تستهوينا عبارات مثل الحُريّة الفكرية أو لكي تكون إنساناً عليك أن تُحررَ عقلك وغيرها من العبارات التي تؤكد على أنّ الإنسان حر وسيد قراره، ولا شيء كائن إلا ما يكتبه الإنسان بخط يده، ويستطيع الإنسان أن يكون ما يريد، هذا ما تُنادي به الوجودية والقدرية وغيرها، لكن دعونا ننظر إلى داخل هذه العبارات ولنرى إلى أي مدى هذا الإنسان حر، ولنبدأ عبر ضرب الأمثلة، ولنتساءل: هل يقرر الحوت أن يزحف على اليابسة أم هو مضطر أن يسبح في الماء؟ هل يقرر القرش ألا يفترس الأسماك حين يراها؟ هل يمكنه أن يصبح نباتياً! كلا فهو يعيش وفق قوانين الطبيعية التي وُجد فيها، هل يمكن لشجرة امتصت ماءً أكثر في تربة ٍغنيةٍ أكثر ألا تثمر أكثر من مثيلاتها؟ هل يستطيع الطفل ألا يبكي؟ أو هل يمكنه ألا يلتقم أي شيء كحلمة الثدي حينما يتم تقريبها له؟ كل هذه الصور لا يمكنها الخروج عن قوانين الطبيعة بالمطلق.
هل لا يستمتع الرجل بإبراز قوته واستخدامها؟ هل لا تستمتع المرأة بإبراز مفاتنها ورقتها وجمالها؟ كلا فكل منهما يسير وفق الخطة الطبيعية، نعم نملك القدرة على التفكير والتحليل والتخيل، لكنها قدرة في إطار مُحدد، كما أني أملك القدرة على تحريك رقبتي، ولكن في إطار ضيق، فلن أستطيع تحريكها بدرجة 360 درجة.
كل هذا قرره شيء خارج عنا، سمِّها الطبيعة أو الله أو كريشناه، لكن لتعلم أنّ حُريّة إرادتك تكون في حدود القوانين الطبيعية، لا يمكنك ألا تكون إنسان وتخرج عن طور الطبيعة الإنسانية، وفي هذا يقول شيلنغ أنّ الوعي والطبيعة ليسا شيئين منفصلين، بل إنهما شيءٌ واحد، فالعالم موجود في الله الذي يعرف ماذا يخلق، ويقول فيخت وما الطبيعة إلا إحلالاً لحكمة عليا، أي مبدئياً هناك قيود معينة وأفكار مُحددة لا يستطيع أي إنسان تجاوزها.
يقول سبينوزا: إذا سألنا الطابة الملقاة في الهواء هل أنت حرة، فإنها ستجيب: نعم، أنا حرة، مع أنها ليست كذلك، هُنَاك من دفعها ولكنها في تلك اللحظة اعتقدت أنها حرة، لذلك رأى سبينوزا أن الإله واجب، لأنه هو الحر الوحيد، وهو من أوجد القانون الذي هو نظام، والنظام أتى من فاعل، ولا معنى للقانون دون مُوجد، هُنَاك من نظّم الأشياء بهذا الشكل، فلا يجوز الاستدلال بالقانون على انضباط الأشياء دون وجود الله.
