لمحاولة فهم هذا الكون بشكل أفضل، يتحتم علينا فهمه عبر قوانين الفيزياء والكيمياء وعلم الفلك (الكوزمولوجي Cosmology) والنظريات العلمية التي يحاول العُلماء إثباتها يوماً بعد يوم، وما بين أيدينا من تطوراتٍ علميةٍ غير مسبوقة حول فهمنا لهذا الكون ترجع إلى نهايات القرن التاسع عشر، وفهم الكون بهذا الشكل الواضح هذا اليوم مرتبط بنظريات متعددة مُختلفة من تخصصات مُختلفة، ودعني أصطحبك في هذه الجولة البسيطة للعلم في القرون الأخيرة، لنَر كيف وصلنا إلى ما نحن عليه من مفاهيم وحقائق، ولا بد فيها من المرور على الصراع الذي كان قائماً بين العلم والدين، بين الفلسفة المادية والفلسفة الألوهية التي قد ثارت في القرن العشرين بسبب هذه الاكتشافات، بعد بدء تكون صورة أوسع للكون أدت إلى تكون أدلة لكل فريق أقوى من السابق. وقبل القرن العشرين، كان العُلماء يميلون إلى الفهم المادي بشكل كامل، فكل القوانين والشواهد معهم ولا شك، دعونا ننطلق في هذه الجولة.
تمتلك الحضارات القديمة تصوراتٍ كونية للعالم؛ في محاولات لفهم ما يدور حولها، وهذه التصورات كانت بمثابة الإجابة على الأسئلة الدائمة مثل: ما هو القمر؟ ما هو الكسوف؟ ما هو المطر؟ كيف رست الجبال؟ إلى أن تصل كيف أتى هذا الوجود؟ كيف تشرق الشمس، كيف تهب الرياح … إلخ، وقد امتلكت كل حضارة تفسيراً خاصاً بها. فقديماً في الهند كان لديهم تصور أنّ الكون مكون من ماء وأنّ هُنَاك بيضة ذهبية فقست فيه أنتجت ما نراه، أما فلاسفة اليونان في القرن السادس قبل الميلاد وما بعده، كان لديهم تصور أنّ الكون سرمديٌ لا بداية له ولا نهاية، وبعضهم آمن أنّ الكون يتكون من أربعة عناصر: الماء، والنار، والهواء، والتراب، ثم أضافوا لاحقاً الأثير، في حين قال فلاسفةٌ آخرون أنّ أصل العالم هو الذرات وليس المكونات الأربعة، تصوراتٌ عديدة مُختلفة تعتمد على ثقافة كل حضارة وفكرها ونمو شعبها وحبهم للحيوانات والأساطير، لكن العُلماء كما اعتدنا، لا يقبلون بهذه التفسيرات، لأنها لا تحقق تجربةً أو نظرية علمية.
إنّ مسيرةَ العلم مسيرةٌ طويلة، بدأت منذ اللحظة الأولى لاستخدام العقل، وقد مرت هذه المسيرة في محطاتٍ لامعةٍ مع مفكرين وجهوا دَفَّة العالم إلى اتجاهات جديدة، وأول من برز فيها هو المعلم الأول أرسطو عام 300 ق.م إذ كان حديثه يحمل فكرة أنّ الكونَ أزلي، وأن هُنَاك قوة مفكرة خلف ستار الكون توزع النظام فيه، لأن المادة لا يمكن أن تحرك نفسها، بالإضافة إلى أنه من الصعب ضبط الكون بهذه الدقة بالصدفة، وقد كانت أغلب النقاشات في ذاك الزمان نقاشات فلسفية بحتة تركز على المفاهيم مثل مفهوم الذاتية والمكتسب وقانون العلة، هذه النقاشات لا تستند للعلم كما هو اليوم، وبناءً على هذه النقاشات قام الفلاسفة بإرساء قواعد فلسفية جرّت البشرية إلى تأخيرات علمية ذات تأثير مستمر إلى يومنا هذا، مثل مركزية الأرض، فالأرض هي مركز الكون بالكامل، والنجوم والكواكب والشمس تدور حول الأرض، بالتأكيد لا نلومهم كثيراً، فقد رأوا العالم من منظور المراقب على كوكب الأرض وكانت الإمكانات العلمية بسيطة متواضعة في ذلك الزمان، ثم تبع أرسطو بطليموس وقام بتأسيس مدرسة عُرِفت بالمدرسة البطليموسية، طورت هذه المدرسة الأفكار السابقة قليلاً، وقد سادت أفكارها حتى عصور حديثة.
