقى نظام التشغيل يعمل في إطار الموجود حسب برمجته، وهذا يقودنا إلى أنّ كل ما لدينا من ذكريات محفوظة في مكان لا نعرفه، وأننا لا نملك زمام حفظ حاجياتنا ولا تحديد التحكم بها.

تفسير الحُريّة

ما بين أيدينا الآن أنّ التفكير الإنساني مُكونٌ لا من مادة فقط، ولا من روح فقط، بل كما يبدو مكون من مادة وروح، دماغ وعقل، أما النظرة الأحادية المادية فإنها لم تعد تفسر المشاهدات من حولنا، ولكن، ماذا عن منبع الإرادة البشرية؟ هل الإنسان مُخيّرٌ وحُرٌ فعلاً! أم أنه مُجبرٌ ومُسيرٌ حقيقة؟

في البداية قرار تحريك يدك يتم عبر فكرة تبزع في خيالك فتأمر أنت يدك فتتحرك كما تعتقد، أو تأمر أصابعك فتكتب على لوحة المفاتيح بسرعة عالية، لا أتكلم عن تعود الدماغ، بل أتكلم عن آلية التحريك، إنك لا تأمر العضلات ولا تأمر الأوردة ولا تأمر أي تفاعل كيميائي، أنت تعتقد أنك تفكر في تحريك يدك، فتتحرك، أما كيف تمت الآلية فلا قرارات موزعة منك، وهذه نقطة أولى لتوضيح قيود القرار ولنر ماذا قال الفلاسفة في حُريّة الإرادة.

الإنسان مُسير، هذا ما يقوله سبينوزا ونيتشه ولفيف من الفلاسفة بوضوح، والمُسلمون كذلك عدا المعتزلة الذين نفوا أن يكون الإله أمر الإنسان بفعل الشر، وعلى رأس هؤلاء الفلاسفة مرة أخرى نيتشه أبو الإلحاد، والذي يرى أنّ كفاحك هو جزء من القدر، إلا أنّ سبينوزا كان مُؤمِناً بإله هو نظام الأشياء، وهو النظام المسيطر وحده، لكن هل هو الله؟ ليس بالضرورة أن يكون كذلك، لقد أكد سبينوزا وجود قوة عظمى متحكمة، أما من غير المعتزلة في الطوائف الدينية فهُنَاك الثنوية التي قال أتباعها أنّ الخير من الله والشر كذلك، أما الكيسانية فيقولون لا ندري إن كانت هذه الأفعال من الله أم من العباد، أما الجبرية فقالوا إنّ أفعال الإنسان خيرها وشرها من الله ونسبها إلى العبد على سبيل المجاز، وأنّ الإنسان كالريشة في مهب الريح.

كيف أدلى سبينوزا بهذا التصريح الخطير حول كون الإنسان مُسير، نحن بحاجة إلى توضيح، فسبينوزا يرى أنّ الحُريّة مرتبطة بعدم التسيير ومرتبطة بالعلة الذاتية (وهو ما ناقشناه في السببية)، وذلك حتى يكون القرار نابعاً دون مسبب أساسي، والجوهر أو الذات أو العلة الوحيدة التي يراها سبينوزا كما عرضنا في السببية هو الله أو الوجود أو الطبيعة، ولأن وجود الله أو الطبيعة أمر مطابق لجوهره، لذا فهو يوجد دون الاعتماد على سبب آخر أو كائن آخر لأن الجوهر حر بذاته، وما دام الله غير مسير، فهذا يعني أنّ كل الأشياء النابعة منه تكون حالات لصفاته ولا يجب فهمها على أنها بالمستوى نفسه من الحُريّة مثله، وما دام الناس يعتمدون في وجودهم على الله، فإنهم غير أحرار في الإرادة لأنهم حالات من صفات الفكر (النفس) والامتداد (الجسد) لله أو للطبيعة، لذا فهم يمثلون إرادة الله.

تصورنا للإله ناتج عن عقلنا وهو محدود بحالات الإله، لذلك لا يمكن للعقل أن يتخيل صفات الله كلها، ويرى سبينوزا أيضاً أننا استخدمنا طرقاً غير صحيحة لفهم الإرادة الحرة، وهي طرق تقليدية لأنها تابعة للعقل وتدور في فلكه، ولو أردنا الطريقة الصواب لكان يجب أن نرى فكرة خارج إطار العقل (وهو أمر مُستحيل)، وهذا التفكير التقليدي سيكون فكرة تساعدنا على الاستمرار في وجودنا، حتى لو لم نكن مدركين لها تماماً، والإرادة الحرة ليست قدرة أو خياراً منفرداً لعقولنا لأنها متساوية في مضمونها مع أي مصطلح محمول على ذاته يمكن للمرء أن يصنعه، وهذا يحيلنا إلى أنّ مصطلح أو فكرة حُريّة الإرادة هي تَصوّر مُضطرِب على قدرتنا على الاختيار بحُريّة، وهي مُجرَّد دافع للاستمرار في بقائنا والمحافظة على وجودنا، بمعنى آخر يمكن أن أضيف أنها إحدى حيل العقل للإحساس بإمكانية الانطلاق في الحياة، هي نظام تحكم آخر موجود في العقل مع بقية الأنظمة الأخرى لتلجمه ويبقى يعمل بكفاءة ولا ينهار، يذكرني بفيلم RoboCop فقد اعتقد الشرطي ألكس (نصف بشري، نصف آلي) أنه من يتخذ القرار لكنه كان يتبع نظام تحكم، ولكن إيمانه بأنه من يتخذ القرار أمرٌ جعله يمارس عمله بكفاءة، الإرادة المستقلة سرج يمتطيه نظام التحكم لنستمر في الحياة.

يرى سبينوزا أنه كلما زادت معرفة الإنسان، تحسن فهمه لنفسه، ثم تزداد قدرة هذا الإنسان على التعبير عن حُريّة الله في أساليبه المحدودة [151]، وعلى الرغم من أنّ سبينوزا يرى أنّ الإرادة الحرة عبارة عن وهم، إلا أنّ زيادة معرفة الإنسان بالعلل يمكن أن تساعده على إلغاء تأثيرها، أو تُقيد القوة التي تؤثر بها الانفعالات عليهم، أي عبر تنمية الفكر يمكن للإنسان أن يمتلك قدراً من السيطرة على حياته بقدر ما يكون إنسان، وليس جوهراً غير مسير إلا الله، أعتقد الآن نفسيتك ارتاحت قليلاً عزيزي القارئ.

وحسب سبينوزا تكمُن إحدى صور حُريّة الإرادة عند الإنسان حينما يتم مُمَارسة تأثيرات خارجية عليه يمكنه عبر طرق المنطق أن يتخذ قراراً فيها يتماشى مع حالات الإله الناتجة عنه، فالحياة الأخلاقية أساسية لحُريّة الإرادة لأنها جزء من معرفة الله حقاً وهي أعظم فكرة يمكن للمرء أن يمتلكها، لأن الله حسب سبينوزا هو السبب وراء قدرة الناس على مُمَارسة المنطق والمعرفة في هذه الحياة حتى يمتلكوا القوة للتغلب على التأثيرات التي قد تعيقهم عن الاستمرار في وجودهم، وهذا كفيل في النهاية لهذه القدرة أن تقود المرء إلى حب الله فكرياً، وهذا يعتمد على درجة المعرفة التي يمتلكها المرء، فامتلاكك القدرة على تنظيم انفعالاتك هي تعبير عن قدرتك الطبيعية على تنظيم الأفكار، وبما أنك جزءٌ من سلسلة السببية التي تتتابع من وجود الله، يمكنك بصدق إبطال تأثير بعض الانفعالات، ولا سيّما التي يمكن أن يُطلق عليها بأنها شر أو تلك التي تُثَبِّط زيادة قدرة المرء على التفكير [151].

لا يختلف ديكارت مع بعض مما قاله سبينوزا، فهو يرى أنّ هُنَاك جوهر واحد هو الله ينتج عنه جواهر أخرى مستقلة، هذا الجوهر الكبير يمتلك هو وحده إرادة حركة كلياً وهو أيضا علة وجود العقول كلها، وصفات هذا الإله كاملة وعليا، إلا أنّ ديكارت يؤمن بأنّ جواهر البشر المستمدة من جوهر الله تعطيهم إرادة حرة، ويرى أنّ هذا موجود ودليله الأفكار الفطرية التي منحها الجوهر الأساسي للجواهر الفرعية منه، وهي تكون جلية حينما يستخدم الإنسان ملكات عقله التي وهبها الله له، ومن خلال إدراكه لقوى هذا الجوهري الكبير، يمكن أن نفهم أنفسنا أفضل، وتتماشى الرؤية الأخلاقية لديكارت كما سبينوزا في أنها الطريق السليم لمعرفة الله، ولكن عند ديكارت هذه المعرفة ستؤدي في النهاية إلى الإرادة الحرة، فعندما يؤكد المرء إرادته الحرة عبر اختياره ألا يقوم بما يبدو له أنه مخالف لما هو عليه، حينها نفهم أنّ الإرادة الحرة على أنها ملكة في خدمة العقل، وهي بدورها تمكنه من أن يُصبِح إنساناً مُسيراً ذاتياً.

ويتكامل مفهوم الحُريّة حينها عند ديكارت كما هو عند الوجوديين، فقد أكد على أنّ الإنسان بحاجة إلى الإرادة الحرة لكي يعرف بوضوح أنه مستقل ومميز، فعلى طريق إيمانه بالحرية والاستقلال يشق المرء طريقاً خاصاً بسهولة يتوافق مع الحقيقة التي هي نتيجة معرفة الإنسان الكافية بعلة حريته (التي هي الله).

يعد ديكارت من أصحاب نظرية المعرفة القبلية التي تسبق الحواس، والتي وضعها الله في العقل عبر الفطرة وهي بصمة الله في خلقه، ومن هذه الفطرات أن يصل البشر إلى فهم صريح لإرادتهم الحرة وذلك عبر معرفة نطاق حريتهم وهي كافية لهذه الحياة، وكلما ازدادت هذه المعرفة، تقدم المرء في طريق الحُريّة.

جزء كبير من الأسئلة الوجودية العظمى تدور حول الغايات والعلل فمن أين جئنا وإلى أين المطاف هي أسئلة الإرادة المستقلة التي يطرحها العقل البشري، في محاولة لفهم وجوده وتفسيره، وهي ما يميزه عن بقية الكائنات، وإذا لم يجد العقل إجابة شافية، فإنه لا يستمر في الإنتاج بل يتوقف ويُصاب بالصدمة وقد يُصاب بالعدمية، وهذا ما يفسر ظاهرة الانتحار التي لا تصدر عن حاجة خلافاً للحيوانات التي تتقاتل لحاجات غريزية، ولعل الأسئلة الوجودية عن الغاية والخلق هي من إيداع المصمم للبحث عنه.

لدى شوبنهاور رأي مخالف قليلاً فهو كما المثال الأول عن إطار القرش المفترس ألا يفترس، والحوت الذي لا يزحف إلى اليابسة والمرأة التي لا تظهر مفاتنها والطفل الذي لا يرضع، يرى أنّ هذا نوع من الحركة ناتح عن دوافع، وهي فعل الإرادة الباطنية للطبيعة (مصطلح طويل، لكنه يساوي معنى الله)، وهُنَاك نوع آخر ناتج عن مُثيرات عبر حواسنا حينما تتعرض لمؤثر، مثل اللسان حينما يتذوق الطعام.

ويرى شوبنهاور أنّ حركات المُثيرات الحسية تحمل في باطنها حركات الإرادة الباطنية للطبيعة، وهذه هي إحدى تجليات الإرادة، فمثلاً حينما ينقبض رمش العين عند تعرضه لضوء زائد عن الحد، يحدث هذا بسبب أنها تجاوزت الحركة الطبيعية الباطنية، هذا الانقباض يعبر عن دافع للإرادة حينما تنتج حركة لكي تحمي شبكية العين من المؤثر المؤذي، هنا يرى شوبنهاور أنّ حركات وأفعال الجسد ما هي إلا تجليات للإرادة، وما ندعوه لذة أو راحة ليس سوى ما يتوافق مع الإرادة، أما الألم فهو إحساس مضاد ومؤرق لها، وعلى هذا يمكننا أن نصف اللذة والألم بالتمثلات الحسية المباشرة للإرادة، وهما الطريقة التي تعبر بها الإرادة عن رضاها أو سخطها تجاه ما تتعرض له، فنحن لا نجوع لأن لدينا معدة، وإنما لدينا معدة فقط لأنها تخدم غاية إحدى تمثلات الإرادة العمياء وهي الجوع، وكذلك كل أعضاء جسم الإنسان.

لكن إلى أين يأخذنا كل هذا الكلام؟ بتنا نعرف أنّ هُنَاك مصمم للكون وهناك صانع للإنسان، وهُنَاك عقل ودماغ، وهُنَاك إرادة غير كاملة الحُريّة حسب الفلاسفة، ولكن لم نفهم، هل نحن مخيرون أم مسيرون؟ هل لدينا حُريّة الاختيار أم لا، ولنسمع رأي الدين الآن، لعله يمتلك الحل، لأن الدين فيه عقاب وثواب، وكيف سيُعاقب الله إنساناً مسلوب الإرادة؟

في كل الأحوال لا أستطيع أن أكسر قواعدي، لأنها طريقتي المنطقية للاندماج مع جوهر الله ومعرفته وسأجيب عن هذا السؤال في الفصل القادم، في فصل الدين، فما للدين للدين، وما للفلسفة للفلسفة، وما في حسابي لزوجتي.

الإبداع والابتكار

أدرك ديكارت أنّ فكرة الكمال والبحث عنه لا يمكن إلا أن تأتي من مصدر أعلى كامل، لذا كان الله بالنسبة لديكارت حقيقة مطلقة، ولكن ما حدود كمال العقل البشري؟

حينما يفكر مصممو أي لعبة في إنشائها، تراهم يقومون بتخيل جزء من هذا العالم ومحاولة محاكاته على الحاسوب، وحينما يبدؤون برسم العالم داخل اللعبة فإنهم ينقلون أشياء من عالمنا إلى عالم اللعبة حتى أبسط الأشياء التي لا ننتبه لها مثل شكل القماش ونوعه وتموجاته وانحنائه وانعكاس الضوء عليه، انظر لأي لعبة قوية التصميم وباستخدام جهاز حاسوب جيد سترى تفاصيل مدهشة تعِب فيها المصممون كلها مأخوذة من عالمنا، كل ما في اللعبة عبارة عن محاولة لتطبيق ما في العالم الواقعي إلى داخل العالم الافتراضي ليحاكي الواقع والخيال المنشود، ولكن لم ينتبه أحد أنه في أعظم المحاكات، لم يأتِ المصممون بأي شيء خارج من عالمنا المألوف، وكأن حدود تفكير الإنسان هي ما ألِفه وعرفه، لا يمكنه إتيان قماش جديد، أو فكرة عالمية جديدة أو فكرة لا يوجد لها مثيل في عالمنا، حتى في أبعد تصوراتنا كما مثلاً في تصور الوحوش، ستندهش أنّ لكل وحش هُنَاك مصدر أرضي ما، قد يكون نباتاً أو حيواناً أو حتى غصن شجرة.

فالعقل البشري لا يستطيع بناء ما لم يرَه، حتى في خيالاتنا، حينما نتخيل أقصى درجات الغرابة نربطها بشيءٍ نعرفه ورأيناه سابقاً، ويرى ديفيد هيوم أنّ كل الصور المخزنة في العقل تعود إلى صور أبسط ننطلق منها ونستعملها، فالحصان الطائر هو حصان + طير أو ملاك مثلاً، وإمكانية تخيل أي شيء -حتى في الحلم- تنتج من التخيلات الأساسية هذه، وهي بالضرورة حدود عقل الإنسان.

شكل 56 صورة من فيلم بريف Brave 2012.

في فيلم Brave، استغرق العمل على شعر الأميرة ميريدا 6 أشهر لتصميمه؛ إذ يحتوي على أكثر من 1500 خصلة من الشعر المجعد، و111,700 شعرة، واستمر العمل عليه لمدة 3 سنوات.

https://bit.ly/35VO2AD

رابط 19 CGI of Pixar Animation Inside Out

https://bit.ly/336WlYM

رابط 20 Brave Behind The Scenes (2012)

https://bit.ly/3pUOKWY

رابط 21 How Netflix’s ‘Klaus’ Made 2D Animation Look 3D | Movies Insider

https://bit.ly/3lY1vh5

رابط 22 How Stop-Motion Movies Are Animated At The Studio

مُجرَّد محاولة محاكاة خصلات الشعر تطلب كل هذا التصميم والتدقيق، وإن عملية إنشاء فيلم أو لعبة تستغرق الكثير من العمليات مثل اختيار الملابس وتجاعيدها والظلال والأشجار والماء والوجوه والحركات وغيرها، إذا كانت عملية المحاكاة بهذه الدقة والصعوبة فكيف نصدق أنّ الإنسان جاء نتاج صدفة ما.

شكل 57 فطر أصابع الشيطان.

وقد يقول أحدنا: لربما أتى شخص بفكرة من خياله من خارج قفص الكون، ولكن الناس لم يستطيعوا فهم هذه الفكرة لأنها ليست من عالمهم. وهي وجهة نظر جميلة، لكن إذا حدث هذا فهذه طفرة خاصة وعلينا البحث لنتأكد في داخل أفكاره وعقله ألا صورة قبلية أو بسيطة بنى عليها هذا الخيال الجديد، وإذا حدث ولم يفهم الناس الفكرة، فإن هذا يؤكد أنّ عقول الناس لم تفهمها لأنها خارجة عن إطارهم، ولذلك رأى ديكارت أنّ أي شيء نتخيله هو موجود في عقولنا، فقال ديكارت ما فكرته أنه ما دمنا نتخيل وجود كائن كامل في خيالنا فهو موجود في عقولنا، وما دمنا نحكم على العالم بعقولنا، فهذا الكائن موجود حتماً، فإن كنا لا نزال نتخيله إذن هو موجود وممكن، صحيح أننا في إطار الحقيقة قد لا نعترف بوجوده، لكن في إطار الكائن الكامل فالخيار ممكن جداً، عظيم جداً يا ديكارت.

في سلسلة أفلام Alien التي أدهشت الجميع بفكرة الوحوش فيها، اتضح لاحقاً حتى أنّ فكرة الوحش والبيضة مستمدة من فطر Octopus Stinkhorn، في أعظم تجليات الخيال لا يمكن أن يتخيل ما لم يتعود عليه.

وبصورة أخرى فإن أقصى ما يتخيله الإنسان هو جزء مما وضعه المصمم له في اللعبة، وأكبر المبدعين في البشرية استطاعوا بفضل المصمم المبدع (الإله) إنتاج شيءٍ واحدٍ بسيط أذهلنا بشدة، فمثلاً الفنان عندما يبتكر طريقة رسم جديدة باستخدام الفحم يكون قد أبدع وأنتج شيئاً خارجاً عن المألوف من الرسم بالألوان التقليدية، وكذلك في الطب فأقصى ما يبدعه الطبيب أن يقوم بتركيب قلباً صناعياً أو نقل قلباً جديداً بدلاً من القلب الحالي ويعد هذا إبداع وثورة جديدة قام بابتكارها، وكذلك الصيدلي عندما يصنع دواءً جديداً عبر استخراجه مادة جديدة من نباتات موجودة يكون قد ابتكر شيئاً جديداً، لكن في كل الحالات كان قد أبدع هذا الفنان باستخدام شيء مما أوجده الله، فالفنان قد استخدم الفحم لإنتاج شيءٍ خارج عن المألوف في مجال الرسم، والطبيب استخدم فكرة القلب ولكن بمادة أخرى، والصيدلي استخرج الدواء من نبتة موجودة، ما أريد إيصاله أنه لم يقم أي بشري بإنتاج أو إيجاد فكرة أو شيء خارج عما أوجده الخالق لنا، لذلك لا يوجد تفكير خارج الصندوق، التفكير الإبداعي هو التفكير بما في داخل صندوق العقل.

زهرة وريشة وسحابة يصنعن فن الرسم، طائر يُزقزق يعلّم الإنسان الغناء والعزف، طائر آخر يرفرف بجناحيه يجعل فكرة الطيران أمراً ممكناً، محاكاة انسيابية الطيور وديناميكيتها أوجدت لنا الطائرات، مراقبة طائر يخيط عشه علم الإنسان الحياكة، وطائر يبني عشه بالطين على ضفاف نهرٍ ما علمه بناء المساكن، وحكمة نملة علمت الإنسان التدبير والتخزين.

ولكن ماذا عن الوعي البشري نفسه، هل يمكن محاكاته؟

إنّ فكرة ابتكار نظام له وعيٌ ذاتي أمرٌ مُستحيل كما أكد الكثير من المتخصّصين في الذكاء الاصطناعي، ويؤكد مرة أخرى عالم الأعصاب جون إكلس ذلك على حد قوله بأنه ليس هُنَاك دليل على الإطلاق بأنه يمكن أن يكون لأجهزة الحاسوب نوعاً من الوعي أو الشعور الذاتي، وكما نعرف في هذا التقدم البرمجي أنّ الذكاء الاصطناعي مُجرَّد أوامر تنفذها آلات مادية، أما الإنسان والوعي الذاتي فإنه أمر يختلف تماماً عن البرمجيات الحديثة بفضل هذه الكيفيات المحسوسة.

وقد قدم جون سيرل صورة أقرب لفهم الوعي البشري أكثر في تجربة فكرية عرفت باسم الغرفة الصينية، فقد افترض وجود شخص إنجليزي لا يعرف اللُغة الصينية في غرفة مغلقة، ويمتلك كتيب تعليمات باللُغة الإنجليزية، وتأتيه رموز من مَدخل صغير باللُغة الصينية، وهو لا يفهم اللُغة الصينية بالمطلق، لكن كُتب أمامه في كتاب التعليمات كيفية التعامل مع الرموز، فإذا كان المكتوب الرمز سين وصاد باللُغة الصينية، فعليه أن يكتب في المقابل حسب التعليمات باللُغة الإنجليزية الجملة 1 و 2 ثم يرسلها خارج الغرفة، قد يتوقع الأفراد الذين هم خارج الغرفة أنّ هذا الشخص يعرف اللُغة الصينية لكنه لا يعرفها، هو فقط ينفذ التعليمات حسب كتاب التعليمات، ويشبّه سيرل هذا الشخص بعمل برمجيات الذكاء الصناعي التي تتعامل مع المعاني دون أن تعي معناها، وهذا يوضح الاختلاف الجذري بين عقل الإنسان وتلك البرمجيات.

شكل 58 رسم توضيحي يبين الغرفة الصينية، المصدر wikicommons.

إنّ آلية عمل العقل تبدو غريبة فهُنَاك مئات التجارب الغريبة عن طريقة عمل عقل الإنسان تجعلنا نتساءل عن سهولة برمجتنا وقولبتنا وحدودنا بعد أن نعيش في هذا العالم، لا يوجد إنسان عاش في مكان منفصل أو أتى من عالم آخر لنرى كيفية تصرفه وسُلُوكه وأفكاره وحدوده، لذلك نحن مكبلون بما لدينا ولربما لدينا ما لم نكتشفه بعد مثل مهارة الكتابة الجديدة على تاريخ الجنس البشري، تابع في فصل اللُغة لطرح هذه النقطة.

الحواس

مما لا شك فيه أننا نرتبط بهذا العالم عبر حواسنا الخمس، فالإنسان يرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويتذوق بلسانه، ويلمس بجلده، ويستنشق الروائح بأنفه، ولا نستطيع التواصل مع العالم المحيط بنا دون استخدام هذه الحواس، ونرى أنّ شخصاً فقد حاسة البصر لا يعرف ما هي الشمس وما هو الضوء، ونرى أنه يقوم بالتمييز بين تفاحة وخوخة عن طريق حاسة اللمس أو التذوق أو الشم، ولا يستطيع أن يميّز بسهولة بين التفاح الأخضر والأحمر إلا عبر حاستي التذوق والشم، ولا مجال للإنسان لأن يميّز شيء في هذا الوجود دون هذه الحواس الخمس، يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أنّ حواسنا هي نافذتنا، وعلاقتنا مع هذا العالم تتم عبر انطباعات بسيطة ومتتالية، فعلى سبيل المثال حينما تأكل عنقوداً من العنب فأنت لا تستقبل العنقود ككل، بل تمر بسلسلة من الأحاسيس المتتالية والمُتداخلة من حاسة النظر والذوق والشم والملمس والسمع، أنت تلمس الحبات وتسمع صوت فكاكها من العنقود ثم صوت قرشها، وتشم رائحتها وتتذوق حلاوتها وحموضتها في سلسلة من الأحاسيس التي ترسخ في بالك من التكرار، فيحدث لنا رؤية تركيبية من تناول العنب.

ويكون هنا السؤال إلى الفلاسفة، هل عنقود العنب هو في الحقيقة كما رأيناه وتذوقناه، هل العالم هو فعلاً ما نراه ونعرفه؟ ماذا لو كانت أحاسيسي زائدة أو بها مُشكِلة؟ مثلاً حاسة الشم لدي قوية أو منعدمة، ماذا لو كانت حاسة البصر لدي بها مُشكِلة مثل عمى الألوان، أو أني أرى العالم بطبقة لونية واحدة، أو أنّ قدرتي على رؤية الألوان مُختلفة عن غيري، ماذا لو أنني أرى العالم دون اللون الأخضر، ولا سيما أن العالم والزمن خارج جسم الإنسان، فستختلف تأثيرات اختلاف حواسنا من إنسان لإنسان، فلو كنت لا أرى اللون الأخضر على سبيل المثال هل سيكون لحكمة ثلاثة تسر العين: الماء والخضرة والوجه الحسن أي معنى! وفي الحقيقة إنّ العالم هو ما نراه ونشعر به في حواسنا، العالم هو ما يعتقده عقلنا، ولو اعتقد عقل مريض أنّ العالم يسير بنمط ما، فالعالم حقيقةً هو ما يراه، هو يعيش ما يؤمن به عقله، ولو حصل أن فقد شخصٌ ما ذاكرته فجأة، فإنه سيفقد العالم الذي يعرفه.

يرى ديفيد هيوم أنّ أفكار الإنسان تتكون بعد الإحساس، فلو لمست كوباً من الشاي الحار فسيتكون الإحساس أولاً ثم ستفكر فيه ثانياً، وسيكون انطباع الإحساس أقوى من ذكرى الفكرة نفسها، وسار على خطاه فلاسفة المدرسة الحسية، إذ يؤمنون أنّ الإنسان يولد صفحة بيضاء دون أي معرفة قبلية، وكل معرفتنا وإدراكنا ومكوناتنا تنتج بعد تجربتنا في هذا العالم.

وبهذا المثال يتساءل الحسيّون، ماذا لو كنا في غرفة فيها شخص بالغ وقط وطفل، وفجأة تدحرجت كرة فيها، ماذا سيكون رد فعل كل من فيها؟ سنرى القط يجري وراء الكرة ويلعب فيها، أما البالغ بعد أن ينظر إلى الكرة سيفكر من أين أتت! وستحاول السببية ولربما الغائية إيجاد طريقها، وهذا لأننا مُختلفون عن القطة سنبحث عن فهم الحالة والسبب، ولكن، هل اختلافنا هذا نابع فينا أم من تجارب الدنيا؟ وفي تجربة الكرة الأمر أقرب لتجارب الدنيا، لأن الطفل لن يفكر في السبب، بل حينما يكبر سيبدأ بالتفكير في السبب، بسبب خبرته اللاحقة وتجربته في الحياة، ويرى كانط أنّ العقل يعمل بهذا الشكل لأنه مخلوق هكذا.

يعود جون لوك ويناقش فكرة أنه لا يوجد شيئاً في الوعي قبل أن تتعرف عليه الحواس، فيقول: هل نحن نعرف نوع العالم الذي نولد فيه؟ لربما ولدنا في المريخ أو في نظام آخر وبقوانين أخرى، وأي فكرة لدينا عن العالم قبل أن نراه لهي فكرة خاطئة، هذه هي النظرة الحسية للعالم، مرة أخرى نذكر أنّ الفلاسفة منقسمون حول أساس معرفة الإنسان، فهل هي التجربة وحدها، أم هو العقل، أم كليهما، ومن أسبق وغيرها من الأسئلة، ناقشنا فكرة العقل في الفصل السابق، والآن نناقش فكرة الحواس، لنبدأ! كيف تعمل الحواس؟

كيف تعمل الحواس؟

لنأخذ مثالاً على الحواس، حاسة البصر، تبدأ العملية حينما يسقط الضوء على جسم ما، فتنعكس أشعة الضوء إلى العين، لتدخل عبر قزحية العين وتنعكس على الشبكية، ومن خلال النقطة العمياء الموجودة في مؤخرة العين ومع سلسلة عمليات مُعقَّدة وطويلة تتحول هذه الصورة إلى إشارات كهربائية، لتنتقل هذه الإشارات الكهربائية بدورها إلى دماغ الإنسان إلى منطقة تُدعى مركز الإبصار، يقوم مركز الإبصار بتحويل هذه الإشارات الكهربائية إلى صورة مفهومة، ليتسنى للعقل البشري اتخاذ القرارات وإجراء العمليات بناء على هذه الصورة.

ما سبق توضيحه هو خلاصة عملية الإبصار، فالصورة التي نراها تنتقل من العين إلى إدراك الإنسان عبر مجموعة من الإشارات الكهربائية، أي أنّ رؤيتنا تتم عبر هذه الإشارات الكهربائية، وهذا قول العلم، إذ تكمن المُشكِلة عند العديد ممن لا يبصرون في جزئية من جزئيات نقل الإشارات الكهربائية إلى دماغ الإنسان، وأعضاء الحس مثل العين، ليست هي من ترى، بل هي ترسل صورة للدماغ والدماغ من يقوم بتحليل الصورة وفهمها، ولو كانت هُنَاك أمراض معينة فلن يفهم الإنسان الصورة فترى العين ما يفهمه الدماغ فقط، هُنَاك أمراض معينة -كما أسلفنا- في الدماغ تجعل الشخص يرى الصور ولا يفهمها، يقول أرى لوناً أحمر له زوايا لكنه لا يستطيع أن يفهم أنه مثلث، يرى الملعقة ويصفها ولكنه لا يستطيع أن يقول أنها ملعقة إلا إذا تحسسها وتعرّف عليها أي عبر حاسة اللمس.

مرة أخرى، إنّ كل ما تراه حتى هذه الكلمات التي تمر من خلال عينيك الآن هي إشارات كهربائية تنتقل إلى مركز الإبصار –والذي لا يعدو كونه سوى شحماً ولحماً لا يتجاوز حجمه عدة سنتيمترات مربعة– فيقوم الدماغ بتفسيرها إلى الصورة التي على الواقع، وهُنَاك سؤالان يطرحان نفسيهما، السؤال الأول: كيف لقطعة الشحم هذه أن ترسم هذه الصورة المضيئة حولنا؟ والسؤال الثاني: ماذا لو أثرنا الأعصاب بالإشارات الكهربائية نفسها التي حدثت حين رأينا الكائن نفسه؟

لنبدأ كالمعتاد بالسؤال الثاني، ماذا لو قمنا بمحاكاة وإعادة أي إشارة كهربائية؟ ماذا لو نسخنا الإشارات الكهربائية الصادرة عند رؤية تفاحة، ثم قمنا بإعادتها إلى العصب البصري وإرسال إشارات مشابهة إلى مركز الإبصار! من المفترض حسب العلم أنه لدينا مدخلات، ومن ثم سيكون لدينا مخرجات، حينها سترى تفاحة وهي غير موجودة أساساً، فالإشارات الكهربائية ستنتقل إلى الدماغ وهو بدوره سيفسرها على أنها تفاحة، بناءً على التجارب السابقة.

يقودنا هذا الأمر الغريب إلى سؤال مهم، وهو كيف تستطيع أن تحدد بأن التفاحة التي تراها الآن حقيقيةً أم لا؟ وفي فقرة مسابقة الأسئلة هذه دعونا نتريث قليلاً ونعود الآن إلى السؤال الأول، كيف لقطعة الشحم المسماة بالدماغ أن ترسم هذه الصورة المضيئة أمامنا؟

الدماغ أو المخ عبارة عن قطعة تزن ما بين 350- 400 جرام عند الأطفال و1300- 1400 جرام عند البالغين، ويحيط به سائل ومجموعة من الأغشية، تتكون هذه القطعة من بروتينات وأحماض أمينية ودهون وأعصاب وخلايا وسوائل مثل باقي أعضاء الجسم، فنجد أنّ نسبة مواد معينة موجودة في الكبد، تختلف عن النسبة الموجودة في الدماغ، تختلف عن النسبة الموجودة في الرئتين، كل هذه الأعضاء تتشابه في المكونات الأساسية، ولكن، ما الذي يعطي قطعة الدماغ القدرة على رسم هذا العالم الخارجي وتصوره والإحساس به؟ هذا الوعي والإدراك والصورة المضيئة من أين يأتيان؟ ولنطرح سؤال آخر، ماذا لو وضعنا كاميرا داخل جمجمة أحد البشر، وجعلناه يشاهد شروق الشمس، ثم أخرجنا الكاميرا من داخل جمجمة هذا الإنسان ورأينا شريطها، على ماذا سنحصل؟ نعلم الآن بفضل علم الأحياء أنها لن تصور شيئاً، لأنها تقع داخل تجويف الجمجمة، وتجويف الجمجمة هو منطقة ظلماء، لا ضياء فيها ولا بيانات ظاهرة.

يُوجد الدماغ في صندوق مظلم، وهذا الصندوق المظلم الذي يحتوي على مركز الإبصار، يجعلك الآن ترى ما حولك وترى هذه الصورة النيرة، ولكن حقيقة ما بداخل هذا الشحم والذي جعله يدرك هذا المحيط هو شيء خارج عن إطار الخلايا، ولو قام العُلماء بجلب دماغ حي، وأخرجوه من رأس أحدهم وقاموا بربط كل أسلاك الدنيا وبأحدث ما توصل إليه العلم، لن يستطيعوا الحصول على الصورة التي أمامك ولو حتى على جزء بسيط منها، والسبب بسيط، وهو أنّى لقطعة اللحم هذه أن تبصر!

وبالمثال نفسه يمكننا أن نقيس على باقي الحواس، فعندما نسمع، تقوم طبلة الأذن بتوصيل الاهتزازات إلى أجزاء الأذن الداخلية والتي تقوم بدورها بتحويل هذه الاهتزازات إلى إشارات كهربائية يتم نقلها إلى الدماغ، وكذلك عندما نتذوق طعاماً، يقوم اللسان بإرسال إشارات كهربائية إلى الدماغ والذي بدوره يفسرها ويميّز ماذا نأكل، وكذلك عندما نشتم رائحة ماـ تقوم المستقبلات الحسية لحاسة الشم بتحويل الروائح إلى إشارات كهربائية وترسلها إلى الدماغ، وكذلك في حاسة اللمس، عندما تلمس جسماً ناعماً أو خشناً، ساخناً أو بارداً، تقوم المستقبلات الحسية الموجودة أسفل الجلد بتحويل هذا الإحساس إلى إشارات كهربائية تصل إلى الدماغ والذي بدوره يقوم بتفسيرها تبعاً لما هو مسجل عنده.

إذن نحن نتصل بالعالم الخارجي عبر الإشارات الكهربائية، واستمتاعك بمظهر الطعام أو بمذاقه أو برائحته ما هو إلا انعكاس لإشارات الأحاسيس الكهربائية على مناطق معينة في الدماغ، هذا ينطبق أيضاً على كل تجارب حياة الإنسان، فالإحساس بالمسافة أو بالزمن هو نتاج قياسات كهربائية معينة يستنتجها الدماغ بعد ولوج البيانات إليه، فمثلاً تحديدك للمسافة بين عينيك وبين الكتاب الذي تقرأ منه الآن، هو نتاج تفسير الدماغ لمجموعة من العوامل المجتمعة بعد قراءة الصورة العائدة إليه، واستنتاج بعد التحليل المسافة الموجودة بينكما، يتحدث فيلم الماتريكس Matrix وغيره من الأفلام عن نهاية الحرب التي حدثت بين البشر والآلة، هذه الحرب جعلت الآلات تقهر البشر وتستخدمهم كعبيد، ولكن كيف للآلات ذلك؟ لقد قامت الآلات بإجراء دراسات على عقل الإنسان واستطاعوا أن يتوصلوا إلى فهم أدق الإشارات الكهربائية ومحاكاتها، وقاموا بربط البشر بحاسوب عملاق، يحتوي على نظام الماتريكس وذلك عبر الكوابل المتصلة برأس كل إنسان، وبهذا جعلوا البشر عبيداً لهم، يعرضون لهم ما يريدون ويتحكمون بهم في عالم قاموا ببنائه، وهذا بدوره لا يختلف عليه مبدأ الأحياء والأعصاب في يومنا هذا، وهي بالمناسبة معضلة تُسمى معضلة الكيفيات المحسوسة.

وماذا عن الطعام الذي تكلمنا عنه للتو، هل هو موجود حقاً، أنت تراه بفكرة الإشارات الكهربائية نفسها التي تنعكس على عينيك، ولعلك تقول أستطيع أن أحسه بيدي، فأقول لك، أعد قراءة الفقرات السابقة مرة أخرى، لأنّ الإحساس أيضاً هو نتاج عملية وصول الإشارات الكهربائية إلى الدماغ، ولا تقل لي أشمه أو أسمعه، فجميعها نفس الحواس، إذا كانت صورة الطعام هي أيضاً انطباعاً للإشارات الكهربائية في دماغك، فهل تستطيع عزيزي أن تُثبِت لي أنّ الطعام الذي أمامك حقاً موجود، أي أنه مادة موجودة فعلياً؟

لعلك تحاول التبرير الآن بقولك، إنّ جسدي حقيقة موجودة في هذا العالم، يدي موجودة وأنا أمسك بها الكتاب، لكن دعني أذكرك بأنها الشيء نفسه، فأنت تراها بنفس فكرة الإشارات الكهربائية التي تنعكس على عينيك، ولعلك تقول: أستطيع أن أحس بيدي هذه يدي الأخرى، ونعود إلى الفكرة نفسها ولا فرق، قد تقول أنا أتحكم في يدي، ولكن هل تتحكم في يدك حقاً!!

دعنا نعيد طرح الآلية التي استعرضناها في الفصل السابق، عملية تحريك اليد، فأنت حينما ترغب بتحريك يدك، تفكر فقط بتحريك يدك، فتحركها، ولكن هل فكرت في أن تحرك عضلات معينة، وتفرز إنزيمات معينة وتضخ دماً معيناً، وتشد وترخي أربطة معينة في اليد؟ على العكس لا، أنت فكرت فقط في الأمر وتم، لا سلطة لك على يدك، الإنسان ليس لديه تحكم بأي جزء من جسده، هو يفكر في العملية فقط، والعملية تتم دون أي إدراك لعقله، فلا شيء حقيقي إلا ما نعتقد أننا نفكر به، إنّ ارتباطنا بالعالم الخارجي يتم عبر الحواس، والحواس ترسل إشارات كهربائية، أي أنّ ارتباطنا بالعالم الخارجي يتم عبر الإشارات الكهربائية الواصلة إلى الدماغ، ولا تعلم الآن أنت تلمس شيئاً حقيقياً أم أنّ عقلك موجود في جهاز ما متصل بأسلاك كثيرة وتعتقد أنك تعيش اللحظة.

هذا ما كان يجول في عقل ديكارت حينما تساءل: كيف نثق في الحواس وهي مصدر أساسي للمعرفة؟ فحسب تفكير ديكارت إن الحواس تخدعنا وتعطينا إشارات مضللة لما يحيط بنا، ولأن هذا أمرٌ منافٍ للمنطق، ويبقى الشيء الذي يمكنك أن تتيقن منه 100% هو أنك تفكر، أنا أفكر إذن أنا موجود، روعاتك يا عم ديكا، وما دمتُ أشك حسب ديكارت، فهذا يعني أني كائن ناقص، وفكرة النقص هذه ليست من عند الإنسان بل نابعة من موجود آخر يتصف بالكمال، وهذا الموجود الكامل هو الله، وهذا يعني أنّ الله كامل من كل شيء، فهو كامل في الصفات والأفعال والقدرات والمزايا، ومن هذا يتضح الصفات الحقيرة والدنيئة لا تصدر من الله، ولا تصدر ممن يلحق نفسه مع الله الكامل.


الآن فهمنا أنه لا يمكننا التأكد من وجود مادة حقيقة أمامنا، فكل المواد التي أمامنا ما هي إلا مجموعة من الإدراكات الحسية التي لا توجد إلا في أذهاننا فقط، وهنا يمكننا أن نكون أكثر دقة لو قلنا أنّ العالم الموجود لنا، هو عالم الإدراكات الحسية، وهو العالم الوحيد الذي نتيقن من وجوده، أما عالم المادة وعالم الحقيقة فلا يمكننا فعلياً التأكد من وجودهما أم لا، وكأن العالم هو ما موجود في عقولنا فقط، ولو قام العُلماء بإجراء أصعب وأدق العمليات العلمية والفيزيائية التي توصلوا إليها لما استطاعوا معرفة الحقيقة، فكل ما سيتوصلون إليه سيكون مرتبطاً بإدراكاتهم الحسية، ولو قال لي أرى هذه المادة بالمجهر، فسأقول له ها أنت قلتها، قلت ترى، والرؤية إدراك حسي وهكذا، وحسب فيزياء الكم لا وجود للحقيقة، الحقيقة فقط موجودة لأدوات القياس لأن عملية القياس نفسها تؤثر على الحقيقة فتصبح الحقيقة ليست هي الحقيقة الحقيقية، بل هي الحقيقة المقاسة، ولكن، هل من أدلة واقعية أكثر على خديعة الحواس؟ نعم! هُنَاك أمثلة ولنأخذ مثالاً واحداً فقط، فالقوة تكمن في قوة الدليل، وليس في كثرة الأدلة.

صورة 19 لوحة الملاك الجريح للفنان هوغو سيمبيرغ.

قام هوغو برسم هذه اللوحة عام 1903م إبان خضوع فنلندا للاحتلال الروسي، وتركها دون تسمية ليقوم المُتلقي بتفسيرها بالطريقة التي يراها مناسبة، لكنها اكتسبت شهرتها بهذا الاسم، إذ يظهر فيها ملاكاً على هيئة فتاة جريحة مُنكَس الرأس كأنه لم يعد يرغب برؤية المزيد من هذا العالم المجنون.

الأحلام

في منامك ترى عالماً كعالمك وتتواصل مع أناس تعرفهم، وتأكل الطعام وتشرب الشراب بل تنام وتستيقظ من حلم في حلمك، وتعيش بلا فارق بين هذا العالم وذاك العالم، لا أحد يستطيع أثناء الحلم أن يشعر أنه في حلم، وأحياناً يستمر الحلم لساعات، إذ تذهب إلى زيارة شخص ما، وتخوضون في أحاديث متنوعة، ومن ثم يضيّفك وتبدي رأيك بالطعام اللذيذ، وقد تتخذ قرارات حساسة معه، وقد تحدث أحداثاً منطقية جداً، ولكن بمُجرَّد استيقاظك من النوم، تكتشف أنّ كل ذلك كان مُجرَّد حلم.

مع العلم أنّ زمن الحلم الفعلي كما يقول العُلماء أقل من الوقت الفعلي لأحداث الحلم، إلا أنك تفتكر هذه الساعات لحظة استيقاظك، وكأنها حصلت بالفعل، ولربما وقعت في الحلم من مكان مرتفع، فنهضت من نومك فزعاً وكأن الأمر حقيقي حقاً، أخبرني إذاً، كيف تعرف الآن أنّ ما تعيشه ليس حلماً، أو لسنا في نموذج محاكاة، والحقيقة لا يهم إثبات أننا لسنا فيه لأن الهدف الفكرة، وكما قال ديكارت هنا لا نستطيع الحكم بحواسنا، كيف يمكن أن نتأكد أنّ حياتنا ليست حلماً، قد تقول أنا الآن أسمع وأرى وألمس وأشم وأتذوق، لكن في المنام تعمل كل هذه الحواس، ولا تعرف نفسك أنك كنت تحلم إلا بعدما تستيقظ، بل وتكاد تقسم أنّ الحلم كان كالحقيقة، ولو سألك أحد أثناء حلمك أنك في حلم، فستقول له: كيف أكون في حلم، فأنا ألمس المواد الآن وأحس بها، وها أنا أكلمك وأراك ونتواصل سوياً، ولماذا لا يكون كما تقول الأديان، عقلنا وجسمنا الآن ليسا حقيقيان، والجسد الحقيقي موجود في مكان آخر هو الآخرة، لا نستطيع أن ننفي هذا بالمطلق، وأيضاً ما أدراك أنّ عقول البشر كلها مرتبطة بجهاز ما وتعيش هذا الحلم سوياً، ولا وجود لما نراه حقيقة، وحينما نستيقظ سنعرف الحقيقة الفعلية، فهم لا يعرفون أنهم في حلم البرنامج إلا بعدما يستيقظون، في النهاية إن الحياة لا تختلف عن الأحلام، وهم الأحلام يمكن أن ينطبق على حياتنا، والتي هي قد تكون حلماً طويلاً، سنستيقظ منه يوماً ما.

العقل والحواس

يرى فيلسوف العقل والمعرفة القبلية أفلاطون في أسطورة الكهف توضيحاً لهذه الفكرة؛ فيقول أنّ الواقع يشبه مجموعة من الناس المحبوسين في كهف مظلم فيعتقدون أنّ العالم هو الكهف، لكن لو استطاع أحد منهم الهرب خارج الكهف بطريقة أو بأخرى سيرى أنّ هُنَاك عالم آخر، عالم النور والحقيقة، ويحاول أن يوضح أفلاطون فكرته عن عالم المُثل بقوله لو أنّ شخصاً ما احترف مجالاً ما، مثلاً احترف مجال الرياضيات، فسيكتشف أنّ هُنَاك عالماً مثالياً يريد الوصول إليه، هو عالم الحقيقة التي يسعى لها ويراها الصورة الكاملة الخالصة، وعلى الأغلب سيصل إلى الحقيقة الكاملة وسيعرف أخيراً الخير بذاته وسيكون من الحراس الذين سبق ذكرهم وسيكون معهم على رأس البشرية، ونرى صورة مماثلة لهذه الفكرة في فيلم The Animatrix، إذ يحاول المبدعون كسر الحدود، ويحاول النظام منعهم من ذلك، وحينما يكسرون القيود، يرون عالماً آخر غير الكهف الذي يراه بقية العالم، لذلك أحد أسباب انتهاء اللعبة اكتشاف اللاعب أسرار صناعتها، والمبتكر الذكي لن يسمح بهذا الأمر مطلقاً، ولن يستطيع اللاعب الخروج من الكهف أبداً.

وكما رأينا فإنّ ديكارت لا يؤمن بالعالم المادي الذي نعيشه لأنه قد يكون جزء من خدعة كبيرة، وهذه الفكرة شكلت انقلاباً على الفكر السائد منذ مقولة أفلاطون الشهيرة “العالم المرئي هو انعكاس تقريبي للواقع” في كتابه تأملات في الفلسفة الأولى، فقد قسم الواقع إلى واقع تقليدي وهو ما ندركه من حولنا، وواقع تمثيلي والذي يعني استخلاص بعض السمات من الواقع التقليدي، وما دام الوجود يدرك بالحس، والإله ليس موضوعاً حسياً، فنكون أمام حقيقة دامغة هي أنّ الله لا يمكن إدراكه بالحس، إنه بحاجة إلى الإيمان فقط.

وكان ديكارت قد قسم مستويات الحقيقة إلى عدة مستويات، الصفة الأدنى هي المادة المحدودة، والصفة العليا هي غير المحدودة وهي الإله العظيم الذي خلق الكون، فالمادة غير المحدودة تستطيع أن تُوجد المادة المحدودة ولكن العكس غير صحيح، ويضيف ديكارت أنّ فكرته عن الله كامل الصفات جاءت من الله مباشرة، زرعها الله في عقله لأنه لا يمكن كمادة محدودة أن يدرك اللامحدود، وكان ديكارت يرى أنّ الشك في العقل مرفوض إذ أنّ الكمال فكرة عظيمة ووجودها في عقل بسيط دليل على وجود خالق عظيم كامل منزه عن كل عيب، خلق هذا العقل كما ناقشنا هذا من قبل في حُريّة الإرادة، وادعى أيضاً أنّ الكمال لا يمكن أن يكون فيه شر أو نقص، لذا لا يوجد شيطان وهو بذلك وضع العقل في الركيزة الأولى لأي معرفة، وتساءل ديكارت هل الرياضيات حسية، أي أننا عرفنا أنّ تفاحتين + تفاحتين = 4 تفاحات حينما رأيناها بأعيننا، أم هي قبلية سابقة للتجربة وهي راسخة في الكون دون إحساسنا؟ ورأى كانط أنّ الرياضيات هي أُم القضايا القبلية التركيبية لأنها تعطينا دائماً نتيجة دقيقة حول عمل الكون وهذا لأنها رُكّبت في عقولنا هكذا، وهذا السؤال دائماً ما نراه يُطرح هل الرياضيات اختراع أم اكتشاف؟ هل هي موجودة مسبقاً في الكون؟ أم أنّ الإنسان ابتدعها كأي شيء آخر ابتدعه في هذا الكون.

وحول الحواس يرى ديكارت أنه من الممكن أن نكون واثقين من حجم ووزن البرتقالة، لكن مذاقها ولونها ورائحتها أمر نسبي يختلف من إنسان لآخر، بينما يرى هيوم أنّ الرؤية ليست البرهان، فنحن متأثرون بظروف ثقافتنا السابقة التي تجعل الهروب من الأحكام المسبقة عن العالم أمراً مُستحيلاً، ولا يوجد موضوعية في أحكامنا، فمن قال لك أنّ الكرسي هذا هو كرسي؟ أنت حكمت عليه بناءً على تجاربك السابقة، ولكنه للأسف ليس كرسياً، بل هُنَاك شيء متعارف عليه أكثر في العالم اسمه كرسي، ولعلنا نستذكر نظرية المُثُل لأفلاطون.

وبالمناسبة في ذكر الحواس، نحن كائنات تمتلك خمس حواس (قد تصل إلى 20 حسب دراسات مُختلفة)، وهُنَاك كائنات أبسط منا لديها أربع حواس وهُنَاك من يمتلك ثلاث حواس، ولكن ما الذي يمنع وجود كائنات لديها سبع حواس بدلاً من خمسة، بالإضافة إلى نظرية الأبعاد المُختلفة التي تقول أنه بالنسبة لحبل يسير عليه بهلوان، فهو يسير عليه ذهاباً وإياباً في بعد واحد وهو الطول، أما بالنسبة للنملة فيمكنها أن تسير على الحبل ذهاباً وإياباً بالطول وكذلك بالعرض، فنفس الفضاء الأحادي لنا كان ثنائياً بالنسبة لحجم النملة، وبالنسبة للبكتيريا فالحبل فضاء ثلاثي الأبعاد تذهب فيه في كل الاتجاهات، وما الذي يمنع وجود كائنات لدينا تسير في أربعة أبعاد أو خمسة، فالنظريات الفيزيائية تزيد فيها الأبعاد عن ثلاثة أبعاد، وقد تصل إلى 13 بعد كما في نظرية أم M، هذه الكائنات تعيش بيننا ولكننا لا نراها بسبب قدرتنا على رؤية ثلاثة أبعاد فقط، وكما يمكننا أن نرى عالماً أقل منا مكوناً من بُعدين كما في مربع مرسوم على ورقة، أو عالم مكون من بُعد واحد كما في خط مستقيم مرسوم على ورقة، أو مكعب من ثلاثة أبعاد مرسوم على ورقة، فيمكن لكائنات من خمسة أبعاد أن ترى كائنات من ثلاثة أبعاد، أما نحن فنراهم بطريقة عجيبة أمامنا ولا نفهمها، لا يمكن الجزم بأنه قد يكون كائنات ذات أبعاد أكثر وذات حواس أكثر لأنه أمامنا كائنات ذات حواس أقل، وإن كان هُنَاك الناقص فهُنَاك الزائد أيضاً، وما دام هُنَاك الشخص المريض، فحتماً هُنَاك الشخص الخارق، وهذا مبدأ ثلاثية أفلام unbreakable.

وقد اصطدم مفهوم العقل الذي صاغته الفلسفة التجريبية بالكثير من العقبات وحسب ما يرى سبينوزا أنه لا يمكن للبشر أن يفكروا باستقلال أبداً، لأن العالم الخارجي ينعكس على الجسد أولاً قبل أن يصل للعقل، فما نراه هو ما قبلت أجسامنا أن نراه منه، لا كما هو في الحقيقة، مثال ذلك أننا نرى الشمس تشرق من المشرق، وليس هذا هو الواقع لأنه رؤية حواسنا [147]، ومن ثم كل الأفكار عن العالم ليست مستقلة، لأن العالم لم يكن هو ما قال لنا ما نراه فيه، بل أجسامنا هي ما قالت لنا عن العالم إنه كذا، لذا حقيقة العالم من حواسنا هي وهم وكذبة كبيرة لا يمكن الاعتماد عليها.

إذا كان عقل الإنسان صفحة بيضاء وما فيه من معرفة هو حصيلة تكوين بفعل التربية والتفاعل مع الواقع الطبيعي والثقافي والاجتماعي، فكيف يمكن تفسير اتفاق العقول وتطابقها في كثير من مبادئ التفكير على الرغم من اختلاف العقول والأفهام؟ وإذا كانت الحواس هي من تصوغ العقل فكيف يمكن لهذا العقل الذي دوره سلبي في عملية المعرفة أن يخطّئ الحواس ويصحّح معطياتها لاحقاً؟ وفي حالات كثيرة يتصور العقل الأشياء دون أن يحسها.

الغريزة

إذا كانت معرفة الإنسان كلها وليدة التجربة فما هي الغرائز؟ هل هي نتاج التجربة؟ أم هي من صنف المعرفة القَبْلِيّة السابقة على كل تجربة وحس؟ لا أحد يمكنه أن يقول أنّ الغرائز تتولد مع المُمَارسة والتجربة والخطأ والصواب واستنتاج العبر! أو أنها وعي عميق يسبق التجربة! لا يستطيع التجريبيون وصفها فيقولون إنها حس داخلي، فما هو الحس الداخلي؟ من أين يأتينا هذا الحس الداخلي؟ هل يتشكل من التجربة أم هو موجود مسبقاً؟ هل يشعر الطفل بالجوع جراء التجربة أم هو شعور موجود مسبقاً ومبرمج لديه؟ حينما يحاول أن يلتقم أي شيء ليمصه كتعبير عن الجوع، هل تعلَّمَ هذه الحركة؟ أم أنه يولد إلى هذا العالم ومعه معرفة المص والرضاعة؟

لا أحد يقول إنه يتعلم، بل الجميع يتفق على أنها معرفة قبلية، هل لو جلبنا وحش وسيدة جميلة لطفل عاش في جزيرة منفصلة، هل سيميل للسيدة الجميلة أم إلى الوحش؟ أتفق معك أنه سؤال غير حاسم، ولكن ماذا لو صرخ الوحش؟ سترى الطفل يخاف وينصدم وتظهر عليه علامات شخص بالغ، من أين ظهر هذا السُلُوك، هل تعلَّمه أم وُجد فيه مُسبقاً؟ ماذا لو رأى فراشة وصرصور؟ إلى أيٍّ منهما سيميل قلبه ليلمس أولاً؟ الجمال أم القبح! وماذا عن غريزة الجنس، هل يتعلمها الإنسان أم تكون مغروسة فيه؟ الإجابات واضحة أنّ الغريزة هي معرفة قبلية.

إنّ الصدام بين التجريبيين والعقلانيين طويلٌ وشائكٌ، فبعض التجريبيين ينفون المعرفة القبلية، أما بعض العقلانيين فيتمادون في دور العقل، لا يهمنا هذا الصراع كثيراً، بل يهمنا أن نعرف أنّ هُنَاك معرفة قبلية يولد بها الإنسان، هل هي كبيرة أم صغيرة، وأين حدودها وغيرها من الأسئلة لا تهم، ما دامت هُنَاك معرفة قبلية فهُنَاك خالق قام بوضعها، والمعرفة القبلية هذه موجودة في الحيوانات، تطرقنا لها في نهاية الباب السابق، مثل بناء الطيور للأعشاش، ومهارات الحيوانات، وهُنَاك هجرة سمك السلمون مسافات طويلة من حيث أتى، وبناء بيوت النحل وتشكيل أقراص العسل وغزل العنكبوت لشبكته ذات الشكل الهندسي، وسدود القندس المعمارية المُدهشة، كذلك بيوت النمل الذكية، ولُغة التخاطب بين الكائنات المُختلفة، من البكتيريا مروراً بالنمل صعوداً إلى الكائنات الأكبر في الدماغ، وعاطفة الأمومة لدى الكائنات، كل هذه المعارف موجودة في داخل الكائنات، ولو قمت بفصل أي كائن عن القطيع أو عن أسرته، فإن هذه الملكات سيطبقها كما لو أنه كان يعيش معها، جرب أن تأخذ قطة صغيرة جداً رضيعة من أمها وابدأ بتربيتها، ستجد حركات القطة الكبيرة موجودة فيها، من آلية لعق شعرها بطريقة منظمة، وصوتها وخرخرتها حين الراحة والسعادة وحفر حفرة للتبرز وغيرها من عمليات المعرفة القبلية.

وقد رأى نيتشه أنّ الحضارة مُجرَّد كمالية شكلية للبشر والأخلاق كذلك، أما جوهر الإنسان فمصنوع من الغرائز كما في غريزة البقاء وإرادة القوة، جرب أن تقوم بوضع مجموعة من الرجال والنساء من شتى الدول والثقافات والمستويات في غرفة ضيقة وامنع عنهم الطعام، بعد عشرين يوماً، افتح نافذة صغيرة وألقِ إليهم رغيف خبز، وانظر كيف يقتل بعضهم بعضاً، جرب أن تشاهد فيلم Greenland أو The Platform لترى الصورة، والحديث عن تجربة في ظل عدم وجود دين أو رغبة بدخول الجنة وإرضاء الإله.

إنّ غريزة الجنس هي من حفظت الجنس البشري من الفناء، وغريزة البقاء هي من حفظته من هجوم الكائنات وجعلته يبني بيوتاً وغيرها، وغريزة الجوع من أطعمته، وغريزة الراحة والحب والتميز والقوة والسيطرة وباقي الغرائز هي من حفظت الإنسان، ليس الحواس بل الغرائز القبلية، أما الأخلاق وغيرها فهي كماليات بشرية، والوعي هو أخطر ما يهدد السلالة البشرية باعتبار الغرائز هي تاريخ البقاء، وهي من رجحت كفة البشر في صراعهم مع قوى الطبيعة… إلى الآن، ويقول نيتشه الذي يرى أنّ الإنسان قد تطور من حيوان: “أقول عن حيوان أو نوع أو شخص بأنه منحط عندما يكون قد افتقد غرائزه” [152]، وكانط يرى أيضاً شيئاً يقوله الدين في هذا السياق، فهو يرى أننا إذا ما اتبعنا غرائنا فإننا سنصبح عبيداً لها، وسنصبح مثل الحيوانات التي لا تعيش إلا لغرائزها ونفسها أي أنها ليست حرة لتتبع القانون الأخلاقي، ولذلك -مرة أخرى- القانون الأخلاقي يجعلنا أحراراً.

الغرائز لا تأتي بالتجربة، والانشغال في الغريزة هو الملعب الذي يبدع فيه الإنسان والحيوان، القدرات نفسها متساوية ولا تمايز، وهذا يبين أنّ هُنَاك إيداع مسبق لها من قبل مصمم واحد.

حقيقة العقل

بعد كل آراء الفلاسفة لن نحتاج إلى برهان عن ثنائية الإنسان ما بين ما هو مادي وغير مادي، ونعيد بعض الآراء والأفكار، فديكارت آمن أنّ الأفكار الفطرية أوجدها الخالق، وهي بصمة المصمم أو التوقيع على المخلوق في داخل عقلنا على شكل أفكار كالتي يمتلكها المرء عن حريته، وهذه الأفكار الفطرية هي ملكات خالصة للعقل وقابلة للفهم، وذلك لأنهم خلقوا جواهر مستقلة ومتميزة، واعتمد ديكارت على الأفكار الفطرية كدليل على وجود الله، لأن الأثر يكشف عن سببه، والشيء يكون ناتجاً عن شيءٍ آخر يُوجده.

أما سبينوزا فعكس ديكارت كان يرى أنّ الأفكار الفطرية هي مرادف لما يمكن للعقل أن يعرفه بوضوح، بقدر ما أعطاه الله من صفة التفكير، وأنّ قدرة العقل على أن يمتلك حُريّة الاختيار والإرادة تكون معروفة في البداية بشكل كامل، وعلى الإنسان أن يُنمّي عقله لكي يدرك قدرته، ورأى سبينوزا أنّ الأفكار الفطرية تبرر فكرة وجود الله، ولكن ليس بالضرورة فكرة الإرادة الحرة، فهو يرى أنه على الرغم من أنّ الأثر يكشف عن مسببه، إلا أنّ مسببه يجب أن يكون أكثر قوة منه من أجل أن يكون قد تسبب به، وهذا يعني أنّ الأفكار الفطرية موجودة بطريقة محدودة مقارنةً مع مسببها، ولأن المسبب (الله) هو علة نفسه فهذا يعني أنه هو وحده من يمكن أن يملك الحُريّة الحقيقية، ولأنّ الناس أضعف من الله، فبالحد الذي تسمح به طبيعتهم التي وهبها الله يمكنهم التعبير عن حُريّة الله.

نعود إلى مقارنة العقل مع الدماغ من جديد، هذا الإدراك وهذه الصور الجميلة لهذا العالم، وتلك الأصوات الصاخبة والروائح العطرة والأحاسيس الناعمة وذكريات الإنسان وكل ما يعرفه في هذا العالم، إذاً أين توجد، هل توجد في دماغ الإنسان أم في مكان آخر، وكما نعلم أنّ دماغ الإنسان ما هو إلا بروتينات، وخلايا الإنسان لا قدرة لها على تكوين هذا الإدراك والإحساس، بل وحتى التفكير العميق واتخاذ القرارات، ومن غير المعقول أن تقوم به مجموعة من الخلايا المتراصة، إنّ خلايا الدماغ عبر اتصالها بالجسد يمكنها أن تقوم بتقرير عمليات داخل الجسم، أو إرسال إشارات كهربائية وتنظيمها، أما أن تكون لديها القدرة على التفكير والقدرة على القيام بالعمليات الحسابية والمنطقية، فهذا لا تقوم به إلا خلايا واعية بطريقة أعلى.

يرى كانط أنّ التجربة ضرورية للمعرفة البشرية إلا أنها غير كافية، لأنها بحاجة إلى موضع لتخزينها واسترجاعها وترتيبها ولا يتم هذا إلا بالعقل، وفي النهاية كل ما يحدث في موجود في العقل وفي العقل وحده، وهو في النهاية عقل ناقص مهما حاولنا إثبات العكس.

فالعقل يصنع من السراب بُحيرات، ويخلق واحاتٍ في منتصف الصحراء القاحلة، وتُسقِطه جرعة خمر في أوهام وتهيؤات تجعل منه حيواناً على شكل إنسان، ويتسلط عليه النوم فيخمده، ويطرحه الزهايمر والجنون والخرف، وحدود هذا العقل حاسة اللمس ومستوى نظر عينيه ومسافة سمع أذنيه، وقد تتداخل فيه الحقيقة مع الخيال مع الحلم فينسى أيهما الحقيقة، وقد ينهار عند الغضب ويضحمل عند الشهوة، وقد تخدعه المؤثرات البصرية وردود الأفعال المبرمجة، والعقل يعتمد على المنطق، والمنطق مخلوق أو تابع للعقل، إذن فهو ناقص في كل شيء، ولكن هل يمكن باستخدام هذا العقل إثبات وجود الإله؟ حسب كانط لا يمكن لأن الله ليس موضع تجربة، ولكن يمكن ذلك عبر الأخلاق كما سنناقشها.

وقد وضع الغزالي معياراً للتجربة اعتبر فيه أنّ المعرفة اليقينية والمؤكدة هي تلك التي يكون فيها الشيء المعروف واضحاً لا يرافقه أيُّ شك ولا يقترن باحتمال الخطأ أو الخداع، ولا يمكن للعقل أن يفترض هذا الاحتمال، ومن هذا المنطلق تيقن الغزالي أنّ أغلب معتقداتنا لا تصمد أمام هذا الاختبار، بالإضافة إلى أنّ هذا الأمر يدفعنا إلى الشك في معتقداتنا المأخوذة من التجارب الحسية لأنها قد تكون خاطئة وبحاجة إلى تصويب من قبل معتقداتنا العقلية، ويُكمّل الغزالي سابقاً كل الفلاسفة بقوله إنّ أقوى الحواس هي حاسة البصر، وهي تشاهد النجوم وتراها صغيرة جداً، ثم تُظهر لنا البراهين الهندسية أنّ حجم أصغر نجم يفوق حجم الأرض، وهذه صورة من الصور الكثيرة التي تبين أن الحواس لا يمكن الاعتماد عليها، وبهذا كله بدأ الغزالي بالشك في اليقين الذي كان يحمله سابقاً من تجاربه الحسية، وأعاد حساباته من جديد!

كان سقراط يحاول دائماً أن يبين أنّ العقل مُتناقضٌ فقد كان يستطيع نقد كل شيء، بعد أن يُثبته، يُناقش الشخص فيدعم حجته فيقتنع الشخص، ثم لا يلبث أن يأتي بدليلٍ معاكسٍ فيُقنع الشخص مرة أخرى بعكس ما آمن به هو أنّ العقل يناقض نفسه ولا مفر.

رسم توضيحي 61 إنّ عالم الخدع البصرية والعقلية مليء بآلاف الخدع التي تنطلي على الدماغ وتوهمه غير الحقيقة، خداع مولر يظهر فيه أنّ السهمين مُختلفان في الطول، على الرغم من أنهما متساويان، اليوتيوب مليء بالخدع البصرية optical illusions, وكذلك المواقع مليئة بها، بل وهُنَاك برامج علمية توثق آلية سير الدماغ المبرمجة وتبين آلية انطلاء الحيل عليه بسهولة، مشاهدة مُمتِعة.

حينما يقوم العقل بالاستدلال عن ذاته، على صحته وقوته وسلامته بل وكماله، فإنه سوف يدخل في مفارقة الاستدلال الدائري، ومُغالَطة الاستدلال الدائري تحدث حين يأتي المتكلم بالدليل من استنتاجه، أو يستدل بالنتيجة من مقدمته، كأن يخبرك شخص أنّ كل النساء نكديات، فتخبره ما دليلك، فيجيبك: تجربتي مع زوجتي، أو يخبرك أنه يعتقد أنه أذكى الناس، فتسأله وما دليلك، فيقول إيمانه بهذا!

لا يمكن لعقل إثبات كمال عقل آخر، فكلاهما ناقص، ولا يمكن بكل الطرق أن نناقش مواضيع كهذه، سنغرق في مُغالَطة الاستدلال الدائري ومُغالَطة المفهوم المسروق وغيرها، وعلينا فقط تقبل مبادئ العقل، فكل مفهوم يعود إلى العقل، والشكَّ مفهوم عقلي في النهاية، وما قام به ديكارت من شك أوقفه عند الله، ويقول دايفيد هيوم ما نعرفه حجة علينا، وأما ما لا نعرفه ليس حجة، لأنّ الجهل ليس حجة.

أما الأسئلة التي تقول: هل يمكن للمصمم أن يصمم شيء لا يمكنه أن يتخيله؟ أو يمكن للخالق أن يخلق مثله، أو أن يخلق خالق أعظم منه؟ فلا معنى لها؛ لأنها تدور في سياق حدود العقل وقيوده، فنحن نتخيل بحدودنا العقلية والتي بنينا بها مفردات بسيطة أنه يمكن أن نسقطها على المصمم أو الخالق، إنّ جوهر الله مُختلف عن جوهرنا، فلا معنى لكلمة أقوى أو أقدر أو أوسع عند الله، إنها تعبيرات عقلية دنيا لا تتوافق مع جوهر الله المُختلف عن جوهرنا، فمن خلق الله، سؤال لا معنى له، لأننا نقوم بإسقاط فكرة الخلق البشرية المنطلقة من العقل المخلوق على ذات أو عالم أو كيان خارج هذه الأفكار، هذه الأفكار والأسئلة والتعبيرات من هذا العالم وهي حبيسته ولا يمكن استخدامها في عوالم أخرى، وكما في ألعاب الحاسوب مفهوم الحصول على عدة أرواح (قلوب) لتختم اللعبة خاص بها ولا ينطبق على عالمنا، فلا يمكنك أن تقول لشخص هنا كم روح معك! أو كم مرة مسموح لك أن تموت؟ هذا سؤال لا معنى له في عالمنا بالمطلق، لأنه مُستدعى من عالم مُختلف.

الأخلاق

هل الأخلاق فطرية أم مكتسبة، هل يُولد الإنسان بملكة التمييز بين الخير والشر، أم يتعلم هذا السُلُوك لاحقاً عبر اكتسابه من التجارب والمجتمع؟ هل البشر بحاجة إلى دليل تشريعي للأخلاق، أم أنهم جاهزون لتحمل العبء الأخلاقي؟ هذه الأسئلة وغيرها سألها الفلاسفة والناس عبر الزمن وكانت الإجابات مُختلفة، كانط البروتستانتي كان يعتقد أنّ البشر قادرون على التمييز بين الخير والشر لسبب أساسي وهو أنّ هذا مدموغ في عقولهم قبل الولادة، إنه شيءٌ قطعيٌ وفطري ويتم تطويره بالتجربة لكنه سابق لأي تجربة، أما الفلاسفة التجريبيون فقد اعتقدوا أنّ الأخلاق عبارة عن تجربة حسية تعتمد على المجتمع والتربية، ويرى كانط أنّ الأخلاق قانون كوني مطلق لا يمكننا إنكاره أو برهنته مثل قانون السببية، وهو من الضمير أي أنه فوق البرهان، وإذا كان شيئاً فطرياً فهذا يعني أنها من وضع الإله أو من وضع الطبيعة (كما رأينا سابقاً)، ومن ثم يعفينا من موضوع القوانين والدين وغيره، أما إذا كان الالتزام بالأخلاق أمراً حسياً فهذا يعني أننا بحاجة إلى قانون وإلى إجراءات لنكون أخلاقيين، لنبحث ونرى، هل الأخلاق عقلية أم حسية مكتسبة؟

نرى أنّ البشر يميلون إلى فعل الصواب لا الشر، ولكن، ماذا لو نشأ شخص ما في قرية الصواب فيها هو عمل الشر؟ ماذا لو وُلد رجل في قبيلة حربية تقوم بالهجوم على القبائل وتأخذ السبايا والأموال وتقتل الأشخاص وتحتكم للقوة؟ ماذا لو وُلد شخصٌ في مجتمع من المحامين الفاسدين أو رجال الأعمال المرتشين وكان الصواب هو السرقة والرشوة والابتزاز والاغتناء وغيرها من الصور، سائق سيارة الأجرة الذي يملأ الدنيا بالضجيج بسبب بوقه، لا يعتبر نفسه مخطئاً، بل يعتقد أنّ فعله هو الصواب لكسب الزبائن، هذا يأخذنا إلى السؤال الأول، كيف نحكم على الأمر أنه صواب أم خطأ، خير أم شر؟

يدفعنا السؤال الثاني للتساؤل، هل يميل الإنسان إلى فعل الصواب فعلاً أم أنّ المجتمع والقوانين هما من يدفعانه؟ فالطفل حينما يخطئ ويتم عقابه بوسيلة ما، يرتدع من تكرار الفعل في وجود شخص يعاقبه، الإجابة تكمن في مثال أنّ في مدينة كمدينتي الخمر ممنوع، ولكننا نسمع قصصاً كثيرة لأشخاص قد احتسوا الخمر في غرفاً مغلقة بعيداً عن أعين المجتمع، وكأن الخير والشر جزء من سطوة المجتمع على الناس، سواء كان مجتمعاً قبلياً يمارس فيه الناس التقزز والاشمئزاز من المذنب، أم مجتمعاً حضرياً يتم حبس المذنب وإنزال العقوبة عليه، ودرجات الفضيلة كالتالي:

  1. في مجتمع يكثر فيه الكلام البذيء، فإنّ الشتم العادي يصبح فضيلة.
  2. في مجتمع يكثر فيه الجهل، فإن المال يصبح فضيلة والعلم أمر معيب.
  3. في مجتمع يكثر فيه الهيرويين، فإنّ الحشيش يصبح فضيلة.
  4. في مجتمع يكثر فيه الجشع والنهب، فإنّ السرقة تصبح فضيلة.
  5. في مجتمع يكثر فيه الشُذُوذ، فإن الزنا يصبح فضيلة.
  6. في مجتمع يكثر فيه الفقر، فإن المخادنة تصبح فضيلة
  7. في مجتمع يكثر فيه التسلق والاستغلال، فإنّ القيم تصبح أضحوكة، والأنانية تصبح فضيلة.
  8. في مجتمع يكثر فيه ثقافة الموت فإن عدم الاكتراث بالحياة يصبح فضيلة.
  9. في مجتمع يكثر فيه امتطاء الدين، فإن عدم الالتزام يصبح فضيلة.

الظاهر أنّ الخطأ والصواب والخير والشر مفاهيم نسبية نابعة من المجتمع والمحيط والتربية، نقطع التفاحة ونأكلها بسعادة، تأكل الصين القطط والكلاب بسعادة، نذبح الخروف بسعادة، وهُنَاك من لا يعتبر أنّ هذه الأمثلة صواباً، أخذت أمريكا العبيد بسعادة ثم انقلبت أمريكا وأصبحت العبودية فيها عيباً إلى حد ما، ولو أخذنا مثال طفل من مولده كان الفرعون التالي في حكم مصر، فمن السائد أن يتم تعليمه أنه الإله أو أنه الأفضل وحياته ذات القيم الأعلى وبقية الناس هم عبيد، والمهم أن يعيش الفرعون وينام مع من يريد من النساء حتى لو كانت متزوجة فهو بهذا يشرفها ويشرف عائلتها، وغيرها من الصور الغريبة للفراعنة وأمثالهم على مر التاريخ، هذا المثال متطرف، وهو حالة خاصة لا تنطبق على الجميع، لكن بتنا نعرف أنّ الأمراض مثل الحالات المتطرفة هي الصورة المثلي للفكرة المُجرَّدة لكي نعي الأمور دون علاقات مترابطة، من سيشرح للفرعون أنّ هذا خطأ، ومن سيُفهّم العبيد أنه لا يجب الخنوع، في حين أن الجميع يرى هذا أمراً جيداً!

رسم توضيحي 62 تقديس الأشخاص وليس الأفكار، إذ أن الفحش قد يكون مقبول نسبياً وليس مرفوض قطعياً

على ما يبدو أنّ الإنسان يميل لأن يكون على صواب، أو أن يكون جيداً حتى يجد السعادة حسب سبينوزا، لكنه بحاجة إلى أن يعرف الصيغة المثلى ليكون جيداً، هُنَاك أشكال كثيرة وكثير منها متضارب وعلى المرء أن يتجرد لكي يختار منها، هل الفرعون يرى أنّ قتل العبيد أمراً سيئاً، أم أنه يفترض أنه سيكون يوماً ما عبداً؟ مُستحيل أن يفترض هذا، هل يمكنني كقائد أن أدافع عن قريتي ضد الاحتلال ويموت بعض السكان، أم أسمح لهم باحتلالها دون إراقة الدماء ولكن نعيش تحت سطوة المحتل؟ أسئلة كثيرة متداخلة بحاجة إلى قانون، حتى لا يختلف عليه أي إنسان.

الأخلاق ترتبط بالقوة والذكاء أيضاً، وأبسط صورة لهذا الأمر هي صورة عجوز طاعن في السن بال على الأرض لأنه لا يستطيع الوصول إلى الحمام، أو بصق على الأرض ولم يتمالك نفسه، وهنا ارتبطت الأخلاق بقدرة الشخص على تطبيقها وليس بوجود المبدأ لديه من عدمه، وكما رأينا أنّ أفلاطون كان يرى أنّ الحراس هم من يصلون إلى المرحلة العليا وهي المرحلة التي يرون فيها الأخلاق بوضوح ويصبحوا معصومين، وهذا يعني أنه كلما وصل الإنسان إلى القيمة المثلى في أي مجال، اقترب من الصورة المثلى للأخلاق، أما أرسطو فقد رأى أنّ الأخلاق مهارة يكتسبها الناس عن طريق المُمَارسة، فالأخلاق عند أرسطو خطوات من الإنسان لتحقيق الذات، وليست مبادئ مقدسة، ولكن الأخلاق فائدتها على الفرد والمجتمع أكثر من تكلفتها، فلذلك هي منطقية وأساسية، وعلى الإنسان في طريق سعيه إلى الكمال أن يبذل هذه التكلفة، وهي مهارة يجب أن يصقلها إلى أن تدخل فيه وتصبح جزء من ذاته، والصقل حتماً يتم بالمُمَارسة.


يقول كانط تصرف بالحكمة التي تتمنى تحويلها إلى قانونٍ دولي، أي التي ترغب أن يفعلها الجميع، وهي طريقة جميلة للانسجام مع القانون الأخلاقي الداخلي للإنسان، ويرى كانط أنّ الأخلاق جزءاً من الفطرة البشرية (معرفة قبلية)، والقانون الأخلاقي موجود قبل التجربة، ودور البشر فقط هو اختيار الموقف الأخلاقي الذي يقف على النقيض من الأنانية وحب الذات، واستند كانط في إثبات هذه الفكرة على تجارب الحياة، لأن جميع البشر لديهم هذا الشعور الجلي حول أي الأعمال خطأ وأيها صواب مهما اشتد أمامنا الموقف من أنانية وتداخل، والتحرك باتجاه أي عمل لتحقيق السعادة أو المصلحة لا تقع تحت طائلة الإرادة؛ لأنها لم تصدر عن عملية اختيار، ويرى كانط أنّ الخير في الأخلاق هو ما جاء وفقاً لما يأمر به الواجب مهما كانت نتائجه بعيداً عن أي غاية وبقصد سعادة الناس للوصول إلى الكمال البشري عبر أدواته وإن أدت إلى لذة أو ألم، وهذا ما يجعلنا جديرين بالسعادة، لذا فإنّ تنفيذ القانون الأخلاقي لا يعني أنك ستكون سعيداً، لأن الفضيلة والسعادة أمران مُختلفان، ولا مجال إلا ذكر جملة كانط الشهيرة “لا داعي لأن أقلق فالسماء المرصعة بالنجوم فوقي والقانون الأخلاقي داخلي”.

صورة 20 لوحة ليلة مليئة بالنجوم على نهر الرون للفنان الهولندي فينست فان غوخ، معاد رسمها.

ولكن، من يضع القانون والتشريعات التي يتفق عليها العالم؟ فقد نجد عائلة ما جميلة وخيّرة فيما بينها، ولكنها مع جارتها جداً سيئة، فنحن بحاجة إلى مُشرّع أفضل، ولنرَ مثالاً أعلى من الأسرة، ماذا لو كانت القرية هي من تشرع؟ تستطيع هذه القرية أن تمارس الخير بينها، ولكنها مع قرية أخرى تمارس كل الشرور، إذن نحن بحاجة إلى النظر إلى الأعلى مرة أخرى، بحاجة إلى قانون دولة، ولكننا نرى الدول تحارب وتنتهك بعضها البعض، ولدينا مثال تعامل العالم مع الدول الأفريقية، فلا مبادئ ولا قواعد ولا خير على الإطلاق، شرٌ مطلق لا رادع له، مع أنّ كل الدول التي تستغلها تدّعي الأخلاق والمثالية، لذلك نحن بحاجة إلى قانون أعلى من الدول والقارات، نحن بحاجة إلى ما هو أعلى من الكرة الأرضية، وغداً لو سكن العالم المريخ أو ظهر جنسٌ فضائيٌ آخر فنحن بحاجة إلى مشرّع أعلى منا يضع القانون لنا جميعاً، والصورة الأنسب لهذا المشرع هو الله، أرى أنّ هذا أساسي ولا فكاك منه، ولو كان البشر جنساً سامياً على كل المخلوقات للزم أن يكون هُنَاك قانون أعلى يوازن بينهم وبين الأجناس الأقل سمواً، قاضي يفصل بين الإنسان والإنسان والحيوان والنبات، فلا يبطش الإنسان بالضعفاء الذين هم أقل منه، قاضي يفصل بين القوي كفرعون، وبين غيره من الضعاف الذين لا يفهم فرعون ضعفهم، ولا يجب أن تقف المسؤولية الأخلاقية كما يراها كانط عند الإنسانية فقط، بل يجب أن تشمل جميع الكائنات، حتى النبات والجماد، وغداً الروبوتات لكي نمنع ثورتها على البشر، صحيح أنّ الأخلاق تتطور ولكنها ما تلبث أن تنتكس برأي الأغلبية أو الأقوياء وتعود الحضارات للاحتضار.

وماذا عن النفعية عند البشر؟ ماذا لو كان بإمكاننا إنقاذ 100 شخص بقتل شخص واحد؟ مثل معضلة العربة، أو كان بإمكاننا إنقاذ 100 مريض عبر سحب دم شخص سليم به المصل المضاد ولكنه سيموت! فليس كل عمل أخلاقي قد يعود بالنفع على الجميع، وهي الفكرة نفسها التي يمكن أن ننطلق منها لمناقشة مفهوم العبودية، والإدراك الأخلاقي هو حكم المنفعة في النهاية، والأديان كلها إنما شرعت القواعد الأخلاقية لمنفعة الناس.

يقودنا هذ الحديث بلا شك إلى ضرورة وجود مشرع أعلى للقوانين، صحيح أن هذا المُشرِع وضع لنا الرغبة بعمل الخير في داخلنا، إلا أنه لم يكتب في عقولنا ما هو الخير، ولكيلا يحدث أي خلاف كما الخلافات التي ذكرناها بالأعلى، يجب أن يكتب لنا قانوناً أخلاقياً ويشرحه لنا، ولكي تتبعه الناس، يجب أن يضع ثواب لمن ينفذه وعقاب لمن يخالفه.

ولا شك أيضاً في أنّ الأخلاق تتقدم حسب الذكاء الاجتماعي، فكلما زاد الذكاء الاجتماعي، نضجت هذه الأفكار وصار الشخص أقرب إلى الإنسان الأسمى؛ لأنه يفكر بذكائه الاجتماعي في غيره وفي علاقاته الاجتماعية، ويصل إلى داخل عقول غيره ويفكر بعيداً عن المصلحة الشخصية، بل وتراه يبحث عن المصلحة المجتمعية، وقد فضلت أبتعد عن الخطأ لأنه حرام حتى صار عادة، وصرت أقول لا أفعل كذا لأنه خطأ وليس لأنه حرام، ترسخ المفهوم الأسمى للأخلاق لدي، بعيداً عن الدين وعقاب الحرام وثواب الحلال.

وإنّ أكثر ما يجب أن يتطور في شخصياتنا وقدراتنا هو إمكانية التعبير بعمق أكثر وصدق حقيقي عما يدور في داخلنا من أفكار ومشاعر، إلى أن يصل الوعي واللاوعي إلى تكوين شخصية واحدة بلا حواجز.

هذا يعني حينما أفعل شيئاً ما في حياتي، أكون قد فعلته بحقه لأنني اتخذت القرار الحقيقي بفعله، فإذا فعلت الخير مثلاً أفعله توافقاً مع الكائن الأسمى الذي أودعه، أقوم به وأنا أجزم في نفسي أني أفعله للغرض نفسه الذي أعتقده، ولا لأي كذبة أكذبها على نفسي، حتى لو كانت نيتي غير صحيحة، أعلم في ذاتي أني فعلت ذلك لغرض غير الأساسي، ولا أكذب عليها.

قام جيمس ماريوم المُلقَب بأبو أمراض النساء الحديثة بإجراء عشرات التجارب على السود لأنه اعتبرهم أقل من البشر ولا يشعرون بأي ألم لذا لا داعي لتخديرهم، فقام بتشريح الأطفال السود، وثقب جماجمهم بلا هوادة، وقد مات الكثير منهم بين يديه أثناء تنفيذه لتجاربه عليهم، في اعتقاده أنه كان يخدم البشرية وفعلته أخلاقية، لكنها في الحقيقة كانت أسوأ ما يحدث في الفعل البشري، لأنها كانت بلا مرجع كوني، يقول الفيلسوف الألماني هايدغر إنّ العلم لا يفكر بمعنى أنّ العلم يحتاج إلى الثقافة والفلسفة والقيم والتوجيه لكي يحقق أهدافه ويصل إلى مبتغاه.

وإنّ مفاهيم مثل الخير والشر والجمال والعدل والإنسانية والحقيقة، تحمل معانٍ مطلقة في الفلسفة الدينية متجاوزة العالم المادي ذي المعاني النسبية، النظرة الألوهية أو المعتمدة على الدين تفترض وجود دوافع مادية خاضعة لقوانين في سُلُوك الإنسان، ومع وجود الإرادة الواعية (الروح) والدوافع الفطرية فإنها تدفع الإنسان نحو اتجاه اختيار سُلُوكيات تصب في حوض القيم المطلقة، وإنّ من يحدد اختيار الإنسان هو الوعي الإنساني متجاوزاً بذلك المادة وتفاعلاتها الكيميائية.

فلا معنى للإنسانية والخير والشر وما إلى ذلك، إلا في وجهة نظر دينية ألوهية للعالم، فوجود الكائن المتجاوز للمادة، والقوة المكونة المتعالية على الطبيعة، هو ما يعني وجود حقائق إنسانية وعدل وخير وما إلى ذلك من معانٍ، وبهذا فقط يكون هُنَاك معنى للإنسانية ومعنى للإنسان الخيّر، ومن نظرة دينية، فالإنسان ولو كان ملحداً، يمكن أن يقوم بأفعال خيّرة، وذلك لأحد سببين:

  1. إما لكونه يستجيب للدوافع النفسية البيولوجية الشخصية داخله مع الظروف الخارجية (القانون مثلاً).
  2. وإما لكونه مدفوعاً بالفطرة الروحية ليحقق مفاهيم تتجاوز حدود المادة والإنسان كالخير والإنسانية.

لذلك يمكن أن يكون الشخص المادي منادياً للقيم المطلقة كالعدل والحُريّة والإنسانية والخير، لكنه يكون يحمل معتقدين متناقضين بالأصل والتبعية، يستخدم أحدهما في حين أن:

المادية: تعتقد بعدم وجود ما يتجاوز المادة، وعدم وجود قيم مطلقة، بأنانية وحتمية السُلُوك الإنساني.

الإنسانية: قيمة مطلقة متجاوزة للمادة، تفترض حُريّة الاختيار، والقدرة على التسامي على الدوافع المادية.

ولكن، لماذا يحتاج المادي المُؤمِن بكون عبثي إلى الاعتقاد بمبدأ الإنسانية؟ في كون لا هدف له ولا غاية ويتصف بالعشوائية؟ الجواب هو إما أنه وهم أناني ليعيش ويحقق حاجاته، أو أنه يوجد فعلاً هدف وقيمة مطلقة يشعر بالرغبة في تحقيقها، والثانية لا تستقيم بفكر مادي، لذا فإن الدين والإيمان بالفلسفة الألوهية هو المظلة الجامعة لكل القيم المتجاوزة للمادة، مثل الإنسانية والخير للبشرية وغيرها، لأنّ هذه القيم لا تستقيم ولا يكون لها معنى عقلي حقيقي إلا في وجهة نظر الدين، وبهذا يكون الدين أعلى من الإنسانية وغيرها لأنها لا تستقيم به، وتأخذ منه معناها، ولأن المعاني المتجاوزة للمادة المطلقة لا ينظمها إلا نظام متجاوز للمادة مطلق (الدين)، والاعتقاد بقوة مطلقة أكبر من الكون [153].