ولنتساءل، من أين تأتينا الأفكار؟ هل وقفت يوماً في مكان ما لإلقاء مجموعة من الجمل المترابطة وبعد الانتهاء قلت لا أعلم كيف أتاني الكلام، لقد ذهب خيالك بعيداً وتركت اللاوعي يتحدث، لقد خرج الكلام من قلبك ولم يخرج من رأسك، وغيرها من العبارات التي تدل على الذهول كيف أتتك هذه الجمل، أو أنك جالسٌ في نقاش فلمعت في خيالك فكرة جهنمية قلت هذه ستقلب الطاولة، أجبني من أين بزغت هذه الفكرة في دماغك؟
وقد حاولت دراسات كثيرة أن تؤكد أنّ الدماغ هو المسؤول عن القرارات والأفكار وأنّ قراراتنا تتحدد بصورة مسبقة في اللاوعي قبل زمن طويل من دخولها مرحلة الوعي، وادعت أنها وجدت بعد الدلائل الكيميائية، لكنها لم تكن كافية أبداً، فهي لم توضح أنّ الدلائل الكيميائية ناتجة لكي يتدفق سائل ما في الدماغ ليعمل أو حتى يستهلك الدماغ بعض الطاقة أو حتى أن يبدأ الدماغ بإعطاء إشارة للسان لكي يتكلم، وقد بتنا نعرف أنّ الترافق لا يعني السببية! والحقيقة أنّ سؤال كيف يأتي الفكر والحديث كان مطروحاً منذ القِدم، طرحه كل الفلاسفة على مر العصور ولم يصلوا إلى صورة مرضية، والظاهر أنّ الأفكار تأتي من عالم الأفكار الذي لا نعلم عنه شيئاً، العالم هذا مقارب لعالم الأفكار أو المثل عند أفلاطون، أو هي باختصار ليست من العالم الذي نعرفه، لا أتكلم عن مزج الأفكار السابقة لتتولد فكرة جديدة، بل أتكلم عن فكرة جديدة كلياً أو فكرة ظهرت من العدم.
هذا الحديث كله بعيداً عن الفلسفة المادية، فالفلسفة المادية لا يوجد بها حُريّة إرادة مهما تحايل العُلماء، فهي تقول قولاً واحداً أنّ احتكاك الذرات ببعضها وتفاعلها كيميائياً وفيزيائياً ينتج ميكانيكياً التفكير، وقراراتنا هي نتاج تفاعلات كيميائية، ويمكن أن نتحكم قليلاً ببعض المواد الكيميائية بدرجات معينة فيُنتج الدماغ الفكرة التي نرغبها، ولا مجال أن يتحرر الإنسان من هذه التفاعلات، لأنّ دماغه مكونٌ من تفاعلات فقط، نحن تجاوزنا هذه الفكرة مع علماء الأعصاب مثل شرنغتون وبنفيلد وإكلس وغيرهم، ومرة أخرى، قلة قليلة في يومنا هذا تقول أنّ العقل نتاج تفاعلات كيميائية بحتة، صحيح أنّ الدوبامين والسيروتونين والإندورفينات endorphins وغيرها من المواد لها تأثير على عمل الدماغ، لكن الأساس هو العقل، ولو كان الإنسان سعيداً أو حزيناً فهو من سيُحرك الخلايا لإنتاج هذه المواد وليس العكس، وهنا نتساءل، إذا كانت المادية تخبرنا أنّ الإنسان نتاج تفاعلاته الكيميائية فحسب، فلِمَ يحاسب الإنسان على أفعاله؟ لماذا نلوم هتلر على جرائمه، إنه مُسيّر ولم يكن يوماً مُخيّراً، وما نفع مراكز إعادة التأهيل؟ وما نفع السجون؟ والمستشفيات النفسية والأطباء النفسيين في علاج مجرم ما! إنها الكيمياء فحسب، إننا بحاجة إلى كيميائي لتحسين سُلُوكه، ولسنا بحاجة إلى نفساني.
يوضح عالم الأعصاب جون إكلس ذلك فيقول: “لقد تعلمت بالتجربة أني أستطيع عبر التفكير والإرادة أن أتحكم في أفعالي إذا شئت، لكن لا أملك القدرة على أن أُقدم تفسيراً علمياً كيف يستطيع التفكير أن يؤدي إلى الفعل، وحين يؤدي التفكير إلى الفعل، أجد نفسي مضطراً كعالم متخصص في الأعصاب إلى افتراض أنّ تفكيري يُغيّر بطريقة تستعصي على فهمي أنماط النشاط العصبي التي تؤثر في دماغي”.
وقد لاحظ الفيلسوف إدموند هوسرل هذا الإشكال فقال: لقد تقدم الإنسان في كفاحه الوجودي بسبب الانتقاء الطبيعي في نظرية التطور الحديثة، لذلك تقدم وتطور عقله بالطبع، وقد تطور مع العقل كل الوظائف اللازمة له، ولا سيّما الصور المنطقية، هذا يدفعنا إلى التفكير أنّ القوانين المنطقية هي سمة عارضة للبشر، وأنها قد تختلف في سلسلة التطور البشري [15].
