لقد قال النبي أقوال وفعل أفعال منذ بعثته لأسباب شتى، إما لكونه رأساً للهرم السياسي، أو باعتباره قائداً عسكرياً، أو زوجاً أو قاضياً، أو لأي اعتبار آخر، فهو في النهاية بشر كباقي الناس الذين بُعث فيهم، وكثيرٌ من هذه الأفعال والأقوال ليست من الدين، بل هي أحداث يومية أو سياسية عادية لا يجب أن نعيد تطبيقها، وأبسط مثال على ذلك هو ركوب الأنعام، حتماً هُنَاك أفعال وأقوال صدرت عنه باعتباره نبياً وهي نتاج فهمه وتطبيقه للقرآن، كالصلاة ومناسك الحج وممارسات يومية في المعاملات والأخلاق والعلاقات، لذلك علينا أن نتعامل مع ما وصلنا عنه على أساس تمييزنا هل هو مما يتأثر بالظروف فيكون من المتغيرات أم هو مما لا مدخل للزمكان إليه، فيُعد من الثوابت، كالصلاة والحج.
تختلف طريقة قراءة القرآن بحسب المناطق ولهجات الناس وقدرتها على نطق الحروف ومخارجها، وكانت قراءتنا في فلسطين عن حفص عن عاصم عن طريق الشاطبي، أما قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي قراءة نافع، ويرى الإمام مالك أنه من السنة تعلم قراءة نافع، ولكن لماذا لا يقرأ كل العرب القرآن برواية الرسول! فعلى الرغم من أنّ القرآن أعظم ما يملك المُسلمون ويعيرون أشد الاهتمام لآلية قراءته، لكن قراءته مثل قراءة الرسول أمر غير مهم، والأهم هو قراءته صحيحاً بحسب رواية البلد الحالية، حتى تتناسب القراءة مع أسلوب الناس وفهمهم للكلمات والمخارج وإمكانية تطبيق القرآن في الحياة اليومية، هذا يعني أنّ الكثير مما فعله الرسول في زمانه -ومنها رواية القراءة- كان مُجرَّد أمر خاص ببلدته أو وبنمط حياته، ولا يجب علينا فعله حرفياً، بل علينا محاولة فهم سبب قيامه به وإسقاطه على واقعنا الحالي ونمط حياتنا. يجب فهم الغاية العظمى من القيم، ثم محاولة تطبيقها، وأعظم قياس هو قراءة القرآن، وهذا أمر فهمه السابقون وتركوه، ولكننا نصر على أن نكون أذكى منهم.
سيقول أعداؤك الكلمات الشنيعة عنك وسيستهزئون من قوتك. أيوجد ألم أعظم من هذا! باستشهادك، ستصل إلى الجنة؛ وبانتصارك ستتمتّع بالأرض. لذلك قُم يا ابن كونتي، وانهض وصمم على القتال! بعد أن اكتسبت الاتزان بين اللذة والألم، بين الربح والخسارة، في النصر والهزيمة، وانطلق للقتال. وهكذا سوف لن تقترف الخطيئة. |
صورة 35 آيات من البهاغافاد غيتا، الهندوسية وهي ديانة تشكلت عبر عقود طويلة، ولا مؤسس أساسي لها، وتضم مبادئ روحية وعقائدية وقانونية واجتماعية، ولها عدة كتب مقدسة مثل الفيدا والمها بهارتا، ولديهم لكل طبيعة إله مخصص يعبدونه إلى أن تم تثليث الآلهة لاحقاً، ويؤمن أتباعها بإحلال الإله في إنسان اسمه كرشنا (كما حل الله في المسيح في المسيحية)، ويقدس الهندوس البقرة أشد تقديس، ويحق لها التنقل بحُريّة ولا يجوز المساس بها، وإذا ماتت يتم دفنها عبر طقوس دينية، ويؤمنون بتناسخ الأرواح (الكارما) ووحدة الوجود، وينقسم المجتمع في الديانة الهندوسية إلى 4 طبقات، هي طبقة الكهنة (البراهما)، وطبقة الكاشتر المسؤولين عن الدفاع، وطبقة التجار (الويش)، وطبقة الفقراء الكادحين (الشودر) الذين يخدمون باقي الطبقات، ولا يمكن لأي طبقة مهما حاولت أن تترقى إلى طبقة أعلى. |
وقد قال لي صديقي أنتم المُسلمون تدّعون أنّ دينكم أكمل دين وأنه صالح لكل زمان ومكان، لكن على ما يبدو أنه صالح للعرب قبل 1400 سنة، الغرب اليوم سبقكم وقدّم أنموذجاً أفضل مما قدمتموه، إذ تسود حُريّة التعبير والرأي والمعتقد والمساواة كما لم تَسُد من قبل، المرأة لديها حقوق الرجل نفسه ولها الميراث نفسه، في حين أنّ الإسلام أعطاها حقوق أقل ونصف الميراث، السارق تُقطع يده في الإسلام، وفي الغرب يُعالج ويُعاد تأهيله حتى أنّ السجون قد غدت دون لصوص أو مجرمين، والأمثلة كثيرة يا صديقي.