اللُغة

اللُغة هي طريقنا إلى المعرفة ووسيلتنا إلى فهم تكوين المعنى في الخطاب، ونظراً لعلاقة التضمين بين اللُغة والتفكير فلا سبيل إلى التفكير والمعرفة والفهم دون اللُغة، إذ أنّ كل تفكير منظم يحدث داخل اللُغة. ويعرّف دي سوسير اللُغة بأنها نظام من العلامات تعبر عن أفكار ومن هذا يتضح أنّ نظام اللُغة يعبر عن شكل لا جوهر، ويتأسس هذا الشكل (النظام) بالعلاقات الرابطة بين عناصره (العلامات)، أما وظيفتها فتتحدد بكونها أداة اتصال لكي تعبر عن أفكار.

فالعلامة هي المكون الذهني الذي ينتجه سماع الصوت وهي تتكون من وجهين مرتبطين على نحو لا يمكن فيه أن نفصل بينهما من دال ومدلول، أما الدال فهو الصورة السمعية أو الصوتية للعلامة، وأما المدلول فهو الصورة الذهنية أو المكون المعنوي، وليس بالضرورة أن تكون العلامة صوتية، فالصوت من الممكن له أن يحضر بذاته، أو يرسل ما ينوب عنه، رمزاً مرسوماً يُسمى الكتابة، والكتابة تنوب عن الصوت.

فحينما نقول شجرة في حديثنا فاللفظة عبر الصوت تحاول استدعاء صورة الشجرة في ذهن المتلقي، وبالطبع لا يحضر في ذهنه إلا بعد أن كان قد حضر في ذهنك، والشجرة لا تحضر في الأذهان بجسمها، ولكنها تحضر بصورتها التي انعكست عن الطبيعة في الذهن [147].

في علم المنطق يُطلق على الصورة الذهنية للأشياء بالمفهوم، وما ينطبق عليه المفهوم في الواقع يسمى المصداق، فحينما نقول شجرة فهنا نقصد المفهوم، وحينما نقول شجرة التوت التي في منزل خالك فهنا نتحدث عن المصداق، وكذلك حينما نقول سيارة فنحن نقصد المفهوم، ولكن حينما نقول سيارة مايكل موديل BMW فنحن نقصد استدعاء صورة المصداق، وهي في عالم البرمجة مثل الفئة Class والكائن منها Object فالفئة هي القالب، والكائن هو المكون المصنوع من القالب، لدينا قالب إنسان، وخليل مصنوع من هذا القالب، وفي الحقيقة كلمة إنسان تجعل خيالك يتخيل كلمة إنسان مُجرَّد أو عدد لا نهائي من البشر، لكن خليل سليم يجعلك تتخيل شخصاً بعينه.

حين يتحدث أي منا فإنه لا يفعل أكثر من وصف العالم، ثم يطلب من المستقبِل أن يصدق وصفه كما لو أنه حقيقة مطلقة، فالمتكلم يرى شخصاً في العالم فيقول سيدة، ويريد منك أن تتصور ما رآه حينما يذكر كلمة سيدة، فإن سألته عن وصف هذه السيدة أخبرك بأنها جميلة وطويلة وصفاتها كذا وكذا، وهو يعتقد هنا أنه نقل إليك صورة السيدة التي رآها في العالم.

ولنبين الصورة في عمل العقل البشري في آلية عمل الدال والمدلول:

  1. رأت عينا المتكلم سيدة.
  2. نقلت عيناه صورة السيدة إلى دماغه، وهي بالتأكيد ليست السيدة نفسها، لأنّ ما نقلته العينان كان الصورة لا السيدة.
  3. أمر دماغ الشخص لسانه أن يقول سيدة فقال، فتم استبدال المصداق للسيدة بالمفهوم وهي الصورة الذهنية.
  4. لا شك أنّ ثمّة فرق آخر بين الصوت والصورة، فصارت الكلمة الصوتية بديلاً عن الشخص في العالم.
  5. وحين يقول سيدة فهو يتوقع منك أن تستقبل الكلمة ويترجمها دماغك إلى صورة سيدة كما في ذهنه.
  6. فهل تعتقد أنّ دماغ المتلقي قد تلقى صورة السيدة التي رأيتها أول مرة، وحاولت إيصالها؟ بالتأكيد لا.
  7. وإذا كنت قد كتبت على ورق ما كلمة سيدة، وحين كتبت الكلمة لم تحضر السيدة، ولم تستبدل ما كتبت بالسيدة، لأنك إنما كتبت رمزاً مرسوماً يشير إلى سيدة، وليست سيدة في الواقع.

وهكذا في متوالية لا تنتهي، يتم فيها استبدال الصورة بالعالم، ثم استبدال الصوت بالصورة، ثم استبدال الصوت مرة أخرى بالصورة الثانية، ثم استبدال الرمز الكتابي الذي أنتجه بالصورة التي أحدثها الصوت في دماغه، فكتب سيدة وهو يتصور أنّ السيدة الأولى قد حضرت، وهكذا تستمر المتوالية في تسلسل إلى ما لا نهاية، وفي كل مرة تتراجع الحقيقة أمام اللُغة، ولذلك قال أرسطو: “إنّ اللُغة قاسية ومستبدة، تريد أن تستبدل الرمز بالحقيقة، وحاصل كل هذا أنّ اللُغة ليست حضوراً حقيقياً، بل هي تمثيل للحضور أو قناع له، إنها تحاول إحضار الموجود في العالم بالأصوات”، لذلك يقول جاك لاكان ليس ثمة لُغة تستطيع قول الحقيقة عن الحقيقة، ونرى هذا في النقاشات التي تكون غالباً بين طرفين، الطرف الأول يستدعي المفهوم، والطرف الثاني يستدعي المصداق وبهذا يكون كل الخلاف لا معنى له، مثلاً يقول أحد ما: الدين لا يفيد في تحسين الخلق، فيرد عليه شخص ويسأل لماذا، فيقول له لأنّ جاري محمود متدين وسيء الخلق، ولاحظ الفرق هنا بين المفهوم والمصداق.

دور اللُغة

إنّ الصراع بين ثنائية المعرفة القبلية والمعرفة التجريبية ودور كل منهما في نظرية المعرفة قد ولى؛ لأنّ القرن العشرين قد أضاف للفلسفة معاملاً ثالثاً للقياس وهو معامل اللُغة، وقد اعتقد فيلسوف اللُغة فتجنشتاين أنّ أغلب الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، والمشكلات الفلسفية ليست تجريبية بل هي مشكلات مفهومية ومنطقية، وبينما يشيّد الفلاسفة نظريات حول المعرفة والعقل والواقع، كان الأجدر بهم العمل على توضيح طبيعة تفكيرنا في هذه الموضوعات، ويرى فتجنشتاين أنّ العالم له بنية واللُغة كذلك لها بنية، فالعالم مكون من مجموعة من الوقائع تتألف من حالات وتفاصيل الواقع وبدورها تتألف حالات الواقع من أشياء وهكذا، أما اللُغة فهي مجموع القضايا، وتتألف من قضايا أولية والتي بدورها تتألف من أسماء، وإنّ تحليل العالم سيُفضي حتماً إلى أشياء أما تحليل اللُغة فسيفضي بالضرورة إلى أسماء، والعلاقة بينهما تتمثل في كون اللُغة هي صورة للعالم، وبهذا فإن وظيفة اللُغة هي تصوير العالم الخارجي [154].

ويرى فينجنشتاين أنه يمكن تمثيل اللُغة باللعبة، ويتم التفكير في القضية على أنها حركة في لعبة اللُغة تستمد معناها من اللعبة التي هي جزء منها، وتنشأ المشكلات الفلسفية نتيجة استخدام الكلمات في لعبة لُغة وفقاً لقواعد لعبة لُغة أخرى، وفاعلية اللُغة تعتمد على استعمال الكلمات بوصفها أدوات، وهذا يدفعنا إلى فهم اللُغة على أنها جزء لا يتجزأ من حياة المتحدثين بها ولغتنا مطمورة داخل أفق السُلُوك غير اللغوي، فصورة الحياة الإنسانية ذات أساس ثقافي في طبيعتها، وفهم مجموعة من الناس لصورة حياتهم يعني إجادة الألعاب اللغوية الضرورية لممارستهم اللغوية الخاصة بهم، ونحن لا نصل إلى صورة العالم لدينا عن طريق الاقتناع بصحتها، وإنما عن طريق كوننا نشأنا عليها، فمحاولة التسويغ والمحاججة لا يمكن أن تحدث إلا داخل نسق، وذلك يستلزم أنّ النسق ليس له تسويغاً [154].

كثير من الكلمات حينما تُقال من قبل شخص ما فإنها تدل على ما لا يعرفه إلا الشخص المتكلم، وهي تدل على إحساساته الخاصة المباشرة، ولذلك لن يستطيع شخص آخر أن يفهم هذه اللُغة، وهذا صحيح إلى حد ما لكن ليس في كل ما يقال، فالحجر حجر والشمس شمس، مهما اختلف المتكلم، قد يكون الاختلاف في وصف شعور ما أو دلالات كلمة ما أو فكرة ما، لكن في وصف الأشياء على الأغلب لا اختلاف، وحتى الاختلاف في وصف الشعور يتم معادلته بالمزيد من توضيح الوصف، هذا لا ينفي أن تنتمي اللُغة إلى تاريخ ثقافي لكل فرد في كل مجتمع، تاريخ تجارب وألفاظ ذات دلالات.

يرى تشومسكي أنّ الدماغ البشري مُهيَّأ حيوياً لتعلم اللُغة، لذا فإنّ ملكة تعلم اللُغة فطرية وليست سُلُوكية، ويضيف أنّ اللُغة تشبه أي قدرة يستطيع الإنسان تنميتها، وأطلق عليها مسمى القدرة اللغوية الفطرية، وهي عبارة عن الآليات والقدرات اللغوية التي تنمو من خلال التفاعل مع البيئة اللغوية المحيطة أثناء مرحلة الطفولة لتكوين قواعد اللُغة الأم على مراحل تصاعدية إلى أن تصل إلى مرحلة الاكتمال والثبات، وفيها يستطيع الطفل صياغة وفهم جمل لا متناهية لم يتكلم أو يسمع بها من قبل، وهذه درجة الإبداع، وفي الحقيقة لا مناص من أنه كلما تقدم الفكر الإنساني، تقدمت اللُغة معه أكثر، وتوسعت مداركه للتفكير بشكل أوسع، كلمات معينة تضيف حجرات جديدة في عقل الإنسان، ولكن ماذا لو لم نكتشف جميع خواص اللُغة؟ وظلت قدراتنا اللغوية حاجزاً يمنعنا الانطلاق في التفكير؟ وهنا يحضرني فيلم آخر هو The Arrival، وسأتساءل، هل هُنَاك مزايا في نظام تشغيل الإنسان لا تزال غير مكتشفة؟

كم مرة وأنت تقلب في جوالك اكتشفت ميزة جديدة كانت موجودة لكنك لم تقرأ عنها ولم تسمع عنها، كم من مرة وأنت تستخدم نظام تشغيل الويندوز اكتشفت سراً صغيراً بسيطاً كان موجوداً يجعل الأمور أسهل وأفضل، أو أنه قام شخص ما بإخبارك بهذه الميزة أو بهذه الدالة التي كانت مخفية عنك، ولو لم يخبرك عنها لبقيت على حالك دون تغيير!

حسناً، الموضوع غريب قليلاً، لكن دعونا نفكر بوضوح، كثيرٌ من الظواهر التي تحدث لبشر خارقين حولنا لا تزال بحاجة إلى تفسير، قد لا تكون هذه الظواهر إلا مُجرَّد مزايا في نظام التشغيل لدينا لم نكتشفها بعد، مثلاً سمعنا ورأينا الرجل الذي يتحمل الصعق الكهربائي ولا يتأثر، ورأينا الرجل الذي يحفظ كتاب بمُجرَّد النظر إليه، والسيدة التي تمتلك القدرة الخارقة على حمل الأشياء الثقيلة، والمئات غيرهم حول العالم، هذه ظواهر لا تزال بحاجة إلى تفسير، وغيرها من الظواهر حول جسم الإنسان التي لا تزال غامضة، كمُشكِلة الذاكرة، وكيفية التذكر، وعبقرية نيوتن وألمعية تيسلا، رغم أنّ التشريح الفسيولوجي لعقولهم كان طبيعياً كأي إنسان آخر.

يتحدث فيلم The Arrival عن عدة سفن فضائية هبطت فجأة إلى كوكب الأرض، وقامت الحكومات بإرسال مجموعة من العُلماء للتواصل معهم، واجهت عملية التواصل صعوبات كبيرة، فلقد كان كلا الطرفين(البشر والفضائيون) يتكلمون بطرق مُختلفة، إلى أن توصلوا إلى الكتابة كنمط للحديث سوياً، كانت كتابة الفضائيين غريبة، فقد كانت الجملة لديهم دائرية وليست مسطحة كما في (شكل 59 الكتابة غير الخطية)، اتضح لاحقاً أنّ الفضائيين لا يبدؤون الجملة وينهونها مثلنا، بل يكتبون الجملة من عدة مواضع في آن واحد، أي يمكنهم كتابة جملة طويلة في ثانية أو اثنتين، ولأن الكتابة لديهم من عدة نواحٍ في آن واحد، هذا جعلهم لا يملكون بداية أو نهاية للأحداث، وأعطاهم القدرة على تحديد سياق ما هو مكتوب بدقة متناهية باستخدام تحديد المسافات وحجم الكلمات وذلك في خطوة واحدة، وهذا كان مغزى الفكرة الجديدة.


تتسارع الأحداث في القصة، إلى أن تصل لويز –عالمة لغات– في النهاية إلى الحديث المباشر مع الفضائيين فيقول لها الفضائيون أتينا هنا لنساعدكم أيها البشر، لكي تقوموا لاحقاً بعد 3 آلاف عام بمساعدتنا، فتقول لهم لويز، كيف يمكنكم التنبؤ بالمستقبل؟ فيخبرونها أنّ مفهوم الزمن لديهم يختلف عنا، فلا يوجد لديهم بداية أو نهاية للزمن، بالضبط كما يكتبون، كل الأحداث لديهم تكون مرة واحدة ويمكنهم استيعاب الماضي والحاضر والمستقبل في دائرة واحدة، ولأجل هذه الميزة جاءوا إلى الأرض لينقلوها لنا.


شكل 59 الكتابة غير الخطية.

بدورها تقوم العالمة لويز باستيعاب هذه الفكرة بناء على فهم كتابات الفضائيين، فتستطيع مشاهدة الحياة وأحداث ماضيها ومستقبلها في شيء يشبه الشريط الدائري، إذ لا بداية ولا نهاية لما يحدث معها، بل كله في دائرة، وتحاول منح هذه الميزة للبشر.

الفكرة أساساها أنّ هذه القدرة موجودة لدى البشر مسبقاً، لكن لم يتعلموا كيفية استخدامها، هي موجودة في جيناتهم، في عقلهم، في الكود البشري –الجينيوم– لكن لم يسبق لإنسان أن تعلم كيف يستخدم هذه الميزة، وأجناس أخرى من الفضاء علمتنا كيفية استخدام هذه الميزة. السؤال الجوهري هنا، ماذا لو كان الإنسان يملك قدرات عديدة ما زلنا لم نتعلم كيف نستخدمها؟ سيكون هُنَاك أسئلة أخرى ولكن لأوضح أكثر، الإنسان يتعلم مهارات عديدة أثناء حياته، ويرى أناس بمهارات أخرى مدهشة قاموا بتطويرها خلال حياتهم، على سبيل المثال لا يستطيع الطفل الإمساك بالأشياء لكن بمرور الوقت يُنمي هذه المهارة، التلميذ في المدرسة يتعلم مهارات القراءة والكتابة، وهي مهارات لم تولد معه، لكنه يتعلمها من إنسان أكبر منه لديه هذه المهارات فينقلها له، فيصبح بدوره يستطيع الكتابة والقراءة، ولو تأملنا الكتابة بعمق فسنجد أنها مهارة غريبة، رسومات أفهمها أنا وتفهمها أنت بالمعنى نفسه، تغيير شيء بسيط فيها يغير معنى الفهم، لكن هذه المهارة لو عرضناها على إنسان في الغابة فأنّى له أن يفهمها ويعبر عنها ويتواصل بها مع غيره!

العالم مليء بالمهارات الغريبة التي ننميها بناءً على تعليم غيرنا لنا أو بناءً على تطويرنا إياها بدرجات متفاوتة، مهارة مشهورة مثل مهارة ضرب الأرقام الكبيرة، إذ نرى أشخاصاً –خارقين– كما نسميهم يقومون بضرب أرقام ضخمة من عدة خانات طويلة في ثوانٍ معدودة ويخرجون الرقم النهائي بدقة تامة، هذا ما دفع صحفي إلى متابعة هذه المسابقات، والبحث عن الكيفية التي تتم بها هذه العمليات، فتعلمها وشارك في المسابقات وفاز بالمركز الأول، هذه المهارة وصلته من غيره، فتمكن من عمل شيء جديد لم يكن يستطيع القيام به مسبقاً، كان يُعده سابقاً من الخوارق!

هذا يقودنا إلى سؤالٍ جوهري، ماذا لو كانت هُنَاك قدرات عديدة في اللُغة أو الحديث أو في عقل الإنسان ما زلنا نجهلها أو لم نعلمها لنتعلمها؟ مثلا مهارة التخاطر، وقد رأينا أناساً خارقين يمتلكون الحاسة السادسة، أو مهارة الحفظ السريع، أو التنقل السريع، أو حتى التحكم بالأشياء، أو لربما إسالة الحديد كما فعل النبي داود، أو المشي على الماء أو الحديث مع الحيوانات، أو التحكم في عمليات الأيض، والكثير من المهارات التي لم نتعلم كيف نستخدمها، وما زالت فينا مجهولة بحاجة إلى من يستكشفها ويكشفها لنا، لربما كشفها الخالق سابقاً لبعض خلقه (قد تكون المعجزات أحدها)، أو توصل بعض البشر بالصدفة إلى هذه القدرة، أي أنها كانت يوماً ما على الأرض.

هُنَاك علم يبحث في تلك الظواهر الغريبة يسمى علم ما وراء الوعي، فهو يعمل على تدوين القدرات الغريبة للبشر في سبيل محاولة تفسيرها مثل ظاهرة الاقتراب من الموت التي تم تسجيلها في مئات آلاف الحالات والتي لا زلت لا أرغب بتصديقها، وهذا يقودنا إلى أسئلة أكثر عمقاً، ماذا لو أننا نستخدم قدراتنا الحالية بشكل غير صحيح، ماذا لو أننا تعلمنا أن نستخدمها من غيرنا بشكل غير صحيح وتعودنا عليها بهذا الشكل، مثال بسيط، حيث عثر المستكشفون على فتى في الغابة يعيش مع الحيوانات، ويمشي على أربعة ويتسلق الأشجار، لاحظ المستكشفون أنّ هذا الفتى يجري بسرعة كبيرة جداً مُستخدماً قوائمه الأربع، ماذا لو أننا تعلمنا أن نجري على أرجلنا فقط بهذه السرعة، وكان يجب علينا أن نجري على أرجلنا وأيدينا بالوقت نفسه لكي نجري بشكل أسرع، ماذا لو علّمت البشرية نفسها مهارة الجري على الأرجل، ونسيت مهارة الجري على أربعة، أو أهملتها على مر العصور، وبقينا على هذه الحالة إلى الآن، هذا يعني أنّ مهارة كالجري الفائق قد فقدناها لأننا لم نتعلمها، ولا يعلمها البشر عامة، وهي كانت بمثابة مهارة مهمة متوفرة في قدرات البشر، لكننا أسقطناها، انظروا إلى مهارة الكتابة مثلاً، تعلمها البشر حديثاً مقارنة بعمر البشرية، ولو لم يتعلمها أحد وينقلها لنا لظلّت مطوية، لقد تقدمت البشرية بفضل هذه المهارة الفريدة.

قِس على ذلك عشرات ولربما مئات المهارات التي نملكها في جيناتنا، لكن لم نستخدمها لأننا لم نتعلمها، ونستذكر منها مهارات التفكير، مثل الوعي والانقياد، النقد والفهم، الاستيعاب وطريقة التفكير، الإبداع والابتكار، كلها مهارات يمكن أن نحصرها في دوائر ضيقة أو أن نطلقها بشكل واسع لنتخطى حدود الخيال، نحن لم نتعلم كيف نتحكم بها بعد، لقد استطاع أينشتاين بطريقة ما أن يستخدم مهارة التفكير ليصل إلى حدود جديدة، واستخدم بيتهوفن مهارة الابتكار في إنتاج موسيقى جديدة حتى بعد إصابته بالصمم، واستخدم غيرهم حول العالم القدرات المُسخرة لديهم في الوصول إلى جوانب جديدة جعلت العقل البشري يصل إلى قدراته الحقيقة، ويتخطى الأنماط الطبيعية المعروفة، السؤال كيف وصلوا؟ هل هو تحفيزٌ كيميائي، أم نفسي، أم تنمية مهارات، أم تعليم كيفية استخدام هذه القدرات؟ هذا سؤال نحن بحاجة إلى إجابته.

ماذا عن القدرة على التعايش السلمي، مهارة احترام الآخرين، تنمية مهارة تقبل الآراء وعدم الاختلاف، تعليم الإنسان مهارة أن يكون جزءاً من كل وليس كل في كل، تعزيز قدرته على حب الجميع، قدرته على خوض نقاش وليس جدال، الانفتاح على الأفكار وليس الانغلاق عنها، هذه القدرات موجودة، في دول عديدة تم تنميتها، ولكن تم إهمالها ولم يتم تنميتها، بل لم نسمع بها من قبل، هل نحن قادرون على الوصول إلى هذه القدرات بأنفسنا، باستكشاف العقل والغوص في المدفون البشري، أم نحن بحاجة إلى معجزة، لمخلوقات فضائية لكي تعلمنا مهارة استخدام هذه القدرات.

قد لم تتطور مهارات اللُغة بالشكل المطلوب بعد، لذلك نحن عالقون في المنتصف، صحيح أنّ الإنسان كان يفكر قبل صناعة اللُغة، والعقل هو من طور اللُغة، كالكثير من الأمور الأخرى التي طورها بالتجربة والتفكير، لكن هذا لا يعني أنّ اللُغة كانت تطاوع رجل الكهف وتوسع مداركه كما تُطاوع رجل الفضاء اليوم، فاللُغة مهمة في التفكير، وهذا ما سنتطرق له تالياً.

مشكلات اللُغة

أثناء عملي في نظام تعبيري لترجمة اللُغة المنطوقة وتحويلها إلى لُغة الإشارة للصم، تعرفت على اللُغة بشكل لا يُمكن وصفه، وغُصت في أعماق اللُغة، وتيقنت أنّ اللُغة لا تعاني من خطب وحسب، بل هي سبب سعادة وتعاسة الجنس البشري على حد سواء، وهذا ما يراه العاملون في مجال الذكاء الصناعي في مجال الترجمة، فمترجمو جوجل على سبيل المثال اعتمدوا على نظريات فينجنشتاين، وبالفعل كان كلامه صحيحاً إلى حد ما فيما واجهوه، ولنتطرق إلى المُشكِلة بمثال المترجم الإلكتروني.

إنّ أساس بناء مترجم آلي هو بناء شبكة عصبية للتعليم الآلي، إذ يتم تدريب الحاسوب فيها على فهم آلية ارتباط الكلمات ببعضها البعض، إذ تحمل الكلمات معانٍ عديدة تختلف بحسب فهمنا للسياق، فكلمة عين تعني العين البشرية وعين الماء وكبير القوم والجاسوس وذات الشيء حينما نقول هو بعينه وقائد وأهل المنزل والحاضر في كل شيء، ومعانٍ أخرى كثيرة في المراجع اللغوية، ولكي نتخذ القرار الصحيح في المعنى المقصود لا مجال إلا بالعودة للجملة لفهم السياق الذي جاءت فيه الكلمة، لهذا الأمر يُكوّنُ الحاسوب شبكةً عظيمةً وكبيرة من الترابطات، ثم يقوم بتدريب نفسه عليها بعد ترجمة ملايين الفقرات ومتابعة البشر لها في البداية والتعبير عن الخطأ وإمكانية التصويب، ليستطيع الحاسوب استيعاب آلية فهم اللُغة في سياقها، ثَمّة عمليات كثيرة مرتبطة بالترجمة من تنظيف الكلمات وإعادتها إلى جذرها الأصلي، فكلمة خدم أصل استخدم، ولكن لكل منهما معنىً مُختلف، فكلمة خادم نفهمها على معنى الجذر الأصلي خدم، ولكن كلمة استخدام من استخدم تختلف في المعنى عن الجذر الأصلي، كذلك ثمة كلمات مترابطة، إذا جاءت متتالية غيرت المعنى، فكلمة يوم، تختلف عن يوم الجمعة، وكلمة شهر، تختلف عن شهر رمضان، وهناك علاقات بين الشخصيات، فميسي لاعب كرة قدم، والقدس مرتبطة بفلسطين وبالدين وبالتسامح، وفهد عبارة عن حيوان، وكذلك اسم علم، وهو اسم ملك، وهو علامة تجارية .. إلخ.

هذا الارتباط يحيلنا إلى الحقيقة الدامغة بأنه لا يوجد معانٍ معيارية ثابتة للكلمات، وأنّ معانيها تكمن في استخدامها وهذه جملة مهمة، معانيها تكمن حين استخدامها في السياق، ثم إنّ كثيراً من الكلمات يتغير معناها عبر الزمن، إما سقطت معانٍ عنها أو أُضيفت معانٍ جديدة لها، وأصبح للكلمة الواحدة صفحات في القاموس، ونحن نجد معنىً لهذه الكلمات من خلال النظر في الكلمات المحيطة بها وتحديدها على النحو المُحدد في مجموع كل استخداماتها في السياق، ولا ننسى أنّ القواعد اللغوية عميقة جداً وتختلف من لُغة إلى أخرى بشكل يجعل لكل لُغة خصوصية في التفكير تختلف من لُغة إلى أخرى، وترتبط آلية عمل التفكير كثيراً بهذه اللُغة ودلالات الكلمات فيها.

يُفكر الإنسان في الكلمات حينما ينطقها أو يسمعها، فإذا سمعت لفظة ساعة من شخص، فإنك ستفكر في ساعة حائط أو ساعة يد أو 60 دقيقة أو حتى يخطر في بالك كلمة ساعة مكتوبة، وإذا قلت لك أسد، لا مناص أنك ستتخيل أسد أو أتخيل جارنا حسب وصف زوجته، وكلمات أخرى نكتفي بتخيل كتابتها (حروفها)، كلمة الله قبل تعلم القراءة والكتابة قد تتخيلها غيوم أو سماء أو فضاء أو كائن كبير يجلس على كرسي، لكنك بعد أن تتعلم اللُغة وتتعود على كتابتها، تصبح حروف كلمة الله مرتبطة بجزء من التخيل حينما تسمع الخالق، الإله، الرب، أو ما شابه حسب الثقافة والمجتمع وتاريخ الفكر.

بل حتى اللُغة خادعة وبعيدة عن المنطق، فنقول توقف المطر أو توقف الزمن وكأن الزمن يشبه قطار وتوقف، والوقوف له علاقة بالإنسان حينما يكون جالساً فيقف، فاستخدام لفظة وقوف مع الزمن أو المطر أو النزيف خادعة للمعنى الأصلي، وفي لُغة أخرى قد يكون لها معنىً يختلف كلياً أو يتم استخدام كلمة غير توقف، مثل انحسرت الدماء، وهي أيضاً تشير إلى أنّ الدماء كالنهر أو الحوض المائي الذي انحسر، ولا مفر من لعبة الكلمات هذه.

لِنُسلط الضوء على الدور المهم للُغة في عمليات التفكير نستذكر رواية جورج أوريل 1984 فهي تُقرب الصورة، إذ ذكرت الرواية نظاماً دكتاتورياً لا يريد لأي أحد أن يثور عليه، وكيف يمنع الديكتاتور الثورة؟ يتوصل بعد تفكير أنّ الطريقة المثلى هي منع الناس من التفكير بالثورة، ويتم ذلك عبر حذف كل الكلمات التي تدل على الثورة والانتفاضة ونبذ الظلم والطغيان وغيرها من عقول الناس ومن القاموس، فيصبح الناس في حالة لا يستطيعون وصفها، ويراودهم شعورٌ غريبٌ لا يعرفون كنهه، فلا تخدمهم الكلمات، ولا تطاوعهم المصطلحات، ولو أراد أحدهم أن يعبر عن الحالة العارمة من السخط ليثور فلن يستطيع استخدام الكلمات ولن يجد معنىً دقيقاً، ولما استطاع أن يوصل شعوره الداخلي لغيره بسهولة، ولما استطاع غيره أن يوصل المفهوم للآخرين بدوره، صحيح أنها مُجرَّد رواية وأنّ هذه الفكرة قد تكون ضعيفة، لأنّ الناس ستطور الألفاظ لتُعبر عن مكنوناتها، أو ستطور إشاراتٍ أو حركاتٍ أو أيِّ صيغ أخرى، لكن يمكنها التوقف لفترة طويلة عن وصف ما يعبر عنهم، وهي تُفيد بتقريب الفكرة، فلو حذفنا كلمة موت من القاموس، سيضطر الناس إلى البحث عن بديل لهذه الكلمة، كما أحلّوها أول مرة، سيحلّونها ثانياً وثالثاً وعاشراً.

يرى علماء اللغويات أنّ لكل لُغة خصوصيات لغوية مُختلفة عن غيرها، فهُنَاك حروف وأصوات خاصة بلغات معينة، ويصعب على من لم يسمعها من الصغر أن يُميزها بسهولة لينطقها، مثل الأصوات الساكنة المقذوفة وحرف الضاد والغين والخاء، وهُنَاك لغات بها معانٍ مشفرة في قواعدها النحوية كأجزاء من الفعل تشير إلى أشكال الأشياء، أو على أزمنة أفعال واسعة جداً، أو أنها تحتوي فئات نحوية جديدة مثل الإثبات وغيرها من الخصوصيات التي يصعب على غير الناطق بها كلُغة أم أن يستوعبها، فلِلُغتنا العربية ثلاثة أزمنة هي: الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن لُغة سكان غينيا الجديدة المُسماة ييماس Yimas تحتوي على أربعة أنواع من الزمن الماضي، تبدأ من الأحداث الأخيرة إلى الماضي البعيد، وهُنَاك لغات تحتوي على مجموعات زمنية أضعاف الموجودة في لغتنا مثل اللُغة الفرنسية، وهذا ما أرعبني بعدما أخبرني به معلمي في أول درس للُغة الفرنسية، وجعلني أتزوج من بلدي، هذا لا يعني أنّ هُنَاك أزمنة غير هذه الثلاث أزمنة، بل هُنَاك آلية مُختلفة للتعبير عن هذه الأزمنة، وقد تكون الشعوب التي لا تهتم بصيغة الحاضر والمستقبل في لغتها، ترى أنّ الحاضر والمستقبل كلاهما بالأهمية نفسها، لكن الشعوب الأخرى التي تميز بينهم يبدو أنها تهتم بالحاضر أكثر، ولك أن تتخيل وقع ذلك في الحياة اليومية.

بعض السكان الأصليين في أستراليا يتحدثون لُغة تسمى Guugu Yimithirr، ويقومون بتوجيه أنفسهم في المكان بشكلٍ أفضل من الأشخاص الناطقين بلغات أخرى، فنحن نحدد المكان بالاعتماد على الوسط والذي غالباً ما يكون وسط المتحدث، فنحن نقول هذا عن شمالي، وعلى يمينك وهكذا، لكنهم يعتمدون على تموضعهم بين الاتجاهات الأربعة، لذلك ستسمعهم يقولون، ضع هذه باتجاه الشمال الغربي، وانتبه هُنَاك سيارة قادمة من اتجاه الجنوب الشرقي، ولو أراد أن يخبرك باتجاه مسار ما فيقول لك، اتجه شرق ثم شمال ثم شرق ثم غرب، بدلاً من يمين في شمال في شمال في شمال، لا يقف الأمر عند ذلك؛ بل كل شيء تقريباً، ففي وصفهم الصور نرى جملة مثل الرجل يقف غرب زوجته، وفي ترتيب الأشياء على المائدة يقولون: ضع كوب العصير جنوب طبق الفاكهة، حين الحديث عن أشخاص: هل تراه؟ الرجل صاحب الأنف ناحية الجنوب، وعند تصفح الكتاب: توجه بالصفحة للشرق، وعند الحديث عن الذكريات القديمة لا أريد تذكر تلك الحادثة حينما كُسرت ذراعي الشرقية [155]، إنّ هذا ما يجعل عقولهم يقظة باتجاهات لم نكن متيقظين لها نحن سكان بقية الكوكب، وقد تسمع جملة هنا مثل المستقبل أمامنا، ولكن هُنَاك تكون المستقبل فوقنا أو شمالنا، وحين تشير إلى المستقبل تشير أنت إلى الأمام، ولكنه يشير إلى الأعلى [155].

مثال آخر، تحتوي لُغة سكان شمال أستراليا (ديربال Dyirbal) على أربع فئات مثل الجنسين في اللُغة الإنجليزية، وهو تخصيص غير قابل للفصل، فالفئة الأولى تشمل أسماء الحيوانات والذكور من البشر، أما الفئة الثانية فتشمل أسماء النساء والمياه والنار وأسماء الأشياء القتالية، بينما تشمل الفئة الثالثة أسماء النباتات الصالحة للأكل، والفئة الرابعة تشبه الطبقة المتبقية، إذ يتم جمع باقي الأسماء المتبقية التي لم يتم ذكرها في الفئات الثلاث الأولى، وهذا التصنيف للأسماء يشمل رؤية متماسكة للعالم، بما في ذلك الأساطير الأولية، وقد تم العثور على أسماء الطيور في الفئة الثانية على الرغم من أن تصنيف الحيوانات في الفئة الأولى، لأن الشعب الديربالي اعتقد أنّ الطيور كانت أرواحاً لنساءٍ متوفيات[156].

كذلك يختلف وصف المذكر والمؤنث بين اللغات، فاللُغة الألمانية تختلف اختلافاً كبيراً في تحديد جنس ما نراه نحن العرب في لغتنا، فالطاولة لديهم مذكر، والكرسي مؤنث، وهذا سيجعل التفكير مُختلفاً في وصف الأشياء المذكرة والمؤنثة، فالمذكر لدينا يشير إلى القوة والخشونة، والمؤنث يشير إلى النعومة والجمال بطبيعة الحال، وفي تجربة أجريت على مجموعتين من الأفراد من متحدثي اللغتين الألمانية والإسبانية، إذ طُلب منهم أن يصفوا المفتاح، وهي كلمة مذكرة في الألمانية ومؤنثة في الإسبانية، فمالت مجموعة الألمان للقول أن المفتاح “قوي، ثقيل، خشن” بينما ذهب غالبية الأسبان إلى أوصاف مثل “ذهبي، محبب، لامع، رقيق”، يوضح ذلك كيف أنّ جنس الشيء اللغوي قد يؤثر على طريقة وصفنا له كذكر أو كأنثى

[155].

رسم توضيحي 63 ضياع أرض فلسطين بسبب لام التعريف، إذ تظهر فيها فلسطين الحالية مقسمة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة التابعين للفلسطينيين، وباقي المنطقة الصفراء محتلة.

يُعد قرار 242 الصادر عن مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة قراراً مصيرياً، فقد جاء فيه “انسحاب القوات الإسرائيلية من أراضٍ احتُلت في النزاع الأخير”. وقد أدى حذف “أل” التعريف من كلمة “الأراضي” في النص الإنجليزي إلى إضفاء الغموض على هذا القرار، وأفسح المجال للاحتلال الصهيوني للمناورة فيه، إذ لم يتم تحديد ما هي الأراضي التي احتلت، الأمر الذي جعل القرار أقل قيمة وفاعلية واتخاذه وسيلة لإحلال المزيد من الظلم على الشعب الفلسطيني المحتل!

يتكون نظام العد في إحدى اللغات البرازيلية من الرقم 1 و2 وكثير، لا يوجد لديهم رقم أكبر من اثنين، لكن يوجد لديهم كمية هي كثير، وحينما تم جلب أحد هؤلاء السكان وجعله يحدد أي كومة أكثر في العدد بين كومتين تحتويان عناصر أكثر من 50 مثلاً، فإنه لم يستطع التمييز أي الكومتين أكثر بسهولة، لأن في عقله كل ما هو أكبر من 2 هو كثير، وهذا كثير وهذا كثير، ولا فرق جلي بين كثير وكثير [157]، وهذا مثال مباشر على دور اللُغة في آلية التفكير، صحيح أنّ هذا الشعب يمكن أن يتعلم أو يستعير من أي حضارة نظام العد ويعد في اليوم التالي ويطور آليته، لكنهم في الدرجة الأولى لم يمتلكوا تلك المهارة.

ولعلنا نرى الكلمات التي تعبر عن الحب لدينا مثل الحب، الهيام، الغرام، العشق، الوله، الود، الصبوة، النجوى، الجنون، وغيرها من الكلمات التي تسمح لنا بالتعبير عن أدق أدق مكنوناتنا تجاه من نحب غير موجودة بالدقة نفسها في لغات أخرى، لكن، هل تعطينا اللُغة العربية على سبيل المثال معنىً للحب العفيف مثل حب الأب والأم والأبناء، والحب الجنسي بين شاب وفتاة في أوج الشهوة! فالحب في لغتنا مُتمثل بكلمة حب، لكن كل حب له وصف وأحاسيس معينة، ولو أتاحت اللُغة كلمات منفصلة أكثر لأمكن وصف هذين الحبين بكلمات أدق، قالت لي بنت خالي: إنتا حبيبي يا خليل، أنا فهمتها على أنها حب عفيف أخوي، ولكن أخاها فهمها بالحب الآخر وبقليل من التجاهل تجاوزنا هذه المرحلة، وكفى الله المُؤمِنين شر القتال.

يرى الفيلسوف دريدا أنّ أفكار الإنسان تقع في شِرك اللُغة ولا توجد طريقة موضوعية لنميز فيها الأفكار التي تقع خارج اللُغة، لأن اللُغة هي وسيلتنا للاتصال والتفكير، وقد حمل هيدجر رأياً مشابهاً حينما قال: “لا توجد طريقة بالمطلق نستطيع عبرها فصل اللُغة عن الواقع”، ما دامت لغتنا ليست تخاطرية لأفرغ في عقلك ما أريد إيصاله بدقة أو ليست منطقية كلُغة الحاسوب، سيبقى المعنى عندي يختلف عن المعنى عندك ولو بدرجة قليلة، لأن خبراتي تختلف عن خبراتك ودلالات الكلمات عندي ليست كما عندك، وبالمناسبة لا يخلق الفرد اللُغة، بل تخلقه اللُغة، فاللُغة العربية موجودة دون خليل، لكن خليل لا يمكنه أن يكون موجوداً إلا باللُغة ولغته الأم بالتحديد، مهما تعلم من لغات أخرى فإنه سيبقى يفكر بلغته الأم، ويقسم بها، ويحلم بها، وسيبقى العربي يُرتب الأشياء من اليمين إلى اليسار، بينما يرتبها الإنجليزي من اليسار إلى اليمين حسب لغته.

ومهما تقدم فكرنا فإنه سيبقى حبيس التعبير باللُغة، لذلك نقرأ كتابات بعض الفلاسفة ولا نفهم المقصود منها، فلغتنا الأم أو اللُغة المستخدمة لا تُطاوعنا في فهم ما هو خارج حدود الكلمات المعهودة، وعلى ما يبدو فإنّ حدود لغتي ليست هي حدود عقلي لكن هُنَاك علاقة وطيدة بين لغتي وسُلُوكي كمتحدثها، إنّ اللُغة هي كوابح المصمم، ونحن بحاجة إلى اختراع كلمات للانطلاق أسرع في هذا العالم.

المغالطات والمفارقات

وزاوية أخرى نسلط الضوء فيها على انعكاسات اللُغة على التفكير وقولبة العقل في مفردات وحدود لغوية هي المغالطات والمفارقات، والمغالطات هي محاولة تبريرية عبر الاستدلال ولكن بطريقة غير صائبة، قد تبدو للوهلة الأولى صحيحة، إلا أنها على الأغلب خطأ في الاستدلال، وتحدث غالباً في النقاشات إذ يستند شخصٌ ما على موقف معين ويحاول الاستدلال بطريقة يعتقدها منطقية على حجته تبدو في ظاهرها صحيحة، لكنها تكون غير منطقية، وتتداخل المغالطات والمفارقات مع المنطق بشكل كبير.

على سبيل المثال، يؤمن المرء في مُغالَطة الاستناد على احتمالية الوقوع بأن حجته سليمة لأنه من الممكن أن تحدث، وفي مُغالَطة التفكيك يستند الشخص على أنه ما دام هُنَاك مسألة صحيحة بالنسبة للكل، فهي حتماً صحيحة بالنسبة للأجزاء الأخرى، وأيضاً من المغالطات الشائعة مُغالَطة الاستدلال الدائري، ففيها يستدل المتكلم بالدليل من استنتاجه، أو يستدل بالنتيجة من مقدمته، كأن يسأل القاضي المتهم: هل أذنبت؟ فيقول المتهم: أنا لم أذنب، واسأل صديقي فلان وأنا أضمن صدقه، أو تقول أنّ القرآن صحيح وهو من الله، فيسألك أحد: لماذا؟ فتجيب: لأن الله قال فيه “إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون”

أما المفارقة أو المعضلة فهي حجة أو بيان يبدو ظاهرياً جميل، إلا أنه يناقض نفسه أو يُؤَدِي إلى استنتاجات غير منطقية، وأشهر مثال على أبسط المفارقات هي مفارقة الكاذب، فإذا أتاك شخص وأخبرك قائلاً: أنا كاذب فأنت أمام خيارين، إن صدقته فهو يخبرك أنه يكذب، وإن كذبته فهو صدق حين أخبرك، ولا مجال لحل نهائي فيها لأن المُشكِلة فيها تعود إلى آلية عمل اللُغة مع العقل، والأوسع من مفارقة الكاذب قليلاً مفارقة كريت ثم مفارقة بينوكيو والمعروف في الرواية أنه كلما كذب بينوكيو نما أنفه، والمفارقة تظهر حينما يقول بينوكيو أنفي ينمو الآن، ثم مفارقة التمساح أعلى بدرجة إذ تفترض أنّ تمساحاً سرق طفلاً من أبيه ثم وعد الأب أن يرجع طفله إليه إذا تنبأ بشكل صحيح إذا ما كان التمساح سيعيد الطفل للأب أم لا.

ويكون أمامنا أربع خيارات وهي:

جدول1 مفارقة التمساح

إذا قرر التمساح أن

يبقي

الطفل،

والأب تنبأ أن التمساح سوف

يبقي

الطفل،

فالناتج سيكون

مفارقة

يعيد

الطفل سيبقى

يعيد

يعيد

الطفل سيعود

يبقي

مفارقة

يبدو الحل منطقياً إذا تنبأ الأب بأن يعيد التمساح الطفل، لكن المعضلة تظهر إذا تنبأ الأب ألا يعيد التمساح الطفل.

وفي مفارقة الاستثناء، نجد أن جملة لكل قاعدة استثناء، تُوقعنا أيضاً في معضلة، فحتى هذه القاعدة حسب الجملة يجب أن يكون لها استثناء وهو عدم استثناء القاعدة هذه، وصورة أخرى في المعضلة نفسها مثل: إذا كان كل شيء ممكن، فمن الممكن أن هناك شيء غير ممكن، وهو ممكن حسب القاعدة! وكذلك جملة: هناك قاعدة واحدة وهي عدم وجود أي قاعدة، وهذه المفارقات تذكرنا بأسئلة، من خلق الخالق، ومن يسبق الأول، وهل يستطيع الخالق أن يخلق شيء لا يمكنه التحكم به وغيرها.

لهذه المغالطات دورٌ في تشكيل جزء من المفاهيم التي قد تعزز الطاقة الخاصة بك للتفكير، وذلك عبر رؤيتك بوضوح للعيوب في حججك وفي حجج الآخرين، وقد بتنا نعرف أنّ اللُغة هي أداة للتفكير، فنحن نتكلم بها مع أنفسنا ونرد عليها، ونعرف كيف نفكر وكيف نحاور وأين العيوب والنواقص فينا، وحينما نتعرف على بعض أنواع الحجج السيئة، نكون قد تدربنا بشكل أفضل في تحليل حجج الآخرين، ونستطيع أن ننظم أفكارنا ونرتبها وننسقها حتى لا نقع في هذه المغالطات، بل ولربما نتصيدها عندما يستخدمها غيرنا، إنه مستوىً عالٍ من التفكير والذكاء، والمغالطات هي ما أوصلتنا إليها، ومن هذا يتضح أنّ المغالطات هي إحدى أمراض اللُغة لذا هي نافذة مهمة تطل على الحقيقة.

العلم

ما دام الفلاسفة يرون أنّ هُنَاك صانع أعلى لهذا الإنسان (خالق) وأنّ الغائية أمرٌ حتميٌ في هذا الكون، فهذا يعني أنّ خلق الإنسان له غاية وليس اعتباطي، ويجب أن يكون هذا الخالق قد منحه كل ما يلزم ليكون على قدر المسؤولية، زوده بهذا العقل، وأخبره أنه المفتاح لكل الأبواب المؤصدة في حياته، وكل ما عليه فعله هو تشغيله واستنباط العلوم وفهمها، وستخضع كل مكونات الكون مستسلمة أمام قوة عقله وهذا ما نراه حاصل.

وعلى الرغم من أنّ معرفة الغيب أمرٌ خاصٌ بهذا الخالق، إلا أنه زودنا بالأدوات اللازمة لكي نحاول تَوقُع ومعرفة جزء من هذه المعرفة الخاصة، عبر العلم والعقل يعرف الإنسان المستقبل وكذلك الماضي، يتوقع صيرورة الأحداث ويعلم ما سيكون، وكيف سيكون، ولو تغير مُتغير، كيف كان سيكون.

بالعلم عرف الإنسان منازل القمر، وقدّر لمئات السنين الشهور القمرية، وتنبأ كيف سيكون المناخ لأشهر وسنين قادمة، وعلم متى سيحصد، وكمية ما سيحصده، وتوقع سير الأحداث في المستقبل، وتنبأ بموعد بشفاء غيره، بالعلم عرف الإنسان متى سينكمش هذا الكون وينتهي، ويقدّر متى ينزل المطر ولربما تحكم في إنزاله، وعلم ما في الأرحام وغيّر فيها، وبالعلم قدّر أرباحه ومكاسبه، ويُقدّر لكثير من الحالات المرضية مقدار للسنوات التي سيعيشها بناءً على الحقائق الموجودة.

وفي ظل التطور العلمي في موضوع الجينيوم البشري، فإن العلم سيتمكن في سنوات ليست بالكثيرة من معرفة متى ستموت هذه النطفة، ثمة جزء في جينات الإنسان يبين كيف ستمرض، ومتى ستمرض وكيف سيتأقلم جسدك، ومتى ستفشل أجهزتك ومتى ستموت.

وبالبوصلة عبرت أوروبا البحار وغزت العالم، وبالبارود بنت البنادق وامتلكوا القوة على سائر الجيوش، وبالمطابع انتشر العلم فيها كالنار في الهشيم، ثم انتهى مشروع النهضة في أوروبا بشطر الذرة والمشي على القمر وعملية القلب المفتوح.

مكثت البشرية 10 آلاف عام دون تطور إلى أن وصلت العجلة.

  1. ثم بعد 3500 عام تم صناعة المسمار وكان قفزة كبيرة في تقدم البشرية،
  2. ثم بعد 1500 عام تم صناعة الطباعة،
  3. ثم بعد 300 عام تم صناعة المحرك البخاري،
  4. ثم بعد 100 عام الكهرباء،
  5. ثم بعد 50 عام الحاسوب والتطور الحيوي،
  6. ثم بعد 30 عام الإنترنت،
  7. ثم بعد 15 عام الذكاء الاصطناعي،

أما الآن نحن نقفز قفزات خرافية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وعمر البشرية يختزل في سنوات قليلة، فبدلاً من قفز مئات السنين، بتنا نقفز في عشرات الشهور.

فهل بعد أن يرى الإنسان برهان مصممه وهو العلم، يعود وينتكس ويبحث عن مقومات أخرى غير المبنية على هذه الهبة، غير المبنية على العقل، هل سيبحث عن الخزعبلات والأساطير مجدداً! شخص امتلك العلم فرأى أنّ مفتاح هذا الباب هو مفتاح رقم 21، هل تراه يذهب ويستخدم مفتاح رقم 17؟ كلا، فقد عرف وتيقن، فهل سينقض غزله من بعد قوة أنكاثاً؟

على الرغم من هذا، إلا أنه هُنَاك علوم كثيرة لا ترتبط بالبحث التجريبي، فعلوم مثل الفن والجمال، الإحساس والاستمتاع بالموسيقى، السجع والشعر والنثر، بل وحتى الفلسفة وموضوعاتها المُختلفة، هي علوم لا علاقة لها عند البشر بالعلم والاكتشافات والاختراعات والنظريات الفيزيائية والمعادلات الرياضية، بل ترجع إلى ذوق كل إنسان وثقافته وحياته ومفاهيمه، يخبرنا العلم أنّ هذه اللوحة تحتوي على صورة فتاة من البرازيل على ما يبدو، لكنه لا يستطيع إخبارنا ما سر جمال اللوحة عندي أو عندك.


قد يستطيع الإنسان بناء برنامج يشعر مثل البشر، ويُميز الموسيقى، بل ويمتلك خلفيات ثقافية وعمر مثل الإنسان ليمر بالمراحل التي جعلت لهذا المقطع من الشعر معنى، لكن هذا لا يفسر طبيعة النفس البشرية التي لا تحكمها قواعد، فما هو جميلٌ الآن قد يكون قبيحاً غداً، وما هو قبيحٌ لك قد يكون جميلاً لي، وما هو جميل لي وحدي قد يكون قبيحاً لنا نحن الاثنين ونحن نجلس سوياً، وما هو جميل في الصباح قبيحٌ في الظهيرة وعاديٌّ في المساء وهكذا، إنّ هذا مرتبط بالطبيعة البشرية المُشتركة بين المادة والروح، ولكن، هل يمكن الاعتماد على العلم وحده في هذا العالم؟ هل العلم يكفي البشرية؟ بل هل العلم قبل هذا ثابت؟ دعونا نرى.

العلم والتجربة

كما ذكرنا فإنّ للاستدلال في المنطق طريقتين أساسيتين، الأولى هي القياس (الاستنباط)، والثانية هي الاستقراء وضربنا مثال السيارات ذات الأربع عجلات، وفي الاستقراء نحكم على شيءٍ كلي بناءً على وجوده في كل الجزئيات التابعة له، وكان هُنَاك الاستقراء الكلي والناقص، فالاستقراء الكلي في العلم يتم حينما نحكم على كل الجزئيات التابعة لأمر ما، فمثلاً جملة “جميع أفراد عائلة سليم يمتلكون نصف مليون دولار على الأقل”، يمكننا التحقق من أمرها بسهولة، وذلك عبر جلب جميع أبناء عائلة سليم وفحص أرصدتهم، ولو كان الرقم صحيحاً فإننا سنستقرئ أنّ القضية صحيحة، والقضية هي كل جملة خبرية تحتمل الصواب أو الخطأ نريد التحقق منها.

رسم توضيحي 64 النظرة السيئة للعلم التجريبي.

ولكن، ماذا لو لم نتمكن من حصر كل الجزئيات في أمرٍ كلي؟ كما في موضوع كل أهل السعودية مُسلمين، فنحن لم نفحص كل أهل السعودية فرداً فرداً بل رأينا مجموعة أو عيّنة (جزء من كل) وكانوا كلهم مُسلمين فأطلقنا حكمنا، وهذا ما نسميه استقراءً ناقصاً إذ نقوم بإصدار حكماً كلياً بعد أن نتتبع بعض الجزئيات وليس كلها، من المنطق أنّ القياس يفيد القطع إذا كانت القضايا المستخدمة فيه صحيحة، لكن هل يفيد الاستقراء القطع؟

كما رأينا أنّ الاستقراء التام بمقام القياس إذا كان الفحص والتحقق صحيحاً وهو حتماً يفيد القطع، أما الاستقراء الناقص فيفيد الظن عند علماء المنطق؛ وفيه استقرأنا بعض الجزئيات وليس جميعها، وبذلك حكمنا على بقية الجزئيات التي لم نرها من باب الظن [148]، وفي مثال السعودية حكمنا على الملايين بسبب مشاهدتنا 1000 شخص مُسلم فقط، لكن ألا يوجد شخص سعودي غير مُسلم؟ شخص غيّر دينه أو يحمل الجنسية وأمه غير مُسلمة مثلاً واعتنق دينها! حتماً هُنَاك شخص غير مُسلم، أو أنك دخلت عشرة مطاعم في مدينتك ووجدت أنّ ثمن فرشوحة الشاورما خمس جنيهات، فحكمت أنّ سعر فرشوحة الشاورما في كل المطاعم في مدينتك هي خمس جنيهات، ولكن ماذا عن المطاعم المتبقية؟ ماذا لو كان هُنَاك مطعماً على الأقل يبيعها بأربعة جنيهات؟! هذا ممكن لأنك لم تزر كل المطاعم وأطلقت حكماً كلياً عبر جزئيات منه.

هذا يقودنا إلى الفكرة المنطقية التي تقول أنّ عملية الاستقراء مُستحيلة في القضايا الكبرى، فلو قلنا أنّ تناول الفواكه والخضروات مُفيد لصحة الإنسان بشكل عام، وأنّ هذا تم بناء على تجارب ودراسات سريرية طويلة، إلا أنّ هذا الاستنتاج غير كافٍ، فكم عدد الأشخاص الذين تمت عليهم التجربة لنطلق هذا الحكم؟ 100، 10000، مليون؟ ماذا عن باقي البشر، ألا يمكن أن يكون أحد عكس ذلك دون سببٍ آخر؟ ولو قمنا بإجراء الدراسة على كل البشر الآن (8 مليار شخص)، ماذا عن البشر القادمون مستقبلاً وغيرها من الاحتمالات المُختلفة، حينها نعلم أنّ الاستقراء عملية غير ممكنة بهذا الشكل.

ماذا لو رأيت في مدينتي أنّ كل القطط صفراء اللون، وبحثت في كل أطراف المدينة وما تركت قطة إلا ووجدتها صفراء، هل هذا ينفي إمكانية وجود قطط رمادية أو مرقطة؟ هذه مُشكِلة أخرى فالاستقراء التام يعبر عما رأيناه ولا يعبر عن الحقيقة المطلقة، الاستقراء التام يعبر عن فحصنا لكل القطط في مدينتي فقط، لكن لا يعني أنّ الدلالة قطعية بالمطلق، وهذا استنباط يعتمد على التخمين والتوقع والاعتقاد.

صحيح أنّ علم المنطق يعتمد على الاستنباط (الاستنتاج أو القياس) دون الاستقراء، ولا يعيب العلم حالياً أنه استقرائيٌ ناقص، لكن هذا يجعله في موضع ربع إله، ليس نصف إله بل ربع إله، لا يجب تقديسه بالمطلق، لا شيء حتميٌ فيه أو نهائي، كل شيء قابل للفحص والتغيير، وهذا ما سيتضح أكثر.

مُشكِلة العلم التجريبي

حسب المنهج العلمي فإن خطوات البناء العلمي التجريبي تبدأ بملاحظة ظاهرة ما، ثم تُطرح الفرضية لتفسير الظاهرة، ثم نقوم بإثبات الفرضية بأدلة كاملة وافية، ونعيد الإثبات مراراً وتكراراً حتى نضمن تحقق التفسير كما في علم الوراثة على سبيل المثال، وإذا خالفت الأدلة الفرضية أو ثبت خطؤها في أي عينة من عينات البحث، فإن الفرضية تكون خاطئة ولا داعي للتشبث بها، وخطأ واحد في العلم التجريبي كافٍ جداً لاعتبار الفرضية خاطئة.

ورغم أنّ هذا الطرح منطقي، إلا أنه لا يحدث دائماً، فلا تقود المعطيات دائماً إلى النظرية، في أحيان كثيرة قادت النظرية إلى المعطيات، وهذا ما يؤكده الفيلسوف كارل بوبر، فهو يرى أنّ النظرية في الغالب هي من تقود إلى المعطيات، فالعُلماء يستنبطون النظرية ثم تبدأ رحلة البحث للتحقق من صحتها بالتجربة.

إنّ الصورة النمطية للنظريات العلمية هي الصورة التي رسمها العالم فرانسيس بايكون حينما اعتقد بأن العلوم بشكلها المنطقي من غير الممكن لها أن تؤدي إلى صنع الخمر، فنحن نقوم بجمع العنب أولاً (المعطيات) ثم نقوم بعصره لصنع الخمر (النظرية)، وهذا أمر يبدو سليماً إلا أنه غير منطقي، فكيف استنتج العُلماء أنّ الخمر يُصنع من العنب؟ على الأغلب أنهم رأوا خمراً من العنب في البداية (النظرية) فقاموا بإجراء التجارب على العنب (المعطيات) إلى أن نجحت التجربة وتأكدوا من نظريتهم، السبب يعود إلى أنّ الملاحظات انتقائية دائماً، فنحن نختار شيئاً ما من حالة التخبط الحسي، وفي الأغلب أنّ الملاحظات منتشرة في كل مكان حولنا، لكن لا معنى لها على الإطلاق إن لم نعرف خلفية النظرية التي نعتمد عليها في تفسير هذه الملاحظات [158].

انظر حولك، آلاف الظواهر تحدث، من شروق الشمس إلى هبوب الرياح إلى انكسار الزجاج إلى ذهابك للتبول وشعورك بالتعب بعد الرياضة، جميعها تشكل مخزناً ضخماً من المشاهدات التي لا معنى لها دون النظرية العلمية التي إن أقبلت، بدأنا نبحث في هذه الظواهر حتى نتأكد من صحتها، يرى بيار دوهيم أنّ هذا ما حدث مع نيوتن وأتته النظرية أولاً، وكان من المُستحيل أن تأتيه المعطيات أولاً [158]، بل وإنّ عملية جمع المعلومات في أي تجربة تكون متحيزة للنظرية في الأغلب.

وكما هو شائع فإن الاستقراء العلمي من المفترض أن يتم على مراحل ثلاث وهي:

  1. عملية البحث والملاحظة: وفيها يتتبع الباحث كل ما يتعلق بالظاهرة التي يريد دراستها.
  2. عملية طرح الفروض: وفيها يقدم الباحث مقترحات تفسيرية للظاهرة التي درسها.
  3. مرحلة التحقق: وفيها يختبر الباحث الفروض التي وضعها لتفسير الظاهرة ويتأكد من أنّ الفرضية صحيحة.

من المؤكد أنّ كثير من العُلماء قد شاهدوا فطر البنسيليوم نوتاتيوم الذي ينمو على البكتيريا، أو شاهدوا أنواعاً كثيرةً من الفطريات أو المواد التي تنمو على البكتيريا وتحيط بها، علماء على الأغلب أعظم من فيلمنغ، ولكن فكرة أن تأتيهم النظرية التي راودت فيلمنغ في كون هذه المادة تقتل البكتيريا ولا تقتل البشر وإبداء التجارب عليها كانت خاصة بفيلمنغ، لأن النظرية أتته وحده، المشاهدات والمعطيات كانت عند الجميع، لكن فيلمنغ وحده من رأى النظرية.

قد يكون العلم يبدأ بالمعطيات ثم نظرية ثم معطيات، أو تكون نظرية ثم معطيات ثم نظرية أخرى، وقد تكون معطيات ثم نظرية ثم نظرية وهكذا، لكن الصورة المثلى تبدأ في فكرة نظرية ثم نبحث عن معطيات متحيزة لنثبت نظريتنا، وهذا للأسف ما حصل لاحقاً مع أشهر النظريات الحيوية في زماننا هذا ألا وهي نظرية التطور.

في عالم الحاسوب وفي بناء الأنظمة الخبيرة هُنَاك شيء مشابه لهذا الواقع، فهُنَاك نوعان أساسيان من الأنظمة الخبيرة، وهما نوع يعتمد على:

  1. التفكير من الأمام forward chaining: إذ تكون أمامنا المعطيات كاملة ونبدأ بالبحث عن النتيجة، مثل أعراض مرضية كثيرة ظهرت على المريض، نبدأ بمقارنتها مع أعراض الأمراض الأخرى ومن ثم نقول أنّ المريض مصاب بالمرض كذا.
  2. التفكير من الخلف backward chaining: إذ تكون أمامنا النتيجة أو الهدف ونريد التحقق منها بالبحث عن المعطيات، لدينا مريض، ونريد التأكد من أنّ المريض مُصابٌ بهذا المرض أو لا، فنقوم بإجراء فحص لهذا المرض فقط لنتأكد من الفرضية أو للوصول للهدف، مثلاً بيئة موبوءة ومرض مُتفشٍ ونتأكد من إصابة هذا الشخص به أو لا.

السبب في سهولة التفكير من الوراء أو للخلف في عملية التأكد من ظاهرة هو أنّ البحث في كل المعطيات وفحصها أمرٌ مُتعب أو مكلفٌ أو غير ممكن، وتكون غالباً الأسئلة معروفة في هذه التجربة، هل لديك كذا، هل ظهر عليك كذا، هل شعرت بكذا، ومن خلال هذه الأسئلة المُحددة مسبقاً نحدد صحة الفرضية، أما لو كانت لدينا كل الحقائق ظاهرة وجلية فقد يكون التفكر الأمامي هو الحل الأنسب ولكن هذه الحالة تظهر بدرجة أقل في البحث العلمي، وتكون الأسئلة عشوائية وغير منتظمة وكثيرة.

اكتشف العُلماء الليزر بالصدفة أثناء قيامهم بتجارب فيزيائية ، وأسموه حلاً بلا مُشكِلة، فلم يعرفوا فيمَ يستخدمونه، بعكس أديسون حينما اكتشف المصباح، كانت النظرية لديه جاهزة، وكان عليه فقط إجراء التجارب للوصول إلى المعطيات إلى أن وجد التنجستين، لذلك نجح، كانت لديه الفرضية وبدأ من الخلف وصولاً للمعطيات، وهُنَاك نماذج كثيرة لتجارب تمت في اتجاه معين، فظهرت اكتشافات وتقنيات في اتجاه غير متوقع كما حدث في اكتشاف البلاستيك، ما أريد إيصاله هو أنّ العلم لا يسير بالصورة المثالية التي نتوقعها، وعلى الأغلب هو متحيزٌ دائماً للنظرية وليس العكس.

وقد وضع الفيلسوف الإنجليزي جون ستيورات ميل عدة آليات يمكننا من خلالها أن نختبر صحة الفرض الذي افترضناه لتفسير الظاهرة، ومن تلك الآليات:

طريقة الاتفاق

رسم توضيحي 65 التفكير الاستنباطي والتفكير الاستقرائي هو مشابه للبحث عن المعرفة من الأمام كما في الصورة العلوية، والبحث عن المعرفة من الخلف، كما في الصورة السفلية.

وفيها تتفق جميع الحالات المدروسة في سبب واحد هو الفرض الصحيح، فمثلاً أراد طبيب مختص أن يحدد بؤرة انتشار مرض ما، فقام بإحضار عشرة من المرضى وبدأ بسؤال المريض الأول أين كنت؟ فقال له كنت في مدينة 1 و2 و3 و4، والمريض الثاني كان قد زار المدن 1 و3 و4 و5 بينما زار المريض الثالث المدن 1 و2 و5 و7، والمريض الرابع زار المدن 1 و6 و8، والجامع المُشترك بين كل هذه الأسباب على ما هو ظاهر هو المكان رقم 1، لذلك سنستبعد كل الأماكن ونتأكد من فرضيتنا في أنّ المكان 1 هو المكان الموبوء، وهي مشابهة لحالة التفكير من الأمام، إذ نملك المعطيات ونستخرج منها النتيجة.

طريقة الاختلاف

وهي عكس طريقة الاتفاق، وهنا لا ننظر إلى العامل المُشترك، بل نسلط الضوء على العنصر المُختلف بين الحالات، فلو زار الشخص الأول مدينة 1 و2 و3، وزار الشخص الثاني المدن 1و2، وكان الشخص الأول مريض والثاني غير مريض، فنحن نضع النظرية بأن المكان الثاني هو الموبوء ونبدأ في النزول إلى الأسفل في كل المناطق للتأكد، وهي مشابهة لحالة التفكير من الخلف، فنحن قد عرفنا النتيجة ونبدأ بالتحقق منها.

ولنُسقِط هذه الطرق وغيرها على ظاهرة مشهورة مثل وجود بعض الكائنات المتشابهة تشريحياً وجينياً، وتعتمد الفرضية التي وضعها العُلماء لتفسير هذه الظاهرة على أنها أتت من أسلاف مُشتركة لها الخصائص نفسها عن طريق مراحل انتقالية عبر تغيرات بسيطة تدريجية، ولاحظ هنا الحديث عن استنباط أو التفكير من الخلف، أي البحث عن معطيات لتأكيد الفرضية، وأصبحنا نعرف أنّ هذا سُلُوك علمي متحيز في اختيار الحقائق، لأنه سينتقى فقط ما يحقق هدفه، وكما رأينا في الفصل الثاني لا يوجد دليل واضح على هذا الأمر، لا في الحلقات الوسيطة ولا في السجل الأحفوري، بل ورأينا في الكثير من الظواهر عكس ما أراده العُلماء، على سبيل المثال ما ظهر في حالات التشريح والتشابه بين الجرابيات والمشيميات مثلاً التي تتماثل تشريحياً ولا يوجد لديها سلف مُشترك، وهذا التجاهل ناتج عن آلية البحث وهي التنقيب عن ظواهر تُثبِت النظرية، وليس البحث في كل المعطيات لاستنتاج نظرية، ولهذا يجب التأني في اعتبار العلم كاملاً أو مصدراً للمُسلمات.

ورغم جمال العمل بهذا المنهج التجريبي، إلا أنه لا يتوفر دليل على أنه المنهج الصحيح، فهل المنهج التجريبي يستوفي شروط المنهج التجريبي؟ وكيف نستدل على صحة تجربة المنهج التجريبي نفسه؟ هل سيكون عبر المزيد من التجارب؟ ولكننا بحاجة إلى نهاية للسلسلة كما تعودنا، ورفض فرضية ما بحجة أنه لا دليل تجريبي عليها سيُؤَدِي إلى رفض المنهج التجريبي لأن المنهج التجريبي بحد ذاته مُجرَّد فكرة فلسفية وليست تجريبية، وميّل يا غزيّل، ويا غزيّل ميّل.

لا يزال هُنَاك مُشكِلة لم يستطع العلم التجريبي حلها، وهي مشكلة الغاية، ويوضح عالم الرياضيات جون لينكس مُشكِلة العلم الأساسية في مثال الكعكة، فهو يفترض أنّ شخصاً قد طرق عليك الباب وأعطاك كعكة من عمتك، لكنه لم يخبرك بالسبب أو الغاية التي تم من أجلها صنع الكعكة إليك، وقد كنت رجل علم تجريبي، فقمت بإعطاء الكعكة لمجموعة من العُلماء طالباً منهم أن يبحثوا فيها عن السبب أو الغاية التي تم من أجلها صنع هذه الكعكة، وقد بدأ العُلماء عملية البحث في أبعاد الكعكة وشكلها الفراغي، ثم درسوا مكوناتها الكيميائية، ثم درسوا ترابط جزيئاتها فيزيائياً وغيرها من التجارب العلمية المُختلفة.

وبقليل من المنطق نعلم أنّ هؤلاء العُلماء بأدواتهم التجريبية سيتوصلون إلى معرفة إذا ما كانت الكعكة حلوة زيادة أم لا، هل تحتوي على الجلوتين أم السكرين أم الزرنيخ، أو إن كانت هذه الكعكة قد صنعت اليوم أم بالأمس، وغيرها من الصور التجريبية، لكنهم لن يصلوا بالمطلق إلى معرفة الغاية من هذه الكعكة، لأن غاية هذه الكعكة لا تخضع لأدوات العلم التجريبي، وللحصول على الإجابة عليك سؤال عمتك عن السبب، بالطبع ستخبرني أنك ستتقصى عن العمة وتحاول مخابراتياً معرفة السبب، وحينها سأخبرك أنّ ذكاءك لم يسعفك هذه المرة عزيزي المحقق كونان.

هناك فرق بين أن نحدد أنّ إنساناً مات مختنقاً عبر تحليل سبب وفاته تجريبياً، وبين أن نحدد سبباً وغاية من موته فنقول لقد مات بسبب تنفيذ عقوبة الإعدام على جريمته، والتي هي العلة السببية أو الغائية.

لا يستطيع العلم التجريبي تحديد ماهية الأشياء، ولا يهتم لها كما نرى في كثير من التجارب، لماذا أنتج العنب خمراً، ولماذا وُجد فطر النوتاتوم الذي نصنع منه البنسلين، بل يهتم كيف نصنع البنسلين، وكيف نصنع الخمر، وإذا أردنا صنع نهضة علمية في صناعة السيارات وذهبنا إلى أكثر أجزاء السيارة تعقيداً وهو المحرك وقمنا بتفكيكه لنفهم آلية عمله، فإننا عبر العلم التجريبي يمكننا رسمه وتفكيكه ومنح كل جزء فيه رقماً مُحدداً وغيرها من العمليات إلى أن نفهم كل قطعة في المحرك ونتمكن من صنع مثله ومن ثم تطويره، فهل سيصل العُلماء إلى فهم أي إشارة عن صانع هذا المحرك، هل تشمل أي دراسة لشخصية وذات من (صممه)، هل نفهم حقيقة لماذا صممه؟ قد نفهم أنه يملك قوة دافعة ولكن لماذا هذه القوة الدافعة، ماذا يريد المصمم الأساسي من هذه القوة وبهذا الشكل تحديداً، نعلم أنها قد تدفع عجلة، ولكن لماذا تدفعها، وأين ستدفعها، والسبب النهائي من عملية دفعها، وغيرها من الأسئلة تبقى بلا إجابة عبر تحليل المحرك.

النظريات العلمية

لكي تتضح مُشكِلة العلم الحالية، يجب أن نعود إلى قوانين نيوتن حول الجاذبية، فقوانين نيوتن في الفيزياء الكلاسيكية استمرت لأكثر من 300 سنة حجر الأساس في العلوم، وبُنِيَ بواسطتها الجسور والمباني والطائرات بل وصعد الإنسان بها إلى القمر، وفهمنا بها لماذا يدور القمر في مداره، ولماذا تدور الأرض حول الشمس، وغيرها من ركائز الحضارة والتقدم العلمي الحالي، لكن حينما ظهر أينشتاين أثبت أنها غير صحيحة، وما حدث معنا مع قوانين نيوتن هو أننا رأينا العالم بها ونجحت معنا في تفسير الظواهر، لكن حينما واجهنا مُشكِلة أكبر وفشلت القوانين، لجأنا إلى البحث عن الحلول، فقدمها أينشتاين.

رسم توضيحي 66 قوة النظريات العلمية.

دائماً ما نعتقد أننا نرى الصورة كاملة، والحقيقة أننا لا نرى إلا جزءاً صغيراً من الصورة، وكلما تقدم الإنسان، كبرت الصورة أمامه، وبحث عن إكمال رؤيتها، لكنه لن يرى الصورة الكاملة أبداً، وكما رأينا حتى قوانين النسبية ما زالت تتعارض مع قوانين الكم، ونحن بحاجة إلى رؤية أوسع للصورة الحالية للخروج بقوانين مناسبة، بل وقد تتداخل الأيديولوجيات في العلم، فقبل هابل ونظرية توسع الكون، قال العالم جورج لومتر بهذا الأمر رياضياً، إلّا أنّ نظريته قُوبلت بالرفض بسبب معتقداته الدينية السابقة!

إنّ النظريات العلمية ليست وحياً مقدساً، فهي دائماً ما تخضع للفحص والتمحيص وإذا تبين خطؤها فسيتم تجاوزها، ولا توجد فرضية علمية لا تقبل التشكيك، ويرى الفيلسوف كارل بوبر أنّ على العُلماء دائماً اقتراح طرق واستحداث تجارب لكي يكذبوا نظرياتهم فيما يعرف بنظرية التكذيب، فهو يرى أنّ النظريات العملية لا بد أن تكون دائماً مؤقتة، أيضاً لا يكفي النظرية شهرتها ومدى انتشارها حتى تصبح ذات حصانة؛ فكثير من النظريات قد نالت شهرة عالمية واسعة وبعضها استمر لقرون لكن هذا لم يمنع من سقوطها وإثبات عدم صحتها بعد ذلك، كما أنّ بعض الفرضيات على الرغم من مخالفتها لكثير من الشواهد وإثبات خطأ كثير من ادعاءاتها، قد تستمد أسباب استمرارها من عوامل غير علمية كعوامل سياسية أو دينية وثقافية معينة، وقد مر على البشرية نظريات كثيرة انقرضت، ذكرنا بعضها ومن هذه النظريات، نظرية مركزية الأرض للكون التي بقيت لآلاف السنين، الأرض المُسطحة ودوران الشمس حولها، نظرية التوالد التلقائي، التي ربما استمرت لآلاف السنين أيضاً، نظرية الأثير في الضوء التي بنيت عليها الفيزياء الحديثة، قوانين نيوتن التي وصلنا بها القمر وهي غير دقيقة، نظرية الكون الثابت (استبدلناها بنظرية الانفجار العظيم) التي آمن بها حتى فلاسفة الإغريق وحتى هذه اللحظة يحاول العلماء إثبات صحتها، والتي يتعارض فيها خروج شيء من لا شيء من دون إبداء أي أسباب مع المنهج العلمي ومع المنطق والتفكير العقلي، لكن هُنَاك اعتبارات غير علمية.

وغيرها المئات إن لم يكن آلاف النظريات التي اندثرت مع العلم، في كل الأحوال إنّ طبيعة العلم تراكمية، فقد انتقل الإنسان من مستوى علمي إلى مستوى آخر عبر تراكم النظريات إمّا عبر المصادفة أو الملاحظة والاستكشاف أو الصراع والذي يكمن في فكرة أنّ الحاجة أُم الاختراع، ورأينا هذا بشدة في الحروب العالمية فقد اضطرت العلوم أن تُدفع مجبرة وتقفز قفزات هائلة في الطب والهندسة والطيران والتسليح والتجييش والمصانع والعديد من الاختراعات المُفيدة كالأغذية المحفوظة، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لما رأينا هذا التقدم الهائل.

تحسين النسل

للعلم صفحات سوداء لا يمكن تجاوزها إلا وذرف الدموع بكل ما نملك من مشاعر إنسانية، هذه الصفحات تُبين أنّ العلم المُجرَّد دون أخلاق أو مبادئ هو علمٌ يعمل ضد البشرية، ولا معنى للعلوم إن لم يكن هدفها فائدة الإنسان وتحسين حياته، وليس إنساناً بعينه، بل كل إنسان مهما كان، والظاهر أنّ العلم لا يرى البشر سواسية، وكل باب منه يصنف البشر تصنيفات تتناسب مع هواه، تحسين النسل أو اليوجينيا Eugenics إحدى هذه الصفحات السوداء التي يجب أن نذكّر أنفسنا بها دائماً، حتى لا نرفع سوط الأخلاق عن العلم ونَخُطُّ المزيد من الصفحات السوداء.

كان داروين يرى أنّ التخلّص من السود وسكان أستراليا الأصليين وأهل الأسكيمو على يد أصحاب العرق الأرقى يُشكِلُ قيمةً أخلاقيةً تحافظ على جودة الأعراق وتدفع البشرية للأمام عبر تسريع عملية التطور، وقد سلم العُلماء المُؤمِنون بالتطور من بعده أنّ الأخلاق أيضاً تتطور بدورها عبر العرق السائد.

وقد أكد داروين على أنّ الأعراق الراقية من الإنسان لن تتابع خطواتها في الارتقاء إلا من خلال الصراع، وذلك عبر إبادة الأعراق المُنحطة التي كانت تشكل حلقة وسيطة من أسلافنا ولم تندثر بعد، فقد قال: “في فترة مستقبلية ليست بعيدة، ستقوم الأجناس المتحضرة من الإنسان بإبادة واستبدال الأجناس الهمجية عبر العالم”، لاحقاً، انطلقت أفكار داروين كالنار في الهشيم لتؤسس ما يعرف بالداروينية الاجتماعية والتي كانت تنادي بقوة إلى ضرورة إنزال قوانين الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح على علم الاجتماع والسياسة، ولا أعرف في التاريخ فكرة أسوأ من هذه الفكرة! قتل الناس واعتبارهم حيوانات لأن مجموعة من الأشخاص يعتبرون أنفسهم أفضل، فلا مانع أن تقوم الأجناس التي تعتبَر نفسها أكثر تطوراً دارونياً باصطياد باقي الناس في الطرقات وتسخيرهم لمنفعتهم تماماً كما نفعل نحن بالحيوانات، فما هذا الجنس الراقي إلا حيوانات أكثر تطوراً وعليها أن تمارس ما أعطته لهم الطبيعة، وإلا لو تطورت الأجناس الأخرى، فإنها ستذيقهم الكأس نفسه، وقد تُوجت هذه الفكرة لاحقاً بإنجاب النازية للعالم.

حسناً، لربما نعتقد أنها مُجرَّد أفكار وتم تطبيقها داخل إطار ضيق، إلا أنه وبكامل الأسى استند عليها العدميون كما وصفهم نيتشه وأمسى لديهم هدفاً جديداً في عدميتهم التي تخلو من أي معنى أخلاقي، وبدؤوا بإجراء إبادات جماعية وحملات تطهير عرقي ضد الأفارقة وسكان الأمريكيتين وأستراليا الأصليين، صحيح أنّ جزء من استعباد وقتل الأفارقة كان يتم قبل هذه الأفكار، إلا أنّ وجود مبررات أخلاقية للقيام بهذه الجرائم فتح الباب على مصراعيه، وعلى سبيل المثال لا الحصر أفاد جيمس برنارد أحد الشخصيات المسؤولة في أستراليا أثناء حملات إبادة سكان أستراليا الأصليين عام 1890م بأنه قد أصبح أمراً بديهياً أنّ الأعراق الأدنى من الجنس البشري يجب أن تفسح المجال للأنواع الأعلى، وذلك وفقاً لقانون التطور والبقاء للأصلح [159]، وقد اشتملت هذه الحملات على الكثير من الفعاليات مثل القتل والاغتصاب والتعذيب والتنكيل والنهب والسطو، بل وتعدت إلى سرقة الأطفال وإرسال أعداد كبيرة منهم إلى متاحف التاريخ الطبيعي في أمريكا وبريطانيا للبحث في إمكانية كونهم يشكلون الحلقة المفقودة في طريق تطور الحيوان إلى إنسان! وحينما استيقظت البشرية من جديد ورأت ماذا فعلت بأبنائها بدأت تحاول إصلاح هذه الجرائم بمحاولات الحزن والبكاء، منها يوم الحزن الوطني National Sorry Day الذي يُقيمه سكان أستراليا الحاليون تعبيراً عن أسفهم عما قاموا به ضد سكان أستراليا الأصليين، وفي عام 2008م اعتذر رئيس وزراء أستراليا كيفين رود بشكل رسمي للأجيال المسروقة، لما لهذه الصفحة من سواد في التاريخ الحديث يجب العمل على إزالتها دائماً.

وقد أنتجت لنا هذه الأفكار مبدأ اليوجينيا الذي حاول بطرق علمية تسريع تحسين النسل لدى البشر ودفعهم للتطور بشكل أسرع، وكله في إطار علمي لإزالة الأمراض الوراثية وغيرها من الصور المزعومة، وحصر عملية الإنجاب على الأشخاص ذوي الصفات الراقية والكاملة، وأما من لديهم أمراض أو أشكالهم لا تعجب من يرون أنفسهم الأكمل فيجب إجراء العقم القسري لهم.

تخيّل ما كان يجري في أمريكا في عشرينيات القرن الماضي، أي قبل أقل من 100 عام من كتابة هذه الصفحات، في تلك الحقبة الماضية وُضعت قوانين دستورية صارمة أنشأ جراءها المجتمع مكاتب تُدعى مكاتب التسجيل اليوجيني يتم فيها تسجيل الأسماء وتسلسل العائلات بناءً على أفضلية النسل، بل وأقام المجتمع أقساماً جامعية لدراسة علم التطهير، وقد أجرت بعض الولايات تعقيماً قسرياً لما يزيد عن 20 ألف حالة [160]، ويذكر أنّ ولاية كاليفورنيا قد عقمت أعداداً تزيد عن كل الولايات مجتمعة، وقد نتج عن هذا أعداداً مهولة لحالات تم تعقيمها دون توثيق رسمي [2].

الأمر أشبه بفيلم خيال علمي، فقد كانت هُنَاك مكاتب يتم تسجيل وتجميع المعيوبين خلقياً كما يراهم الأكفأ ويتم التخلص منهم أو خصيهم أو ما شابه، وكانت هذه المصحات تحتوي على تعذيب واغتصاب واعتداءات وتجارب متنوعة، ولم تنتهِ هذه الظاهرة إلا في خمسينات القرن العشرين في أمريكا، بل وفي السبعينات في بعض الدول كما ألبرتا في كندا! أي قبل جيل أو جيلين فقط، ويذكر أنّ ألمانيا وحدها قد أجرت 400 ألف حالة تعقيم رسمية أثناء نازيتها، ولا ننسى ملايين اليهود الذين أحرقتهم بلا رحمة، والذين قد خُدِعوا بدورهم وأُرسِلوا إلى فلسطين وقاموا بما هو أسوأ.

إنّ فكرة اليوجينيا لم تنتهِ وإن انتهت ظاهرياً بعد الحرب العالمية الثانية، وطالما استمر اعتبار الإنسان مُجرَّد حيوان ناطق، ستبقى اليوجينيا حبيسة فكرة تطويره وأفضلية النسل والسلالة النبيلة وغيرها، أوضح مركز التقارير التحقيقية في كاليفورنيا عام 2013م وجود حالات تعقيم لنساء بسجن المقاطعة دون موافقتهن، وأحياناً دون علمهن! وفي عام 2002م أظهرت التقارير الرسمية أنّ هُنَاك ما يزيد عن 200 ألف حالة رسمية جرى تعقيمها من السكان الأصليين بقرار رسمي من رئيس بيرو ألبرتو فوجيموري، لم تنتهِ اليوجينيا بالمطلق من العالم، ما زالت تُمارس بالملايين في الهند، والصين التي منعت رسمياً زواج ذوي الإعاقة الذهنية، والبوسنة والهرسك التي تم قتل الناس فيها بلا رحمة، آلاف الرجال والنساء قتلوا ونكلوا واغتصبوا، وهنا في فلسطين جرائم الصهيونية، وفي ألمانيا النازية الجديدة وغيرها، ويجب أن نؤكد أنه ليس فقط حياة السود مهمة Black Lives Matter، بل كل حياة مهمة All Lives Matter، ومن أعطاك الحق لتسلب حياتي مني أيها المغرور، هل أنت من وهبني إياها!

دعونا لا ننسى حدائق الإنسان Human zoos التي أقيمت وتم فيها استبدال الحيوانات بالبشر، بي وبك وبأمك وبابنك وبصديقك، تخيّل أنه لمُجرَّد أنّ وجهك لم يُعجِب أحد ما، فسيتم زجك في حديقة يزورها الناس ويلقون إليك الموز، ولا ينتابني إلا الضحك الهستيري جراء تصور أنّ هذا قد يحصل لي أو لأحد أعرفه، فهذا أمر خيالي لا أستطيع تصوره، ولا أتخيّل مدى سوء عقول الناس الذين تقبلوا هذا الأمر، سحقاً للعلم دون أخلاق.

أو أتخيل أنّ أحد الأثرياء قد جلب جرواً بشرياً أسود البشرة لابنه لكي يتسلى به ويطعمه ويلاعبه، أو لأنني إفريقية ولديّ المزيد من الدهون في منطقة الحوض -وهو اليوم معيار للجمال – يتم الزج بي في حدائق الإنسان عارية لكي ينظر الناس للإنسان الحيوان في مرحلة التطور، وقد أقيمت هذه الحدائق في كثير من الدول مثل بلجيكا وألمانيا وفرنسا واليابان، فمثلاً حديقة فرنسا -سيدة التحضر- كان فيها أناس من مدغشقر والسودان والكونغو والمغرب وتونس، فظائع كثيرة مرعبة لا يمكن لعقل إنساني أن يرغب في قراءة

المزيد عنها.

رسم توضيحي 67 صورة من حدائق البشر في بروكسيل،بلجيكا عام 1958م.

على الرغم من تكرار الاعتذار في كثير من الدول عن اليوجينيا، إلا أنه يبقى اعتذاراً ناقصاً، فأنت تعتذر عن استخدامك السيف ضد الناس، ولكنك لا تزال تسير شاهراً هذا السيف وتتفاخر به، ولا يمكن اعتبارك صادقاً إن لم تكسر هذا السيف للأبد، ما زال التطور يرى أنّ الناس ليسوا سواسية وأنهم حيوانات متطورة بدرجات، ويدعمون الأجناس السائدة والأرقى جينياً، وفي ذلك أقاموا الحرب العالمية بشراسة فيما بينهم ولا ينكر كثيرٌ من المؤرخين أنّ الدارونية بفكرها الحيواني والتمييزي كانت أحد أهم عوامل الصراع في الحربين العالميتين، ويمكن القول أنه على الأقل هناك 120 مليون إنسان قتلوا جراء هذه الأفكار، وهذا الرقم يتجاوز أضعاف أضعاف أضعاف ما آلت إليه كل حروب الأرض مجتمعة من قتل وتنكيل فقد قُتل: 

  1. 42.6 مليون في عهد (ماو تسي تونغ) الصين.
  2. 37.8 مليون إنسان في عهد (جوزيف ستالين) روسيا.
  3. 20 مليون في عهد (أدولف هتلر) ألمانيا.
  4. 10.2 مليون في عهد (شيانغ كاي شيك) الصين.
  5. مليون في عهد (هيديكي توجو) اليابان.
  6. مليون في عهد (فلاديمير لينين) روسيا.
  7. مليون في عهد (بول بوت) كمبوديا.

وغيرها من قائمة طويلة من الأرقام من الحروب والمآسي جراء الأفكار غير الدينية، كالقومية والأفضلية، ولا يمكن أن يكون هُنَاك من يؤمن بالتطور ويؤمن بالمساواة بين البشر، كيف سيكون هذا والتطور يُمايز بين الأجناس ويدّعي أنّ أحدها أرقى من الآخر، كيف ستقف في وجهي وتقول أنا أؤمن بالمساواة وأؤمن بالتطور على حد سواء؟ إما أنك خائنٌ لدارونيتك، أو أنك خائنٌ للإنسانية، ولا خيار آخر.

ولا يقف معيار الإنسان مهما كان حائلاً أمام الفلاسفة والعُلماء، هم لم يؤمنوا بقيمة مطلقة للإنسان وهم سبب كثير من المآسي، يقول نيتشه في أعلى كتبه، هكذا تكلم زرادشت: “تخلّص من الضمير ومن الشفقة والرحمة، تلك المشاعر التي تطغى على حياة الإنسان الباطنية، اقهر الضعفاء واصعد فوق جثثهم، لن نتمكن من بناء الإنسان الأعلى إلا إذا كفرنا بالأخلاق والعطف والرحمة” ولك أن تتخيل وقع كلمات نيتشه على عدمية أوروبا! على قارة بلا قوانين أخلاقية في ذاك الوقت، ونرى في هذا الزمان أنّ عيوب الإنسان هي سبب قوته وتميزه عن غيره، وكثير من المآسي الطبية والنفسية أنتجت إبداعاتٍ هائلة تخطت حاجز الدهشة البشرية، ألا توافقني عزيزي نيتشه[1]!