التطور الكبير اللاحق حدث بعد ذلك بسبب الأديان، إلا أنّ الدين المسيحي بناءً على سفر التكوين كان يُفسر دائماً أنّ الأرض مسطحةً، وهي مركز الكون مُتماشياً مع بطليموس، وقد تماشى معه التفسير الإسلامي بشكل كبير لاحقاً، وتم ذلك عبر اللاهوتي توما الأكويني الذي دمج فهم أرسطو للكون مع الدين المسيحي، وأصبحت هذه التعاليم جزءاً من اللاهوت المسيحي تحت مسمى المدرسة التوماوية، وقد كان لها تأثيرٌ هائلٌ على الفلسفة الغربية، وهذه هي بداية الأزمة التي لا يمكن تخيل أثرها لاحقاً على العلم والدين، فهي أصبحت الأساس في الدين وأي علم يخالفها هو هرطقة، ومن هنا نشأ الانقسام بين العلم والدين، بعد أن تبين للعلم أنّ الأرض ليست مركزاً للكون، وغيرها من المفاهيم الحديثة، وكان على العالم أن ينقسم إما مع أفكار الراهب توما، أو ضدها.
في ظل هذه النظرة السائدة ومحاولات لترقيع النظرية للمحافظة عليها، وبعض الآراء الشاذة هنا وهُنَاك، مثل مدرسة المراوغة الإسلامية التي أثبتت أنّ الأرض تدور وليست ثابتة كما في أنموذج بطليموس، جاء العالم نيكولاس كوبرنيكوس وبدأ بقلب العالم الذي كان آمناً لآلاف السنين، ففي عام 1543م نشر كتابه الذي صرّح به أنّ الأرض والكواكب تدور حول الشمس، والشمس هي المركز وليست الأرض، ورغم كثرة الثغرات في أفكاره؛ لافتراضه أنّ مدارات الكواكب حول الشمس دائرية بالكامل، إلا أنها كانت البداية القوية لدك أساسات معابد الأفكار المستندة إلى الدين في ذاك الزمان، ثم أتى بعده غاليليو غاليلي واخترع التلسكوب (المقراب)، ورأى القمر وأقمار المشتري تدور حول المشتري، وأضاف قانون التسارع الثابت عند سقوط الأجسام، أي أنه إذا سقط جسمٌ وزنه 100 كيلوجرام، وجسمٌ آخر وزنه 2 كيلوجرام من مسافة مرتفعة، فسيصل كلاهما إلى الأرض في اللحظة نفسها، وهذا ما كان له تأثيرٌ كبيرٌ على النظريات الفيزيائية لاحقاً.
وفي عام 1610م، وضع غاليليو تخيلاً واضحاً لدوران كوكب الزهرة حول الشمس، وكانت هذه مقدمة المبادئ الأساسية لعلم الديناميكا، ثم أكمل العالم الدانماركي تيكو براهي حسابات كوبرنيكوس بدقة أكثر، لكي يأتي العالم كبلر بعده ببضع سنين ويقوم بوضع القوانين الثلاثة لحركة الكواكب على أسس واضحة، وأكد في قانونه الأول أنّ مسارات حركة الكواكب بيضاوية، والشمس ثابتة في مكانها، والقانون الثاني يعتمد على الأول، فكما أنّ دوران الكواكب بيضاوي فإن هذا يعني أنّ الكواكب لا تدور بسرعة منتظمة، وسرعة الدوران هنا تعتمد على قرب الكوكب أو بعده عن الشمس، أما القانون الثالث فيقول إنّ مدة دوران الكوكب حول الشمس تعتمد على بعد المسافة، وكانت قوانين الحركة الثلاثة مُنطلقاً للعلماء لاحقاً، فوجود قانون واضح أوجد قاعدة علمية يمكن تطبيقها وتوسيعها والبناء عليها أو حتى دحضها، وقد أدّت القوانين الثلاثة إلى تطابق حسابات الأرصاد الفلكية بدقة كبيرة.
في هذه الأثناء قام رينيه ديكارت بوضع مبدأ الشك في الفلسفة التجريبية، الذي كان له أثرٌ كبيرٌ في توجيه دفة التجارب العلمية، ثم تتوالى الاكتشافات في علوم الميكانيكا، والديناميكا الحرارية، والطب، والفيزياء وغيرها إلى بزوغ وميض العالم إسحاق نيوتن عام 1687م، إذ قام بوضع قانون الجذب العام الذي قدم تفسيراً لدوران الكواكب حول الشمس، ووضح الكثير من المشاهدات بناءً على ثلاثة قوانين ميكانيكية قوية لا تزال تستخدم إلى يومنا هذا، وكان لهذه القوانين في الفيزياء والرياضات أثرٌ كبيرٌ على تقدم البشرية، فكل ما نراه من بنيان وتقدم علمي كان بسبب هذه القوانين ومفاهيم نيوتن المُختلفة، ويُمكن القول أنّ كوبرنيكوس هو مؤسس الثورة الفلكية ومغير نظرتنا للعالم، ثم يليه نيوتن مؤسس الثورة الفيزيائية ونظرتنا لقوانين الكون، ثم لاحقاً تشارلز داروين مؤسس الثورة الحيوية، ولربما فرويد مؤسس الثورة النفسية.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.