حسناً، الأمر مُحير قليلاً، فنحن بتنا نعتقد أنّ خصائصنا الكاملة من مظهر وسُلُوك ومعتقد مكتوبة حرفاً حرفاً في الجينات، وأنّها المسؤولة عن سير حياتنا وتصرفاتنا، فنحن نرِثها من آبائنا، وعلى هذا فستنتقل إلينا صفاتهم في حياتنا، لكن للأسف هذا غير صحيح، هذا ما يقوله علم فوق الجينات Epigenetics، وهو علم حديث موثق ويميل إليه العُلماء في الفترة الحالية لما له من أدلة واضحة في مواضيع الصحة مثل السرطان واختراع أنموذج دواء Temozolomide وتطبيقات أخرى في مجال الخصوبة ووراثة الأبناء، بل حتى تطور الدماغ وتطور أمراض مثل الانفصام ثنائي القطبية [24]، وبعد فهم كثير من المواضيع الأخرى التي كانت عالقة، مثل فهم تكيّف سكان التبت في ظروف حياتهم [25]، أو استيعاب أجساد سكان شعب الباجاو في قدرتهم على الغوص، ويمكن ببساطة أن نقرب الفكرة بأنّ الجينات هي مكونات الطبخة نجدها موضوعة على الطاولة، ولكن الـ Epigenetics هي الطاهي، وهي من تختار ما يجب أن يكون داخل الطبخة، حسب الظروف المحيطة.

وما يقوله العلم هو أنّ العوامل الخارجية المحيطة بنا هي التي تؤثر على آلية عمل الجينات وطريقة تفعيلها أو تعطيلها، هذه العوامل لا تؤثر على تسلسل النيوكليتيدات، ولكنها تؤثر على تمثيل الجينات Gene Expression دون التعديل في الدنا نفسه، أمثلة العلم هذا وحقيقته في كل مكان، مثلاً في نمو الكائن الحي وانقسام الخلايا الجذعية، الأمراض النادرة، تغيير لون الفئران بناء على طعامهم، بل في التوائم البشرية هذا الأمر واضح، فالسكن والمأكل المُختلف يغير كل شيء فيهم بالكامل، فلا يمسون توائماً، بل وطوال الفترة الماضية فشل العُلماء في ربط الصفات الإنسانية بالجينات.

نحن نعلم أنّ الجسم مُكون من بروتينات، والبروتينات هي المسؤولة عن عمل الجسم وأنها من تقوم بنسخ الدنا وشيفرتها مكتوبة في الدنا الذي نحصل عليها من آبائنا [24]، تملك الخلايا في الكائن الحي الدنا نفسه، ولكنها تنقسم عبر العوامل فوق الجينية Epigenetics إلى خلايا عصبية وخلايا دم وخلايا عضلية وغيرها، وذلك عبر تقنيتين معروفتين في هذا العلم وهما إضافة مجموعات ميثايل methyl أو تعديل في بروتينات الهيستون كما في (شكل 27 عملية مثيلة جينات الأغوطي)، ولهاتين التقنيتين دوراً في تمثيل الجينات، وتشكيل الخلايا، فعلى سبيل المثال، الفئران التي حصل لها مثيلة methylation في جينات الأغوطي (نوع من القوارض) كانت سمينة وذات لون أصفر، وعلى الوجه الآخر النوع الذي لم يحدث له مثيلة كان لونه بني وغير سمين مع العلم أنها تملك الدنا نفسه عند الفحص.


شكل 27 عملية مثيلة جينات الأغوطي

الأمر نفسه تم على ذبابة الفاكهة (الدروسوفيلا) إذ تم إجراء التجارب على الدنا لهذه الحشرة، فقد كان لدى الحشرات الدنا نفسه ولكن بلون عيون مُختلف [26].

تعد بكتيريا Helicobacter pylori من النماذج العالمية التي تتكيف بناء على الظروف المحيطة، ولديها تنوع جيني كبير، وهي البكتيريا المشهورة المسببة لمشاكل المعدة، وتُعالج الآن بالعلاج الثلاثي والعلاج الرباعي لأنها تتغير باستمرار، وفي دراسة بينت أنّ ما يزيد عن سلالة من هذه البكتيريا تتغير لمواءمة البيئة ويتم التغيير عبر عوامل فوق جينية [27] وليس عبر تغيير الدنا.

العديد من العوامل قد تؤثر في آلية عمل الجينات وخلال فترات مُختلفة من حياة الكائن، وعلى الرغم من وجود عوامل كثيرة ما زالت مجهولة إلا أنّ هُنَاك شواهد واضحة على دور عوامل البيئة، والضغط النفسي، والشيخوخة كعوامل سلبية على تأثير فوق الجينات، ودور واضح لعوامل أخرى ذات طابع إيجابي مثل الرياضة والأكل الصحي.

بل وتُشير دراسات حديثة إلى أنّه قد يكون عدد أنواع الكائنات الحية أقل مما هو موجود، ففي دراسة حديثة على كائنين من المفترض أنهما أحافير حية من جنس النوتيلوس Nautilus هما Nautilus stenomphalus و Nautilus pompilius(شكل 28)، اتضح أنّ الدنا لكلا الكائنين المصنفين مُختلفين هو دنا واحد متطابق! وتعود كل هذه الاختلافات الظاهرة إلى عوامل فوق جينية! بل وتشير دراسات أخرى حديثة إلى أنّ كلاً من الماموث الصوفي Columbian mammoth والماموث الكولومبي Woolly mammoth هما نوع واحد وليسا نوعين، فقط الاختلاف بينهما في العوامل فوق الجينية [28]، وهذا يعني أنّ النبي نوح حينما أخذ في سفينته كل الأنواع، كان عليه أن يأخذ سلفاً واحداً ويترك الباقي للعوامل فوق الجينية، اللعنة، كم أحب العلم!


شكل 28

Nautilus Stenomphalus Nautilus Pompilius

ونجد تطبيقات عديدة في الحيوانات والكائنات الحية لتأثيرات العوامل فوق الجينية، فالتحول في الكائنات هو مثال مباشر على تأثير فوق الجينات، لأنّ الدنا نفسه يتحول إلى يرقة ويتحول نفسه إلى شرنقة، ويتحول نفسه إلى فراشة، كذلك اختلاف النملة العاملة عن النملة الجندي هو فقط لعوامل فوق جينية سببها الغذاء فقط، وكلا الدنا واحد رغم الاختلاف الهائل في الشكل والوظائف بين أنواع النمل، والأمر نفسه في دنا النحل، وكذلك دراسات حديثة تشير إلى أنّ اختلاف مناقير عصافير داروين هو ناتج فقط لعوامل فوق جينية، لأنّ الدنا واحد بينهما.


اترك تعليقاً