ويضيف الفيلسوف الألماني ألكسندر تيلا في كتابه من داروين لنيتشه: “إنه من الخطأ الشديد مُجرَّد محاولة منع الفقر أو مساعدة الضعفاء، إنّ مُجرَّد مساعدة هؤلاء خطأ جوهري في النظرية الداروينية، لأنه يتعارض مع الانتخاب الطبيعي”، وحتى في جانب رحمة المرضى من الموت يرى الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر أنّ فكرة تدخل الدولة في الحماية الصحية لمواطنيها وتزويدهم باللقاح تعارض أبسط بديهيات الانتخاب الطبيعي، وبذلك الدولة تساند الضعفاء وتحاول حماية المرضى والحرص على بقائهم”، ويقول كانط في سياق العنصرية والاستعلاء: “إن زنوج القارة الأفريقية بطبيعتهم لا يملكون إحساساً يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة”.

كثير من العلوم التي شيّدنا عليها أبراجاً جراء التفكير التطوري باتت على شفا جُرفٍ هارٍ، فعلوم النفس التي تدخل الناس السجون والمستشفيات وتحكم بعدم أهليتهم وتتعامل معهم بقسوة في أحيان كثيرة جراء اعتبار المريض حيوان غير متطور، كثير منها حازت على ملاحظات علمية هائلة، وهُنَاك الحركة العلمية ضد العلوم النفسية الحالية والتي تسمي نفسها بـ anti-psychiatry movement، التي أرسلت طبيباً سليماً كاختبار إلى أحد المصحات، وقد أكدت المصحة أنه مريضٌ نفسيٌ! وتكررت الحادثة هذه مرات عديدة، ومن ناحية تطورية فقد تكون الصدفة أعطتنا فكرة عشوائية مفادها أنّ اغتصاب الأطفال أمرٌ عاديٌ ولا مُشكِلة فيه، وقد تكون أعطتنا طفرة عشوائية تجعلنا نفكر أنّ قتل الأب والأم حين كبرهما أمراً أخلاقياً، بل وسمعت بأذني علماء كبار مشجعون للتطور يقولون أنّ الاغتصاب له مزايا تطورية، وقتل المواليد الجدد أمر مُفيد إذا كان لديهم إعاقة، وزنا المحارم أمر عادي ولا مُشكِلة فيه، وغيرها من الصور التي تهدم بناء البشرية طوال قرون.

أيها المنادون بأفضلية الأجناس! إنّ كل إنسان هو معركة كاملة بذاته، لديه حربه الخاصة التي يخوضها، كل إنسان قصة مجد كاملة، كل فرد منا مميز كما هو، ولا أفضلية لأحدنا على سائر البشر، أليس من النجاح في هذه الحياة أنك لم تُصَب بالجنون بعد؟ ألا يكفي لمُجرَّد هذا أن تُعتبَر ناجحاً؟ إنه أحد صور النجاح، أحد مستويات البشر الكافية ألا تعتقد نفسك أفضل، ونبقى أيها السادة بين منهجين، منهج يساوي الإنسان بالحيوان ويتعامل معه وفق هذا المنطلق، ومنهجٌ يساوي الإنسان بالإله ويتعامل معه من باب التمييز والتقدير والرفعة، أيُّ المنهجين أكثر فائدة للبشرية؟ أي المنهجين أنسب لها؟ حتماً ليس المنهج الذي يراك حيواناً ناطقاً.

الجمال

انظر لآلاف الأزهار المُختلفة، لا تجد زهرة فيها قبيحة كلها مصممة بطريقة جميلة تسر الناظرين، ولكن، هل الجمال يكمن في الزهرة؟ أم أنّ الجمال أمرٌ يراه الشخص نفسه وينبع من داخله؟ هذا السؤال وغيره يطرحه علم الجمال (الأستطيقا) وهو علم يبحث في الإدراك الحسي لفلسفة الجمال والتعبير عن الجمال وفلسفة الفن، وما هي الصفات المُشتركة بين الأشياء الجميلة، أو لعلها ليست جميلة، بل تُولّد فينا شعوراً بالجمال.

كان كانط يرى أنّ الخبرة الجمالية ليست مرتبطة بالنشاط النظري للعقل، وليست مرتبطة بالنشاط العلمي المتصل بالسُلُوك الأخلاقي، بل تنبع من الشعور باللذة الذي يستند إلى اللعب الحر بين الخيال والذهن، أما أفلاطون فيرى أنّ الجمال نابع من عالم المثل، وإنّ تحقق الجمال في الزهرة وفي غروب الشمس، فهي تبقى مُجرَّد محاكاة للجمال ذاته، ولا يرتقي لعالم المُثل، لكن فكرة المُثل هذه عند أفلاطون يمكن دحضها حينما نفكر بالجمال أكثر، فالجمال أمرٌ نسبيٌ يختلف من شخص إلى آخر، فحينما نستحضر صورة للشجرة المثالية أو المرأة المثالية، فإنها ستختلف كثيراً من شخص إلى آخر، ولو كنا نمتلك جهازاً يقيس ما في داخل العقل البشري من أفكار حول البيت الكامل، والشجرة الكاملة، والمرأة الكاملة، والرجل الكامل، وغيرها من الصور الكاملة لرأينا اختلافات عديدة بناءً على الثقافة، بناءً على الحس المعرفي والتجارب، فيرى رجل ما أنّ المرأة القصيرة الممتلئة هي الجمال بعينه، فهي لربما تذكره بعمته أو بخالته أو بزميلته التي كان يراها قمة الجمال، وشخص آخر يرى البيضاء الطويلة هي المثال، وشخص ثالث يرى السمراء النحيفة، شخص رابع يرى القمحية ذات الشعر الداكن وهكذا، فمن أين جاء كلٍّ منهم بصورة مثالية من عالم مثالي واحد! هذا يعني أنّ الصورة المثالية وليدة تجاربنا وليست موروثة من عالم آخر، صحيح أنّ أفلاطون يطلق مسمى الحراس على القلة القليلة التي تمتلك الذكاء والموهبة العالية لرؤية الصورة الخالصة الأصلية، وليس كل من امتلك عيناً ملك عقلاً، إلا أنها تبقى نظرة بعيدة عن الوحدوية أو الفردية، فكل إنسان يرى العالم بعينه الخاصة، وهي نظرة صحيحة ومميزة عن أي شخص آخر.

وفي سؤال كيف يُحكم على شيء ما أنّه جميل؟ يرى كانط أنّ الجمال مصدره ذات الإنسان، وأنه لا يرجع إلى الأشياء، ومع هذا فهو ليس ذاتياً صرفاً وليس مُجرَّد شعور نفسي، وفيه الشروط السابقة على الخبرة الحسية، والشيء الجميل لا يندرج تحت تصور ذهني مُحدد، وهو حكم منطقي خاص وليس عام، فحكمي على زهرة بأنها جميلة لا يعني أني أرى أنّ كل الزهور جميلة، وموضوعات الطبيعة كالأشجار والبحار والطيور لا تكتسب قيمة جمالية إلا عبر الذوق الفني والرؤية المدربة التي تراها مادةً للتعبير الجميل، أما عن الجمال الفني فيري هيغل أنه أرقى من الجمال الطبيعي؛ لأنه جمال متولد من الروح، ورأى الفيلسوف الإيطالي كروتشه أنّ الفن هو بمثابة التعبير عن الحدس، والمنشود من الفن هو الشعور بالمتعة واللذة، فبعد أن تشاهد أغنية جميلة أو عملاً فنياً أنت تعبر عن استمتاعك به، لذلك الإدراك الجمالي هو حكم الأحاسيس، أما مرجع الجمال هو الحكم العاطفي.

لكن، ما الذي يفسر اللمسة الجمالية عند البشر من ناحية تطورية؟ هل الشعور بدفء الألوان أو الاستمتاع بصوت الحسون أمر يساعد الإنسان على البقاء والتغلب على الطبيعة! سؤال آخر: لماذا هذا الانتشار للجمال في الطبيعة؟ الألوان المُختلفة والأصوات المتناغمة، والأشكال الهندسية، والكائنات المتناسقة والتكامل بين كل هذا وذاك، هل جمال الأزهار كما يقال لكي تجذب الحشرات؟ الحشرات يجذبها اللون، ولكن ما سر تناسق الشكل والجمال مع اللون والرائحة والترتيب؟ ما سر تناسق ألوان الريش في الطيور؟ وما سر جمال ورقة الموز حينما تنظر لها؟ فما دامت الصدفة والعشوائية لا يفسران هذا الأمر، فحتماً، هُنَاك تفسيرٌ آخر، لأن العلة لها داعٍ في هذه الحالة.

ثم تشعر أنّ العين البشرية تتناسق مع هذا الجمال، وكأنها خُلقت لتراه، هما مخلوقان يكملان بعضهما البعض، وإلا لو أوجدت الطبيعة أشياءها صدفة لما كان هُنَاك كل هذا الحس الجمالي، لرأيت العالم مكاناً موحشاً، ألوانه غير متناسقة، أشجاره مخيفة، وحيواناته مشوهة، كيف تختار الزهرة هذا الشكل الجميل تطورياً؟ وكيف تنتج الشجرة هذا التنسيق الهائل في كل أجزاءها؟ بل حتى في نموها، تراها مُهَندسة على الجمال، وكأن الجمال مودع فيها في كل أجزائها، راقب شجرة تنمو من بذرة، وستشعر كأن قلبك يَوَدُّ لو يضُمها، فهي تغذي لديك جانباً ناقصاً في صميم قلبك، لماذا تُودِع هذه النبتة الجمال فيك، لماذا يُودِع الطاووس الجمال فيك؟ إنه جمال صُمم لنا لكي نراه، ولم يأتِ اعتباطاً.

إنّ تنسيق ورقة الشجرة وشكلها الهندسي لا يُفسران حاجة الشجرة للورقة، الكلوروفيل واللون الأخضر مفهوم أنهما أساسيان لبقاء الشجرة، لكن ترتيب الساق والأوراق وعدم وجود عشوائية في مواضع إخراج الأغصان والأوراق وجمال الخطوط في الورقة، وإخراج الشجرة لأزهار جذابة للبشر قد لا تكون جذابة للحشرات، لا علاقة له ببقاء الشجرة على قيد الحياة.

لقد سلّم داروين بهذه الفكرة، وقال إنّ الطبيعة لا تفسر هذه المواهب الفطرية في الموسيقى والفن والجمال، والاستمتاع بها مع وجود ملكاتها لا يعود على الإنسان بأي منفعة، ويجب تصنيفها في أكثر الملكات الغامضة، كيف نفسر الإبداع الهندسي في مليارات الكسف الثلجية الفريدة بذاتها، أو إبداع قوس قزح، أو التناسق اللوني في غروب الشمس واستمتاع العين البشرية بإشاراتها الكهربائية وهي كلها عمليات فيزيائية وكيميائية محضة! كيف سار التصميم كاملاً في كل خطوة عشوائية لنخرج بهذا الجمال المُدهش، إنّ وجود شريط مكتوب في الدنا يفهم الجمال الموجود في تلاطم أمواج البحر أو الجمال الموجود في كوكب الأرض أمرٌ مخطط له مسبقاً، تستطيع أن تصنع سيارة لتنقل البشر، وستؤدي غرضها، سواء كانت جميلة ومطلية أم لا، ولكنك تضيف الطلاء ليحبها البشر.

وقد رأى أفلاطون أنّ النفس البشرية تُحركها قوة عظيمة جداً هي قوة الحب، وتدل هذه القوة على الحرمان أكثر مما تدل على الكمال، وهذا الحرمان يجعل الإنسان جائعاً للمزيد من الحب لتعويض النقص الكائن، ولكن ماذا يشتهي الحب في المقابل؟

الجمال، نعم إنه يشتهي الجمال، فهو دائماً ما يردم الحرمان، ولكن ما هي قمة الجمال عند الإنسان؟ هل الجمال الجسدي الذي يشبع الحب؟ أم شيءٌ آخر؟

فالجمال البشري مُتشابه بين الأجسام وهو واحد في المعاني، وبهذا تقل حدة الجمال بين الأجسام ولا يبقى جسدٌ واحدٌ مُميّزٌ لدى النفس، وهذا الجمال جمال محسوس والمحسوس متغير، والمتغير إلى فناء.

إنّ هذا الجمال المُدرَك عن طريق العقل يُغذي صفةً في النفس، فهو جمال نفسي يبحث عن شبيه له، والجمال النفسي معنوي وليس جسدي، والجمال المعنوي يوجد في الأدب والشعر والفن والرسم، هو جمال تأملي نظري وليس ملمسياً، هو طعام للروح أكثر منه طعام للجسد [161].

يتكشّف لنا في هذه اللحظة وجود جمال أزلي خارج عن جمال الكون الفاني الناقص، جمال كامل لا يعتريه نقصٌ أو فساد، وهو جمال يتفق جميع البشر في تعريفه وقبوله، إنه جمال في ذاته وليس في أجزائه، جمال فريد عزيز كريم، إنه جمالٌ مطلق، إنه الله، الوحيد الجميل الخالي من الفعل.

لقد لعب الجمال دوراً مهماً في الاكتشافات العلمية، فهو أحد الأسباب التي دفعت العلماء إلى اكتشاف الدنا، وهو سبب رفض بعض النظريات والمعادلات، فالقوانين الجميلة تنسجم مع الطبيعة والنفس البشرية، إذ يقول العالم ويلر “إنّ كل قانون من قوانين الفيزياء، مرده إلى شيء من التماثل في الطبيعة”، وقانون نيوتن الثالث مثال على ذلك، إذ لكل فعل رد فعل مساو له المقدار ومعاكس له الاتجاه، وهو التماثل نفسه في الجزيئات الذرية، فلكل جسم ذري، جسم ذري مضاد له، وكأن الطبيعة كلها منسجمة وتفهم بعضها وقد وضعت على شكل جمالي واحد مشترك، وكما رأينا فقوانين نيوتن أعطت مفهوماً واحداً لحركة الكواكب ولسقوط الأجسام ولظاهرة المد والجزر، فالنظريات الجميلة تستطيع أن تجمع بين ظواهر مختلفة وتربطها ببعضها بقانون واحد لطيف، وهذا ما أتمه أينشتاين بنظريته النسبية العامة، فمن شدة جمالها، فسرت ظواهر شديدة الاختلاف في معادلة واحدة.

إن كانت الصدفة تقف عاجزة عن تفسير هذا الجمال، فلا بدَّ من شيء آخر يفسره، حتماً لا محالة، لذة الجمال والفن والموسيقى والخضرة والماء والوجه الحسن والشعر لا تفسير عشوائي لها، ويشير الجمال إلى أمراً روحياً وليس مادياً، فأنا لا أستطيع أن أقول لزوجتي، إنّ ذرات وجهك منتظمة بطريقة رياضية، لكن لأصل إلى مبتغاي أقول: أنت أجمل الجميلات يا زوجتي العزيزة.

والنور يبني في السّفوح وفي الذّرى ……. دوراً مزخرفة وحيناً يهدم

فكأنّه الفنّان يعرض عابثاً ………. آياته قدّام من يتعلّم

وكأنّه لصفائه وسنائه….. بحر تعوم به الطّيور الحوّم

فأي مقطع عبثي في هذا الكون لهو لوحة فنية تسر الناظرين وتأسرهم، وتتساءل الفلسفة: أليس من خلق الجمال، قد أودع في النفس البشرية الإحساس به وفهم السر الدفين به، ومنحها قدرة فك لغز هذا الفن بالعقل المادي! وإلا كيف لهذا الإحساس أن ينتج، وكيف لهذا التكامل أن يحدث، إنه ليس أي تكامل، إنه تكامل المفتاح والقفل، العاشق والمعشوق، الرسام والمشاهد، المادة والروح، الخالق والمخلوق.

بحث عن الإله

منذ أن بدأ التاريخ رأينا أنّ البشرية تبحث عن إجاباتٍ لأسئلة كبرى، ويأتي على رأس هؤلاء الباحثون علماء البشرية بشتى مجالاتهم، وقد ارتبطت هذه الإجابات دائماً بالسؤال الأول: هل الله موجود؟ وفي محاولة إيجاد حجج دامغة على وجود الله جلب أرسطو قبل 2300 سنة دليلاً منطقياً على وجود الله وتبعه كما رأينا العديد من الفلاسفة أمثال ديكارت وسبينوزا، وكان رأي الفلاسفة بشكل عام أنه من الصعب أن يدرك الإنسان وجود الله، لأنّ الإنسان محدود بالحواس، وفي هذا السياق قال الفيلسوف الفارابي، يصعب إدراك الله بسبب ما نعانيه من نقص وضعف وبسبب ملابستنا للمادة، ويرى الفارابي أننا نقترب من إدراك الله كلما ابتعدنا عن المادة وارتفعنا فوق المحسوس وارتقينا نحو العقل، ولكن، هل هُنَاك ارتباطٌ عاطفي أو معرفيٌّ بهذا الإله؟ هل هُنَاك شيءٌ فينا دفين يجذبنا نحو الإله؟

تنوعت الأبحاث في هذا السياق فمنها من قال إنّ الإحساس بالإله هو ناتج عن منطقة دماغية لو تعدلت أو أٌزيلت لزال هذا الإحساس، وأكد بحثٌ مُعاكسٌ نشرته صحيفة التلغراف البريطانية حول نتائج بحث أكاديمي أنّ الأطفال يولدون مُؤمِنين بالله، بل ويؤكد البحث على أنّ إيمانهم ليس بحاجة إلى التلقي [162]، يذكرنا هذا البحث بقصة حي بن يقظان وهذه الدراسة وغيرها تم إجراؤها بحيادية تامة ودون تحيز للدين، ويؤكد الباحث في مركز علوم الإنسان والعقل في جامعة أوكسفورد الدكتور جاستين باريت أنّ الأطفال لديهم القابلية المسبقة للإيمان بكائن متَفُوق، وأننا لو وضعنا مجموعة منهم على جزيرة ونشؤوا وحدهم فسيؤمنون بالله، الفكرة كبيرة جداً لكن يملك المُؤمِنين أيضاً أبحاثهم الغريبة وليس الطبيعيون فحسب.

تم إجراء دراسة أخرى في جامعة أكسفورد بقيادة مجموعة من الباحثين المرموقين مثل البروفيسور روجر تريغ حول هل الإيمان بالإله شيء مكتسب أم فطري لدى الإنسان، أشارت النتائج إلى أنّ البشر لديهم ميول للإيمان الديني ولا شك بهذا لأن الدراسة استغرقت 3 سنوات، شارك فيها 57 باحثاً من 20 دولة ومن ثقافات مُختلفة [163]، بحثٌ آخر يشير إلى أنّ الملحدين أنفسهم يخشون الله، ويأملون منه الخير في اللحظات الحرجة، وبعضهم لديهم بعض الإيمان بوجوده [164].

بل إنّ الملحدين أو الماديين يحجون كما يحج أتباع باقي الأديان إلى مزارات ثابتة مثل مواقع مرتبطة بداروين وماركس ولينين وغيرهم من القادة العلميين أو السياسيين أو الأيديولوجيين، وتراهم يبكون ويخشعون بهؤلاء الأبطال، يقول البروفيسور أندرو بيري أستاذ البيولوجيا في جامعة هارفارد، والتي تنظم رحلات زيارة للمواقع التي تتعلق بداروين كل عام في إنجلترا: “إنني أتفق مع وجهة النظر بأنها مظاهر تقديس لكل ما يتعلق بداروين ووالاس ننخرط فيها نحن المهتمين بتاريخ العلوم، نحن نحترم داروين وأقرانه ونشعر بالقرب منهم حين نزور تلك الأماكن المتعلقة بهم، كما يشعر المسيحي حين يحج إلى القدس أنه قريب للمسيح، وكما يشعر المُسلم حين يحج إلى مكة أنه قريب من الرسول” وكلي أسفٌ لِما آلت إليه المادة من انتكاس، أين أنت يا ماركس لترى أتباعك!

يُذكرني هذا بعبارة لروحه السلام التي يستخدمها أتباع الفلسفة المادية لنعي شخص قد توفي، ولا أستطيع أن أفهم المغزى منها، نعرف أنّ المتدينين حينما يموت أحد منهم يقولون هُنَاك شيء اسمه رب، هُنَاك جنة ونار، وروحه ستذهب عند الرب ويتمنوا أن تنزل رحمة الرب عليه فيقولون رحمة الله عليه.

أما غير المتدينين الذين لا يؤمنون بشيء يُدعى الرب، أولى فأولى ألا يؤمنوا بشيء اسمه الروح، فلماذا لا يكون لديهم ((براند)) خاص بهم ويتركوا أدوات المتدينين ويقولون لروحه السلام.

مثلاً أن يقولوا نلعن اليوم الذي فقدناه فيه، لحظة، هذه أيضاً لا تجوز لأن اللعنة خاصة بالمتدينين، حسناً ماذا عن: نتمنى أن يكون سماداً مناسباً للتربة، أو نتمنى أن يحتوي على العديد من الماغنيسيوم ليفيد النباتات … إلخ، الأمر يبدو تهكماً، لكن صدقاً لم أجد جملة أخرى!

ثمة أبحاث ودراسات كثيرة تحاول إثبات وجود الله، بل إنّ علماء الرياضيات حاولوا ذلك كما في مبرهنة عدم الإكمال لعالم الرياضيات كورت غودل، وهو عالم له سمعته وله طرحه، إلا أنها تبقى محاولات لعقلنة الإيمان وإثباته منطقياً، صحيح أنّ الجزء الكبير من الإيمان لا يُعادي المنطق وفي النهاية كل الأمور المنطقية تُفضي إلى أشياء لا يمكن أن تبرهن عليها وعليك الإيمان بأنها صحيحة في علتها الأولى، إلا أنّ الإيمان كما يقول ابن رشد طريقٌ آخر، له مسار يختلف عن العلم، يجب أن يكون فيه تسليم ومع العقل أيضاً، ومع فهمنا أكثر لهذا العالم، نرى أنّ الإيمان والعلم كلاهما أساسيٌ للآخر، فلا علم دون غاية، ولا إيمان دون علم، ونجد هذا موضح أكثر في فصل الإيمان.

ولكل من الدين والعلم ميدانه الخاص، ولا يأتي التناقض إلا إذا تعدى أي منهما حدود الآخر، الدين ميدانه المحراب، والعلم ميدانه المعمل، لا يدخل الدين في المعمل، ولا يجلس العلم في المحراب، والعلم مجاله الواقع والتجربة، والدين مجاله الغيب والوجدان، العلم متغير بحسب الاكتشاف والتراكم المعرفي والدين ثابت بحسب الإيمان والاعتقاد [165]، وإنّ تجاوز الدين لحدود العلم أمرٌ مُحرجٌ للدين ومُفسدٌ للعلم، وتجاوز العلم لحدود الدين مُضرٌ للدين وغير مقنع للعلم، وكل منهما يردم جانب مهم في الحياة، هما رفيقان كالروح والجسد ولا بديل عن أي منهما.

في المختبر يقوم العالِم الحيوي بتطوير اللقاح، والعالم في السياسة يقول يجب أن نشتريه، والعالِم في العلاقات يفاوض على سعره، والعالِم في الصحة يضع خطة حفظه وحقنه، والعالِم في المواصلات يجهز آليات مناسبة لنقله، والعالِم في الأمن يحميه، والعالِم في التنظيم يوزع الأسماء، والعالِم في التكنولوجيا يصنع برنامج لحفظ الأسماء، والعالِم في الفقه يفتي بوجوب أخذ اللقاح، كل عالِم يفتي في مجاله، ليس من واجب عالِم الدين العمل في المختبر، كما هو ليس من واجب الشرطي أن يكون مبرمج حاسوب، كما هو ليس مفترض من الطبيب أن يصبح بطلاً أولمبياً!

ونتساءل كثيراً، لماذا يداهمنا الحزن الغامض في منتصف لحظات الفرح العارم؟ إحدى الإجابات تقترح أنّ الحزن عميق المنبع، بخلاف الفرح الذي هو قشرة فوق سطح بحر عميق من اللاشعور، وفي لحظة الفرح نشعر أنّ فرحاً أكبر لم يحضر، فرح الروح الأصيل حين كانت الروح قبل الحياة في عالم المُثل، إنها تحِنَّ إلى الرجوع، يذكرها فرح صغير مؤقت بالفرح الكبير هُنَاك، صورة نوبات الحنين لشيء لا نعرفهُ، لكننا نشعرُ به في صورة شوقٍ لشيء لا نعرفه، وليعمل العُلماء على تفسير هذا السُلُوك، وإذا كان هُنَاك إجابة علمية، سأقذف بالإجابة الروحية بلا رجعة.

لا شك أن الصحة هي أعظم ما يملك الإنسان، فلو أصيب أصبع الإنسان الصغير إصابة بالغة وتسببت بتهتك أعصاب الأصبع، أو أصاب الإنسان أي مرض في أصبع قدمه الكبير، لشعر بالضيق والنقص مدى حياته، إنّ مصاب القدم لا يستمتع بالنزهات ولا يستمتع بالمشي أو بالخروج أو بالرياضة أو بالملابس الجديدة وغيرها من الصور، إنّ صورة الرجل القوي الذي يتسلق جبل ما ويقف على سفحه منتشياً بعظمة ذاته يفتقدها المصاب في قدمه، ويشعر جراءها بالضيق وبضياع الصحة وبالنقص الكامن فيه، وعلى ما يبدو أن كل البشر منذ ساعة إزالة الحبل السري يفقدون الإحساس بالكمال لأنهم يفقدون شيئاً عضوياً مهماً في سياق هذا الوجود، فيشعرون للأبد بالنقص والحنين لشيء لا يعلمونه، ويأتيهم هذا الإحساس في أعلى درجات السعادة.

إنّ هذا الإحساس بالنقص في لحظات الفرح، هو نفسه الإحساس بالنقص في الحلم، هو نفسه الإحساس بالنقص والسعي في هذا العالم، ففي كل اللحظات نشعر أنّ شيئاً منقوصاً وغير مكتمل، ولمشاكل النقص هذه فينا، هل يملؤها الإيمان بالله؟ قرار مصيري، قارب على نهايته.

بَينَما قَلبِيَ يَحكي في الضُحى إِحدى الخَمائِل ….. فيهِ أَزهار وَأَطيارٌ تُغَنّي وَجَداوِل

أَقبَلَ العَصرُ فَأَمسى موحِشاً كَالقَفرِ قاحِل ….. كَيفَ صارَ القَلبُ رَوضاً ثُمَّ قَفراً

لَستُ أَدري

الإله

صورة 21 عمل فني للفنان ديجان جوفانوفيك على غرار لوحة مايكل أنجلو خلق آدم وفيلم Prometheus (2012) الذي يحاول عبر قصته الخيالية أن يجيب عن الأسئلة التي لا إجابات لها: من نحن، وكيف ولماذا أتينا، بطريقة خيالية تداعب طموحات العقل الجامح الجائع للمعرفة، وذلك باعتماده على الميثولوجيا الإغريقية إذ طلب كبير الآلهة زيوس من بروميثيوس وأخيه إبيمثيوس تشكيل الحيوانات والبشر، فأنهى إبيمثيوس تشكيل الحيوانات بسرعة مستهلكاً بذلك جميع الموارد كالسرعة والرؤية الخارقة ووسائل التدفئة وأسلحة للدفاع كالقرون والأنياب، وبهذا لم يُبقِ شيئاً للإنسان الذي استغرق بروميثيوس الكثير من الوقت لإتقان تشكيله،

طلب بروميثيوس من زيوس مساعدته في تحسين البشر إلا أنّ زيوس كان يريد للبشر أن يكونوا ضعفاء خائفين حتى لا يمتلكوا القوة التي تمكنهم من تحديه، فسرق بروميثيوس من آلهة الأوليمب العديد من العطايا ومنحها للبشر مثل فنون العمارة والبناء، النجارة، علم الفلك والطب، الأرقام والحروف، كما علمهم استئناس حيوانات إبيمثيوس وركوبها

وقام بروميثيوس بما هو أكثر شجاعة، إذ قام بسرقة النار وأعطى قبس منها للبشر لأنه حزن لرؤية البشر في البرد، فعاقبه زيوس بتقيده على صخرة في جبال ليأتيه نسر عملاق كل صباح ينهش كبده، الذي يعود لينمو من جديد في المساء ويستمر عقاب بروميثيوس الأبدي، ومن هنا كانت النار رمز الحضارة والتفكير والصناعة والابتكار، هي التحدي والإدارة والفن والعنفوان.

وفي رحلة البحث عن الإله لربما السؤال الأول الذي نوجهه جميعاً يكون بصيغة: حسناً، ما دام هذا الرب العظيم الذي يُصور نفسه أنه قوي وقادر على كل شيء موجود، لماذا لا يرينا نفسه ويقطع علينا قضية الشك بوجوده؟ وبذلك تصبح واضحة مواضيع الإيمان والكفر وغيرها، نطوي الصفحة وحينها من يكفر يكفر بحقه ويستحق كل العقاب، أليس هذا أفضل من أن يرسل هذا الإله وحياً على رجلٍ في كهف في الصحراء لا يعرفه أحد يتكلم باللُغة العربية ولا يتكلم بباقي لغات العالم، ليقول له: أنت مُرسلٌ مني لتبلغ العالم، ومن لم يؤمن بك، سيحلُّ عليه غضبي!

كانت الديانة المسيحية قد حسمت هذا الأمر وقالت أنّ الله تجلى لهم بشراً كاملاً وليس مُجرَّد هيئة في الابن عيسى، وبهذا انتهت مشكلتهم هذه في رؤية الله، ولكنها مهدت الطريق أمام مشكلات كثيرة، كيف يأكل هذا الإله وكيف ينام وكيف يتبول وكيف يتعب وكيف يتزوج وكيف يشتهي، ووجود إله يتبول أمر لا يمكن تقبله أو حتى التفكير فيه، وكيف للإله أن يبكي وينام ويموت، ولماذا يقضي على نفسه في سبيل خطايا البشرية، ألا يوجد حلول أخرى لدى هذا الإله، ألا توجد طرق أخرى ليتجلى الله للناس بصورة أعظم، في كل الأحوال هذا سؤال منطقي وجميل ولا تعجبني إجابته بأن الله ذات تختلف عنا ومن ثم لن نستطيع رؤيته، وأنه لو تجلى لنا لتجسد وهذا لا يليق بذاته، وعدم منطقية هذه الإجابة تكمن في عظمة الله كما يصورها لنا، فما دام الله يدّعي أنه خالقٌ عظيم، فهذا يعني أنه يستطيع أن يخلق شيئاً وسيطاً، أو يعطينا قدرة ما على رؤية تجلياته، أو يجعل السماء تتكلم، أو يُنزل كتاباً ضخماً كل ليلة نرى فيها أنه موجود، ولكن ألا يكفي هذا الكون العظيم وهذا الإنسان المُدهش في بنائه كما استعرضنا وهذا العقل لنقول إنها من تجليات الله، حسناً هي كذلك ولكنها بحاجة إلى جهد في البحث، نريد شيئاً أسهل من كل هذه الاختبارات.

فيرد الأستاذ قائلاً: هل تريد النجاح بكتاب مفتوح؟ ما رأيك أن نعطيك أسئلة الامتحان أيضاً مجابة، وكل ما عليك هو أن تكتب اسمك وتنجح؟ ألا يجب عليك أن تشغّل عقلك وتتعب هذا العام لتحصد في نهايته نتيجة تعبك! فيجيب الطالب: لا أقصد هذا، أقصد أن يكون الأمر أسهل من ذلك، هُنَاك مئات الأديان وهُنَاك مئات المذاهب في كل دين، ولا أستطيع أن أراجعها، وأنا مرتبطٌ منذ ولادتي بثقافتي، وعقلي منذ البداية ناقص، وغيرها من العقبات، وأخاف من الرسوب، ومن يرسب لديك لن ترحمه، وأنا مالي ومال كل هذا الجهد، لم أطلبه ولم يستشرني أحد.

يرد الأستاذ قائلاً: يا عزيزي أنا أستاذ كريم، أطلب منك أن تدرس وتذاكر وتبحث، وتحاول أن تصل إلى الحقيقة وأنا أشاهدك وأراك، وأتابع تعبك ومجهودك وبحثك حتى لو لم تجب في الامتحان بالشكل المطلوب، سوف أجعلك تنجح، لأني رأيتك حاولت ولم تقصر، لكن حاذر أن تضرب زملاءك واحرص أن تكون معهم خلوقاً مهذباً، لأنك لو ضربتهم فسأعاقبك، فحقوقهم مهمة جداً، ولله المثل الأعلى، ولو أعطيتك الامتحان مجاب، لانتهى مغزى الإيمان والجد والاجتهاد، ولما كان لأي شيء معنى.

وإذا استمررنا بهذا التفكير عبر إسقاطنا السببية على الخالق، وإجراء قوانين الخالق على المخلوقات، حينها سنطلب من الخالق ألا يرسل نبياً بل عليه أن يَنزِل لنا على شكل إنسان، وإذا أراد الإله أن يساعد إنسان ما في مدينة بعيدة فعليه أن يستقل حافلة لأن المسافة بعيدة، أو يستعمل الأشعة تحت الحمراء ليعرف ما في الغرف المغلقة، ويجب على الإله أن يسير بأسبابنا، وهكذا دواليك حتى يفقد الإله قدرته ومزاياه ويصبح عليه أن يشرب ويتبول مثلنا.

صورة 22 لوحة العشاء الأخير للفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي عام 1498م يظهر فيها المسيح مع تلاميذه الاثني عشر كما في إنجيل يوحنا، ومعهم السيدة مريم المجدلية.

الموت

مما لا شك فيه أنّ أكبر مصدر للخوف أرعب البشرية عبر تاريخها، كان وما زال هو الموت، سنين العمر نقضيها ثم بعد الانتهاء من سنوات البناء والعمل يأتي المحتم ويَجُر الإنسان إلى اللامكان، إلى مكان مجهول لا يعلم أحد حقيقته، وكل ما نعرف عنه عبارة عن أخبار دينية غريبة وعجيبة، والمُشكِلة أنه لا أحد عاد من الموت لكي يخبرنا بالحقيقة والنظام والآلية التي حدثت هُنَاك، أي أنه طوال عمر البشرية ومليارات من ماتوا فيها، لا أحد عاد ليقص علينا القصص، فمتغير العودة من الموت من النوع Boolean ما زالت قيمته صفر ولم يحدث أن تحولت إلى 1 لكي نرتاح من الإجابة.

عن نفسي لا أخاف الموت ولا أخاف اللقاء، لا أخافه لأنني أعيش كل يوم بيومه، ولا توجد أمور سأندم أني لم أفعلها قبل أن أموت، لأنه من المفترض أن تبدأ الاحتفالات بعد النجاح، ولا أخاف اللقاء لأني كلي ثقة بما بعد الموت، فقد سرت في طريق الصواب قدر المستطاع، وبعيداً عن مبدأ التحوط الذي يناسب البعض لكنه لا يناسبني، قد أخذت كافة احتياطاتي، وسأكون سعيداً بلحظة الموت حينما تأتي، فلا بد من حياة بعد الموت لأن هذا العالم لم يكن مصنوعاً إلا لهدف، ويُسعدني الانتقال إلى الهدف التالي، ومبدأ التحوط مبدأ صاغه باسكال، يخبرك إذا كنت مُؤمِناً بالله وتوفيت، وكان هناك جنة ونار، فقد ربحت ربحاً غير محدود، وإن لم يكن هناك جنة أو نار فقد خسرت بعض الملذات في الدنيا وهي خسارة محدودة، أما إذا كفرت بالعقاب والحساب وتوفيت، وكان هُنَاك جنة ونار فقد ثكلتك أمك وخسرت خسارة غير محدودة، وإن لم يكن هناك جنة ونار فقد كسبت ملذات محدودة، لذلك الأحوط أن تؤمن، وهو قد يكون مبدأً مقبولاً لمن يؤمن بالاحتمالات وترجيحات العقل.

وفي مقارنة بين الدين واللادين، نجد أن اللادين يخبرك أن تستمع قدر المستطاع قبل موتك، عليك أن تتذوق كل شيء قبل مماتك، مثال ذلك واضح في أفلام تجسد الفكرة مثل Knockin’ on Heaven’s Door و The Bucket List فالهدف من الحياة هو الاستمتاع وإن فاتتك متعة فقد خسرت.

أما في جانب الدين فلا بأس من ضياع كل المتع، وحينما تكبر وتمرض أو تشعر باقتراب المنية، كل ما عليك في التضرع للإله أكثر ورد الحقوق، لأن المكافأة والمتع قادمة بعد الحساب، وما الدنيا إلا متاع الغرور، دقائق قليلة من سنوات خلد لاحقة، فلماذا ننصرع ونسرق ونغش وغيرها لننال لحظات ماضية!

يقول سبينوزا إنّ الإنسان الحر هو الإنسان الذي لا يشغل باله الموت، ذلك أنّ الحكمة يجب أن تكون في تأمل الحياة أكثر مما هي تأمل الموت، لأن التفكير في قصر الحياة وكونها آيلة للزوال هو ما يمنحها معنىً حقيقياً، ولذلك ينبغي لنا الاستعداد للموت، أن نقبله ما دام ليس بوسعنا أن نهرب منه، دون أن نستسلم له على نحو يفسد حياتنا ويفسد علينا سعادتنا، وهذا على عكس كثير من الفلاسفة الذين يرون أنّ الهدف من الحياة هو الاستعداد للموت، موت الحبيب، موت الطموح، موت الصديق، موت النفس، إنّ الاستعداد للحياة أرقى من الاستعداد للموت.

يقول أحد الفلاسفة إنّ معركة الإنسان الوحيدة في هذه الحياة هي معركته مع النوم، فطوال الوقت يحاول أن يستيقظ من نومه لكي يعيش حياته، إلى أن يغلبه النوم في النهاية وينام النومة الأبدية، لكن على ما يبدو أنّ معركة الإنسان في هذه الحياة هي الحلم، وفور أن يستيقظ الإنسان منه الاستيقاظة الأبدية حتى يرى الواقع ويعيش الحياة الحقيقية.

ولكن، ما هو الموت؟ كيف يحدث وكيف نحكم على شخص أنه مات؟ هذا السؤال حيّر العُلماء كما حيّر الفلاسفة، والعُلماء لا يزالون في بحث عن تعريف كامل للموت، فالموت ليس عملية واحدة واضحة، هل توقف القلب يعني الموت؟ نعم، كان هذا الأمر شائعاً في القرن التاسع عشر، لكن مع تقدم العلم وإمكانية قراءة الدماغ، حدث أنّ بعض المرضى قد توقف قلبهم لكن دماغهم لا يزال يعمل، وكان من الممكن مثلاً إجراء إنعاش قلبي فيعود المريض إلى الحياة من جديد، أو حل المُشكِلة القائمة فيعود القلب إلى الخفقان ويعود المريض إلى الحياة.

حسناً، الآن من المنطق أن يكون الموت عبارة عن توقف القلب وتوقف الدماغ، ولكن للأسف هذا غير كافٍ، فرغم هذا تبقى بعض المناطق في الدماغ تعمل مثل جذعه، وماذا لو تقدم العلم ووجد حلاً لإنعاش هذه المناطق من جديد؟ وحتى في أوضح لحظات الموت، لا تموت كل خلايا الإنسان وتبقى حية وفاعلة لربما لأيام، والدليل أنّ أظافر الموتى وشعرهم تستمر بالنمو لأيام بعد الوفاة، هل من الممكن مستقبلاً أن نقوم بتكبير الحياة في الخلايا وعكسها على باقي الجسم، بالتفسير الديني أنّ الروح مسؤولة عن الحياة، فهذا يعني أنّ الروح لا تزال في الخلايا لأنها لم تمت، لذلك لو نقلنا الروح من الخلايا الحية إلى الخلايا الميتة وضاعفناها سنعيد الميت إلى الحياة من جديد، منطقي أليس كذلك؟ لكن تبقى بعض أجزاء الأعضاء ميتة Necrosis ولكن ماذا لو تقدم العلم واستطاع فعل شيء ما، دعونا لا نستمر كثيراً في هذه السلسلة اللانهائية للموت.

يبقى ما تعارف عليه العُلماء اليوم هو أنّ الموت مجموعة من العمليات المتتالية تظهر على الشخص فنستطيع أن نقول أنّه مات، إنّه ليس عرضاً معيناً ظاهراً وحده، بل مجموعة من العمليات، وحتى نقول إنّ إنساناً قد مات يجب أن تظهر عليه الأعراض مجتمعة، وقد يكون الميت شخص في كهف حشر نفسه فلا يدري عن العالم، وقد يكون شخص مات عقله وقلبه لكن جذر دماغه حي ويمكث تحت الأجهزة الطبية لمدة 10 سنوات أملاً في حل ما!

وفي أسوأ الأحوال لو جلست في أحضان الموت غداً، فإنه سيُسعدني ألا يكون هذا نعيي: للطبيعة ما أعطت وللطبيعة ما أخذت، وكل شيء عندها بالصدف، لا قيمة لصبرك ولا طائل من جزعك ولا تنتظر شيئاً من أحد، ولا قيمة لميت أو حي، فما نحن إلا تفاعلات كيميائية، كلنا كائنات وُجدنا لنهلك، جئنا من العدم وبُعثنا من العدم وسنرجع إلى العدم، البقاء للأقوى والأصلح فلو لم يتطور بدرجة كافية لما بقي ضعيفاً ولعاش كما تعيش البكتيريا، لكن ستنتخب الطبيعة خيراً منه وليسود النوع الأفضل.

حقاً لا أريد أن يكون هذا نعيي، وأن أكون قد انتهيت بالكامل، وفنيت للأبد، أريد أن يكون هُنَاك المزيد، أنا خائف من العدم، وأريد الوجود، أريد شيئاً ما، لا أريد حسب وجهة المادة أن أكون في الممات حالي كحال هتلر كلانا في مستوى واحد في الحياة وبعد الممات! مستوانا واحد كما كل مخلوقات الأرض، لا خير ولا شر، ولا عقاب ولا ثواب، لا أريد هذه الصورة ولا هذه الحالة، أريد أن يخبئ لي الموت هدية، وأن يخبئ لهتلر ما يستحق.

يقول أحد العُلماء: “إنّ من أين أتيت وإلى أين سأذهب هي إحدى الأسئلة العظمى التي لن يجد لها العلم جواباً”، ويضيف سورين كيركغارد إنّ الحياة ليست مُشكِلة يجب أن تُحلّ، بل هي واقع يجب أن يُعاش، وكما أنّ الحياة الدنيا ليس لها معنىً مناسباً حين نصفها لجنين في رحم أمه، فالحياة بعد الموت تحمل المعضلة نفسها حينما نحاول فهمها بمقومات هذه الدنيا المحيطة.

  1. دكتور سترينج: لست مستعداً بعد!
  2. المعلم الأقدم: لم يسبق لأحد وأن استعدّ، لا يتسنّى لنا اختيار الوقت المناسب.
  3. المعلم الأقدم: الموت هو ما يعطي للحياة طعماً، معرفتك بأنّ أيامك معدودة، وأنّ حياتك قصيرة.

إِن يَكُ المَوتُ هُجوعاً يَملَءُ النَفسَ سَلاما ….. وَاِنعِتاقاً لا اِعتِقالا وَاِبتِداءً لا خِتاما

فَلِماذا أَعشَقُ النَوم وَلا أَهوى الحِماما ….. وَلِماذا تَجزَعُ الأَرواحُ مِنهُ

لَستُ أَدري

أَوراءَ القَبرِ بَعدَ المَوتِ بَعث وَنُشورُ ….. فَحَياةٌ فَخُلودُ أَم فَناء وَدُثورُ

أَكَلامُ الناسِ صِدقٌ أَم كَلامُ الناسِ زورُ ….. أَصَحيحٌ أَنَّ بَعضَ النصاسِ يَدري

لَستُ أَدري

إِن أَكُن أُبعَثُ بَعدَ المَوتِ جُثمانا وَعَقلاً ….. أَتَرى أُبعَثُ بَعضاً أَم تُرى أُبعَثُ كُلّاً

أَتُرى أُبعَثُ طِفلاً أَم تُرى أُبعَثُ كَهلاً ….. ثُمَّ هَل أَعرِفُ بَعدَ المَوتِ ذاتي

لَستُ أَدري

معنى الحياة

إن سألت شرطياً يعمل في جهاز جمع المعلومات: ما هو الإنسان؟ فسيخبرك أنّ الإنسان كائن فاسد حتى النخاع، وإن سألت طبيب غرفة إنعاشٍ عن الإنسان فسيخبرك أنه مُجرَّد رقم، ولو سألت فنية غرفة تصوير أشعة سينية عن الإنسان فستخبرك أنه كذبة كبيرة، ولو سألت صيدلانياً عن الإنسان فسيخبرك أنه عناصر كيميائية متفاعلة، ولو سألت طبيباً نفسانياً عن الإنسان، فسيخبرك أنه وهم لا يمكن تفسيره، ولو سألت زوجاً عاش مع زوجته في حب 40 عاماً فسيخبرك أنّ الحب عبارة عن قيودٍ كثيرة.

وغيرها من الصور التي تُبيّن أنّ النظرة العميقة لأي إنسان بعد فترة طويلة تختلف فيها صورة الحياة النمطية، وتتكون صورة غريبة عن المحيط، نحن لا نرى المرضى والموتى أرقاماً، وحين توفيت أمي حزنت حزناً شديداً، لكن بالنسبة للطبيب فإن أمي مُجرَّد رقم آخر، من يتعمق في أي مجال كالفلسفة مثلاً طوال سنوات طويلة ستكون نظرته للأمور مُختلفة عن نظرتنا عنها، لذلك سيصعب تلاقي الأفكار بسهولة، ولن يكون هُنَاك معنى واحد للحياة، بل هُنَاك معانٍ كثيرة لها، لكن حينما نتقبل الحياة كرزمة واحدة كما عاشها من قبلنا من كدح وزواج وأخلاق وأبناء ومرض وهرم وفرح وتعاسة وحزن وأمل، حينها نعش الحياة بحقها ونستمتع في كل جزءٍ فيها، فنحن بشر، وهذا مخطط الحياة الطبيعي للبشر، أنت إنسان ولست إله فاعرف حدودك ولا تفكر أعلى من عقلك ولا تخرج عن مسارات البشر، وتقبل ضعفك وقلة حيلتك وتعاسة هذه الحياة وحاول أن تستمتع قدر المسموح.

لنفترض أنّ هُنَاك مريض اضطر الأطباء إلى نقل دماغه ووضعه في آلة على شكل إنسان، ماذا سيكون معنى حياته؟ ماذا ستكون أهداف هذا الإنسان وغاياته في هذه الحالة، رأينا أنّ جزءاً كبيراً من حياة الإنسان هي سعيه لتحقيق غرائزه، فغريزة مثل الشبع بحاجة إلى سد عبر الطعام والشراب، وغريزة الجنس كما يقول فرويد المحرك الأساسي لحياته، يلبس لأجلها وينجح ويتَفُوق ليتميز أمام الجنس الآخر، ويملك المال بسبب شهوة الجنس ويحاول أن يبدو الأجمل بسببها، هي محور حياته، ماذا سيكون غاية العقل بجسم آلة، أن يبدو أجمل مثلاً؟ أن يبدو أقوى، ولكن أمام من؟ أمام البشر، دون جسد بشري فلا معنى للمنافسة، من المفترض وجود صراع أو تحدٍ بين مزايا إنسان بمقارنة بمزايا إنسان، مثلاً من أذكى من ألطف وهكذا، ولكن ما معنى التحدي الجسدي ولا يوجد جنس أصلاً، ولو صنع العُلماء آلة تريد أن تكون لها حياة طبيعية يجب أن تكون لها أهداف وغايات، أن تحن إلى الرقود، وأن تحن إلى الراحة بأن يكون لها مؤشر للمجهود، وأن يكون لها هدف أسمى تصل إليه ثم تنتهي وتفنى.

وكما عهدنا فإن الصورة المتطرفة أو المريضة هي نافذة مجردة لفهم الحقيقة، وهنا نفترض، ماذا لو استيقظ إنسان كان في غيبوبة، ووجد أنّ العُلماء قد نقلوا عقله إلى جسم كائن حي آخر، لنقل جسد كلب من نوع ما، واستيقظ الإنسان وقد استوعب وعيه ما حصل ونظر إلى المرآة وأدرك أنه إنسان بجسد كلب.

ماذا سيفكر؟ هل سيحاول أن يكون جميلاً، لكن لماذا؟ فلا توجد غريزة جنس مع البشر بشكل مناسب له تقضي شهوته، ستكون مُشكِلة حقيقية، فالحب البشري يحتاج إلى احتضان وتوافق فكري وإلا لا معنى للجنس، إذن سيحاول أن يبدو جميلاً أمام الكلاب، لكنه لن يندمج في علاقة حب مع كلبة؛ لأن العقل بشري يتطلب في الجنس أحاسيس، والكلبة بحاجة إلى عواء وغيرها.

لكن، ماذا لو كان الجسد المنقول دماغه إليه هو جسد كائن حي ولكنه لا يشبه أي كائن موجود؟ لنفترض السحلية هي أنسب كائن لعقل البشر وتم تخليق سحلية كبيرة لتحتوي على عقل الإنسان، وتمت العملية، ستكون الأمور وخيمة أكثر، فالعقل البشري عليه أن يجد مبرراته وانسجامه مع دوافع حياة سحلية، ولن يكون لحياته أي معنى غير معنى الحياة لسحلية أكثر ذكاءً، فلا يعتقد الإنسان أنه شيء كبير وخارق، إنه شيءٌ كبيرٌ وخارق في سياق الجنس البشري، مع أقرانه ومع حياته معهم ومع القوانين والعلاقات الاجتماعية، ومن دونها لا معنى لها، وهذا ما وضحناه سابقاً أنّ الإنسان محدود بحدود الطبيعة، لا يخرج عنها، والمقصود في الطبيعة هنا ما خطّه المصمم له، وحتى الماديون يسلموا بهذا فيقولون، إنّ تطور العقل البشري كان في سياق حمايته من الكائنات المفترسة في الغابة، فالقرد لا يملك المهارة الكافية لكي يختبئ ويتَفُوق على الكواسر، إلا أنّ الإنسان يستطيع، ولكن هذا لا يعني أنّ العقل البشري قد تطور ليفهم النظرية الكمية.

وماذا عن نقل رأس رجل طاعن في السن إلى جسد شاب؟ لنفترض أنه أمرٌ ممكنٌ حيوياً، هل سيكون أمراً مناسباً؟ إنّ الدماغ شأنه شأن أي عضو قد كبر في السن وأصابه التلف، ولن يعيد الجسد عمره إلى الوراء، صحيح أنّ هذا قد يُساعد في تحسين بعض الأمور، لكن ليس بالتغيير الكبير، فضلاً عن أنّ فكر الإنسان ينضج، ولن يعود شخص فهم الحياة إلى الوراء ليلبس الحفاظة ويجرب الروضة ويفكر في الحب والزواج والإنجاب، هذه الأمور غير مرتبطة بالجسد بل ترتبط بالوعي العقلي، قد يشعر ببعض الشباب والقوة، لكنها لن تزيل ما تراكم من التفكير عن معاني الحياة، ولو حدث العكس ووضعنا رأس طفل على جسد عجوز طاعن في السن، فلن يسرع هذا في نمو الدماغ، والذي نعلم أنه عضوٌ عاديٌ ينمو مع الزمن، ولن يجعل هذا الطفل ذو وعي فكري أفضل، بل سيقلبه إلى أرذل الحياة؛ لعدم التوافق بين الفكر والإمكانيات.

الخلاصة أنّ الحياة هكذا جميلة دون تلاعب، تحيلنا هذه الأمثلة الساذجة إلى أنّ الإنسان كائنٌ متراكب التفكير، لا يمكن تغيير أي وسيطات Parameters في حياته، وإلا فلن يكون له معنىً، ومحاولات خروج هذا الإنسان عن سياقاته الكبرى التي خطتها البشرية ستجعله أكثر تعاسة ودون قيمة.

الإنسان

يختلف الإنسان عن كل ما هو موجود في هذا الكون من كائنات وجمادات وأفكار، فالظاهرة الإنسانية لا تتشابه مع أي ظاهرة أخرى، ولا يمكن مقارنتها بالظاهرة الطبيعية التي لا تمتلك إرادةً حرة أو وعي أو قدرة على التصرف خارج نطاق قوانين المادة، ولا ذاكرة ولا مشاعر، والتي هي صفات من صميم إنسانية الإنسان.

يتأثر الإنسان بالتجارب المنفذة عليه، بعكس الظواهر الطبيعية التي لا تتأثر بالتجارب التي تجري عليها، فإن أُخضع إنسان لتجربة عَلم أنه فيها مراقب فسيتصرف بطريقة مُختلفة عن سُلُوكه في حياته اليومية، فالإنسان يملك وعياً بنفسه وبما يدور حوله، بالإضافة إلى أننا نستطيع دراسة كل الظواهر الطبيعية عبر نماذج بسيطة مُحددة مردودة إلى المادة، أما الإنسان فلا يمكن فهم كل جوانبه ولا يمكن تفسيره تفسيراً كاملاً، ولا يمكن إحالته إلى قانون عام [166].

صورة 23 لوحة بعنوان فاطمة بنت محمد للفنان جورجي فيرتوسو.

يُعد عالم الطبيعة عالماً أحادياً بسيطاً إذا ما قيس بعالم الإنسان المركب المحفوف بالأسرار والتحديات، وكلاهما له حيّزه الخاص المُختلف عن الآخر، إلا أنّ الحيّزَ الإنساني نرى فيه احتوائه الحيّز الطبيعي في جسده بالإضافة للحيز الروحاني الذي تتجاهله الفلسفات المادية ولهذا يحدث الاختلاف حين محاولة تفسير الإنسان تفسيراً أحادياً، وعلى الرغم من ثراء الأدلة على ثنائية الإنسان، ترى من يزال يحاول أن يفسره تفسيراً أحادياً، لذلك فإن التفسير المبني على الحيّز الأحادي للإنسان لا يعادي الإله بقدر ما يعادي الإنسان نفسه، لأنه يضعه في مكان غير مكانه الصحيح.

ويرى الفيلسوف بوبر أنّ المعرفة الإنسانية في هذا العالم تتبع ثلاثة مستويات وهي:

  1. المستوى الأول، العالم الفيزيقي المادي: وهو عالم الحالات الفيزيقية والأشياء المادية.
  2. المستوى الثاني، عالم الذات: وهو عالم الوعي والشعور والميول النفسية والمعتقدات والإدراكات.
  3. المستوى الثالث، عالم المحتوى الموضوعي للفكر: وهو عالم العلم والفلسفة والأعمال الأدبية والفنية، وعرض المشاكل ومحاولات حلها، المناقشات النقدية، والنظم السياسية والتقاليد والقيم.

ويُبين بوبر أنّ العالم الأول عالم مستقل بذاته، والعالم الثاني هو الوسيط الذي يربط العالم الثالث بالأول، وهكذا يتصل الإنسان مع الطبيعة، يتصل فكره مع ذاته ليتفحص الطبيعة ويستكشفها، وكان أفلاطون وسبينوزا وشيلنغ وغيرهم يرون الله في الطبيعة، ويروا في روح العالم أنّ الكائنات كلها مترابطة كما لو أنّ الروح والجسد مرتبطتان في الإنسان، والإنسان وحده.

ومع تقدم العالم، بدأ الإنسان يأخذ مكانه فيه كما يجب، وما قيمة الإنسان دون وجود الله، سيكون مُجرَّد تفاهة كيميائية، وفي عصر النهضة بدأت الرؤية الإنسانية (الهيومانيزم) بالبزوغ، والتي تتبنى الإنسان كأساس لكل العمليات، وترى أنّ مركز الكون كامنٌ فيه، وهو الوحيد الذي يملك قدرات تستوعب العالم والهدف من وجوده فيه، هو الوحيد الذي يقدّر قيمة وجوده وقيمة الكون المصمم له، وإذا لم يكن الإنسان في هذا الكون، فمن سيفهمه ويُوجد له معنىً غيره، لكن على هذا الإنسان ألا ينسى حدوده ويغتر في نفسه، فما هو إلا مجموعة تجارب، تختلف من مكان إلى آخر، ولكنه لم يُحَط بكل التجارب، عليه أن يتواضع ويبتعد عن التبجح فنصف العلم أن تعرف أنك لا تعرف شيئاً لتستمر في البحث وتتوقف عن التهكم فيما لا تعرف.

الجنس

قديماً، ساد الاعتقاد أنّ المحرك الأساسي للإنسان هو الجوع، فالإنسان يجتهد ويعمل حتى يأكل ويشبع، ثم ساد الاعتقاد لاحقاً أنّ المحرك الأساسي هو الخوف من الموت، إلى أن أتى سيجموند فرويد لهذا العالم وأصرّ على أنّ المحرك الأساسي لحياة البشر هو الجنس! فمنذ ولادة الإنسان وحتى مماته وهو يتحرك بدافع الجنس، فهو يجتهد في الدراسة ليتميز أمام الجنس الآخر، ويلبس جيداً حتى يراه الآخرون جميلاً، ويتميز في حياته ويبحث عن العمل ليجذب انتباه الشريك وينتقيه، وباقي فعاليات حياته كذلك، قد لا نتفق مع فرويد في أنّ كل شيء يحركه الجنس، ولكن إلى حدٍ كبير فإنّ مُحركَ الإنسان هو الجنس، فحينما نرى في حياتنا أننا نرتاح لإطراءٍ واحد من الجنس الآخر أكثر من آلاف المديح من نفس جنسنا فهذا معناه أنّ فرويد على حق، وحينما أرى صديقي قام بإضافة كل الفتيات اللاتي يعلقن لي على صفحتي ولم يقم بإضافة أي شاب على حسابه، فهذا معناه شيءٌ واحد، أنّ الجنس يسيطر على تصرفاته وآلية انتقائه، الجنس ليس مرتبطاً بأعضاء معينة فحسب، فالرغبة في الحديث مع الطرف الآخر نوع من أنواع تحقيق الرغبة وإشباعها، والتعليق الجميل، واللايك على استحياء وغيرها، كلها بُنود تشبع الرغبة عند الإنسان.

حاول فرويد أن يثبت أنّ الجنس هو السبب خلف كل ما يصاب به الإنسان من اضطرابات نفسية، والأمر يعود إلى طفولة غير سليمة، لأن النفس في الصغر تكون مادة خام سهلة التشكيل وكلما ازدادت المؤثرات السلبية، كانت النتيجة سلبية، تجعل الشخص يحمل أمراضاً نفسيةً كثيرة لا تُمكنه من الاندماج في المجتمع بسهولة، وفي كتابه تفسير الأحلام وضع فرويد العديد من النظريات والتفسيرات للاضطرابات النفسية بناءً على منطلق الجنس، صحيح أنّ العديد منها تم دحضه من قبل علماء النفس لاحقاً، إلا أنّ تأثير فرويد كان جارفاً ومؤثراً، فالجنس مرتبط في كل نواحي حياتنا، وهو مرتبط في أعمق أعماقنا إذ يدخل في كثير من سُلُوكياتنا ونحن لا ندري، انظر مثلاً إلى عقيدة القوة عند الإنسان وكيف يؤثر الجنس عليها.

فلربما يكون محور العملية الجنسية يعتمد على الإحساس بالقوة والتحكم والسيطرة، فالرجل حينما يمارس متعته ويقبض على نفسه يشعر بالقوة وهو يسيطر على قوته، ويشعر بالدماء تتدفق وبصلابة جسده، تعتريه أحاسيس القوة سواء من جسده أو يده وهي تمسك القوة والمتانة من ذاته، من جسده القوي، من فحولته العالية، لذلك حينما يشعر الرجل بقرب لحظة النشوة تراه يضغط أكثر بقوة على جسده ويحاول أن يُبرزها بقوة، إنه يا سادة استعراض القوة.

وفي حالة الجماع فإن الرجل لا يشعر بيده تمسك قوته، فهو يستبدل ذلك بتحريك يديه على جسد شريكته وقد يشدد عليها أحياناً أو يتنقل من موضع إلى آخر للشعور بالمزيد من القوة بين يديه، وبملكية هذا الجسد، ويُغذي بذلك دماغه بهذه الإشارات، أما أعضاؤه في مرحلة الإيلاج فهي تحصيلٌ حاصل، لو استمرت العملية وقتٌ طويل دون الأحاسيس المرتبطة بالقوة فلن تنتهي بلحظة النشوة كتعبير عن بلوغ قمة القوة.

لذا لو مارس الرجل المتعة وحده وشعر بقوته فإنه سيصل إلى اللحظة المطلوبة، ولو مارسها مع امرأة وشعر بنفس الإحساس فسيصل إلى اللحظة المطلوبة أيضاً، ولو مارسها وهو مُكبلٌ وشعر بالقوة في خياله سيصل إلى اللحظة المطلوبة، أما أي مُمَارسة خارج الشعور بلحظة القوة فلن تحقق ذاتها.

أما المرأة فشعورها بمتعة الرجل يمنحها الإيمان بجسدها وبمقوماته، وأنها قامت بإخضاعه وتمكنت منه بقوتها، وأنّ جسدها وجمالها لا يزالان سلاحاً صلداً يمكن إشهاره في أي لحظة.

ولكن، ماذا عن الشعور بالقوة والاندفاع عند المرأة كما في عضو الرجل؟ فالمرأة لا تملك قوة عضوه والشعور بالعظمة حينما يكون في كامل قوته، قد يعوض جزءاً من ذلك شعورها بمفاتنها حينما تنظر إلى نفسها، أو حينما تتحسس نفسها وهي بكامل حجمها وبروزها، وتشعر حينما تتملك الرجل وتسيطر عليه بنشوة القوة، فهي غلبت قوة العنفوان وسحقته بقوتها، ونستذكر هنا عقدة إلكترا الذي ابتدعها فرويد، لذلك تزداد الرغبة في الشهوة حين القوة، حين الثراء، حين الإنجاز، وتقل حين الفقر والجوع واليأس.

إنّ هذا لا يعني أنه يجب على الإنسان أن يركز على عنصر القوة فقط في العلاقة الحميمة، لأن ذلك تفكيرٌ حيوانيٌ بحت، بل يجب أن يتحرر من هذا الشعور ويحلق في عالم الروح بدلاً من البقاء في عالم الجسد، يجب عليه البحث عن سبل أخرى غير القوة مثل الشعور بجمال الأريج، بالحديث، بتبادل الآراء، بالمسامرة، باستكشاف الحياة سوياً، بالعناق والمداعبة، بتأمل الجسد… إلخ، على الأقل إنّ البحث عن متع أخرى غير القوة أمر أساسي لتغيير روتين العلاقات، وما الذي يقتل العلاقة سوى الملل والرتابة، وما الذي يقتل الكبار إلا ضياع القوة، لذلك كلما كبر الإنسان تعرف على قيم أخرى بعيداً عن قيم القوة والصراعات والتملك والسيطرة، كانت غائبة عنه في حياته.

صورة 24 لوحة القبلة للفنان غوستاف كليمت، تصور زوجان يعانقان بعضهما البعض.

وفي ظل هيمنة صناعة الجنس على كثير من الشركات والمؤسسات، أصبح الجنس هوساً في كثير من مرافق حياتنا، جرب أن تفتح جوال أي شاب ستجده مليء بمقاطع ما، تجد الشاب يتابع مجموعات شبكات التواصل لمقاطع ساخنة تجعل القرد يطير فما بالك بإنسان، المقاطع والجنس والصور والانحطاط أصبح سُلُوكاً يومياً مثل الطعام والشراب، تفتح أفلام ومسلسلات نتفليكس فترى الشُذُوذ والانحطاط فيها، تكلم صديقك فيخبرك أنّ المحادثة اليومية مع أي فتاة تنتهي حتماً برؤيتها عارية ويتمنعن وهن راغبات، في كل مكان ترى أنّ الجنس هوساً يومياً وليس مُجرَّد لحظاتٍ عابرة، فمتابع المجموعات الاجتماعية يتابع الجنس كل ساعة ويرسله لصديقه، ويمارسه كأنه أسلوب حياة.

يُصاب الإنسان جراء هذا كله بسعارٍ جنسي لا إرادي يجعله مستثاراً طوال الوقت، يود لو يختلس النظر إلى جارته، ويرغب بأن يحظى بلقاء مع قريبته كما في الفيلم، ويتمنى أن يخرج فلان من منزله فيسترق قبلات من زوجته، أو يتقرب لخالته، ويتلصص على فتاة في السيارة ليحصل أي مفاتن منها، فالجنس سيطر على عقله بالكامل، ثم نقول من أين جاءنا التحرش، وكأننا لا نعلم ما الذي يدور بين الشباب والرجال وبعض النساء في هذا الزمان بسبب انتشار الإباحية الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لكل الممارسات الشاذة في المجتمعات بدءاً بزنا المحارم وانتهاءً بجماع الحيوانات.

ثم لننظر إلى قضايا الشُذُوذ ومنها شُذُوذ الحيوانات والشجر والحجر، في هذا العالم أفكار تجعل الحليم حيراناً، لا أعرف بأي عقل يفكر الذي يتزوج صديقه ويفكر بأن ينجب طفلاً صغيراً؟ أو التي تتزوج صديقتها وتفكر في إنجاب طفلٍ صغير، ثم يقولون سنتبنى طفلاً وكأن الأمر طبيعي جداً، الإنجاب هو نتاج نطفة ذكرية يزرعها الرجل في رحم امرأة، تنشأ بينهم مشاعر معينة يحملها الأب بصفته المسؤول والراعي والقدوة، وتحملها الأم بصفتها الحاضنة والقلب والعاطفة لهذا الطفل، ولا أتفهم فكرة أن نقبل بتبني طفل في عملية ضدها شخصين.

أشتري سيارة ثم أريد لها أن تطير! أُوقع كأس العصير على الأرض، وأطلب من زوجتي أن تحبني! أضرب ابني ثم أطلب منه أن يطيعني، مشاعر غير متجانسة ولا يمكن أن تتوافق، شُذُوذ وإنجاب وحب أبوي؟ أي أبوي وأمومي بين عملية غير كاملة، تريد لكهرباء أن تسري في سلكين موجبين، أم في سلكين سالبين، لا يمكن، فالكهرباء لكي تسري بحاجة إلى سلك موجب وسلك آخر سالب.

صورة 25 لوحة العشاق 2، للفنان رينيه ماغريت.

لقد أُجريت دراسات متنوعة حول الشاذين وأسباب انتحارهم أثبتت أنهم الأكثر عرضةً للأمراض النفسية، وهُنَاك دراسات أخرى تقول عكس ذلك كله، لكن الدراسات الأخرى التي تبين أنّ مشاكل الطفولة النفسية والتحرش في الصغر وغيرها ستؤدي إلى مشاكل نفسية ولربما قٌبول فكرة الشُذُوذ هروباً من مواجهة آلامها لهي دراسات أكثر ولها خلفيات علمية أفضل.

إذا قمت بالبحث عن الجمال والنعومة، فإن الأنثى هي العنوان، أما لو أردت الخشونة والعضلات لبحثت حتماً عن الذكر، ولكنا نرى أنّ الرجال يتزينون لكي يكونوا كالإناث فيبحث الذكر عن الذكر المؤنث ويترك الأنثى الحقيقة والعكس كذلك، تبحث الأنثى عن الأنثى المذكرة، وتترك الذكر الحقيقي، تغيير كامل وقلب الهوية الجنسية بلا معنى، تريد عزيزي الذكر خشونة، فلتقع في غرام شاب خشن أما أن تبحث عن شاب ناعم كالفتيات لهو أمرٌ عجيب، فلتبحث عن فتاة وتريح الجميع.

يجري الحديث كثيراً في الآونة الأخيرة حول الفرق بين الجنس والجندر والهوية الجندرية، أما الجنس فهو الشكل الحيوي لأعضاء الجسم، يقوم الطبيب بتحديده عند الولادة حسب الأعضاء التناسلية لدى المولود، ويتم تسجيله كذكر أو كأنثى كما اعتادت البشرية منذ أبعد الأزمان على هذه الخطوة، وأضيف حديثاً فحص الكروموسومات والذي يحدد بشكل قاطع في حالة وجود مشاكل ظاهرية الذكر من الأنثى، فالأنثى لديها الكرموسومات XX والذكر XY.

أما الجندر فمن المفترض أنه هو الحالة الاجتماعية بحسب توقعات المجتمع حول التصرفات والصفات المميزة والأفكار، وجدير بالذكر أنّ لكل ثقافة مواصفاتها العامة حول الطريقة التي يجب أن يتصرف بها الناس حسب جندرهم، أخيراً الهوية الجنسية أو الجندرية التي تشير إلى كيفية شعور المرء بداخله، وكيفية تعبيره عن ميوله من خلال اللباس والتصرفات والمظهر الشخصي.

تتشكل الهوية الجندرية في سن مبكر، على الأغلب في الثالثة، فيُلاحَظ ميل الفتيات إلى الدمى وأدوات الرسم في حين يميل الذكور إلى أدوات البناء والألعاب الثقيلة، وبعد هذا العمر يصبح من الصعب تغيير الهوية الجندرية، وهُنَاك عوامل مُختلفة تؤثر في تحديد هذه الهوية على رأسها العوامل الهرمونية والجينية قبل الولادة وبعدها ومن ثم يساهم المجتمع في الباقي.

من بين كل مائة شخص تظهر أعراض التداخل على فرد واحد إذ تجتمع الصفات المذكرة والمؤنثة فيه، وهنا تبرز المُشكِلة الحقيقية في تحديد الجنس والهوية الجندرية، وتبدأ رحلة نفسية في تحديد ميول الشخص الجنسية، هل هي في اتجاه الرجال أم في اتجاه النساء، مع عوامل حيوية ودراسات معينة يتم تحديد الهوية.

في القرن العشرين، ظهرت مُشكِلة قلبت العالم وهي ظهور بعض الأشخاص يمتلكون أعضاءً جنسية واضحة لكن بسبب تأثير المجتمع أو الأسرة أو عوامل أخرى، بات لديهم ميولاً جنسيةً معاكسة، ولعبت المؤسسات التي تريد تغيير كل ما في الإنسان دورها كالمعتاد، وقالت إنّ الإنسان له الحُريّة في تحديد هويته الجندرية، وهذا أدى إلى بروز مشكلات كثيرة لاحقاً، أكثر مما تخيّل المنادون به.

وفي مثال حالة جون – جوان ريمر تأكد العُلماء من أنّ العوامل الحيوية تؤثر على الهوية الجندرية منذ الولادة، وأثبتت بعدها هذه الحالة أنّ الأعضاء التناسلية للشخص قد يكون لها أعلى تأثير على هوية الإنسان الجندرية، وفي دراسة قامت بها هيلاري هالبيرن مفادها أنّ سُلُوكيات الوالدين ذات دور رئيسي في تحديد هوية الطفل الجندرية، وهي ما تم إثباتها لاحقاً من قبل علماء آخرين، أكدت هذه الدراسة أنّ الأم تحديداً تملك التأثير الأشد في تشكيل اعتقاد الطفل بهويته، فالأمهات التي تتصرف بأنوثة مبالغ فيها أمام أطفالها، نلاحظ أنّ أطفالها الصبيان لا يتصرفون طبقاً للقواعد الذكورية.

المشكلات الجندرية السابقة هي تقريباً المشكلات نفسها التي تلحق بالشُذُوذ الجنسي، فلو كان لدينا شخصٌ يعاني من مشكلات نفسية بسبب تأثير البيئة والمجتمع، فإنه يجب أن نبحث عن علاج له، لكن بدلاً من علاجها بشكل منفصل نفسياً، يتم تنميتها وكأنها أمرٌ صحيح، وفي هذا الصدد لا أعلم لماذا لا يتم قٌبول باقي الأمراض النفسية مثل الانفصام والوسواس والجنون من ضمن السُلُوك الطبيعي.

إنّ الأمراض -مرة أخرى- نافذتنا على فهم أوضح لآلية الهوية الجنسية، فكما ذكرنا أنّ كل البشر يكونون إناثاً في أرحام أمهاتهم، وفي مرحلة معينة حسب الكروموسومات يتم إفراز هرمونات تقوم بتحويل الجنين إلى ذكر، أو أنه يبقى أنثى كما هو.

في إحدى الأمراض الجندرية، يتم تحديد جنس الجنين على أنه ذكر حسب الكروموسومات، وتبدأ عملية إفراز هرمون التيستيرون لتحويل الجنين إلى ذكر، إلا أن مُشكِلة ما تحدث في حساسية الخلايا لهذا الهرمون، فيستمر الجسم في شكله الأنثوي، مع أنه جينياً ذكر، وقد سجل العلم الحديث حالات كثيرة مشابهة، فتاة لم تأتها الدورة الشهرية، وكانت تَفُوق زميلاتها في الرياضة والبنية الجسدية، ثم بعد الزواج بسنين طويلة وبسبب عدم قدرتها على الإنجاب، قامت بإجراء فحص جيني فاتضح أنها رجل.

هذه النافذة وغيرها سمحت لنا أن نفهم أنّ الكروموسومات هي من تحدد هويتنا بدرجة أولى، وأنها الأساس في كل قياس، فبعد الولادة يتم تسجيل الطفل بناءً على أعضائه إذا كانت ذكرية أم أنثوية، أما إذا كانت غير ظاهرة، فيمكننا البدء في إجراء العمليات والعلاجات النفسية والحيوية، أما تأثيرات المجتمع والأسرة فهي ثانوية، وإن حدثت وحصل تداخل بين الهوية الجنسية الحقيقية عبر الأعضاء الحيوية الظاهرة وبين الأفكار والميول الفكرية، فيجب علاج الشخص نفسياً وتوجيهه كما يُظهر جسده.

اتخذت حكومة الرئيس الأمريكي ترامب قراراً بإعادة مفهوم الجنس إلى ما كان عليه سابقاً، بناءً على الأعضاء الحيوية وليس بناءً على الميول الجنسية، فإن كان لديك عضواً ذكرياً فأنت ذكر، وإن كنت تملكين عضواً أنثوياً فأنت أنثى، أما القضايا الشائكة بناءً على الميول والرغبات أمست غير مقٌبولة الآن.

فمثال الأم المنفصلة عن زوجها والتي تكره الرجال، وتضع في عقل ابنها الصغير أنه فتاة، وتشتري له ملابس الفتيات وتزينه وتعامله كفتاة، ثم تطلب أن يتم تحويله جنسياً، والطفل المسكين لا قرار له أمام ضغط أمه، ووالده يسعى جاهداً لمنع هذا، والدستور يكفل للأم تحويل طفلها لأنه يدعي أن ميوله أن يكون فتاة، هذا لم يعد مقٌبولاً بعد اليوم.

يقول الدكتور بول ماكهيو: “الرجال المتحولون جنسياً لا يصبحون نساء، ولا النساء المتحولات جنسياً يصبحن رجالاً، إنهم يصبحون رجالًا متأنثين أو نساء مسترجلات؛ إنهم نسخٌ مزيفة للجنس الذي يسعون إليه”، وأضاف أيضاً أنّ تغيير الجنس أو إعادة تعيين الجنس مستحيل من الناحية الجسدية؛ وهو لا يوفر في كثير من الأحيان الكمال طويل الأمد والسعادة المنشودة التي يبحث عنها الناس.

وقد لخصتْ صحيفة الجارديان نتائج مراجعة أكثر من 100 دراسة متابعة للمتحولين جنسياً بعد الجراحة من قبل مكتب استخبارات أبحاث العنف بجامعة برمنغهام، إذ خلُص مكتب استخبارات أبحاث العنف، إلى أنّ أياً من الدراسات لا تقدم دليلاً قاطعاً على أنّ تغيير الجنس مفيد للمرضى، ووجدت أنّ معظم الأبحاث كانت مصممة بطريقة سيئة، مما أدى إلى تحريف النتائج لتشير ظاهراً إلى إمكانية تغيير الجنس جسدياً، ولم يكن هناك تقييم لما إذا كانت العلاجات الأخرى -مثل المتابعة والتوجيه طويل المدى- قد تساعد المتحولين جنسياً، أو إذا ما كان الالتباس الجنسي لديهم قد يقل بمرور الوقت.

وقد توصلت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما إلى استنتاجات مماثلة، ففي عام 2016، قامت مراكز الرعاية الطبية والخدمات الطبية بإعادة النظر في ما إذا كان يجب تغطية جراحة تغيير الجنس ضمن خطط الرعاية الطبية؛ وعلى الرغم من تلقي طلب بأنّ تغطيتها إلزامية، إلّا أنّ الإدارة قد رفضت، وعلّلت ذلك بافتقارها إلى أدلة تفيد أنّ عمليات التحول الجنسي مفيدة للمرضى، وقد أشارت المذكرة النهائية إلى الآتي: ” كانت جودة وقوة الأدلة منخفضة بسبب تصاميم الدراسة القائمة على الملاحظة في الغالب مع عدم وجود مجموعات مقارنة ونقاط مرجعية ذاتية، ووجود التأثير الخارجي المحتمل، واستخدام أحجام العينات الصغيرة، ونقص أدوات التقييم المعتمدة، وفقدان كبير للمتابعة (قد يكونوا انتحروا)” [167] .

وعندما يتعلق الأمر بأفضل الدراسات، لا يوجد دليل على حدوث تغيرات سريرية ذات أهمية بعد جراحة تغيير الجنس، وفي مناقشة لأكبر وأقوى دراسة -الدراسة التي أجريت في السويد التي ذكرها ماكهيو- أشارت إلى تكرار حالات الانتحار ومجموعة أخرى من النتائج السيئة بعد إجراء جراحة تغيير الجنس [168]، وقد رصدت الدراسة زيادةً في معدل الوفيات واللجوء إلى العلاج النفسي مقارنة بالمعدلات الطبيعية، إذ كان معدل الوفيات في المقام الأول بسبب حالات الانتحار التامة (معدل أكبر بـ 19 مرة من المعتاد)، في حين تضاعفت الوفيات بسبب الأورام وأمراض القلب والأوعية الدموية بمقدار 2 إلى 2.5 مرة. نلاحظ أنّ الوفيات من هؤلاء المرضى لم تظهر إلا بعد 10 سنوات.

كان خطر دخول المستشفى النفسي أكبر بـ 2.8 مرة مما كان عليه حتى بعد تعديل المرض النفسي الأولي (18%)، وكان خطر محاولة الانتحار أكبر في المرضى المتحولين من الذكور إلى الإناث، بغض النظر عن الجنس المهيمن على المريض. علاوة على ذلك، لا يمكننا استبعاد التدخلات العلاجية كسبب للاضطراب النفسي والزيادة الملحوظة في عدد الوفيات، ومع ذلك، ليس هناك دراسة مخصصة لتقييم تأثير جراحة تغيير الجنس في حد ذاتها، هذه النتائج مأساوية؛ وتتناقض بشكل مباشر مع الروايات السائدة في وسائل الإعلام، بالإضافة إلى العديد من الدراسات التي تلتقط لحظة معينة في حياة المتحولين ولا تتتبعهم بمرور الوقت كما أوضح مركز أوباما أنّ الوفيات لم تظهر إلا بعد 10 سنوات.

يُظهر العلم الحديث أنّ نظامنا الجنسي يبدأ بحمضنا النووي، وأنّ الاختلافات الجنسية تظهر في العديد من الأجهزة والأعضاء الجسدية، وصولاً إلى المستوى الجزيئي، ويحتوي الجسد على الأقل على 6,500 اختلاف جيني بين الذكر والأنثى.

وقد ذكرت ديانا آدكنز “إنّ قضية تغيير الجنس قد تحولت من الأمراض العضوية والاضطرابات النفسية إلى الاختيارات والأهواء الشخصية، فقد يصبح المرء ويقول: أنا ذكر؛ ثم يأتي المساء ليقول: أنا أنثى” [169]، يشير جوردان بيترسون أستاذ علم النفس في جامعة تورونتو الكندية إلى أنّ فكرة الجنس البيولوجي والهوية الجنسية (الجندر) أمران مستقلان عن بعضهما البعض هي فكرة سخيفة بكل وضوح، لأنّ 99.7% من الذكور والإناث بيولوجيًا يعرفون أنفسهم كذكور أو إناث بطريقة تلقائية وطبيعية”، هذا ما أكدته دراسة نُشرت في مجلة The New Atlantis عام 2016 إلى أنّ الافتراض القائل بأنّ الهوية الجنسية هو أمر مستقل عن الجنس البيولوجي هو مجرد افتراض لا تدعمه الأدلة والعلمية، ومن غير المعقول أن يخبرنا شخص أنه لا يشعر بفائدة يديه فنقوم بقطعها، أو يخبرنا شخص أنه لا يشعر بأنه رجل، فنقوم بتغييره دون علاج نفسي سلوكي… إلخ، آه نسيت، هذا أمر رجعي الآن.

الحيوانات والجنس

كثيراً ما يتم مقارنة البشر بالحيوانات، فتشابه العملية الجنسية بين القردة العليا والإنسان متقارب جداً، وهذا ما قد يدفع البعض إلى الاعتقاد بوجود عملية تطورية، فالسُلُوكيات كما رأينا تختلف في الكائنات التي تطورت من بعضها البعض، لكنه يبقى تساؤلاً ممكناً، لا أملك إجابة مقنعة، هل أنّ الخالق يريد أن يذكرنا بأنفسنا إن نسينا أخلاقنا، هل هُنَاك رسائل أخرى لندرسها حيوياً، ثمة دروس كثيرة لنتعلمها من دراسة الأجناس الأقل، مثل الوفاء والإخلاص والرعاية والمأكل والمشرب والأمومة وغيرها مما وضّحها العُلماء المختصين، إلا أن البشر يختلفون اختلافاً كلياً في حياتهم الجنسيّة عن الحيوانات، بل ويظهرون متناقضين مع العديد من خيارات التطور المعروفة.

يتخيل جاريد دايموند في كتابه متعة الجنس كلبين يتحدثان سوياً عن الجنس عند البشر، فيقول الكلب الأول: تخيل يا صديقي أنّ السيدة لديهم تنام مع زوجها حتى وهي غير جاهزة للتخصيب، تخيل أنّ الرجل يجامع زوجته يومياً دون أن يكترث بعدم جدوى الجماع في غير فترة الخصوبة!، إنه يهدر حيواناته المنوية.

ويرد صديقه معقباً: المقزز أكثر هو ممارستهما للجنس أثناء حمل الزوجة! بل والأغرب من ذلك ممارستهما الجنس بعد انقطاع طمثها، بل والأدهى ممارستهما للجنس في غرف مغلقة وليس علانية كما يفعل الجميع.

وللبشر قيمٌ تختلف عن عالم الحيوان، منها:

  1. يكونون شراكة جنسية طويلة الأجل مبنية على شريكٍ واحدٍ في الأساس، بعكس عالم الحيوان الذي تتنوع العلاقات بلا كوابح في كل مرة يرغب فيها الحيوان بمُمَارسة الجنس، بل قد ينكح الحيوان أمه ولا مُشكِلة، والسبب أنّ الجنس في عالم الحيوان غريزة للتكاثر وحفظ النوع، أما في عالم البشر فهي للمتعة أولاً.
  2. يشارك كلُّ من الأب والأم في رعاية الأبناء، بعكس عالم الحيوان الذي غالباً ما تكون مسؤولية الأم، والتي يتركها الذكر ويذهب إلى البحث عن أنثى أخرى تاركاً أبناءه بغريزتهم، البشر وحدهم من يهتمون بالتربية لأنهم مخلوقون للعمارة والبناء.
  3. يمارس البشر الجنس في السر وفي الغرف المغلقة أما الحيوانات فيمارسونه في العلن أمام شاشات التلفاز.
  4. لا تبدو مظاهر التبويض واضحة عند المرأة أما في عالم الحيوان فإن الأنثى تبدو عليها علامات واضحة مرورها في فترة التخصيب، فالغربان مثلاً تطلق صوتاً خاصاً في زمن التزاوج، وقرود البابون تظهر مؤخرتها الحمراء التي يمكنك رؤيتها من مدى النظر.
  5. انقطاع الطمث عند المرأة بعد سن معين، معاكساً لكل الحيوانات حتى القردة العليا، فعالم الحيوان يسعى للتكاثر فقط، أما عالم البشر فمصمم ليكون هُنَاك مقياس للحالة النفسية والجسدية لكل من المرأة والرجل.

وهكذا نرى أنه من الخطأ الشديد مقارنة البشر بالحيوانات جنسياً، ومن الخطأ استنتاج علاقات حيوانية بيننا، ومن الخطأ محاولة إسقاط هذه المشاهدات على البشر قائلين: وما المانع، فما نحن إلا حيوانات تبحث عن شهوتها.

صورة 26 لوحة ليلة النجوم للفنان فينسنت فان كوخ من نافذة غرفته في المصح عام 1889م.

الوجود

صنع البشر الحاسوب ليساعدهم على توفير الوقت والجهد وللانطلاق في عوالم لم يحلموا بولوجها، ولكن، لماذا صنعنا خالق هذا الكون في حين أنه لا يحتاج إلى الانطلاق في عوالم أو توفير الوقت والجهد؟ هذا السؤال الذي يراودنا في كل لحظاتنا خصوصاً لحظات الحزن واليأس، يا ربّاه، لماذا كل هذا العناء!

لنفترض أنّ الخالق وضع أمامنا الجواب، فهل سيفهم الحاسوب الهدف من وجوده، يستحيل أن تتم عملية الفهم هنا، حتى لو قام صانع الحاسوب بقوله للحاسوب: لقد صنعتك لتساعدني، سيتساءل الحاسوب قائلاً: وما حاجة صانع عبقري مثلك بمصنوع مثلي!

ما زلنا نقيس العلة على صانع العلة، ولكي ننجح في القياس يجب أن يكون بحوزتنا أدوات مُختلفة من عالم آخر، وهذا ما لن يحدث يوماً، لن يكون الهدف من خلقنا كما ما هو الهدف من صناعة الحاسوب، أنا الآن صانع للحاسوب وأفهم قدراته وأفهم قدرات ما صنعت، لكن يختلف الحال حينما تكون مصنوع وتحاول فهم كيف للصانع العبقري الكامل أن يصنعنا وما الهدف، حين تحاول قياس الهدف والعلة من عالمك على شيء أكبر وبمفاهيمك، لن تستطيع فهم السبب على الإطلاق، ومهما قرأت عزيزي الإنسان من كتب وبحثت فإنك لن تجد سبباً واضحاً وكافياً.

وفهم مقاصد الوجود، لا يدركه كل العقول، ولن يجيبك الدين على كل الأسئلة التي تبحث عنها، بل وهُنَاك أسئلة لن نحصّل إجابتها أبداً لأننا لن نعيها، وعلى الإنسان التواضع، قبل 500 عام كان يعتقد هذا الإنسان أنّ الأرض مركز الكون، وقبل 100 عام اكتشف أنّ المجرات أكثر من عدد الرمال، وقبل 10 أعوام اكتشف أنّ الجاذبية عبارة عن موجات تثاقلية، وهو يعتقد أنه قد طوى المعرفة بين كفات يديه.

لكن لماذا يا رب أعطيتني هذا العقل الناقص، وتريدني أن أصل وأبحث وأنت تعلم أني قد لا أصل، وإن وصلت لن أصل إلى الصورة الكاملة عنك، لماذا؟ وعلى ما يبدو أنّ إجابة هذا السؤال تكمن في أنّ الهدف هو السعي، و70% هي الدرجة الكاملة للنجاح، ثم إنّ فكرة وجود غاية للخالق في أن يخلق مخلوق تجعله ناقصاً يبحث عن غاية لتسد فجوة لديه، لذا سيكون من غير اللائق السؤال، ماذا يريد الله بخلقنا له، حتى لا نُسقط العلة على صانع العلة.

إنّ الإنسان قابل للبرمجة، كأي جهاز يمكن إعادة برمجته مراراً وتكراراً، يمكن لأي جهة برمجية أن تعيد كتابة لوائح عقله وتهيئة آلية تفكيره بطريقة مُختلفة عما عهدها، والفترة اللازمة لإعادة البرمجة قصيرة جداً، قد تكون شهوراً كافية، والإنسان يولد بقابليات، أي أنّ الإنسان لديه قابلية لاستيعاب أفكار معينة وتبنيها ومن ثم الدفاع عنها وكأنها الحقيقة المطلقة في هذا الوجود.

