كان نزول الأديان كالشمعة وسط الظلام، إذ منح الناس النور وبثّ فيهم الحياة ليشعل البشر المزيد من الشموع، ويطوروها إلى إنارات أفضل فيزول الظلام، لم تقل الأديان أنها ماسحة لكل الظلام، بل هي شمعة منيرة لتخبر الإنسانية أنّ هُنَاك شيء اسمه نور، فتعلموه واتبعوه، لا تستطيع هذه الشمعة أن تُغير كل العالم وكل ظلامه ومثال على هذا: العبودية.
لا تعرف البشرية في تاريخها ظاهرة أهدرت كرامة الإنسان كظاهرة استرقاق البشر التي يتخذ الناس فيها بعضهم عبيداً يُباعون ويشترون مثل الممتلكات، تُصادر إرادتهم وحريتهم، ولا يعود الناس سواسيةً كأسنان المشط ويصبح هُنَاك السادة الذين يفعلون ما يشاءون وفي الجهة الأخرى هُنَاك العبيد الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً.
كانت العبودية موجودة قبل الإسلام وقبل داود وسليمان وقبل عهد الفراعنة، بالإضافة إلى أنّ بيع وشراء الجواري عادة بشرية مارستها كل الحضارات السابقة كالإغريق والفراعنة والهنود والأحباش والروم والفرس، وليست من اختراع دين ما، وقد آمن فلاسفة اليونان أنّ غير اليوناني يليق به العبودية لأنه لا يملك العقل اليوناني الحر، وآمن كذلك اليهود باسترقاق العالم، وشجع القديس بطرس على خضوع العبد لسيده وإن أساء معاملته، وكذلك قال القديس أوغسطين وتوما الإكويني بل وشجعت الكنيسة على استرقاق أهل أفريقيا وآسيا، وهو ما رأينا انعكاسه بشكل مخيف في الأمريكيتين، وهذا وحسب سفر التكوين، فإن النبي نوح قد لعن ابنه حام وذريته من بعده ودعا الله أن يجعلهم عبيداً لأخويه، بل ودافع الفيلسوف العظيم مونتسكيو عن حق الأوروبيون في استرقاق السود ذوي الروح غير النقية.
لقد حقق النبي سليمان إنجازات للتخلص من العبودية، إلا أنها لم تكن عالمية، ولم يستطع بعظمته قهر القوى العالمية، لقد طرق هذا الباب وحاول فيه، وهذا ما حاول فعله الدين الإسلامي متمثلاً بالقرآن وما فعله الرسول محمد.
ولكن، لماذا لم يُحرِّم القرآن ظاهرة الرِّق بشكلٍ قاطعٍ وصريح، لماذا وضع مبادئ عامة ضد الرق ولم يأتِ بنصٍ صريح يدلل على حرمانية هذا الفعل كما الآيات البينات التي حرم فيها الظلم والإثم والفواحش، مع أنّ الظاهر تعارض فكرة الرق مع مبادئ القرآن السامية، والقرآن في مئات المواضع يؤكد على تساوي البشر، وأنّ الله خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف، وأنّ أعلانا درجةً هو أكثرنا تواضعاً.
لقد فتح القرآن أبواباً كثيرة للتضييق على ظاهرة الرق ومحاصرتها، بل وشجع على عتق الرقاب ككفارة عن قتل أي إنسان، وكأن تحرير إنسان من العبودية يعادل إعادة إنسان من جديد للحياة، كما وشجع الإسلام على حسن معاملة العبيد وتحريرهم، وأوضح أنهم بشر مثلنا ولهم حقوق كأي إنسان حر بالكامل، كذلك لديهم حقوق على مالكهم لا يجب أن يتهاون فيها، وحرم منابع الاسترقاق لينهي الآلية التي يتم بها استعباد الناس، ثم أكمل بآليات كثيرة لعتق الرقاب وتحرير العبيد، وجعلها مكفرات لأعظم الذنوب.
لا أجد موقفاً عظيماً طالب بإنهاء ظاهرة الرق كما فعل الإسلام، إن كنت ستخبرني بأنّ أبراهام لينكولن حرر العبيد، فسأجيبك أنه على الرغم من ذلك آمن بتفوق جنسه وبسيادتهم وهذا أحد أهم منابع فكرة الاستعباد، ستذكر لي أنّ كتاب اليوتوبيا آمن بالقيم العليا، سأخبرك أنه أيضاً رأى الناس غير متساوين، ونادى بأفضلية الأجناس!
لكن مرة أخرى إنّ القرآن شأنه شأن الأديان فهو لم يأتِ ليغير الأحوال الإنسانية بعصا سحُريّة، بل وضع مبادئ عامة مثل المساواة والإحسان، وحث على التنافس في فعل الخير أمام البشر، وترك الأمر بعد ذلك للتجربة الإنسانية، وإلا لحرّم الدين الوظيفة الحديثة التي تستعبد الإنسان من الصباح إلى المساء، وتسلبه رأيه في المساء فيخشى أن يذكر المؤسسة التي توظفه بسوء أمام أصدقائه أو في الشبكات الاجتماعية.
وفي الوقت الذي يتقدم فيه البشر تجاه صور ومبادئ تحقق أعلى مستويات الإحسان والمساواة وتحرير الإنسان فإن الدين سيكون أكبر معزز لهذه الأفكار الجديدة، وعليكم أيها البشر أن تنهوا ظاهرة الرق بالتطور الاجتماعي، قد تكون محاولة تحريم الرق بضربة واحدة صعبة في زمان قام الدين بمسح العديد من عاداته السيئة، أو أنّ البشرية في بنيتها بسبب الحروب والتخلف معتمدة على الرق بشكل كامل ويجب وضع حجر الأساس في عملية الاسترقاق، لذلك تجفيف منابع الاسترقاق هي الخطوة الأهم، نظر الإسلام بتأفف للعبودية وقال أعطي الموظف أجره، ولا تظلمه، وفي تلك المرحلة هو الحل المناسب ولربما كان ثورياً جداً [177]، والأديان أتت لتغير ما تستطيع من العالم وليس لتغير العالم، ويبقى الدين أحد الثورات الاجتماعية وليس كلها.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.