قلت له يا صديقي حينما جاء الإسلام وفرض للمرأة حقها في الميراث، ليس نصفه، بل ميراث كامل، أعطاها ذلك في زمن لم يكن للمرأة أي حق في الميراث، جاء الإسلام وأقر هذا الحق، وأعطاها جملة من الحقوق كانت قد فقدتها في مسيرة البشرية، وأعاد لها كرامتها واحترامها في ذلك الزمان، وحررها ورفع من شأنها، هي درجة في درجات السلم خطاها الإسلام للمرأة ووضع الأسس للاستمرار في صونها وتقديرها وتحريرها.
وفهمنا الأعمق لقضية الميراث في الإسلام يفوق المفهوم السائد المرتبط بالأنثى، فالتفاوت في معايير وفلسفة الإسلام بالميراث لا علاقة له بالأنوثة أو الذكورة بل هي مرتبطة بـ:
- درجة القرابة (علاقة طردية)، فكلما كان الإنسان مقرباً من المتوفى، حصل على نصيب أكثر.
- موقع الجيل الوارث، فكلما كان صغيراً في السن كان نصيبه أكبر (أي كلما كان مقبلاً على الحياة)؛ فالابن يأخذ أكثر من الأب لأنّ الابن أصغر وأمامه حياة أكثر من الأب.
- اتفاق الموقع ودرجة القرابة يعطي أعلى الحصص والدرجات.
ولهذا فإن المرأة ترث كالرجل بل وأكثر في حالات كثيرة.
وضع الإسلام القيم العليا والمبادئ السامية ووضع تصوراً لها في ذلك الزمان، وفي زماننا أي صورة نراها أفضل حتى نصل إلى القيم العليا مثل العدل والمساواة والحُريّة وغيرها من صورة ذلك الزمان لنا حُريّة تبنيها لأنها أقرب إلى الإسلام، ولا ننسى أفعال عمر بن الخطاب (خليفة بعد الرسول) في زمانه حينما خالف كثير من النصوص ومنها ما هو في القرآن الكريم للوصول إلى القيمة العليا التي فهمها من القرآن ومن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ما كان للإسلام أن يأتي بالكمال الذي نراه الآن في ذلك الزمان، وإلا لما استوعبه الناس، ولكنه في زمانه كان عين الكمال، الإسلام وضع اللبنة الأولى للقيم العليا، وحثنا على الاستمرار في البحث عما هو أخلاقي، وأخلاقي أكثر.
تنبع إحدى المشكلات الأساسية في فهم الدين من محاولة إسقاط أدوات قياس حياتنا اليومية على حياة من سبقونا، ومن الجَليّ أنّ كل شيء في عالمنا يختلف عن العصور السابقة، من أبسط أمور الحياة، مروراً بسبل الراحة والرفاهيات، وانتهاء بالعلوم والمفاهيم، مثلاً يدّعي صديقي أنّ الدين الإسلامي “مُتخلّف” لأنه أنشأ فكرة الأضحية المعتمدة على التبرع باللحوم وإشباع البطون، ولم يعمل فكرة تبادل الكتب المعتمدة على نشر المعرفة وملء العقول بالعلوم، وغيرها من الأساليب والتقنيات الجديدة التي لم تكن موجودة سابقاً ولن تكون بأي حال من الأحوال، لأن نمط الحياة كان كافياً بذلك الشكل، ولم يلزمه شيء آخر، ومثال على ذلك عدم وجود القصص القصيرة أو الروايات أو الشعر المرسل، وغيرها من أنماط الأدب الحالية المُختلفة، كان هُنَاك الشعر العمودي فقط، وقد كان ذلك في زمانهم يكفيهم ويغطي جوانب حياتهم، أما اليوم ومع تنوع المعرفة وأساليب توصيلها، اخترعنا تقنيات جديدة رأيناها مناسبة لمواضع مُختلفة وهكذا.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.