في الحياة العسكرية حينما يتم أخذ أي مواطن من الحياة المدنية، وتتم محاولة دمجه في الحياة العسكرية، تستغرق العملية أشهر، ثم يعيش في محيط كله أوامر، ونمط صارم من القوانين والقرارات والنواهي يلتزم بها دون إبداء أي رأي، ودون إظهار أي انزعاج، وفي أي لحظة تقل قبضة الرقابة العسكرية والأوامر القيادية يشعر حينها العسكري بوجود مُشكِلة وأنّ خللاً ما في حياته ويجب إصلاح هذا الأمر، في حين أنّ الإنسان المدني المراقب للأمور من منظورين، منظور الرقابة القاسية، ومنظور الرقابة غير المشددة يشعر بأن الثانية هي أقرب إلى الحياة الصواب، لكن العسكري اعتاد على النمط القاسي، فيراه هو الصواب.

حتى بعد انطلاق العسكري إلى الحياة المدنية تراه يواجه مشكلات وعقبات شتّى في التواصل مع المحيط المدني، فقد تم برمجة عقله على النمط العسكري، وهو بحاجة إلى سنوات لاستعادة العقل المدني، وتبقى في النهاية خيوط من التفكير العسكري في منوال عقله، هذا ما يحدث في حياتنا العادية، فنحن قد تم برمجتنا وفق نمط تفكير معين، على نمط أنّ دين الآباء هو الصواب، وأنه لا يمكننا قٌبول أي شيء غيره، العادات والتقاليد، الطقوس والعبادات، كلها تم برمجتنا عليها.

إنّ الموروث الديني في عقولنا هو برمجة أكثر منه اقتناعاً، وهو ما يحدث في كل أنحاء العالم، ولا يفلت منه إلا من كان يملك عزيمة قوية في التفكير خارج الإطار الذي رُسم له واعتاد على التفكير بداخله، ولو صادف أنّ أحداً ما يفكر في خارج الأسئلة المألوفة ويسأل عن الوجود والخلق والإله، فسيواجه هجوماً حاداً، قد يودي به إلى الانهيار إن لم يكن قوياً.

صورة 27 لوحة الخروج من القطيع للفنان توماس كوبيرا.

لكن في هذا الوجود الإيمان أمر مهم، ولا أقصد الإيمان الديني فقط، بل الإيمان بشكل عام، وهل هُنَاك قصة بشرية عظيمة حدثت دون الإيمان؟ هل هُنَاك ثورة أو ابتكار أو إنجاز سمعنا عن حدوثه لولا إيمان الإنسان بأن قدراته غير محدودة، وأنّ قدراته تَفُوق الكيمياء التقليدية، وأنّ القوانين ليست إلا حدوداً عقلية لا أكثر، إنّ الإيمان هو ما جعل الإنسان خارقاً، يطير ويبتكر ويستكشف، والإنسان بلا إيمان روبوت بقواعد ثابتة وقيود صارمة.

الإيمان بقضية يجعل للحياة معنى، يجعل لها غاية، هكذا تم برمجة الحياة، يجب أن تكون لها غاية، وصولاً للغاية الكبرى كما نعرفها، إذ أن غاية الحياة هي الموت، غاية الوجود هو الفناء.

الخلود

وعودة إلى الموت للمرة الثانية، لعل الموت أحد أكبر المزايا التي نتمتع بها ولا نشعر بفضلها، ولعل في صراع الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية كما في بروميثيوس وزيوس خير دليل على سعي الإنسان الدائم للحصول على المزايا الثلاث للآلهة عند البشر وهي عمارة السماء والخلود واكتمال المعرفة، ومع تقدم العلم بدأ البشر بالوصول إلى السماء، بل واستعمارها، وبالتقدم التكنولوجي تمكن البشر بالعقل الجمعي من ردم هوة التفكير الأحادي بين الأفراد حول العالم، وظل لهم حل لغز الخلود ليمسوا بشراً غير فانين، وتتحقق أحلام البشرية منذ الأزل بالتأله التام، لقد قطع العُلماء شوطاً لا بأس به بمضاعفة أعمار البشر، ولا يزال عملهم قائماً على قدم وساق لمضاعفة هذه الأرقام، ولنستعرض بعض من الحالات التي يجب نقاشها في الموت والخلود، مثل افتراض وجود إنسان لا يشيخ ولا يكبر يعيش أبد الدهر، فيكون السؤال ما هي المتع التي سيشعر بها بعد أن ينهي كل متع الحياة؟ بعد أن يجرب كل شيء، الحب والزواج والمال والأبناء والتربية والصداقة والحرب والسلم ويكررها عشرات المرات، ماذا بعد؟ نحن في كل فترة في حياتنا نبحث عن تحدٍ جديد، حتى في أوج لحظات السعادة نبحث عن المزيد من المتع، ولو تكررت المتع لمللنا منها وبحثنا عن الجديد، ولكن ماذا بعد تجربة كل المتع؟ قرأت ذات مرة أنّ جزء ممن يتجه لتجربة الشُذُوذ هو ملله من الجنس التقليدي، فقد جربه في كل حالاته، مع حبيبته ومع زوجته وخان زوجته مراراً وجربه في البيت وعلى السطح وفي الغابة وفي منزل صديقه وغيرها من الصور حتى استنفد كل الخيارات، فبحث عن متعة جديدة قائلاً: ماذا بعد؟

والمخرج حينما يتكرر إنتاجه سلسلة أفلام ويجعل البطل يمر بكل المراحل، مرحلة الضعف ثم القوة ثم الفداء ثم الشر ثم العودة لرشده والحب والسلام والحرب والإنجاب، يقرر في الجزء الأخير أن يميته ويتخلص منه بأي وسيلة، فالجمهور يبحث عن حالات جديدة للشخصية لم تُستنفَد سابقاً، ماذا بعد استنفاد جميع الخيارات والحالات!

دعونا نرى حالة أخرى، إنسان يشيخ ويكبر لكنه لا يموت موتاً حيوياً، يموت فقط في حالة موت فيزيائي كحادث أو حريق أو غيره، ولكن ما هو طعم الحياة بالنسبة لشخص بلغ التسعين وفي حياته التالي:

  1. مات كل أو أغلب أصدقاؤه الذين يعرفهم ومعارفه ومن شكّل معهم علاقات موتاً فيزيائياً، ويجلس الآن وحيداً يبحث عن علاقات جديدة، وحتى لو بقيت العلاقات القديمة بدرجة كبيرة، فقد استُنفدت بالكامل واستهلك الحديث فيها.
  2. يعيش في زمن غير زمانه فلا طاقة لديه للتعلم أو البحث، لا يعرف ما هي الشبكات الاجتماعية، ولا يعرف أبسط الأمور التي يعلمها الأطفال في هذا الزمان، كان سبق وأن اضطر لتعلم استخدام أدوات الكهرباء، وقبلها اضطر لتعلم استخدام البيوت الحديثة بدلاً من القشية الطينية وقد ترك مهنته القديمة واضطر ليتعلم مهنة جديدة لكي يعيش … إلخ، وغيرها من التبعات لتغير الزمان والحضارة.
  3. انتهت كل طموحاته ولم يعد هُنَاك المزيد، فقد جرب كل شيء، وبنى كل شيء، ولم يتبق لديه طموح لأي شيء إضافي!

هل سيكون هُنَاك معنى إضافي في حياة هذا الإنسان، في شخص يشيخ ولا يموت، وغزت جسده الأمراض والآلام، سيكون حينها الخلود سرطاناً يمنعه من الموت ويبقيه حياً.

وماذا عن صيرورة الحياة، ماذا لو أتى شخصاً يعيش إلى الأبد ولا يشيخ ولا يكبر، ولا يهتم بالإنجازات، جرب كل شيء ولم يمل، يخاف من الموت فتشبث بالحياة للأبد، ماذا لو كان هذا الشخص حاكماً ظالماً أهلك الحرث والنسل، كرهه العالم وتمنى كل يوم خلاصه؟ ماذا لو كان هذا الشخص هو أب بخيل جداً وقاسٍ؟ ينتظر أبناؤه موته ليعيشوا الحياة، ماذا لو كان مدير شركة ملك العالم؟ أو أنّ الأغنياء بشكل عام عاشوا للأبد كما في مسلسل Altered Carbon وملكوا العالم، فبعد مئات السنين من سيستطيع ألا يكون عبداً لهؤلاء الأغنياء، كيف سيحدث تسليم الحياة وتتابعها من جيل إلى جيل إذا كان الجيل الكبير مُسيطراً لا يموت؟ ماذا لو كان هذا الشخص الأفضل في العالم، امتلك الحكمة والموعظة الحسنة، وعاش أبد الدهر، حينها سيُقدسه العالم باعتباره إله كما في فيلم The Man from Earth.

دعونا لا نفكر في احتمالات بعيدة، ماذا لو عاش أحدنا اليوم مئتي عام؟ لا أستطيع أن أتخيل كيف سينتظر الموت كل دقيقة، ماذا بعد أن تخوض كل التجارب ولا تعرف ماذا ستخوض غيرها، بمعنى أنك ختمت الحياة، فبعد أن يدرس الإنسان ويتزوج وينجب ويعمل ويسافر ويبني ويشتري ويصادق وينجح ويخسر ويبحث وغيرها، ماذا سيفعل؟ سيعزف الموسيقى؟ ثم ماذا؟ ما الخطوة التالية، خدمة الناس؟ لمئة عام؟ سيبحث عن حب من جديد، سينجب من جديد! ولا أعلم هل لأنّ عقلي قاصراً لا أستطيع تخيل هذا الأمر أم أنه فعلاً كما ذكرته للتو.

كُتب لكثير من الكائنات الخلود البيولوجي، كالبكتيريا، فهي تنقسم بلا نهاية وقنديل البحر الخالد Turritopsis nutricula الذي حين يصل إلى مرحلة النضوج الجنسي يقوم بإعادة جسده إلى مرحلة سابقة في السن من جديد ويكرر العملية إلى الأبد، ويستطيع تجديد خلاياه وأجزاء جسمه دائماً، أو كالسلمندر أو كنجمة البحر وغيرها من الكائنات، أما الإنسان فلم يُكتب له الخلود، إنّ حياته مصممة من قبل مصمم مبدع، صممها بطريقته الخاصة، فالإنسان يجب أن يفنى ويموت، ولكي يموت عليه أن يكبر، ولكي يكبر يجب أن تتساقط ملذات الحياة الواحدة تلو الأخرى، ولربما كان مصاباً بالأمراض، فيبدأ في انتظار الموت، حتى لو كانت الحياة خالدة لتمنى الإنسان الموت، لأنه بعد سن معين كما رأينا تصبح الحياة بلا معنى، ويمسي الرحيل هو القطار الذي ينتظر الإنسان استقلاله، يرتاح حينها الإنسان إذ يعرف الحقيقة متأخراً، وأي تأخير! فالحقيقة المتأخرة جحيم، كما يرى سيوران.

المرأة

قبل الحديث عن قضايا المرأة المُختلفة، لا بد من البدء بأن كل الرجال كانوا نساءً في بطون أمهاتهم، والسؤال الذي أدّى إلى هذه فهم الحقيقة كان: لماذا يملك الرجل ثدياً ولا يستخدمه للرضاعة مثل المرأة؟ الرجل رجل، ولكن لديه أثداء! لماذا؟

في الحقيقة إنّ كل البشر في بطون أمهاتهم في أول 6 أسابيع من الحمل يكونوا نساءً، إلى أن تبدأ عملية التحول إلى رجل أو البقاء أنثى حسب الكروموسوم Y والهرمونات المفرزة له، هذا يُبين أنّ المرأة هي أساس الوجود ثم أتى الرجل لاحقاً منها، ومن هنا يجب مراجعة رواية التوراة بأن الرجل سبق المرأة في الخلق، كما يقول سفر التكوين: “فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم”، لكننا نعلم أن لا شيء من قوانينا العقلية يجب أن يسير على قوانين ذاك العالم، حليناها.

ولو مات كل الرجال في هذا العالم، لتمكنت النساء من التكاثر دون رجال، ولو حدث العكس لفني هذا العالم، فيا أيها الرجل، ما غرك بنفسك الثانوية وتتكبر على الأنثى دائماً، ويا أيتها المرأة، رفقاً بهم، فالرجال ضعاف وهم فروع لكنّ، وتجب عليهم رأفتكم.

لكن نيتشه يرى غير هذه الحقيقة فهو يقول: “لا أستطيع الجزم بأن القسوة على المرأة أحياناً أمر جيد أم لا”، ومن بعده رأت علوم النفس أنّ هُنَاك جزءاً مازوخياً في الإنسان يحتاج إلى تغذية من حين إلى آخر، وهناك نوع فريد من الحب يأتي بعد أن يحتضن الأسد الغزالة بعد أن يُمسك بها فتتوقف عن الركض وتركع بين براثنه، وقد آمن داروين عبر فصلٍ كاملٍ في كتابه أصل الإنسان بأنّ المرأة أقل كثيراً من الرجل وأنها تملك خواص الأعراق الأدنى، ورغم بساطة جملة داروين إلا أنّ أثرها في نظرية التطور هائل، واتفق العالم الفرنسي الشهير جوستاف لبون مع هذه الأفكار قائلاً: “إنّ أكثر النساء الذكيات حجم أدمغتهن أقرب إلى الغوريلات من الرجال الأكثر تطوراً، والنساء أقرب للأطفال السذج منهن للرجال البالغين المتحضرين”، أما فيلسوف الأنوار روسو رأى أنّ المرأة لم تخلق للعلم أو للحكمة، بل لتشبع الغرائز، وقد اعتقد كانط أنّ مستوى عقل المرأة لا يرقى إلى مستوى عقل الرجل وكذلك شوبنهاور وجون لوك وغيرهم.

ولكن، لربما هذه الفكرة وليدة العصور الحديثة، ماذا عن العصور القديمة؟ لقد قرر أرسطو أنّ المرأة تصلح فقط للإنجاب وأنه لا يمكنها ممارسة الفضائل الأخلاقية مثل الرجال، سوّد الله وجهك يا أرسطو، لنرى غيرك، لنرى سقراط، لقد رأى سقراط أنّ المرأة مثل الشجرة المسمومة فقد تكون جميلة من الخارج لكنها تقتل كل من يأكل منها، وأفلاطون يرى أنّ قدرة المرأة على الفضيلة أقل من الرجل، ولا أعتقد بعد هؤلاء الثلاثة أهمية لذكر بقية الفلاسفة [170].

ماذا عن العصر الحديث الذي نعيشه؟ يمكن أن نذكر برنامجاً واحداً في الدولة التي تترأس العالم وتمثله، ففي برنامج أنت لست الأب الذي بثته قناة NBC في الولايات المتحدة عام 1991م، تقوم فيه سيدة على الهواء مباشرة بدعوة عدد من الرجال كانت قد أقامت معهم علاقة جنسية، ليخضعوا لفحص الحمض النووي DNA لتأكيد هوية طفلها التي تريد أن تربيه مع أب لا تعرف من هو، وبعد سلسلة من الحوارات، يتم إعلان نتيجة الفحص وفي الغالب كانت النتائج كلها سلبية، وظهرت خيانة الأزواج، وحالات كثيرة منها وصلت إلى 18 ذكر أقاموا علاقة مع السيدة ولم يكن أحدهم الأب! يا بنت الحلال لقد أعلنتِ عن 18؟ لم لا تكملي باقي القائمة، لِمَ الخجل! تسببت هذه الأحداث بانهيار النساء أمام أزواجهم وانهيار الأطفال أمام الشاشات، تجاوزت عدد حلقات البرنامج 3500 حلقة، تم عرض 3 حالات على الأقل في الحلقة الواحدة، وهذا جزء بسيط من صور تسليع المرأة بين الرجال هُنَاك واعتبارها وعاء لتفريغ الشهوة، أما الأبناء فليسوا لنا، الرفيقة للشهوة والطفل للشارع، كمية اضطهاد وإهانة لم تحدث منذ ولادة البشرية!

لترى مصدر فكرة كون المرأة كائن أدنى من الرجل وأنها كائن تتحكم به مشاعره ويمكن في لحظة ما خديعتها ومطارحتها الغرام وهي لا تصلح لأي عمل انظر إلى السينما، انظر إلى هوليوود، على سبيل المثال انظر إلى سلسلة أفلام جيمس بوند، وسترى أنّ الصورة التي طبعها 24 فيلم على مدار السلسلة هي واحدة: المرأة كائن أحمق يخدعها الرجل، وتنقلب على فريقها حين سماعها كلمة غرام واحدة، نظرات عيون جميس بوند تطير عقلها وتنومها مغناطيسياً وتغير موقفها الدولي في لحظة شاعرية واحدة، هي لا تصلح إلا للخداع والغواية والفراش، إنّ عالم الإغراء الواسع هو من قام بزرع فكرة تسليع المرأة والحط من مكانتها، وهو المكان الأول في يومنا هذا الذي يجب العمل على تغييره، لتغيير الصورة النمطية.

من الصواب أنّ العلاقة بين الذكر والأنثى يجب أن تكون قائمة على التكامل وليس على الندية والصراع، لكن من المؤسف أنّ بعض النشطاء من كلا الجنسين ينطلقون في معالجة الأمر كما لو أنّ هُنَاك حزباً اسمه المرأة يتصارع مع حزب اسمه الرجل، هذا المنطلق معاند للفطرة ويُؤَدِي إلى عدم الاستقرار النفسي والمجتمعي، صحيح أنّ النساء في فترات من التاريخ لم ينلن حقوقهن، ولكن حقبة الصراعات الكبرى انتهت، والمطلوب الآن مطالبات في إطار السياق الطبيعي.

صورة 28 لوحة دورا مار للفنان بابلو بيكاسو، يظهر بها حبيبته من عدة زوايا في آن واحد دون مزايا خاصة.

وفي إطار المساواة والدعوة لها بين الرجل والمرأة يقول البروفيسور جوردان بيترسون في لقاء معه [171]، إنّ أكبر الفوارق بين الرجال والنساء في الطبائع والاهتمامات كانت في الدول الإسكندنافية، وقد تزايدت تلك الاختلافات نتيجة لسياسة المساواة الصارمة التي تتبعها، وكلما كانت دولتك تؤمن أكثر بالمساواة بين الجنسين، زادت الاختلافات الشخصية بين النساء والرجال، ولقد طور علماء النفس أساليبهم في قياس الشخصيات خلال الثلاثين عام المنصرم بنماذج إحصائية متطورة جداً مكنت العُلماء من قياس الاختلافات بدقة، والطريقة هي أن تعرض على الرجال والنساء اختبارات موثقة ودقيقة تختبر بها ميولهم وشخصياتهم، وتفعل ذلك في جميع أنحاء العالم مع عشرات الآلاف من البشر في عينات تشمل الرجال والنساء، ثم تنظر إلى الاختلافات بينهم ثم ترتب وتصنف وذلك بحسب درجات الثراء ودرجة المساواة الاجتماعية المفروضة وما ستجده هو أنه كلما زادت المساواة في المجتمع، زادت الاختلافات بين الرجال والنساء.

ويستطرد الدكتور جوردان بيترسون قائلاً: “يحدث هذا لوجود سببين الأول ثقافي والآخر نفسي، فإذا قمنا بتضييق الفوارق الثقافية فإننا بذلك نوسع الفوارق الحيوية، في المتوسط الرجال يهتمون بالأشياء والنساء تهتم بالبشر وهذا أكبر اختلاف نفسي نعرفه بين الرجال والنساء”.

ويضيف الدكتور جوردان: “إنّ أغلب المهندسين من الرجال وهذا يدل على نزعة مزاجية تتشكل في اهتمامهم بالأشياء، وأنّ أغلب التمريض من النساء وهنا يظهر اهتمامهن بالبشر، وكلما زادت مساحة الاختيار الحر زادت حدة الاختلاف بين الناس، هذه ليست مسألة خلافية بين العُلماء المطلعين لأن هذا معروف كما أسلفنا منذ ٢٥ عام، وهو تأثير معاكس لم يتوقعه أحد، نسبة هائلة من المساواة تم تحقيقها بواسطة التكنولوجيا والاختراعات، وليس بواسطة القوانين الاجتماعية، مثل موانع الحمل والمرافق الصحية بكافة أشكالها، الفوط الصحية كان لها دور هائل، المناديل المعقمة وتطورات السباكة وتوصيل المياه، كل هذه الاختراعات سمحت للمرأة بالتحرر من القيود وسمحت لها بالتقدم وإزالة بعض المعيقات الجسدية، إذن فثورة النساء جاءت نتيجة التطور التكنولوجي بالدرجة الأولى، ويجب عليهم السير في هذا الطريق”.

ومع كل هذه الآراء، كيف نفهم دور المرأة في المجتمع؟ على الأرجح أنّ هُنَاك ثلاث مسارات لتفسير علاقة الرجل بالمرأة وبالمجتمع وهي:

  1. المسار الأول هو المسار التطوري، الذي يرى أنّ المرأة أقل من الرجل عقلياً وحيوياً ودورها الأساسي يتمثل في الإنجاب، وهذا مسارٌ ناتجٌ من مبدأ الانتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى، وهو مسار يُمايز بين أجناس البشر، أي أنه لا شيء جديد حين يمايز بين الرجل والمرأة، كذلك الأمر إذا كنا حيوانات متطورة، فالإناث في الغابة على الأغلب أضعف من الذكور من ناحية السيطرة والقوة والهيمنة وصفات القوة الأخرى، فما الاختلاف الآن حين نتطور قليلاً؟ تطورنا عضلياً وعقلياً، وبقيت الهيمنة للذكر فما الجديد، ما المانع من كسر المرأة بل والبطش بها!
  2. المسار الثاني هو المسار الديني، وفيه نرى بوضوح أنّ للرجل مزايا وواجبات وكذلك المرأة لها مزايا وواجبات، هكذا خلقهم الله وصممهم ووضع لكل منهم خصائصه، وفي دليل الاستخدام كتب أنّ المرأة تحمل وتلد وترضع أبناءها وتهتم بهم وترعاهم وتعطف عليهم ومهام أخرى متعددة، والرجل هو من يكِدُّ ويتعب لأنه وظيفياً يملك أوردة أمتن وعضلات أقوى ولديه هرمون التستوستيرون، ويمتلك مهارات خاصة، وكذاك قوامة البيت من مهامه في الغالب إذا كان سوياً واستحقها، بينما المرأة عاطفية أكثر وتميل إلى الأشخاص، والرجل يحب الأشياء ويميل إلى البناء لذلك المرأة ممرضة أفضل من الرجل بسبب عاطفتها، والرجل مهندس أفضل لأنه مُولع باللعب بالأشياء وهكذا، وهل هُنَاك فرحة تعتريني أكثر من شرائي للعبة جديدة! ولكن هذا لا يمنع الاختلافات الفردية إن خرج أحدهم وأراد أن يكون الآخر.

برنامج العالم

ومع فهم شريحة كبيرة من البشر لكيفية سير عمليات الحاسوب ومنطق عمله بشكل عام، يمكننا أن نفهم شيئاً من الوعي البشري وعلاقته بمصممه بطريقة أفضل، ويتساءل العُلماء في المقابل: هل يمكن للحاسوب أن يعي ما يقوم به؟ هل يمكن للحواسيب أن تصل يوماً إلى تشكيل وعي عن نفسها وعن علماء الرياضيات مصمموها؟

وفي محاولة لإجابة هذا السؤال خرج الفيلسوف جون سورل بفكرة تجربة الغرفة الصينية كما ذكرناها سابقاً، والتي تفترض أنّ هُنَاك شخص ما في غرفة مغلقة تحتوي على صناديق تضم آلاف الوثائق من الأوراق المدونة باللُغة الصينية، التي لا يفهم منها شيئاً البتة؛ كونه لا يتحدث الصينية، ولديه كتيب دليل استخدام للتواصل مع العالم الخارجي يحتوي على عمودين: عمود يحتوي ما هو النص المدخل، وعمود به رقم الورقة من الوثائق الموجودة لديه في الصندوق لكي يخرجها، وفي العالم الخارجي يوجد متحدثون باللُغة الصينية يقومون عبر فتحة صغيرة في الباب بإدخال أوراق صينية معينة، وعلى الرجل في الغرفة أن يعالجها باستخدام الدليل، فهو يمسك الورقة الصينية المدخلة والتي لا يعرف منها شيئاً، ويحاول أن يرى حسب الدليل لديه أيَّ التعليمات المطابقة لها، ويقوم بإخراج من جدول التعليمات رقم الوثيقة المقابلة ويدسها من فتحة في الباب للأشخاص في الخارج، وهكذا تتم العملية مراراً وتكراراً، ونرى أنّ الشخص الموجود في الغرفة قد نفذ التعليمات بدقة وأخرج نتائج صحيحة إلا أنه لا يعي شيئاً مما قُدم له من أوراق، ولا يعي السبب في إخراج أوراق معينة، يعي أنه نفذ التعليمات فقط.

إنّ تجربة الغرفة الصينية كافية لتوضيح أنّ الوعي البشري لا يمكن تمثيله ببرمجيات حاسوبية، كما تشكل مثالاً واضحاً وصريحاً حول كيفية عمل الوعي البشري إذا أراد أن يفكر خارج غرفته، فعلاقته مع الإله مثل علاقة الرجل داخل الغرفة الصينية بالأشخاص الذين يقدمون له أوراق صينية، الأمر فوق قدراته، ولا يستطيع تصور العلاقة بدقة ولا سير الأمور على أدق وجه، إنه مُنفِّذٌ للتعليمات فقط.

إنّ تطور عالم البرمجة وتقنيات التصميم كما في ألعاب العالم المفتوح سمحت لنا بتَقمُّص عقلية الإله، وأن نحاول التفكير كما لو أننا آلهة تخلِق، ولكي نخلق عالماً كاملاً مستقلاً يسير فيه اللاعبون جميعاً بدقة، نقوم بوضع قوانين صارمة وتعليمات استخدام واضحة، هُنَاك تعليمات واضحة للاعبين، ومن يخالف يتعرض للطرد خارج الذاكرة، يمكننا أن نضع قانوناً بعدم جواز أكل نوع من الفطر في اللعبة؛ لأنّ هذا قانون ويجب أن تحترمه وإلا ستخسر في النهاية في نتيجة المجموع، وأما الناس التي لا تستحم يومياً، نضع لها قوانين، عليك الاستحمام كل جمعة لما له من نقاط، وبعد الجماع عليك الاستحمام حتى لا تخرج رائحتك، وفي الأعياد كذلك وغيرها، والشخص الفقير الذي لم يتصدق طوال حياته وقد لا يعرف معنى العطاء لأنه اعتاد على الأخذ، سنجبره على الأقل مرة واحدة في العام أن يُخرج الصدقة ليجرب الشعور، أو إن كان كسولاً جداً فسنشجعه في حافز من الحوافز على العمل ليتصدق، بالطبع لو لم يتمكن فلن نمسحه، لكن يجب أن نشجعه، سنقدم لهؤلاء اللاعبين المميزين الذين صنعناهم كتاب تعليمات حتى لا يضِل أحدهم أو يشقى، وهُنَاك هدفٌ نهائيٌ في اللعبة، مشابه لهدف إنقاذ الأميرة بيتش من الشرير باوزر، ومن البديهي ألا يصل اللاعب للمبرمج بأي حال من الأحوال، وهل يستطيع ماريو جاهداً محاولة تصور مبرمجه؟ فماريو يعيش في عالم افتراضي وهمي، ومصممه يعيش في عالم حقيقي ملموس.

من المنطقي أن يكون الإله ليس كمثله شيء، لأنّ كل شيء في أذهاننا نابعٌ من هذا العالم المصنوع، والإله هو الصانع، فلا يمكن قياس الصانع بالمصنوع، لكن يمكن تقريب الصورة من بعيد، الإله كاللانهاية، فهي موجودة لكن لا يمكن وصفها!

خاتمة

تفهمنا أنه لا بد للكون من مصمم، ولكن ماذا يريد منا هذا المصمم في المقابل، في أسوأ الظروف لا يريد منا أي شيء، خلقنا دون هدف واضح، ولكن نحن المخلوقين نحب أن نعرف عنه كل شيء، نرغب في البداية أن نعرف اسمه، ثم أن نعرف ما هي صفاته لكي نفكر فيه، وغالبا في لحظات الضعف والضيق التي نمر بها ولا نعرف إلى أين نلجأ قبل الانتحار، نفكر أن نلجأ لقوة عظمى، للمصمم العظيم، نريد أن نخاطبه، في لحظة الضيق هذه ماذا نقول له؟ كيف نخاطبه؟ يا مصمم صمم لنا وضعاً أفضل، أو احذف عنا الحزن أو بطّئ علينا مصائبنا، أم ماذا، كيف أخاطب ذاتاً لا أعرف عنها شيئاً!

لا محال إلا أن يعطينا من صمم هذا الكون على الأقل شيئاً، أن يرمي لنا كسرة على الأقل حتى لو كان قاسياً، أنا أحتاج لهذا، وليس العكس، أنا من يطلب منه أن يخبرني.

أخبرني صديق رُبوبي (يؤمن بالله ولكنه لا يؤمن بالأديان) أنه في لحظة ضيق شديد شعر بدنو أجله، فقرر التقرب إلى الإله، يقول حاولت التواصل معه لكني لم أعرف كيف! ماذا أقول وماذا أفعل! إنني لو أخطأت التعبير أمام وزير ما سيغضب ويصرفني! ثم تذكرت أنّ المُؤمِنين يتقربون من الخالق بالصلاة، فوقفت ولم أعرف ماذا عليّ القول وحينما سجدت شعرت أنّ قلبي يحاول قول شيئاً ما.

في هذه اللحظة المهمة، ماذا يقول الإنسان في حضرة الإله؟ يجب أن يعرف شيئاً ليقوله، وإلا لا معنى من الوجود في هذه الحالة، لا معنى لخالق لم يخبرنا كيف نحاكيه، لا معنى لصانع غسالة باعها دون دليل للاتصال به عند الحاجة.

كما رأينا فإن المُشكِلة الحقيقية تكمن في حصر العلوم بالعلم التجريبي وحده، متجاهلين وجود علوم وعوالم ومفاهيم أعم منه، علوم لا تخضع للمنطق، لدينا علم المنطق وهو علم عقلي قبل أن يكون تجريبياً، وكذلك الرياضيات، إنّ مفهوم العلم أوسع من العلم التجريبي، في الفصل القادم سنبحث عن إجابات حول علم منها، علم يناقش المسألة العليا.

قَد دَخَلتُ الدَيرَ عِندَ الفَجرِ كَالفَجرِ الطَروبِ … وَتَرَكتُ الدَيرَ عِندَ اللَيلِ كَاللَيلِ الغَضوب

كانَ في نَفسِيَ كَربُ صارَ في نَفسي كُروب … أَمِنَ الدَيرِ أَمِ اللَيلِ اِكتِئابي

لَستُ أَدري

قَد دَخَلتُ الدَيرَ أَستَنطِقُ فيهِ الناسِكينا … فَإِذا القَومُ مِنَ الحَيرَةِ مِثلي باهِتونا

غَلَبَ اليَأسُ عَلَيهِم فَهُم مُستَسلِمونا … وَإِذا بِالبابِ مَكتوبٌ عَلَيهِ

لَستُ أَدري

الباب الرابع: إيمان

مقدمة

وكما رأينا فإنّ البشرية قد شغلت نفسها منذ الأزل بالأسئلة الكبرى حول الكون والحياة والوجود والغاية، لم تتوقف هذه التساؤلات في أي زمان وأي مكان، سواء كان سائلها يتكلم العربية أو الفرنسية، سواء عاش في مصر أو في الكونغو، أكان غنياً أم فقيراً، شقياً أم سعيداً، كانت هذه الأسئلة واحدة في مغزاها، وعلى الرغم من التطور الكبير في مفاهيم البشرية إلا أنّ عملية طرح الأفكار استمرت وتوالت، وفي ظل التطورات الجديدة في العلم والمعرفة، استمر البحث عن إجابات على أمل أن يرضى الإنسان بما توصل إليه.

في أزمان سابقة كان يتم تفسير ظواهر الكون بالاعتماد على الخرافة، وفي أزمنة أخرى اعتمدوا على العلم، وفي أزمنة على الدين، وفي أزمنة على الدين والعلم وهكذا، إلى أن وصلنا إلى زماننا هذا، والذي من المفترض أنه درة تاج الأزمنة على كل الأصعدة سواء كانت علمية أم فلسفية أم أدبية أم مجتمعية أم دينية.

من كتاب حتى الملائكة تسأل يقول الكاتب جيفري لانج، تتابعت مشكلاتي مع الجنة، لأني كنت كلما تخيلت الله بقدرته على خلق هذا العالم، تساءلت عن سبب خلقه له، لماذا لم يدعنا في الجنة وللأبد من البداية؟ ولماذا جعل فينا عيوباً كي يعاقبنا بآلامنا على الأرض؟ لماذا لم يجعل منا ملائكة أو مخلوقات أفضل؟ أين قدرة الله اللامحدودة في العدالة؟ ولكن أين العدالة وأنا لم أختر طبيعتي؟ وأنا لم أخلق الغواية والإغراء، أنا لم أطلب منه أن يخلقني، ولم آكل من الشجرة الملعونة [2]، هل خطر ببالكم أنّ عقاب الله لنا يفوق حجم جريمتنا بكثير، وأنّ الحب والرحمة لا تنسجم معهما هذه العدالة.

وقد بدأنا بحثنا في الكون وقد وجدنا أنه مهندَس جداً ومنظم ومنضبط وهو بحاجة إلى مبدع، ثم بحثنا في جسم الإنسان وأيقنا أنه لا بُدّ له من خالق، وأخيراً بحثنا في فلسفة الحياة ورأينا أنها لا تكتمل إلا بنظام ومبادئ من عند الخالق المبدع، بالإضافة إلى أننا يجب أن نبحث عن كُتيب تعليمات أرفقه المصمم حتى نفهم النظام، نحن نرغب أن نفهم شيئاً عن المصمم أو الهدف من تصميمه وأسئلة أخرى في هذا السياق.

لكن، هل هُنَاك مُصممون أعلنوا عن أنفسهم؟ أم أنّ المصمم لا يكترث لما صمم؟ ولو كنتُ مصمماً صغيراً وبنيت شيئاً عظيماً لوضعت توقيعي عليه ولرغبت أن يعرف العالم عني، قد يظهر لنا عدة مصممين أثناء بحثنا في قوائم المصممين، لذلك نحتاج إلى آلية حتى نرى من منهم صاحب الادّعاء الصادق، ومن خلال إعادة استدعاء فكرة أنّ العالم يشبه برنامج حاسوبي أو لعبة فيه والمصمم هو مبرمجه، فإننا يمكن أن نضع المواصفات التالية التي يجب أن تتوفر في المصمم وهي:

  1. عظيم جداً جداً وتَفُوق عظمته عظمة الإنسان بمستويات عدة، وعلى جميع الأصعدة.
  2. تَفُوق قدراته ما يمكن للشخصية في اللعبة تخيله.
  3. أرسل إشارات عنه ودلائل على عظمته، وبصمته ظاهرة في اللعبة يراها اللاعب.
  4. مصنوع من مادة غير مادة اللعبة ولا يمكننا فهمها بدقة حالياً.
  5. بعد انتهاء اللعبة ووصول اللاعب إلى الأهداف، قد يكون هُنَاك خاتمة تليق باللعبة واللاعبين منها التعرف عليه مباشرة.
  6. لا تنطلي عليه قوانين اللعبة فهو من صممها وهو خارج عنها.

إذن أفكار مثل أنّ الإله على شكل حجر يتم نحته أو عجوة يتم أكلها، أو أن يتم حمله على عربة ونقله من مكان إلى آخر، وأثناء نقله يتفتت الحجر ويتآكل، وتُمارس عليه العصافير طبيعتها فنضطر إلى أن نقوم بترميمه أو طلائه ليبدو إلهاً جذاباً وجديداً لا تتوافق مع شروطنا المبدئية، أو أن يكون هذا الإله إنساناً يتغوط ويتبول ويشرب ويأكل ويتزوج ويشيخ، وفي المهد تمسح له أمه سوءته ويضربه الأطفال أثناء لعبه معهم، أو أنّ أحد ما قام بختانه وقذف جزءاً من قضيب الإله في القمامة، هي أيضاً مخالفة لشروطنا.

أو أنّ هذا الإله العظيم تعارك مع مخلوق من مخلوقاته فصرع المخلوق الإله، فبكى الرب وجلس ذات مرة يحلق شعر رجليه بموس مستأجرة في إحدى الخرب ولم ينسَ الرب أن يحلق شعر إبطه فهذا ستايل خاص بالآلهة لا يفهمه البشر، أو أنّ الرب يبكي ويزمجر ويشتم ويلعب، كذلك قد يندم هذا الإله العظيم ويعض أنامله، ويمكن أيضاً أن يجامع امرأة، أو أفكار مثل أن يتمثل هذا الإله العظيم في صورة بقرة أو كلب أو شعلة نار أو فرج امرأة أو أن يكون سيد الشرور وغيرها من الصور المُستحيلة التي لا يمكن أن تنطبق على الإله المصمم العظيم الذي وضعنا له شروطاً منطقية.

صورة 29 الرابط بينك وبين الخالق في لوحة مايكل انجلو هو عُقلة إصبع، قرار البحث عنه لا يتطلب سوى حركة بسيطة من إصبعك.

إنّ خطوة الإيمان الحقيقي تبدأ من التجرّد من كل شيء، والتفكُّر في هذا الكون، والسير في رحلة تساؤلات تبدأ من هل جاء هذا الكون بالصدفة، أم كما يقول البعض هُنَاك من أوجده، لنتفكر، ونستكشف ونتحقق ونتأكد، وبعد أن توصلنا إلى استحالة أن يكون قد جاء بالصدفة، يجب البحث عن هذه القوة العظيمة التي صممته وبنته، لنر هل هُنَاك قوة عظيمة أعلنت عن نفسها، نعم رأينا أنّ هُنَاك عدة قوى ولكن من تنطبق عليها شروطنا هي القوة التي اسمها الله، وقد أعلنت عن نفسها عن طريق شيء يدعى الأنبياء، سنبحث عنهم ونُمَحصُهم بالقدر المستطاع، ولا يتم هذا إلا عبر المنحة الكبرى، الشيء الأعظم الذي صممه وأودعه هذا المصمم المُتقِن، الشيء الأسمى في الوجود الدال عليه، إنه يا سادة العقل بلا تردد.

الأديان

صورة 30 عدد من الرموز الدينية، من اليمين إلى اليسار

الأوم رمز الهندوسية، نجمة داود رمز اليهودية، الصليب رمز المسيحية.

التورية رمز الشنتو، عجلة دارما رمز البوذية، الهلال والنجمة رمز الإسلام.

أهيمسا رمز الجاينية، النجمة التساعية رمز البهائية، خامدا رمز السيخية.

ينتشر حول العالم عشرات الآلاف من الديانات المُختلفة التي تحاول خلق نظام متكامل في حياة البشر، والتي تعمل على تنظيم علاقة الإنسان بمن حوله ومع الطبيعة والأهم مع نفسه، وتشترك هذه الديانات في اعتقادها بوجود كائنات فوق طبيعية ذات قدرة خارقة، بعض هذه الديانات تؤمن بوجود قوة خارقة منفردة، وبعضها تؤمن بوجود قوتين متصارعتين، وبعضها تؤمن بوجود آلهة مُختلفة كثيرة.

كل دين منها يُحاول أن يُوجد طقوس روحية تعبدية للتقرب من هذا الكائن العظيم مع إضفاء نكهة قداسة على هذه العبادات في سبيل تقديس الكائن الأسمى، وتشترك جميع الأديان بوجود قانون أخلاقي أو شريعة وأحكام يجب على معتنقي الدين اتباعها والإيمان بها لأنها آتية من الإله العظيم، وتحاول الأديان دائماً أن تقدم خطوات لكل إنسان حتى يسمو بروحه في هذا العالم، في السابق كانت الدول صغيرة ذات قوانين بسيطة، والدين كان يكمل الجوانب التشريعية والأخلاقية لهذه القوانين، وكانت الأديان بحاجة إلى آلية لتحكم الناس وترهبهم من فعل الشر وتشجعهم على فعل الخير، لذلك احتوت على فكرة الثواب والعقاب في الحياة وبعد الموت.

لكل دين عقيدة ومجموعة من العناصر الأساسية مثل اسم الديانة، مؤسسها، كتابها الديني، اللُغة الأساسية، نوع المعبد والطقوس وأعياد وأماكن مقدسة وسُلُوكيات وأخلاقيات وتشريعات واجتماعيات وغيرها، هناك أديان كثيرة معروفة بمؤسسيها كالمسيح في المسيحية وبوذا في البوذية ومحمد في الإسلام، وهذا أمرٌ شائع في الأديان السماوية التي مفترض أنها منزلة من عند الله، ومن عالم غير عالمنا، لكن هُنَاك أديان أخرى غير سماوية مثل الشنتوية والهندوسية ليس لها مؤسس معروف كبعض المعتقدات الشعبية والتي لا يُعرف لها مؤسس على الإطلاق.

تعد الهندوسية أقدم ديانة في العالم، إذ يرجع تاريخها إلى نحو سبعة آلاف سنة قبل الميلاد، وتليها الديانة اليهودية، ثم الزرادشتية في بلاد فارس، وجاءت ديانات الشنتو واليانية والبوذية والطاوية والكونفوشيوسية في وقت متقارب منذ 500-700 عاماً قبل الميلاد، ثم تبعها المسيحية، فالإسلام بعد 600 عام، وسينصب حديثنا في هذا الفصل على التحديث الأخير للأديان السماوية الإسلام، وهو الإصدار الأحدث الذي يحتوي على كل الترقيعات الأمنية والخصائص الأخيرة التي تتناسب مع العتاد الأخير للبشرية.

على الرغم من هذا التحديث، إلا أنّ العالم يشهد العديد من الحركات الدينية الجديدة مثل النسخية أو دين الإنترنت، وديانة تيراسم التي تؤمن أنً الموت اختياري وأن الله هو التكنولوجيا، كذلك ديانة معبد جيداي الذي يتبع أعضاؤه مبادئ العقيدة المركزية لأفلام حرب النجوم، ويسعى أتباعه إلى الحصول على اعتراف به بوصفه منظمة دينية، وغيرها من الديانات الغريبة المستحدث بعضها من هوليوود، هذا بالإضافة للآلهة الغريبة التي نرى من حين إلى آخر إعلان شخص ما أنه صاحب قدرات خارقة ثم يقوم بتنصيب نفسه إله.

  1. مرحباً عزيزي ما هي مهنتك؟
  2. أنا أعمل كإله.
  3. آه، أفهم أنك سوبرمان!
  4. كلا، أنا أعظم، أنا باتمان.

تتشابه الأديان السماوية في الكثير من الأساسيات وتختلف في بعض الفرعيات، فقد نقلت الأديان الأرضية العديد من بُنود وأفكار الديانات السماوية، ثم تداخلت أفكار الأديان الأرضية والأديان السماوية، مما أدى إلى حدوث التداخل واقتراب الأديان أكثر من صورة واحدة، ومن تطورات الدين عبر الأزمان في خيال الفلاسفة، ما حدث مع الفيلسوف أوجست كونت في القرن التاسع عشر الذي آمن أنّ الأديان السابقة والمعتقدات الإلهية قد انتهى وقتها، وأنه يجب أن يكون هناك دين جديد – لأن الدين أساسيٌ للمجتمع – واقترح دين جديد للإنسانية تحت مسمى الإيجابية وهو نظام قائم على التقدم والحب والقوانين والعلم.

  1. أرغب في إنشاء دين جديد، هل ترغب أن تحصل على واحد؟
  2. لا، شكراً لك، لقد قمتُ بذلك قبل أيام.

أما في النظرات المُختلفة للدين والفلسفات المتنوعة للأفكار بشكل عام، فلا الحصر، يحتار اللاأدري قائلاً لا أستطيع تحديد إذا كان هُنَاك دينٌ أم لا، ويرى الملحد أنه لا وجود لإله من الأساس ليكون هُنَاك دين، أما اللاديني فيعتقد أنّ الدين اختراعٌ بشري، ويُعلق التحليلي متسائلاً: دعونا نرى ما هو الدين، فيرد التجريبي أنه يجب أن يشعر بتأثير الدين ليؤمن بوجوده، بينما يرى المثالي أنّ هذا الدين موجودٌ هكذا لأن الدين الحقيقي يقبع في عالم المثل، بينما يرى الوجودي أنّ مخرجات الدين لا تتحقق إلا بالمعاناة والتجربة، أما العبثي فيعتقد أنه لا جدوى من وجود الدين من الأصل، والعدمي لا يعلق بشيء ويستمر سائراً، هكذا العقول البشرية المُختلفة النابعة من خلفيات فكرية أو ثقافية مُحددة.

ما الدين

ما الدين إلا منظومة من القيم التي تحقق حياة كريمة للإنسان، مجموعة من المفاهيم والمبادئ والأخلاق والسلوكيات يفهمها الإنسان في سياق مصلحة الجميع ويحاول أن يعيشها، ومن المفترض ألا يكون للدين قوانين جامدة وصارمة كالدستور، بل هو روح يتشربها الإنسان ليعيش بسعادة في المجتمع، ولو كان الدين مُجرَّد قوانين لكان من السهل التحايل عليه كما فعلت أمم سابقة، وكما تفعل الآن الأمم التي تمتلك دساتيراً بقوانين واضحة، لكن الدين روحٌ سامية تحاول تحقيق العدل والمساواة والحُريّة، وفهم مغزى الدين من المفترض أن يُؤَدِي بنا إلى التطبيق الحقيقي له، ومن المفترض أنّ الدين يريد من كل فرد أن يكون صالحاً في نفسه، مُفيداً لغيره، ويتم ذلك عبر قوانين إلهية كألا نعتدي على حُريّة الآخرين بل ونحافظ على حقوقهم وننشر العدل والمساواة.

وبناءً على هذه الأسس، نحن بحاجة إلى البحث عن رسالة من ربٍ عظيم تحتوي على مجموعة من المبادئ والأفكار لنعيش في هذه الحياة وفق القانون الأخلاقي على أنسب وجه، والقانون الأخلاقي هو السر الذي ننطلق منه لمعرفة مدى صدق أي مُدّعي، هو قفل الله الذي وضعه وأودع مفتاحه مع رسله لكي نميّز صدقهم من زيفهم، وقد بتنا نعلم أنّ هذا الإله لو قدّم نفسه بصورة مباشرة لفسدت العملية، وطريقة الإله في إرسال رسالته كانت عبر إرسال بشر مثلنا ليوضحوا رسالته، لذلك يجب أن نتعمق في شخوص الرسل، ونخوض في محتوى الرسائل ونعرض كل من الرسل والرسائل على القانون الأخلاقي.

من المفترض ألا يكون الدين مُجرَّد نظرية عقلانية، بمعنى أنه لا يجب أن نجد قواعد منطقية مكتوبة ومن يتبعها يصبح مُؤمِناً تلقائياً كما لو أنه يقوم بحل مسألة رياضية، بل يجب أن يقدم لنا الدين في رحلة البحث عن الإيمان تجربةً روحية، لأن العقول تختلف في تفكيرها الثقافي، فإذا ما تم تغذية القانون الأخلاقي داخل هذه العقول بشكل مناسب فإننا سنشعر بالتجربة الروحية الحقيقية.

ولو تأملنا الحياة من حولنا لرأيناها مليئة بالعديد من الأمور غير العقلانية، والتي تنبع من القلب والروح مثل عاطفة الحب كالأبوة والأخوة والزواج والصداقة، وهذه عواطف أساسية للحياة فهي تملأ حياتنا وتسد حاجات نحن في أشد الحاجة إليها، وهذا يعني أن الإنسان يحتاج إلى ما يشعره بالملء الروحي والتكامل ومحاولة منحه الطمأنينة [172]، وهذا يُعد من أهم شروط قياس جدوى الدين والرسل، وعلى الرغم من أنّ الدين يستند إلى العقل في إثبات خلوه من تناقضات وعقبات، إلا أنّ دور العقل يكمن في محاولة وصف الطريق للوصول إلى أسوار الحقيقة، إنك تستطيع أن تقنع إنساناً بالعقل أنّ ما وراء هذه الأسوار حديقة جميلة، لكن اقتناعه بذلك لا يكفي ليستنشق أريج زهورها ويستمتع بمناظر أشجارها، بل يجب أن يدخل تلك الحديقة لينعم بذلك الشعور الجميل.

ولأن كثير منا قد رضع دين والديه، فإنّ فكرة التجرد والبدء من الصفر لبناء الأفكار الدينية لن تكون بتلك البساطة، لأن شيئاً كهذا سيعكر استقرار الشخص، ولو حصل واتخذ أحدنا هذا القرار في لحظة ما بأن يبدأ رحلة مقارنة دينه بأديان أخرى في محاولة البحث عن الصواب فسيكون موقف المحايد صعباً ولا شك، لأن البحث في الآراء الأخرى سيكون مع الكثير من الأماني بأن يكون على صواب، حتى لا ينهار كل ما عاشه وبذله في حياته، ولا تمايز أو أفضلية إن وجد أحدنا نفسه بوذياً والآخر مسيحياً فلا أحد منا اختار دينه، يجب علينا محاولة التعايش مع بعضنا والنقاش في سبيل البحث عن الحقيقة، أما الحروب فلا يستفيد منها إلا من يبحث عن المزيد من النفوذ.

وينبغي لنا التمييز بين الدين والتدين، فالدين هو مجموع التعاليم المقدسة الصادرة عن مصدر ذي مكانة مرموقة تخوّله البث في أمور الدين وهي تتلخص في الإيمان والأخلاق، أما التدين فهو المُمَارسة الفردية أو الاجتماعية أو آليات تطبيق تلك التعاليم الدينية، لذلك هُنَاك فرق غالباً بين ما يريده الدين وما يمارسه الناس في حياتهم باسم الدين.

وفي حديثنا سيكون التركيز على الإسلام آخر الأديان السماوية والأقرب لمواصفات الإله التي وضعناها، والأديان السماوية هي أفضل من تحمل هذه البذرة، وتقرب صفات الإله التي افترضناها، وكتاب هذا الدين هو القرآن، ورسوله محمد، ومكان نزوله الجزيرة العربية، ورسالته شاملة للعالمين، أما كيفية مطابقة الإسلام للمواصفات التي وضعناها، فهو عنوان كتاب آخر، وهل هذه القفزة الكبيرة تمت بهذه الجملة البسيطة عزيزي الكاتب؟ للأسف، زادت صفحات الكتاب كثيراً، لذلك يجب فصل هذا الأمر في كتاب آخر.


صورة 31 آيات من العهد القديم، التوراة

اليهودية هي أحد الأديان السماوية التي أنزلها الله على نبيه موسى قبل أكثر من 3000 عام، وقد بدأت بالوصايا العشرة على ألواح العهد ثم بالتوراة، التي تم تدوينها بعد السبي البابلي، أي بعد ألف عام من نزولها، ثم بعد ذلك بـ500 عام تم تدوينها للمرة الثانية، ويُلاحظ في التوراة أسلوبها الذي يظهر أنه يحتوي على كلام الله وكلام سنة موسى والأنبياء من بعده وسنة بني إسرائيل والأحداث التي حدثت لهم من بعد موسى، أي أنّ كلام التوراة خليط من كلام البشر وكلام الرب،

واليهودية ديانة معتمدة على الدم، أي أنك لتكون يهودي يجب أن تولد من أم يهودية، وإلا لا يمكن اعتبارك يهودي وإن آمنت بكل المعتقدات، ولهذا نجد أنّ أتباعها أقلّة، ونرى في اليهودية تبسيط للإله الذي يبكي ويمكن هزيمته على يد البشر، وهو يخطئ ويثور ويغضب ويندم، ولا ثواب أو عقاب في الآخرة.

الحاجة إلى الدين

في مشهد تمثيلي وجَّه الرجل الشرير لشاب مجتهد عبارة: “ستبقى ابن خياط” وذلك رغبةً في استحقاره، فشعر الشاب بالضيق والحرج ولم تُسعفه الكلمات لأنه تذكر أصله في هذا العالم المادي، وهنا نطرق التفكير حين يكون المقياس المادي في العالم حيث المال هو القيمة العليا، فقيمة فقير حصل على القليل من المال لا تعني شيئاً فيه، وسيسعى الفقير كل السعي ليمسي غنياً، ولنتفكر بفائدة الدين هنا كمثال، فلو كان الشاب من أتباع الدين لرد على الرجل الشرير علناً أو سراً بأن الأصل ليس كل شيء، فكم من أصلٍ بسيطٍ أنتج أفضل الناس، وكم من نسلٍ نبيلٍ كما يدّعون أنتج طغاة أو منحطين أخلاقياً بلا قيم، لا تهمني مهنة أبي ما دام كان شريفاً عفيفاً، وإن كان والدي أبسط أهل الأرض، ولأردف الشاب قائلاً إنّ المهم هو العمل والأخلاق، أو لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكم من صورة في التاريخ لرسولٍ أو ملكٍ كان والده أو ابنه أو زوجه أو أقرباؤه من السيئين ولم يغير لديه شيء، وساعدته الكثير من عبارات وحكم الدين التي تُعرف الآن بـ]التنمية البشرية[.

ولكن دون الدين ماذا سيقول هذا الشاب؟ هل سيقول المهم أموالي اليوم! أم المهم الأخلاق! في عالم مادي لا قيمة للأخلاق مقارنة بما تملك من مادة!، هذه صورة بسيطة صغيرة، وهي نموذج لما يمكن تطبيقه على كل حدث أو فكرة في هذا العالم الفسيح.

وقد بدأت تنتشر مقولة فحواها أنّ الإنسان في هذا العصر لم يعُد بحاجة إلى اتباع أي دين مهما كان، وذلك لأن الديانات قد انتهى وقتها أو شارف على الانتهاء، وما هي إلا لحظات ويفيق العالم على خبر موتها، ولقد كان الناس بحاجة إلى التعاليم الدينية في أزمان سابقة حينما كانت عقولهم لم تنضج بعد ولم تبلغ سن الرشد، في تلك الأزمان كانوا بحاجة إلى من يقول لهم أنّ الصدق صفة جميلة والبِر مُفيد والإحسان مطلوب والعدل واجب وغيرها، كانوا بحاجة إلى من يعلمهم كيف يتعاملون وكيف يأكلون وكيف يتحدثون وكيف يتزوجون وكيف يدخلون المرحاض … إلخ.

لكن ذلك الاعتقاد حول أنّ الإنسان قد وصل بواسطة عقله إلى ما لم يصله أحد من العصور السابقة خطأ كبير، فدائماً كانت البشرية تعتقد أنها وصلت إلى ما لم تصل إليه الأمم التي قبلها، وهذا كان رأي هيغل إن كنتم تذكرون، فلكل زمن أفكاره المناسبة، صحيح أنّ البشرية ستتقدم بعدها، لكن أي تقدم في هذا الزمان عن الأزمان السابقة! ففي الزمن الذي نعتقد أننا وصلنا فيه إلى قمة التحضر، ما زالت اليوجينيا (تحسين النسل) قائمة ولم يمضِ عليها نصف قرن من الزمان، والتفريق بين البيض والسود لم يمضِ عليه نصف قرن في أعظم الحضارات التي نتغنى بها، ويدعم العالم الاحتلال الصهيوني ويقوم بالتغطية عليه والميل للأقوى وتزوير الحقائق والانحياز عن المبادئ وغيرها من قائمة الشرور اليومية التي تُذاع على مسمع من الجميع، ولو استمرينا بجمع نقاط مشابهة في العصر الحديث فلن ننتهي، فأين هي تلك الصورة الجميلة الكاملة حول الأفكار البشرية الناضجة!

لقد كان العالم يوافق على اليوجينيا والعقل الناضج يشجعها، وما يزال العالم مليئاً بالعبودية بل ويشجعها، وما يزال الكثير من الرجال الذين يعاملون زوجاتهم بدونية، وما زالت نساء تمارس البغاء وتفخر به، وغيرها من الصور التي تؤكد أنّ العالم بعقله الجمعي قابل للضلال وسهل الانسياق، فإذا كره الأغلبية السود في أمريكا، فكل الناس ستكرههم في أمريكا، أخبرني كيف نضج العقل واستغنى عن الأخلاق العليا، وهل كان القانون وحده كافياً! فالقانون مسيّر وفق رأي الأغلبية، ورأي الأغلبية يرى أنّ السود أقل درجاتٍ من البيض، ويرى أنّ العرق الآري يجب أن يسود فكان ما كان وتم القانون، وقد استعرضنا هذه الأفكار بشكل موسع في الباب السابق.

وهل لنا تخيل بشرية قويمة تُدخن التبغ منذ قرون، التبغ الذي يضُر ولا ينفع! ماذا لو جاء إنسان منذ ألف عام ورأى البشر اليوم عبيداً لهذه العادة الغريبة! بشر يعبدون النيكوتين! لا يستطيعون الابتعاد عنها رغم معرفتهم المسبقة بأضرارها الصحية والاجتماعية والنفسية، هل تستحق هذه البشرية أن يقال عنها بين الأكوان أنها رائدة الأخلاق والفكر السليم وأنها تقدمت إلى أعلى درجات الرُّقي الفكري!

وقد نسمع عبارات مفادها أننا لسنا بحاجة إلى من يخبرنا أنّ الصدق فضيلة، وهنا نتوقف ونسأل: ما هو الصدق؟ نرى في عصرنا هذا أنه ما دام القانون يضمن لك أن تكذب وتربح المال فيمكنك أن تكذب بسهولة وستعيّن محامياً للدفاع عنك لو تطلب الأمر، سينجح المحامي بتبرئتك بالتأكيد لأن القانون يسمح بهذا، ولو سمح لك القانون بانتهاك حقوق الأفارقة لتسرق خيراتهم وتستخرجها مقابل كسرات تعطيها لهم فأنت بطلٌ قومي وكل التقدير لك، والأمثلة كثيرة ولا تنتهي، بعكس الدين الذي يحثك على الصدق مهما كانت الظروف ولو كذب الناس كلهم، وفي الدين إذا أخبرك القانون بأن الكذب ممكناً، وقلبك أخبرك أنه أمر غير جيد، فيجب عليك ألا تكذب.

حينما يخبرك الدين أنّ الجميع سواسية وليس هُنَاك فروقات بين الناس، ثم تأتي اليوجينيا وتخبرنا أنّ هُنَاك أجناس أدنى من أخرى، ويجب أن نخصيهم حتى لا يتكاثروا، فأين في القانون مبدأ المساواة والعدل والإنسانية وغيرها، كل المبادئ على مر السنين متغيرة ولكنها في الدين ثابتة، فالكذب في الدين يبقى كذباً مهما حدث، كما أنّ غرس المفاهيم الأخلاقية في العقل عبر الدين أعمق بكثير من فصول القانون، فمثلاً أستطيع بيع معدات في السوق بسعر معين وأربح، ومن الممكن أن أتمكن من بيع المنتج نفسه بعشرين ضعفاً ولن يمنعني أحد وسيقوم الناس بشرائها مني، هذا في حال انعدام وجود الأخلاق التابعة للدين فالأمر عادي، لكن في ظل وجود الأخلاق التابعة للدين فإنني سأشعر بأن هُنَاك خلل ما، فليس من الصواب فعل هذا، هذا التكسب ليس صحيحاً، إنه ليس ربا وليس غشاً، وليس استغلالاً أيضاً، إنه أمرٌ ما بينهم لا أستطيع تحديده، الدين هو من يكمل هذا البناء لي.

وهُنَاك الكثير من المفاهيم التي يصعب أن يهتم بها القانون والمجتمع في هذا الزمان المادي كاهتمام الدين بها، فالغيبة والنميمة والحسد آفات خطيرة في المجتمع وتُسبب أضراراً كثيرة يجب مواجهتها وتحذير الناس منها وتذكيرهم دائماً بالابتعاد عنها، ولا أجد سلاحاً صلداً غير الدين لمواجهتها والحد منها، كيف سيتم تذكير الناس بين الفينة والأخرى بضرورة الابتعاد عن الغيبة والنميمة والحسد، وهي غيض من فيض من الآفات التي يحذر الدين منها، لديك كل جمعة خطبة، دروس دعوية من فترة لأخرى، تذكير حين الصلاة، تذكير حين تلاوة القرآن، تذكير من الأصدقاء في الدين، تجد دائماً محاربة لها والتذكير بها، ولا أعلم كيف لشخص غير ديني أن يتم تذكيره دائماً بآفات الأخلاق! أين سيتم ذلك، مرة في المدرسة؟ ورشة عمل يحضرها ليرتقي في وظيفته؟ هل هذا شيء يذكر أصلاً، لا معنى في الحياة المادية لهذه المفاهيم كثيراً، فضلاً عن الجانب الروحي الذي لا مجال لفصله عن الإنسان.

وقد مَنحت مئات المفاهيم والأساليب الدينية الحياة معانٍ رائعة ذات بهجة، انظر إلى الحركة التقليلية MINIMALISM، وهي حركة حديثة تدعو إلى الزهد في الأشياء، والتقليل من استخدام المواد والملحقات غير اللازمة، وتدعو إلى الحياة البسيطة والهادئة بعيداً عن المادية المفرطة الجشعة، وذلك عبر التحلي بالمزيد من القناعة والاكتفاء الذاتي والرضا بالقليل، وهي بمثابة صرعة في العالم المادي ونمط جديد يحاول الجميع اللحاق به والاستمتاع به، محاولة بذلك الابتعاد عن الحضارة الاستهلاكية التي تزرع فيك الملل واللهث خلف كل جديد تُنتجه، لكن هذه المفاهيم قديمة على المتدينين، مفاهيم الزهد قديمة قدم الدين، وتَفُوق في روعتها كل المفاهيم الحديثة للحركة التقليلية، ولا نجد أجمل مما قاله عمرو بن العاص: “لا أَمَلُّ ثوبي ما وسعني، ولا أمل زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أمل دابتي ما حملتني؛ إنّ المَلال من سيئ الأخلاق”، الدين هو من وضع هذه الفكرة الجميلة وغيرها من الأفكار الرائعة التي نعيبها على الدين في لحظات الغرور البشري، الدين هو من يصنع هذه المفاهيم ويقدمها لأتباعه، في محاولة للاستمتاع المناسب في هذا العالم.

وكما رأينا فإنّ الميل إلى التحلي بالأخلاق أمرٌ متجذرٌ في النفس البشرية، على الأقل كما اعتقد الكثير من الفلاسفة، على رأسهم كانط وسبينوزا، لكن هذا لا يعني أنّ الإنسان سيكوّن الصورة المثلى للأخلاق دائماً، فالشخص القابع في فرنسا يرى في الأخلاق التي يُولد بها في مجتمعه هي الفطرة، وكذلك الشخص الصيني والأمريكي والعربي والأيسلندي وغيرهم، جميعهم يعتقدون أنّ ما هم عليه هو الفطرة، فنحن نتأثر بالمحيط والثقافة والمجتمع والعائلة والقانون والجيران والطفولة، فتتكون قناعتنا وشخصياتنا نتيجة لذلك كله، ثم نعتقد أنها الفطرة، فالنظر إلى أسود البشرة على أنه أقل من الأبيض هي فطرة سادت في أمريكا، وكان يعتقد الجميع أنها الصواب وأنّ ذلك هو الفطرة الربانية الطبيعية.

 

متى يمكننا القول أنّ هذه الأخلاق أو الصفات نتاج الفطرة وأنه ليس للدين علاقة بها أو تأثيراً عليها، حينما نأخذ مثلاً 100 طفل رضيع ونضعهم في جزيرة نائية لا يختلط ساكنيها بالعالم، ونوفر لهم الطعام والشراب ولا نعلّمهم أي شيء، ونقول لهم انطلقوا ونراقبهم، هل سيحبون بعضهم البعض، هل سيقتلون بعض، هل سيحكم قويّهم ضعيفهم، هل سيسمحون بالسفاح العلني أم سيحكمون أن رجل وامرأة زوج واحد ولا يمكن المشاركة، هل سيعودون المريض أم سيطعمونه للوحوش، هل سيعطفون على الحيوانات أم سيعذبونها، هل سيعيشون حتى النهاية أم سينتحرون باكراً، هل سيعطفون على كبيرهم أم سيأكلونه، وغيرها من السُلُوكيات التي ندّعي أنّ ليس للدين علاقة بها وأنها مُجرَّد فطرة.

لا يمكن الاعتماد على البشرية، فقد رأيناها في الحرب العالمية، رأيناها في قدر سكان أفريقيا في عيون رواد أوروبا، في الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، في مئات النماذج المخزية، بل رأيناها في الحياة اليومية فقد أظهرت بيانات قدمتها منظمة أمريكية مدنية أنّ الولايات المتحدة تشهد جريمة اعتداءٍ جنسي كل 98 ثانية، وفي كل ثماني دقائق يكون ضحية الاعتداء طفل [173]، البشرية معيوبة وستبقى كذلك، إنها بحاجة إلى من يذكرها بالاستقامة.

ولكن، هل قولي إننا بحاجة إلى الدين هو من باب التبرير كما عادة العقل البشري؟ التبرير ليشعر بالراحة ويبتعد عن القتال، لا أعلم حقيقة، لكن حينما فكرت بالابتعاد عن الدين تكاثفت كل العوامل في عقلي لتبرر أنّ الدين سيء، ثم حين سرت في سيناريوهات عدم وجود الدين، عدت وفكرت في الدين أكثر، وتعاضدت كل العوامل من جديد في صالح الدين بتفكير أوسع من السابق، إن شئت سمِّه تبريراً ولن أعترض، فأنا وغيري لم نحل لغز العقل البشري بعد، ولا نعلم حقيقة منبع الأفكار من الأساس لنحدد هل الفكرة أصيلة أم تبريرية.

جميعنا نفضل الراحة والنوم والكسل، لكنّ الالتزام في العمل والمواعيد والوعود أمر مهم لتحقيق أي نجاح في الحياة، والدين هو أكبر حافز لتنظيم المواعيد وتعويد الإنسان على الالتزام، لديك مواعيد مُحددة للصلاة، للصيام، للحج، لديك التزامات يومية وأسبوعية وشهرية وسنوية، لديك الكثير من البُنود لكي ترتبط بها بدرجة عالية من الانضباط والالتزام حتى تصبح عزيزي الإنسان أقرب إلى الكائن الأسمى.

إذا سمح الإنسان لنفسه أن ينتهك القوانين أو الشرائع كلما دفعته شهواته لهذا الأمر، فأي قيمة للدين أو القوانين حينها!، وإذا لم يقف الدين حائلاً أمامك إذا أردت اتباع شهوتك في السرقة أو الزنا أو المتعة أو الكذب أو القتل، وشعرت بضيق شديد من الدين لأنه منعك رغم رغبتك الشديدة للفعل، فلا قيمة للدين حينها عندك، إنّ الدين وُجد لهذا الغرض.

عندما تتمرد الرغبة على قسوة المبادئ، تظهر أهمية طاعة المبادئ: إنها بالقوة الخارجية من تعصم هذا التمرد الذي سيردي الإنسان إلى ما هو عكس مطلوب منه فيما لو استجاب له في لحظة ضعف.

كم رجل يرغب امرأة لا تحل له وكم امرأة يحثها جسدها أن تستجيب لنداء الطبيعة، فتستسلم لفكرة أنها خُلقت لشاب وحالت بينهما الأقدار! فما الذي سيمنع أياً منهما من الاستجابة لهذه الرغبة الجامحة، يظهر الدين أو المبادئ القاسية مثل أب رحيم يمسك بتلابيب ابنه، بل يصفعه إذا اقتضى الأمر، ليمنع وقوعه في حفرة لا مخرج منها.

إنّ المبادئ لم تُخلق للأوقات الميسورة فحسب، لم تُخلق للحظات التي تغيب فيها الغواية والإغراء، بل خُلقت لهذه اللحظات أيضاً، خُلقت لتقيدك فتحرمك من الاستجابة لغواية الهاوية، لم تُخلق المبادئ للإنسان الذي لا يشتهي الجنس، ولا يثور مغيظاً، ولا يغار لسبب من الأسباب، لقد خُلقت للبشر، خُلقت للمرأة الجميلة المشتهاة المشتهية، وللرجل الغضوب القادر، وللإنسان الغيور الذي يلتهب لأدنى بارقة مس بالكرامة، لم تُخلق المبادئ إلا، للبشر الحقيقيين، إنّ المبادئ تحميك أنت أولاً، ولو رغم أنفك، وتحمي المجتمع كذلك[147].

يُهوّن عليك الدين عند المصيبة فيخبرك ألا تقلق كثيراً فالمستقبل مكتوب بيد الله، ومصيبتك هذه أنت مأجورٌ عليها، ليس عليك الانتحار أو البكاء ليل نهار، بل عليك أن تسعى لحلها مع الصبر، نرى أنّ الدين يكمل الأحجية ويضع الحجر الأخير في البناء وهو لازم في كل مكان، وهذه بعض أمثلة أهمية الدين في الحياة.

الدين والحياة اليومية

حينما تُوفيت خالتي وقفت بجانب جثتها ونظرت إليها وتذكرت الأيام الجميلة التي مرت علينا سوياً، على الرغم من أنها جثة هامدة الآن ولا شيء يربطها بهذا العالم إلا أنّ وجودي بجانب الجثة أمرٌ له مشاعر خاصة لا يمكنني فصلها عن السياق العام للحياة بأن الميت قد انتهى من الحياة، وأتساءل هل الجلوس بجانب الجثة أمر ديني أم فعلٌ وثني، أم مُجرَّد عمل يقوم به الإنسان هكذا دون تفكير وتوجيه مسبق، ولا يمكن فصل مشاعر الإنسان في هذه اللحظات عن كيانه ككل، كذلك حينما أمر من جانب قبر أبي وعلى الرغم أنه قد تحلل الآن رحمة الله عليه إلا أنني أشعر بشيء ما يجذبني إلى قبره وبوجود مشاعر تشدني لكيانه، هُنَاك ذكريات كثيرة ولحظات متداخلة، لا يمكننا فصلها عن الذات البشرية، هذه المشاعر هي ما تجعلنا بشر رغم كل المادية في حياتنا.

 وحينما قمت بذكر والدي وقلت رحمة الله عليه، لم تُضِف هذه اللفظة له كثيراً، فقد انتقل إلى عالم آخر، لربما هي وسيلة للتخفيف عن النفس، وفي حال عدم وجود الدين يمكنني القول كلما تذكرت أبي: عَلا ذكره، أو جل شأنه، أو استمر خيره وهكذا، هي عبارات قد يكون لها أثر كلمات الدين نفسها وهي للإنسان نفسه، شأنها شأن العديد من الأمور التي حث عليها الدين لتمجيد الشعور البشري، ولكن لماذا قلت رحمه الله على والدي؟ هل لأن الأمر ديني؟ لا على ما أعتقد، هو مُجرَّد أمر يريحني وجلبته من الدين، أنت تفعل ذلك وقد تقول، دام نوره، أو حسنت ذكراه أو ما شابه، هذا فقط لكي تحسن من نفسك، وهذا ما يحاول الدين فعله، يحاول ملء كل اللحظات عليك وجعلها جميلة وذات معنى، ويريحك من عناء النحت.

ستبقى البشرية تدور في الدوائر نفسها، صراعات ونقاشات مرتبطة بالصدق والأمانة والشهوة والطعام والجوع والأبناء والجنس والمال، لذلك ستظل المسائل نفسها حاضرة في كل زمان ومكان، فإنّ تساؤلات مثل كيف أكون صادقاً، كيف ألبي شهوتي بطريقة صحيحة، متى أتزوج، ومن أختار وإلى أين بعد ذلك، ستظل قائمة إلى الأبد، قد يتوفر في هذا الزمان مدارس تعلمنا كيف نغتسل بعد الجماع وتؤكد على أهمية ذلك، إلا أنه في أزمان أخرى لم تكن هُنَاك هذه الدروس، لم يكن هُنَاك حصص في المدرسة مخصصة للصحة الجنسية، وقد لا تكون في المستقبل أو حالياً في دول أخرى، فالدين لا يعيبه ذكر التفاصيل البسيطة، بل هي ميزة لديه، وكثير من تعاليم عصرنا هذا انبثقت منه، الدين يخبرك أنّ النظافة مهمة لأنها نظام متكامل لحياتك، المجتمع يخبرك أنّ النظافة مهمة حتى لا يشتم رائحتك النتنة، والحكومة تخبرك بذلك حتى لا تخسر في علاجك، وبوذا يقول لك ذلك لأنه يحبك، أي مصدر يخبرك أنّ النظافة مهمة لنهتم به ونشكره.

سيظل موضوع النظافة قائماً لمئات السنين كما المواضيع الأخرى، فالبشرية كما هي، إلا إذا توصل العُلماء مستقبلاً إلى عملية تعديل جيني ليصبح الإنسان مثل الروبوت بلا مشاعر وأحاسيس ويمكن برمجته فيستيقظ في الثامنة صباحاً، ثم يقوم بتنظيف أسنانه تلقائياً، ولماذا أصلاً الأسنان، نبرمجه جينياً فيولد بلا أسنان، ونجعله يتناول الطعام شراباً فقد مسحنا من جيناته شهوة الطعام، وسيصبح مُجرَّد آلة عاملة تأكل لتتزود بالوقود اللازم لإنتاج الطاقة، في هذه الحالة يمكننا القول أنّ كل هذه التعليمات الدينية والنصائح تشكل أعباءً لا تلزم، فالبشرية لم تعد بشرية.

قد تسمع تهكمات حول موضوع النظافة والغُسل بعد الجنابة، ولماذا يجب على الدين أن يأمرنا بالغسل وأنه أمر بديهي، لكن لو جربت القيام بالبحث في محرك جوجل فستجد أنّ هُنَاك 145 مليون نتيجة عن كيفية الاستحمام بعد الجماع، وهذا يعني أنّ الأمر البديهي بالنسبة لك، هو سؤال يراود الملايين غيرك، تتنوع العقول ومستويات الفهم والثقافات، والدين يستوعب ذلك كله ويجيب عليه.

الدين يشجع على النظافة، ونحن نعرف أنّ هُنَاك أشخاصاً لا يغتسلون رغم تركيز الدين على النظافة، وهذه الفئة يجب أن تجد مشجعاً لها أو عاملاً حافزاً للاستحمام في الحالات المُختلفة. على سبيل المثال، بعد عملية الجماع هُنَاك غُسل، وفي يوم الجمعة يُستحب أن تغتسل، وفي الأعياد كذلك، كما نرى يحاول الدين أن ينظم حياتك في هذه الحالات، إذا أحببت النظافة ستكون سعيداً أنك تسير على الدرب، وإذا لم تحب النظافة نحن سنشجعك، وإذا لا ترغب أن تستحم لن نعزرك ولكن لن يكون هذا أمراً جيداً.

هُنَاك العديد من الأمراض التي يمكن انتقالها عبر الاتصال الجسدي، فقد تلتصق البكتيريا والفطريات بأعضاء الإنسان، ومن ثم ستتكاثر وتنقل له عدوى، إذن فالغسل أمرٌ صحيّ جداً، فضلاً عن شعور النظافة المريح، ولأنك ولدت في مجتمع مُسلم أو متدين قد تعودتَ النظافة، لكن العالم لم يعرف النظافة إلا بعد وصول الدين، ولعلي أذكرك بملكة أسبانيا إيزابيلا التي لم تغتسل في حياتها إلا مرة واحدة، والقصص كثيرة في عالم النظافة قبل الإسلام، فشكراً للدين الذي جعل العالم نظيفاً، ثم يعتقد العالم أنه جيد دونه، انظر إلى إحصائيات النظافة حول العالم، إحصائيات الاستحمام، إحصائيات الغُسل، إحصائيات تنظيف القبل بسبب الصلاة، لن تجدها مرتفعة إلا عند المُسلمين، مَن مِن غير المُسلمين ينظف قُبُله بعد كل عملية تبول للمحافظة على الطهارة؟ لقد اعتاد المُسلمون الأمر سواء كان هُنَاك صلاة أم لا، يجب عليهم المحافظة على الطهارة، ومن يُولد في وسط مُسلم وإن لم يكن مُسلماً، سيرى أنّ النظافة أمر بديهي.

النظافة مثال واحد على دور الدين في الحياة اليومية، والدين يرتبط في تحسين وتنظيم كل الفعاليات اليومية الأخرى، إنه نظام حياة متكامل مترابط.

الرسل

ولكيلا يظهر الله للناس جميعاً، وتفسد مسألة الإيمان كما عرضنا في فصل الإله، أنشأ الله قناةً وسيطة لإيصال رسالته للعالم، وانتقى أفراداً من كل منطقة وفي كل زمن لينقلوا رسالته دون تزييف أو كذب، واختارهم الأكفأ لتمثيل ما يدعون الناس إليه باسم الله، ويتساءل صديق لماذا لا يكون الرسل مرضى نفسيين رأوا في خيالاتهم أنّ هُنَاك قوة عظمى تكلمهم فانطلقوا في الشوارع كالمجانين يدعون إلى هذه القوة والتي جرى أن نسميها الله، وتحدوا بجنونهم كما فعل كل المجانين ولمعت أسماؤهم، ورأينا في عالمنا الكثير من المجانين أو الدجالين الذين ادّعوا النبوة بل والألوهية وقد نجحوا أشد النجاح!

من الأدلة العقلية على أنّ ما يمارسه الرسل ليس مُجرَّد جنون، بل شيءٌ يفوق الإرادة البشرية هو مقدار الكم في مواطن القوة التي يجب أن تكون في شخصه في تلك الأزمان، وفي كل زمان نسمع بوجود فلاسفة مبدعين قاموا بقلب الطاولة على المجتمع المحيط، غالبية هؤلاء الفلاسفة تراهم يأخذون فكرة موجودة ويقومون بالتعديل عليها، مثل وجود فكرة سائدة أنّ المرأة جارية، والفيلسوف يقوم بإضافة تعديل بسيط، هو أنه يجوز لها أن تتكلم أحياناً.

الفكرة الجديدة هذه تكون طفرة في زمن ذلك الفيلسوف، ولكن أن يأتي فيلسوف بفكرة جديدة كلياً من عالم آخر لهو أمر نادر كلياً، فمثلاً أن تكون المرأة عبدة في مجتمع، ولكن يأتي فيلسوف ويقول المرأة مثل الرجل، بهذا الشكل والوضوح مباشرة يكون قد فجر قنبلة في حالات نادرة لم تتكرر.

ولكن ما احتمالية أن يأتي شخص في زمن سحيق بـ 40 فكرة جديدة مثلاً، وكلها من هذا النوع الانفجاري!

ناهيك أن يكون هذا الشخص ذا شخصية قيادية وقوية وليست فلسفية فقط، فلا يفترض على الفيلسوف أن يكون قائداً، أو قوي الشخصية والإرادة، لدى العديد من الفلاسفة مشكلات نفسية أو منعزلين أو المجتمع قام بطردهم، أو انعزلوا وبعد سنوات طويلة سمعنا بأفكارهم.

فما بالكم أن يُصرَّ هذا الشخص على تبليغ فكرته وبذل الغالي والنفيس في سبيل نشرها ولربما خاض حروباً ومعارك لا أول لها ولا آخر، ورغم كل هذا كان الناس يصفونه بالأخلاق النبيلة والشجاعة والكرم والذكاء والأمانة والصدق، أعداؤه قبل أصدقائه، والأدهى من ذلك أن ينتصر هذا الشخص، كل هذا يستحيل أن يتم جمعه في شخص طبيعي، إلا أن ترافقه قوة من السماء تعاتبه في كتابها المقدس حين يخطئ، يستحيل إلا أن يكون بشراً نبياً.

هُنَاك بعض الفلاسفة الذين اعتبرهم الناس أنبياء بعد موتهم مثل بوذا وزرادشت وكونفوشيوس، وهذا منطقياً لا يجعلهم أنبياء، فالنبي يجب أن يُعرّف عن نفسه في حياته ويوضح أنه مُرسلاً برسالة لا لبس فيها، ويمكننا أن نتأكد من صدق أي نبي عبر تقصي أفعاله في حياته، فهل كان يُمثل ما يدعو إليه؟ هل كان قبل الرسالة حسن الخلق، صادقاً وأميناً، يحبه الناس ويتقبلونه كما كان بعد الرسالة؟ وكما نرى فالفلاسفة على الأغلب حملوا عكس هذه الصفات مثل الإخفاق العاطفي والأمراض النفسية والسجن والقضايا الأخلاقية، وكيف للراسبين في الحياة أن يعلمونا كيف نعيشها، وإن ترابط الصفات البشرية العليا بالنجاح في حياة الرسل لهي دلائل على أمر غير اعتيادي، والأمر غير الاعتيادي إذا لم نستطع تفسيره تفسيراً علمياً دقيقاً وكان هُنَاك تفسيرٌ دينيٌ متاح، فلا مجال لنفي التفسير الديني، وإلا فاجلب دليلك.

يمكننا إسقاط موضوع الأنبياء ومعجزاتهم على حاضرنا، بأنه لو جاءنا رجل في الوطن وقال أنه رسول من عند ذات أسمى هي الله، وعليكم أن تتركوا التباهي وألا تأكلوا الطعام غير الصحي وأن تتوقفوا عن ظلم العمال وعليكم أن تتناولوا الطعام في طبق صغير وليس طبق كبير، ومن لم يطعني سيدخل النار خالداً مخلداً فيها، حينها جزء منا سيضحك عليه، وجزء سيقول مجنون، وجزء سيقول أين دليلك، ما يقترحه من أمور سيجعل بعض المتخصصين يضحكون عليه وهكذا، هو بحاجة إلى دليل قوي، في عصر العلوم الآن يجب أن يجلب معجزة علمية كبيرة تدهش كل من حوله، مثل صناعة ثقب دودي لنقل الناس إلى الماضي أو نقلهم إلى كوكب آخر، وإلا لن يصدقه أحد، لو جلب معجزة مثل صناعة القهوة من الرمل لن تكون ذات قيمة في ظل هذا التطور، فالمعجزة يجب أن تكون مناسبة لزماننا، وسيصعب عليه وعليكم أن تدخلوا تحت جناحه وتسلموا له، الأمر صعب جداً الآن، ولا شك أن الأمر كان سابقاً أسهل، انظروا لفيلسوف يجلب فكرة جديدة كم يُحارب، وقارنوه بلاعب خفة يُؤَدِي حركات مخادعة كم يتم تسليط الضوء عليه، الأمر صعب ورفض الناس للأنبياء أمر أساسي، من منا سيقبل أن يغير مبادئه لمُجرَّد أن قال رجل أنه يجب ذلك! النبي بحاجة إلى معجزة في زمانه، حتى يؤمن الناس به وهذا طلب مشروع من الناس وهذا ما حدث مع كل الأنبياء، أتوا بمعجزات لتثبت صدقهم عند قومهم.

يقول الباحث المتخصص في العلاقات بين الأديان كريغ كونسيدين أن جملة لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى التي قالها النبي محمد صلى الله عليه وسلم تجعله أول شخص في تاريخ البشرية يحارب العنصرية والعبودية والتفرقة على أساس العرق أو اللون [174]، تجعله أول شخص في تاريخ البشرية عارض العنصرية والعبودية، ولا يمكن لهذه الجملة القنبلة التي أسست لكل ما بعدها من جمال أن تكون نتاجاً بشرياً إذا أضفنا إليها مئات الجمل والقواعد الأخرى التي وضعها محمد، فضلاً عن محاربته قومه وحيداً لتطبيق هذه القواعد، والأدهى من كل هذا أنه نجح في النهاية!

ولكننا نرى أيضاً أن نيوتن قد أتى بكتاب عظيم فيه من البرهان ما غيّر الدنيا، وكذلك أينشتاين وكانط وماركس، بل وهناك ما هو أغرب؛ فمخطوطة سيرافيني فيها من الغرابة والحداثة في عالم خاص بالحيوان والنبات والفيزياء ما يجعلها من غير عالمنا.

هذا الكلام صحيح لكنه غير دقيق، فمخطوطة سيرافيني تنم عن عقل مبدع لكنها كتاب طلاسم وخيال علمي ولا تفيد البشرية بشيء، وكتاب نيوتن وأينشتاين وغيرهم هي كتب علمية وضعت قواعد علمية مخصصة ولم تضع قواعد اجتماعية وروحية وسياسية وتشريعية بالإضافة إلى علميتها، هي كتب فيها مزايا أو خصائص جديدة لكنها لا ترقى للمئات من مزايا كتب الأديان، كذلك لم يعلن أينشتاين أو نيوتن أنهم من الأنبياء، لأنهم ببساطة لا يستطيعون، لا يملكون القوة ولا الجلد ولا الرسالة الكاملة، هم علماء مميزون لكنهم ليسوا رسل مرسلين.

صورة 32 مخطوطة سيرافيني أو كودكس سرافينيوس، ‏ هي كتاب مصور مكتوب بلُغة غير مفهومة ليس لها معنى، قد اخترعها لويجي سيرافيني، مع رسوم توضيحية غريبة لا واقعية عما يشبه اختراعات وأشكال نباتية وهندسية وحيوانية وإنسانية بطريقة مبتدعة.

مبادئ

إنّ النقطة الأولى في أي رسالة دينية هي إعادة الاعتبار للإنسان الذي يُعد محور هذا الوجود، وإعادة الاعتبار للإنسان تبدأ بتحرير العقل وإعادة الاعتبار له عبر فك قيوده، وذلك بإسقاط القيود والمعيقات التي تقف في طريق الوصول إلى الحقيقة.

وإنّ كثيراً من أسباب انتشار الإلحاد واللادينية والربوبية التي انتشرت في الآونة الأخيرة تُعتبَر لها أسباب منطقية، فنسمع كثيراً أنّ صديقاً اتجه إلى اللادينية شيئاً فشيئاً، ولربما الإلحاد في النهاية، هي خطوة في اتجاه التفكير، فحينما يرى بروفيسور متخصص الدين يقول أنّ الأرض مسطحة، وهذه الأرض هي مركز الكون والشمس تدور حولها، والأرض ثابتة ولا تتحرك وغيرها من الصور [3]، وهذا البروفيسور الذي يرى ناسا ويرى الأدلة العلمية والمصورة والإنجازات العلمية واضحة جلية، يؤكد له علماء الدين أنّ الأرض مركز الكون، ويجلب له الآية ويناقشه وينقل له قول العلامة بكذا وكذا، فيكون أمام البروفيسور المتعلم ثلاثة خيارات وهي:

  1. يحتمل أنّ ناقل الكلام قد أساء الفهم، ويجب أن يبحث بنفسه ويتأكد.
  2. أن يعتقد وجود أخطاء في الدين، وهذا يعني أنه ليس كلام الله، لأنّ حرفاً واحداً خطأ يعني بُطلان الصواب المطلق.
  3. أن يقرر ألا يُعمل عقله، ويقبل المتناقض، وهذا مُنافٍ للمنطق.

وحينما يفكر الإنسان ويرجح كفة الشواهد على كفة التفسير أو التأويل ويقول أنا لا أرتاح لهذه الفكرة يكون قد سار في الطريق الصحيح وأخذ الخطوة الصحيحة نحو توحيد الديانات السماوية، وهو يتوافق مع حس التمرد والبحث والاستكشاف عند أول الأنبياء آدم عليه السلام إذ بدأت حياته الحقيقية حينما اتخذ قراره الأول، وفاضل بين أمر الله ونفسه.

وكل الأديان السماوية مبنية على جملة لا إله إلا الله، وهذه الجملة تقول “لا إله” ثم “إلا الله”، إذ تبدأ جملة التوحيد بكفر، نعم تبدأ بالكفر بكل الآلهة الموجودة في الوجود، ثم التسليم أنه يوجد إله واحد وحيد هو الله، الكفر بالآلهة التي تقول لك لا تُفكر وسلِّم بالمجهول، ولا يتوجب على عقلك الذي خلقه الله لكي يفكر وكرّمك به وجعلك خليفة في الأرض أن يفكر، بل يجب عليه أن يتعطل وأن تضعه جانباً، وعليه التسليم مباشرة بما يقوله الإله الآخر، والإله الآخر له أشكال متعددة لا تنتهي، منها رئيس القبيلة، الشيخ المفسر، إمام المسجد، المؤسسة، الشركة، أمك أو أبيك، صديقك، العادات والتقاليد …إلخ، هذه الآلهة تقول له سلّم بما أقول، ولا تُعمِل عقلك، لا داعي لأن تتفكر، تتأمل، تحلل، تكتشف، تتحقق، نحن نختار لك الطريق.