ولنُقرّب الصورة أكثر، حينما نرى شمعة، فإنها كما نعلم تنتج لدينا نتيجة انعكاس الضوء على العين، فتقوم العين بتحويلها إلى إشارات كهربائية لكي يفهمها الدماغ بدوره، لكن العين ليست العضو المسؤول عن الرؤية، إنما هي العضو الذي يحوّل الضوء إلى إشارات، أما مسؤولية الإبصار موجودة في الدماغ، ماذا لو كان الإنسان غائباً عن وعيه؟ وقمنا بفتح عينه وجعلنا الضوء يمر عبرها وحدثت التفاعلات الكيميائية والفيزيائية نفسها في شبكة العين وانتقلت للدماغ، هل ستحدث الرؤية؟ ثم إنّ الدماغ المكون من شحمٍ ولحم ويقبع في صندوق مغلق من أين ظهرت هذه الصورة التي تراها الآن من إدراك ما حولك، وبالمناسبة هذا أحد أمراض الإبصار، إذ يرى بعض البشر كل شيء، لكنهم لا يستطيعون أن يميزوا ما هو، مثلاً قد يرى تفاحة، ولكنه لا يستطيع الجزم بأنها تفاحة، إلا إذا تحسسها وشمها وتذوقها، حينها سيقول أنّها تفاحة، فمهما كرهنا الأمراض إلا أنها تبقى نافذتنا لفهم أنفسنا.
صورة 18 لوحة ابن الإنسان للفنان رينيه ماغريت، إذ تشير إلى رغبتنا الملحة إلى رؤية كل ما هو غير ظاهر
مثالٌ آخر، في عملية فقد الذاكرة المؤقتة بعد ضربة في الدماغ أو إصابة، سيقول الطبيب بعد فحص نشاط الدماغ بأنه سليم ولا مُشكِلة فيه، لكنه يحتاج إلى تحفيزٍ ما ليسترجع ذاكرته، وبما أنّ نشاط الدماغ طبيعي ولا اختلاف فيه، فهذا يعني أنّ الإشارات الكهربائية ليست هي المسؤولة عن وجود صورة التفاحة في الدماغ، ولا صور التفاح الكثيرة، الأحمر والأصفر والأخضر والملون والحامض واللامع وغيرها، طبقات الصورة ليست هي الإلكترونات الكهربائية السارية في الأسلاك العصبية، بالإضافة إلى أننا لو استقطعنا جزءاً كبيراً من الدماغ، فلن تذهب بالمقدار نفسه الصور والمخيلات المحفوظة.
من المؤكد أنّ الكيان المادي والكيان البرمجي في الإنسان يرتبطان ارتباطاً وثيقاً فهما متداخلان ومتكاملان، وأي تأثير في أي جانب يؤثر على الآخر، لذا لا تسألني هل نظام التشغيل (الكيان البرمجي) موجود في القرص الصلب Hard Disk؟ أم في المعالج CPU أم في الذاكرة RAM، لأنه موجود في كل الأجزاء لكي يعمل، ولو أزلنا قطعة من قطع الذاكرة سيبقى نظام التشغيل يعمل في إطار الموجود حسب برمجته، وهذا يقودنا إلى أنّ كل ما لدينا من ذكريات محفوظة في مكان لا نعرفه، وأننا لا نملك زمام حفظ حاجياتنا ولا تحديد التحكم بها.
تفسير الحُريّة
ما بين أيدينا الآن أنّ التفكير الإنساني مُكونٌ لا من مادة فقط، ولا من روح فقط، بل كما يبدو مكون من مادة وروح، دماغ وعقل، أما النظرة الأحادية المادية فإنها لم تعد تفسر المشاهدات من حولنا، ولكن، ماذا عن منبع الإرادة البشرية؟ هل الإنسان مُخيّرٌ وحُرٌ فعلاً! أم أنه مُجبرٌ ومُسيرٌ حقيقة؟
في البداية قرار تحريك يدك يتم عبر فكرة تبزع في خيالك فتأمر أنت يدك فتتحرك كما تعتقد، أو تأمر أصابعك فتكتب على لوحة المفاتيح بسرعة عالية، لا أتكلم عن تعود الدماغ، بل أتكلم عن آلية التحريك، إنك لا تأمر العضلات ولا تأمر الأوردة ولا تأمر أي تفاعل كيميائي، أنت تعتقد أنك تفكر في تحريك يدك، فتتحرك، أما كيف تمت الآلية فلا قرارات موزعة منك، وهذه نقطة أولى لتوضيح قيود القرار ولنر ماذا قال الفلاسفة في حُريّة الإرادة.