قد لا يحتاج شخص يعيش في الغابة وحيداً إلى دين، فإنه سيكتفي بالأكل والتمتع والنوم وإعادة الروتين اليومي، قد يظلم نفسه، قد يتساءل ولا يجد إجابات، لكن مع وجود شخص إلى جانبه فإنه سيحتاج إلى قانون ينظم حياتيهما، وأي موضع في هذه الحياة لا يوجد به علاقات متداخلة بين البشر بحاجة إلى تنظيمها، بل ولتنظيم علاقة الإنسان بالشجر والحجر والشمس والقمر، والأهم من هذا تنظيم علاقة الإنسان بنفسه، فالدين أساسيٌ مهما كانت الظروف.

ومن المنطقي أن كل من تُوفي خلال رحلة بحثه عن الحقيقة فقد حقق الهدف من وجوده وإن لم يصل، سيرحمه الله إن شاء، حينما يقف أمام الله، سيقول لله، لقد أعملت عقلي يا رب ليل نهار لكي أصل إلى الحقيقة، هذا عقلي الذي منحتني إياه توصل إلى هذه الفكرة صدقاً ولم أجحد بأي فكرة مَثُلت أمامي وعرضتها على هذا العقل الذي منحتني إياه، وهذا أقصى ما توصلت إليه، إن كان صادقاً ولم يدخر وقت في البحث وهو ما سنستعرضه بعد قليل.

دين أم فلسفة

تحاول بعض كتب الفلسفة صياغة عقيدة فكرية فلسفية كأسلوب حياة بديلة عن الدين، ولا أعلم ما الفائدة من طرح هذا البديل أمام الدين الذي يطرح نفسه كلاعب أساسي في هذا المضمار، إنّ البحث عن بديل ليحيد عن هدفه الأساسي حتى ينافس الدين يشبه شراء سيارة بهدف تحويلها إلى غواصة، بدلاً من شراء غواصة مصممة لهذا الغرض.

يحاول أن يخبرك الفلاسفة في قالب فلسفي أنّ بالإدراك العقلاني الهادئ يمكّنك أن تتحرر من الانفلاتات السلبية البدائية كالغضب والخوف والكراهية، ولكن لماذا فلسفة البساطة وهي موجودة في الدين، الدين يخبرك في كل مواضعه ألا تغضب، عشرات الأحاديث والآيات والقصص عن الغضب إن لم تكن مئات، وكذلك المواعظ عن الخوف والكراهية في إطار متكامل من الحبكة الدرامية والعاطفية والشعورية والاجتماعية التي تجعل من شخصٍ غضوبٍ مثلي حملاً وديعاً بين أنامل زوجتي.

إنّ الفلسفة كما رأينا تخبرك بحقيقة الحياة على أنها بلا أمل غالباً، وأنها بلا معنى، والتفكير الزائد ضار، وما سعي الإنسان فيها إلا لإيجاد معنىً في ظل هذا العبث الوجودي، وأنّ الانتحار خيار الأقوياء، بل إنّ الفلسفة لا تقف مع المُعذَّبين، بل تخبرهم أنّ هُنَاك الأقوياء والسادة، والبشرية معيوبة هكذا، وعليك بقٌبول الحياة، وأنّ الأمل أسوأ الصفات البشرية وهُنَاك الكثير من الأمل في غياب الأمل!

أما الذي يعطي النفس البشرية أفكاراً دافعة له في الحياة هو الدين، الدين هو ما يجعل الضعف قوة، الدين هو ما يمنحه أمل التغيير الفردي والجماعي ويعطيه القوة العظمى، ويشجعه على السعي وإن أفنى عمره أو مات في سبيل حريته ومبادئه، أفكار الجنة والخلاص والبطولة غير موجودة إلا في الدين، أما الفلسفة فتخبرك غير هذا، الدين من يخبرك أنّ الكون مصمم لأجلك، ويسير معك، وأهلك وأحبابك سند فيه، والمحبة والإخلاص أسلحتك ضد الضعف، العاطفة والتضحية هي أسمى ما يملك الجنس البشري في مواجهة مآسي الوجود.

بعكس ما يرى الفلاسفة أنّ الخوف من الله ومن عقابه وغضبه وتقدير المجتمع هي أمور غير محمودة، وأنّ الشعور بالذنب حينما يقترف الإنسان الأخطاء والآثام هي أمور مفسدة للجنس البشري، ولعمري أتعجب من إنسان يعتقد أنّ الشعور بحقيقة الجنس البشري وبضرورة مراجعتها حينما تضع رأسها على الوسادة ضعفاً وليس قوة.

تعيب الفلسفة على الدين أنه يُنمي الأجواء الحزينة أحياناً كالخوف من الله، كما رأى نيتشه أنها من غرائز الانحطاط لأنها تؤدي إلى تأثيم النفس، ويراها فرويد أنها من قوى الموت، لكن الندم على اقتراف الشرور لهو الدافع الأساسي الذي يمنعنا من اقترافها مرة أخرى، إنّ ظلم الناس والشعور به أو الخوف من عقاب المجتمع أو عقاب الله إن لم يرَنا المجتمع لهي أعظم الهبات في حماية البشرية من طغيانها على بعضها البعض، إني أستطيع أن أغتصب فتاة في مكان منعزل ولا أحد يمكنه أن يدري، ولكن خوفي من الله هو ما يمنع تحطيمها نفسياً إلى الأبد، شعوري بالخوف من غضب الله لهو دافع لا يمكن تناسيه في هذه اللحظة، خوفي من انتقام الله أو من ناره لهو ما يخبرني أن أصبر لأن الله سيعوضني في الجنة، لا أعني أنّ هذا هو الخيار الأمثل، لكن البشرية طبقات، منهم من يعمل الخير لنفسه، ومنهم من يعمله خوفاً ومنهم من يعمله طمعاً.

إنّ الكره الناتج في قلوب المُؤمِنين جرّاء رؤيتهم لشخص ظالم أو كاذب أو قاتل لهو أمرٌ أساسيٌّ في الإنسانية، أم هل المطلوب من البشرية أن تضحك في وجه قاتل مفتري! أليس من الصواب أن نغضب حينما نرى سياسي شرير يأكل حقوق البسطاء، أم أنّ الغضب هنا صفة سلبية عزيزتي الفلسفة!

القرآن والسنة

وقد تنزل القرآن الكريم عبر الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم قام النبي بقراءته أمام المُسلمين لكي يحفظوه وينقلوه إلى الأجيال الأخرى في كل يوم، في كل صلاة، في كل لقاء، بل وفي حلقات مراجعة الحفظ، وقد سمعه الآلاف ونقلوه إلى الآلاف، والقرآن هو كلام الله الواجب حفظه ونقله، وطوال الـ23 عام من البعثة كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقوم بأفعاله اليومية في الحياة مثل النوم والأكل والمعاملات والحزن والغضب والزواج والإنجاب والأصدقاء، وكذلك كان يقوم بمهامه كرسول وبلّغ رسالته، وكحاكم فقد سنَّ القوانين، حصلت أحداث عديدة قام صحابته بحفظها ونقلها إلى الأمم والأجيال التالية وعُرِف ذلك بالسنة النبوية التي تحتوي على حديث النبي للناس، وفعله، وتقريره، وكأي رسول آخر قد تم نقل الكثير من أفعاله الصحيحة، لكن خالط نقلها في بعض الأحيان الخطأ والنسيان أو الدس.

حتى ينظم المُسلمون هذا الأمر اهتموا بسند الحديث المنقول، والذي هو عبارة عن سلسلة الرجال الذين نُقل الحديث عن لسانهم حتى وصل إلى القائل الأصلي وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي نراها في بداية كل حديث في صورة (قال فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا)، كذلك اهتموا بمتن الحديث، والمتن هو نص الحديث الذي يأتي بعد السند من قول أو فعل أو تقرير، فهو لب وجوهر الحديث، بعد أن ينتهي السند من حدثنا فلان عن فلان يأتي المضمون (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا وكذا).

كما واعتمد المُسلمون تقويماً يعتمد على موعد هجرة نبيهم من مكة (مدينته الأصلية) إلى المدينة هرباً من التعذيب والتنكيل، لنشر رسالته بعيداً عن الخوف والرعب، في اعتبار أنها الهجرة الأسمى والأهم في تاريخ الإسلام، وهي ما يجب أن يفعله كل مُسلم، الهجرة من عالم الدنيا، إلى عالم الإسلام.

ويُصرّح البخاري أشهر جامع للأحاديث ومنظمٍ لها في كتابه أنه قد جمع 600 ألف حديث خلال سنوات لا تزيد عن 16 سنة، والمقصود بهذه العدد من الأحاديث هو الطرق والروايات والأسانيد المُختلفة التي وصلته عن الحديث، فالحديث الواحد معدود بسنده ومتنه، فإذا تعدد السند تم عدهم كأحاديث مُختلفة، أي أنّ حديث مثل بني الإسلام على خمس، إذا قاله خليل، فهو يعد حديث، وإذا قاله خالد فهو يعد حديث، ولذلك يمكن أن يكون للحديث مائة إسناد أو أكثر، فيحسب مائة حديث، وهذا ما يقلل عدد الأحاديث بشكل دراماتيكي، ويجعل عددها في أقصى تقدير 35 ألف حديث سواء صحيح أو غيره، وقد نبه على هذا المعنى النووي وغيره من العُلماء المختصين، وهذا أمر واضح في علم الحديث لا يحتاج إلى تنبيه.

ويميّز المختصون في علم الحديث اختلاف الأسانيد بسهولة، فمثلاً حينما يسمع المختص حديث إسناده عن الحسن البصري عن النبي…، يتوقف المختص مباشرة فيقول هذا الحديث ضعيف لأن الحسن البصري لم يلقَ النبي فكيف يروي عنه، أو حينما يسمع في حديث عن الواقدي عن….، يتوقف مباشرة لأن الواقدي شخص متروك الحديث، أي إنّ بعض الأحاديث لم يستغرق الحكم عليه سوى ثانية واحدة من قبل المختص، ومن هذا يتضح أنّ 16 عام للبخاري الذي صنف كتاب (التاريخ الكبير) كافيات جداً لدحض ما كان غير ممكن.

كذلك لم يقم البخاري بتأليف هذه الأحاديث بل كانت موجودة ومكتوبة ومحفوظة قبل مولده وقد جلب البخاري أغلب هذه الأحاديث من كتب أشخاص سبقوه مثل الحميدي وابن راهوية وأحمد بن حنبل ومعمر بن راشد ومالك بن أنس، فمثلاً يحتوي مُسنَد أحمد على 40 ألف حديث بالمكرر، وأحد أساتذة البخاري المسمى يحيى بن معين كان قد كتب 600 ألف حديث، وقد بدأ البخاري بقراءة الحديث بعد وفاة الرسول ب 195 عام، ولو تتبعت أسانيد البخاري لرأيت أنّ بينه وبين الصحابي الذي ينقل عنه شخصان أو ثلاثة وربما أربعة، علاوةً على أنّ هُنَاك من سبق البخاري من المسانيد كما ذكرنا، كمسند الشافعي، وموطأ مالك ومسند أبي حنيفة ومسند أحمد، فموطأ مالك دُوّن عام 158 هجري، ومسند أبي حنيفة قبله بسنوات قليلة، ومسند الشافعي بعده بسنوات قليلة، ومسند أحمد بعد مسند الشافعي، ولربما كل هذا الضجيج دار حول البخاري وحده، لأنه كان قاسياً في قٌبول الحديث، فوضع لوضع الحديث في كتابه شروطاً يصعُب على الكاذبين تجاوزها.

ولد البخاري في مدينة بخارى التي تنتمي إلى (تركستان) التي كانت جزءاً من ولاية (خراسان)، وفي زمن الأمويين والعباسيين (أزمان حكم إسلامي من 660 م إلى 1020 م) كانت قد غدت خراسان من أهم الحواضر الإسلامية، وخرج منها الكثير من الفلاسفة والفقهاء والمحدّثين من أشهرهم البخاري وابن سينا وغيرهم، وكلهم يتكلمون العربية ويؤلفون بالعربية ولهذا شكوك حول كيف قام البخاري بجمع الأحاديث وهو غير عربي الأصل غير دقيقة، لأن فكرة تعريف علماء الدين بأعراقهم هو إسقاط لمشاكل الحاضر على تاريخ رحب وشاسع، وما دام وُلد الشخص لأهل يتكلمون العربية وتعلم العربية وكانت لغته الأساسية فهو عربي اللُغة، فسيبويه إمام العربية لم يكن عربياً بالمعنى الضيق، وهو مثل قولنا لمؤلف يتكلم الألمانية يعيش في بلجيكا وكتب كتاب بالألمانية أنّ كتابك لا يصح، فهل يا ترى في هذا الوقت سيقبل أحد بهذه الفكرة الغريبة، بالإضافة إلى أننا نرى الكثير ممن يدّعون أنهم أصل العرب لا يكتبون إملاءً بشكل صحيح ولا يتقنون اللُغة أصلاً، بعكس بعض الدول الأخرى.

وقد نزل القرآن عربياً، وقد تعربت الكلمات الأعجمية فيه لمُجرَّد أنها كانت تستخدم لدى العرب، ونزل عربياً أي يفقهه العربي بكل سهولة، ويجري إطلاق لفظ الشاذ من القرآن من بعض المختصين على بعض القواعد اللغوية المُختلفة فيه، وهذا غرور منا، لأننا لم نعرف هذه القواعد بالكامل في أقوام عربية أخرى، فقلنا الشاذ، مع أنّ الصواب إطلاق لفظة على غير القياس، أو سماعاً، ويمكننا بسهولة تمييز ما ليس من القرآن مثل محاولة الزج إلى القرآن آية بعنوان: الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما البتة، فضلاً عن كونها رواية رواها شخص واحد ولا يُعتَد بها، إلا أنه من الواضح أنها ليست من بلاغة القرآن ولا من أسلوبه ولا من جماله، بالإضافة إلى أنّ أي شخص حرٌ في أن يقول إنها آية من القرآن، إلا أنّ كل الصحابة كانوا معارضين ولا يقبلوها، هم لم يسمعوها، وهم أهل البلاغة.

مُشكِلة قديمة

ومن غير الصواب الادّعاء أنّ صحيح البخاري وصحيح مُسلم (عالم آخر قام بجمع الأحاديث) ينتسب كل ما فيهما إلى رسول الله قطعاً، كما هي نسبة القرآن إلى الله، وأيضاً من الخطأ القول إنهما لا يساويان شيئاً، ولا تصح نسبة أيٍّ مما فيهما إلى رسول الله، وإنّ الأزهر في مصر والذي هو يمثل منارة المُسلمين الوسطية يرى أنّ كل ما في البخاري ومُسلم صحيح النسبة إلى رسول الله حكماً لا عقيدة مع الإقرار بأنه يمكن أن يوجد بعض مما فيهما مما يستحق النقد من المختصين، ومن المختصين فقط.

وربما ينبغي لنا التذكير بأنه ليس هُنَاك كتاب قام البشر بتأليفه كان صحيحاً بنسبة 100%، سواء في العلوم الإنسانية، أو الإلهية أو الرياضيات، وقد أثبتت الفلسفة الحديثة المادية منها والمثالية ذلك بصورة قطعية.

ومن الصواب السؤال عن آلية جمع وحفظ القرآن والسنة وأن ننظر في آراء المشككين في آلية جمعهم بكل حيادية، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ القصائد والمعلقات قد وصلتنا من قبل ولم يقم أحد بالتشكيك فيها، ويتم قٌبول كتاب الزرادشتية ولا يتم مناقشة ما به بل ويتم التسليم بأنه قد سبق القرآن بالكامل ولا يتم التشكيك فيه! كثير من الكتب والأفكار والكلمات وصلتنا من آلاف السنين ولم يشكك فيها أحد، نقلت إلينا آلاف الوثائق والمنقوشات الفرعونية ولم يشكك أحد في البُنود المكتوبة أو المنقولة منهم، ونُقلت إلينا كتب أفلاطون منذ آلاف السنين ولم نشكك بها، ناهيك بأن العصر الجاهلي أي ما قبل الإسلام من 50 سنة ل 150 سنة كان أبو عمر الشيباني قد جمع وحده أشعار وقصائد 80 قبيلة، والمفضل جمع 126 قصيدة أي ما يقرب من 4 آلاف بيت في المفضليات، ولم يثبت أن طعن أحد في ديوان الأعشى أو ديوان للنابغة لبيد، وغيرها من الصفحات التي تَفُوق القرآن أضعافاً، لكن استكثر البعض على المُسلمين أن يحفظوا كلام رسولهم!

إنّ صحة سند الأحاديث لا تعني بالضرورة أنّ الراوي نقل الحديث بشكل كامل يوافي الحقيقة المطلقة المرجوة منه، فقد يكون الحديث خاصاً أو مجتزأً من النص، وقد يكون الحديث قيل لحالة خاصة فتم التعامل معه لاحقاً أنه عام مثلاً قد يكون حديث ألا بكر فتلاعبها وتلاعبك قد قاله الرسول لشخص معين أراد أن يتزوج فتاة لم تتزوج لأسباب خاصة به، لديه مثلاً حالة وهو بحاجة إلى فتاة أصغر سناً، وهذا يتم بعد أن نقوم بإعادة فحص وتمحيص الحديث من ناحية السند بالكامل نبدأ في فهم تفصيل الحديث ومتنه، وماذا لو قال الرسول كلاماً كثيراً وأتى الصحابي واستمع للحديث من منتصفه أو سمعه عند لحظة معينة فكان المعنى منقوصاً، يبقى هذا عمل المختصون والأحاديث في هذا السياق قليلة جداً.

لذلك لا يجب التحامُل كثيراً على أي حديث غريب، بل يجب المرور عليه في أسوأ اللحظات واعتبار أنّ هُنَاك أمراً إما لا نفهمه أو أنّ الحديث خاص أو له تبعات وظروف خاصة، والصحابة ومن تبعهم قد نقلوه مرة ثانية من باب الأمانة، فهم نقلوا كل ما يستطيعون، وهذا ما نراه في الأحاديث المتضاربة، كما في حديث الوضوء بعد أكل لحم الجمل، فقد أخرج صحابي ريحاً وكان الجميع جلوساً، وقام الصحابة لغسل أيديهم ثم للصلاة، فلم يرغب الرسول أن يحرج من أخرج ريحاً فأمر كل من أكل من لحم الجمل بالوضوء (لكي يصلي)، فتوضأ جميع الصحابة ولم يعرف أي منهم أخرج الريح ولم يُصَب بإحراج، وقراءة هذا الحديث دون معرفة سبب قوله يسبب مُشكِلة لقارئه، وغيرها من الأحداث الأخرى في رواية الأحاديث ونقلها، ولك أن تتخيل أنّ صحابياً لم يحضر حادثة وضوء الجمل منذ بدايتها سيكون لها أثر مختلف، أو لم يسمع الصحابي أول كلمة في الحديث والتي كانت لا الناهية! هذا وقد أجمع العُلماء على أنّ العقيدة تؤخذ من القرآن، والأحاديث يؤخذ منها الأخلاق والمعاملات ويجب أن نوازن فيها ولا تأخذنا الحمية إذا رأينا شخصاً يتبول واقفاً أن نطلق عليه كافر لأنه خالف حديث الرسول بالبول جالساً، في حين أنّ الحديث قيل لغرض النظافة، وحديث لا يقتل مُسلم بكافر على سبيل المثال قيل في المحارب أثناء الحرب، ولكن تم إساءة استغلاله لاحقاً.

وقد سمعت عائشة (زوجة الرسول) حديث يقول “إنّ الميت يُعَذَّب ببعض بكاء أهله عليه”، فأنكرته وقالت كيف ذلك والقرآن يقول “ولا تزر وازرة وزر أخرى” أي كيف يعذب الإنسان ببكاء إنسان آخر والقرآن يؤكد أنّ كل إنسان مسؤولٌ عن أعماله، وقالت السيدة عائشة إنّ سامع الحديث لم يسمعه جيداً فقد يكون سمع إن يعذب الميت بدلاً من لا يعذب الميت ببكاء أهله، أو أنّ الرسول قصد أنّ هذا الأمر يضايق الميت ويؤلمه في قبره، وليس بمقصد أنّ الله يعذب الميت، أو أي شيء مشابه، وهذا يعني أنّ المُشكِلة قائمة منذ السنين الأولى وهذا أمر طبيعي.

من الأحاديث التي وقفت عندها دائماً ولم أصدقها، ويتم استخدامها بكثرة للتأكيد على أنّ صحيح البخاري هو عمل بشري، هو حديث محاولة الرسول التردي من قمم الجبال، ويحاول البعض الدفاع عن الحديث وذلك بتأكيدهم على أنّ الرسول مُجرَّد بشري، يضعف ويستكين أحياناً، ولكم أن تتخيلوا مقدار الاستهتار في هذا الفكر، ورفض هذا الحديث ينبع من أسباب كثيرة منها:

  1. لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فكيف يكلف الله نفساً بالرسالة لا تتحمل وتحاول الانتحار!
  2. لو جلبنا أتعس مواطن في بلادنا فسنجد لديه من الإيمان ما يمنعه من الانتحار، فكيف نقبل فكرة أنّ الرسول حاول الانتحار.
  3. كيف يختار الله لرسالته شخصاً لديه أمراض نفسية يقبل على الانتحار! كيف سيبلغ الرسالة هذا الشخص.
  4. من المفترض أنّ الرسول قوي الشخصية، لديه جلد عالٍ لا يثنيه عن الحياة أي شيء، حتى الموت!

وغيرها من الأسباب، وغيرها من الأحاديث الواردة في قوة الرسول، إلا أننا بمراجعة الحديث في صحيح البخاري نجد أنّ السبب كان واضحاً، الحديث طويل وفيه مقدمة مُختلفة كلياً، ثم يقول الزُهري (الراوي): فَأخْبرنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ “فِيمَا بَلَغَنَا” أي أنّ هذه إضافة على الحديث الأصلي وليست جزءاً منه يرويها الزهري سمعها من كذا وكذا (بلغه)، وهذا ما يفيد أنها إضافة وليست جزءاً من الحديث الأصلي، لذلك هي بعيدة كل البعد عن كونها خطأ في نقل الحديث، ولكن البخاري نقلها كما هي من الراوي، وهذه للأمانة العلمية، ونؤكد أنه يجب ألا نمر مرور الكرام على كل شيء، ويجب التوقف والتفكير دائماً في كل كبيرة وصغيرة، ولكن (نحن) هي العلماء المختصين في هذا العلم، وليس أي طبيب جراح قرأ كتابين.

ولا شك أنه حدث تلاعب شديد في الدين، ككل الأديان، قد يكون تم دس بعض الأحاديث في البخاري لاحقاً لإفساد الدين، أو تم دس بعض الأحداث في كتابة تاريخ المُسلمين لتقوم السلطة (الحكومات اللاحقة) بقمع المعارضين، وغيرها من القصص المتداخلة، التي قد محصها المختصون، والمختصون فقط.

حدود الدين

يحاول بعض المتدينين تكليف الدين أعباءً إضافية وإلباسه أثواباً لا تليق به ومنحه أوسمة لم ينلها، مع أنّ الدين قد صرّح في مرات كثيرة أنّ هذه الأوسمة ليست له وليست في صالحه، مثل محاولة زرع فكرة شمولية الدين لجميع الجوانب غير الروحية والاجتماعية والأخلاقية والتشريعية، كمحاولة زرع فكرة تغطية الدين للجوانب الكيميائية والفيزيائية والكونية والعلمية والجغرافية وغيرها، وهي سرعان ما تنصدم بالواقع وتجعل منفتح العقل في مُشكِلة مع الدين، مع أنّ الدين لم يذكر هذا الأمر، لم يذكر أن سيدنا محمد أنه بعث طبيباً أو بعث عالماً في الكيمياء أو الفيزياء، وإنّ القرآن كتاب نور وهداية وليس كتاب فيزياء وكيمياء وأحياء وطب بشرى، هو يضع لك القواعد الأخلاقية للانطلاق في هذه العوالم، والباقي عليك.

لا يزال هُنَاك من يعتقد أنّ ملعقة من العسل ستشفي أي مرض، ستشفي التهاب اللوزتين وعسر الهضم والسرطان والسكري وتصلب الشرايين والشيخوخة المبكرة وغيرها، متجاهلين أنه حينما أخبرنا الله عن العسل، أخبرنا بشكل عام أنه مُفيد ولم يذكر أمراض معينة يعالجها، وفي ظل تطور الكشف الطبي ووجود أجهزة الرنين المغناطيسي والمناظير وفحوصات الدم، ووجود أدوية مصنعة بدقة تستهدف أنسجة معينة، فإن فاعلية العسل والحجامة والكي وغيرها أصبحت أقل جدوى في علاج أمراض مشخصة، وهي ليست ذات فائدة تذكر إذا تم تشخيص المرض ثم وصف العلاج المناسب، بل ولربما كانت ضارة كما في مرضى السكري، وللأطفال تحت سن معين، أخبرني بالله عليك ما علاقة العسل بشفاء أمراض مثل مرض ويلسون، أو مرض الساركويد، أو حتى الإيدز أو السرطان، وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه على علم بهذه الأمراض وإمكانية تشخيصها؟ ولو كان في زماننا مع هذا التقدم حوله، هل كان سيترك العلم ويلجأ لها!

إنّ فهم الدين يتطلب أن نستخدم الأساليب العلاجية الموثقة المتوفرة في الوقت الحاضر، وأن نتفهم أنّ باقي التقنيات مثل تصوير خلطة أعشاب ما في الكعبة أو الكنيسة، لهي خداع باسم الدين، وتسويق بائس من تجار لا يهتمون إلا بجيوبهم.

ثَمّة أساليب أخرى يتم استغلالها لتوسيع رقعة الدين، والذي قد يفتح الحوض قريباً ويصبح لاعب بهلوان بدلاً من بقائه على شكل رجل حكيم يحترمه الناس، فمحاولات تسخير القرآن في العلاج عبر قراءته أحد هذه المحاولات، هل ‏تعاني من ضيق، إذن عليك بقراءة سورة البقرة، أما إذا فقدت الأمل فعليك بسورة يوسف، وسورة الشرح إذا استعصى عليك فتح أي باب، وللرغبات العاجلة اقرأ سورة يس، أما إذا كنت تخشى الفقر فلا مناص من قراءة سورة الواقعة، وإذا ضاع منك شيء ما فستجلبه لك سورة الضحى، لكن في الحقيقة أنّ هذا الحديث لم يرد في القرآن أو السنة، لأن القرآن ليس بتعويذة أو حجاباً أو بديلاً عن التعليم والعمل الجاد، القرآن في كل آياته يحثك على العمل وعدم طول الأمل، ويطلب منك الأخذ بالأسباب في كل الأحوال، إنّ المحاولات السابقة خبيثة لأنها تجعلك كسولاً متواكلاً على قراءة تعاويذ هاري بوتر لكي يأتي السحر، تقرؤه فتحل مشكلتك، وفي الحقيقة العلاج لا يكمن في استخدام تعويذة آفادا كادابرا، بل إذا كنت تعاني من ضيق، فحاول أن تخرج وتُرّفه عن نفسك، وإذا كنت تعاني من مشاكل مع الأمل والاكتئاب فاذهب إلى طبيب نفسي، أما إذا استعصى عليك أمراً حاول مرة أخرى بطريقة مُختلفة، وإذا رغبت بشيء فاسعَ له، ولتتجنب الفقر، قم واعمل، وإذا ضاع منك شيء فابحث عنه، هذا ما يخبرك به الدين، وهذا ما فعله سيدنا محمد وصحابته الكرام من بعده، العمل والسعي والأخذ بالأسباب وكأن الله لا يسببها.


وفي هذا السياق، فإن وصف القرآن للعالم اقتصر على منطقة جغرافية ضيقة، ولم يذكر على سبيل المثال حضارة الإينكا أو المايا، أو أستراليا، ولو ذكر القرآن أستراليا التي لم تكن مكتشفة قبل 500 عام من الآن لكان أمراً عجيباً، ولكن الآن نحن نتكلم عن استعمار المريخ، سيتساءل أحدنا فيقول، لماذا اقتصر القرآن على الأرض ولم يذكر المريخ؟ وغداً سيقول أحدهم لماذا لم يذكر مجرة المرأة المسلسلة وهكذا، ونعود ونتساءل هل القرآن مطالب أن يكون كتاب جغرافيا أو كتاب فلك ليفوز برضاك؟

صورة 33 آيات من إنجيل يوحنا، الديانة المسيحية أكبر الديانات التي تنتشر حول العالم، فقد جاءت لتكمل مسيرة الديانة اليهودية على يد النبي عيسى، لذا على كل مسيحي أن يؤمن بالتوراة (العهد القديم) بالإضافة إلى الإنجيل (العهد الجديد)، ومجموعهم يسمى الكتاب المقدس، وهي تدعو إلى التوحيد والتسامح، وتم نشرها على يد شاؤول الذي جعلها ديانة عالمية.

تضم المسيحية عدة كنائس أكبرها كنيستي البروتوستانت والكاثوليك، وقد رفضت الطائفة البروتستانتية بعض بُنود الدين المسيحي مثل عصمة البابا ومرتبة الكهنوت، وصكوك الغفران، كما ورفضت سبعة أسفار تعترف بهم الكنيسة الكاثوليكية واعتبرتهم أسفاراً محرّفة (أبوكريفاه)، وترى المسيحية أنّ الله واحد إلا أنه تمثل في ثلاث صور أو أقانيم، فالله هو الآب وهو الابن الذي أنتجه الإله وهو الروح القدس، وتؤمن الكنيسة أنّ الابن قد مات على الصليب للتكفير عن خطايا البشرية.

ولهذا لم يذكر القرآن غير فاكهة الشرق، فقد كان يخاطب الناس بما يعرفونه، وهل لو ذكر الأفوكادو أو البومباي سيكون له معنى؟ هل سيفهم أحد هذه الفاكهة ويتخيلها كما لو ذكر أستراليا، ولنفرض أنه ذكرها ليعني أنه كتاب واسع، سيتساءل أحدهم قائلاً، لماذا لم يذكر القرآن البطاطس والكيوي؟ وسأتساءل أنا أيضاً، لماذا لم يذكر القرآن الوصفة السرية لإعداد القريدس المقلية!

لقد وصف القرآن الجنة بمعطيات دنيوية معروفة ليتخيلها العقل، فحينما ذكر العنب، فإن ذلك لنتخيل العنب، ولو ذكر الكيوي، أو الشينتاي لما استطعنا تخيلها، الأمر نفسه في الأنهار من لبن، ومن عسل، والحور العين وغيرها، كلها صور معروفة ليتمكن العقل من تخيلها.

قد لا يرغب شخصٌ ما بالخمر في الآخرة، ولا يريد القصور، بل يبحث عن متع أخرى، فمثلاً متعة اللعب لديه أهم من متعة التملك المالي، متعة المعرفة، متعة خلق كون موازي والتحكم به وغيرها من المتع الأخرى، فماذا يفعل في الجنة بالذهب؟ حينما ذكر الله نعيم الجنة بهذا الشكل ذكره لعدة أسباب، منها أنّ الناس تقريباً كلها تحب المال، والقليل منهم لا يحبونه، ومن هذا يتضح أنها لُغة مُشتركة، ثم ماذا سيقول الله؟ إذا قلت سبحان الله ازددت حسنة، وازددت معها ماذا؟ جوال أيفون، بل الأنسب أن تكون شجرة أو ياقوتة أو أمر متعارف عليه في كل مكان، فالعبرة ليست في وصف الهدية، بل في وجود هدية، ولكن لتقريب الصورة كان يجب أن يكون هُنَاك وصف.

فلو رغبت بتأليف كتاب يصلح حتى 20 ألف سنة قادمة، وقلت إنك ستُهدي كل من يقرأ هذا الكتاب هدية، وستضع النقود بطريقة ما في البنك وهو من سيقوم بشرائها، فإنك على الأغلب ستقول، سأعطي من يقرأ هذا الكتاب جوال أيفون، أو سأعطيه خاتم من ذهب، أو سأعطيه 1 بتكوين، وإلا لو قلت للناس سأعطيه هدية شيء اسمه “شنكن”، فإنه بعد مئات السنين لن يستوعب أحد الفكرة، فلذلك فالإله حين يكتب هو يكتب بأمور معهودة للناس، وفي الحقيقة الجنة ليس كمثلها شيء، الجنة بالنسبة لنا في عالمنا، كعالم طفل في رحم أمه.

والأمر نفسه ينطبق على وصف الجنس في الجنة، فماذا ستكون المكافأة لمن أمسك نفسه عن الخيانة في الدنيا؟ سيكون هُنَاك الكثير من الجنس كمكافأة في الجنة، ولكني لا أريد جنساً في الجنة، حسناً، ولكن ماذا سنكتب لك؟ سنعطيك ثغرات Zero Day لتخترق بها حسابات العالم في الجنة! لن يكون لهذا معنىً كبيراً، لذلك الخمر والجنس والأشجار والألماس أمر أقرب ما يكون لتوضيح فكرة المكافأة وحتماً ستكون متعتك موجودة.

الدين والأزمات

يجري الحديث من حين إلى آخر حول أنّ الدين هو سبب أزمات العالم، وأنه مطيّة الحكام وملح الطغاة وعمود الديكتاتوريين وفتيل الحروب وغيرها من الأوصاف.

حسناً، هذا صحيح إلى حد ما ولكن المُشكِلة لا تكمن في الدين، لأن الدين كالقومية أو العلم أو أي قوة يمكن استخدامه كسلاح، فهل كان الدين هو السبب حينما قتلت روسيا الشيوعية 50 مليون إنسان في الحرب العالمية؟ وهل كان الدين هو الدافع لقتل الملايين من اليهود على أيدي الألمان في الهولوكوست؟ ألم يقتل هؤلاء النازيين الناس دون أي مشاعر بسبب تعصبهم لجنسهم الآري، هل امتطى ستالين الدين أم امتطى أمراً آخر! وهل لو لم يكن للصهيونية مطيّة غير الدين لاحتلال فلسطين لما نجحوا! بالطبع لا، سيجدون أسباباً أخرى يمكنهم استغلالها وهي كثيرة، فالدين والقومية والعرق والتحضر والمال وحتى المبادئ كلها أدوات يمكن استخدامها وامتطاؤها ليس من قبل الحكام فحسب، بل ومن قبل العامة أيضاً، وهنا يجب أن نقارن بين تدمير الأديان للإنسان والحروب التي سببها، مقابل الحروب التي سببها غير الأديان ولننظر في آخر قرن، هُنَاك ما يزيد عن 100 مليون إنسان أُزهقت أرواحهم في حروب ليست دينية [175]، وهذا رقم أكبر بكثير مما سببته الحروب الدينية على مدار التاريخ، حتى في الحروب الدينية في الإسلام، في الغالب كانت حروب عادية وليست دينية وإن تم تسييسها باسم الدين أحياناً، فلم أسمع عن قتل باسم الدين تم بشكل بليد مثلما فعل النازيون ضد اليهود كمان هو موثق، حرق المئات وقتل الآلاف دون أي ذرة مشاعر، بل ترى في الدين عكس ذلك تماماً، ففي كل الحروب الإسلامية هُنَاك توصيات بعدم القتل والحفاظ على الشجر والحجر وغيرها مما هو مذكور ومعروف وموثق أيضاً، هذا ينفي أن يكون الدين (الإسلام) سبب الأزمات، بل من ينزع فتيل الأزمات هو الدين، 100 عام دون دين، أنتجت ما يزيد عن 100 مليون قتيل، أكثر مما سببته حروب الدين بأضعاف مضاعفة، إنّ مطية القومية والعرق وغيرها أسوأ بكثير من مطيّة الدين، لأنها بلا كوابح أو حدود، وهل يُمثل هتلر الألمان؟ هل يمثل ليوبولد الثاني المسيحية؟ حتماً لا بل يمثل سياسة استغلت الدين أو العرق وغيرها.

لا يعني هذا وجود أديان سيئة متداخلة مع القومية والعرق وغيرها، أديان تُعتبَر كل الناس حيوانات على هيئة بشر خلقهم الله لعبادتهم، وأنه من حقهم قتل أي عدد كان من البشر للحصول على أرض يعتقدون أنها من حقهم، وغيرها من الصور السيئة لبعض الأديان المركوبة والمنسوخة من قبل أشخاص مستفيدين.

يقول الدكتور يورغن تودنهوفر هُنَاك 45 دولة مُسلمة، لم تقم بالاعتداء على دول غربية في السنوات الـ 200 الماضية، بل كنا نحن (يقصد الألمان والغرب) من يُهاجم الدول عسكرياً، بل ويعتقد الألمان أنّ أغلب المُسلمين متعصبين في حين أننا نحن الألمان المتعصبين.

إنّ الميثاق العالمي لحقوق الإنسان لم يسبب حروباً أو قتلاً للبشر بغير وجه حق مثلما فعلت بعض المراجع الدينية، بل قام بحفظ حياة الناس، وتسخير القوى الممكنة من شتى بقاع الأرض للدفاع عن الإنسان مهما كان، هذا الكلام صحيح إلى حد ما، لكن انظر إلى مجلس الأمن المرتبط بالأمم المتحدة فيه 5 دول تتحكم في مصير وقرار 190 دولة حول العالم ومنذ 50 عاماً لم تحدث انتخابات لتجديد الشرعية، وانظر إلى حق الفيتو الأمريكي الدائم الموجه ضد الحق الفلسطيني على الدوام، عشرات المرات واضحة الظلم تقف عائقاً أمام حق الفلسطيني في الحياة على الرغم من رعاية الأمم المتحدة للميثاق العالمي، أعتقد أنّ هذا الميثاق يأتي بعد كتاب الله في حفظ الأرواح إذا قادته دول العالم جمعاء، وألا يكون أداة في أيدي الطغاة كما الدين والقومية وغيرها، هذا الميثاق لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة فهم العالم لقواعد الأديان على مر القرون، وإلا من غير الدين يقول أنّ الجنس الآري هو الجنس الأفريقي نفسه، ولا فرق بينهم، في الميثاق العالمي هُنَاك بند يقول: يُولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهُم قد وُهِبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء، وهذه الجملة مقتبسة حرفياً من الأديان وخصوصاً الإسلام، ولم تأتِ من بنات أفكار شخصٍ ما من القرن العشرين مباشرة، بل يحاول الميثاق العالمي وضح قوانين عامة لكن الدول القوية لم تحترم هذه القوانين، انظر فقط إلى قضية فلسطين والاحتلال الواقع عليها، إنهم لم يبالوا للقوانين، فهي تبقى مُجرَّد قوانين ينظر لها القوي، ولا يراها كأخلاق يجب أن يتنازل لها.

لقد ناقشنا في فصل النظريات أنّ الأفكار والعلوم تتم عبر إيجاد تصور ما أو نظرية مُسبقة ثم البحث عن دلائلها وتأكيد صحتها وليس العكس، ومن هذا المنطلق نجد أنّ هُنَاك من يتعمق في الدين الإسلامي بنية مسبقة أنه دين سيء، فتراه يبحث عن كل ما هو سيء، حديث موضوع، حديث ضعيف، قصة شاذة، خبر لا أصل له، في محاولة لتثبيت نظريته وتغذية ما يتمناه، مع العلم أنه لو آمن بعكسها لوجد أضعاف أضعاف ذلك من الحسن والجمال، كلا الشخصين سيجد ما يريد، من يؤمن بالقبح سيجده وسيراه، ومن يؤمن بالجمال سيجده وسيراه، سيجد من يؤمن أنّ الدين سبب الأزمات ضالته، وسيجد من يؤمن أنّ الدين هو ملاذ الشعوب أدلته أيضاً.

لماذا ليس قوانين؟

إنّ الدين هو فهمنا للنصوص التي أنزلها الله ويحدث أن يحصل لَبس ما بين الكلام المُنزل وبين فهم الناس له واستنباط ما اعتبروه الدين من هذه النصوص، فالناس يعرفون أنّ الربا مُحرّم وفق صيغة النص السماوي الواضح، ونعلم أنّ الربا محرم لأنه يُسبب ضرراً للغير، نتيجةً لذلك وقع الناس في حيرة بسبب الفوائد البنكية فهل تصنف ضمن الربا أم أنها المقصودة من النص السماوي أم لا، ولذلك وقع الاختلاف، قد يقول شخصٌ ما ولكن هذه مُشكِلة عميقة، لماذا النصوص ليست واضحة ومباشرة، فمثلاً عندما يقوم البرلمان بسن قانون جديد فإنه يُقر قراءة أولى وثانية ثم ثالثة، ثم يتم طرح القانون وإعلام الجميع، وإذا بدأت ممارسات التحايل على القانون فإنه يُصدر توضيحاً لمنع المحتالين من ليّ عنق نص القانون، وإذا لزم الأمر فإنه يتم إلغاء القانون ثم إصدار قانون جديد لا يحتمل التأويل أو إحداث اللبس عند الناس.

وهذه مُغالَطة من جوانب كثيرة منها أنّ النص السماوي لم يقل أنّه دستور قانوي، وإلا لو قال قبل 2000 عام: إنّ تعامل البنك ليس بربا، كيف كان سيفهمه السابقون؟ هو يضع مبادئ عامة، ومفاهيم وقيم عليا ونحن نسعى إلى تطبيقها، ولو قال النص السماوي مثلاً في نص دستوري واضح: لا يجوز تبديل الذهب بالذهب، لما صلحت لزماننا، ولدخلنا في دوامة القياس والتفسير والتأويل أيضاً، ثم هل لو كان النص السماوي مكتوباً في بُنود ونقاط مثل الدستور هل سيقبل الجميع به؟ بل ستوجه له انتقادات أكثر، ولدخلنا في دوامات أعمق في زماننا هذا، ثم هُنَاك قوانين من الدولة لا تعجب الجميع ولا يتفهمها أو تتقبلها كل المجتمعات، وتدور حولها صراعات إلى الآن، لِمَ لا نقبل قوانين الدين التي تحاول صناعة حياة جميلة كما تحاول القوانين التي يضعها البرلمان والتي قد لا تعجب المجتمع أيضاً ولكنها للمصلحة العليا.

مثال آخر تحريم الظلم وجعله محرماً بين الناس، والظلم كلمة شاملة لأفعالٍ كثيرة لا تُعَد ولا تحصى، هل لو أخبرك النص السماوي، أنه ممنوع أن تضرب من هو أضعف منك لكانت الأمور واضحة جداً؟ ماذا عن آلاف الصور الأخرى للظلم؟ لربما كان من الظلم أن تمر بجانب قطة تشرب الماء وقمت بتخويفها، هل هذا أمرٌ يجب ذكره في الدستور السماوي، أم أنه قانونٌ خاص يمكن استنباطه في زماننا هذا وفي كل زمان؟ كيف سيقول النص السماوي، أنّ قيادتك للسيارة مسرعاً في جو ماطر والمياه تملأ الطرقات والطريق مزدحمة أمر فيه حرمة كبيرة، وأنه يجب عليك التأني وألا تسرع حتى لا تؤذي غيرك، هل سيكون ذكر السيارة قبل 2000 عام أمراً منطقياً؟ وحتى في الدستور، بعد سنوات لن نر السيارات ولربما سيستخدم الناس الطائرات مباشرة، ماذا سيكون موقف قانون تحريم السرعة في الدستور؟ ألا ترى أنّ الأمر غير منطقي، وأنّ النص السماوي بذكره كلمة الظلم يعتبر كافياً، وفي كل زمان ومكان تقاس الأمور بناء على المعيار الأعلى الذي وضعه الإله!

الآن حينما نعود إلى النص القرآني فإننا في مُشكِلة مشابهة لفهم الناس لا حل لها، فالنص تفهمه كل جماعة وفق عاداتهم وتقاليدهم الخاصة، وقد يفهموه خطأ أو ليس بالشكل الأمثل، والمُشكِلة أنه لا توجد جهة مخولة بالكامل لتقول أنّ هذا خطأ وأنّ ما قصده الله مُختلف، فالمسألة مفتوحة، وفيها مقاربات كثيرة، وقد سبق وأنّ قالت فئات في التاريخ الإسلامي أنها مخولة فقط بالتفسير والتوضيح، لكنها كانت تعمل بأمر الحاكم أو أنّ تأويلها لم يعد سوى مطابقة لبيئتهم الضيقة، لا حل واضح لكن الفكرة العامة أن نصوص الدين صور وقيم عليا يجب فهمها وتبنيها وهي ليست قوانين حرفية يمكن التحايل عليها.


يقدم الإسلام نفسه كآخر الأديان السماوية الإبراهيمية، وهو يدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده لأنه من يستحق العبادة، ويقدم فكرة الثواب والعقاب يوم القيامة، يرى أنّ الإنسان هو محور الكون لكن عليه ألا ينسى أن هدفه الأساسي هو عبادة الله مع تعمير الأرض.

صورة 34 الإسلام

وقد انقسم المُسلمون إلى عدة طوائف أكبرها طائفة أهل السنة، ثم الشيعة، وهُنَاك طوائف أقل تأثيراً أو اعترافاً مثل الإباضية أو الزيدية أو المعتزلة، والخلافات بينهم ليست عقائدية في الغالب، بل في الفروع مثل من كان أجدر بالحكم، وهل مرتكب الكبائر في الدين كافر أم له توبة، ويحتوي الإسلام على عدة مذاهب فقهية مثل المالكية والشافعية التي تختلف في حكم بعض القضايا دون خلاف جوهري فيها بينهم، ومرجع المُسلمون هو القرآن بالدرجة الأولى الذي تم تدوينه فور نزوله، ثم سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم التي تم تدوينها خلال عقود من وفاة صاحبها.

الأخلاق مرة أخرى

هُنَاك محاولة أخرى نسمعها تقول أنّ الأخلاق غير مرتبطة بالدين، وأنّ ربط التدين بالأخلاق يُعد خطأ، ففي اليابان مثلاً لا فحشاء ولا منكر ولا رشوة ولا غش ولا فساد دون حفظة قرآن.

للأسف، إنّ هذا الكلام كلامٌ إنشائي، لأننا حين نفككه سنتوصل إلى أنه لا معنى للأخلاق دون دين، فمنبع الأخلاق هو الدين، وإلا لعاش الناس كما يرونه سائداً في مجتمعهم، فلو كان سائداً أنّ البيض أفضل من السود، سيسود هذا الأمر كما رأينا وكما نرى الآن، ولو وافق البرلمان على فكرة اليوجينيا وقتل أو خصي باقي الناس لكان الأمر عادياً وهذا ما كان شائعاً قبل 70 عاماً، ولو صدّق البرلمان على قانون يبيح للقوي أكل الضعيف لفعله الناس، ما دام أنّ القانون أو العُرف يسمح بهذا فما المُشكِلة، ونرى العالم المادي يطالب بحُريّة مُمَارسة الجنس مع الأطفال بل ومع البهائم وما يمنعهم إلا الإرث الديني لدى الدول، وكذلك طلبات الجنس مع الألعاب وتبادل الزوجات وغيرها من الأفعال التي لا يتقبلها الأسوياء جراء الدين، وقد ناقشنا هذه النقاط في فصل الأخلاق في الفلسفة.

نقطة أخرى وهي حينما يقوم شخص بلا دين باتباع مبدأ عدم السرقة فهو غالباً يفعله خوفاً من القانون، ولو كان هُنَاك ثغرة في القانون يُمكنه استغلالها لما توانى عن السرقة، فما المانع إن كان القانون نفسه يشجع على السرقة فزيادة في الخير، لأن المعيار هو القانون وليس المبدأ نفسه.

في الدين أنت تلتزم بعدم السرقة بسبب المبدأ، لا خوفاً من القانون أو العُرف، في الدين أنت لا تكذب وذلك لأن الصدق من الأخلاق والأمانة من الأخلاق، ولكن دون الدين، الأمانة من القانون والقانون متغير، قبل 200 عام كان العالم يستعبد السود وكان الأمر عادياً جداً، ولكن الأمر لم يكن عادياً في الدين، وما زلنا نرى الرأسمالية تستعبد شعوباً كاملة ولا مُشكِلة في هذا لدى قوانين العالم.

الإحصائيات لا تكذب، فاليابان ودول أوروبا من أعلى الدول في العالم التي ترتفع فيها نسب الاغتصاب، بينما يعد الأمر نادر الحدوث في الدول الإسلامية، كما وتتصدر اليابان قائمة الدول التي ترتفع فيها حالات الانتحار، في حين الدول الإسلامية بعيدة عن الصدارة، فضلاً عن إدمان الكحول في اليابان وغيرها من مساوئ الأخلاق المنتشرة، وهذا يدحض فكرة أن العالم أفضل بلا دين، والأخلاق غير مرتبطة بالدين.

وخلق بسيط في الدين مثل الإحسان وحب الوالدين لا معنى له في القانون وحده، فالشاب بعد بلوغه الثامنة عشرة ينفصل عن أهله ويراهم في أفضل الأحوال كل شهر مرة، ونرى القصص الكثيرة التي يحدث فيها أن تعفن الأب واكتشف جثته ساعي البريد بالصدفة، ولكن هنا بسبب الدين، خلق مثل الإحسان أساسي، وأنت مُجبر (عن حب) أن تسأل عن أمك كل ساعة أو أقل إن أمكن، أخبرني معنى هذا الخلق دون دين، ما معنى الإحسان إلى الأهل في القانون، كيف سينص عليه؟ هل سيفرض كل أسبوع محاضرة على كل فرد في المجتمع حول بر الوالدين!

ما معنى الصدق دون دين، إذا رأيت المتهم هُنَاك في المحكمة بمساعدة المحامي يبحث عن كل مخرج قانوني سواء بالكذب أو بالاستجهال للخروج من إدانته، وحينما يسأله القاضي عن حادثة هو مجبر أن يجيب عليها لأنها مربط القضية، تراه يأخذ الحق الخامس للهروب من الإجابة، ونرى في الدين عكس ذلك تماماً، فأنت تصدُق ولو على نفسك، ولكن في الصدق المادي، أنت تصدق إذا كان يفيدك هذا.

وما معنى الاستقامة دون أخلاق إذا كان القانون يسمح للفتاة البالغة أن تمارس البغاء أمام أهلها، بل وتزورهم في الأعياد ويتبادلون الحديث دون الإشارة إلى بغائها، ونحن بسبب الدين لا يمكن أن نقبل هذا، أخبرني هل هُنَاك معنى للاستقامة والابتعاد عن الفحش دون دين! إذا كفل القانون الفحش فما الذي يمنعه، ما الذي سيمنع ظاهرة Nyotaimori أي تناول الطعام على أجسام العاريات إذا كفلها القانون، من يجرؤ على محاربة إهانة وقذارة كهذه غير الدين.

وبخصوص الإخلاص والصدق في النية، يذهب المُسلم منا ويمر على حانات الخمر وحانات القمار وحانات الجنس ولا يفكر أن يزورها، إنّ زوجته ليست هُنَاك، ولكنّ الله هُنَاك، إنه يستمد أخلاقه من خوفه من الله ورغبة بالضفر برضاه، ولكن من لا دين له يسترق ما يُمتع به نفسه فزوجته لا تراه، وحينما يقوم من لا دين له بتبديل زوجته مع صديقه أو يقوم بدعوته لمُمَارسة الجنس معها، ما الذي يمنعه من فعل هذا ما دام المجتمع يتقبل أو القانون يسمح أو لا أحد يراه! في الدين لو مارس كل الناس الرذيلة فلا تمارسها مهما حدث، والمقارنة ليست بين الدين وغير الدين، فقد يكون عابد الفرج ذا خلق، وقد يكون المُسلم ذا فحش، الفكرة في المبدأ الأخلاقي في غير الدين هو رؤية شخصية قابلة للتغير حسب المواقف يضعها مجموعة من الناس حسب آرائهم الخاصة، ثم يفرضونها على بقية الناس، أما في الإسلام فالمبدأ الأخلاقي ثابت لا يتغير حسب الحالات والمواقف، المبادئ الأخلاقية هنا لها مصدر أعلى، بخلاف المصدر البشري الذي لا ضوابط ثابتة فيه.

أتساءل ما معنى الرحمة والعطف والتسامح دون دين؟ ما دام المادي يقوم بدفع الضرائب فلماذا يعطف على الفقير، يدفع المُؤمِن الضرائب ويعطف على الفقير ويقف مع الضعيف، في حين أنّ المادية تشجع على القوة والبقاء للأصلح والانتخاب الطبيعي، ولا ضرورة لبقاء الضعفاء كما يرى نيتشه في كتابه نقيض المسيح أنّ الديانة المسيحية معيوبة لأنها انحازت إلى الفقراء وقللت من غرائز حفظ البقاء للكائن الأصلح، وأنها أفسدت العقول حين صورت لهم أرقى القيم البشرية على أنها خطايا وضلالات! أعطني أي خلق وسأريك أنه لا معنى حقيقي له إلا حينما تربطه بالدين، حتى الدول التي تدّعي أنها لا تهتم بالدين تجد أنّ سكانها لديهم إرث أخلاقي مصدره الدين سابقاً تتوارثه الأجيال، وكثير من الأفعال البسيطة كان يتوارثها الناس لمئات بل ربما آلاف السنوات.

لكنَّ الدين والقانون لا يشكلان رادعاً لمن يرغب بارتكاب جريمة، فالدين والقانون كابحان، الدين يخبره أنّ هُنَاك نار وعذاب وغضب، والقانون يخبره أنّ هُنَاك سجن وتعذيب وإعدام، ورأينا حالات كثيرة رغم صرامة وسيادة القانون، إلا أنّ الناس اندفعوا كالقطعان كاسرين بذلك كل الأعراف الراقية التي يتغنون بها، ولكن هُنَاك من يفعل الجرم بعد كل هذه التحذيرات ولا يبالي، في النهاية لا يشكلان رادعاً كاملاً، فهُنَاك من يمارس الرذيلة أو الشُذُوذ وهو مُسلم أو مسيحي، أليس هذا دلالة على خطب ما؟ مرة أخرى إنّ النقطة الأساسية في الدين لا تكمن في وجوب كبح الشر بشكل مطلق، بل في فكرة أنّ الدين يقول لك الشُذُوذ أمر خاطئ ولا يجب أن تمارسه، في ظل قانون يقول لك عادي ويمكنك ممارسته، الدين يحاول أن يثنيك وهُنَاك من لا يتعظ، أو يخاف من العذاب، الدين عامل حفاز وقوي في منع البشر من مُمَارسة مساوئ الأفعال، بالإضافة إلى وجود فكرة التوبة في الدين تجعل المرء مضطر أن يمشي باستقامة ومضطر أن يرد الحقوق في حالة أكلها، فتجديد لقاء الخالق يومياً ووجود مواسم التوبة والخوف من العذاب تجعل الإنسان يفكر دائماً في التكفير عن ذنوبه ويحاول أن يتحسن للأفضل، والمجتمع المثالي يمكن بناؤه بمبادئ الدين، والقيم السامية ليست محض خيالات كما يدعي منكرو الدين، بل هو صرح نحن بحاجة إلى بنائه حجراً حجراً أساسه الدين، ويصعب على غير المُؤمِنين بأخلاق الدين أن يتحاكموا إلى صيغ ومعايير أخلاقية مُشتركة بينهم، ويؤكد هذا ريتشارد دوكينز قائلاً: إنه لمن العسير جداً الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية [176].

ظاهرة الرق

كان نزول الأديان كالشمعة وسط الظلام، إذ منح الناس النور وبثّ فيهم الحياة ليشعل البشر المزيد من الشموع، ويطوروها إلى إنارات أفضل فيزول الظلام، لم تقل الأديان أنها ماسحة لكل الظلام، بل هي شمعة منيرة لتخبر الإنسانية أنّ هُنَاك شيء اسمه نور، فتعلموه واتبعوه، لا تستطيع هذه الشمعة أن تُغير كل العالم وكل ظلامه ومثال على هذا: العبودية.

لا تعرف البشرية في تاريخها ظاهرة أهدرت كرامة الإنسان كظاهرة استرقاق البشر التي يتخذ الناس فيها بعضهم عبيداً يُباعون ويشترون مثل الممتلكات، تُصادر إرادتهم وحريتهم، ولا يعود الناس سواسيةً كأسنان المشط ويصبح هُنَاك السادة الذين يفعلون ما يشاءون وفي الجهة الأخرى هُنَاك العبيد الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً.

كانت العبودية موجودة قبل الإسلام وقبل داود وسليمان وقبل عهد الفراعنة، بالإضافة إلى أنّ بيع وشراء الجواري عادة بشرية مارستها كل الحضارات السابقة كالإغريق والفراعنة والهنود والأحباش والروم والفرس، وليست من اختراع دين ما، وقد آمن فلاسفة اليونان أنّ غير اليوناني يليق به العبودية لأنه لا يملك العقل اليوناني الحر، وآمن كذلك اليهود باسترقاق العالم، وشجع القديس بطرس على خضوع العبد لسيده وإن أساء معاملته، وكذلك قال القديس أوغسطين وتوما الإكويني بل وشجعت الكنيسة على استرقاق أهل أفريقيا وآسيا، وهو ما رأينا انعكاسه بشكل مخيف في الأمريكيتين، وهذا وحسب سفر التكوين، فإن النبي نوح قد لعن ابنه حام وذريته من بعده ودعا الله أن يجعلهم عبيداً لأخويه، بل ودافع الفيلسوف العظيم مونتسكيو عن حق الأوروبيون في استرقاق السود ذوي الروح غير النقية.

لقد حقق النبي سليمان إنجازات للتخلص من العبودية، إلا أنها لم تكن عالمية، ولم يستطع بعظمته قهر القوى العالمية، لقد طرق هذا الباب وحاول فيه، وهذا ما حاول فعله الدين الإسلامي متمثلاً بالقرآن وما فعله الرسول محمد.

ولكن، لماذا لم يُحرِّم القرآن ظاهرة الرِّق بشكلٍ قاطعٍ وصريح، لماذا وضع مبادئ عامة ضد الرق ولم يأتِ بنصٍ صريح يدلل على حرمانية هذا الفعل كما الآيات البينات التي حرم فيها الظلم والإثم والفواحش، مع أنّ الظاهر تعارض فكرة الرق مع مبادئ القرآن السامية، والقرآن في مئات المواضع يؤكد على تساوي البشر، وأنّ الله خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف، وأنّ أعلانا درجةً هو أكثرنا تواضعاً.

لقد فتح القرآن أبواباً كثيرة للتضييق على ظاهرة الرق ومحاصرتها، بل وشجع على عتق الرقاب ككفارة عن قتل أي إنسان، وكأن تحرير إنسان من العبودية يعادل إعادة إنسان من جديد للحياة، كما وشجع الإسلام على حسن معاملة العبيد وتحريرهم، وأوضح أنهم بشر مثلنا ولهم حقوق كأي إنسان حر بالكامل، كذلك لديهم حقوق على مالكهم لا يجب أن يتهاون فيها، وحرم منابع الاسترقاق لينهي الآلية التي يتم بها استعباد الناس، ثم أكمل بآليات كثيرة لعتق الرقاب وتحرير العبيد، وجعلها مكفرات لأعظم الذنوب.

لا أجد موقفاً عظيماً طالب بإنهاء ظاهرة الرق كما فعل الإسلام، إن كنت ستخبرني بأنّ أبراهام لينكولن حرر العبيد، فسأجيبك أنه على الرغم من ذلك آمن بتفوق جنسه وبسيادتهم وهذا أحد أهم منابع فكرة الاستعباد، ستذكر لي أنّ كتاب اليوتوبيا آمن بالقيم العليا، سأخبرك أنه أيضاً رأى الناس غير متساوين، ونادى بأفضلية الأجناس!

لكن مرة أخرى إنّ القرآن شأنه شأن الأديان فهو لم يأتِ ليغير الأحوال الإنسانية بعصا سحُريّة، بل وضع مبادئ عامة مثل المساواة والإحسان، وحث على التنافس في فعل الخير أمام البشر، وترك الأمر بعد ذلك للتجربة الإنسانية، وإلا لحرّم الدين الوظيفة الحديثة التي تستعبد الإنسان من الصباح إلى المساء، وتسلبه رأيه في المساء فيخشى أن يذكر المؤسسة التي توظفه بسوء أمام أصدقائه أو في الشبكات الاجتماعية.

وفي الوقت الذي يتقدم فيه البشر تجاه صور ومبادئ تحقق أعلى مستويات الإحسان والمساواة وتحرير الإنسان فإن الدين سيكون أكبر معزز لهذه الأفكار الجديدة، وعليكم أيها البشر أن تنهوا ظاهرة الرق بالتطور الاجتماعي، قد تكون محاولة تحريم الرق بضربة واحدة صعبة في زمان قام الدين بمسح العديد من عاداته السيئة، أو أنّ البشرية في بنيتها بسبب الحروب والتخلف معتمدة على الرق بشكل كامل ويجب وضع حجر الأساس في عملية الاسترقاق، لذلك تجفيف منابع الاسترقاق هي الخطوة الأهم، نظر الإسلام بتأفف للعبودية وقال أعطي الموظف أجره، ولا تظلمه، وفي تلك المرحلة هو الحل المناسب ولربما كان ثورياً جداً [177]، والأديان أتت لتغير ما تستطيع من العالم وليس لتغير العالم، ويبقى الدين أحد الثورات الاجتماعية وليس كلها.

سنة العصر

لقد قال النبي أقوال وفعل أفعال منذ بعثته لأسباب شتى، إما لكونه رأساً للهرم السياسي، أو باعتباره قائداً عسكرياً، أو زوجاً أو قاضياً، أو لأي اعتبار آخر، فهو في النهاية بشر كباقي الناس الذين بُعث فيهم، وكثيرٌ من هذه الأفعال والأقوال ليست من الدين، بل هي أحداث يومية أو سياسية عادية لا يجب أن نعيد تطبيقها، وأبسط مثال على ذلك هو ركوب الأنعام، حتماً هُنَاك أفعال وأقوال صدرت عنه باعتباره نبياً وهي نتاج فهمه وتطبيقه للقرآن، كالصلاة ومناسك الحج وممارسات يومية في المعاملات والأخلاق والعلاقات، لذلك علينا أن نتعامل مع ما وصلنا عنه على أساس تمييزنا هل هو مما يتأثر بالظروف فيكون من المتغيرات أم هو مما لا مدخل للزمكان إليه، فيُعد من الثوابت، كالصلاة والحج.

تختلف طريقة قراءة القرآن بحسب المناطق ولهجات الناس وقدرتها على نطق الحروف ومخارجها، وكانت قراءتنا في فلسطين عن حفص عن عاصم عن طريق الشاطبي، أما قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي قراءة نافع، ويرى الإمام مالك أنه من السنة تعلم قراءة نافع، ولكن لماذا لا يقرأ كل العرب القرآن برواية الرسول! فعلى الرغم من أنّ القرآن أعظم ما يملك المُسلمون ويعيرون أشد الاهتمام لآلية قراءته، لكن قراءته مثل قراءة الرسول أمر غير مهم، والأهم هو قراءته صحيحاً بحسب رواية البلد الحالية، حتى تتناسب القراءة مع أسلوب الناس وفهمهم للكلمات والمخارج وإمكانية تطبيق القرآن في الحياة اليومية، هذا يعني أنّ الكثير مما فعله الرسول في زمانه -ومنها رواية القراءة- كان مُجرَّد أمر خاص ببلدته أو وبنمط حياته، ولا يجب علينا فعله حرفياً، بل علينا محاولة فهم سبب قيامه به وإسقاطه على واقعنا الحالي ونمط حياتنا. يجب فهم الغاية العظمى من القيم، ثم محاولة تطبيقها، وأعظم قياس هو قراءة القرآن، وهذا أمر فهمه السابقون وتركوه، ولكننا نصر على أن نكون أذكى منهم.

سيقول أعداؤك الكلمات الشنيعة

عنك وسيستهزئون من قوتك.

أيوجد ألم أعظم من هذا!

باستشهادك، ستصل إلى الجنة؛

وبانتصارك ستتمتّع بالأرض.

لذلك قُم يا ابن كونتي، وانهض

وصمم على القتال!

بعد أن اكتسبت الاتزان بين اللذة

والألم، بين الربح والخسارة، في

النصر والهزيمة، وانطلق للقتال.

وهكذا سوف لن تقترف الخطيئة.

صورة 35 آيات من البهاغافاد غيتا، الهندوسية

وهي ديانة تشكلت عبر عقود طويلة، ولا مؤسس أساسي لها، وتضم مبادئ روحية وعقائدية وقانونية واجتماعية، ولها عدة كتب مقدسة مثل الفيدا والمها بهارتا، ولديهم لكل طبيعة إله مخصص يعبدونه إلى أن تم تثليث الآلهة لاحقاً، ويؤمن أتباعها بإحلال الإله في إنسان اسمه كرشنا (كما حل الله في المسيح في المسيحية)، ويقدس الهندوس البقرة أشد تقديس، ويحق لها التنقل بحُريّة ولا يجوز المساس بها، وإذا ماتت يتم دفنها عبر طقوس دينية، ويؤمنون بتناسخ الأرواح (الكارما) ووحدة الوجود،

وينقسم المجتمع في الديانة الهندوسية إلى 4 طبقات، هي طبقة الكهنة (البراهما)، وطبقة الكاشتر المسؤولين عن الدفاع، وطبقة التجار (الويش)، وطبقة الفقراء الكادحين (الشودر) الذين يخدمون باقي الطبقات، ولا يمكن لأي طبقة مهما حاولت أن تترقى إلى طبقة أعلى.

وقد قال لي صديقي أنتم المُسلمون تدّعون أنّ دينكم أكمل دين وأنه صالح لكل زمان ومكان، لكن على ما يبدو أنه صالح للعرب قبل 1400 سنة، الغرب اليوم سبقكم وقدّم أنموذجاً أفضل مما قدمتموه، إذ تسود حُريّة التعبير والرأي والمعتقد والمساواة كما لم تَسُد من قبل، المرأة لديها حقوق الرجل نفسه ولها الميراث نفسه، في حين أنّ الإسلام أعطاها حقوق أقل ونصف الميراث، السارق تُقطع يده في الإسلام، وفي الغرب يُعالج ويُعاد تأهيله حتى أنّ السجون قد غدت دون لصوص أو مجرمين، والأمثلة كثيرة يا صديقي.

قلت له يا صديقي حينما جاء الإسلام وفرض للمرأة حقها في الميراث، ليس نصفه، بل ميراث كامل، أعطاها ذلك في زمن لم يكن للمرأة أي حق في الميراث، جاء الإسلام وأقر هذا الحق، وأعطاها جملة من الحقوق كانت قد فقدتها في مسيرة البشرية، وأعاد لها كرامتها واحترامها في ذلك الزمان، وحررها ورفع من شأنها، هي درجة في درجات السلم خطاها الإسلام للمرأة ووضع الأسس للاستمرار في صونها وتقديرها وتحريرها.

وفهمنا الأعمق لقضية الميراث في الإسلام يفوق المفهوم السائد المرتبط بالأنثى، فالتفاوت في معايير وفلسفة الإسلام بالميراث لا علاقة له بالأنوثة أو الذكورة بل هي مرتبطة بـ:

  1. درجة القرابة (علاقة طردية)، فكلما كان الإنسان مقرباً من المتوفى، حصل على نصيب أكثر.
  2. موقع الجيل الوارث، فكلما كان صغيراً في السن كان نصيبه أكبر (أي كلما كان مقبلاً على الحياة)؛ فالابن يأخذ أكثر من الأب لأنّ الابن أصغر وأمامه حياة أكثر من الأب.
  3. اتفاق الموقع ودرجة القرابة يعطي أعلى الحصص والدرجات.

ولهذا فإن المرأة ترث كالرجل بل وأكثر في حالات كثيرة.

وضع الإسلام القيم العليا والمبادئ السامية ووضع تصوراً لها في ذلك الزمان، وفي زماننا أي صورة نراها أفضل حتى نصل إلى القيم العليا مثل العدل والمساواة والحُريّة وغيرها من صورة ذلك الزمان لنا حُريّة تبنيها لأنها أقرب إلى الإسلام، ولا ننسى أفعال عمر بن الخطاب (خليفة بعد الرسول) في زمانه حينما خالف كثير من النصوص ومنها ما هو في القرآن الكريم للوصول إلى القيمة العليا التي فهمها من القرآن ومن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ما كان للإسلام أن يأتي بالكمال الذي نراه الآن في ذلك الزمان، وإلا لما استوعبه الناس، ولكنه في زمانه كان عين الكمال، الإسلام وضع اللبنة الأولى للقيم العليا، وحثنا على الاستمرار في البحث عما هو أخلاقي، وأخلاقي أكثر.

تنبع إحدى المشكلات الأساسية في فهم الدين من محاولة إسقاط أدوات قياس حياتنا اليومية على حياة من سبقونا، ومن الجَليّ أنّ كل شيء في عالمنا يختلف عن العصور السابقة، من أبسط أمور الحياة، مروراً بسبل الراحة والرفاهيات، وانتهاء بالعلوم والمفاهيم، مثلاً يدّعي صديقي أنّ الدين الإسلامي “مُتخلّف” لأنه أنشأ فكرة الأضحية المعتمدة على التبرع باللحوم وإشباع البطون، ولم يعمل فكرة تبادل الكتب المعتمدة على نشر المعرفة وملء العقول بالعلوم، وغيرها من الأساليب والتقنيات الجديدة التي لم تكن موجودة سابقاً ولن تكون بأي حال من الأحوال، لأن نمط الحياة كان كافياً بذلك الشكل، ولم يلزمه شيء آخر، ومثال على ذلك عدم وجود القصص القصيرة أو الروايات أو الشعر المرسل، وغيرها من أنماط الأدب الحالية المُختلفة، كان هُنَاك الشعر العمودي فقط، وقد كان ذلك في زمانهم يكفيهم ويغطي جوانب حياتهم، أما اليوم ومع تنوع المعرفة وأساليب توصيلها، اخترعنا تقنيات جديدة رأيناها مناسبة لمواضع مُختلفة وهكذا.

تفسير القران

لقد جاء القرآن لكافة الناس وبلُغة سهلة واضحة إلا أنّ اجتهادات بعض المفسرين أوقعت الناس في حيرةٍ وارتباك من خلال اختلاف الآراء وكثرة المذاهب وافتراضهم أنّ القرآن صعبٌ مُستصعب لا يفهمه سوى المختصين رغم أنه من المفترض أن تكون هذه الكتب مُيَسِرة ومُبسِطة ومُوجهة لعامة الناس.

من المؤسف أنّ بعض من كتب التفسير تحيّزت إلى مذاهب المفسرين، فبدأ كل مفسر يروج لمذهبه، بل واعتمدت في أحيان كثيرة على أفكار وخُرافات وقصص الأديان السابقة التي جاء الإسلام ليمحوها، وبذلك صار القرآن تابعاً وليس متبوعاً، وقليل منا من يقرأ القرآن دون أن يكون مُشبعاً بمعانٍ وتفسيراتٍ تاريخية له، قليل منا وهو يحاول الدخول إلى القرآن، لا يدخله من بوابة التاريخ، بعكس ما هو مطلوب منا.

علاوةً على محاولات تطبيق الفيزياء على الدين مثل حسابات الجنة والنار، فهُنَاك من يحاول تفسير حجم جهنم بناء على حديث الحجر الذي يسقط في جهنم ب 70 عام ومقارنته بمساحة الجنة كعرض السماوات والأرض والخروج بنتيجة أنّ جهنم صغيرة أقل من 1% من الجنة، وغيرها من التفسيرات التي لا معنى لها [4].

نعم، هُنَاك أمور في الدين يجب العودة إلى المختصين لفهمها، لكن أن نفرض آراء الفقهاء السابقين بالكامل لفهم القرآن العربي المبين أمرٌ يُفقِده معناه، يجب فتح باب الاجتهاد دائماً، ويجب وجود مختصين أفنوا حياتهم لهذا الدور العظيم.

لكن يجب التنويه إلى أنه يُسمح بالاجتهاد لمن يملك الأدوات، أنا مبرمج يحق لي أن أجتهد في عالم البرمجة، لكن لا يحق هذا لي في عالم الطب، يجب أن أملك الأدوات اللغوية والعلمية لكي أجتهد، وهي تكلف 20 عاماً من الدراسة المتخصصة -في أقل تقدير- وكما لا يصح في الطب أن نطلق على من طالع كم كتاب فيه لفظة المفكر الطبي، ولا يصح لهذا “المفكر” أن يفتي في الطب، فإنه لا يجوز على من قرأ بضعة كتب في الفقه الإسلامي أن نطلق عليه المفكر الإسلامي أو المفسر القرآني، وإنّ القرآن رغم كونه كلام الله، إلا أنه يتم بلسان البشر، وهذا ما يخلق في كثير من الأحيان خلافات متفاوتة في فهمه، مع أنّ أغلب الآيات فيه قطعية الثبوت وبعضها ظنية الدلالة (ليست قطعية الفهم).

إنّ نصوص القرآن أزلية مُتعالية عن التاريخ، لكن فهمهما يخضع لعوامل التاريخ، هي كلام الله معبر عن صفاته بميزان البشر المتواضع.

ثم نجد محاولات التفسير التاريخية من قبل البعض معتبرين في تاريخانية النص القرآني أنه إنتاجٌ دنيوي، ومحاولات إسقاط أفكار لا داعي لها، فمثلاً في آية )وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ( يتكلم الله عن السفن الشراعية التي تسير في البحار، ويقول يمكنه أن يمسك الريح فتتوقف السفن، ويحاول البعض في زماننا هذا جعلها آية تاريخية لا تصلح لهذا العصر الحديث، عصر البواخر والغواصات، ويحاول العقلانيون عقلنتها أكثر من اللازم فيقولون ماذا عن السفن الحديثة التي لا تملك شراعاً؟

وللرد على أهل تاريخانية النص نتساءل ما علاقة السفن الشراعية بالزمان؟ هل لو أتينا بسفينة شراعية اليوم لن تنطبق عليها الآية؟ أيها العقلانيون ماذا تريدون من القرآن أن يقول؟ إن يشأ يمسك البنزين! فيأتينا بعد 50 عام شخص عقلاني آخر فيقول لا يوجد بنزين اليوم، هُنَاك سفن نووية، ولو قال الله إن يشأ يمسك النووي، ثم بعدها تتغير إلى هيدروجين، ماذا تريد من القرآن أن يكتب؟ ما رأيك بـ يمسك قانون نيوتن الثالث الذي يُعد أساس عمل دفع السفن، ولعلي أذكرك أنّ العُلماء يعملون على كسر قانون نيوتن الثالث، لذا فأي صيغة ستكون متغيرة، ولو كانت سابقة لزمانها فلن يفهمها الناس، العقلنة الزائدة لا معنى لها، الفكرة من الآية كما فهمتها أنّ السفن تسير بمشيئة الله.

وماذا لو أمعنا النظر أكثر في الآية، ماذا لو كان هُنَاك معنى أوسع مما نراه؟ فكلمة الريح تأتي في القرآن الكريم بمعنى القوة كما في قوله تعالى: )وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ( أي تذهب قوتكم ووحدتكم، وورد في معجم لسان العرب أنّ كلمة الريح تعني القوة، وقد تكون الريح بمعنى الغَلَبة والقوة، قالت العرب: أَتَنْظرانِ قليلاً رَيْثَ غَفْلَتِهمْ، أو تَعْدُوانِ، فإِنَّ الرِّيحَ للعادِي، ومنه قوله تعالى: )وتَذْهَبَ رِيحُكُم(، قال ابن بري: أَقْوَتْ ومَرَّ عليها عهدُ آبادِ جَرَّتْ عليها رياحُ الصيفِ أَذْيُلَها، وصَوَّبَ المُزْنُ فيها بعدَ إِصعادِ وأَرَاحَ الشيءَ إِذا وجَد رِيحَه.

حينها يصبح معنى الآية أوسع من فكرة الريح والهواء، وتصبح تنطبق على القانون الثالث لنيوتن ومتماشياً مع ما تريده عزيزي العقلاني، مع أنّ هذا السياق التفسيري لا أحبه ولا أفضله، وهو من السوء الذي تمر به البهرجة الزائدة في علوم اللغة والقرآن.

الأمر نفسه يمكن قياسه على آية )وأرسلنا الرياح لواقح( هل مع تقدم العلم لا يمكن الاعتماد على الرياح في التلقيح ويمكن اعتبار الآية من الآيات التاريخية؟ لكن مهلاً لقد كان التلقيح باليد وبواسطة الحشرات منتشراً في عصر النبوة، ولكن للتلقيح بواسطة الرياح قيمة خاصة تصلح لذلك الزمان، ولزماننا، وللأزمان التالية ولذلك ذكرها الله في كتابه.

من البديهي أن نرى القرآن الكريم في بعض آياته يتحدث عن عصر النبوة وما تلاه من العصور الماضية كقوله تعالى في سورة الزخرف عن السفر والدواب )لتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ( ما كان الله ليذكر السيارة أو القطار، والهدف هو العبرة، ولمحبي فكرة تاريخانية النص، لا يزال السفر قطعة من العذاب، رغم كل التطور، لربما حاولتم السفر إلى غزة لتروا هل هو قطعة من العذاب أم لا، وإن اختلفت درجات ونوع العذاب، يبقى السفر رحلة من العذاب، وهو نفس ذكر القرآن للخيام، كمعنى للبيت في ذلك الزمان.

وهُنَاك آيات أخرى يخاطب بها الله أهل هذا الزمن وما بعده مثل ) أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما( فإذا افترضنا هنا المقصود هو الانفجار العظيم وهي النظرية التي كما رأينا يعتبرها العُلماء هي الأساس في بداية الكون، مع أني ضد التفسير العلمي بهذا الشكل، لكن هدفي هنا طرح أنّ الآية ليست للزمن الماضي، وهذه الآية لم يُعرف معناها إلا في زمننا هذا، وآية مثل )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق( التي نرى أنه قد بات لها معنىً قوياً في زماننا بعكس الزمان السابق، وذلك بسبب التقدم العلمي الرهيب والذي لم يكن أيام الرسالة ولا حتى بعدها بقرون، من كان قبل 300 عام يفهم عظمة الآفاق وبديع الكون، ومن كان يعي عظمة “أنفسهم” أي عظمة جسم الإنسان والأحياء!

ولذلك فالقرآن الكريم كتاب الله تعالى مرسل لكل الأزمان من وقت البعثة النبوية الشريفة إلى آلاف السنين للأمام، ولا غرابة أن تكون بعض آياته موجهة لأهل الماضي وبعضها موجه لنا وبعضها موجه إلى أهل المستقبل.

لا كهنوت في الإسلام كباقي الأديان، فلا توجد مؤسسة فيه تحتكر تفسير الدين ما يجعلها بوابة حصرية لله، فالإيمان واضح فيه وطلب الصلاة وفرض الصيام والمحرمات كذلك محاسن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام واضحة والتي تمثل مراد الله في البشر، ولا يعني هذا عدم وجود آيات تحتاج إلى تأمل من متخصصين آخرين أكثر قدرة على تبيانها كعلماء الدين، لكن بشكل عام كمُتَدين فإن ما هو مطلوب منك في القرآن الكريم تستطيع فهمه دون واسطة، ودون الحاجة إلى أي جهة تقول لك: لا تأخذ دينك إلا مني. لأن الله في دينه يخاطبكم مباشرة، فلا تجعلوا بينكم وبين الله حاجزاً ما أنزل الله به من سلطان، لديك كتاب الله وسنته، يمكنك أن تبحث فيهما في أمور الحياة اليومية والمعاملات بكل سهولة على ألا تنسى حدودك.

ومن الأمور التي ارتبطت بتفسير القرآن من قبل المفسرين هي الاهتمام بقضية أسباب نزول الآيات وجعلها مدخلاً لفهم آيات الله مع أنّ أحداً لم يهتم من الصحابة بهذا الأمر ذلك الاهتمام، ولم يَتَلقَفه التابعون منهم تَلَقُف غيره من العلوم، ولم يعتنِ به المحدثون ذلك الاعتناء، ولم يُفردوه باهتمام خاص به، إلا من حيث هو قرائن مساعدة في فهم الصحابة للآيات[5].

وتكثر الروايات المتضاربة، والأحاديث المتناقضة حول أسباب النزول، مما يدل على عدم العناية بها، وضبطها، وعلى اختلاف القصد باسم “السبب” إذا ذُكر، بل وأغلب ما يسمى أسباباً لا يدخل في باب الأسباب، وقد وقع تكلفٌ كبيرٌ من المتأخرين في استخراج الأسباب، حتى أصبح النص القرآني يقسم إلى مقاطع، وفقرات قد لا يمكن فهم النص معها لو تصورت ما اعتبروه متقدماً أو متأخراً لم ينزل حينها.

لُغة العرب

للكلمات دلالات راسخة في عقولنا فمثلاً نستخدم نحن كلمة العلو وعالي ومرتفع في الدلالة على النجاح والتقدم، نقول مستوى عالٍ، لقد صعد للأعلى وهكذا، ماذا لو بعد قرن من الزمان كان الهبوط هو النجاح، أو في أمة من الأمم الهبوط للأسفل له معنى أفضل من العلو، مثلاً يسكنون جبلاً واعتادوا على العلو، فالتميز لديهم هو الهبوط أو النزول، حينها لكي تفهم النصوص الخاصة بهم يجب عليك أن تفهم آلية تفكيرهم، وجملة عامة مثل: من كان يعرف عدد النقود التي بجيبه كان مفلساً، وهي جملة تفيد أنّ الغني من كثرة نقوده يجب ألا يعرف كم يملك، أما الفقير الذي يملك القليل القليل، فهو يعد كل درهم ويعرف أين سيذهب، هذه هي اللُغة وهكذا تستخدم، هل لو استبدلنا غير هذه الصيغة لتعريف الفقر لكانت أفضل؟ أي كتبنا الشخص الفقير هو الشخص المُفلس! هكذا جمال كلمات اللُغة فتُعطي في النفس تذوقاً خاصاً، هل لو كان القرآن كتاباً مباشراً يحتوي على نواهٍ وتعليمات دون جماليات اللُغة سيكون أفضل؟ هل لو قال القرآن بشكل مباشر القتل سيء، والسرقة عيب سيكون وقعه في النفس كما لو كان يحتوي على الأساليب البديعية؟ وهل سيكون مناسباً لكل زمان؟

ما المطلوب من الدين أكثر، ما دام وصلك منه فكرة جوهر صناعة الخير وفكرة أحب لأخيك ما تحب لنفسك والغاية هي تحقيق العدل والمساواة والحُريّة وغيرها، هل تريد أن يخبرك القرآن كيف تفتح الفيسبوك ليصبح كاملاً في نظرك؟ وهل لو جاء بكلام عن المستقبل لفهمه أحد! أو لو أتى برسومات مثل كوديكس سيرافيني سيكون كتاباً خارقاً أفضل!

مثال مباشر، كشخص عربي حينما تقرأ في القرآن وما كان الله بظلام للعبيد، قد تتساءل، كيف هذا، إنه أمرٌ غير منطقي، فحينما ينفي أحدٌ عن نفسه صيغة المبالغة، هذا يعني أنه يقوم بالفعل، هو ليس بظلام (صيغة المبالغة)، أي هو ظالم عادي وليس مبالغاً، وبعد المزيد من التفكير والعودة إلى كلامنا نحن العرب، نجد أننا نقول في يومياتنا: انتظر لماذا تضع لي كل هذا الموز؟ أتراني أكّيل (أكول) موزٍ؟ وترانا نقول لماذا تتهمني بكسر الزجاج؟ أتراني كسّير زجاج؟ أتراني شرّيب خمر؟ أتعتقد أني لعيّب كرة قدم؟ وهكذا، الصيغة في القرآن هي صيغة شائعة، ولكن للوهلة للأولى أو لشخص غير متحدث بطلاقة يرى فيها مُشكِلة.

نستطيع أن نرى بوضوح أن أغلب المشكلات التي تُطرح مع آيات القران اللغوية نابعة من هذا السياق، ولذلك ما دمنا لم نبحث بعمق ولم نملك المعرفة الكاملة فلا يجوز لنا التسرع في الحكم، ومراجعة اللغة ومختصو الدين، وذلك ظاهر أيضاً في آية )وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا(، فالقرآن يحث على قطع يد المتمرس في السرقة كعقاب أو كردع للمجتمع، وليس قطع يد من سرق أول مرة رغيف خبز، فالسارق هي دلالة على وصف التصق به من تكرار الفعل فأصبح سارقاً، كما نصف أي صاحب مهنة مثل الشاعر أو الحداد أو النجار، أما لو أراد القرآن أن يصف الذي قام بفعل السرقة لأول مرة لقال “من يسرق” أو الذي يسرق، وليس السارق مكرر الفعل، ودليل هذا كم عدد الذين قطع رسول الله أيديهم في زمانه!

الإسلام والتعقيد

تروي امرأةٌ أوروبية قصة تحولها إلى الإسلام فتقول إنها في بداية تعرفها على الإسلام بدأت بقراءة مجموعة من الكتب مثل القرآن والترمذي والبخاري ومُسلم وغيرها، وتقول إنها شعرت بارتباك حينما نظرت إلى الكتب الماثلة أمامها وشعرت بعدم القدرة على التركيز في هذا القدر الكبير من المعلومات، استمعت إلى مهتدين آخرين إلى الإسلام فكان حديثهم يمزج بين المبادئ الأساسية التي لا يقوم الدين إلا بها وبين تقاليد مجتمعات المُسلمين الشرقيين، ويظن هؤلاء المُسلمون الجدد أنه لا فرق بين المبادئ الأساسية التي يصبح المرء بها مُؤمِناً وبين النسخة الثقافية السائدة عند العرب والمُسلمين وهي ما يمكن تسميتها بالنسخة السلفية من التدين.

لماذا على المُسلمين أن يُغرقوا من يبزُغ في قلبه نور الإيمان بكل هذا الطوفان من الشروح والتفسيرات والفروع؟ وهل نحسن صنعاً مع المُؤمِنين الجُدد حين ندفعهم باتجاه أن يتبنوا أفهامنا وثقافتنا؟ هل تمتلك ثقافتنا الأفضلية لنحرص على عولمتها، أم أنه من الحكمة أن نفرح بتفاعل القرآن مع ثقافات جديدة فينتج صيغاً أكثر فاعليةً ومرونةً من التدين تستطيع أن تتسرب إلى الأمم وتخاطبهم بلغتهم [177].

يعد أستاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانغ مثالاً متميزاً للمهتدين من العالم إلى الإسلام، فقد نشأ في بيئة كاثوليكية ثم صار ملحداً ثم كانت له رحلته الخاصة مع القرآن والتي قادته إلى الإيمان، لقد دخل جيفري لانغ بخلاف آخرين من المهتدين إلى الإسلام، إلى القرآن من بوابة ثقافته الأمريكية، لم يقرأ التفسيرات التقليدية إنما حاور القرآن بنفسه واستمع إلى إجابات القرآن، فذُهل من حيوية هذا الكتاب وقال كلمته الشهيرة: “لقد شعرت أنّ مؤلف هذا الكتاب يقرأ أفكاري ويعد إجاباتٍ مسبقةً على كل سؤال يخطر ببالي”، وقد انتبه جيفري لانغ إلى ضرورة التفريق بين الإسلام وثقافة المُسلمين، وضرب مثالاً على ذلك من رحلته إلى مكة، فالفصل بين الرجال والنساء هو قضية ثقافية عربية، وليس مبدأً أساسياً في القرآن، ويدلل على قصص من السيرة النبوية تظهر مخالطة الرجال والنساء، ويجيب جيفري لانغ على سؤال لماذا علينا التفريق بين المبادئ الأساسية في الدين وبين ثقافة المُسلمين، وحين نخلط بين الأمرين فإننا نمنع كثيرين من الاهتداء إلى الإسلام ونُلزِمهم بقيود لم يلزمهم القرآن ذاته بها.

إنّ سر الإسلام الأول والأهم يكمن في بساطة تعاليمه ووضوحها مما ترك الأثر الأكبر في جذب القلوب نحوه، إذ كل الذي يُطلب من الذي يدخل فيه هو نطق الشهادتين، وإنّ هذه العقيدة البسيطة لا تتطلب تجربة كبيرة للإيمان، ولا تثير في العادة مصاعب عقلية خاصة، وإنها لتدخل في نطاق أقل درجات الفهم والفطنة، ولما كانت خالية من المخارج والحيل النظرية اللاهوتية، كان من الممكن أن يشرحها أي فرد، حتى أقل الناس خبرة بالعبارات الدينية النظرية، ولهذا انتشر الإسلام في العالم.

الإسلام في جوهره دينٌ عقليٌ بأوسع معاني الكلمة من الوجهتين الاشتقاقية والتاريخية، ويعرّف الأسلوب العقلي بأنه طريقة تقييم العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق، ينطبق عليه تمام الانطباق، تتلخص العقيدة الإسلامية من وجهة نظر المُؤمِنين في الاعتقاد بوحدانية الله ورسالة نبيه أو من وجهة نظرنا نحن الذين نحلل العقائد تحليلاً لا روح فيه فنعتقد في الله وفي الدار الآخرة.

وهذان المبدآن هما أقل ما ينبغي للاعتقاد الديني، وهما أمران يستقران في نفس الشخص المتدين على أساس ثابت من العقل والمنطق ويلخصان كل تعاليم الدين الذي جاء بها القرآن، وإنّ بساطة التعاليم ووضوحها لهو على وجه التحقيق من أبرز القوى الفاعلة في الدين وفي نشاط الدعوة إلى الإسلام.

إعمال العقل

لو أراد الله عباداً لا يفكرون، لخلق الناس كلهم مُؤمِنين وانتهى من هذه المسألة بالكامل، أو لتجلّى لهم بعظمته، لكنّ الله يريد لهذا العقل أن يهتدي بنفسه عبر البحث والتفكير، وإذا كان الله يريد لهذا العقل أن يفكر ويتوصل إلى خالقه بنفسه، فلا يجب على أحد أن يُغصب على الإيمان، والآيات التي تدل على هذا كثيرة منها ما قاله الله معاتباً رسوله: ) أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مُؤمِنين(، حتى وإن مال أي إنسان أمامك لارتكاب معصية، لا تملك من أمرك إلا أن تنصحه ما دام لا يضر غيره، هذا الملك يريد من يعبده محبةً لا خوفاً، لا حاجة لهذا الملك بالعبيد، إنه ملكٌ عظيمٌ يُريد أحراراً يُحبهم ويُحبونه.

لذلك من المُفترض أن ننظر نظرة صحيحة إلى من أعمل عقله، ونعتقد أنه قد خطى أول خطوات الإيمان، علينا أن نسير معه في رحلته ونُمهد له الطريق، لا أن ننبذه، أغلب العرب ولدوا مُسلمين فهم يسلمون بوجود هذا الإله، لكن الإيمان الحقيقي بالله يتطلب هذه الرحلة، رحلة الشك التي تنتهي بالإيمان، ونحن أولى بهذا الشك من إبراهيم، هذا الإله العظيم يريد عباداً حقيقيين، يقدرونه ويعلمون قدره وقدرته وعظمته، لا عبيد مغلوبين على أمرهم، يسيرون مكبلين بالأفكار الخطأ، حاشاه أن يكون مثل ملِكٍ ظالم يحب أن يرى العبيد حوله يتقربون إليه خوفاً من سوطه، لا رغبةً في رحمته ودهشةً بعظمته.

لا توجد آية واحدة في القرآن إلا وتشجع على إعمال العقل، فكل آيات القرآن تقول لك فكّر، كل آيات التوبيخ تدل عن أنّ الكافرين لا يفكرون، كل الذم لهم لأنهم لا يُعملون عقولهم.

  1. )لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون( (164) البقرة
  2. )وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ( (42) يونس
  3. )لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( (4) الرعد
  4. )إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( (12) النحل
  5. )لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( (67) النحل
  6. )لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( (35) العنكبوت
  7. )لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( (24) الروم
  8. )أَفَلَا يَعْقِلُونَ( (68) يس
  9. )وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( (5) الجاثية

والآية الأخيرة تتكلم عن اختلاف الليل والنهار والسماء والأرض، والتي تعتبر في زماننا عن اكتشافات الفضاء والفلك، وهي من الأمور التي يجب عليك أن تتفكر بها لكي تعقل، يجب عليك أن تبحث فيها بعمق لكي تجد هذا الإله الذي خلقها، أما شر الدواب عند الله هم )الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ( (22) الأنفال.

وقد شدد السيد زقزوق وزير الأوقاف المصري على أنّ الإسلام يدعو إلى الاجتهاد وإعمال العقل والبحث، فمن المأثورات النبوية قصة معاذ بن جبل عندما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام قاضياً إلى اليمن‏، فقد سأله كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال‏:‏ بكتاب الله‏، قال فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله‏، قال فإن لم تجد؟ قال‏:‏ أجتهد رأيي ولا آلو‏‏ (أي لا أقصر)‏،‏ فأثنى الرسول على معاذ، وقال‏:‏ الحمد لله الذي وفق رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله‏، وأضاف زقزوق فلما كانت العقول تتفاوت والأفهام تختلف في إدراكها وتصوراتها فإنه من الطبيعي أن يكون هُنَاك اختلاف في الآراء بين المجتهدين على مر العصور‏، ومن هنا نشأت مذاهب الفقه الإسلامي المتعددة‏، وكان في ذلك تيسير كبير على جمهور المُسلمين‏، وانتشرت بينهم العبارة المشهورة اختلافهم رحمة، ومن هذا يتضح أنّ إعمال العقل من ضروريات هذا الدين، ولهذا نرى تغير الفتوى بتغير الحالة التي صدرت فيها، فعلى الرغم من أنّ عتق الرقاب كفارة القضاء في الصيام، إلا أنّ علماء المُسلمين أفتوا لمن يملك المال الوفير بأن يصوم، لأن الغني لن يشعر بجهد إخراج المال تعويضاً عن خطئه، بل عليه أن يمر بطريقة أخرى أكثر تعباً، وكذلك تغيرت الفتوى في زمن تفشي الفايروس إلى تأثيم إفشاء السلام بالتلامس بعد أن كان هز الأيدي في السلام من موجبات إبداء المحبة.

نحن لا نتعجب لماذا خلق الله السماء بلون أزرق مع أنه سؤال ممكن، ولماذا يقارب طول الإنسان 2 متر، ولماذا فرض الكثير من الأمور، نحاول أن نفهم قدر المستطاع، لا يشترط السائل على الرب إقناعه بمعقولية أمره لينفذ، وإنما هذا جزء من العبادة الطاعة لله فيما نعرف حكمته وما لا نعرف، لكل أمر حكمة بالتأكيد، لكنه لن يكون عبداً من يطلب الاقتناع قبل التنفيذ، فالصيام هو كالصلاة عبادة بالغيب، وكل تعليل هنا ورطة عقدية، بل وتناقض منطقي، لأن أي إجابة ستكون منقوصة حتماً، محاولة الفهم جيدة، وعدم الفهم لا يتطلب الغضب.

وهُنَاك جانبان من التكاليف في الإسلام:

  1. معاملات معروف حكمتها وحكمها وعلتها.
  2. عبادات معروف حكمها ومجهول حكمتها مثل لماذا نصلي العصر أربع ركعات والمغرب ثلاث.

جزء من التكاليف تعبدية نقوم بها دون معرفة علتها ونقوم بذلك بدافع الحب، نقوم بأشياء لا نقتنع فيها، ولو أنّ ابنك طلب طعاماً معيناً لا تحبه أنت ولكنه يهواه، فستجلبه له من باب المحبة، ونستشهد بمقولة عمر بن الخطاب للحجر الأسود حينما قال أنّه يقبل الحجر الأسود لأنه رأى الرسول يفعله وهو من شرائع الدين، مع أنه يعلم أنّ الحجر لا يضر ولا ينفع، والصحابة والسابقين علموا أنّ الإسلام لا يمنعك التفكر وإعمال العقل.

أولاً وقبل كلّ شيء، هُنَاك في حقلك المقدَّس أيُّها الاله المهيمن ليت حبة الأرزّ الأخيرة التي سيحصدونها، ليت الحبة الأخيرة من الأرزّ التي ستحصد، بحبات العرق المتساقط من سواعدهم، وتشدّ مع الوحل العالقين بالفخذين، ليت هذه الحبة تزدهر بفضلك، وتنفتح سنابل الأرزّ التي تتوق إليها الأيدي الكثيرة، فتكون أولى الثمرات في الشراب وأعواد النبات[178].

صورة 36 بعض أدعية الصلاة في الديانة الشنتوية

الشنتوية ديانة ظهرت في اليابان وهي الدين الأساسي فيها، وهي ترتكز على عبادة الطبيعة، حيث تعظيم الشمس والطعام وحتى الأجداد والأسلاف والأبطال والملوك، وللشرف قيمة عليا عند الفرد الواحد، الذي يسعده أن يضحي بنفسه في سبيل الشرف.

تقديس الموروث

كثيرٌ منا يُقدّسُ تاريخنا بأكمله ويراه مُنزّلاً من السماء مع أنه ليس كذلك، لقد تقدّمت الشعوب بعد مراجعة أخطائها والاعتراف بها كي لا تُكررها، وما مِن أُمةٍ نجحت إلا وقد فتحت سجل أخطائها وبدأت في الاعتذار عما أخطأت فيه وتصحيحه، ونحن المُسلمين يجب أن نراجع تاريخنا ونعترف بأخطائنا لكي نطوي صفحته على صواب ونتعلم منه، فما يُميز الدول التي وضعت قواعد رسوها بين الأمم والحضارات هو وجود مبدأ راسخ لدى أبنائها لا يحيدون عنه يسمى النقد الذاتي، إنهم لا يخجلون من القول بأنهم كانوا هم أو أجدادهم مخطئين، أو أنّ السياسيين قد أخطأوا، بل إنهم يشعرون بالفخر ويشعرون بالنُبل حينما يمارسون النقد الذاتي، وتساعدهم في ذلك حُريّة الصحافة؛ فهي تنشر وتنتقد أخطاءهم علناً، والجميع يتصرف لإصلاح هذا الخطأ، إنهم لا يخجلون حينما يعلنون أنّ دولتهم مخطئة، أو أنّ الرئيس أو الحزب مخطئ، ويعتبرون هذا في صُلب استمرار حضارتهم.

يُعَد سجن أبو غريب مثالاً واضحاً على النقد الذاتي، فمن فضح الجيش الأمريكي هو الصحافة الأمريكية، وكذلك هم من نشروا فضيحة ووترجيت، فقد لعبت الصحافة الأمريكية دوراً كبيراً في فضح سياسة دولتهم أمام العالم لتورطها في الحرب مع فيتنام، واعتبرت الصحف أنّ جَلب الخِزي لدولتهم أمام العالم أمراً هيّناً مقارنةً بالتَستُر على هذا الجُرم وعلى فِعل الدولة المُشين، بل وأكثر من هذا، فمن فضح جرائم الأجداد في إبادة الهنود الحُمر هم الكُتّاب الأمريكيون الوطنيون أنفسهم، أما نحن فلا نتجرأ على الاعتراف بأخطائنا أو أخطاء أجدادنا، لنتعلم من هذه الأخطاء في المستقبل، بل نقوم بتأسيس بنياننا على شفا جرف هار.

ننظر إلى العالم فنرى رئيس دولة ما قد سُجن، ووزير آخر يتم التحقيق معه، وعشرات الوزراء قد وقعوا تحت طائلة المساءلة القانونية، وهذا أمرٌ واقعٌ أمامنا لسنا بحاجة إلى فتح كتب التاريخ لرؤية تاريخ الأمم، أخبرني كم من مسؤول مُسلم أو عربي تم عرضه في المحاكم منذ ألف عام، مُجرَّد حساب وليس حبس! نحن نعتبر أنّ أمر الخليفة العباسي أمرٌ ربانيٌ ولا يجوز مراجعته، لذلك يستمر في طغيانه ومن يأتي بعده يعتاد الأمر، هو الحاكم بأمر الله فلا يجوز حسابه، ويا ليتنا نتعلم ونقول أنّ الخليفة العباسي كذا كان سفاحاً ولا يجب احترامه، وأنّ الشخص الفلاني كان سارقاً فيجب عقابه وغيرها، فلننظر إلى ما قام به العباسيون حينما انتزعوا السلطة من الأمويين، لقد أبادوهم بالكامل، وبسطوا الفرش فوق جثثهم وبسطوا الطعام وجلسوا يستمتعون، في مشهد مُريع لا يتكرر في التاريخ، لقد أجرم العباسيون واعتبروا أنّ قراراهم هو قرار الله، وسلطتهم مستمدة من الله، فمن فتح ملفهم يوماً وقال هؤلاء كانوا على خطأ في هذا الأمر، وأن ما طبقه المُسلمون جراء فعلة العباسيين من بعدهم هو خطأ ولا يجب تكراره، وقد صادر المأمون بقدرته الفكر من الناس ومنعهم من استخدام عقولهم، فانزلقنا إلى القاع وما زلنا، لأننا نرى أنّ تصرف المأمون تصرفٌ دينيٌ وليس سياسياً!

وما من دين تمت الإساءة إليه إلا وكانت الإساءة صادرة عن أتباعه بالدرجة الأولى، وإذا قرأنا تاريخ المُسلمين فإننا سنجد العجب العجاب، فالمستنصر بالله منع الاجتهاد خارج المذاهب الأربعة وهذا ما فتح أبواب الجهل والتخلف لقرون طويلة، وترى فقهاء الحاكم يدعونك إلى الصبر على هؤلاء الحكام، ويدعوك الله إلى الثورة: )وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(، وفكرة الحاكمية التي جددها سيد قطب بعد أبو الأعلى المودودي شكلت حلقة في سلسلة تغييب العقل لصالح النص، إذ تتماهى فيها الألوهية والسلطة، فما يصدر عن الحاكم المُسلم هو ما يصدر عن الله، وقد رأيتم أنّ المُسلمين اعتبروا فعل العباسيين فعلاً ربانياً مقدساً لا داعي لنقاشه، وظلت الأخطاء قائمة، وقد بدأت هذه السلسلة يوم رفع معاوية المصاحف على أسنة الرماح ونقل المسألة من دائرة الخلاف السياسي إلى دائرة الخلاف الديني للمراوغة، وبقيت المسألة معلقة إلى يومنا هذا.

أظن أننا بحاجة إلى تجديد خطابنا الديني بعد مراجعة التاريخ، لكن هذا التجديد لا يتم في النصوص الربّانية نفسها، بل في البشرية منها، أما الرؤية التي تنطلق من أنّ كل نص ديني هو نص متأثر بعوامل الإنتاج الدنيوية فهي رؤية خاطئة؛ لأنه بذلك يرى أنّ كل النصوص من إنتاج العالم، لا شك أنّ في هذه المطالبات شيئاً من الصحة، لكنه ليس الصحة كلها، فثمة نصوص متعالية على الدنيا، لا تفعل فيها عوامل الإنتاج أفاعيلها، فلئن وُجد في القرآن نصوص استجابت لمتطلبات المرحلة، فأجابت عنها بما يناسبها في زمنه، إلا أنّ هُنَاك كذلك منها ما هو فوقها وسابق عليها ويحكمها، كنصوص الأخلاق مثل تحريم الزنا، وتجريم الإساءة إلى الوالدين… إلخ، إضافةً إلى النصوص التي تتحدث عن عالم آخر لا تحكمه التجربة، كاليوم الآخر والصراط والميزان والجنة والنار وصفات الله، والنصوص التي تتكلم عن السنن الكونية في دفع الناس بعضهم ببعض كي لا تفسد الأرض، والنصوص التي تقرر عقوبة مُحددة معلومة لجريمة من الجرائم … إلخ، لكن الاعتقاد أنّ لا شيء من ذلك ثابتاً لأنه مُجرَّد خطاب مثل فكرة أنّ الزنا قد يكون متاحاً في زمن مُختلف عن زمن التنزيل، أو أنّ اليوم الآخر فزاعة تخيف بها الأديان الناس كي يطيعوا رجال الدين، وغيرها من الصور الخاطئة ولا يجب السير فيه.

إنّ الدولة التي أحلم في العيش فيها، هي الدولة التي تحترم الجميع، ويكون الجميع لديها سواسية، لا فرق بين عربي أو أعجمي فيها، ويتم اختيار أكفأ الأشخاص لنيل المناصب بها، دون النظر إلى أيِّ اعتبارات سواء كانت عنصرية أو دينية أو مالية أو قبلية أو أيٍّ كانت، ما يهم هو الكفاءة في المجال فقط، ولا شيء غيرها، أناضل أنا وجاري الذي لا يُهمني مذهبه أو هل صلّى أم لا، نناضل سوياً لخدمة المجتمع، تحت سيادة القانون وتحت سقف الدستور الذي يحفظ حقي وحقه.

ومن المُفترض أنّ هذه هي الدولة الإسلامية التي تسير وفق مفاهيم الدين وحسب ما فهمنا من سيرة الرسول والخلفاء من بعده، أن تُسمى في زماننا هذا الدولة المدنية، لأنّ المُسلمين قاموا بتشويه مُسمى الدولة الإسلامية وجعلوا لرجال الدين السلطة العليا في الحكم، بناءً على العلم الديني، وليس بناءً على الكفاءة في الميدان.

لمحاولة توضيح الفكرة، لننظر إلى هذا المستشفى، إذ يتم اختيار مدير له بناءً على أكثر العاملين ديناً وعبادةً بغض النظر عن شهاداته العلمية وخبراته العملية، ويتم اختيار الأطباء العاملين في المستشفى بناءً على معتقدهم الإسلامي أيضاً (سني شيعي إباضي سلفي جعفري.. إلخ)، وكذلك بناءً على عدد ركعات قيام الليل لا لشيء آخر، وهكذا يتم الأمر مع الطاقم، وتتم الترقيات في الدرجات بناءً على عدد ساعات الاعتكاف في رمضان، لا بناءً على الجهد في العمل والخبرة في إدارة الأقسام.

أنت لم تستطع تقبل الفكرة ورأيتها غير منطقية، ورأيت أنّ الصورة المقٌبولة لديك عكسها تماماً؟ نتفق على الصورة الأخرى المطلوبة في المستشفى هي نفسها المطلوبة في الدولة، سواء سميتها المدنية أم العلمانية أم السلوقية، لا يهم الاسم بقدر المضمون، وحديثي هنا عن الكفاءة وليس عن أحكام العدل والزواج والمبادئ المستنبطة من الدين.

أزمة الوعي الديني

لتدرك عمق المُشكِلة التي يمُرُّ بها المُسلمون، اطلب منهم جمع تبرعات لبناء مسجد، سترى الجميع يتهافت لبناء هذا البيت الذي سيدخلهم الجنة، أو اطلب منهم مشروع إطعام مساكين، سترى الجميع يحاول أن يكون في المقدمة، ولكن لو كان ينقص المدينة مستشفى أو مدرسة أو مستوصف فستجد الإقبال ضعيفاً، بل ولو كان ينقص المدينة أطباء، وطلبت منهم تبرعات لابتعاث طلاب للتعليم فلن تجد من يتبرع، والمُشكِلة هنا تعود إلى سوء فهمنا للدين.

فالدين مرتبط في وعينا بالمسجد أو بإطعام الفقير، وإرضاء الله متعلق ببناء بيت له، ومتعلق بأن من بنى بيتاً لله بنى الله له بيتاً في الجنة وهكذا، الخير غير مرتبط في أذهاننا بحاجة البلد إلى الأطباء، أو بحاجة المدينة إلى مكتبة عامة، أو حتى بحاجة الشباب إلى نادٍ لكرة القدم، وكُلّها أبواب خير، بل لو كان المسجد موجوداً وكافياً، والملعب غير متوفر، لكان الأثوب والأفضل هو بناء ما هو ينقص الشباب لتفريغ طاقاتهم بدلاً من إهدارها فيما لا ينفع، وهنا نرى عمق أزمة انفصامنا في فهم الدين وكونه أسلوب حياة شامل وليس مرتبطاً بالمساجد أو بالصلوات فقط.

صورة أخرى وهي صورة المُؤمِن المتجهم، المُؤمِن الجاد، المُؤمِن الصارم الذي لا يبتسم إلا نادراً، لأنّ الضحك والهزل والمزح والدعابة بل وحتى الغناء والشعر وغيرها كلها مرتبطة بقلة الدين، بل وكيف نفرح والأقصى مُحتل، وفي حين نقرأ في المقابل عبدالله بن الحارث يقول: ما رأيت أكثر تبسماً من رسول الله وعشرات الأحاديث بل وآيات القرآن عن أنّ الرسول كان سَمِحاً ضحوكاً يُمازح أصحابه ويعطف عليهم وكان بعيداً كل البعد عن الغلظة والفظاظة، وأنّ محاربة الفساد وواقع المُسلمين الأليم يتطلب العمل والكفاءة والإنجاز للخروج منه، وليس التجهم وإضافة النكد على كل من حولك، وأنّ فهم السلف ليس ملزماً لنا، في زمانهم وفي متطلبات حياتهم تطلبت منهم فهم الشرع بهذا الشكل، لربما، لكن نحن غير ملزمين، إنما نحن ملزمون بالصور العليا، بالمقاربات المثلى، ولكن للأسف إذا قلت لشخص متدين الآن قال الله تعالى، لرد عليك وقال كلامك صحيح إنّ الله يقول هذا لكن الله لم يقصد هذا، بل قصد الله هذا كما فهم السلف، وما نراه الآن أنّ الدولة الإسلامية مختزلة في عقول بعض الإسلاميين بتطبيق الحدود.

بل حتى من نعتقد أنهم علماء المُسلمين ويجب أن يكونوا الأكثر فهماً وعقلانيةً، كان كمٌّ منهم أسوأ مما نتخيل، فمنذ القرن السادس الهجري حتى القرن الثالث عشر هجري، كان في المسجد الحرام أربعة مقامات لكل مذهب، فقد كان أتباع كل مذهب يصلون صلاة خاصة بهم منفردة عن الآخرين، هذا في الحرم الأقدس، في المحيط الضيق له، فمقام للحنفية مقابل الميزاب، ومقام للمالكية قبالة الركن اليماني، ومقام للشافعية خلف مقام إبراهيم عليه السلام، ومقام للحنابلة ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، وتكون صلاتهم مرتبة فيقيم ويصلي أهل المذهب الشافعي، وحين يفرغون من الصلاة يقيم ويصلي الأحناف، ثم المالكية ثم الحنابلة، إلا في صلاة المغرب، فإنهم يصلون في وقت واحد، كل مذهب بإمامهم فتتداخل الأصوات ويحدث من السهو واللغط الشيء الكثير [179]، إلى أن أنهى الملك عبد العزيز آل سعود هذا السُلُوك، فإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن حتى في قلوب الكهنة.

صورة قديمة للحرم المكي مع مباني المقامات الأربعة - منقولة من تويتر

صورة 37 مقامات الصلاة في الحرم.

وقد رأيت شاباً ملتحياً يلبس الجلابية في البرد الشديد، ولم يفكر في ارتداء معطف أو ما شابه، فقلت الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، وتفكرت وقلت في نفسي، لو كانت السنّة في اللبس والمظهر لكان أبو جهل (أحد أعداء الرسول) أقرب الناس إلى سنة الرسول، فهو كان يلبس ما يلبس الرسول في زمانه، ويأكل أكله ويقوم بالكثير من السُلُوكيات اللازمة للحياة اليومية كما كان يفعل الرسول، ولكان أبو جهل متمسكاً بالسُّنة أكثر من كل المُسلمين اليوم، فكم مُسلم يتجمر ويستخدم الحجر في زماننا هذا!

ولكن السنة النبوية ليست هذا، السنة النبوية أن نلبس ما يناسب زماننا ما لم يخالف شريعة، وأن نستخدم الجوال والحاسوب والكرسي والسيارة وكل ما في حياتنا بضوابط لا تُخالف جوهر سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد ظهر هذا الجهل جلياً في أحكام وعادات كثيرة، مثل حكم الجلوس أو الدوس على القبور، والذي يعتبره المُسلمون من المحرمات، فقد روى مالك في الموطأ أنه بلغه أنّ علي بن أبي طالب كان يتوسد القبور ويضطجع عليها، وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنهما يجلس على القبور، وذهب المالكية وبعض الحنفية وزيد بن ثابت ويزيد بن ثابت أخوه وغيرهم إلى جواز ذلك، وحملوا الأحاديث وما في معناها على الجلوس لقضاء الحاجة على القبر، قال البخاري في الصحيح وقال عثمان بن حكيم أخذ بيدي خارجة فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمه يزيد بن ثابت قال: إنما كره ذلك لمن أحدث عليه، وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنّ زيد بن ثابت قال له: هلم يا ابن أخي، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبر لحدث بول أو غائط، وعلى ما يبدو أنّ الجلوس على القبور أمر عادي، ولكن الخوف من التبول عليها للمصلحة، أو لربما يختبئ فيها عقرب أو أفعى فيحدث ما لا يُحمد عقباه.

وقضية القبور هذه تشبه قضية دق الكؤوس التي يعتقد المُسلمون أنها حرام، وهي ليست مبنية على حديث ولا أصل لها في السنة النبوية، وهو تحريم متأخر ظهر في القرون الأخيرة، وكان الغزالي قد أجاب عن هذا السؤال في ظروف معينة بأن التحريم ينتج من تشبه ظاهر بعادات شراب الخمور.

السنن الكونية والتوكل

– كن مع الله ولا تبال، لن يحدث في ملك الله إلا ما أراده سبحانه، كل إنسان يأخذ نصيبه، إذا كان الله معنا فمن علينا…

إنّ سوء استخدامنا لهذه العبارات من أسباب النكبات التي حلّت علينا، فنحن نعتقد أنّ الله سيقف معنا لا محالة، وأنّ الله سيحابي مجموعة من الجهلة والراسبين فقط لأنهم ولدوا مُسلمين، سيحابي الله شخصاً لم يقرأ للامتحان ويجعله ينجح، سيحابي الله مزارعاً لم يزرع ويجعل محاصيله يانعة!

إذا كان الله معنا فمن علينا، نعم هذا صحيح، إذا كنا نحن فقط مع الله، الله يخبرنا أن نكون معه بالعقل والعلم والعمل، هل سيغير الله السنن الكونية التي لم يغيرها قط، لأجل مجموعة من الكسالى، كسالى يريدون النصر والسيطرة دون عمل، يريدون الله أن يقاتل عنهم، يرسل حاصباً فيصيب العدو وهم جالسون، يريدون أن ينزل الله عليهم مصنعاً من السماء يصنع جوالات سامسونج وهم نائمون.

لقد فهم الرسول والصحابة هذا الأمر، وكانوا لا يدعون بدعاءٍ قط إلا بعد أن يأخذوا بالأسباب كاملة -وكأن الله غير موجود- فمُسلم وكافر تعرضا للغرق في البحر، سينجو فقط من يعرف السباحة، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف، وقد تسأل شخصاً مُتديناً في خضم أزمة طاحنة يجب أن يفكر بها ليخرج منها فيقول لك: أنا مُؤمِن ومتفائل بوجه الله، ولا داعي للخوف!

مع أنّ التفاؤل في وجه الله يكون في أن تقرأ للامتحان وتستعد جيداً، ثم يوفقك الله في تذكّر ما قرأته، التفاؤل في إتقانك لعملك حتى يوفقك الله فيه، التفاؤل أن تبحث عن عمل، ولا تنتظر السماء كي تمطر ذهباً أو فضة.

التفاؤل أن يرحمك الله، أما المرض الذي أرسله لك له جانب آخر، أي مكروه يحدث لك يعوضك الله عنه، لكن هذا لا يعني أن تجلس دون تناول الدواء وتقول أنا متفائل بالله، إنّ الله يطلب منك أن تأخذ الدواء وأن تأخذ بالأسباب كاملة كأنه غير موجود، والأمر نفسه حينما لا تتبنى دولة المُسلمين التخطيط لمستقبلها وتُهزم ويسيطر عليها الغرب والشرق والشمال والجنوب، هذا ليس خيراً وتفاؤلاً، هذا جهل وانحطاط فيها.

أو كما تقوم وزارة الأوقاف بعد أن تتابع الأرصاد وتعلم موعد المطر، فتراها تدعو إلى صلاة الاستسقاء وهذه مصيبة أنهم يخدعون الناس، اطلبوا من وزارة الأوقاف أن تدعو إلى صلاة استسقاء في الصيف في شهر تموز مثلاً؟ واسألوا الله أن يُنزّل المطر، حتماً لن يفعلوها، فلا مطر في الصيف إنه لن ينزل لو دعا كل الناس، والسنن الكونية تسير على الرسل أيضاً وقد كسرها الله في حالات نادرة تسمى المعجزات، ولماذا يا وزارة الأوقاف لا نجعل التواكل سبيلاً لحياتنا؟ لن أقرأ وسأدعو الله وأرجوه النجاح، لن آخذ الدواء وسأطلب من الله أن يشفيني، لن أعمل وسأسأل الله أن يرزقني، فأنتم علمتمونا أنّ التواكل هو الدين.

إنّ ما تدعون إليه هو دعوة لتثبيط الهمم، ونقل تدوير الأمور وصعابها في الألباب والعقول إلى سلطة رجال الدين وخياراتهم؛ حرصاً على المكاسب وعلى ضمان تبعية الأفراد لمؤسساتهم ولحكامهم، تعلموا كيف نحفظ الماء وكيف نقي أنفسنا الجفاف، وأعدوا العدة وخذوا بالأسباب، وصدقوني لن تلزم هذه الدعوات إلا محبة في الله، لكنكم لا تقبلون هذا، ستكونون دمى على الرف، وهذا ما لا تحبونه.

نحمد الله أننا نسينا أن نعلّم أمريكا والدول المتقدمة أنّ صلاة الاستسقاء والدعاء هما الحل لدفع الأعاصير والكوارث، لكنهم لم ينسوا السنة المؤكدة التي تقول أنّ العمل والعلم هما السبيل لنجاة أي أمة، العلم والعمل هما أدوات الله للبشر لكي يواجهوا الأعاصير ونقص الأمطار والجفاف والبراكين والتقلبات المناخية، العقل البشري هو السلاح الذي زوده الله لعباده، فمن يستخدمه يسود، ومن لا يستخدمه يندثر.

لم يكن زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المقومات ما يسمح بتجميع مياه الأمطار وبناء السدود وحفر الآبار العميقة لتجميع المياه، لذا كانت صلاة الاستسقاء العمل المتاح في ذاك الوقت، ولو كان لديه ما لدينا الآن من معرفة وقوة علمية لعله ما رفع يديه إلى السماء مستغيثاً لله المطر، ولو قام بها رسول الله لكانت في باب التوكل والأخذ بالأسباب، وليس جزءاً من عملية تواكل.

إنّ أعتى إعصار (إرما) ضرب قارة كاملة مات فيه أربعة أشخاص فقط، وذلك لأنهم خالفوا التعليمات وليس لغياب الاستعداد الحكومي، أربعة فقط من عشرات الملايين، أذكر أنّ الموقف نفسه حصل في زمن الخديوي، فقد دخل جيشه في معركة في السودان وخسر، فدعا الأئمة للدعاء والتهجد، وأرسل الخديوي جيشه مرة أخرى، فخسر خسارة مُدوية، فعاقبهم، فقال له أحد علماء الأزهر، وماذا يفعل الدعاء وأنت لم تُدرِّب جنودك منذ أعوام، ماذا يفعل الله لأقوام ناموا واعتمدوا الدعاء سبيلاً للنصر ومنع الجفاف والتقدم العلمي!

التوكل

اعلم أنّ الله لا يُحابي أحداً، فإن تزرع تحصد، ولا يمكن أن يجعل الله أرضك تنبت دون أن تجتهد وتزرع، ولو كنت أفضل الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فسنن الله ماضية في كونه، نواميس ثابتة لا تتغير سواء كنت مُسلماً أو غير مُسلم.

إنّ فهمي لهذا الأمر يجعلني أعمل وآخذ بالأسباب وكأن الله لا يُسببها، ولو جعل الله عز وجل أرضاً تنبت لمزارع لم يفلحها لكان الله غير عادل -حاشاه- سبحانه وتعالى، هذا يأخذنا إلى مصطلح شائع تحت عنوان العلم اللدني أي أنّ الله يفتح من أبواب علمه على رجل مسكين يجلس في زاوية ما، فيُمسي هذا الرجل بعلمٍ أكثر من شخصٍ أفنى حياته في السعي والقراءة والعلم والاجتهاد، هذا يتنافى مع العقل ومع عدل الله ومع القوانين التي وضعها في كونه.

أتفهم أنّ ذكاءنا وعلمنا كرمٌ من الله، قد يفتح الله عليك في مسألة ما، ولكن لا يمنحك علماً كاملاً أو قدرة خارقة دون اجتهاد، وقد قال الله لنا: لقد خلقتك وسلاحك العلم، فتعلم وابتكر واصنع المعجزات، والعلم الآن يصنع المعجزات، لا السحر والاتكال، ومن غير المعقول أن يجلس 5 آلاف عالم يجتهدون على مدار 30 عام لاكتشاف دواء لمرض ما، ويأتي شخص نائم في العسل، يضع يده على المريض ودون جهد يشفيه لنا، ماذا يقول العُلماء حينها عن هذا الخالق العظيم.

بل وتجد ملصقات ومقاطع فيديو قصيرة تتحدث عن حل مشكلاتنا من خلال الاستغفار والصلاة على النبي وقيام الليل وتعاهد الصدقة، فإذا كنت فقيراً أو عليك دين أو لا تستطيع الزواج أو لم ترزق بأبناء، فعليك بالصلاة على النبي، لا نعرف أمة غيرنا تصلي على النبي وتستغفر الله وتسبحه، ومع ذلك لا نعرف أمة أكثر منا جهلاً وفقراً، وإذا سألت الشيخ ما نفعل لأننا ما نزال نواجه المشاكل سيرد عليك: يحتاج الأمر إلى قلوب نقية ويقين كامل.

ولعلي أُذكّر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل، أو أنه أعطى للشاب الذي جاء يطلب الصدقة فأساً وحبلاً ليحتطب، وقول عمر بن الخطاب للأعرابي الذي يدعو الله أن يشفي ناقته من الجرب: اجعل مع الدعاء شيئاً من القطران، ونقلت لنا السيرة أنّ النبي صلى الله عليه في عشرات القصص والروايات قد ركز على الأخذ بالأسباب، وعندما نريد حل مشاكل الأمة لا يجب أن نتغافل عن قانون السببية الثابت في هذا الكون.

إنّ الله رب العالمين وليس رب المُسلمين وحدهم، ويعتقد المُسلمون أنّ لهم ميزات خاصة عند الله ليست لغيرهم ويبنون بظنونهم أنّ هذا يستدعي معاملة خاصة وقوانين خاصة، إنّ هذا مُشابه لما قالته الأمم السابقة كقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه فما كانت إجابة الله لهم )فلِمَ يُعذبكم بِذنوبكم(، إننا تناسينا أنّ نجاح الأمم يكون باتباع القوانين، لا بالفهلوة وخفة اليد.

وهنا استحضر تفسير الأحلام، إذ يعتقد المفسر أنّ أي شخص يرى شيئاً أخضراً فهذا يعني خير قادم وأي شيء رمادي يكون شراً مقبلاً، وغيرها من الصور التي يستخدمها المفسرون، في حين أنّ وصف القرآن كان أضغاث أحلام، أما الرؤيا فهي خاصة بالأنبياء، ولو فتحت الكتب أو القنوات أو اليوتيوب ستجد المئات من العاملين في هذا المجال، لأننا أمة تركنا العلم والعمل، وبحثنا في الأحلام والجن، ونتساءل عن الأمور الغيبية كيف نعلم عنها؟ أليس من كتاب الله وسنة نبيه، ولو أتانا شخص وقال أنّ الجن لونه أزرق، وله 5 عيون، ولو قال آخر أنّ الله 2 وليس 1، لن نصدقه ولو أقسم؛ لأن الأمور الغيبية فقط هي ما أخبرنا عنها ربنا، سنسأله كيف عرفت أنّ الجنة لون بابها أزرق!، فإذا قال لقد رأيت بعيني، سنقول له أنت كاذب، فقط سنصدقك إذا جلبت دليلاً من القرآن أو السنة، وأنت عزيزي مفسر الأحلام، ما هو مصدرك أنّ التفاحة الحمراء ترمز إلى خير، والتفاحة الخضراء ترمز إلى الشر؟ أين الحديث، أين الآية؟

لا تخبرني حسب فهمك للآية، لأن هذا تأويلك أنت، وليس رأي الدين القاطع، أعطني قصة اعتمد فيها الرسول على حلم وخاض معركة بناء عليها؟ إنك لن تجد قراراً اتخذه الرسول بناءً على حلم، فكل سيرة الرسول تفكير وعمل وتخطيط، لا شيء فيها للصدفة، حتى معركة بدر، الصحابة أشاروا عليه، وكذلك معركة الخندق وغيرها، كان ينزل عند الحكمة والمشورة، وكأني لم أسمع أنّ الرسول محمد قد نام وحلم برؤية، في حين أننا نحلم كل ليلة برؤيا صادقة.

الإزعاج العلمي

يستهوينا كثيراً نحن المُسلمين وجود آيات تحتوي على إعجاز علمي في القرآن، ونتسابق لإسقاط أحدث الاكتشافات العلمية على آيات القرآن الكريم بشكل دائم، والإشارة إلى أنها كانت موجودة في ديننا منذ 1400 سنة، ومثال عليه هذه الآية رقم 30 من سورة الأنبياء ) أولم ير الذين كفروا أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما(.

كلمة رِتق في الآية لها معانٍ عدة، وحسب فهم علماء التفسير للآية في كل زمان كان يتم تفسيرها بشكل مُختلف، إلى أن وصلنا إلى هذا القرن، قرن الاكتشافات العلمية، فتم تفسيرها بتفاسير جديدة، جزء من التفاسير القديمة يقول أنّ السماء والأرض (داخل الكرة الأرضية) كانتا جزءاً واحداً، أما التفاسير الحديثة بناءً على الاكتشافات العلمية كانت تتحدث عن أنّ النجوم ترقع السماء، والأحدث منها يقول أنّ القمر كان جزءاً من الأرض وخصوصاً من منطقة المحيط الأطلسي، وهو ما قاسه العُلماء ثم انفصل عنها، وهذا ما قد تعنيه الآية، أما التفسير الذي يجمع عليه الكثير اليوم هو تفسير نظرية الانفجار العظيم وأنّ الله يقصد هذا، الجديد أنّ العلم يبحث الآن عن نظريات ما بعد الانفجار العظيم كما رأينا في نظرية كل شيء، وقد يعتمدها او يعتمد غيرها في يوم ما.

ماذا سنقول أمام العالم، أليس الموضوع محرجاً! بين فينة وأخرى نغير التفسير ونقوم بإسقاط نظريات علمية على الآيات ونحرج أنفسنا، أي شخص غير مُسلم سيرى هذا الكلام، سيتعالى.

من الذي أخبرنا أنه يجب أن نُسقِط الاكتشافات العلمية على القرآن الكريم؟ من الذي خدعنا بهذا وجعلنا نُصرُّ على تحميل القرآن أمام العالم ما لم يقله؟

الآية يمكن تفسيرها تفاسير علمية متنوعة وإسقاط نظريات كثيرة عليها، لكن هذا كله ليس صواباً، لأن النظريات العلمية تبقى نظريات ولا شيء ثابت بها، كانت قوانين نيوتن خلال قرون طويلة حقيقة علمية إلى أن قام أينشتاين بدحضها، وهكذا العلم، لذلك لا يجب إسقاط النظريات العلمية على القرآن، القرآن لا يقول لك هذا، وهذا ليس دوره، ليس دوره أن يكون كتاب أحياء أو فلك أو فيزياء، كتاب الله ليس في الأصل كتاب تشريح أو أجنة أو غير ذلك، بل هو كتاب هداية وقيم وأخلاق ونهضة إنسانية وهذه مهمته الأساسية، ولكن لا يعني هذا أنه لم يتناول قضايا علمية على صعيد النفس والآفاق كآيات للتدبر والدراسة ولكن ليس لهدف للإعجاز والتعجيز، يجب النظر بكلية الآيات للتفكر، ولا يجب أن نذهب على كل آية ونسقطها على نظرية علمية.


هذه الإسقاطات أخرجت أشخاص عن دين الله، أناس يرون القرآن ضعيفاً متردداً وغير صحيحاً، يتصادم مع العلم، وكل هذا لأن المفسرين يرون معنى الآية هكذا لكي يتوافق مع العلم، ولمّا يتغير العلم، ويرى أي شخص أنّ التفسير مُختلف، ستراه يعزو الخطأ إلى القرآن ولن ينسبه إلى المفسرين، كثير من المشايخ ما زالوا يستشهدون بأن الأرض مسطحة من القرآن، فيأتي شخص رأى كل العالم والعُلماء يقولون أنّ الأرض كروية، والمُسلمين يقولون أنها مسطحة، فطبيعي أن يقول هذا القرآن كتاب خاطئ ومزيف، وسلام عليك أيها الدين، إنّ العلم لا يُؤَدِي إلى الإلحاد، بل ربط العلم -والذي هو نتاج بشري- بالنص الديني هو ما يُؤَدِي إلى الإلحاد.

صورة 38 صورة تمثال كونفوشيوس من أمام أحد المعابد الكونفوشيوسية

الكونفوشيوسية ديانة صينية ترجع إلى المفكر كونفوشيوس الذي دعا في القرن السادس قبل الميلاد إلى التمسك بالقوانين الصينية مع إضافة لمسة من فلسفته الخاصة، كما ودعا فيها إلى توحيد الإله وتقديس الملائكة، وأراد كونفوشيوس الوصول بمبادئه إلى المدينة الفاضلة.

لا تؤمن الكونفوشيوسية بالبعث، ولكنها تؤمن بالعقاب الإلهي في الدنيا، كما ولديهم لكل جزء في الطبيعة إلهٌ خاصٌ، فللقمر إله، وللشمس إله، وللجبال والسحاب كذلك، ويمكن التقرب من الإله بتقديم القرابين للملوك والأمراء.

الإيمان

ونعود إلى السؤال الأساسي: هل الإيمان عقليٌ أم قلبيٌ؟ فإذا كان قلبياً، فالله هو المسؤول عن الهداية، وإذا كان عقلياً، فالله من أعطاني هذا العقل الناقص، ومن يقول اهتديت إلى الله بالعقل، نقول له إنه غير كافٍ لأن الكثير ممن يملكون العقول لم يهتدوا إلى الله، ولكن ماذا عن الحتمية والإرادة الحرة، فكل ما في الكون مدروس بدقة والماضي يحدد المستقبل، والأمر حتمي، وكله من عند الله، أم أنّ الإرادة الحرة مرتبطة بالمسؤولية الأخلاقية؟

حسناً، هُنَاك حدٌ فاصلٌ بين الإيمان والعلم، فالإيمان يخبرك أن تؤمن بأمور غيبية مثل الجنة والنار والملائكة وغيرها، والعلم يخبرك بذلك من خلال التجارب العملية والحس المادي، صحيح أنه لم يفسر كثير من الأمور ولكنه يبقى علماً فيما فسره، فكيف سأؤمن بأمور بعيدة عن عقلي، مثلاً أنه حدث استنساخ قبل 2000 عام للسيد المسيح! وعلى صعيد آخر هُنَاك في الدين أمور منتشرة غريبة (دون نصوص صريحة)، مثل ركوب الجن للإنس، أولياء الله وقواهم الخارقة، وغيرها من القصص.

إنّ الإيمان يتطلب منك أن تُسلِّم ببعض الأمور إن ثبتت، وأن تتفكر في الأمور التي لم تُثبِت، فالإيمان بوجود الملائكة ثبت في نصوص قطعية في الدين، ولكن لا يجب أن يسلم عقلك بالرجل الصالح ذي المعجزات، ولا أن ترفضه بالكامل، بل هُنَاك حد من التفكير يجب أن توازنه، فالتسليم والرفض يجب أن يكونا عقليين أيضاً، إذ يجب أن يكون هُنَاك حد فاصل بين الإيمان والخرافة، وهذا في سياق فهم الدين بالمجمل ككل، العملية تتم بالاعتماد على فهم عميق للدين وغاياته ومراده من أتباعه.

الإيمان ثمرة العلم والدين، الضريبة التي تدفعها في الدين، وهي نفسها في العلم، فأنت في العلم تصدق بوجود الإلكترون لأنك قرأت عنه ولكن كم منا رآه! نحن نصدق بوجود الثقب الأسود بناءً على عمليات حسابية ونظريات ودلائل بسيطة، ومن منا رأى الانفجار العظيم! إنها الفكرة نفسها، يجب أن تدفع هذه الضريبة في العلم وفي الدين، فالعلم حقيقة والدين حقيقة، والعلم لا يتعارض مع الدين، وعلى كل منهما السير في مسار منفصل، وأنا أؤمن أنّ كلا الحقيقتين أساسية للأخرى وكلما تقدم دور العلم فإنه سيعمل على حل المزيد من الألغاز القائمة، ولكن سيبقى هُنَاك حد فاصل بينهما، وكلٌ من الدين والعلم أساسي للآخر، لأنه لا معنى في البحث عن غايات الكون إن لم تكن وجدت لسبب واضح أرادنا المصمم أن نكتشفه، أم ما هو الهدف في البحث عن غاية في أمر نتج جراء الصدفة! قطةٌ تجري واصطدمت بلوحٍ زجاج فانكسر، ما الغاية من البحث في سبب جري القطة! إنها تجري بلا غاية، أما حينما يكون من كسر الزجاج إنسانٌ عاقلٌ، فيمكننا البحث عن السبب والغاية من قيامه بهذا، فالبحث في العلم نابع من الإيمان بوجود مصمم للكون أوجده لغاية وفق قوانين دقيقة يجب اكتشافها، وإنّ وجودنا هنا لهدف أكثر من الأكل والشرب والنوم، وكذلك الإيمان لا معنى له دون أن نؤكد عليه بالعلم، ومن هذا يتضح أنه لا معنى للإيمان دون علم، ولا معنى للعلم دون إيمان.

ولكن على ما يبدو أنّ الإيمان في خلاصته قلبي أكثر منه عقلياً، فمهما حاول العقل فإنه يظل بحاجة إلى شرارة، وكل الدلائل الدينية يمكنك أن تراها أنها هراء أو أنها أمر خارق، يمكنك أن تلبس النظارة وترى من خلالها كيفما تريد، ولكن كيف لهذا الإيمان الذي يترتب عليه دخول الجنة والنعيم، أو النار والعذاب أن يكون من الله وليس من الإنسان، إذ أن تحريك القلب يجب له من محرك، والمحرك الوحيد هو الله، فإما أن يحركه وإما أن يجعله جامداً.

إذا علم المُؤمِن بهذا الأمر، فهو قد وصل إلى قمة إيمانه، فهو يعرف أنّ أفعاله كرم من الله وعليه أن يشكره حينما يمارسها، هو يعلم أنه فقط من يفكر والله من يدفعه.

ولكن كيف يحاسبني الله على أفعال أنا غير حر الإرادة فيها، على الأغلب أنها حكمة عليا أو أمر خارج حدود العقل البشري، لا يمكن أن نعرف لماذا يمنحنا الله حُريّة منقوصة وسيحاسبنا عليها، بهذه البساطة عزيزي خليل!!

أما من لم يؤمن في هذه الدنيا، فحسابه عند ربه في الآخرة، ولكن لماذا يخلق الله شخصاً غير مُؤمِن ولا يهديه؟ هذا السؤال الذي غرق فيه الجميع، ولا نعلم له إجابة، هذا يفوق حدود العقل البشري، هذا من امتيازات أسرار المصمم، لربما لتسيير الدنيا، أو ليحدث التدافع ويعمل البرنامج على أكمل وجه، لربما يرحمهم الرحمن غداً في يوم الحساب، لربما يفنيهم، له القرار ولا يُسأل عما يفعل.

بالله عليك عزيزي خليل هل من المنطقي سؤال ضخم مثل هذا يتم إنهاؤه بهذا الشكل! وما المُشكِلة! بل نحن في هذا نتفق مع الفيلسوف أوكام بأن الحقائق العظيمة في العادة بسيطة.

لله المشيئة المطلقة، فقد خلق الله الرحمة ولكنها لا تجبره أن يرحمني، نحن نريد أن نحاسب الخالق وننزله منزلة المتهم أمام عقولنا، انظر يا رب، لا يعجبني أنك لم تمنحني القدرة الكاملة في الفهم، ولا يعجبني أنك لن تخبرني بوضوح أنك سترحمني، إما أن تخبرني وتفهمّني كاملاً وإلا فإنك رب معيوب، نكتشف هنا أننا نعبد رغباتنا، ونريد إله مفصل على المقاس، أريد رباً على كيفي بمعاييري، والتي تختلف عن معاييرك، وهنا نكتشف عظمة العرب القدماء حينما كانوا يصنعون رب من العجوة، كل واحد منهم يصنع رب على هواه وعلى مقاسه، عباقرة سبقونا في التربيب.

حين تبحث عن الإيمان بالاستدلال العقلي المحض، يرد عليك الإنكار باستدلالات عقلية مضادة، ذلك لأن العقل ليس هو مناط الإيمان، وعليك ألا تنخدع في مقولة أنّ العقل مناط التكليف، لأن مناط التكليف هو شرط العمل، لا شرط الاعتقاد، والعمل نتيجة الإيمان ولا يصنعه، ولو كان الاستدلال العقلي يصنع الإيمان، لآمن كل العباقرة، لكن التاريخ يقول أنّ العباقرة مُختلفون، فمنهم المُؤمِن ومنهم الملحد، والإيمان ليس هبة العقل، حتى يأتي به الاستدلال، بل هو نعمة يرزقها الله من يشاء.

يُبيّنُ الله في القرآن أنه قال لآدم لا تأكل من شجرة ما ليست ذات نوع مميز، بل أي شجرة، يريد الله أن يضع تحريماً لآدم ليختبره، لم يجلب الله حارساً لهذه الشجرة، فقط حرمها الله وترك آدم وحينما سألت الملائكة الله عن الكائن المتمرد الذي سيخلقه، والذي سيفسد في الأرض كما رأوا، قال لهم الله إني أعلم ما لا تعلمون، كان الله يرى الصورة الأخرى في حُريّة الإنسان، صورة العقل الحر الذي يختار بين الشر والخير، بين تطبيق القانون الأخلاقي وبين الانسياق للشهوة، لذلك ذكر الله قصة إبليس مباشرة في سياق الآيات، لربط الفعل الإنساني المخير بين الخير والشر، وأما الخير فكان حينما علّم الله آدم الأسماء كلها، ثم قال لآدم، عرفهم بأسمائهم، أرهم بقدراتك المعرفية والعقلية الهائلة التي لم تفطن لها الملائكة، هو ذا الإنسان.

إنّ مفهوم الإيمان أوسع وأعم من الاعتقاد بوجود إله بصفات مُحددة، هو شعور قلبي أكثر من كونه مصطلحات تُردد، هو الشعور الدائم بأن الله يراك، فتخشاه، هو أن تعرف وجود الله دون أن تستطيع تعريفه بدقة، هو إحساس رقيق يتبعه مراقبة النفس، وحبها لكل خير، وكرهها لكل شر.

المعلم الأقدم: لا يمكنك شق عُباب النهر وأنت تسير عكس تيّاره، عليك اتباع تيّاره لتعزز قوته قوتك.

دكتور سترينج: أأسيطر عليه باستسلامي إليه؟ هذا ليس منطقياً.

المعلم الأقدم: ليس بالضرورة، لا يتحتم أن يكون كل شيء منطقياً.

المعلم الأقدم: مقدار ذكائك أوصلك إلى أقصى مرتبة بحياتك، لكنه لن يوصلك إلى أبعد من هذا، استسلم، ألجم غرورك، وستبزغ قوتك.

النار وعذابها

العذاب

إذا قضيت في حياتي 60 عاماً، سيكون ثلثهم نوماً، وثلثهم عملاً، والثلث الآخر استحماماً وطعاماً ومواعيد ومتع حياة، ولنفترض أنّ مجموع الساعات التي عصيت الله بها من عمري هو 10 سنوات بالمتوسط، فهل يعقل لأني عصيت الله 10 سنوات فقط، أن يدخلني النار خالداً مخلداً فيها للأبد! وما هو الجرم الذي ارتكبته بهذه الشناعة لأعذب كل هذا التعذيب القاسي! وغيرها من الأسئلة المهمة، سنراها في هذا الشأن.

يتهاون كثير من المُسلمين في موضوع عذاب الأقوام الأخرى وذلك لمُجرَّد أنهم ولدوا مُسلمين، ويقولون لمَ لا يتعذبون خالدين في النار بكل بساطة، مع أنه من المؤكد أنّ الله لم يخلقنا لكي يعذبنا، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأنّ نتاج ثمرة الجهد في الدنيا وإن كان ناقصاً سنراه في الآخرة، ويُجيب بعض المتدينين عن سؤال المخلدين في النار حينما يسألون الله عن سبب تخليدهم في النار: لأنكم كنتم أشراراً منذ الأزل وستبقون كذلك، ويكمل بعدها شرب الماء وكأن شيئاً لم يكن.

هل يا رب أنا اخترت روحي وذاتي هكذا شريرة؟ هل لو كان اختياري لذاتي لرغبت أن أكون هكذا؟ أنت يا رب من خلقتني وأنت أدرى بي، ولو كان الأمر بيدي لاخترت أن أكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودون أي تعب في حياته أيضاً، كذلك يا رب أنا لم أرَ نفسي إلا في هذه الدنيا، لا اخترت نفسي أن أخلق، ولم أختر لنفسي أن تتعذب إلى الأبد، يا رب كيف تعذبني عذاباً أزلياً على أمر أنا أجبرت عليه، أرجوك يا رب، عذبني على قدر سنين عمري ثم اجعلني نسياً منسياً، فأنا عبدك العاصي الضعيف، لماذا أُخلد في العذاب وأنا كلي طوع يديك يا رب. هذه تساؤلات كل إنسان ضعيف يخشى عذاب النار الأليم.

صحيح أنه لا معنى للحياة دون وجود هذه النار وإلا كيف سيأخذ الظلمة والقتلة والمرتزقة والمغتصبون جزاءهم، هتلر وشارون وغيرهم من الأوغاد الذين أوغلوا في دماء الأبرياء دون وجه حق، لأنهم اعتبروا أنهم أعلى من البشر وأنه يحق لهم ذلك، هل من المعقول أن يفارقوا الحياة دون أن يتم محاكمتهم وتعذيبهم! لا يُريحني هذا، بل يُريحني أن يكون هُنَاك عذاب لهؤلاء الأوغاد، ويُريحني الاعتقاد بأن بعض الجرائم تستحق عقاباً أعلى درجة مما تبدو عليه الجريمة، وصحيح أنّ بعض الجرائم لا تتطلب القدر نفسه من العقوبة بالمثل، فشخص ضرب شخصاً في غرفة مغلقة، عقابه يختلف عن شخص ضرب شخصاً أمام حشد ليهينه بعد أن شتمه، في الحالة الأولى من العدل أن يرد له الصاع صاعين، لكن في الحالة الثانية لا تكفي عشرات المرات من رد الصاع بالصاع، وهذا ما يجب أن يحدث لبعض الجرائم، رد الصاع بمئة.

ولكن، ماذا عن شخص عمره 15 عام صغير السن مات في الحرب ضد المُسلمين لأن عشيرته أو القوانين شجعته فقط على الخروج دون وعي؟ هل غلطة واحدة كهذه كافية أن يخلد في النار، ألا يوجد تجربة أخرى، ألا يستحق هذا الشخص منا أن نفكر أنّ مصيره قد لا يكون النار، قبل أي شيء، فقط لنفكر أنّ الله قد يحاسبه حساباً غير حساب هتلر.

ولكن، ماذا عن شخص عاش في غابات الأمازون السحيقة في قرية منعزلة لا يملك حتى لُغة حديث مناسبة، كل ما يعرفه في حياته هو الصيد والالتقاط، لم يصله من يبلغه الرسالة الأخيرة، ومات على فعل الخير وعدم إيذاء من حوله رغم أنه عبد النمر كإله، هل بتفكيرنا البسيط هذا الشخص يمكن أن نصنفه ككافر في النار؟ كيف لهذا الشخص الذي لم تصله أي رسالة في هذه الغابات ولا يعرف بوجود عالم خارجها أن يدخل النار!

ولنرَ صورة أخرى لقد أتى لهذا الأمازوني شخص يبلغه الرسالة من الجزائر يتكلم العربية، ولكن الأمازوني لم يفهم منه شيئاً، هل يُعد هكذا قد وصلته الرسالة! قطعاً لا، لم تصله الرسالة وبذلك تسقط عنه حجة أنه تم تبليغه.

ولكن، ماذا لو نُقلت إليه الرسالة بطريقة خطأ، ففهمه أحد المُسلمين المتشددين أنّ الدين كله قتل، ومن ثم لم يسلم، هل هكذا تكون الرسالة قد وصلته! من المعلوم أنّ الكافر هو من وصلته الرسالة واضحة وصريحة عدة مرات وليست مرة واحدة وأنكرها لمصلحة دنيوية.

ماذا عن بروفيسور في الفلسفة المادية، ذهب ليبلغه رسالة الله رجل أشعث أغبر ليته يستطيع تهجئة اسمه، هل نكون قد أقمنا الحجة على البروفسور بتبليغ رسالة الله؟

صورة أخرى، هُنَاك شخص بدأ بالبحث في الأديان ليهتدي إلى الله، وقرأ الهندوسية والبوذية والمسيحية وأثناء قراءته للكنفوشوسية توفّاه الله قبل أن يصل إلى الإسلام، فهل هذا يُعد كافراً، إنه في طريقه للبحث لكن لم يسعفه الوقت!

ماذا عن شخص قرأ في الدين الإسلامي أثناء رحلة بحثه، ولكنه قرأ كتاباً قام بتأليفه شخصٌ متطرف، فوجد أنّ الإسلام لا يناسبه ومضى عنه، ما المطلوب منه أن يصنع أكثر من قراءة كتاب، هل من المفترض أن يُصبح عالم لاهوتي في كل دين يقرؤه! مع العلم أنّ أبسط دين بحاجة إلى 10 سنوات من تعلم اللُغة وقراءة كتبه لكي نتعرف عليه قليلاً، ولا أجمل من هذا الحوار الذي دار بين مُسلم وصديقه البوذي لتوضيح الفكرة إذ قال:

– إن لم تعتنق البوذية فأنت في النار!

– وماذا إن كنتُ قد ولدتُ في اليمن ولم أسمع بالبوذية؟

– وكيف يمكن ألا تسمع عنها، هل أنت جاهل؟

– حسناً، حتى لو سمعت عنها، هُنَاك ثلاث آلاف طائفة دينية في العالم كما تعلم، فكيف يمكن أن أقرأ عنها كلها وأتعرف عليها واحدةً واحدة لأقارن بينها وأصل إلى اختيار الدين الحق منها!

– لابد أن تبلغك الرسالة بشكلٍ أو بآخر فقد أصبح العالم قريةً صغيرة ولابد أن يَمُنّ الله عليك بالتعرف على بعض البوذيين ليهدوك إلى طريق الصواب.

– وماذا إن كنت لم أرَ من البوذيين إلا التكفير والإرهاب والعمليات الانتحارية في بلادي! كيف يمكن أن أقتنع أنّ هذا الدين الحق؟

– عليك أن تقرأ وتبحث عن البوذية الحقيقية وهي تؤخذ من كتابنا وليس من أفعال “المٌتبوذيّن”.

– إذن، يجب أن أتعلم اللُغة السنسكريتية لأفهم البوذية الحق بعيداً عن تحريف الناس ودعايات “البوذوفوبيا”.

– نعم، رائع!

– وأنت، ربما عليك أيضاً أن تبحث في جميع عقائد أهل الأرض وتقارن بينها قبل أن تجزم بأن دينك هو وحده دين الحق!

– لا، لقد أكرمني الله أن وُلدت على البوذية وهو دين الحق، ونحن البوذيون وحدنا الفرقة الناجية يوم القيامة والباقون كلهم في النار.

– “معترضاً” هل إلهك الرحيم والحكيم الذي تؤمن به سوف يدخلك و٤٠٠ مليون شخص آخرون الجنة لأنكم وُلدتم على البوذية فقط بينما أنا يجب أن أدرس عشرات اللغات وأطلع على مئات المذاهب وأكون ذكياً وفاهماً وواعياً ومحظوظاً بما فيه الكفاية لاختيار البوذية من بينها!

– “غاضباً” وهل من اعتراضٍ على مشيئة بوذا؟

– لا لا، أشهد أني آمنتُ ببوذا والكارما والنيرڤانا والحقائق النبيلة الأربعة والجواهر الثلاث! هل أدخل الجنة الآن؟

– نعم، نعم، لكن، حذار حذار من مذهب الماهايانا؛ فهو مذهبٌ شيطاني دخيل على البوذية وأتباعه شرُّ طوائف الأرض!

– شكراً لأنك هديتني إلى الطريق القويم، جعله بوذا في ميزان حسناتك!

ألا تستحق منا هذه المواقف وغيرها وِقفة جادة في قضية دخول الناس النار، ألا تستحق أن نعتقد أنّ دخول النار ليس كما نراه من الزاوية الضيقة التي ننظر منها، إنه موضوعٌ صعبٌ، لذلك فإن إطلاق الأحكام بسهولة غير مناسب فيه!

كتب الشيح محمود شلتوت كلاماً جميلاً في هذا الشأن، تحت عنوان: الحد الفاصل بين الإسلام والكفر في كتاب الإسلام عقيدة وشريعة، فقال: “إنّ من لم يؤمن بعقائد الإسلام وأصوله، لا يعد كافراً إلا إذا أنكر تلك العقائد، بعد أن بلغته على وجهها الصحيح، واقتنع بها بينه وبين نفسه، ولكنه أبى أن يعتنقها ويؤمن بها عناداً واستكباراً، فإن لم تبلغه تلك العقائد أو بلغته بصورة مفترة، أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر، أو كان من أهل النظر ولم يوفق إليها، وظل ينظر ويفكر طلباً للحق حتى أدركه الموت أثناء نظره فإنه لا يكون كافراً”

ولكن، ماذا عن المجرمين، المجرمين العاديين، فقد قال لي صديقي إنّ هذا إنسانٌ مجرم ويستحق ما سيناله من عقاب في الدنيا والآخرة، وأن الأمر في جيناته ولا فكاك منه، قلت له وماذا لو جلبنا هذا المجرم الذي نشأ في وسط سيء وشجعه أهله وأصدقاؤه على السرقة، ووضعناه في بيئة أخرى، في دولة أخرى، ومنحناه التعليم المناسب والوظيفة المناسبة، هل كان سيسرق؟

هل لو كان هُنَاك توأمان وضعنا أحدهما في بلاد حروب وويلات، والآخر في السويد، هل سيكونان بنفس الطباع والأخلاق والصفات وهما توأمان متطابقان؟

عزيزي يجب أن نحزن على المجرمين في بلادنا ونتعاطف معهم لأنهم نتاج بيئة مريضة، لم تُتَح لهم الفرصة الحقيقية ليبدعوا ويكونوا شيئاً ما، يجب علينا ألا نشتمهم لا يجب أن نجد مخارج لهم، أنا وأنت نفذنا من سوء البيئة ولربما نكون في يوم ما مكانه، ودورنا أن نناضل لتحسين الوضع حتى لا يمسي أحد من المجرمين في بلادنا كما في بعض المدن التي أغلقت السجون لعدم وجود مجرمين!

تؤخذ هذه النقاط في عين الاعتبار في القضاء فالاسترحام والتخفيف من الحكم، والله تعالى أعلى وأعدل غداً يوم الحساب، فلا تكن جلاداً يا صديقي لأنه لو كانت جيناته هي السبب، فكيف سيحاسبه الله على شيء وضعه فيه رغماً عنه؟

وماذا لو كنتُ شخصاً مريضاً هرمونياً، بطفولة بائسة وعقدة عقلية، وقمتُ بقتل شخص ما في لحظة هرمونات زائدة، في لحظة هوس ما، أرجو ألا يكون حسابي عندكم كأي قاتل آخر، لذلك لا أتوقع أن يكون حسابي عندك مثل حساب الناس، أنا مريض وهُنَاك أوراق وفحوصات تُثبِت ادعائي، الصورة لديك مُختلفة، وأنا أفعل أفعال دون وعي، وأنا أعاني لأن الله خلقني مريضاً، أرجوك أن تتفهم أنّ فعلتي المشينة ناتجة عن مُشكِلة عضوية، ولا أستحق العذاب للأبد بسبب غلطة واحدة في لحظة ما بسبب خلق الله لي بهذا الشكل!

صور كثيرة متنوعة تستوجب منا أن نعيد النظر في دفعنا لتخليد الناس في النار على كل كبيرة وصغيرة، إذ أن هناك صور شتى متنوعة لكل منها حكم خاص، والله الحكم العدل، وقد تكون النار مخلوقة للتخويف أكثر منها للتعذيب نفسه، ويقول الله في كتابه )ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ( وهذا كما أقول لابني، إذا لم تدرس ولم تنجح هذا الفصل أو إذا اعتديت على أختك فسوف أعاقبك بشدة، وفي كل الأحوال لن أعاقب ابني بشدة بالطبع ولكن التخويف أسلوب ينجح مع بعض البشر، ويصبح هنا كثير من فقرات الدين يمكننا فهمها مجازاً كآيات العقاب وأحاديث التغليظ في العقوبة على أنها حث على العمل الصالح ومحاولة للردع أكثر منها للحقيقة.

ويجب أن نسأل الآن، ما دام الهدف منها التخويف، فما الهدف من التعذيب بالنار؟

والإجابة كلها استنتاجات، وقد لا تكون صحيحة، ولكنها الأقرب إلى فهم العقل البشري لرحمة الله ولمفهوم الدين والآيات، النار هدفها تنقية الناس وإرسالهم بعدها إلى الجنة، فمثلاً إنسانٌ قلبه في هذه الدنيا مليء بالأمراض، يجب أن يتم تنقيته وبالطريقة القاسية، حتى يفهم قدره، ويذهب إلى الجنة جديداً وجاهزاً، وفي هذا السياق، هُنَاك اثنان من البشر وجب عليهم العذاب وهم:

1- من عذّب الناس في الدنيا.

2- من كره الناس وكان قلبه مليئاً بالأحقاد.

ولكن، هل النار خالدة؟ إنّ مسألة فناء النار أو خلودها من المسائل الشائكة بين علماء المُسلمين، واختلف عليها العُلماء، وأهل السنة في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب:

  1. من قال بأبدية النار أبدية مطلقاً.
  2. من قال بفنائها بعد حقب طويلة.
  3. من علّق ذلك على مشيئة الله تعالى.

وممن ذهب إلى فناء النار سيدنا عمر بن الخطاب وابن تيمية وابن قيم الجوزية، لأن كون عذاب جهنم أبدياً سرمدياً لا انقطاع له يتنافى مع رحمه الله التي هي صفة من صفاته تعالى، وفي موضع آخر يقول المولى عز وجل: )لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً( أي أنّ البقاء في النار مدة من الزمن (الحقبة قرابة 80 عام) وتنتهي هذه الحقب في النهاية، وآية من الآيات التي تبين أنّ النار قائمة بما شاء الله هي قوله تعالى )خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاواتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ أن رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(، ومع التعليق على المشيئة المبهمة لا يبقى للجزم بوقوع الأبدية مستساغ، ثم هُنَاك احتمال وهو أن يفني الله تعالى النار مع إفناء أهلها، واحتمال بأن يفني النار ولم يفنَ أهلها والأدلة من القرآن كثيرة، وكله بقدر الله ومشيئته سبحانه وتعالى، وكل ما نقوم به من محاولات تفكير لا تنفع ولا تضر.

ومن هذه الأدلة أنّ العرب في لغتهم يستخدمون كلمة خالد للإشارة إلى المدة الطويلة، وكان العرب يطلقون على الرجل الشاب أنه من المخلدين من الرجال، وحجارة الطبخ تسمى الخوالد، ونرى هذا المعنى واضحاً في لأخلدنك في السجن أي سأبقيك لمدة طويلة ونرى أنّ سيدنا يوسف خرج من السجن ولم يبقى للأبد بعكس المعنى المعتاد للخلود، والمزيد في )يحسب أنّ ماله أخلده(، )ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه(، بل وكلمة أبداً تعني المدة المُحددة وليس الأبد، فنقرأ في القرآن )قَالَ مَا أَظُنُّ أن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً(، )فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً(، )وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا(، )وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا(، فهذا يحيلنا إلى أنّ العذاب إما قصير أو طويل، والطويل هنا يطلق عليه القرآن لفظة مخلدين، كل هذا يا عبادي للتخويف، )ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ( لا تستهتروا فقط، أنا من أنصار أنّ الكلمة تأخذ معناها من سياق الجملة، ولا يجب الربط بين كلمة الخلد في مواضع مختلفة، ولكنها تبقى أمنيات بأن تكون النار غير خالدة.


الطاوية ديانة صينية تُرجع الأمور إلى الطبيعة بعيداً عن الحضارة والمدنية، وهي تعود إلى مؤسسها المسمى لوتس، الذي وضع كتاب القوة الذي يحتوي على مبادئها، يؤمنون بالإله طاو السابق للكون، والمنتمي إليه لاحقاً، كما ويؤمنون بوحدة الوجود، وعلى الشخص الطاوي أن يتجرد من الماديات، ليصل إلى الدرجة الروحية المطلوبة.

لو أحضرنا لك أكثر إنسان كرهته في الكون وترغب بالانتقام منه، نفترض أنه قام بقتل أمك وأبيك وأخواتك وأبنائك أمامك دون رحمة، وقلنا لك تفضل عذّبه، قمت أنت بذبحه، ومن ثم أعدنا لك الرجل إلى الحياة من جديد لكي تعذبه مرة أخرى، فقمت بحرقه ومات، ثم قطعته ومات، وبعدها صعقته ومات، وبعدها أطلقت عليه النار، وبعدها قمت بفرمه، ورأيت في كل مرة صراخه وشدة عذابه وأشفيت غليلك، بعد 4 أو 10 مرات، هل ستحتمل تعذيبه أكثر من ذلك، ألا تشعر أنه أخذ عقابه؟ فما هو الداعي أن يتعذب للأبد ما دمت قد اكتفيت من هذه المرات ورغبتك انتهت منه، فأقبح الجرائم لن تأخذ منك أكثر من 10 مرات قتل.

صورة 39 مفهوم الين واليانغ في الثقافة الصينية يعبر عن الازدواجية أو الثنائية في هذا الكون.

في اللحظة نفسها سيقول لك هذا الشخص المعذَّب، لقد أطلقت النار على أخيك وقتلته، فقمت أنت بإطلاق النار عليّ مرة، وقطعتني مرة، وصعقتني مرة وغيرها، فهل من العدل أن أقتل أخوك مرة وأنت تقتلني 10 مرات.

هل من العدل أنّ جرمي قتل شخص مرة، يكون عقابي قتلي مرة أو تجاوزاً قتلي 10 أضعاف، ولكن ليس من العدل أبقى أموت رمياً بالرصاص، لقد أخطأت خطاً كبيراً مرة، وأستحق العقاب لكن ليس للأبد، وكلنا نخطئ يا أخي.

أنت حينما حاسبتني أخبرتني أنّ جرمي في قتل أخيك، وأنك قد أتيت لتوقع بي العقاب المناسب، لقد وزنت بنفسك جرمي حتى تحاسبني على قدره، وأمّا لو كنت تريد أن تعذبني للأبد، لما قست بالميزان مقدار جريمتي، بل لأطلقت الحكم دون ميزان، صفعة مقابل صفعة، عين مقابل عين، نضاعف القصاص مرتين، مرة للعين ومرة للعربدة، هذا هو مقياس الحسنات والسيئات الدقيق، وإلا إذا كان العذاب للأبد، فما الداعي للميزان الدقيق! أرجوك أنا قبلت هذا العذاب لأني فهمت أنّ الموضوع تحقيق عدالة، وليس مُجرَّد تشفٍّ.

ولكن، لماذا لا يريد البعض هذه المحاولة في الاطمئنان؟ لأنهم يعتقدون أنهم قد ضمنوا الجنة، فلماذا أقاتل في قضية أنا ربحتها مسبقاً، وهذا إما أنانية فلا نحب الخير لغيرنا أو جهل فلا يوجد من ضَمِن عمله، أيضاً الإيمان مستويات، وكذلك الإلحاد، ومن غير الممكن أن يبلغ الإنسان أقصى درجات الإيمان بعقله الناقص، وكذلك من غير الممكن أن يبلغ الإنسان أقصى درجات الإلحاد بقلبه النابض، لا لحظة نقول فيها، هذا ملحد خالص يستحق النار أو العكس.

الحسنات

هُنَاك سيدة كبيرة في السن لديها مجموعة من الأبناء، يقومون على خدمتها، وهم على الحالات التالية:

  1. أحدهم يقوم بخدمتها لأنها تغدق عليه بالمال دائماً، أي أنه يخدمها طمعاً في خيرها.
  2. وآخر يقوم بخدمتها خوفاً من كلام الناس، وخوفاً من غضب باقي إخوته عليه، أي أنه يخدمها خوفاً من العذاب لا أكثر.
  3. وثالث يقوم بخدمتها حباً ولأنها أمه فيجب عليه أن يخدمها وليس لأي سبب آخر.

وحتى الذين يخدمونها دون سبب بل لأنها أمهم، هُنَاك نوعان منهم.

  1. النوع الأول: يخدمها دون سبب لأنه وجد المجتمع يفعل هذا فتعلم منهم وفعل.
  2. النوع الثاني: يخدمها لأنه بحث فيما قدمته أمه، ووجد أنها حقاً تستحق مقابل على ما بذلته، وأنّ ما يقدمه لها لا يساوي شيئاً حقيقياً مقابل جهدها، وهي أم تستحق كل التقدير والمحبة، وهو يفعل هذا الأمر عن قناعة.

ولله المثل الأعلى، أي ابن أنت؟

لذلك لا تأجرني يا رب، لا أريد حسنات معدودة.

ولكل عمل عملته في نفسي ولم يطَّلع عليه أحد، فعلته في السر ولم يُقدّره غيري، كنت أريدك يا ربي أن تراه، أنت فقط ولا أحد سواك.

أسألك يا ربي ألا تأجرني على عمل قط.

يا رب لا تسجل حسناتي، لا تزرع لي نخلة كلما أسبحك، لا تكتب ياقوتة كلما أضغط على نفسي لفعل الصواب.

يا رب، لا أطمع في أجرك، بل أسعى لكرمك.

أكرمني فلا أريد نخلات أو مجوهرات، أكرمني لأني أبحث عن رضاك.

أعطني مقابل الحب، ولا تعطني مقابل العمل.

إني دائم التقصير في عملي رغم سعيي المتواصل، لكن قلبي معلق بك، يسعى لرضاك، فلا تخذلني، وكن عند حسن ظني.

لذلك يرى كانط أنّ الضمير الأخلاقي لا يبرر ما يفعله لأي غاية، فمن يساعد الفقير لا يجب عليه أن يبرر فعلته، أو أن يقول يجب أن أساعده ليساعدني غداً شخص آخر لو أفلست، أو لأنه أمر مهم أمام الناس، إنك تفعله لأنك تعتقد أنه الصواب ويتوافق مع فطرتك التي وضعها الله فيك، والإنسان خليط من الحالات الثلاث، فأحياناً يملك القوة لفعل الصواب لذاته، أحياناً خوفاً من العقاب، وأحيان أخرى طمعاً في الثواب، وقد تتبدل المواقف والحالات، لكن الحالات فوق كلها دوافع لفعل الصواب.

أنا حر، أنا إنسان


في مجتمع مُتطرف، كلما تطرفت أكثر، أمسيت طبيعياً فيه، وكلما فكرت وتعقلت أصبحت غريباً فيه، وقال لي رغم أنّ هذه المرأة غير محجبة ومنفتحة إلا أنه يا للخسارة زوجها متدين وجبان لا يستطيع إجبارها على لبس الحجاب، قلت له وهل له في الدين أن يغصبها على لبس الحجاب أو حتى الصلاة وما ودليل ذلك، ماذا عن عشر آيات من القرآن تحث على حُريّة المعتقد والإيمان؟ ولا يجوز إجبار أحد على العبادة، مثل )لا إكراه في الدين(، )أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مُؤمِنين(، )لست عليهم بمسيطر( وغيرها من الآيات، ولو شاء ربك لخلق كل الناس مُؤمِنين يصلّون كما يشاء، ولكنه خلق العقل وترك له حُريّة الاختيار، اختار شخص على سبيل المثال الذهاب إلى النار، جل ما يمكنك فعله هو نصيحته، هو اختار الطريق هذا، ما دام لا يؤذيك فلا شأن لك به، وما للزوج إلا النصيحة والكلمة الحسنة، أما الإجبار في الدين فليس من الدين وليس من المنطق، لأنك ستخلق مجتمع منافق يتعبد لأجلك لا لأجل الله، وماذا لو تزوج مسيحية؟ هل له أن يغصبها على الصلاة مثلاً؟ بالمنطق لا.

ويمكن القول أنّ أهل القِبلة كلهم مُؤمِنون، لا يمكن تكفير أي شخص منهم مهما قلل من فرائض الدين أو زاد، ما دام لم يعتدِ على غيره، وما يؤكد هذا أيضاً أحاديث كثيرة أذكر منها لا الحصر، عن أبى ذر الغفاري رضى الله عنه أنه قال: “أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبٌ أبيضُ، وهو نائمٌ، ثم أتيْتُه وقد استيقَظَ، فقال: ما مِن عبدٍ قال: لا إلهَ إلا اللهُ، ثم ماتَ على ذلك إلا دخَلَ الجنةَ. قلتُ: وإن زنى وإن سَرَقَ؟ قال: وإن زنى وإن سَرَقَ. قلتُ: وإن زنى وإن سَرَقَ؟ قال: وإن زنى وإن سَرَقَ. قلتُ: وإن زنى وإن سَرَقَ؟ قال: وإن زنى وإن سَرَقَ على رَغْمِ أنفِ أبي ذرٍّ. وكان أبو ذرٍّ إذا حدَّثَ بهذا قال: وإن رَغِمَ أنفُ أبي ذرٍّ”.

ويَصِف الشيخ محمد الغزالي (غير الغزالي الفيلسوف الذي سبق ذكره) من يُسارع بالتكفير بالجهل التام في هذا الدين، ويقول الإمام محمد عبده، لو صدر من رجل كلام يحتمل 100 وجه كفر ووجه واحد فقط إيمان فسنعتمد الإيمان، وقد كان أيام الرسول أشخاص يكفرون ليلاً ويؤمنون نهاراً لم يقتلهم الرسول والصحابة من بعده، لكنهم عندما سرقوا ونكلوا وقطعوا الأشجار تم إقامة الحد عليهم، وإذا أراد شخص اختيار طريق الإلحاد فهو حر، لكن بالقياس، إذا أراد نشر الشرور من جنس وخمور ومجون وتحرش واغتصاب في المجتمع فهذا ممنوع، شأنه شأن المُسلم بالضبط إن أراد ذلك.

ولا شك أنّ تكفير الناس جملة من أكبر الكبائر، كما هو تكفير الأفراد الذين لم يثبت كفرهم، فعلى الأغلب هم دخلوا الإيمان بيقين حين نطقوا بشهادة أو ولدوا من أبوين مُسلمين وما ثبت بيقين، يجب أن يزول بيقين ينفيه، ومن الخطأ اشتراط الحكم بإيمان من قالها أن يكون قد فهم معناها، على الوجه الحزبي أو الخاص بجماعة إسلامية معينة، فلقد آمن الناس في بلاد الله غير الناطقة بالعربية، دون أن يُقال لهم: يجب أن تخلعوا الحكام الذين لا يشبهونكم، وتُكَفّروا من لم يعلم ما علمتم من كتاب أبو الأعلى المودودي المصطلحات الأربعة، الذي لم يكن موجوداً في بلاد السند والهند والتتر والملايو وأندونيسيا وأفريقيا السوداء قبل قرون بعيدة [147]، وقد أجمع المُسلمون، على أنّ من نطق بالشهادة ثم مات قبل أن يصلي ركعة مات مُسلماً، فكيف يدخل في قلوبكم هذا التطرف في التكفير لأن دين الله يقول )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ(، وفي كل الأحوال ما دام الإيمان والكفر اختيار فردي حر، فأولى بأولى الاختيار داخل ذات الدين أكثر حُريّة! وماذا سنفعل أيضاً في كل هذه الآيات! 200 آية في القرآن الكريم عن حُريّة العقيدة والمعتقد قد جمعهم الشيخ محمد الغزالي.

  1. )وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(.
  2. )لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً(.
  3. )وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا(.
  4. )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً(.
  5. )وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى(.
  6. )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنينَ(.
  7. )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُختلفينَ(.
  8. )وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً(.
  9. )إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ(.
  10. )لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ(.
  11. )وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ(.
  12. )وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(.
  13. )لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(.
  14. )فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(.
  15. )فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً(.

وغيرها من الآيات في القرآن الكريم، ويبقى السؤال هنا، متى طبَّق المُسلمون هذه الآيات بعد عهد الخلفاء الراشدين؟ للأسف نحن أتباع التشدد ولا ندري! وأما اليوم فقد فشلنا في المواءمة بين التطور العصري وأحكام الدين وهذا ما نتج عنه التحريم السريع، أو التشديد في الحكم، وإطلاق أحكام التكفير، فما أسهل أن نقول لأي شيء حرام، والحلال هو رخصة من ثقة يعطينا إياها فنتبعها.


كلما نظرت إلى كوكب بلوتو، تيقنت أن هُنَاك مكان يجب أن تتحقق فيه كل أمنياتي ورغباتي، فأنا لا أكاد أطيق اللحظة التي تطأ قدمي فيها هذا الجمال، ولكنها متعذرة في هذه الحياة، شأنها شأن لقاء والداي من جديد، ورؤية أبطال التاريخ والزواج بمونيكا وسكارليت وقائمة طويلة من الجميلات، حتماً سيكون هُنَاك مكان يصبرني لتلبية كل الرغبات، تحقيق الخيال، فما يتخيله الإنسان كما عرفنا موجود، وإن لم يوجد هنا، فسيوجد هُنَاك، وإذا وجدت في نفسي رغبة لا يرضيها شيء في هذا العالم، فأقرب تفسير لذلك أنني خلقت لعالم آخر.

تقبل الآخرين

دائماً ما نجد من يخرج بأفكار تخالف من حوله، ولربما تخالف كل معتقدات الناس مُختلفة عن المتعارف عليه، مثلاً شخص مُسلم أنكر وجود شخص في زماننا يشفي المرضى بلمسة منه، أو أنكر وجود شخص يعلم الغيب، أو رفض فكرة مجتمعية مثل التقرب إلى الله بالقبور، أو الدعاء بأسماء آل البيت (عائلة رسول الله)، وهذا الشخص من غير المرجح أن يكون قد غير تفكيره في يوم وليلة، بل إنّ التغيير دائماً ما يكون نتيجة أفكار وشكوك وتقليبات وترجيحات تراكمية، أدت إلى تبلور الفكرة الجديدة، للأسف يصبح هذا الشخص منبوذاً في المجتمع، ولربما قد يُكفروه الناس، ولكن هل هذا هو التصرف الصحيح في الدين؟ إذ

صورة 41 صورة كوكب بلوتو.

أن الأفكار لا تستأذن، تزرع نفسها ثم تنمو فتثمر.

إن الاعتدال تجاه اجتهادات المخالفين وأفكارهم أمر مهم في الدين، ما داموا يقدمون بين يديها الحُجَّةَ والدليل، وكل المذاهب الإسلامية يمكنك أن تأخذ منها وترد عليها، ولا يستطيع مذهب ما أن يزعم أنه يمتلك كل الحقيقة، لأنها موزعة بين الجميع، والتعصُب شكل من أشكال الجهل، لأن العقول متفاوتة، وما اطمأَنَّ إليه عقلُك قد يرفضه عقلُ غيرك، وقد زفَّ اللهُ البشرى لصنفٍ من عباده وصفهم بقوله )يستمعون القول فيتبعون أحسنه(، وأثنى عليهم بقوله: )أولئك الذين هداهمُ اللهُ وأولئك هُمْ أولو الألبابِ(، والمتعصب لا يعرف الحسن من الأحسن لأنه لا يرى إلا نفسه، وقد قيل: أقرأ للجميع، وآخذ أحسن ما لديهم، لقد أعجبتني أدلة ابن رشد على وجود الله أكثر من أدلة الغزالي مع أني أكثر ميلاً للأخير، وانتفعتُ بفقه ابن حزم ورأيته في كثير من المسائل يتقدم على المذاهب الأربعة، وكُتُبُ ابن عربي تُجاور كُتُبَ ابن تيمية في مكتبتي، وفي كلٍ خير، ومن كلٍ أفدنا علماً وحكمة [180].

أما الأدلة الدينية فهي كثيرة وآيات القرآن توضح حُريّة المعتقد وحُريّة التفكير، وحتى في الخروج خارج الدين، ونذكر بعضها مرة أخرى ولا الحصر، )فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(، )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مُؤمِنين(، )لا إكراه في الدين(، )لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(، بل على العكس تماماً، كل آيات القرآن تدعو للتفكير والتأمل وتقليب الأمور والتدقيق فيها، وعدم قٌبولها مثلما هي، وخصوصاً آيات الله في هذا الكون، لا الحصر أيضاً )وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أن يَذَّكَّرَ أو أَرَادَ شُكُوراً”، “وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ”، “لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ”، “أَفَلَا يَنْظُرُونَ إلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ”، “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا”، “أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ”، “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(.

لا توجد آية في القرآن تدعو الإنسان لعدم التفكّر والتدبّر في خلق الله، في هذا الكون، وفي الإنسان وفي كل شيء حولنا، وفي تقليب الأمور وعدم التسليم لأي شيء بالمطلق، قد يقول القائل حسناً ثمة أمور لا يجب التفكير فيها مثل الغيبيات وذات الله، صحيح، لكن الله لم يمنعها لمنع التفكير، بل لأن الله يعلم أنّ العقل قاصر، ولن يستطيع إدراك هذه الأمور، وجميعنا نتفق على عدم التفكير في الغيبيات فهي لا تقدم ولا تؤخر كثيراً، كيف شكّل العرش وكيف استوى الله على العرش، إنها ليست مهمة في حياة المُسلم، ولو أراد الله لأخبر عنها.

هل يجب علينا توبيخ وتهديد من يغيّر تفكيره؟ هل طلب الله منا أن نجعل الناس يعبدونه عن خوف؟ إنّ الله لا يطلب منا إجبار الناس على عبادته، أو جعل الناس يعبدونه خوفاً من عقاب الناس، شخص لم تصله حقيقة الدين، ما الفائدة من جعله يدّعي أنه مُسلم وهو ليس كذلك، قال الله تعالى )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً(.

وفي حوار مع شخص خرج من الإسلام، قال لقد رضعنا كلام التعصب والتكفير وغيره رضاعة من القرآن والسنة الذين يزخران بذلك، ومثال ذلك: )ومن يتخذ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه(، )لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إن اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ(، )لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة(، )مَثَل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالهمْ كَرَمَادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيح(.

وبرر بأنّ الفكرة موجودة في القرآن وفي السنة وفي أقوال الفقهاء ومع تطور الوعي وزيادة الثقافة والتوسع في مخالطة الحضارات وملاحظة أنّ من لا يؤمنون بالله يقبلون من يؤمنون به بينما العكس لا يحدث، فمنطقياً كيف يكون من لا يؤمن بالله أكثر إنسانيةً من المُسلم؟ ويستطرد قائلاً هنا نجد أنّ المُسلمين قاموا بتحميل وزر ما سبق على إحدى تلك الشماعات: الرواية (فكل ما لا يعجبهم هو ضعيف)، أو أنّ اجتهادات الفقهاء ليست صحيحة بالضرورة، أو أنّ تفسيرات القرآن خاطئة.