الإنسان مُسير، هذا ما يقوله سبينوزا ونيتشه ولفيف من الفلاسفة بوضوح، والمُسلمون كذلك عدا المعتزلة الذين نفوا أن يكون الإله أمر الإنسان بفعل الشر، وعلى رأس هؤلاء الفلاسفة مرة أخرى نيتشه أبو الإلحاد، والذي يرى أنّ كفاحك هو جزء من القدر، إلا أنّ سبينوزا كان مُؤمِناً بإله هو نظام الأشياء، وهو النظام المسيطر وحده، لكن هل هو الله؟ ليس بالضرورة أن يكون كذلك، لقد أكد سبينوزا وجود قوة عظمى متحكمة، أما من غير المعتزلة في الطوائف الدينية فهُنَاك الثنوية التي قال أتباعها أنّ الخير من الله والشر كذلك، أما الكيسانية فيقولون لا ندري إن كانت هذه الأفعال من الله أم من العباد، أما الجبرية فقالوا إنّ أفعال الإنسان خيرها وشرها من الله ونسبها إلى العبد على سبيل المجاز، وأنّ الإنسان كالريشة في مهب الريح.
كيف أدلى سبينوزا بهذا التصريح الخطير حول كون الإنسان مُسير، نحن بحاجة إلى توضيح، فسبينوزا يرى أنّ الحُريّة مرتبطة بعدم التسيير ومرتبطة بالعلة الذاتية (وهو ما ناقشناه في السببية)، وذلك حتى يكون القرار نابعاً دون مسبب أساسي، والجوهر أو الذات أو العلة الوحيدة التي يراها سبينوزا كما عرضنا في السببية هو الله أو الوجود أو الطبيعة، ولأن وجود الله أو الطبيعة أمر مطابق لجوهره، لذا فهو يوجد دون الاعتماد على سبب آخر أو كائن آخر لأن الجوهر حر بذاته، وما دام الله غير مسير، فهذا يعني أنّ كل الأشياء النابعة منه تكون حالات لصفاته ولا يجب فهمها على أنها بالمستوى نفسه من الحُريّة مثله، وما دام الناس يعتمدون في وجودهم على الله، فإنهم غير أحرار في الإرادة لأنهم حالات من صفات الفكر (النفس) والامتداد (الجسد) لله أو للطبيعة، لذا فهم يمثلون إرادة الله.
تصورنا للإله ناتج عن عقلنا وهو محدود بحالات الإله، لذلك لا يمكن للعقل أن يتخيل صفات الله كلها، ويرى سبينوزا أيضاً أننا استخدمنا طرقاً غير صحيحة لفهم الإرادة الحرة، وهي طرق تقليدية لأنها تابعة للعقل وتدور في فلكه، ولو أردنا الطريقة الصواب لكان يجب أن نرى فكرة خارج إطار العقل (وهو أمر مُستحيل)، وهذا التفكير التقليدي سيكون فكرة تساعدنا على الاستمرار في وجودنا، حتى لو لم نكن مدركين لها تماماً، والإرادة الحرة ليست قدرة أو خياراً منفرداً لعقولنا لأنها متساوية في مضمونها مع أي مصطلح محمول على ذاته يمكن للمرء أن يصنعه، وهذا يحيلنا إلى أنّ مصطلح أو فكرة حُريّة الإرادة هي تَصوّر مُضطرِب على قدرتنا على الاختيار بحُريّة، وهي مُجرَّد دافع للاستمرار في بقائنا والمحافظة على وجودنا، بمعنى آخر يمكن أن أضيف أنها إحدى حيل العقل للإحساس بإمكانية الانطلاق في الحياة، هي نظام تحكم آخر موجود في العقل مع بقية الأنظمة الأخرى لتلجمه ويبقى يعمل بكفاءة ولا ينهار، يذكرني بفيلم RoboCop فقد اعتقد الشرطي ألكس (نصف بشري، نصف آلي) أنه من يتخذ القرار لكنه كان يتبع نظام تحكم، ولكن إيمانه بأنه من يتخذ القرار أمرٌ جعله يمارس عمله بكفاءة، الإرادة المستقلة سرج يمتطيه نظام التحكم لنستمر في الحياة.