والجواب أن جميع الديانات تقول أنها الحق، لا أعلم من أين افترضت أنّ الدين الإسلامي وحده من يرى أنه على صواب، فالمسيحية ترى أنها على صواب وكل من حولها كافر، اليهودية كذلك، السيخ يفعلون، بل حتى الملحدين يرون أنهم الصواب والباقي هم الخطأ، بل يتهكمون على المتدينين ويهاجمونهم ليل نهار، وهذا لا يعيب الأديان، كما لا يعيب أي شيء في عالمنا، تقول لك مايكروسوفت إنّ الويندوز أفضل نظام تشغيل، وكذلك تفعل أبل، وكذلك يفعل صاحب المطعم، مع العلم أنّ الدين الإسلامي يخبرك أنه على صواب ويمكنك أن تمحصه، ولا يجب أن تدخله إلا بعد أن تبحث فيه، ويخبرك بضرورة أن تحب غير المُسلمين، انظر إلى آيات تقبل الآخرين في القرآن كما سأستعرضها بعد قليل، من الطبيعي أن يقول الإسلام أن ّغيره من ديانات غير صحيحة، هل لو قال الله، لقد أخطأ دينياً وعقائدياً الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة ستعجبك الصياغة؟ بدلاً من )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة( هذا موضع دين والدين لديه مفرداته، وإذا كنت تعاني من مُشكِلة في مصطلح مثل ثنائية الإلكترون في قراءتك لكتاب فيزياء فيجدر بك أن تستزيد أكثر قبل أن تتوغل في العلم، يقول الله أنّ الكافرين أعمالهم كرماد، ويقول الله إنّ الإسلام هو آخر الأديان، وأي دين آخر لن يقبله، فهل لو قال الله سنقبل ثلاثة أديان أخرى ستكون الصياغة منطقية وجميلة في نظرك؟ هذه هي تعاليم الدين، ولكنها لا تقول لك اكره غيرك، انظر ماذا يقول الله في قتال غير المُسلمين: )لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أن اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(.

إنّ القرآن لا يناديهم إلا بـ يا أهل الكتاب، فبينهم وبين المُسلمين علاقة وطيدة تتمثل في أصول الدين الذي بعث الله به أنبياءه جميعاً: )شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ(، ويربط الله المُسلمين بكل الديانات ربطاً قلبياً لا فكاك منه عبر رسل الله جميعاً، ولا يتحقق إيمانهم إلا بهذا: )قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسلمونَ(.

أما كيفية الحوار مع أهل الكتاب فهي )وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسلمونَ(، وقد أباح الدين أكل طعام الأمم والزواج منهم والشراء منهم ويثيبك على معاملتهم معاملة حسنة ما داموا غير محاربين.

ولكن، ماذا عن بقية الأمم غير أهل الكتاب؟ يقول الله تعالى: )لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(، بل يخبرنا الله أنّ من عمل صالحاً سيدخل الجنة مهما كان دينه وذلك في قوله: )إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(؛ ونفهمها بدلالتها المباشرة، وهي أنّ كل من آمن بالله وعمل صالحاً، بالمعنى الواسع لعمل الصالحات، سواءً قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو في زماننا هذا فهو من الناجين إن لم يشرك بالله ولم يصله الدين.

وماذا عن أعداء المُسلمين؟ لقد أمر المولى المُسلمين أن ينصفوا أعداءهم من أنفسهم وأن يقولوا الحق وألا تحملهم العداوة على ظلم الكافرين، قال تعالى: )يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(، )ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكمو)ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(، و)وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً(، وانظر إلى فرض التواضع على المُسلمين وعدم اعتقادهم أنهم الصواب )وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أو فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(، ولعلي لو أكملت ذكر الآيات لذكرت أغلب القرآن هنا، والذي ينص بوضوح كما رأينا على حُريّة المعتقد بالكامل، وهل هُنَاك نص يخبرك أنك حر في معتقدك لكنني سأكرهك! من غير المنطق، بل ما دمتَ أنت حر في معتقدك، فهذا يعني أنني سأتقبلك كما أنت.

ولكن، ماذا عن الأحاديث النبوية؟ ماذا تضيف لنا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَداً أو انْتَقَصَهُ أو كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أو أَخَذَ مِنْهُ شَيْئاً بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ“، وفي حديث آخر: “من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة وإنه ليوجد ريحها من مسيرة أربعين عاماً“.

أما مشكلتك أنك تقرأ في الأحاديث الموضوعة أو أنك قرأتها ومجّدتها فهي نفس فكرة من قرأ كتاباً خاطئاً عن الفيزياء وقدّسه ثم اكتشف لاحقاً أنّ الكتاب ليس حقيقياً، لا يجب عليه أن يلوم الفيزياء، ثم ما المانع أن يدافع المُسلمون عن التفسيرات الخاطئة؟ ويقولون لك: هذا هو كتاب الله، وهذه هي سنة نبيه، ما ذنبنا إذا قال أحد المُسلمين إنّ الله يحب الدماء، هل يجب أن نحمل وزره، وماذا عن أقوال آلاف العُلماء وهم الأغلبية فيما يتماشى مع كلام القرآن، ألا معنى له!

والحق يقال إنّ الذي لا يؤمن بالله له طريقاً ومفهوماً وأفكاراً معينة، فلا جنة ولا نار ولا إله ولا عقاب ولا حساب، فلا تجبروا المُؤمِنين على الترحم على من مات ولا يؤمن بكل هذه الأمور، هو لا يؤمن بها، فكيف نكيل التهم للمُؤمِن الذي لا يترحم عليه، هذا عالم وذلك عالم آخر منفصل، يتعايش المُؤمِن والمادي في عالم واحد تحكمه القوانين، لكن الجنة والنار والرحمة أمور خاصة بالمُؤمِنين، هم أحرار في قوانينها، لديهم جنتهم بمرسوم معين، ولديهم قوانين لدخولها ولديهم أحكام وآليات معينة، هي من نسج خيالهم، سمّها كما شئت إلا أنها أمر خاص بهم، الجنة تتبع لنادي المُؤمِنين وهم أحرار بناديهم، كما أنّ الماديين أحرار بأفكارهم التي ينسجونها، فلا تلُم مُؤمِناً لم يترحم على مادي، ولكن لُمه في حالة تمنى الهلاك له، فليحترم المُؤمِن تعاليم دينه، وليحترم إرادة المادي، وكأنني أسمع المادي يقول: احترم رأيي وقراري، وأنا لا أريدك أن تصلي لي أو تدعو لي، خليك بحالك.

أنتم تريدون من المُسلمين أن يترحموا عليكم، ولا أعلم هل أنت مُسلم أم ماذا، المسلمون يترحمون على بعضهم البعض لدخول جنتهم الخاصة، الترحم لاعتبار ديني وليس لأمر شخصي، الملحد يقول احترم رأيي ولا تترحم علي في تعاليمك، والمُسلم يحاول ذلك تحت أي ذريعة، أما أنت فتلوم المُسلم لأنه لا يترحم على غيره وتريد للملحد أن يدخل الجنة، والملحد لا يعترف بجنة ودين المسلم أساساً، إنها مفارقة لا حل لها!

خيرٌ من ألفِ كلمةٍ نافلةٍ

كلمةٌ واحدةٌ تُطَمئِنُ النفسَ.

إن ضحّى امرؤٌ، وقدَّمَ النذورَ

ألفَ مرّةٍ

واستمعَ، دقيقةً واحدةً، بخشوعٍ

إلى أحدِ العارفينَ

فإنّ هذا الخشوعَ خيرٌ من مائةِ عامٍ من الأضاحي،

إن كان على امرئٍ أن ينتصرَ في معركةٍ

ألفَ مرةٍ، على ألفِ شخصٍ،

فإنّ من انتصرَ عَلى نفسِهِ هو المنتصرُ الأكبرُ

سورة الآلاف من كتاب البوذية المقدس: الدامابادا [181]

البوذية فلسفة انتحلت الصبغة الدينية، وهي عبارة عن نظام أخلاقي وتعاليم للتعايش، قام بتأسيسها سدهارتا الملقب ببوذا رغبةً بالاتجاه إلى الزهد والتقشف والتسامح والبذل والعطاء، ويؤمن أتباع هذه الديانة أنّ بوذا هو ابن الله كما المسيحية، أيضاً يؤمن بأنّ الله حلّ في الابن عن طريق العذراء مايا، والابن يتحمل خطايا البشرية، ويؤمنون أيضاً بصعوده إلى السماء وعودته لاحقاً، كما الإسلام والمسيحية، وكتبهم المقدسة ليست وحياً، بل نصوصاً من حكمة بوذا.

هل الدين كافٍ؟

إنّ الدين نفسه يقول أنه لا يكفي لكي يعيش المجتمع بسلام وأمان، الدين الإسلامي يؤكد هذا، لأنّ الدين شأنه شأن أي ثورة اجتماعية تحاول أن تغير حياة الناس للأفضل، وهناك قاعدة فيه مشهورة “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” قالها عثمان بن عفان (صحابي) ومعناها أنّ بعض الناس يخافون من الحاكم أكثر من خوفهم من الله، أي أنّ بعض البشر سيفعلون الصواب لأنهم يخافون من القانون أكثر من محبتهم لاتباع الصواب والأخلاق، ونستطيع أن نرى أثر هذا القانون في كثير من دول أوروبا، هُنَاك مستوى معين من قلة الجرائم وسير المجتمع بسبب اتباع القانون والحث عليه وتنشئة الأطفال على ذلك، ولو اجتمع الدين والقانون فلن يكفيا كذلك، إلا إذا غيرنا البشرية بشيء جديد غير الذي أعرفها، لأن الإنسان سيبقى يخطئ وهي إحدى مزاياه، الخطأ ما يجعله إنساناً وليس روبوتاً.

نجد في بعض المدن مثلاً الأطفال والكبار يصطفون في طابور دون أن يفكر أيٌّ منهم في أخذ دور غيره، ولو قال لأحدهم هُنَاك إمكانية للتلاعب وأخذ دور قريب، فستراه ينظر إليك نظرة غريبة، وكأن ما تطلبه أمر اً ينافي الفطرة، وفي بلادنا لو أشار إليك أحدهم بهذا الخيار، لكنت من أشد السعداء بوجود هذه الثغرة، ولاعتبرتها أمراً متماشياً مع الفطرة.

تكمن الفكرة في أنه تمت برمجة عقولهم على نمط معين، وتم برمجة عقولنا وفق نمط معين، داعش تبرمج العقول على نمط معين، وبوكو حرام كذلك، والسلفية والإخوان وأي أيديولوجيا أخرى سواء كانت دينية أم لا، والمُشكِلة كما هي واضحة، من الناس من أسلم ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد اعتادوا على عادات مجتمعة واتبعوها.

على الرغم من ذلك تبقى الجريمة في المجتمعات الإسلامية أقل من غيرها حسب دراسات متنوعة، وتبقى العديد من الظواهر المقيتة غير موجودة لديهم، فظاهرة كظاهرة الكلاب البشرية human pups غير موجودة في أي بلد إسلامي، فقد انتشرت في أوروبا في الفترة الأخيرة إذ يلبس الإنسان لباس الكلب، ويبحث عن راعٍ لكي يهتم به، يسير ككلب، ويأكل ككلب ويعيش ككلب، في بريطانيا وحدها ما يزيد عن 10 آلاف كلب بشري، ولديهم حفلاتهم ومسابقاتهم وفعالياتهم.

ستصاب بالغثيان حينما تشاهدهم، وخصوصاً بعد أن ترى نمط حياتهم وأقفاصهم وذيولهم ومروضوهم وغيرها من الصور القميئة، ثم يأتي شخص ويقول، ما حاجتنا إلى الدين، أو يقول الدين سبب انتكاس البشرية، لولا الدين لكانت البشرية في رقي أكثرّ ولا أرى أي رقي أكثر من هذا، والكلاب البشرية ظاهرة مسموحة ولا ضرر على المجتمع منها، لكن تعفف المرأة ظاهرة يجب محاربتها، لأنها تضر بالنسيج الاجتماعي، وهذا غيض من فيض.

الدين يكفل لك الحُريّة، لكن بشرط ألا تنحدر إلى ما هو دون إنسانيتك، بعكس عدم وجود الدين، الذي يعطيك الحُريّة حتى في الانحدار إلى ما دون الحيوانات، الدين يرفض هذا ويمنعك بكل السبل، أنت لك قيمة وهدف، ولن نسمح لك بالهبوط دونهما.

الدم الملكي

من المسائل التي حازت على تركيز المسلمين هي مسألة الأصل، فالنسل في بعض الأحيان كان مهماً، وغالباً ذُكر في قصص العرب والصحابة أكثر مما ورد في سنة الرسول، رغم أّن الدين يقول بوضوح لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوي، والقرآن يؤكد هذا عدة مرات في آيات كثيرة مثل )ولا تزر وازرة وزر أخرى(، لكن ثمة مواضع أخرى في الدين نجد ذكر أنّ العرق هام، وأحداثاً كثيرة في السيرة جاءت احتكاماً للأصل والفصل والقبيلة وما يتعلق بها، ويستخدم البعض ما توصل إله العلم الحديث حول الجينات بأن الأصل جيني ولا فكاك منه، وآخرون ينفون أن يتم توريث الصفات إلى الأبناء.

والحقيقة أنّ الاعتماد على الجينات كان مضللاً بأنها لا دور لها، لأنه حينما ظهر علم فوق الجينات، وضّح أنّ للبيئة والمحيط والثقافة دور كبير في تفعيل جينات معينة أو تعطيلها وتوارث هذه الجينات لعدة أجيال، الحقد والكذب والغش والسرقة والدناءة وغيرها من الصفات يمكن أن تكون معززة لدى بعض البشر أكثر من غيرها بناءً على التربية والثقافة، لكن هذا لا يعني أنها تُورّث كباقي الصفات الجسدية، وكذلك لا يعني هذا أنّ الإنسان مُنساق ومُسيّر، الإنسان هو سيد قراراته وهو سيد نفسه ولو كانت لديه قابلية حتى للسوء، يستطيع أن يتغلب على أي شيء لو قرر ذلك، لكن الحديث يدور حول أنّ للأصل دور أحياناً في تثبيت بعض الصفات والتي قد تتغير بسهولة وفقاً لقرارات الإنسان لاحقاً، والظاهر أنّ التربية والمحيط لهما دور مهم لكنهما غير كافيين للحكم النهائي على الشخص.

ثمّة شواهد نفسية وفلسفية كثيرة تدعم هذا الأمر، أستشهد بمقولة نيتشه أنّ الإنسان المظلوم يبقى في قلبه عنصر الانتقام ولو بعد سنين طويلة، وهذا ما تؤكده كتب تحليل سيكولوجية الإنسان المقهور لكن هذا لا يعني ألا يكون هُنَاك ثورات وحالات مميزة، تخرج من قلب مجتمع سيء وتكون مثالية.

كانت العائلة والقبيلة عند العرب القدماء تستخدم في النزاعات وحلها، لذلك كان للرجوع إليها دورٌ كبيرٌ في الحكم على المسائل، من ناحية العيب والخجل والنخوة والاندفاع، لكن هل القبلية حكراً على المُسلمين! ففي أوروبا على سبيل المثال يقدسون النسب ولم يستطيعوا ترك النسل الملكي، فرغم كل الديمقراطية إلا أنهم لم يتخلصوا من الميل إلى الملك ونسله، الدم الطاهر أو الدم النبيل، فبريطانيا ملكية وبلجيكا وغيرها ما زالت ترى في صورة الملك صورة الإنسان النبيل الذي يشجع الناس على الأصالة وممارستها، وهناك قاعدة إنجليزية تقول: إنّ الرجل الإنجليزي لا يستطيع أن يعيش دون ملك.

وإن وجود الشخص المثالي أو الصورة العظمى مُفيد للبشر ولا شك، على ألا يكون هُنَاك اعتزاز في سلسلة الدم، وكان على المُسلمين التخلص من هذا الأمر، لم يبقَ من نسل الرسول من البنين أو البنات إلا بنت واحدة لأن الله لا يريد توريث الدين ويريده أن يكون للأنسب والأفضل مهما كان أصله، ففاطمة الزهراء مثلها مثل أي شخص لدى رسول الله عند تطبيق الحدود، ولو سرقت لقطع يدها ولا أفضلية لها، بل يقع على عاتقها مسؤوليات أخلاقية أكثر من غيرها.

الاستهزاء الأعمى

لا مُشكِلة لدي من الاستهزاء بالدين أو بالنبي أو حتى بالإله إن كان هُنَاك ما يدعو للسخرية حقاً، مثل أنّ الله يلهو مع أحد مخلوقاته يومياً، لكن أن تستهزئ لمُجرَّد الاستهزاء فهذا يجعلك شخص غير موضوعي.

ومن الأمثلة على الاستهزاء الأعمى تكرار استدعاء فكرة وجود حديثين متعارضين عن زواج الإنسان بالبهيمة، الحديث الأول ضعيف ولا يقبل به علماء المُسلمون “من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة” والحديث الثاني قوي وهو “من أتى بهيمة فلا حد عليه“، وبما أنّ الموضوع منتهٍ بهذا الشكل عند دين المُسلمين، لماذا تكرار الاستهزاء!

ثم هل وجود سؤال لدى العرب قديماً للرسول حول هذا الموضوع يجعلهم في مرتبة دنيا؟ إذا علمنا أنّ الإنسان طوال الدهر كان يتزاوج مع الحيوانات وبشكل شرِه في أوروبا وأفريقيا، فما المانع من سؤال الرسول أو من التطرق إليه، مع العلم أيضاً أنّ الحُريّة في أوروبا سمحت للبرلمانات الكبرى نقاش هذا الموضوع، وقد توصلت الدول الأوروبية بسبب شيوع هذه الظاهرة مع الكلاب والقطط والأبقار والحمير إلى إصدار قرارات صارمة لإنهاء ظاهرة البهيمية، وبعد أن كان الجنس مع الحيوانات أمراً يُجيزه القانون، فقد بات ممنوعاً في ألمانيا عام 2012، ثم السويد وتبعتهم دول أخرى، وذلك بعد الدراسات المرعبة التي تبين انتشار هذه الظاهرة، ففي دراسة دنماركية جرت عام 2011، ظهر أنّ 17% من الحيوانات الأليفة قد تم استغلالها جنسياً! لذلك إذا كنا نوافق على هذا الفعل علينا أنّ نشهد للإسلام أنه سبق العالم في الحديث عنه، أما إذا كنا لا نوافق فعلينا أن نشكر الإسلام أنه نهى عما وافقت عليه أوروبا.

العديد من الكتب والمقالات التي تُهاجم الدين ليست دقيقة، مثلاً ترى الكثير من الكتب تنتقد الحديث ولا تأخذ به، والبعض يقول أنّ أغلب الأحاديث ضعيفة جداً ولا يجب الاستشهاد بها، ولكنهم يقعون في الخطأ بمهاجمة أحاديث ضعيفة لا يقبلها حتى المُسلمون، ولنا مثال في كتاب رحلة الدم (القتلة الأوائل) وكتاب الفرفشات وغيرها من الكتب التي تستهدف فئة تكره الدين وتريد أي شيء لتقوية كرهها ولو دون أي خلفية قوية وحتى البرامج المنتشرة على الإنترنت التي تناقش أكاذيب الإسلام، يعيبها أمران:

  1. الكذب غير الجميل، الكذب في كل جملة يجعل الكذب قبيحاً جداً.
  2. السذاجة، فمناقشة أتفه الأمور تجعل الفكرة منفرة، لماذا لبس محمد قميص أحمر ولم يلبس أزرق!

تدّعي هذه البرامج أنها أتت بما لم يأتِ به الأوائل، والحقيقة كل ما فيها إما أتى به الأوائل أو أنه افتراءٌ متأخرٌ، فمثلاً في برنامج يهاجم الدين، يدّعي فيه أنّ كل ما ينقله هو من كتب الصحاح، ولكن بعد متابعته ستجد أنّ كثيراَ مما ينقله ليس من كتب الصحاح، تراه يستشهد أنّ الأكراد جيل من الجن، وأنه حديث صحيح، والحقيقة أنّ هذا ليس بحديث أصلاً، بل مُجرَّد عبارة وردت في كتاب لاحق جداً للسلف، وغيره الأمثلة الكثيرة، عن مكان مكة، ومكان فرعون، واسم النبي حتى ووجوده وغيرها من الأمور العجيبة التي تجعل الحليم حيراناً، وإنها محاولة لنشر كل تشكيك في أبسط الأمور لتدخل في قلب كل متدين عبر كاريزما للإلقاء، وأسلوب لبق ومدهش يجعل كل غير مختص يصدق الكلام وينجر وراءه.

كثير ممن يرون فتاة محجبة يحاربها ويقول لعل الفتاة بائعة الهوى أفضل عند الله، أو من يرى مدمن كحول، فيقول لعله أفضل من إمام مسجد عند الله، وهذا خلط للصحيح والخطأ معاً، لأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ولا توجد آية واحدة تقول الذين آمنوا فقط، بل الآيات تقول الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لأن العمل يظهر أثر ذلك الالتزام على العامل، والالتزام بالحجاب أحد هذه المظاهر.

ومن غير المنطقي أن تسمع أحداً يتأخر عن الحضور إلى الدوام لكنه يقول: صحيح أنني لا أحضر للعمل أو أني قليلاً ما أحضر إلا أني أحب الشركة أكثر من كل من يحضرون ويعملون.

أركان الإسلام مطبقة في مظاهر عملية كالصلاة والصيام والزكاة والحج، لتُعبّر من خلالها عن إيمان مقرُّه القلب، ولذلك فالإيمان قولٌ وعمل ولا معنى للإيمان القلبي دون أن يصاحبه العمل وليس هُنَاك ما يدل عليه، فقد رفض إبليس تطبيق العمل رغم إيمانه الشديد الحقيقي بعينيه، والذي هو أعلى بمراتب من إيماننا، ومن هذا يتضح أنّ القلوب ليست مقياساً في عُرفنا نحن البشر لأن أمرها يعود إلى خالقها. ونحن نحكم بالظاهر.

وفي سياق قريب يقول إدوارد سعيد في كتابه خيانة المثقفين: “اتبع المستشرقون كل الوسائل المتاحة لتحقيق أهدافهم من خلال التعليم الجامعي، وإنشاء المؤسسات العالمية لتوجيه التعليم والتثقيف والمؤتمرات والندوات ولقاءات الحوار والمجلات ونشر المقالات وجمع المخطوطات العربية، والتحقيق والنشر وتأليف الكتب ودس السموم الفكرية فيها بصورة خفية ومتدرجة، وإنشاء الموسوعات العلمية الإسلامية … إلخ”، وهذا كله كما يقول لدعم وجود الغرب في البلاد العربية، إذ يجب أن يرى العرب والمُسلمون أنفسهم أقل من غيرهم، وهُنَاك مُشكِلة في جيناتهم وفي دينهم، نجد هذا بوضوح في الفرنكفونية الفرنسية مثلاً، لكن لا يعني هذا أن الحرب على الدين كما يتم نشره، إنها أمر استعماري بحت.

بول البعير

ومن أمثلة الاستهزاء الأعمى تكرار التهكم على قضية شرب بول البعير لدى المُسلمين، وباختصار فإن قصة شرب بول البعير في الإسلام هي آلية تداوي وصى بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لقوم أصيبوا باختلاف المناخ حينما انتقلوا إلى المدينة، ولا يوجد كلام إضافي آخر عن هذه المسألة، إذ لم يوصِ القرآن بالتداوي بها، فقط أوصى بها مرة الرسول في حالة واحدة خاصة، وهذا يعني أنّ المرض كذا كان في سنة الرسول علاجه بول البعير، وهذا يعني وعي طبي بمقاييسنا اليوم، فلذلك الداء هذا الدواءٌ.

إنّ فكرة التداوي ببول البعير قبل 1500 عام بالطب البديل والطب الشعبي، هي نفس فكرة التداوي بعصير الليمون أو بالعسل أو حتى بحليب الناقة، في تلك الأيام لم يكن هُنَاك ديكلوفين، وكانت فقط هذه الطرق البسيطة والفعالة أيضاً، لماذا من الطب البديل القديم نتهكم على استخدام البول، ولا نتهكم على استخدام العسل، وكلاهما مادة من كائنات أقل من البشر تنتجها، وكلاهما نستخدمهم في حالات معينة! هل لأن العسل حلو والبول لا؟ العسل به مكونات كيميائية، والبول به مكونات كيميائية مثل اليوريا والبولينا، البول به بكتيريا والعسل كذلك.

أنا ضد شرب بول البعير بالمطلق لأن العلم تقدم وهُنَاك علاج لكل مرض معروف، لكن في العصور حتى القريبة منها كان البول علاج يستخدم للكثير من الأمراض والعمليات، فمثلاً بول البقر يجمع ويتم تجفيفه ليستخدم لتعقيم الجروح، بل واستخدمته أوروبا في تنظيف الأسنان هو طب قديم إلى أن ظهر الطب الحديث فلا أرى داعياً للتهكم بهذا الشكل على أدوات الماضي، كأن نتهكم على رجل الكهف لاستخدامه الحجر في تقطيع الطعام وليس السكين، ولو سافرت بالزمن ورأيت شخصاً في إسبانيا ينظف أسنانه بالبول، لكان في ذلك الزمن كأنه يستخدم فرشاة أسنان بالليزر، فهي قمة التقدم العلمي.

وحين احتمى أعراب بالعيش في المدينة ووصف لهم رسول الله بول البعير لعلاج المغص، إنما كان يصف دواء ذلك الزمن، ولو وُجد طب حديث على زمنه، لأمر الأعراب بالذهاب إليه، ولكن ماذا لو قال الطب الحديث اشربوا بول، وماذا لو قال الطب الحديث كلوا الغائط! هل سنتهكم أم سنقول وااو على التقدم! مع العلم أنّ العلاج بالغائط متوفر هذه الأيام. إن الجسم الصحي السليم تتوفر في أمعائه مجموعات من البكتيريا المُختلفة التي تقوم بوظائف مهمة جداً جداً، وكثير من الأمراض سببها عدم انتظام هذه البكتيريا ولعلنا نذكّر أنّ جسم الإنسان يحمل 10 أضعاف عدد خلاياه خلايا بكتيرية أخرى، أي أنه مقابل كل خلية حية إنسانية هُنَاك 10 خلايا بكتيرية، ونقوم هذه الخلايا بتنظيم العديد من العمليات وتفرز مواد مهمة وتحميه من كائنات ضارة.

الآن في بعض الأمراض يختل توازن هذه البكتيريا فتنمو بكتيريا غير مرغوبة، يتناول المريض اللبن فلا يتحسن ولا تحل محل البكتيريا الضارة، يقوم بعدة خطوات بلا أمل، فيكون الحل أن يتناول مستحلب من غائط شخص سليم تنتظم البكتيريا في جسمه فيتحسن مباشرة، مع العلم أنه يجب إجراء ما يزيد عن 50 فحصاً للتأكد من أنّ الشخص السليم يجوز استخدام غائطه للعلاج، لعلك تعتقد أنني رأيت هذا في صفحة فيسبوك وتقول يا لهذه السخافة، فأنصحك بالبحث في محرك البحث عن زراعة الغائط أو العلاج بالغائط، فأنت لا تنطلي على عقلك هذه الأقوال.

الأسد

رأيت البعض يستهزئ بأبسط أبسط الكلمات في الحديث واستغلالها بحيث لا يقبله صاحب نقد موضوعي، فالتهكم على حديث “وفر من المجذوم كما تفر من الأسد” خصوصاً بعد تفشي فايروس Covid19 أصبح مادة منتشرة، ويقول المتهكم، وهل لا يفر أحدنا من المرض ويلتصق به، وهذا منطقي لكنه اقتطاع وتلاعب، فالحديث له مقدمة “لا عدوى ولا طيرة ولا مهمة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد” إذ يعالج الرسول مُشكِلة عند العرب وينصحهم بها، وأن العدوى والمرض كله بأمر الله، لكن عليكم أن تبتعدوا عن المجذوم وليس فقط ترك مسافة عادية بل فرار كما تفر من الأسد، ولعل الأمر أتى في سياق حديث عدوى الجمال فسأله أحدهم، يا رسول الله هل المرض معدٍ على سبيل المثال، فقال له نعم واهرب من مريض الجذام بكل قوتك، كما أسأل اليوم الطبيب، فيخبرني لا تشرب من إناء واحد مع أبنائك لأنك مصاب بالأنفلونزا، أو يخبرني أنّ ابني مريض بالجدري وابتعد عنه وأنه يجب عزله في المنزل، وهذا كلام الرسول نفسه فلِمَ التهكم! هو يوجه نصيحة بناءً على سؤال فأين الخلل، كأن أسألك كيف مذاق البوظة، فتخبرني أنّ مذاقها رائع ولذيذ، فتقوم بالتهكم على جملة “إنّ مذاق البوظة لذيذ” وتقول، الجميع يعلم أنّ مذاق البوظة لذيذ، ما هي الفكرة الجديدة التي جلبتها بقولك هذا!

لا نعلم بدقة كيف تعامل الناس قديماً مع الأمراض، وهذه النصيحة جيدة ولا غبار عليها كما نصيحة حديث “إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها” وهذا أمر لا يذكروه للتهكم لأنه محرج لكم هذا الحديث القديم الذي يبنى عليه فكرة الحجر الصحي الحديث، وكلاهما حديث في السياق الطبي نفسه للعدوى.

المواسم والنزهات

يمل الإنسان من الروتين السنوي، ويمل من روتين العمل اليومي ويمل من الطعام اللذيذ لو تكرر يومياً، ما عدا الطبخات الثلاث التي تطبخهم زوجتي لا أملُّ منهم، هكذا الطبيعة البشرية تواقة للتغيير، فلو مرضتَ فترة وامتنعت عن اللحوم وتعافيت، لتشوقت أشد الشوق للحوم ولكانت أقصى طموحاتك تناول اللحوم، في حياتنا اليومية ولكيلا يبقى الإنسان على الوتيرة نفسها، هُنَاك مواسم وأوكازيونات، تجد الملابس معلقة ولا تفكر في الشراء، ولكنك لو سمعت بوجود تخفيض على الملابس لسارعت بالشراء.

يقدم لك الدين في عباداته مواسم متنوعة، حتى لا تبقى على النمط نفسه طوال العام، فهُنَاك رمضان حيث الشوق لفطور الصباح، للقاء الحبيب في النهار، لشرب كأس شوكو مع مطالعة كتاب في الظهيرة، الشوق للنزهات والعزائم النهارية، فضلاً عن عشرات الاختلافات الأخرى في شهر رمضان في كل نواحي الحياة، بعد رمضان تتجدد الحياة في عينيك، ولو كنتُ مسؤولاً لجعلت لطاقمي أياماً لتغيير النمط المعتاد حتى لا يملوا، كأس الأمم الأفريقي، وكلاسيكو الكرة الأوروبية.

ماذا عن تكفير الذنوب طوال العام، بالتأكيد الإله يخبرك تعال يا عبدي في أي وقت، إلا أنّ العبد كسول بحاجة إلى حافز أو دفعة بسيطة، فالعبد حينما يسمع بوجود تخفيض على الملابس سيسارع أكثر، شهر رمضان، ليلة القدر، العشر الأوائل، عاشوراء، الثلث الأخير وغيرها من الأوكازيونات التي تجعل الأمر مُمتِعاً للبعض، فمنا من يشتري القميص وقت الحاجة ومنا من يشتري دائماً، وبعضنا بحاجة إلى العروض، والخيارات كلها موجودة في الدين وكل شخص ينتقي ما يناسبه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله ينزل في الثلث الأخير من الليل. الآن لدينا الثلث الأخير وبعد ساعات عند غيرنا وقبل ساعات كان الثلث الأخير عند غيرنا لأن الليل متقلب، إذن فالله موجود حولنا طوال الوقت، وهو قريب من الناس، وليلة القدر كذلك تستمر يومين ولربما أكثر قد يشاهد قوم ما القمر اليوم وقوم شاهدوه غداً فصاموا، وهؤلاء يكرمهم الله ليلة القدر وهؤلاء كذلك، وفي كل مدينة يتقلب عليهم الليل يكون لديهم في ذلك اليوم ليلة القدر، أي أنها تستمر لأيام وليس ساعات.

فإن كان هُنَاك ثلث أخير من الليل في مكانٍ ما والله يتنزل طوال الوقت، والقياس نفسه على ليلة القدر، فلماذا إذاً هذا التخصيص، على ما يبدو أنّ هذا لاستنهاض الهمم وعدم تركها على حالها، والحث على القيام والدعاء، أيضاً هذا يعني أنّ باب الله مفتوحٌ طوال الوقت ولا يغلق أبداً، وهو ما يدعو إلى شحذ الهمم والتشمير والجِد حتى يصل الإنسان طوال العشر الأواخر إلى لحظة إخلاص في الإيمان أو صفاء قلب فيدعو الله فيستجيب له، ولو كانت كل اللحظات سواء لما اجتهد الإنسان حتى يصل ويترقب ليلة القدر، لذلك كافة الأوقات مستجابة فيها الدعوة وباب الله مفتوح والعشر الأواخر يجب الاهتمام بها كلها والجد والاجتهاد للوصول إلى لحظة رجاء وإخلاص مع الله، فيتقبلكم الله.

المرأة

كانت المرأة وما زالت على مر العصور والأزمنة محط أنظار الفلاسفة والمفكرين وموضع آخر لجدلهم، ورأينا كيف اعتقد أرسطو أنّ المرأة ناقصة وأنها رجل غير كامل [145] وكيف رآها سقراط كالشجرة السامة، واستعرضنا رؤية فلاسفة آخرين للمرأة، ولكن ماذا عن رؤية الإسلام للمرأة.

وفي ساعة نزول القرآن كان التعدد في الزواج بلا أي حد، وكانت المرأة سلعة تُوَرّث عن الرجل المتوفى، وكانت المرأة لا ترث، وغيرها من صور عبودية المرأة المنتشرة، لكن القرآن فتح وجهة واضحة للانتقال بها إلى درجة المساواة العادلة، حتى وإن لم ينطق بأحكام نهائية بهذا الخصوص نظراً إلى طبيعة اللحظة الثقافية والحضارية، لكنه أعلن بما لا يقبل مجالاً للشك مساواتها مع الرجل في أصل الخلق )خلقكم من نفس واحدة( ثم جعل القرآن الأجر متساوياً عن أي عمل صالح )ومن يعمل صالحاً من ذكر أو أنثى(، وتكمن المُشكِلة فيمن لا يريد الالتفات إلى طبيعة لحظة التنزيل ومستواها الحضاري وطبيعة لحظتنا هذه، ما زاد الطين بلة هي تلك الروايات المستوردة في معظمها من التوراة عن المرأة، والتي لا علاقة لها بالقرآن، ثم إضافات التاريخ التي كانت تعبر عن ثقافة لحظتها، والتي ألبسها واضعوها لباس الدين، مع أنه يستحيل للإسلام أن يتحيز إلى الرجل دون المرأة، أو أن يضع في اعتباره مشاعر الرجل ويهمل مشاعر المرأة، ويحتقر الأنوثة أو ينظر إليها بنزعة جاهلية يزدريها الإسلام وينكرها أشد الإنكار، ويكفي أن نذكر هنا قوله تعالى: )والمُؤمِنون والمُؤمِناتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ بعضٍ يأمرون بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ(.

والقوامة التي منحها الإسلام للرجل على المرأة ليست قوامة تسلط أو استبداد أو قهر، وإنما هي قوامة مسؤولية وخدمة للمرأة والأسرة نفقةً وحمايةً وقياماً بأداء الواجبات، والدرجة التي في قوله تعالى: )وللرجال عليهِنَّ درجةٌ( هي درجة في المعاشرة بالمعروف بأداء كل ما لها عليه، والتنازل عما له عليها.

ومن أمثلة ما أورثه الجهل أحد الجمل المنتشرة في الدين وهي: “إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفأر بيتي” وهي منسوبة لأحد التابعين، وتوحي الجملة إلى أنّ المرأة ملك من الأملاك مثلها مثل الدابة والخادم والحمار، وهي تتبع الرجل وحق من حقوقه اشتراها حين زواجه، وحينما يعصي الرجل ربه، فإن الله يسخر له دابته وحماره وزوجته لكي يزعجوه ضريبة معصيته. هذا يحيل المرأة إلى شيء تابع لا كيان لها حقيقي في الحياة، وأنها مثل الدواب مسيرة بمعاصي زوجها أو بحسناته، وفي حين أنّ القرآن يقول امرأة فرعون لا يسخرّها الله على فرعون بأفعاله فهي مستقلة عنه لأنها صالحة، وأنّ نوحاً رغم أنه نبي صالح، إلا أنّ امرأته كانت غير صالحة دائماً وليس كرد فعل على أفعاله، وغيرها من الآيات والمواقع، فإننا نحن المُسلمون ما زلنا نضرب هذه الآيات بعرض الحائط، ونقول أنّ المرأة ملك من الأملاك يحركها الله لتزعج المالك أو ترضيه! ويضيف جواهر لال نهرو في كتابه لمحات من تاريخ العالم، بأنّ المرأة العربية لم تكن تعرف أية عزلة على الإطلاق، فقد كانت تذهب إلى السوق، وتصلي في المسجد [6] بل وتشارك في الغزوات، وأنشأت حلقات العلم الخاصة بها، وإنّ ما ظهر من عزل للمرأة وتغطيتها نتيجة انتصار العرب على الأمم الإمبراطوريات المجاورة، وانتقال بعض عادتهم إليها، ونتيجة لذلك بدأ نظام “الحريم” يظهر وما يتعلق به من عقبات.

صورة 43 هارمندير صاحب، المعبد الذهبي أحد أماكن العبادة المقدسة لدى السيخية

والسيخية محاولة دينية ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي لدمج الإسلام والهندوسية في دين واحد، تأسست على يد شخص هندوسي، يؤمنون بخالق واحد، ويمنعون تصويره أو تجسيده، لديهم معتقدات مثل إطالة الشعر من المهد إلى اللحد، ولبس السوار والتبان! والقائد الديني فيها يسمى المهراجا، وكتابهم آدي كرانت عبارة عن نصوص الصلاة ومجموعة من الأناشيد.

ونجد في القرن الحديث أنّ تسخير جمال المرأة في الإعلانات يحتل مكانة مهمة في التأثير النفسي على المشاهدين، ونلاحظ أنّ المعلنين عادة ما يسعون إلى تكوين صورة ذهنية للمنتج ملتصقة بصور الإغراء، ولا شك أنّ هذا الأنموذج يقدم المرأة ككائن بلا عواطف ودون قدرات عقلية، وأصبحنا نشهد استعمالاً مرناً ومتحرراً للجسد الكاشف وسلعنة الجسد الأنثوي[7]! وتعمل الإعلانات على تقديم أنموذج المرأة الغربية كقدوة في مظهرها وأنموذج يحتذى به، وخاصة عندما تظهر في الإعلانات نجمات هوليوود أو عارضات الأزياء أو حتى المطربات للإعلان عن منتج ما بلباس يمس صميم الحياء والحشمة في الحركات والإيماءات، وهذه الصورة مرفوضة بالمطلق في الدين لأنها تُثير الفحش في المجتمع وستؤدي إلى جرائم التحرش والاغتصاب، وبذكر التحرش والاغتصاب نجدهم سيدي المواقف كلها في المجتمع المتحضر، ولعل تأجيل الإعلان عن جائزة نوبل للأدب دليلاً دامغاً على انحطاط من لا دين له.

وفي جو الشهوات هذا نجد أنّ النساء والفتيات وقعن في حالة تنافس مرضي كل واحدة ترغب أن تَفُوق الأخرى في مقاييس الجميلات لتسرق الأنظار والأضواء والكاميرات، وكل منهنّ تود أن تكون محط الاهتمام والانبهار، هذا المناخ يفرز حالة من السباق الأنثوي نحو الجمال والكمال المطلق، فتصطف النساء والفتيات في ورش التجميل والنفخ والشد وتصبح كل منهنّ مهووسة بالتَّفوُق الجسدي المصنّع وكل ذلك ينعكس بدوره على الرجل، مناخ عام مشبع الإثارة، وبعد أن كان من الطبيعي أن ترتدي الزوجة لزوجها ملابس بسيطة لتكفيه، يُصبح القدر الطبيعي من الإثارة بلا تأثير، تموت الإثارة الطبيعية، ويصبح السعي نحو الإثارة غير الطبيعية، وتصبح العلاقة الزوجية غير مشبعة إلا بالغرابة، تنتشر رغبة الشُذُوذ والاغتصاب، فتباع في المحال قيود وأدوات إهانة النساء وتمثيل الاغتصاب، ويصبح الزواج نفسه غير كافٍ لأن الإثارة المعروضة كثيرة ومتنوعة، وهنا يفشل تحقيق أهم أغراض الزواج ألا وهو العفاف، ويمسي المتزوجون متحرشين خونة، ولهذا يرفض الدين من الأساس تسليع المرأة ويخبرها أن تعف نفسها دائماً، وعلى الرجل أن يغض بصره خارج منزله دائماً.

ومهما تطورت البشرية سيبقى النهم للطعام وللطرف الآخر وجداني فيها ولا فِكاك منه، حتى لو عشنا في بدائل بشرية surrogates سيبقى كلٌ من الرجل والمرأة ينظرون للطرف الآخر بدافع غريزي أبد الدهر، كل ما نستطيع فعله هو التقليل من الأذى الغريزي أو تهذيبه، لن نستطيع منعه إلا إذا حولنا الإنسان إلى كائن آخر، وللتخفيف من التحرش وسائل كثيرة مثل سن القوانين الصارمة من قبل الدولة، واتخاذ الإجراءات اللازمة الأخرى مثل تعطيل الانحطاط وتزويج الشباب وإتاحة الفرص لهم وإغلاق المواقع الإباحية كما الصين وغيرها، كذلك التوعية في المدارس والمؤسسات ونشر الأخلاق والمبادئ الصحيحة، أيضاً استخدام الدين في التهويل والوعيد والتشجيع، نعم يا عزيزي الدين عامل مهم حين القول للمتحرش أنّ الله يسخط عليك وهذه ليست من أخلاق الصحابة وغيرها من الأساليب المبتكرة فيه، واستخدام العادات والتقاليد وتذكيره بالشهامة وأخواته وأمه، ولم لا، ولو وُجدت دراسة من سيريلانكا تقول أننا لو فعلنا كذا وكذا سيقل التحرش لوجب علينا النظر لها واستخدامها وعدم التردد.

للحشمة دور أيضاً، لا يقول شخص سُرق بيته لا تلمني لأن بيتي دون باب، إننا لا نلومك ولكن لو كنت قد وضعت باباً لكان أفضل يا عزيزي، وكذلك الأمر لو شاهد الذكر مفاتن واضحة وجذابة سواء لفتاةٍ مُنتقبة أو لفتاة تلبس تنورة فوق الركبة، سوف تثيره ولو كان ابن مئة وعشرين سنة، فلن تكل عينه ولن تذهب نضارته.

ولا تحاول عزيزي الستيني يا من تختلف قدراتك عن قدرات الشاب العشريني القول إنّ هذا تخلف وكبت بسبب الدين ولا أعلم كيف لشاب أن تستثيره أصابع قدم فتاة وكيف تستثيره فتاة منقبة عيونها مكحلة وجلبابها يشف أو يصف، لا أيها الختيار، سوف تستثيره وحينما كنت شاباً كنت تستثار بسهولة.

لا يختلف اثنين أنّ هُنَاك ملابس للنوم وملابس للرياضة وملابس للبحر وملابس للمناسبات وملابس للغرائز، المرأة لا ترتدي الحذاء عندما تنام، ولا ترتدي الحشمة عندما تكون بجوار الزوج ولا ترتدي البكيني عندما تذهب إلى الكنيسة أو المسجد، إذاً فلباس المرأة سُلُوك أيضاً وقد يكون سُلُوكاً محترماً أو غير محترم وهذا الفعل قد يكون فعلاً قاصراً أو فعلاً مُتعدياً، الغرض من ملابس الرياضة أن تمتص العرق، وتأثيرها قاصر على من ترتديها وملابس النوم الغرض منها أن تكون مُثيرة وهو فعل مُتعدٍ يتأثر به مفعول به وهو الرجل.

الملابس الأنيقة فعلٌ قاصرٌ ينعكس على فاعله بالجمال، أما الملابس المُثيرة هي فعل متعدٍّ ينعكس على من يراه بالإثارة، لذلك فارتداء المرأة ملابس مُثيرة لزوجها أمر مفهوم، لكن ارتداءها ملابس مُثيرة في الأماكن العامة هو أمر يحتاج إلى تفكير، فإذا كانت تود أن تبدو مُثيرة لنفسها إذا مرّت مصادفة أمام مرآة، فهذا فعل من أفعال النرجسية المريضة، ولو أنها ترغب بأن تكون مُثيرة في عيون الرجال جميعهم فهذا فعل من أفعال المجون ودرجة من درجاته، فبائعة الهوى ترتدي دوماً ما يجعل جسدها يبدو كبضاعة مرغوبة ومطلوبة بهدف أن تحصل على المال وملابسها هذه تهدف إلى أن تجعل الرجل لا يقاوم لهفة عينيه في النظر إلى جسدها وكأن ذلك يمنحها قدراً من النشوة المريضة، أو أنّ قناعتها بقيمتها الوجودية قاصرة على قيمتها كجسد.

أما عن زواج القاصرات فهو ليس سُلُوكاً مرتبطاً بالدين، بل هو سُلُوك مرتبط ببعض القبائل والمجتمعات، ففي أمريكا مثلاً هُنَاك 200 ألف حالة زواج قاصر خلال السنوات الماضية، بل وهُنَاك حالات بعمر 11 عام [182]، أي أنّ الأمر مرتبط بالمجتمعات وعاداتهم وليست في الدين نفسه، فالدين ضيق على شروط الزواج نفسه ولم يفصل بُنود مُحددة، بل ونجد أنّ من يحاربون الدين بحجة أنّ المتدينين متخلفون لأنهم يقومون بتزويج بناتهم قبل سن الثامنة عشرة قد فقدوا عذريتهم في سن الـ14، وشتان بين الزواج والجنس العابر، ولا يعرف الإسلام معاشرة الأطفال، ولا أدري لماذا يتم تجاهل أنّ سن الزواج في الدين يخضع للعادات والأعراف بشرط عدم الإضرار، ولا أدري لماذا نتجاهل أنّ سن الزواج في القرون الوسطى في أوروبا كان من سن الحادية عشرة فما فوق، ولا أدري لماذا نتجاهل أنّ السن القانونية اليوم لمُمَارسة الجنس في أوروبا تبدأ في بعض البلاد من الثانية عشرة في بعضها وليس هُنَاك نص قانوني بذلك أصلاً، وفي بعض ولايات أمريكا يجوز التزويج دون الثامنة عشرة بإذن القاضي.

ولا أرى مُسوِّغاً قٌبول فكرة تعدد العلاقات، وعدم قٌبولها في حالاتها المناسبة في حالات تعدد الزوجات المشروط، إذ تقول وزيرة المواطنة في فرنسا: إنّ فرنسا مع الحُريّة في الحب، مع حُريّة الجنس، مع الحُريّة العاطفية، فرنسا تدعم التحرر، هي لا تمانع العلاقات خارج الزواج (الخيانة الزوجية)، لا تمانع المُمَارسة الثلاثية للجنس بين الأزواج وغير الأزواج، ففرنسا تسمح بالجنس الجماعي بكل أشكاله، وتسمح بتعدد العشاق، إلا أنّ تعدد الزوجات مخالف لهذه المبادئ، وستقوم بترحيل أي شخص يقوم به! مع العلم أنّ تعدد الزوجات يمارس من قبل غير المُسلمين في العالم وهُنَاك مطالبات كثيرة من بعض البروتوستانت والكاثوليك الذين لديهم تعدد زوجات بالسماح به في أمريكا ودول أخرى حول العالم، فهو حل حقيقي لبعض المشكلات التي لا حل لها.

قضايا عديدة مرتبطة بالمرأة والزواج تطرح ليل نهار بطرق شتى تجعل الحليم حيران، لكن لننظر للثمرة، ثمرة قيمة الأم والزوجة والابنة والأخت لدى المجتمعات، لنعرف الحقيقة.

المساواة

يجب المُطالبة بالعدالة بين الرجل والمرأة، وأما المُطالبة بالمُساواة بحُجة وحدة الأصل أمرٌ مناقض لقوانين الطبيعة، والعدالة تكمن في أن ينال كل جنس حقه، الحق الذي أقرته له الطبيعة، ورغم أنّ كل المخلوقات خُلقت من ماء، إلا أنه بنفس القوة والمنطق يوجد حقوق لكل نوع منهما يختلف عن الآخر، فحق النسور أن تحلق في الأعالي، وحق الغزلان أن تسير على الأرض، وإذا كان من المتعذر على الغزلان في سبيل المساواة أن تحلق في الأعالي، فقد يبدو أنها ترغب في مُطالبة النسور بأن تسير على الأرض، مع الفارق في القياس، وإنه لمن الظلم أن نطلب من السمكة أن تعيش خارج الماء لأن هذا مُستحيل جسدياً، وإنه لمن الإجحاف أن نطلب من السمكة أن تفكر في الطيران، فعقلها لم يصمم لهذا الغرض، بل صُمم للتفكير في السباحة وليس في الطيران.

وبالقياس من الظلم أن نطلب من المرأة أن تحمل الحجارة وتعمل في البناء، فجسدها لم يتم تهيئته لهذه العملية، بل هي مهمة جسد الرجل الذي يضج بالتستوستيرون والذي يبني العضلات ويصلّب الشرايين، صحيح أنّ هُنَاك أنواع من الأسماك تطير لكنها حالة استثنائية وليست القاعدة ولا نحكم بالاستثناء، كذلك لا يمكننا أن نطلب من المرأة ألا تكون عاطفية مع أبنائها أو أن تتحمل التفكير في مسائل نفسية مُعقَّدة في فترة الطمث أو الولادة، فجميع العُلماء يجمعون على أنّ الهرمونات تتغير وكيمياء الدماغ تنقلب في فترة الطمث، والمرأة لديها عمليات أخرى خاصة مثل الحمل والرضاعة ولا يمكننا أن نطلب من الرجل في المقابل أن يحمل وينجب، ولا يعني أنّ للرجل أثداء أنه يستطيع الرضاعة، من الظلم المساواة في العمليات النفسية والجسدية بين الرجل والمرأة، لكن إن رغبت امرأة أن تبني أو أن تحارب فلا بأس بهذا، فهذا اختيارها ومجهودها، والحديث هنا عن مساواة في الوظيفة، أما المساواة في واجبات الدين فهي واحدة بين الجنسين وهو أمر مفروغ منه.

ثم تنتقل الأسئلة نحو فكرة عدم المساواة في الميراث في الإسلام، مع أنّ الدين يرى أنّ الميراث يتم توزيعه حسب درجة القرابة ثم حسب الإقبال على الحياة حسب ما وضحناه، وليس بحساب الذكر والأنثى وحده، فالله يعطي في الميراث صغير السن الذي أمامه حياة ومصاريف وأعمال أكثر من كبير السن، مثلاً رجل توفي، وترك أباه وزوجته وابنته، تأخذ ابنته النصف، والزوجة الثلث، مع أنهما إناث، لهم أكثر من ثلثي الورثة وهُنَاك حالات تزيد عن 30 حالة ترث المرأة أكثر من الرجل أو مثله أو حتى هي ترث وهو لا يرث في حالات أخرى، والرجل مجبور على خدمة أخته وأمه وزوجته في الدين، وهم غير مجبورين بالعمل وجلب المال.

وفي أثناء مطالبات النساء بالمساواة، نسمع أصواتاً أخرى تطالب بعدم المساواة، إذ تقول إحدى النساء إنها لا تريد المساواة مع الرجل، بل ترغب في أن تكون امرأة بكامل أنوثتها وقوتها الخاصة، ويبقى الرجل بكامل خشونته وهيبته، فالمرأة ليست أهلاً للتساوي مع الرجل، لأن لكلٍّ خصوصياته العقلية والجسدية والنفسية، وهذا ما لا يتناسب مع تكوين المرأة الحيوي والتشريحي، والمرأة تقلل من ذاتها حينما تمحو هوية يجب في الأصل أن تفتخر بها، وعليها ألا تتطلع للخروج من تلك الذاتية، سوق العمل متاح للجميع في عصرنا هذا، والمرأة أثبتت قدراتها بشكل قاطع ولا مجال لتهميشها هنا، والدين فعل للمرأة ما لم يفعله لها غيرها.

الحجاب

من القضايا التي تُثار من حين إلى آخر قضية الحجاب، وأكثر ما يشاع هو أنّ الحجاب عادة مجتمعية كان يمارسها العرب في قديم الزمان وجاء الإسلام ولم ينهَ عنها ولكنه لم يلفظها، وظلت هذه العادة حتى أُلصقت بالإسلام وهي ليست من الدين وليست من القرآن.

ولننظر إلى الموضوع من جانب آخر، والسؤال هنا يقول: ما هي أقصى حدود اتباع العادات المجتمعية في لبس المرأة، وما هي حدود الكشف عن الجسد حسب العادات القائمة؟ تقولون أنّ الحجاب عادة عربية وتغطيته ليست إلا عادة، وفي أوروبا يحق للمرأة أن تخلع الحجاب لأنه ليس عادة، ولكن ماذا عن أمريكا مثلاً وكشف الرقبة هُنَاك في ميامي وهي عادة الناس، هل للمُسلمة أن تكشف رقبتها هُنَاك؟ وماذا عن كشف الساقين في مناطق أخرى، هل تتبع المرأة المُسلمة تلك العادة هُنَاك أم تغطي ساقيها، وماذا عن كشف الصدر في بعض دول أفريقيا، هل تغطي المرأة صدرها أم تسير حسب عادات المجتمع هُنَاك؟ أعطني الحد النهائي للتماشي مع عادات المجتمع، ولعلنا نذكر أنّ ملكة سبأ كشفت عن ساقيها، هذا يعني أنهما مغطيتان في الوضع الطبيعي، وهذه إشارة إلى أنّ الملوك أكثر الناس اهتماماً بمظاهر العظمة والإغراء والرفاهية كانوا محتشمين إذا كانوا على الصواب.

وهُنَاك من يُطالب ألا نصنف الشعر من الأمور المُثيرة، وأنه يجب علينا ألا نجعله عنصراً جاذباً، لكن مهلاً، ولمَ لا يكون جاذباً مُثيراً للشهوة، لماذا نخسره من المجموع العام، هُنَاك الصوت والنعومة والجسم والطول والصدر والرشاقة والشعر، لماذا نخسر الشعر منهم، أليس من الأفضل أن نكسبه ونجعله من ضمن الشهوات ويثور الرجل حينما يرى زوجته في المنزل بشعرها الجميل ورقبتها الطويلة! لماذا نخسر هذه النقطة، ما نسبة الرقبة والرأس من الجسم والمفاتن 5%؟ لماذا لا نكسبها وتكون عاملاً حفازاً، وأنت ترى في الغرب حينما نزعنا الرأس والرقبة والكتف والساقين واليدين والصرة ونصف الصدر وأبقينا ربع الثدي مع العانة أمسى الرجال يبحثون عن شهوات مُثيرة جديدة، الشُذُوذ الجنسي وجنس الأقارب وجنس الحيوانات وشهوة النعال وشهوة الشجر، ولعلك تنظر إلى أنواع الشُذُوذ التي حصلت لترى قائمة غريبة، شُذُوذ الضراط واشتهاء المرضى واشتهاء ذوي الإعاقة وشُذُوذ الموتى وشُذُوذ اشتهاء المبتورين، تخيل شخص يستثار حينما يرى شخصاً آخر مُقعد مبتور الساقين!، سادية الحيوانات، الولع بالبول، الشهوة لشعر الإبط، الجنون بالأطفال، ولع الجنس مع الآلات مثل السيارات، لا أريد الإكمال، أليس من الأفضل كسب شهوة الشعر والرقبة بدلاً من كسبها لشعر الإبط ولنتانته!

ولكن مهلاً، أنت هكذا تدعو أن يقوم الناس بتغليف المرأة بالكامل حتى تحدث شهوة لكل شيء، وهنا أقول إنّ هذه مُغالَطة منطقية وليس الأمر كذلك بالضرورة.

وفي سورة النور يقول الله تعالى )وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ(، أي أنّ النساء الكبار في السن، اللاتي هرمن وفقدن جمالهن المغري بسبب التقدم في السن، لا حرج عليهن أن يخففن من آليات الحجاب الخاصة بالصبايا، وهذا يعني أنّ الله يعطي رخصة لهن في التخفيف من الحجاب وباقي اللباس، والسؤال الذكي هنا يقول، هل يعطي الله رخصة في فريضة أم في نافلة؟ حتماً في فريضة، لأن النافلة لا رخصة فيها، قلت لصديقك يمكنك أن تزورني غداً، أي أنه إذا لم يزرك فلا مُشكِلة، ولكن إذا قلت له يجب أن تزورني غداً، وإذا تعذر فأرجو الاتصال بي، تصبح رخصة الاتصال هنا نابعة من ضرورة الزيارة وليس اختياريتها.

هُنَاك الكثير من الأحاديث والأدلة التي تُثبِت أنّ المرأة كانت تخرج سافرة الوجه وتحظى بحريتها دون صور الإغراء الموجودة في المجتمعات الأخرى، وهذا دليل قاطع على أنّ الوجه ليس بعورة وأنه أمر تقليدي، فلماذا التضييق على المرأة بفكرة النقاب، وعلى ما يبدو أنه جرى لاحقاً محاولات لتغيير هذه الفكرة في المجتمع الإسلامي، ولأضرب مثالاً لتقريب الفكرة، يستخدم الجميع الآن الشبكات الاجتماعية، قد يأتي بعد 200 عام سؤال يقول: هل كان محرم على الفتيات العربيات أن يضعن صورهن عبر الشبكات الاجتماعية أو أن يستخدمنها من الأساس كالشباب؟ وسيكون الجواب في بعض الأحيان نعم محرم، وستكون هُنَاك أدلة مثلاً، الأب الفلاني منع بناته من استخدام الشبكات الاجتماعية، وكانت الفتيات لا يضعن صورهن على الإنترنت، وانتشرت قصص لحالات طلاق كثيرة لأن الزوج اكتشف أنّ زوجته تكلم شخصاً ما عبر الإنترنت، وسيتم استخدام هذه الحالات الغريبة للتأكيد على فكرة منع الفتيات من استخدام الشبكات الاجتماعية في زماننا هذا في المجتمع العربي الإسلامي، وسيكون لكل فريق أدلته، منهم من يقول أنه مسموح لوجود أدلة على استخدام فتيات الشبكات الاجتماعية، ومنهم من سيكون له أدلة عكس ذلك وتقول كان ممنوعاً لوجود قصص منع، والمنطق من القصة هذه يقول أنّ الاستخدام كان مسموحاً ولكن توجد حالات فردية غريبة، الأمر حالياً أصعب من الماضي في منعه وإخفائه لكن المثال للتقريب.

على ما يبدو أنّ هذا ما حصل على مر التاريخ مع قصص دينية كثيرة، منها قصة النقاب، هل كان إجبارياً أم اختيارياً، وهل كانت النساء يلبسنه في العادة أم لا، هل كان السائد النقاب، أم عدم النقاب، وكل الأدلة تشير إلى أنه ما دام وجود قصص كثيرة على خروج النساء من دونه في المحادثات العادية واليومية، فهذا يعني أنه هو الأساس، وحكم النقاب حكم خاص بنساء النبي، ومن يتبعه يتبع سنة خاصة لا أكثر.

أما النقاب فهو ليس فرضاً ولا سُنَّة وأرى أنّ الأدلة على جواز سفور الوجه أرجح وأقوى من الأخرى التي تقول بتغطيته، وهي بالمئات كما جمع الشيخ محمد الغزالي الكثير منها في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، لكن من اختارت أن تُغَطِّيَ وجهها فهي وما اختارت لا أعترضها فلديها أدلتها التي أرى أنها ضعيفة [183]، ويحق لها أن تغطي وجهها دون أن يراجعها من يرى أنه يحق للمرأة أن تخفي جزء من صدرها فقط، فهو من الحُريّة الشخصية.

والحجاب شأنه شأن أي فريضة في الدين، فلا يجوز لك أن تطلق على من لا يقوم الليل أنه غير مُسلم أو فاسق، نعم قيام الليل فيه خلاف بين العُلماء هل هو فرض أم سنة مؤكدة، لا أحد ينعت من لا يقوم الليل بالفسق، ولا أحد يفكر في رش حمض نيتريك في وجه من لا يخرج الزكاة مُؤمِناً بوجوب حرق وجهه حتى يتعلم ويُؤَدِي هذا الواجب، إنّ مرد تارك الفريضة عند الله، بل ومرد تارك الدين كله عند الله، فلماذا نضيق واسعاً ونشتم وننظر بنظرة غير صحيحة وقد جعل الله الحساب بين يديه سبحانه وتعالى.

والذي يحمي الفتاة هي التربية الحسنة التي تبين ما لها وما عليها وتملؤها ثقة بنفسها، أما التشدد فهو يصنع الخوف، الذي يختفي حين اختفاء الأهل، وفي الحوار الذي سجله القرآن بين سيدنا موسى وابنتي الرجل الصالح شيخ مَدْيَن تأكيد لهذا فيقول القرآن )ولما وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من الناسِ يسقون وَوَجَدَ من دُونِهِمُ امرأتينِ تَذُودانِ، قال: ما خَطْبُكُما.. قالتا: لا نسقي حتى يُصدِرَ الرِّعاءُ.. وأبونا شيخٌ كبيرٌ.. فسقى لهما(

ولما أخبرت الفتاتان أباهما خبر موسى معهما، أرسل إليه إحداهما تدعوه للقائه وفي اللقاء جرى حوار بين موسى والرجل تدخلت فيه إحدى الفتاتين دون حرج: )قَالَتْ إحداهُما: يا أبتِ استأجِرْهُ.. إن خيرَ مَنِ استأجرتَ القويُّ الأمينُ(.

تربية الفتاة على الثقة بالنفس، ومعرفة ما لها وما عليها، وعلى الاعتداد بقيمة الحُريّة الشخصية، هذه أسس البناء المستقيم للأسرة وليس التشدد وروح الحراسة والوصاية! وإنّ دعاة التضييق على الفتاة بحجة الحفاظ عليها مدعوون لدراسة التجربة الأسرية التي عرضها القرآن في شيخ مدين وابنتاه [183].

أتفهّم أن يحاول الأهل شرح فكرة الحجاب للأبناء قبل فرضها عليهم، مع ضرورة عدم إيصال فكرة فرض الحجاب بأي حال من الأحوال، لأنها أمر ديني ولا ضرر جسدي مباشر سيعود على الفتاة الصغيرة كخروجها في منتصف الليل إلى منطقة بعيدة، وفكرة أن نربط أنّ الطفل لا يفقه لذلك يجب أن نغصبه لمصلحته مثل إدخاله المدرسة مرغماً، أو الدراسة في وقت الامتحانات مرغماً، أو الإجبار على غسل الأسنان وتسريح الشعر، أو أن تشرب الدواء، لأنها أمور دنيوية وليست دينية، فلا يجب أن نغصب الأبناء على العبادات وصولاً للقطيعة التامة بيننا وبينهم.

الزواج

ولكن ماذا عن حُريّة الزواج في الإسلام؟ وشدة تعقيداته في إجراءات الزواج أليس مبالغاً فيها؟ حسناً، حرم الإسلام الزنا وحرم تبادل الأزواج وقيّد عدد الزوجات ومنع نكاح المتعة ومنع نكاح الحيوانات ومُمَارسة الجنس مع الجماد، وهذا كله لتبقى شهوة الإنسان في محلها الصحيح، في إطار الأسرة، بين الزوج والزوجة، ولا أي شيء خارج هذا الإطار، هُنَاك حديث “أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ“، الإسلام بعيد كل البعد عن الشهوانية، وهو الدين الأكثر تفهماً لها، لكنه يرى أنه يجب أن يتم وضعها في إطارها المُحدد فقط.

فللزواج في الإسلام وكل الأديان كذلك قُدسية عالية، الإسلام يرى أنّ الزواج ليس أمراً بسيطاً عابراً، بل أمر عظيم ولديه شروط وترتيبات وواجبات كثيرة، والدين يصعّب شروط الحصول على فتاة، ليعلم الشاب أنه لو أراد تجربة فتاة واستغلالها أنه سيكون عليه التزامات قاسية، فمثلاً لو حملت الفتاة فيجب على الرجل أن يتكفل بالطفل وبالنفقة عليه وعلى زوجته، وإذا أراد تركها، فيجب عليه التكفل بالمؤخر كتعويض نفسي وكمبلغ مقدم حتى تستجمع هذه الفتاة المكسورة عاطفياً نفسها، ومهر مقدم لتعرف أنّ الثمن غالٍ وهكذا.

نأتي في الزمن المعاصر ونتساءل عن جدوى هذا الكلام، فهل فعلاً لو أراد شاب فتاة، هل بالضرورة أن تحمل منه، إذ لدينا الآن العازل الفعال، وبهذا فقدنا سبباً من الأسباب التي ننادي بها، ولدينا في الغرب جمعيات ومؤسسات حماية ورعاية الأم، فلا تخاف على نفسها الفقر، ولدينا برنامج علاجي متكامل سواءً نفسياً أو اجتماعياً، كذلك لدينا فتاة هي من ترغب بالرجل، وهي من تبحث عن تلبية رغباتها، مستعدة جسدياً ونفسياً للقاء الحميم، فما علة إذن تحريم المصاحبة، وما علة تحريم الجماع بالاتفاق!

ونسأل بالمقابل هل حقاً سيتغير الجنس البشري وتصل نسبة طلب الفتيات من زملائهن الزواج إلى ٥٠٪ من حالات الزواج؟ غير متوقع هذا أبداً، وهل فعلاً أوروبا قادرة على البقاء إلى ما وصلت إليه، فكثير من الدلائل والمؤشرات تشير إلى وجود مشكلات حقيقية سواءً كانت اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية أثر هذا النمط من الحياة، وعلى رأسها قلة الإنجاب واستقبال المهاجرين من خارج أوروبا، وبهذا يكون معنى مهم لأحاديث التشجيع على الزواج والإنجاب لم نكن واعيين لها سابقاً، بل ولأننا تغافلنا عن حل سهل في الحياة هو الزواج، نتج لدينا عشرات المشاكل الجانبية التي نفكر في حلها ونغفل عن الحل السهل، الزواج!

ولعل الشاب حينما يعلم بأن الزواج ليس مُجرَّد مزحة وأنه سيكون لزوجته متطلبات وواجبات عليه، وأنّ طلاقها سيكون مكلفاً من كل النواحي، فإنه سيفكر بجدية في أمر اختيار شريكة حياته، وسيستخدم عقله في مواجهة الشهوة مرة أخيرة على الأقل، وكذلك على الفتاة أن تفكر في قرار الزواج، وألا تتسرع بين ليلة وضحاها.

مشكلات المُسلمين

إنّ شرط الإفلات من قبضة التخلف هو التعددية الفكرية والانفتاح الثقافي وإنهاء احتكار الرأي وتكافؤ الفرص والتفكير الحر والتعبير المستقل عن الرأي، ولا مجال لهذا إلا عبر الديمقراطية في الحكم، الديمقراطية ليست عقيدة، بل هي آلية لجعل العقيدة تعمل في الضياء وتتنفس الهواء، كانوا سابقاً يحجون راجلين على الإبل والبغال والحمير، ولكنهم يحجون الآن على الطائرات والسيارات والبواخر، تغيرت الوسائل وبقيت الغايات، والعلاقة بين العدالة ككفاية والديمقراطية كوسيلة هي مثالٌ آخر [184].

وإذا سألت أي عالم في الدين، لماذا نحن متخلفون؟ لماذا ما زالت فلسطين محتلة، لماذا ما يزال المُسلمون في ذيل الأمم، لرد عليك قائلاً: هذا بسبب بعدنا عن الدين! مع العلم أنه لا أحد أقرب منا للدين، هل تجد شخصاً يفطر رمضان أم ترى فتيات يخرجون إلى الملاهي الليلية، يرد عليك قائلاً، على العكس هناك الكثير من المظاهر، انظر للشباب تجدهم لا يعفون اللحى والفتيات لا يلبسن النقاب، فكيف سينصرنا الله، ولكن هل يعقل أن يهزمنا الله بسبب كم فتاة لا تلبس النقاب؟ وهل ترك هذا الإله العظيم كل الكفار في العالم يتقدمون علينا وينتصرون على الرغم من فعلهم لكل الموبقات والرذائل ليل نهار، وهم لا يعرفون الله درجة مما نعرفه! أي عقل هذا للتفكير، أي مصادرة للمنطق.

يصعد منكم الخطيب المنبر، ويخطب في الناس عن سبب تخلف المُسلمين عن العالم الغربي، ويستطرد ويقول إنّ هذا يعود إلى البعد عن القرآن وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفي السياق نفسه نسي أنّ الغرب تقدم دون الدين الإسلامي أساساً، بل تقدم بقوانين حضارية اعتمد عليها دون الاعتماد على الدين.

وهل لو قام الشباب بقص شعره بطريقة تعجب الداعية، أو قامت الفتيات بعدم التزين، هل هكذا نكون قد عدنا إلى الله وطبقنا الدين وسرنا في أولى مراحل التقدم والتحضر، ونكون قد صعدنا أولى درجات سلم النهضة، إنكم أيها الخطباء والدعاة أحد أسباب تخلفنا، إنكم تمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، الناس كلها متدينة، تصلي في المساجد، وتصوم وتحج وتزكي، وتخاف الله ما استطاعت، وحينما ترى أحدهم على فراش الموت، تراه يطلب من الجميع المسامحة، وتراه يعيد المظالم لأهلها، ترى الناس تطلق اللحى، وتستعمل السواك، وتطبق سنن العيد …. إلخ، مظاهر الدين منتشرة، والناس يجتهدون قدر المستطاع أن يطبقوها.

أما عن الأسباب الحقيقية لهذا الانحدار والانحطاط والتخلف في العالم الإسلامي فهي كثيرة ومتنوعة منها على سبيل المثال الاستبداد السياسي والانغلاق الثقافي وغياب العقل النقدي وهيمنة العواطف وسلطة العوام والافتقار إلى العقل العلمي وغياب آلية المراجعة وعدم إدراك التغييرات التي طرأت على الحضارة الإنسانية والتنشئة على أوهام الكمال والتأكيد المستمر على الاكتفاء وإيصاد الأبواب عن الأفكار.

بل حتى الحركات الإسلامية تختلف فيما بينها بالشعارات والأسماء، لكنها تتفق بالمنطلقات والرؤى والممارسات، ولا تعرف الشفافية وتؤمن برؤية حيادية مغلقة وترفض آليات المراجعة والنقد وكلها تحيط قادتها بالتفخيم والتبجيل والهالات التي تجعلهم فوق المراجعة والنقد ومن هنا تستمر الأخطاء وتستفحل الانحرافات، ولم يظهر حتى الآن أي اتجاه إسلامي يبرز عظمة التعاليم الإسلامية، مع العلم أنّ الصراع السلمي بين الأفكار والاتجاهات والمدارس الفكرية هو مصدر قوة المجتمعات ولولا هذا التنافس بين الأفكار والثقافات لما حصل هذا التطور.

ولربما الخلل الأكبر في حياتنا بات بسبب التمحور حول السلطة والتزاحم الشديد على الوجاهة والتدافع على النفوذ، وإنّ ارتباط العربان بزعاماتهم العشائرية قد أخر قٌبول العرب الإسلام وظلت القبائل تحارب الإسلام وتصد الناس عنه إلى أن بادر زعماء القبائل، وقد انضموا له حينما صار قوياً كما في عام الوفود، الناس كانوا يسيرون حول الزعامات في الخير أو الشر، وقرارات الزعيم القبلي مرهونة بمصالحه، وحين انتشر نبأ وفاة النبي ارتد الزعماء ومعهم القبائل، الإسلام رفع شأن العرب، لكن البداوة والعصبية لم تستطع الارتقاء بهم.

انظروا إلى أوروبا 25 دولة تتخلى عن عصبات الأوطان وعن الحدود وعن أوهام السيادة والخصوصيات وتتخذ عملة واحدة وتتجه نحو الاندماج ولم يمنعها من ذلك اختلاف المذاهب ولا تعدد اللغات ولا ثارات التاريخ ولا الاختلافات الشديدة في المستويات الاقتصادية وتجاوزوا خلافات الماضي وأنشأوا كياناً عملاقاً، قاموا بالترجيح بين المغانم والمغارم وآمنوا أنه لا يوجد خير محض ولا شر مطلق، الاتحاد الأوروبي أعظم إنجاز بشري إنساني في القرن العشرين أعظم من غزو الفضاء ومن كل الكشوف العلمية.

كما أنني أختلف مع فكرة محاولة الصلح بين الدولة الثيوقراطية والديمقراطية وإخراج الدولة الإسلامية، كما يحاول العديد من الكتاب والمفكرين، منهم لا الحصر فهمي هويدي في القرآن والسلطان، أو محمد الجابري في كثير من كتاباته، فأنا أؤمن أنها محاولات لا تسمن ولا تغني من جوع، هذه الموزة لا يهم لونها أخضر أو أصفر لإنسان جائع، يهمه أن يأكلها وكفى، لا يهمني هل الإسلام أقرب للثيوقراطية أم للديمقراطية أم للبطاطية، بل يهمني التطبيق على أرض الواقع، هل سينفرد الحاكم بتفسير الدين ووضع القوانين أم لا؟ هل سيكون الأساس في المناصب بناء على الدين أم بناء على الكفاءة؟ وغيرها من الأمور التي تعنيني، وحينها لو قلت لي الإسلام أقرب للبطاطية منه للديمقراطية قد أبدأ بالاستماع إليك، كذلك لا أهتم بأفكار الأسبقية مثل أنّ علماء المُسلمين قد سبقوا جان جاك روسو بنظرية العقد الاجتماعي بسبع قرون حينما أقروا كذا وكذا، هذه جمل تدغدغ العقل المُسلم بأننا الأوائل والسابقون وغيرها، والحقيقة ما يهم هو التطبيق على أرض الواقع، نلاحظ أنّ فكرة جان جاك روسو تم تطبيقها، وفكرة المُسلمين لم يتم تطبيقها، كأن أقول أنا اخترعت فكرة الكهرباء قبل 7 قرون ولكني لم أستطع تطبيقها إلى أن طبقها توماس إديسون، ما الفائدة من تكرار هذه الجملة دون عمل؟

المس

ومن المسائل التي ما زالت تؤخر المُسلمين هي مسألة تلبس الجن بالإنس ومسألة السحر، ولما كانت المسألة خلافية بين علماء المُسلمين ولا اتفاق عليها، فلم نترك رأي العُلماء الآخرين ونتمسك برأي العُلماء الذين يقولون بوجود السحر والمس، ولنعرض الرأي الآخر الذي يقول لا تلبس ولا مس ولا سحر على الإطلاق، وأدلة أنه لا يمكن للجن أن يتلبس الإنسان كثيرة، ونبدأ من القرآن الكريم إذ لا دليل بعده ما دام يدعي أحد الإسلام:

1- )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ(“: كرم الله بني آدم بالعقل واعتدال الخلق والعلم وقوة التحكم بالتفكير، فكيف يكرم الله خلقاً، ويسمح لمن هم دونه أن يركبوه ويسوقونه كالحمار، هذا يتنافى مع التكريم.

2- )إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً(: يبين الله أنّ كيد الشيطان ضعيف بالنسبة لكيد وتفكير الإنسان، ولو كان يساويه أو أقوى قليلاً لقلنا بجواز السيطرة على العقل البشري.

3- )وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ(: وفي هذه الآية الشيطان جمع أتباعه ممن عصوا الله، وأخبرهم بأنه لم يكن له عليهم أي سلطان، ولا أحد يقول أنني كنت السبب، أنا مُجرَّد أتيت ووسوست لكم (دعوتكم) وأنتم استجبتم، ماذا أفعل بكم، هل يا ترى لو طلب منكم أحد ما أن تلقوا أنفسكم في البحر لصدقتموه وألقيتم أنفسكم؟ أين عقولكم يا قوم (بصوت الشيطان).

4- )إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ”، “إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(“،) “إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً(: وفي هذه الآيات يقول المولى عز وجل للشيطان: إنّك لا تملك على عبادي أي درجة من السلطان، ولا تستطيع أن تفعل لهم شيئاً.

وبعد القرآن لا يوجد دليل أعلى، ومع هذا سنستمر في عرض الأدلة.

ولكن ما معنى المس في القرآن الكريم، هل هو ركوب الجن أم له معنى آخر؟ نتفق أولاً، هل يمس الجن الأنبياء؟ أي هل من الممكن أن يأتي شخص قائلاً إن الجن قد ركب سيدنا إبراهيم وعامله كالدابة وسيره كما يريد! ليس منطقياً وهذا كلام مُعيب.

يقول القرآن عن النبي أيوب )وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ( هنا المس من المنطقي ألا يكون الركوب، بل هنا معناها الوسوسة، أو أنه حاول أن يضره ويؤذيه، أي معنى ممكن أن يكون إلا أن الشيطان أعزكم الله يركب النبي كما يركب أحدنا الحمار، وهذا لا يليق بالأنبياء، فتكون آية )إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ(، أي الذي يشغله الشيطان من الوسوسة وتكرارها فيشعر بالاختناق والضيق جراء تكرار التفكير، والآية تقصد يقوم يوم الآخرة، إذ لم ير أحد أكلة الربا في الشوارع مصروعين.

أما السنة النبوية ففيها أحاديث تعد على أصابع اليد الواحدة يستشهد بها البعض للدلالة على المس مع أنه يمكن فهمها بطرق أخرى، وعلى صعيد آخر فإن هُنَاك أحاديث أخرى عكس هذه الأحاديث يقول فيها الرسول بوضوح أنّ الجن لا يمس الإنسان، وكل موضوع التلبس لم يعرفه الصحابة ولا النبي ولا السلف، وظهر من بعدهم بقرون، وهذا ما يؤكد أنه مصطنع.

الحساب

كيف سيحاسب الله إنساناً ممسوساً حينما يرتكب معصية، يخرج لنا شيخ قائلاً حسب أحكام الممسوس، وسنسأله من أين جلبت هذه الجملة هل وردت في كتاب الله أم سنة رسوله؟ نعرف أنه قد رفع القلم عن ثلاثة، ولم نسمع أنّ الممسوس من بينهم، فإذا لم يكن لديك في شيء غيبي نص، فلا تذكره.

درست في مصر دبلوماً بعنوان المرض النفسي والإدمان، وكان يضم خيرة أطباء الوطن العربي النفسيين، وكان كبيرهم الشيخ الدكتور النفسي كمال ماضي أبو العزايم، وهو أيضاً شيخ الطريقة العزمية، أي أنه صوفي متمرس في السنّة، فمن المفترض أن يقول كلام المتشددين في وقوع المس، وقد أعطانا كتاباً عن المس كان قد كتبه فيه ملخص حالات المس التي عالجها، وقال أنه من سنوات طويلة -لا تقل عن 40 سنة- تأتيه حالات مصابة بالمس، وحين يبدأ بفحصها تكون مُجرَّد أمراض نفسية، وأضاف بل جزم أنّ الحالات المصابة بالمس هي أمراض نفسية موثقة في كتب الطب النفسي ولها علاج، والأمراض النفسية تفسر كل شيء يمر به من يدعي أنه ممسوس، من تغيير صوت المصاب وحركاته، والأمراض كثيرة ومتنوعة مثل انفصام الشخصية، واضطراب ثنائي القطب، وغيرها.

أيضاً لماذا لا يمس الجن إلا المُسلمين، لم نسمع عن وجوده عند غير المُسلمين إلا في الأفلام، وحينما يصاب غير مُسلم بأعراض مشابهة يذهب ويتعالج عند طبيب مختص ويشفى، ولِمَ لا نرسل مجموعة من العفاريت الجبارة لكي يتلبسوا أعداءنا ويُؤدبوهم! ومن شدة إيمان الناس بهذه الخرافة، أُرسل صديق لي إلى مشعوذ طلب أن يساعده بأن يتلبس جن ما ضابطاً يقف على أحد المعابر لكي يستطيع الهرب دون أن يقبض عليه، ودفع مبلغاً مرتفعاً من المال، وبعد مرور شهر راجع صديقي المشعوذ سائلاً إياه ماذا حصل، فقال المشعوذ، لقد أرسلنا جناً قوياً ليتلبس الضابط على المعبر، لكن للأسف الضابط مُحاط بمجموعة من العفاريت القوية التي حمته! عاد صديقي مُصدِّقاً وسعيداً ولم يفكر حتى بطلب إرجاع المبلغ الذي دفعه! إذ أن هذا المجال من المجالات المربحة للدجالين بكثرة.

السحر

أما عن أفعال السحر التي يقوم بها السحرة والمشعوذين، فيقول الله تعالى في القرآن الكريم عن سحرة فرعون حينما قاموا بالسحر )قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ( ونستنتج من هذه الآية الكثير، منه على الرغم من أن سحرة فرعون هم أعظم السحرة على مدار التاريخ وكانوا في أمة مختصة بالسحر، فأرسل الله نبيه بآيات[8] لكي يقنعهم، إلا أن الله سبحانه وتعالى وصف أنّ ما قاموا به رغم مهارتهم في السحر بأنه خداع البصري فقد خدعوا أعين الناس، ثن إذا كان السحرة لهم قدرات خارقة ويستعينون بالجن، فلماذا لم يستخدموها للنجاة من صلب فرعون؟ بل قالوا إن فرعون يُـكرههم على ممارسة السحر! )إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ( فإذا كان هذا الإكراه يتم قبل أن يقابلوا موسى، فلماذا لم يستعينوا بسحرهم للقضاء على فرعون؟ أو على الأقل للهرب منه!، هنا يبدو واضحاً أنّ فرعون كان يعرف خدعهم وحيلهم، ويعلم تماماً أنّ لا علاقة لها بالعفاريت أو غيرها من خوارق الطبيعة، وهذا ما جعله المُسيطر عليهم. وقد وصف الله سحرهم بأنه سحر عظيم وبه سحروا أعين الناس، وهذا دليل على أنّ السحر العظيم هو مُجرَّد خدعاً بصرية، وهذا ينفي وجود شيء أقوى من الخداع البصري.، وأخيراً حينما رأى سحرة فرعون ((سحر)) سيدنا موسى الحقيقي، سجدوا لله، وهذا يعني أنهم يرون لأول مرة سحراً حقيقياً، ووفق خبراتهم كل السحر عبارة عن خدع بصرية لا أكثر.

ولكننا قرأنا في السنة أنّ الرسول قد سُحر، فهل فعلاً تم سحر الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد في كتب الصحاح؟

قال أبوبكر الرازي الجصاص في كتابه أحكام القرآن عن هذا الحديث أنه من الدسائس، كما رفضه غيره من الأئمة كالإمام محمد رشيد رضا في تفسير المنار، وسيد قطب وغيرهم، وهذا الحديث لا يتناقض مع آية واحدة فحسب في القرآن.. بل مع آيات كثيرة منها:

  1. الآية ٨ من سورة الفرقان: )وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً(
  2. والآية ٤٧ من سورة الإسراء: )إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً(

وفي الآيتين يُبين الله أنّ أعداء الرسول اتهموه بأنه رجل مسحور في محاولة لإبعاد الناس عنه، فكيف نقبل أن نرمي التهمة نفسها عليه صلى الله عليه وسلم! أي أنّ الله يخبرنا بأنّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون مسحوراً أبداً، ولكننا نأتي ونقول لا والله يا رب، ألا تعلم! لقد سُحر الرسول وكان لا يعلم ماذا يفعل!

وإن الوقوف عند حديث ذُكر في صحيح البخاري ومسلم لا يخرجك من الملة، إذ أنك ستقف أمام الله بنية واضحة وحب صادق للرسول صلى الله عليه وسلم وسيسألك وسيثيبك عليها، كما لا يُخرج كل العلماء الكبار الذين وقفوا عند بضع أحاديث في كتب الصحاح، ولعل الشيخ محمد الغزالي في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، كان واضحاً من رفضه لمسألة السحر والمس، ورد على كل الحجج التي يستشهد بها الطرف الآخر، كما رد من قبله من العلماء على نفس الحجج.

الخوف

نعود للقرآن ومع آية )فَأوجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ(، ولا أحد في هذا الزمن ينكر دور هرمون الأدرينالين الذي يدفع الجسم إلى أعلى طاقاته استعداداً لحالة التصادم أو القتال، ولذلك يتعمد الساحر جعل مقره في جانب بيت مهجور أو بالقرب من المقبرة أو أي مكان مريب آخر، حتى تشعر بالخوف بمُجرَّد أن تفكر في مقابلته، وهم أشهر المروجين للبيوت المسكونة لإثارة الرعب عند الناس، ولكن لماذا يحتاج الساحر إلى الخوف لتشتيت الانتباه من الأساس؟ ولماذا اختار الخوف من بين كل الصفات الأخرى.

يعود هذا إلى أنّ السحر في الحقيقة ليس إلا خداعاً بصرياً وألعاب خفة )سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ(، والساحر يحتاج إلى تشتيتك ليتمكن من تنفيذ خدعته البصرية أو العقلية، وليس هُنَاك مشتت انتباه أفضل من الخوف. لذا اختيار التشتيت بالخوف سيزيد من فرص مرور الخدعة أمام الشخص الخائف، وهذا ما فعله سحرة فرعون مع سيدنا موسى، ففي الآية خاطب الله سيدنا موسى أثناء وقوعه تحت تأثير السحر وأخبره ألا يخاف، لأن سلاح الساحر هو الخوف، والخوف هو ما يؤثر في العقول، وسؤال آخر كيف استطاعت الشياطين والتي من المفترض أن تهرب عند ذكر الله أن تؤثر على نبي الله موسى وقت نزول الوحي، ويمكن الجواب في أنّ السحر لا دخل له بالشياطين من قريب أو بعيد، وهو ليس إلا مُجرَّد خداع بصري.

وقد نبهتنا سورة الفلق إلى عدة أمور نستعيذ منها لأنه يمكن تلافيها بالعقل وبالحكمة وبالقرب من رب الفلق ومنها: شر ما خلق، شر غاسق إذا وقب، شر النفاثات في العقد، شر حاسد إذا حسد.

هذه أمور يمكن تجنبها بسهولة، بعكس أمور مثل الموت والشيخوخة لا يمكن تجنبها مهما فعلت لأنها أعلى من قدرات الإنسان، أما الأمور غير الخارقة لقدرات الإنسان مثل الليل والوحوش والحاسدين والساحرات أمر سهل يمكن تجنبه.

النفاثات في العقد، هم الساحرات (بالاسم وليس الفعل)، وهذا معناه وجود نساء ينفخن في العقد وليس معناه وجود سحر حقيقي، فالنفث هو خداع بصري ونفسي للخوف والترهيب لكي تنجح خطة الساحر، وهنا أيضاً قد تكون النفوس الشريرة التي تعمل للإيقاع بين الناس والنفخ في المشاكل والاستعاذة من شرور هؤلاء، ولو كان السحر أمراً خارقاً وخارج قدرات الإنسان (جن مثلاً) لما حذرنا الله منه، لأنه سيكون خارج قدراتنا المعهودة، وقد أمرنا الله أن نستعيذ منه لأنه أمر نفسي، أمر روحاني، أمر عقلي، يمكن التخلص منه بسهولة، فخدع الساحرة وحركاتها البهلوانية ونفثها في العقد أمر لو تعوذنا منه لمسحناه من عقلنا، لأنها لا تعدو كونها وهماً وبرمجة يحاول الساحر إدخالها في العقل البشري الضعيف، وهذا ما يجعل الأذكار تحمينا من السحر، فعندما ترى أمامك ما هو غير مألوف للمنطق، ويعجز عقلك عن تفسيره، ويستثير فيك غريزة الخوف، وتتلاشى أمامك خيارات الهرب والقتال، يأتي دور ذكر الله، الوحيد المستحق للعبادة والخضوع، وهو أعظم من هذا الخداع الذي تراه، وأنّ خدعة هذا الساحر لا تقدم بين يدي علم الله العلي القدير، وأنّ حمايتك بيده وحده وهو القادر على كل شيء، فمما تخاف والله يحميك ويحرك الكون ويذهب السحر، هذه الفكرة العقلية، تدحض فكرة الساحر المخيفة، فيحدث الاتزان ويذهب سحر الساحر.

وبالمناسبة فإن الحسد كما هو ظاهر في القرآن قد ذكره الله فقط للتنبيه من هذا الخلُق السيء، لأن القرآن يعالج مشاكل القلوب، وإنما لا وقع حقيقي من تأثيره، ولعلنا نتساءل، من يستحق الحسد، أنت أم بيل جيتس؟ بالطبع بيل جيتس ومع هذا أمواله تتكاثر بلا هوادة، ولم يذكر الحسد في السنّة إلا مرتين فقط لقلة أهميته وتأثيره على حياتك، أيضاً لا أحد يمكن أن يخبرك أنك محسود غير الرسول، فلذلك مهما أصابك عليك الأخذ بالأسباب.

السم

لماذا يرتبط السحرة بالعطارة والأعشاب، لماذا نسمع بمصطلحات مثل (السحر المأكول والسحر المشروب)، وعلى مر التاريخ الشعوب التي اشتهرت بالسحر، هي نفس الشعوب التي اشتهرت بالسموم، والفراعنة هم أبسط مثال! لقد خاف العالم من أسطورة لعنة الفراعنة وخافوا دخول وسرقة الأهرامات، ونسبوها إلى السحر والشعوذة، وقد عثر العلماء على بكتيريا متحفظة وفطريات متحوصلة وغازات سامة وهي التي كانت مسؤولة عن تلك اللعنة، فاللعنة والسحر المأكول أو المشروب، ليسوا إلا سماً مأكولاً وسماً مشروباً ومواد كيميائية مُختلفة، ومعظم السموم يصعب التعرف عليها إلا من قبل المختصين.

ومن الممكن أن يدخل السم إلى الجسم عن طريق الجلد أو التنفس أو الشرب، وكما للنشّال المحترف يدٌ خفيفةٌ خفيّة، فإنّ للساحر المحتال قدرة ماكرة خفيفة على إيصال السم إلى الضحية دون أن يشعر، فلبعض أنواع السموم أعراض جانبية غريبة، ومنها ما يُسبب أعراضاً ذُهانية تجعلك تعيش مشهداً من فيلم رعب، إذ قد يشعر المصاب بالهلع، ويتكون لديه شعور باقتراب الموت، ثم تنقبض عضلاته لدرجة تقوّس عموده الفقري كما في حالات التسمم بالمركبات الفسفوعضوية Organophosphorus التي تؤثر على عمل مستقبلات الأعصاب وتوقف كل عمليات الجسم كما لو أنها غاز أعصاب سام، ويبدأ العرق بالتصبب، ويفقد المصاب القدرة على الحركة مع شعوره بالتعب الشديد والصداع ويفقد تحكمه في عضلات التبول والتبرز، وتنقبض حدقة العين وتنهال الدموع ويمسي التنفس صعباً ثم يحدث شلل الجهاز التنفسي والتقيؤ وعدم القدرة على النوم إذا كانت الجرعة غير قاتلة ونوبات ذهانية مختلفة، مع أنّ المصاب في كامل وعيه وكامل إحساسه بالألم.

وإني لأظن أني لو لم أكن قد درست هذا الأمر في تخصصي، ثم رأيت سلسلة الأعراض هذه أمامي، لانحنيت أقبل أرجل السحرة بحثاً عن الماء المبصوق فيه لكي أشفى.

الأقوى

ونسأل السؤال المهم: من أقوى في هذا العالم، الإنسان أم الجان؟

والإجابة سهلة ومباشرة من القرآن إذ يقول الله تعالى: )قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسلمينَ(، سيدنا سليمان قال لحاشيته من يأتيني بعرش ملكة سبأ )قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ(، أي قفز عفريت والعفريت هو جني يمارس رياضة كمال الأجسام، وقال له أنا أحضره لك قبل العصر، وفجأة قفز رجل لديه علم من بني آدم وليس جنياً وقال: )قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ(، أي دعك من هذا العفريت المتباهي، أنا سأجلبه لك بسرعة أكبر.

من الآية هذه نفهم أنّ الإنسان بعلمه وعقله، أقوى من الجن، ولو استخدم عقله دائماً لهزم الجن دون جهد، ولا كلام بعد كلام الله، والعبرة بقوة الدليل لا بكثرته، بالإضافة إلى أنّ الله خلق الإنسان وأمر ملائكته وجنّه بالسجود له، لأنه صاحب أعلى الدرجات، وأقوى الإمكانيات، ثم يأتي شخص مدعياً، أنّ الجن أقوى ولديهم إمكانيات تَفُوق البشر، ولا أعلم أي قرآن قرأ، لأن القرآن الذي أعرفه واضح جداً.

الخرافة

إنّ الأمور الغيبية كأن الله واحد أحد، والملائكة موجودون وغيرها لا يمكن أن يأتي أحد بخبرهم إلا الوحي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي لو أتاني شخص وأخبرني أنه يوجد خارج الجنة باب طوله 2 متر بعرض 40 سم، سأوقفه فوراً وأسأله من أين جلبت هذه المعلومة؟ فإما أنّ الرسول أخبرنا بهذه المعلومة مسبقاً أو أنك تؤلف من عقلك، ولا يعقل أن يكون قد نزل عليك الوحي أو كنت في الجنة ورأيت بعينيك!

وعلى هذا نسأل المشايخ بخصوص الحركات الخاصة بالرقية الشرعية من أين جلبتموها؟ مثل جلب حوض دائري دون زوايا حتى لا يختبئ الجن بها وملؤه بماء ساخن وتغطيس المريض فيه، من أين جلبتم هذه الخوارزمية؟ هل هو اختراع أم من السنة؟

إذا الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا عن هذا الأمر الغيبي، والموضوع ابتكار منكم، فلعنة الله على الكذب، أم لديكم جن مخبر سري أخبركم عن سر هذا السلاح للقضاء على زميله الجن المشاغب! من أين جلبتم وضع ورق الزيتون ورشة الملح وغيرها من الحركات إن لم تكن هذه الأمور الغيبية من الله عبر رسوله فقط؟

وحينما رأيت ما يسميه الناس بالعمل أو الحجاب وهي الورقة التي يكتب عليها الساحر سحره ويخفيها في مكان سحيق حتى لا يجدها شخص ويمزق السحر والعمل، تساءلت كثيراً، فحينما يكتب المشعوذ على الصورة بخط سيء يصعب فهمه، هل الجن كلهم متعلمين ويقرؤون؟ هل يعرفون أنواع الخطوط من رقعة ونسخ وكوفي!

كيف يفهم الجن الشيفرة ويفسر الكلام المكتوب ويتجاوز عن الأخطاء؟ لو أراد المشعوذ في الورقة أن يكتب “اجعله بطلاً”، لكن شاءت الأقدار وأخطأ إملائياً وكتب “اجعله بصلاً”، ماذا سيحدث؟ هل سيفهمها الجن وينفذها بالكتابة الخطأ، ونحن نعلم أنّ أغلب المشعوذين عبارة عن أشخاص فاشلين في المجتمع لا يعرفون من الكتابة إلا خربشاتها! ولو أخطأ المشعوذ في الكتابة ونفّذ الجن الخطأ هل يوجد تراجع؟ فبعد أن يجعله الجن بصل، هل يمكنه أن يعيده إنسان على الأقل، لا نريده بطلاً، فقد أرجعه إنساناً، وماذا عن الهندي الذي يكتب بالهندية واللاتيني الذي يكتب لاتيني، وهل يفهم الجن كل اللغات، أم لكل لُغة مختص يتم استدعاؤه ويتعاونون فيما بينهم! ماذا لو فهم الجن المكتوب دلالياً بالخطأ؟ قلنا له أعطه قرشين حتى يتزوج، خرج الجن وبعت له قرشين سمك، مهم جداً هذه الأمور البسيطة، فأنا مبرمج ولا أحب الأخطاء التقنية.

ونرى في كثير من صور العمل والحجاب أمور دلالية يستخدمها الساحر مثل وضع القفل، والقفل بشكله الحالي اختراع جديد نسبياً، ولكن ماذا كانوا يستخدمون قبله؟ خيط؟ أي حينما يضع الساحر قفل في الحجاب أو العمل، ماذا يفهم الجن منه أنه قفّل (أغلق) عليه، هل يفهم قفّل باب البيت عليه، أم قفّل باب المال عليه، أم قفّل السعادة، أم ماذا، ولو وضعنا 100 دولار في رباط مطاطي (مغيطة)، هل يفهم الجن أنه مطلوب إعطائه مئات الدولارات مضاعفة؟ أي هل يفهم الجن الدلالة، أم هي كلمات معرفة مسبقاً في شيفرة السحر، قفل تعني نكد، مشط تعني مرض، الأمر مربك ومتداخل وبحاجة إلى توضيح ووضوح.

حينما يبحث الجن في هذه الكرة الأرضية عن شخص ليطبق السحر عليه كيف يجده؟ وماذا عن التشابه كما في التوأم، أو شخص مختبئ أو مسجون في سجن عربي لا يعرف مكانه إلا الله، أو كتب الساحر اسمه بالخطأ، أو صورة الشخص وضعها الساحر بلحية وصديقنا قد أزالها، أنّى للجن حل كل هذه المشكلات، هل يملك الجني آليةً مُتَفوّقةً في معالجة الصور كما صاروخ التوماهوك أو أسرع؟

ونرى في إحدى الحجب المنتشرة صورة فتاة على أنفها خط بالشطب، ماذا يعني؟ جيوب أنفية؟ أم نزيف؟ أم أي مرض؟ هل يوجد بين السحرة والجن دليل للأمراض يتبعونه؟ مثلاً خطين فوق العضو أي استئصال، خطين تحته تعني التهاب، مع العلم أنّ هناك مئات الأسئلة التي يمكن أن نسألها وبلا إجابة لأن الأمر كله دجل في دجل.

تأثير بارنوم

أنا لا أعرف من تكون لكن لدي إحساس متنامي أنك تحاول الظهور كشخصية قوية لتخيف من حولك، رغم أنّ قلبك يبدو من بعيد كقلب أبيض كبير، كقلب طفل لاه، ولديك نزعة قوية تجاه تحمل المسئولية عن الآخرين وخصوصاً من تحب، أشعر أيضاً أنك أمام مفترق طرق خطير ولا تستطيع اتخاذ القرار المناسب، أي الطريقين تسلك، طريق العقل أم طريق القلب، كما أنه لدي ذلك الإحساس حول تعرضك لحادث في الزمن القديم، هل هو حادث مع الأقارب؟ أو ربما كان له علاقة بشخص تحبه كثيراً؟ لا يمكنني التحديد بعد! إلا أنه عليك أن تحذر من شخص يتربص بك يريد شراً لك مع أنه يظهر المودة والمحبة اتجاهك، لا يمكنني الإفصاح عن المزيد لأني أكره أن أفرق بين الأهل.

هذه الجمل السابقة لابد أنّ تنطبق واحدة منها على الأقل عليك، بل وستنطبق عليك وعلى غيرك بكل تأكيد! إنّ هذا الأسلوب هو أحد أساليب المشعوذين الدجالين، هذا الأسلوب يُطلق عليه في علم النفس بتأثير فورير أو القراءة الباردة أو تأثير بارنوم وهو ظاهرة نفسية مُثبتة بالدراسات والأرقام وآلاف التجارب حول العالم تُشير إلى ميل الناس إلى تصديق كلام المنجمين والإيمان بوصفهم لشخصياتهم، وهذا ينبع من كون الأوصاف التي يستخدمها المشعوذون في العادة غامضة وعامة لدرجة أنها تنطبق على كل الناس، ومن أسباب نجاحها هو الثقة المُسبقة لدى الزبون في امتلاك الساحر قوة خارقة تجعلهم على استعداد لتصديق كلماته، ثم رغبتنا المُلحة في فَهم مُحيطنا، فبعد قول الساحر لجمل كالتي سبق ذكرها، يبدأ الزبون بمساعدة الساحر وإمداده بالمعلومات عن شخصيته وماضيه وأحداثه اليومية دون أن يشعر! ثم يقدمها الساحر إليه مرة أخرى ولكن بصيغة مختلفة فيظن الزبون أنّ الساحر عرفها بقدرته الخارقة! يحدث ذلك تحت تأثير الانبهار والخوف الذي بناه الساحر لدى الزبون مما شتت انتباهه وقلل تركيزه ليلاحظ فعل الساحر الحقيقي.

إنّ في حياتك شخص اسمه به حرف الحاء هو من سيفسد عليك حياتك، والجميع يعلم أنّ اسم محمد وأحمد من أشهر الأسماء على مستوى العالم وجميعنا نعلم أشخاص بهذا الاسم. الأمر يعتمد على الإحصائيات المنتشرة، فبعد أن يتمتم الساحر ببعض الكلمات، يتوهم الزبون أمام الساحر أنّ الساحر بقوته قد علم الاسم الذي أخبره به، متناسياً مع الخوف الأمور البديهية، بل حتى لو أخبره الساحر باسم متوسط الشهرة، فسيبحث الزبون عن هذا الشخص في حياته، يقيناً منه بصدق الساحر، وهذه من أساليب الساحر الماكرة، أن يشعرك أنه يعرف الغيب، إنها طرق نفسية يتوارثها السحرة عبر الأجيال ودعني أذكرك أنّ الله وحده من يعرف الغيب، وإيمانك بأنّ أحدٌ يعرف الغيب غيره هو شرك بالله، ونحن نعلم أنّ الجن أنفسهم لا يمكنهم معرفة الغيب بدليل القرآن إذ قال في وفاة سيدنا سليمان: )فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ(، أي أنّ الجن لم يعرفوا بموت سيدنا سليمان إلا بعد تحلل العكاز الذي كان يتعكز عليه بفعل السوس! سنوات طويلة بل عقود لا يعلمون الغيب، ولا أعلم كيف لمسلم أن يخالف صريح هذه الآية تحت أي حجة كانت.

لماذا باقية

ولكن، لماذا رغم كل الحقائق في موضوع المس والسحر نراه كباقي المواضيع المنتهية لا ينتهي؟ السبب يعود أنّ لهذا الموضوع خصوصية عالية تميزه عن غيره، فهو مرتبط بمنظومة ناتجة جراء هذه الأعمال، فكثير من الفئات مستفيدة من أي موضوع من المواضيع المرتبطة، فمثلاً في المس هُنَاك الدجالون وهُنَاك العطارون وقرّاء القرآن الذي لا يصل حناجرهم والمتابعون في المنازل وغيرهم من المستفيدين الذين يستفيدون جيداً من المشروع، وأي موضوع فيه عائد مالي لن يموت ما دام هُنَاك مصلحة حقيقية لأفراد كل همهم الربح، فضلاً عن الراحة النفسية والحلول السحرية التي يقدمها هذا الأمر للمرضى الباحثين عن علاج.

قصة قصيرة

أصيبت فداء بحالة من التعب والإغماء وفقدان الشهية ومشاكل في النطق، عرضتها أمها على جارتها فقالت لها إنّ بشرتها صفراء وهذه أول أعراض المس، ونصحتها بالشيخ أبو مهند.

ذهبت للشيخ أبو مهند فنظر لعينيها فوجدهم بلون بني فقال هذه من أعراض المس، سألها عن الحركة فقالت له أنّ يديها تتيبسان أحياناً وخصوصاً حينما تقرأ القرآن، سألها عن الطعام، فقالت له أحياناً تواجه مشاكل في البلع، فقال لها بأن هذا سحر مشروب وضعته إحداهن لها وخدعتها ودليل ذلك هو تعثرها في البلع لأن السحر في معدتها ويجب أن يتم إخراجه.

نظر الشيخ أبو مهند إلى جسمها فرأى عدم التناسق وانتفاخ القدمين، قال لها هذا جن من نوع جن الأقزام أو السحاب وهو يعرف أنه سيخرج من قدميك ويجب أن نبدأ بالرقية الشرعية، بعد عدة حركات وطقوس أشربها مادة مقيئة ليخرج السحر من جوفها، القليل من عصير ليمون على عرق السوس على ورق زيتون وبعض الأمور السرية التي فتحها الله على عائلته من أيام جده العارف بالله وأيضاً يُشاع أنّ جده من نسل الإمام ابن ماجه.

بعد سنوات طويلة من تحسن حالة فداء وسوئها أحياناً أخرى، ومحاولة استخدام علاجات دينية متعددة وتعليمات شديدة، أغمي على فداء واضطر أهلها لأخذها إلى المستشفى، وبعد تحويلها إلى مستشفى كان بالصدفة قد زاره فريق ألماني، تم تشخصيها بمرض مشهور اسمه مرض ويلسون، يتلف الكبد والأعضاء وأعراضه متطابقة مع أعراض فداء، تعب وإغماء ومشاكل البلع وانتفاخ القدمين ولون بني في القرنية واصفرار البشرة، وبعد عدة فحوصات تأكد الأطباء من تشخيصهم، وقد أبلغ الأطباء أنّ حالة فداء في المراحل الأخيرة سيعطونها دواء يحسن من حالتها لكن مصيرها الموت لأنهم تأخروا كثيراً.

تناولت فداء الدواء لعدة أشهر تحسنت فيهم ثم فارقت الحياة، ذهبت عائلة فداء إلى الشيخ أبو مهند لمحاسبته، فثار فيهم لأنه كان في آخر مراحل العلاج، وأنّ أهلها المتخلفون منذ أخذوها من بين يديه المباركتين وتركها العلاج عنده لأشهر قد توفيت، وأنّ الغلط عليهم وعلى الأطباء، وهذه قصة للأسف حقيقية تابعتها بنفسي مع اختلاف الأسماء.

مدة الحمل في الإسلام

مدة الحمل في الإسلام هي ما أقرها العلم، وهي 280 يوماً من آخر يوم طمث، أي تسعة أشهر، والتي قد تزيد أسابيع محدودة ولا يوجد أي حالة حمل استمرت سنة أو أكثر كما يقول فقهاء الإسلام.

لعل أحدنا يتعجب من الداعي لكتابة هذا الأمر الذي يعرفه أبسط الناس الآن، والداعي للأسف هو أقوال العُلماء والمذاهب، فقد اختلفوا في أقصى مدة تمكثها المرأة وهي حامل والأقوال كالتالي [185]:

  1. تسعة أشهر، وبه قال أصحاب المذهب الظاهري.
  2. سنة واحدة، وهو قول محمد بن عبد الحكم، واختاره ابن رشد.
  3. سنتان، وهو مذهب الحنفية.
  4. ثلاث سنين، وهو قول الليث بن سعد.
  5. أربع سنين، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وأشهر القولين عند المالكية.
  6. خمس سنين، وهي رواية عن الإمام مالك.
  7. ست سنين، وهي رواية عن الزهري ومالك.
  8. سبع سنين، وبه قال ربيعة الراي، وهي رواية أخرى عن الزهري، ومالك.
  9. لا حد لأكثر الحمل، وهو قول أبي عبيد، والشوكاني، وقال به من المعاصرين: الشنقيطي، وابن باز، والعثيمين.

 وقد طعن ابن حزم في صحة الأخبار التي اعتمد عليها العُلماء فقال: “وكلُّ هذه أخبارٌ مكذوبةٌ، راجعة إلى مَنْ لا يَصدق، ولا يُعرف من هو، ولا يجوز الحكم في دين الله تعالى بمثل هذا”

وقد استدل من قال من الفقهاء بامتداد مدة الحمل إلى سنوات كثيرة ببعض الأحاديث والآثار، غير أنها ضعيفة لا يثبت بها مثل هذا الحكم، وقد تتبعها ابن حزم رحمه الله بالتضعيف والإنكار [185]، وهذا ما أقرته أيضاً المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية.

وعلى العكس فإنّ القرآن كان واضحاً في موضوع الحمل والفصام، بل وحدد أقل مدة حمل علمية لليوم هي 6 شهور، وما ظاهر من خلافات العُلماء هي أحاديث ضعيفة ومحاولة إنقاذ نساء وعائلات من الانفصال وهذا ما لا يجوز، فالمسألة ليس فيها نص من القرآن أو السنة حتى نقول تصادم الدين مع العلم، إنما هي اجتهادات علماء المرجع فيها إلى الأطباء.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: “وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عُرف من أمر النساء”، وحينئذ يمكن الاعتذار عن العُلماء الذين قالوا بجواز المدة الطويلة، بأنهم بنوا ذلك على أخبار ظنوا حينئذ ثبوتها، وهذا غيض من فيض مما سببه بعض علماء الإسلام من جهل وتضارب وإلحاد البعض لأنهم تدخلوا فيما لا يخصهم، أنت عزيزي الشيخ، لِمَ تُقحم أنفك في أمور الطب وعلوم الكيمياء لتضع فتواك فيها بغير علم!

الدعاء والقضاء

يرفع المُسلمون أيديهم للدعاء منذ عقود طويلة كي ينصرهم الله على أعدائهم، ومع هذا نجد أنّ أعداءهم يزدادون قوة وجبروتاً أكثر وأكثر بعد كل دعاء، ومن المفترض أن يعترف المُسلمين بواحدة من اثنتين:

  1. إما في الملياري مُسلم لا أحد استجاب الله له! حتى الصالحين وشفعاء ليلة القدر والأولياء والأئمة، كلهم المولى غير راضٍ عنهم، فآيات ادعوني استجب لكم، وإذا سألك عبادي عني، وغيرها من الآيات لا تنطبق عليهم، وكلهم في الميزان عند الله لا قيمة لهم.
  2. أو أنّ المُسلمين قد فهموا الدعاء بشكل خطأ، وطلب النصر من الله شي مُختلف غير رفع اليد والطلب بالشكل الحالي.

وعلى مدار التاريخ، أكثرت جماهير بني إسرائيل من الدعاء دون عمل، فلم يُستجَب لهم، وقد كتب الله عليهم القتال فنكلوا، فنكّل الله بهم، وقد جرى معهم هذا حينما كانوا الأفضل في العالم، والمُسلمون اليوم -الأسوأ حالاً بين الأمم- يُكثرون من الدعاء دون أن يفكروا في العمل بعد الدعاء، يريدون أن يرسل الله لهم مفاعل نووي لينتجوا الطاقة، وأن يرسل الله لهم مطرقة ثور ليهزموا أعداءهم، أفيقوا فإن الله لا يعطي للأمة المتقاعسة إلا الخيبة.

وقد صنع الغرب مكوك الفضاء بعد عقود من العمل المضني والعُلماء العباقرة والخرائط الهندسية والحسابات الرياضية وهم لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه، اعتمدوا على ما منحهم الله إياه من عقل وانطلقوا، ولكن ماذا لو بعد بناء هذه الآلة الضخمة المكونة من ملايين الأجزاء نسي أحدهم وأخطأ ولم يضع برغياً صغيراً في مكانه المناسب في غرفة الوقود؟

هل سينطلق المكوك؟ بالطبع لن ينطلق ولو انطلق فسيحدث خلل ما، إنها قوانين كونية تسري على الجميع بلا استثناء، ولكن ماذا لو صنع المُسلمون هذا المكوك ونسوا هذا البرغي أيضاً، هل سيحل دعاؤهم المُشكِلة؟ هل سيتدخل الله ويضع البرغي لهم؟ قطعاً لن يحدث، بالدعاء قد يشعل الله بصيرة أحدهم مسبقاً ألا ينسى، لكن الله لا يتدخل لأجل كسالى متنطعون دون علم وصبر.

يتقدم أحدنا إلى وظيفة ويفشل ويقول أنّ الله لا يريد، ولكن ماذا لو سرقه لص وأخذ نقوده وهرب، هل سيقف ويقول أنّ الله يريد هذا؟ بالتأكيد سيلحق اللص وسيحاول أن يغير القدر ويكتب ما يريد، في النقود لا نسلّم للقدر، أما في فشلنا نرمي المسؤولية على الله، وقد بت أؤمن أنّ الله يتدخل في هذا الكون في إطار بسيط، فقد خلقه بسنن ثابتة وأطلقه، ولا يُحابي فيه مُسلم أو كافر، ويُمسي القدر من الأصل مكتوب هكذا! كما لو أنّ لدينا آلة زمنية وعدنا إلى الماضي وغيرناه، فسيبدو لمراقب خارجي أخير كما لو أنّ القدر مكتوب هكذا منذ البداية، إنها معضلة الجد ولكن بصورتها النهائية.

رسم توضيحي 68 هل سيستجيب الله لدعائي أم لدعائك، للمزارع الذي يحتاج المطر أم لعامل البناء الذي لا يرغب به.

فقه اللُغة

فقه اللُغة الغربي أو الفيلولوجيا هو علم تتبع الكلمات، وهو علم مليء بالظنيّة لأن التنقيب في أصول الكلمات أمرٌ مُعقَّد ومتداخل، ويُحذر إدوارد سعيد من محاولات صغار الفيلولوجيين اعتبار مقولاتهم مقدسةً ومرجعاً نهائياً، إذ من شأن ذلك أن يُحل الفيلولوجيا محل الحقيقة، أما هنا فنقبل من بعض المتفلينين العرب ما يقوله غير المختص في معنى ظني لحروف يجمعها حريصاً على مخالفة نصوص القرآن، ليقال عنه إنه يتكلم في (الفيلولوجيا) مع أنه ليس بفيلولوجي ولا لغوي ولا متسنن بما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف حتى كيف يقرأ القرآن.

في نظر أحد المتحذلقين يمكنك مثلاً أن تفسر جملة “مر من هنا” بأن المرور من المرارة، والمرارة تملأ الفم بطعم سيء، فهي من هنا تعني: ذاق طعم النساء فلم يعجبه، [183].

ويستطرد الفيلولوجي في تفسير )والفجر وليال عشر والشفع والوتر( الفجر هو الانفجار العظيم، والشفع والوتر هما الهيدروجين والبروتون، حسناً ما هو مرجعك الفيلولوجي لهذا الأمر! كيف تدعي العلم دون مرجع، معتقداً بذلك أنك أمهر من سيبويه والمتنبي والصحابة العرب أيام قريش والذين هم من أسسوا اللُغة العربية.

وبالقياس إنّ )قل هو الله أحد( تعني أنّ الله خلق الدنيا يوم الأحد، الله الصمد تعني صامد يا حبيب، ولم يكن له كفواً أحد تعني أنّ الله يعطي الكفار كفوفاً يوم الأحد، وهذا التفسير يفعله غيري من المتفيلوليجين، فلماذا تعترضون على تفسيري! وإن لم يعجبك هذا التأويل انبرى لك من رعاياه من يقول لك: إنه رأيه، فهل تحجر على رأيه، فليكن هذا رأيه ولكن فليبتعد برأيه عن القرآن، إذ لا يستوي رأي جاهل في اللُغة مع رأي الطبري والقرطبي وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء وأضرابهم.

سيقولون الصلاة بمعنى الدعاء وليست الصلاة الحركية المعروفة، فتسألهم ولماذا إذن كان يصلي الرسول مع الصحابة، مئات آلاف الناس رأوا الرسول وصحابته يصلون فصلوا مثلهم، ورآهم من بعدهم ملايين الناس وتناقلوها، إنها سنّة رآها جمع من الناس عن جموع غيرهم وتناقلوها، فلا مجال لأن تكون مدسوسة.

فيصمت ويقول لك: إنّ السنة لا قيمة لها، وكل ما فعله الرسول كان خاصاً بزمانه ولا يجب علينا اتباعه، فترد عليه إنّ كانت الصلاة في الإسلام غير حركية بل شفهية بالدعاء كما تدّعي فما حاجة الدين لكل هذه المساجد التي ذكرها الله مراراً وتكراراً وكررها الرسول وصحابته والسلف من بعده، ما حاجتنا للأذان وغيرها من التعليمات، لصلّى كل مُسلم في بيته حسب الوقت الذي يناسبه.

إن الشجرة في القرآن هي الشجرة في السنّة، هي الشجرة في الشعر، هي الشجرة التي تعرفها اليوم، أما من يخبرك أن الشجرة في القرآن مقصود بها الأنثى، وغيرها من الاستنباطات دون أصل واضح فلا تقبل كلامه، لأنه من غير المنطقي أن يتحول القرآن العربي المفصلة آياته إلى كتاب طلاسم لا يفهمه العرب أهله، وهم بحاجة إلى من يخبرهم: ما هي الشجرة بالضبط.

الموت مرة أخرى

على ما يبدو أنّ الإنسان حينما يموت فإنه ينقطع تماماً عن الدنيا، ولا شيء يربطه بها بعد ذلك، وأما أحاديث تحسين الميت مثل إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث هي من باب التحفيز على صناعة الخير، إذ يشجعك الدين على مُمَارسة الخير دائماً ويستغل كل موقف ليبقيك مرتبطاً بالمبدأ الأسمى ألا وهو فعل الخير، ولنفترض أنّ شخصاً ما قد مات وكان مصيره النار، هل يمكن لدعاء أحدنا أن ينقله إلى الجنة؟ لا يمكن بأي حال من الأحوال، إن كنا مع الأمر فإن أكثر ما يمكن الدعاء أن يصنعه هو تخفيف العقوبة، فلا يمكن أن يكون شخص قد قتل وله عقاب ٢٥ سنة سجن أن تقلل من سنوات العقاب كثيراً لو تبرعت لمدير السجن بالنقود، يمكن أن توفر له خدمات أفضل ولكن العقوبة الأساسية تبقى كما هي، ولله المثل الأعلى ولا تشبيه.

 ولنفترض أنّ هذا الشخص كان ذاهباً إلى الجنة، هل إضافة المزيد من أشجار النخيل لشخص يتنعم في ملكوت الله أمراً ذا قيمة! إذاً فكل دعاؤنا عائدٌ علينا بطريقة غير مباشرة وهو فقط لاستمرار تحسين مشاعر الإنسان، كما يفعل الدين دائماً، يخبرك أنه لا داعي للقنوط، هُنَاك متسع دائماً وهُنَاك أمل وهُنَاك فرصة دائماً للتحسين واللحاق.

وهذا أمر في صالح الدين لا ضده إذا تم إيصاله للجمهور بشكل سليم، ولننظر إلى ما قدمه هذا للبشر حول العالم، فأعمال عظيمة قد أُقسمت على أرواح الموتى، وبعض البخلاء الذين ما كانوا لينفقوا ديناراً واحداً في حياتهم على أنفسهم، قاموا بالتبرع بالمبالغ الطائلة على أرواح من يحبون حينما توفي شخص ما من أحبابهم، فمنهم من بنى مستشفى ومنهم من تبرع لأبحاث السرطان حتى يكافح سبب وفاة أمه، وغيرها من الأفعال العظيمة.

قد تقول أنّهم لم يتبرعوا على أرواح من يحبون، هم أرادوا تخليد ذكراهم، ولكن ما الفرق هنا، أنت تريد تجريد فكرة الروح بالعمل السامي، وتريد الربط بفكرة تخليد الاسم، تريد الابتعاد عن الدين، وما فعلته فعلياً هو ما يحث عليه الدين، العمل الصالح للأحياء، أنت لا تريد تقبل الفكرة من منطلق ديني، تريد ربطها بما تعتقده أنها فكرة مُجرَّدة.

وأما عن آلية الموت فإني أتوقع أنني سأغمض عيني في الدنيا، وفي اللحظة نفسها ستتفتح عيني في مكان آخر مباشرة، فأنا لم أغِب عنه لحظة، وحياتي سارت معه في خطٍ متوازٍ لا علاقة لها بالجسد في هذا العالم، كأن أقول لصديق، انتظرني لحظات ألبس معطف الشتاء وأخرج لك لكي نتمشى سوياً، فأنا مع صديقي طوال الوقت وما طرأ هو تغيير ملابسي ولا شيء آخر.

أحد الأسباب التي تجعل الناس لا تتقبل عذاب القبر أو حتمية الآخرة والحساب، هو خوفها مما فعلت في حياتها، قد يكون تاريخها مليء بالذنوب والمعاصي والمظالم، أو أنه سعى لفعل الموبقات، لذلك يحاول الإنسان لكي يفعل ما يحلو له أن يتخلص من رداء الدين حتى يريح كاهله ويفعل ما يشاء، ولكن عزيزي لكي تفعل ما تريد لا يجب عليك أن تحاول هدم الدين، افعل ما تريد واعترف أنك بشري، ولا تضع المُشكِلة في الدين، ولو عدت بعد 50 عام للدين ستجده يستقبلك ويحتضنك، لن يكون الدين عدوك إذا أردت أن تشرب وتزني، بل أنت عدو نفسك وعدو فعلك المشين، فلا تحاول كسر الدين لتقول لا دين وأنا حر في أفعالي، تقبل عيبك وتصالح معه، حتى لا يحدث الشرخ الدائم والقطيعة النهائية مع الدين، وحينما تهرم، لا تشعر بالحرج في العودة للدين، خجل من المصالحة، كذلك قد يكون لديك خصومة مع المتدينين وأصحاب اللحى، لا مُشكِلة فلدينا نحن كذلك، لكن لا ترم نفسك في براثن المادية.

موت الفجأة

ولكن ماذا عن موت الفجأة الذي يذكره المُسلمون دائماً؟ وإنّ الحديث الوحيد المقٌبول عن موت الفجأة هو أنه من علامات نهاية الزمان[9]، وباقي الأحاديث غير صحيحة ولا يقبلها العُلماء.

وفي ظل تطور العلم والفحوصات الدورية لا يوجد موت مفاجئ للبشر، ولو حدث موت مفاجئ لشخص يفحص دورياً، سيكون قصوراً في العلم، وكلما تقدم العلم، كان أضمن لمن يفحص ويتابع ألا يموت فجأة، ولكن هل يتعارض هذا مع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؟

لا يتعارض، فمن لا يفحص ولا يتابع يموت فجأة، وهو ما قد يكون أشار إليه الرسول والله أعلم بهذا، ولهذا نبه الرسول منه لأنه سيكون من الغريب في هذا الزمن المتقدم أن يحدث موت الفجأة، فكيف لا يفحص إنسان ويطمئن نفسه! لكن، لماذا لا يكون موت الفجأة أمراً عادياً؟

لأن الله خلق الكون بنواميس ثابتة لا تتغير، غيرها في عصر الأنبياء فكانت المعجزة، أما بعد الأنبياء فلا معجزات، والكون يسير كما وضع الله القوانين له، إلا في حالات مُحددة، فكيف مثلاً لشخص يقع في النار ألا يحترق؟ هل سيكسر الله قوانينه؟ وضعت على الطاولة مفاتيحي وأنا أنظر إليها فاختفت، هل سيجعل الله الناس تصاب بالجنون؟ كلا لن يحدث، لذا من سيموت سيكون له أسباب حسب النواميس أيضاً.

إِن يَكُ المَوتُ قِصاصاً أَيُّ ذَنبٍ لِلطَهارَه ….. وَإِذا كانَ ثَواباً أَيُّ فَضلٍ لِلدَعارَه

وَإِذا كان وَما فيهِ جَزاءٌ أَو خَسارَه ….. دَلِمَ الأَسماءُ إِثمٌ أَو صَلاحٌ

لَستُ أَدري

أَيُّها القَبرُ تَكَلَّم وَاِخبِريني يا رِمام ….. هَل طَوى أَحلامَكَ المَوت وَهَل ماتَ الغَرام

مَن هُوَ المائِتُ مِن عام وَمِن مِليونِ عام ….. أَيَصيرُ الوَقتُ في الأَرماسِ مَحواً

لَستُ أَدري

إِن يَكُ المَوتُ رُقاداً بَعدَهُ صَحوٌ طَويل ….. فَلِماذا لَيسَ يَبقى صَحوُنا هَذا الجَميلِ

وَلِماذا المَرءُ لا يَدري مَتى وَقتُ الرَحيل ….. وَمَتى يَنكَشِفُ السِرُّ فَيَدري

لَستُ أَدري

الدين والتقدم

سابقاً، كان الإنسان يتفكر وينشر كتاباً بما اكتشفه أو توصل إليه، وبعدها بسنوات يقع الكتاب تحت يد عالم آخر فيبدأ في التفكير والإضافة عليه، ثم ينشر ما يجده وهكذا، أما الآن مع التطور التكنولوجي، خلق المطورون أدواتٍ كثيرة للتفكير الجمعي، وأمسى البشر يفكرون سوياً بعقلٍ واحد وفي اللحظة نفسها، 10 آلاف عقل يعملون سوياً على أمر ما، وهذا ما جعل العالم في القرن الأخير يتطور أضعاف تطوره في القرون الأخرى، التفكير الجمعي للعلماء حوّل العالم بالكامل، فضلاً عن دخول الذكاء الصناعي ليفكر معهم، هذا جعل لنا عقلاً كبيراً ضخماً يفكر ويستنتج بقدرة ملايين العقول موحدة في عقل، وهذا ما سيكون له أثره الكبير كل فترة وجيزة على البشرية، وإنني لأعجب من مستوى التفكير في هذا العصر في المواضيع الوجودية، والتي لا معنى لها قبل ألفي عام، أو لا معنى لها لشخص يعيش على الجمع والالتقاط في غابات إفريقيا أقصى همومه أن يجد ما يسد جوعه دون أن تبطش به الحيوانات.

وبعد أن أراد المماليك تلقين العالم درساً قاسياً بإغلاق الممر الذي يربط أوروبا بالهند، اضطرت أوروبا إلى البحث عن طرق أخرى، فاكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح، ومن ثم استطردوا في البحث حتى اكتشفوا العالم الجديد وأصبحت أوروبا في غضون 50 عاماً فقط تملك تسعة أعشار كوكب الأرض، فلم يعُد العالم محصوراً في الحوض المتوسط وما حوله من قارات، وأمسى ما يملكه العالم الإسلامي لا يزيد عن 1 من 10 من حجم الكوكب، وهذه الاكتشافات أعطت أوروبا مالاً وقوة ما جعلها تسيطر على العالم، والمماليك لم يجدوا ما يقتاتون عليه بعد ذلك، في ظل هذا التخلف العربي كانت أوروبا في هذه السنوات لديها كوبرنيكوس يضع قوانين الفلك الجديدة والنظرة الجديدة للكون، وكان كولومبوس يكتشف القارات الجديدة، وقد طاف ماجلان الأرض كاملة في رحلة واحدة، وقام فاسكو دي جاما بأولى رحلاته البحرية إلى الهند، وأعلن مارتن لوثر بدء الإصلاح البروتوستانتي فضلاً عن مجالات الأحياء والطب والفن، فقد كان ليوناردو دافنشي في أوج مجده في النحت والرسم والهندسة والتشريح والفلسفة والأحياء وغيره من عباقرة الفن والموسيقى في كل أنحاء أوروبا.

نحن نعيد التاريخ نفسه، ولكن هذه المرة نحن دون أي قوة، وتحلق ناسا مستخدمةً طريق رأس الرجاء الصالح الجديد (علم الفضاء) وتستكشف الكون من حولها، وها هي تضع سفنها الاستكشافية قبل أساطيلها على قطعة أرض جديدة، وأي قطعة أرض! كوكب المريخ بأكمله، ومن بعده المجموعة الشمسية مجتمعة.

حينما تنافست كل من أسبانيا والبرتغال على سيادة ما اكتشف من العالم الجديد عام 1493م تدخل البابا لحل الخلاف وأصدر أمر الحد الفاصل، وهو خطٌ وهميٌ من الشمال إلى الجنوب يقسم العالم الجديد بينهما، وهو ما جعل الأمريكيتين ملكاً لإسبانيا، والهند والصين وأفريقيا ملكاً للبرتغال، الآن لا أحد ولا حتى البابا يستطيع الحديث عن أنّ كوكب المريخ ليس ملكاً خالصاً لناسا (أي أمريكا)، وصحتين، أمة أمريكا تملك نصف كوكب الأرض الآن، وتسعى للسيطرة على كوكب آخر جديد في غضون القرن القادم، ونحن ما زلنا ندعو اللهم أهلك الأمريكان، معتقدين أنّ الله سيصنع الحد الفاصل لنا، ولكن هيهات هيهات. هيهات أن يقف الله مع الجاهل الراسب ويضيع جهد من استحق الخلافة في أرضه.

في غضون 300 عام بعد اكتشاف العالم الجديد (الأمريكيتين وأوقيانوسيا وغيرها) تغير العالم بالكامل، وقفز قفزة هائلة في كل النواحي، سواء على المستوى العلمي أو الأخلاقي أو حتى موازين القوى، فالعالم أمسى ملكاً لأوروبا ووريثتها أمريكا، ماذا يمكن أن يحدث بعد 200 عام من الآن وبعد أن تغزو أمريكا الفضاء ابتداءً من القمر ثم المريخ، وهي أراضٍ مسجلة حالياً باسم العم سام، أترغب يا عزيزي بشراء 600 متر على 3 شوارع في مدينة راقية في المريخ، ممكن جداً، جهز أموالك فقط، العالم الجديد سيكون في المريخ، وستنتهي في القرون القريبة فكرة كوكب الأرض هو كوكب البشرية، الأرض التي ورثتها من جدك الذي قام بقتل أخيه من أجل الحصول عليها، لن تساوى الحبر الذي كتبت ملكيتها به، لأن العالم سيكون قد غادركم وانتقل إلى الكوكب الجديد، كوكب النخبة، كوكب المال والأعمال والعقول المفكرة، وسيتركون كل لقيط ساذج في الكوكب القديم، يتقاتلون إلى أن يُفني بعضهم بعضاً.

وفي المستقبل، سننظر ونفكر، كيف كان الناس يعتقدون أنّ الحيوانات أقل منهم، وكيف لنا أن نأكل لحومها ونذبحهم، فاللحوم المصنعة في المختبر ستسود، وسنقول حقاً إنه عالم عجيب وغريب، وسنسقط قيم ومفاهيم زماننا على الأمم السابقة.

وماذا عن روبوتات من الشحم واللحم تشبه من نحن، نكلمها وننام معها، هل هذا سيكون حلال أم حرام، سيكون الذكاء الاصطناعي أكبر وأقوى من عقل الإنسان، لأنه سيكون مبني من خلال مجموعة من العقول الفذة، لن يستطيع العقل البشري مواكبة أو تحمل سطوة الذكاء الاصطناعي وجهاً إلى وجه حينما يرتبطان سوياً، وهذا بالإضافة إلى ما سيخلقه من مشكلات مرعبة حقيقةً، سيخلق تحديات دينية أعمق وأقوى، وستكون العديد من الأسئلة بحاجة إلى إجابات من قبل علماء المُسلمين قبل نهاية هذا القرن.

إنّ المستقبل مرعب لن يتحمله البشر، إذ قبل 100 عام كان جُل تفكير الإنسان في الأكل والشرب والزراعة ونزهة نهاية الأسبوع عند صاحبه في الحقل، الآن هُنَاك نتفلكس والأندرويد وبرامج وتعليم إلكتروني ومواصلات أونلاين وشركات مُختلفة وأدوية وسيارات وسفر والكثير من الأمور المستجدة التي يتوجب على الإنسان أن يحفظها ويفهمها حتى يستمر في الوظيفة أو في الحياة اليومية، فضلاً عن وجود عالم جديد أُضيف، العالم الإلكتروني، فتعامل البشر الطبيعي العادي، أُضيفَ عليه التعامل الإلكتروني بما يحتويه من أنظمة وقوانين مُختلفة، متى يرد في الشبكات الاجتماعية وكيف يرد الإعجاب والاتصال والرسالة والمخاصمة والحظر وغيرها، أعتقد أنّ البشر سيكونون أمام مفترق طرق، إما الحياة العادية كاملة أو الإلكترونية، أو سيتحولون إلى بدائل بشرية Surrogotes.

ستكون هُنَاك اللحوم المصنعة من خلايا أحادية مضافاً إليها النكهة والرائحة، وقلما تجد لحوماً من حيوانات مذبوحة، سيكون على العُلماء التفكير في كيفية حساب الأضحية وحكمها وتناولها والتضحية منها، ستكون هُنَاك عمليات مُعقَّدة مثل نقل رأس، ونقل دماغ، ولربما نقل ذاكرة، والعُلماء بحاجة إلى إيجاد إجابات لكل حالة من هذه الحالات، فمثلاً في حالة نقل الرأس، موضوع الروح، هل هي روح أم روحين، أم نصفين؟ الموت، الحساب، الذرية.. إلخ.

سيكون هُنَاك حالات سفر إلى الفضاء، نحن بحاجة إلى أحكام مثل كيفية الصلاة في الفضاء، واتجاه القبلة، والصيام ومدته، بل وأمور أبسط مثل الطهارة لشح الماء، وغيرها، سيكون هُنَاك حالات من السبات المستحث الطويل، إما بغياب كامل للوعي، أو بوجوده لكن دون حركة، سيكون لزاما تحديد آلية الطهارة والقضاء والصلاة والصيام وغيرها.

لن تكون الأرض هي كوكب البشر وحدها، سيكون المريخ يسكنه على الأقل بعض البشر، ستكون هُنَاك أسئلة حول المحشر والمنشر والممات والدفن من كوكب المريخ، ستكون قضايا مثل الحياة الزوجية البعيدة، والأمور المالية الجديدة والتكنولوجيا الحديثة الغريبة، يجب أن نجد لها إجابات مقنعة من الآن، لأن العجلة ستكون سريعة، ولن نلحق وقتها أن نُخرج الفتاوي لحظياً، وإن لم نخرج الفتاوى كما أخرجها الشافعي قبل ألف عام من حاجتها كما فعل في قربة الفساء، سنظهر مثل الذين ما يزالون ينادون بأنّ الأرض مسطحة!

الصيام في الفضاء

تختلف عدد ساعات صيام نهار رمضان من دولة لأخرى وذلك نظراً للموقع الجغرافي، فكلما ابتعدنا عن خط الاستواء يتطرف الاختلاف بين الليل والنهار، وكلما اتجهنا إلى شمال الكرة الأرضية زادت عدد ساعات الصيام وقلت إذا اتجهنا نحو المحور الجنوبي، وهذا الأمر ينعكس كل فترة، فعلى سبيل المثال لا الحصر يصوم سكان قارة أستراليا ما يقارب اثنتي عشر ساعة بينما تصل عدد ساعات الصيام في بعض الدول الأوروبية إلى 23 ساعة الأمر الذي أوقعهم في حيرة وارتباك شديدين نتيجة قسوة ظروف الصيام وفتاوى العُلماء السطحية، وما زالت الدول التي تصوم 22 ساعة يومياً أو أكثر في رمضان تواجه المزيد من التعسير في حياتها، فرغم أنّ الظروف قاسية عليهم، إلا أنّ فتاوى الجمعيات والهيئات الإسلامية أقسى عليهم، وهذا يضيف صفحة أخرى في الكتاب الأسود لفهم المُسلمين لدينهم.

الجمعية الإسلامية في السويد أعلنت قبل سنوات أنّ “ساعات الصوم يجب أن تكون من شروق الشمس حتى غروبها، ولا يوجد حل آخر” معتمدين على ظاهر الحديث النبوي حيث الصيام من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس.

وهذا مُستحيل من الناحية العملية، والناس رفضت هذا الأمر، فقالت الجمعية، الذي لا يستطيع الصوم عليه أن يسافر من البلد في رمضان إلى بلد آخر عدد ساعات صيامه أقل، ولكم أن تتخيلوا مقدار التحجر في فهم الدين في هذا المستوى، ومدى الضرر والحرج الذي سيلحق بالمُسلمين هُنَاك.

الفتاوى كثيرة في الصيام في السويد وهذه الدول، منها ما كان يتحدث عن الصيام حسب دولة قريبة مثل البوسنة، وهي فتوى غير مقنعة، لأن المُشكِلة ستحل لفترة وجيزة وليست دائمة، وهو ليس بحل واضح وصارم يمكن للجميع تبنيه مرة واحدة، وهُنَاك فتوى تقول أن يصوم المرء حسب ما يستطيع ويفطر، أي لا ساعات معينة، مثلا تحمل 10، 15، 18، 21 ساعة، قدر ما يستطيع، ثم يفطر، وهي فتوى غير دقيقة ومزاجية وتترك المرء في حيرة.

فتوى أخرى تقول أنّ الصيام حسب توقيت مكة، حيث الساعات معلومة، نمط مُحدد، والتقلب في الصيام على مدار الأشهر ليس بالكبير، علاوةً على القٌبول لدى جميع المُسلمين بمكة، والنفس تميل إلى فتوى الصيام حسب توقيت مكة، وليس فتوى 22 ساعة، أو فتوى أقرب دولة، وما يؤكد على قرب هذه الفتوى، هو أنّ بعض الدول في أقصى شمال الكرة الأرضية أو أقصى الجنوب مثلاً كيرونا Kiruna في السويد يكون لديها ليل طوال 24 ساعة لمدة عدة أشهر في السنة ونهار طوال 24 ساعة في أشهر أخرى، فكيف سيصوم الشخص، هل يصوم 3 شهور متتالية حسب ظاهر الحديث الشريف مثلاً؟ أم سيصوم في بعض الدول 23.5 ساعة، ثم في لحظة منتصف الليل يفطر ويصلي المغرب والعشاء ويتسحر ويصلي الفجر كل هذا في اللحظة نفسها!

هذا غير منطقي على الإطلاق، وهنا تكمُن سوء فكرة الصيام 22 ساعة حسب ظاهر الحديث (الصيام مع الشروق والإفطار مع الغروب)، وأنه يجب أن يكون هُنَاك حلول خارج هذه الدائرة.

يمكن توسيع الدائرة حول موضوع الصيام في الفضاء، فالمُسلم في محطة الفضاء الدولية لديه نهار وشروق شمس ما يزيد عن 15 مرة في اليوم، فكيف سيصوم؟ هل يصوم ويفطر 15 مرة في اليوم بناء على ظاهر الحديث الشريف؟ أم ماذا، وماذا لو وصلنا المريخ -وهذا ما سنفعله قريباً- كيف سنصوم شهر رمضان في السنة، وسنة المريخ تساوي 1.88 ضعف سنة الأرض، أي كل مرتين على الأرض سيصوم مرة على المريخ … إلخ وغيرها من الأمور الشائكة لو أخذنا بظاهر الأمور.

نعود مرة أخرى ونقول الصيام حسب توقيت مكة هو الأنسب لأيسلندا والقطب الجنوبي، للمُسلم في محطة الفضاء، لمُسلم يقطن في المريخ أو يعيش على القمر فوبوس.

ولكن إن قبل أحدٌ ما وصام حسب دولة ما وليس حسب مكة، مثلاً حسب فلسطين لو كان فلسطينياً مثلاً، فيجب عليه الاستمرار في عدد الساعات مع فلسطين أبد الدهر، فلا يصوم مع فلسطين في السنوات المتطرفة التي تصوم دولته في أقصى الشمال أو الجنوب 21 ساعة في رمضان، ثم في السنوات التي فيها النهار 3 ساعات مثلاً يصوم 3 ساعات! لا الأمر ليس على مزاجك، بل يجب عليك الاستمرار في الصيام على حسب فلسطين الحبيبة طوال العمر.

الأعسر

يستخدم الناس عادةً اليد اليمنى للقيام بأعمالهم اليومية إلا أنّ الإحصاءات تشير إلى أنّ هُنَاك 10% ممن يستخدمون اليد اليسرى، ولا يمكن تعديل هذا الأمر من خلال السُلُوك، فلو طلبت من الأعسر أن يستخدم يده اليمنى لفتح الباب طوال عمره، فلن يفلح هذا في تغييره التشريحي وسيبقى يرتاح أن يستخدم يده اليسرى، كانوا قديماً يعدونها إعاقة ويجب تغييرها، أما الآن فالعلم يفهم أنها أمرٌ طبيعي بالكامل وبذلك اختلفت النظرة للأشول (الأعسر)، لكن ماذا عن تناول الطعام والأكل باليد اليمنى؟

إنّ أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحياة غالباً لهدف ذي منفعة وليست مُجرَّد رغبةً بإعطاء الأوامر، فقد كان العرب قديماً يتجمرون في الخلاء، وكانوا بعد قضاء حاجتهم يستخدمون ثلاثة حجارة للطهارة، ومهما نظفوا أيديهم بعد التجمر فلن تكون نظيفة، لأن صابون ديتول والتقنيات الحديثة لم تكن موجودة، ولكن ماذا عن الطعام والسلام بعد التجمر؟ على الأغلب أنّ الرسول أوصى في زمانه أن يقوم الناس بالتجمر باستخدام اليد اليسرى وأوصى بالأكل والسلام باليد اليمنى لأسباب النظافة، فضلاً عن أنهم كانوا يأكلون باستخدام أيديهم -الملوثة- وهو ما قد يكون منفراً، إذن فللقضية علاقة بالنظافة، وما دامت اليد اليسرى نظيفة فلا بأس من الأكل بها.

كثير من الحالات أكون أعمل أو أنّ يدي اليمنى متسخة، فآكل بيدي اليسرى وما المُشكِلة، كذلك الشوكة والسكينة من الصعب عليك أن تقطع بيدك اليسرى إن كنت أيمنياً، فلا بأس من مسك الشوكة باليد اليسرى، والله تعالى أعلى وأعلم، هي قضية تثار ويتم التشدد بها دون وجه حق.

اليقين

بعد أن تأكدنا من أنّ للكون مصمم عظيم، ثم آمنّا بعظمة الإنسان وباقي الكائنات الحية وأنها انبثقت عن مبدع عظيم يفوق كل العقول البشرية مجتمعة، بدأنا في مرحلة البحث منطقياً وفلسفياً عن إله، إلى أن وصلنا إلى مرحلة لا شك فيها أنّ هُنَاك خالق لهذا الكون، خضنا جولة مختصرة في الأديان في محاولة للإجابة عن بعض التساؤلات التي تراود الكثير منا، وهذه هي مرحلة اليقين التي يصفها الدين، وأنّ اليقين بوجود خالق أوجد الكون لديه القدرة الكاملة مع التسليم بها والعمل وفقها هي أعلى درجات الإيمان، هي الدرجة التي نالها النبي إبراهيم من الإيمان، لكن كيف أمسى إبراهيم من الموقنين؟

إنّ اليقين هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، وهي مرحلة الإحساس وانكشاف الغطاء وتحول الغيب إلى الشهادة، كأنك ترى الله أمامك بكل حواسك الخمس، رؤية لا شك فيها.

يقول الله تعالى: )وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(، ولكن متى استحق سيدنا إبراهيم صفة كونه من الموقنين، وحسب ما هو ظاهر، فإن:

  1. السماوات والأرض = الكون.
  2. الملك = ما تراه العين من أمور ملموسة مثل القصور والأراضي والممتلكات.
  3. ملكوت = ما يراه العقل، أي الأمور وراء الطبيعة، رؤية خالق الكون، رؤية قدرات الله في خلقه، بديع خلقه وبنائه، حكمة الله وتنظيمه للكون.. إلخ.

إذن يصبح المعنى: “حينما رأى إبراهيم بعقله قدرة الله (الملكوت) في خلق الكون (السماوات والأرض) صار من الذين رأوا الله حقاً (الموقنين)”، أي أنّ تفكر بالعقل + علم بهندسة الكون = يقين تام.

أي أنه لا يمكن لأي إنسان أن يرى الله حقاً، دون علم الكون والتفكر في ملكوت الله والكواكب والنجوم والذرات والبروتونات وجسم الإنسان والخلايا وأسرار الفيزياء والكيمياء، وهي المرحلة التي وصلها سيدنا إبراهيم بكرم الله، ومن يدعي غير ذلك فهو لن يصل لليقين، دون التفكير واستخدام العقل لن يصل أحد إلى اليقين بالخالق.

هذا ما يبينه الله في قوله )إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلماء( لأنهم وحدهم من يعرفون عظمة هذا الخالق، واليقين هو ملخص فهمنا لأعظم الآيات )سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ(، ولكن هل هذا إسقاط للآيات بغير موضعها كما في الإزعاج العلمي، على العكس تماماً، هو حديث عادي وليس إعجازياً، الحديث هنا عن أننا لن نصل إلى فهم عظمة الله إلا بالعلم وفهم الكون وأسس الحياة.

الخاتمة

لا أدَّعي امتلاك الحقيقة إنما أنا مُجرَّد باحث عنها، قد يقول أيُّ مُتشدد يقرأ الكتاب أني أريد دس السُم في العسل، وقد يقول أيُّ مُلحد أو لا أدري أني سَلَفيّ مُتَشدد مُندَّس، وأنا سأتحمّل هذه الكلمات، لأنها لن تقدم ولن تؤخر، فأنا باحثٌ عن الحقيقة، وهذا ما توصلت إليه، وأحبَبتُ أن أشُاركه، لرُبما آخذ بأيدي مَن هو بِحاجةٍ لها، فأنا قد أَخَذ بيدي من هُم قَبلي، وسيأخُذ غداً من هو قَبلي في مُستوى أعلى وهكذا،

هذا وبالله التوفيق.

إهداء

إنّ الجُهدَ الذي بَذَله والديَّ في حياتهم أدّى إلى توفير احتياجاتي الأساسية مثل المنزل وتكاليف التعليم، ما جعلني في رفاهيةٍ عن المُتطلبات الأساسية، فامتلكت وقت هذا الكتاب،

شُكراً أبي، شُكراً أُمّي.

المراجع

1. Wellcomecollection. Clathrin. 2014; Available from: https://wellcomecollection.org/works/xphar4q7.

2. Augros, R.M. and G.N. Stanciu, The New Story of Science Mind and the Universe. 1986.

3. Krauss, L.M., A universe from nothing: Why there is something rather than nothing. 2012: Simon and Schuster.

4. Greene, B., The Elegant Universe: Superstrings, Hidden Dimensions, and the Quest for the Ultimate Theory. 2000: Vintage Books.

5. Fegley, B. and R. Osborne, Practical Chemical Thermodynamics for Geoscientists. 2013: Elsevier Science.

6. Penrose, R., The Emperor’s New Mind, 1989; Michael Denton, Nature’s Destiny. 1998, New York: The Free Press.

7. Gonzalez, G. and J.W. Richards, The privileged planet: how our place in the cosmos is designed for discovery. 2004: Simon and Schuster.

8. شريف, ع., كيف بدأ الخلق. 2011: عمرو شريف.

9. Hakala‐Yatkin, M., et al., Magnetic field protects plants against high light by slowing down production of singlet oxygen. Physiologia plantarum, 2011. 142(1): p. 26-34.

10. Allen, T., T.D. Allen, and G. Cowling, The cell: A very short introduction. 2011: Oxford University Press.

11. Ramu, P., et al., Cassava haplotype map highlights fixation of deleterious mutations during clonal propagation. Nature Genetics, 2017. 49: p. 959.

12. الربيعي, ع.ح.م. علم الخلية (المكونات العضوية) م12. 2018 23/11/2018

[cited 2020; Available from: http://www.uobabylon.edu.iq/uobColeges/lecture.aspx?fid=11&depid=5&lcid=80399.

13. uobabylon. جامعة بابل. 2021; Available from: http://www.uobabylon.edu.iq/.

14. Berg, J., Tymoczko JL, Stryer L. Biochemistry, 2002.

15. Karp, G., Cell and molecular biology: concepts and experiments. 2009: John Wiley & Sons.

16. Pemberton, L.F. and B.M. Paschal, Mechanisms of receptor‐mediated nuclear import and nuclear export. Traffic, 2005. 6(3): p. 187-198.

17. Nussbaum, R.L., R.R. McInnes, and H.F. Willard, Thompson & Thompson genetics in medicine e-book. 2015: Elsevier Health Sciences.

18. Hussein Alrubaie, A., علم حياة الخلية. 2013.

19. الحسين, ا.ع., ع.ا. الفيصل, and A.H. al-Faysal, الخلية؛ التركيب الدقيق والوظائف. 2000: الاهلية للنشر والتوزيع والطباعة – لبنان.

20. Westheimer, F.H., Why nature chose phosphates. Science, 1987. 235(4793): p. 1173-8.

21. García-López, V., et al., Synthesis of light-driven motorized nanocars for linear trajectories and their detailed NMR structural determination. Tetrahedron, 2017. 73(33): p. 4864-4873.

22. Portin, P. and A. Wilkins, The evolving definition of the term “gene”. Genetics, 2017. 205(4): p. 1353-1364.

23. El-Brolosy, M.A. and D.Y. Stainier, Genetic compensation: A phenomenon in search of mechanisms. PLoS genetics, 2017. 13(7): p. e1006780.

24. altorahealth. What is Epigenetics? – An illustrated guide. 2018; Available from: https://altorahealth.com/epigenetics-explainer-guide/.

25. Basak, N., S. Nizamuddin, and K. Thangaraj, Epigenetic signatures of high altitude adaptation in Tibetan population. Canadian Journal of Biotechnology, 2017. 1(Special): p. 113.

26. Ciabrelli, F., et al., Stable Polycomb-dependent transgenerational inheritance of chromatin states in Drosophila. Nature genetics, 2017. 49(6): p. 876.

27. Estibariz, I., et al., The core genome m5C methyltransferase JHP1050 (M. Hpy99III) plays an important role in orchestrating gene expression in Helicobacter pylori. Nucleic acids research, 2019. 47(5): p. 2336-2348.

28. Ward, P. Why the Earth Has Fewer Species Than We Think. 2018; Available from: http://nautil.us/issue/63/horizons/why-the-earth-has-fewer-species-than-we-think.

29. Ambler, M. Epigenetics—an epic challenge to evolution. 21 April 2015 13/8/2019]; Available from: https://creation.com/epigenetics-challenges-neo-darwinism.

30. Wells, J., The myth of junk DNA. Vol. 85. 2011: Discovery Institute Press Seattle, WA:.

31. PELLICER, J., M.F. FAY, and I.J. LEITCH, The largest eukaryotic genome of them all? Botanical Journal of the Linnean Society, 2010. 164(1): p. 10-15.

32. Wells, J., Membrane patterns carry ontogenetic information that is specified independently of DNA. Biophysical Journal, 2014. 106(2): p. 596a.

33. Sheldrake, R., Part I: Mind, memory, and archetype morphic resonance and the collective unconscious. Psychological Perspectives, 1987. 18(1): p. 9-25.

34. Maini, P.K., Turing’s mathematical theory of morphogenesis. 2012.

35. Cohen, I.R., H. Atlan, and S. Efroni, Genetics as explanation: limits to the human genome project. eLS, 2001: p. 1-8.

36. Dunham, I., et al., An integrated encyclopedia of DNA elements in the human genome. 2012.

37. Kolata, G., Bits of mystery DNA, far from ‘junk,’play crucial role. The New York Times, 2012. 5: p. 1.

38. Hall, S., Hidden treasures in junk DNA. Scientific American, 2012. 307.

39. Jose, A.M., A framework for parsing heritable information. Journal of the Royal Society Interface, 2020. 17(165): p. 20200154.

40. Tompa, P. and G.D. Rose, The Levinthal paradox of the interactome. Protein Science, 2011. 20(12): p. 2074-2079.

41. DrJamesTour, Scientists are Clueless on the Origin of Life | Lecture @ Andrews University. 2020. p. https://youtu.be/OYHHIBIZF8o.

42. Tobias, J.A., et al., Species coexistence and the dynamics of phenotypic evolution in adaptive radiation. Nature, 2014. 506(7488): p. 359-363.

43. Durrett, R. and D. Schmidt, Waiting for two mutations: with applications to regulatory sequence evolution and the limits of Darwinian evolution. Genetics, 2008. 180(3): p. 1501-1509.

44. Van Hofwegen, D.J., C.J. Hovde, and S.A. Minnich, Rapid evolution of citrate utilization by Escherichia coli by direct selection requires citT and dctA. Journal of bacteriology, 2016. 198(7): p. 1022-1034.

45. Sanford, J., et al., The waiting time problem in a model hominin population. Theoretical Biology and Medical Modelling, 2015. 12(1): p. 18.

46. Erwin, D.H., Macroevolution is more than repeated rounds of microevolution. Evol Dev, 2000. 2(2): p. 78-84.

47. Kitts, D.B., Paleontology and evolutionary theory. Evolution, 1974. 28(3): p. 458-472.

48. Chevance, F.F.V. and K.T. Hughes, Case for the genetic code as a triplet of triplets. Proc Natl Acad Sci U S A, 2017. 114(18): p. 4745-4750.

49. Lawton, G., Why Darwin was wrong about the tree of life. New Scientist, 2009. 2692: p. 34-39.

50. Doolittle, W.F., Phylogenetic classification and the universal tree. Science, 1999. 284(5423): p. 2124-2128.

51. Degnan, J.H. and N.A. Rosenberg, Gene tree discordance, phylogenetic inference and the multispecies coalescent. Trends in ecology & evolution, 2009. 24(6): p. 332-340.

52. Lee, M., Molecular phylogenies become functional. Trends in ecology & evolution, 1999. 14(5): p. 177.

53. Andrews, T.D., L.S. Jermiin, and S. Easteal, Accelerated Evolution of Cytochrome b in Simian Primates: Adaptive Evolution in Concert with Other Mitochondrial Proteins? Journal of Molecular Evolution, 1998. 47(3): p. 249-257.

54. Ayala, F.J., Molecular clock mirages. Bioessays, 1999. 21(1): p. 71-5.

55. Ayala, F.J., E. Barrio, and J. Kwiatowski, Molecular clock or erratic evolution? A tale of two genes. Proc Natl Acad Sci U S A, 1996. 93(21): p. 11729-34.

56. Rodríguez-Trelles, F., R. Tarrío, and F.J. Ayala, Erratic overdispersion of three molecular clocks: GPDH, SOD, and XDH. Proc Natl Acad Sci U S A, 2001. 98(20): p. 11405-10.

57. Ayala, F.J., Vagaries of the molecular clock. Proc Natl Acad Sci U S A, 1997. 94(15): p. 7776-83.

58. Hasegawa, M., J.L. Thorne, and H. Kishino, Time scale of eutherian evolution estimated without assuming a constant rate of molecular evolution. Genes Genet Syst, 2003. 78(4): p. 267-83.

59. Yoder, A.D. and Z. Yang, Estimation of primate speciation dates using local molecular clocks. Mol Biol Evol, 2000. 17(7): p. 1081-90.

60. Hasegawa, M. and H. Kishino, Heterogeneity of tempo and mode of mitochondrial DNA evolution among mammalian orders. Jpn J Genet, 1989. 64(4): p. 243-58.

61. Salichos, L. and A. Rokas, Inferring ancient divergences requires genes with strong phylogenetic signals. Nature, 2013. 497(7449): p. 327-331.

62. Darwin, C., On the origin of species, 1859. 2016, Routledge.

63. Darwin’s, C., On the origin of species. published on, 1859. 24.

64. Gawne, R., Fossil evidence in the Origin of Species. BioScience, 2015. 65(11): p. 1077-1083.

65. Franzen, J.L., et al., Complete primate skeleton from the middle Eocene of Messel in Germany: morphology and paleobiology. PLoS one, 2009. 4(5).

66. Luque, J., et al., Crab in amber reveals an early colonization of nonmarine environments during the Cretaceous. Science Advances, 2021. 7(43): p. eabj5689.

67. Hughes, M., S. Gerber, and M.A. Wills, Clades reach highest morphological disparity early in their evolution. Proceedings of the National Academy of Sciences, 2013. 110(34): p. 13875-13879.

68. Wells, J., Icons of evolution: science or myth. 2000: Regnery Publishing.

69. Amemiya, C.T., et al., The African coelacanth genome provides insights into tetrapod evolution. Nature, 2013. 496(7445): p. 311-316.

70. Cupello, C., et al., Allometric growth in the extant coelacanth lung during ontogenetic development. Nature communications, 2015. 6(1): p. 1-5.

71. Chatterjee, S., The rise of birds: 225 million years of evolution. 2015: JHU Press.

72. Kaye, T.G., et al., Detection of lost calamus challenges identity of isolated Archaeopteryx feather. Scientific Reports, 2019. 9(1): p. 1182.

73. Li, Y., et al., The hearing gene Prestin unites echolocating bats and whales. Current Biology, 2010. 20(2): p. R55-R56.

74. Liu, Y., et al., Convergent sequence evolution between echolocating bats and dolphins. Current Biology, 2010. 20(2): p. R53-R54.

75. Zhou, X., et al., Phylogenomic analysis resolves the interordinal relationships and rapid diversification of the Laurasiatherian mammals. Systematic biology, 2012. 61(1): p. 150.

76. Nishihara, H., M. Hasegawa, and N. Okada, Pegasoferae, an unexpected mammalian clade revealed by tracking ancient retroposon insertions. Proceedings of the National Academy of Sciences, 2006. 103(26): p. 9929-9934.

77. Ogura, A., K. Ikeo, and T. Gojobori, Comparative analysis of gene expression for convergent evolution of camera eye between octopus and human. Genome Research, 2004. 14(8): p. 1555-1561.

78. Liu, M.-J., et al., Biomechanical Characteristics of Hand Coordination in Grasping Activities of Daily Living. PloS one, 2016. 11(1): p. e0146193-e0146193.

79. Tymieniecka, A.T., Memory in the Ontopoiesis of Life: Book Two. Memory in the Orbit of the Human Creative Existence. 2009: Springer Netherlands.

80. Van Valen, L.M., Deltatheridia, a new order of mammals. Bulletin of the AMNH; v. 132, article 1. 1966.

81. Lambert, O., et al., An amphibious whale from the middle Eocene of Peru reveals early South Pacific dispersal of quadrupedal cetaceans. Current Biology, 2019. 29(8): p. 1352-1359. e3.

82. Thewissen, J.G.M., et al., Skeletons of terrestrial cetaceans and the relationship of whales to artiodactyls. Nature, 2001. 413(6853): p. 277-281.

83. Werner, D.C., Evolution: the Grand Experiment V. 1, Editor. 2001.

84. Werner, C., Evolution: the Grand Experiment: The Quest for an Answer. Vol. 1. 2007: New Leaf Publishing Group.

85. O’Leary, M.A., The Phylogenetic Position of Cetaceans: Further Combined Data Analyses, Comparisons with the Stratigraphic Record and a Discussion of Character Optimization1. American Zoologist, 2015. 41(3): p. 487-506.

86. Naylor, G.J. and D.C. Adams, Are the Fossil Data Really at Odds with the Molecular Data/Morphological Evidence for Cetartiodactyla Phylogeny Reexamined. Systematic Biology, 2001. 50(3): p. 444-453.

87. Heyning, J.E. and J.G. Mead, Thermoregulation in the mouths of feeding gray whales. Science, 1997. 278(5340): p. 1138-9.

88. Varanasi, U., H.R. Feldman, and D.C. Malins, Molecular basis for formation of lipid sound lens in echolocating cetaceans. Nature, 1975. 255(5506): p. 340-343.

89. Bergman, J. and G.F. Howe, ” Vestigial Organs” are Fully Functional: A History and Evaluation of the Vestigial Organ Origins Concept. 1990: Creation Research Society Books.

90. Bergman, J., Do any vestigial organs exist in humans. Creation Ex Nihilo Technical Journal, 2000. 14: p. 95-98.

91. Nitardy, W., Understanding The Anatomy of Evil. 2016: Outskirts Press.

92. Yilmaz, I., Evolution. 2009: Tughra Books.

93. Nelson, R.W., Darwin, then and now: The most amazing story in the history of science. 2009: iUniverse.

94. Haeusler, M., et al., Morphology, pathology, and the vertebral posture of the La Chapelle-aux-Saints Neandertal. Proceedings of the National Academy of Sciences, 2019. 116(11): p. 4923-4927.

95. Diogo, R., J.L. Molnar, and B. Wood, Bonobo anatomy reveals stasis and mosaicism in chimpanzee evolution, and supports bonobos as the most appropriate extant mode l for the common ancestor of chimpanzees and humans. Scientific reports, 2017. 7(1): p. 1-8.

96. Bond, M., et al., Eocene primates of South America and the African origins of New World monkeys. Nature, 2015. 520(7548): p. 538-41.

97. Tomkins, J.P., Comparison of 18,000 De Novo Assembled Chimpanzee Contigs to the Human Genome Yields Average BLASTN Alignment Identities of 84%. Answers Research Journal, 2018. 11: p. 205-209.

98. Boyko, A.R., The domestic dog: man’s best friend in the genomic era. Genome Biology, 2011. 12(2): p. 216.

99. Hayward, J.J., et al., Complex disease and phenotype mapping in the domestic dog. Nature Communications, 2016. 7(1): p. 10460.

100. Schoenebeck, J.J. and E.A. Ostrander, The genetics of canine skull shape variation. Genetics, 2013. 193(2): p. 317-325.

101. Stark, B.C., K.L. Dikshit, and K.R. Pagilla, The biochemistry of Vitreoscilla hemoglobin. Computational and structural biotechnology journal, 2012. 3(4): p. e201210002.

102. جوجر, آ., et al., العلم وأصل الإنسان. مركز براهين للأبحاث والدراسات.

103. عرفة, إ. الشذوذ الجنسي.. سلوك مكتسب أم جينات لا نتحكم بها؟. 2017; Available from: https://www.aljazeera.net/intellect/sociology/2017/8/1/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B0%D9%88%D8%B0-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D8%AD%D8%AA%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D8%B3%D9%84%D9%88%D9%83.

104. Ganna, A., et al., Large-scale GWAS reveals insights into the genetic architecture of same-sex sexual behavior. Science, 2019. 365(6456): p. eaat7693.

105. O’Riordan, K., The Life of the Gay Gene: From Hypothetical Genetic Marker to Social Reality. The Journal of Sex Research, 2012. 49(4): p. 362-368.

106. Spitzer, R.L., Can some gay men and lesbians change their sexual orientation? 200 participants reporting a change from homosexual to heterosexual orientation. Arch Sex Behav, 2003. 32(5): p. 403-17; discussion 419-72.

107. Morber, J. 5 Times Evolution Ran in ‘Reverse’. 2016; Available from: https://www.nationalgeographic.com/news/2016/10/reverse-evolution-explained-hagfish-penguins-snakes-science/.

108. Lynch, M., Mutation and human exceptionalism: our future genetic load. Genetics, 2016. 202(3): p. 869-875.

109. Rogers, R.L. and M. Slatkin, Excess of genomic defects in a woolly mammoth on Wrangel island. PLoS genetics, 2017. 13(3): p. e1006601.

110. Kumar, S. and S. Subramanian, Mutation rates in mammalian genomes. Proceedings of the National Academy of Sciences, 2002. 99(2): p. 803-808.

111. Holmes, E.C., Molecular clocks and the puzzle of RNA virus origins. Journal of virology, 2003. 77(7): p. 3893-3897.

112. Siebert, C., Food ark. National Geographic, 2011. 220(1): p. 108-131.

113. Dennett, D., 2017: What scientific term or concept ought to be more widely known? Edge, 2017.

114. Blount, Z.D., et al., Genomic analysis of a key innovation in an experimental Escherichia coli population. Nature, 2012. 489(7417): p. 513-518.

115. Leseva, M.N., et al., Differences in DNA methylation and functional expression in lactase persistent and non-persistent individuals. Scientific reports, 2018. 8(1): p. 1-14.

116. Maughan, H., et al., The paradox of the “ancient” bacterium which contains “modern” protein-coding genes. Molecular biology and evolution, 2002. 19(9): p. 1637-1639.

117. Ozawa, T., et al., Histone deacetylases control module-specific phenotypic plasticity in beetle weapons. Proceedings of the National Academy of Sciences, 2016. 113(52): p. 15042-15047.

118. McCaw, B.A., T.J. Stevenson, and L.T. Lancaster, Epigenetic Responses to Temperature and Climate. Integrative and Comparative Biology, 2020.

119. Vlaikou, A.-M., et al., Mechanical stress affects methylation pattern of GNAS isoforms and osteogenic differentiation of hAT-MSCs. Biochimica et Biophysica Acta (BBA)-Molecular Cell Research, 2017. 1864(8): p. 1371-1381.

120. Cavalieri, V. and G. Spinelli, Environmental epigenetics in zebrafish. Epigenetics & Chromatin, 2017. 10(1): p. 46.

121. JamesTour, D. Scientists are Clueless on the Origin of Life | Lecture @ Andrews University. 2020 [cited 2020 15/09/2020]; Available from: https://youtu.be/OYHHIBIZF8o.

122. Dalla, S., et al., Amino acid substitutions of Na, K-ATPase conferring decreased sensitivity to cardenolides in insects compared to mammals. Insect Biochemistry and Molecular Biology, 2013. 43(12): p. 1109-1115.

123. Kirchherr, J., Why we can’t trust academic journals to tell the scientific truth. The Gardian, 2017.

124. Pacifici, G.M. and G. Marchini, Clinical pharmacology of ceftriaxone in neonates and infants: effects and pharmacokinetics. International Journal of Pediatrics, 2017. 5(9): p. 5751-5778.

125. Daneman, R. and A. Prat, The blood-brain barrier. Cold Spring Harbor perspectives in biology, 2015. 7(1): p. a020412-a020412.

126. Foye, W.O., Foye’s principles of medicinal chemistry. 2008: Lippincott Williams & Wilkins.

127. Doerge, R.F., Wilson and Gisvold’s textbook of organic, medicinal and pharmaceutical chemistry. 1982.

128. Sybert, V.P. and E. McCauley, Turner’s syndrome. New England Journal of Medicine, 2004. 351(12): p. 1227-1238.

129. Hall, J.E. and A.C. Guyton, Guyton and Hall Textbook of Medical Physiology. 2011: Saunders/Elsevier.

130. Scholar, E., xPharm: the comprehensive pharmacology reference. Elsevier Inc, 2015. 10: p. B978-008055232.

131. wikipedia. تجلط الدم.

132. Roberts, H.R., D. Monroe, and M. Hoffman, Molecular biology and biochemistry of the coagulation factors and pathways of hemostasis. Williams hematology, 2001. 6: p. 1409-34.

133. Palta, S., R. Saroa, and A. Palta, Overview of the coagulation system. Indian journal of anaesthesia, 2014. 58(5): p. 515.

134. Wikipedia. Coagulation. [cited 2020; Available from: https://en.wikipedia.org/wiki/Coagulation.

135. Goor, R., Insect metamorphosis: From egg to adult. 1990: Houghton Mifflin.

136. Chapman, R.F. and R.F. Chapman, The insects: structure and function. 1998: Cambridge university press.

137. Farb, P., Insects. Life Nature Library 37. New York: Time Incorporated, 1962.

138. Doering, H. and J.M. McCormick, ant is born. 1964.

139. Truman, J.W. and L.M. Riddiford, The origins of insect metamorphosis. Nature, 1999. 401(6752): p. 447-452.

140. Trautner, J.H., et al., Metamorphosis and transition between developmental stages in European eel (Anguilla anguilla, L.) involve epigenetic changes in DNA methylation patterns. Comp Biochem Physiol Part D Genomics Proteomics, 2017. 22: p. 139-145.

141. Bailey, R. 5 Parasites That Turn Animals Into Zombies 2019; Available from: https://www.thoughtco.com/parasites-that-turn-animals-into-zombies-373900.

142. Rich, N., Can a Jellyfish Unlock the Secret of Immortality? The New York Times Magazine. Nov/2012. Disponível em https://www. nytimes. com/2012/12/02/magazine/can-a-jellyfishunlock-the-secret-of-immortality. html, 2012.

143. WikiPedia. بلهارسيا Available from: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A%D8%A7_(%D8%AF%D8%A7%D8%A1).

144. Costanzo, J.P., et al., Hibernation physiology, freezing adaptation and extreme freeze tolerance in a northern population of the wood frog. Journal of Experimental Biology, 2013. 216(18): p. 3461-3473.

145. Gaarder, J., Sofies verden. 2013: Rosinante & Co.

146. Robinson, D. and J. Groves, Introducing Philosophy: A Graphic Guide. 2014: Icon Books Ltd.

147. Mihjez, K. Khader Atiya Mihjez Posts. Available from: https://www.facebook.com/khade.

148. نهار, ن.ب., مقدمة في علم المنطق. 2016: مؤسسة وعي للدراسات والأبحاث

149. Harb, M. الصراع بين المعرفة والحكمة؛ الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية. [cited 2020; Available from: https://www.syr-res.com/article/19694.html.

150. Buss, D., Evolutionary psychology: The new science of the mind. 2015: Psychology Press.

151. Manimani, M. الإرادة الحرة بين ديكارت وسبينوزا. 2019; Available from: https://elmahatta.com/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AF%D9%8A%D9%83%D8%A7%D8%B1%D8%AA-%D9%88%D8%B3%D8%A8%D9%8A%D9%86%D9%88%D8%B2%D8%A7/.

152. Nietzsche, F.W., The Antichrist. 1885: Prabhat Prakashan.

153. AlSarabi, H. الإنسانية بين الدين و المادية الإلحادية. 2016; Available from: https://mindstory.org/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9/.

154. Khalid, H. كيف رأى لودفيج فتجنشتاين فلسفة اللغة؟. 2017 28/8/2020]; Available from: https://www.ida2at.com/how-did-ludwig-wittgenstein-see-the-philosophy-of-language/.

155. Abdulhafez, S. هل تغير اللغة من طريقة تفكيرنا؟. 7/5/2017; Available from: https://aja.me/lsd9n.

156. Salman, F. كيف تؤثّر اللغة التّي نتحدّث بها على طريقة تفكيرنا؟. Available from: https://elmahatta.com/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%aa%d8%a4%d8%ab%d9%91%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%91%d9%8a-%d9%86%d8%aa%d8%ad%d8%af%d9%91%d8%ab-%d8%a8%d9%87%d8%a7-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b7%d8%b1/.

157. Gordon, P., Numerical cognition without words: Evidence from Amazonia. Science, 2004. 306(5695): p. 496-499.

158. Wilson, B., Simply Philosophy: Guided Readings. 2003: Edinburgh University Press.

159. McGregor, R., The doomed race: a scientific axiom of the late nineteenth century. The Australian Journal of Politics and History, 1993. 39: p. 14-22.

160. Stern, A.M., Eugenics, sterilization, and historical memory in the United States. História, Ciências, Saúde-Manguinhos, 2016. 23: p. 195-212.

161. وهبة, م., قصة الفلسفة. دار المعارف.

162. Beckford, M. and J. Barrett, Children are born believers in God, academic claims. The Telegraph. WWW-dokumentti. Saatavissa: http://www. telegraph. co. uk/news/religion/3512686/Children-are-born-believersin-God-academic-claims. html. Luettu, 2008. 24: p. 2014.

163. Greene, R.A., Religious belief is human nature, huge new study claims. Retrieved October, 2011. 23: p. 2014.

164. Lindeman, M., et al., Atheists become emotionally aroused when daring God to do terrible things. International Journal for the Psychology of Religion, 2014. 24(2): p. 124-132.

165. ElFattah, H.A.; Available from: https://www.facebook.com/hany.abdelfattah.9/posts/2425619520828065.

166. المسيري, ع.ا. and د. الشروق, رحابة الإنسانية والإيمان. 2012: دار الشروق.

167. الشهيل, ع. بالدليل: التحول الجنسي لا يجدي نفعا. 2020; Available from: https://atharah.com/sex-reassignment-doesnt-work-here-is-the-evidence/.

168. Anderson, R.T. Sex Reassignment Doesn’t Work. Here Is the Evidence. 2018 [cited 2021; Available from: https://www.heritage.org/gender/commentary/sex-reassignment-doesnt-work-here-the-evidence.

169. عرفة, إ. التحول الجنسي.. ضرورة بيولوجية أم مسخ للإنسان؟! ; Available from: https://www.aljazeera.net/midan/intellect/sociology/2018/9/27/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D8%B6%D8%B1%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D9%85%D8%B3%D8%AE.

170. Chetoui, A. دونية المرأة عند الفلاسفة بين التاريخ والواقع. 2018; Available from: http://yaqenn.com/%D8%AF%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE/.

171. Peterson, J., جوردان بيترسون : أعرف أن الكل مصدوم مما أقول Jordan Peterson. 2019: Youtube.com. p. https://youtu.be/USNrcdlaRI4.

172. Abedelnabi, J., Facebook Posts.

173. الأناضول, و., جريمة اغتصاب في أميركا كل 98 ثانية, in miscellaneous. 2017, miscellaneous: https://www.aljazeera.net.

174. Culture, A. أكاديمي أميركي: النبي محمد أول من عارض العنصرية والعبودية في تاريخ البشرية. Available from: https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2020/6/13/%D8%A3%D9%83%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D9%8A%D8%B4%D9%8A%D8%AF-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF.

175. Berlinski, D., The Devil’s Delusion: Atheism and its Scientific Pretensions. 2009: Basic Books.

176. Dawkins, R. and L. Ward, The god delusion. 2006: Houghton Mifflin Company Boston.

177. Aburtema, A. Ahmed Aburtema Posts. Available from: https://www.facebook.com/aburtema.

178. حاش, ع.ا.ع.ا., موسوعة الطلاب المختصرة للعقائد والأديان. 2015: IIUM Press.

179. 245983, i. لماذا كان في الحرم المكي لكل مذهب إمام يصلي بأهل مذهبه ؟. 2016 [cited 2020 11/05]; Available from: https://islamqa.info/ar/answers/245983/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D9%8A-%D9%84%D9%83%D9%84-%D9%85%D8%B0%D9%87%D8%A8-%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%85-%D9%8A%D8%B5%D9%84%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%87%D9%84-%D9%85%D8%B0%D9%87%D8%A8%D9%87.

180. Ouda, A.; Available from: https://www.facebook.com/profile.php?id=100008633081377.

181. بودا, غ., الدّامابادا: كتاب بوذا المقدس. دار تكوين.

182. Baynes, C., More than 200,000 children married in US over the last 15 years. 2017, Independent.

183. Oudah, A. Abdulaziz Oudah Page. 2020; Available from: https://www.facebook.com/profile.php?id=100008633081377.

184. إبراهيم, ب., حصون التخلف: موانع النهوض في حوارات ومكاشفات. 2010: منشورات الجمل،.

185. 140103. أطول مدة تمكثها المرأة وهي حامل. Available from: https://islamqa.info/ar/140103.

نبذة عن الكاتب

خليل سليم، مهندس برمجيات ودكتور صيدلي ومتخصص في المرض النفسي والإدمان، باحث عن الحقيقة، والحقيقة بتجرد باستخدام العلم والفلسفة والدين وما توصل إليه ألمع العقول البشرية على مر الزمان.

خليل يبحث في علاقة الدين بالإنسان، علاقته بالحياة، حقيقة الدين، حقيقة العلم، حقيقة التطور، حقيقة الخلق، يسعى دائماً بالنقاش والبحث إلى إيجاد ما هو أقرب إلى الصواب في حدود العقل البشري.

إذا كنت تملك عزيزي القارئ أي أسئلة أو رغبة بالنقاش، أو رغبة في طرح أفكار، فيسعدني تواصلك معي عبر طرق شتى:

هذا الكتاب

هذا الكتاب رحلة بحثية عن الحقيقة، عن حقيقة الكون، حقيقة الكائنات، حقيقة الوجود، حقيقة الأديان، حقيقة الإنسان، حقيقة العلم، حقيقة التطور، حقيقة الخلق، حقيقة العقل،

حقيقة الحواس، حقيقة الجمال، إنه محاولة لإيجاد

إجابات عن أسئلة عديدة تجول في خاطر الكثير.

سار الكاتب في رحلة بحث فتوصل بما كان بين

يديه من معرفة إلى النتيجة في نهاية

الكتاب، لعلها عزيزي القارئ تسهل

أو تختصر عليك رحلتك،

ولربما تكون لك عوناً

لخط مساراً وكتابة رحلة

جديدة، تمتعنا وترد على

رحلتنا في هذا الكتاب.

  1. كان نيتشه مصاباً بأمراض عدة منها اعتلال الأعصاب، وعانى من فقدان كامل لقواه العقلية في نهاية حياته ما جعله بحاجة إلى رعاية كاملة.

  2. الشجرة الملعونة في الديانة المسيحية.

  3. الدين لا يقول هذا، ولكن بعض المتدينين ينسبونه للدين

  4. شاعت في الآونة الأخيرة، بسبب التقدم العلمي.

  5. الحديث هنا عن الآيات التي لا سبب واضح ثابت عنها

  6. هناك أحاديث صحيحة كثيرة مثل “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله”، “إذا استأذنَكم نساؤكم بالليلِ إلى المسجدِ فأذَنوا لهنَّ”

  7. للأسف فإن المرأة نفسها تفعل هذا بإرادتها وليس بضغط وإجبار من الرجل، وتتخذ من هذا العرض احترافاً وعملاً

  8. “الآية” أو “الآيات” هي ما نطلق عليه اليوم لفظة معجزة

  9. الحديث: “من اقترابِ الساعةِ أن يُرَى الهِلالُ قبُلا فيقالُ لليلتينِ وأن تُتَّخذَ المساجدُ طرقا وأن يظهرَ موتُ الفجأةِ”


اترك تعليقاً