يرى سبينوزا أنه كلما زادت معرفة الإنسان، تحسن فهمه لنفسه، ثم تزداد قدرة هذا الإنسان على التعبير عن حُريّة الله في أساليبه المحدودة [151]، وعلى الرغم من أنّ سبينوزا يرى أنّ الإرادة الحرة عبارة عن وهم، إلا أنّ زيادة معرفة الإنسان بالعلل يمكن أن تساعده على إلغاء تأثيرها، أو تُقيد القوة التي تؤثر بها الانفعالات عليهم، أي عبر تنمية الفكر يمكن للإنسان أن يمتلك قدراً من السيطرة على حياته بقدر ما يكون إنسان، وليس جوهراً غير مسير إلا الله، أعتقد الآن نفسيتك ارتاحت قليلاً عزيزي القارئ.
وحسب سبينوزا تكمُن إحدى صور حُريّة الإرادة عند الإنسان حينما يتم مُمَارسة تأثيرات خارجية عليه يمكنه عبر طرق المنطق أن يتخذ قراراً فيها يتماشى مع حالات الإله الناتجة عنه، فالحياة الأخلاقية أساسية لحُريّة الإرادة لأنها جزء من معرفة الله حقاً وهي أعظم فكرة يمكن للمرء أن يمتلكها، لأن الله حسب سبينوزا هو السبب وراء قدرة الناس على مُمَارسة المنطق والمعرفة في هذه الحياة حتى يمتلكوا القوة للتغلب على التأثيرات التي قد تعيقهم عن الاستمرار في وجودهم، وهذا كفيل في النهاية لهذه القدرة أن تقود المرء إلى حب الله فكرياً، وهذا يعتمد على درجة المعرفة التي يمتلكها المرء، فامتلاكك القدرة على تنظيم انفعالاتك هي تعبير عن قدرتك الطبيعية على تنظيم الأفكار، وبما أنك جزءٌ من سلسلة السببية التي تتتابع من وجود الله، يمكنك بصدق إبطال تأثير بعض الانفعالات، ولا سيّما التي يمكن أن يُطلق عليها بأنها شر أو تلك التي تُثَبِّط زيادة قدرة المرء على التفكير [151].
لا يختلف ديكارت مع بعض مما قاله سبينوزا، فهو يرى أنّ هُنَاك جوهر واحد هو الله ينتج عنه جواهر أخرى مستقلة، هذا الجوهر الكبير يمتلك هو وحده إرادة حركة كلياً وهو أيضا علة وجود العقول كلها، وصفات هذا الإله كاملة وعليا، إلا أنّ ديكارت يؤمن بأنّ جواهر البشر المستمدة من جوهر الله تعطيهم إرادة حرة، ويرى أنّ هذا موجود ودليله الأفكار الفطرية التي منحها الجوهر الأساسي للجواهر الفرعية منه، وهي تكون جلية حينما يستخدم الإنسان ملكات عقله التي وهبها الله له، ومن خلال إدراكه لقوى هذا الجوهري الكبير، يمكن أن نفهم أنفسنا أفضل، وتتماشى الرؤية الأخلاقية لديكارت كما سبينوزا في أنها الطريق السليم لمعرفة الله، ولكن عند ديكارت هذه المعرفة ستؤدي في النهاية إلى الإرادة الحرة، فعندما يؤكد المرء إرادته الحرة عبر اختياره ألا يقوم بما يبدو له أنه مخالف لما هو عليه، حينها نفهم أنّ الإرادة الحرة على أنها ملكة في خدمة العقل، وهي بدورها تمكنه من أن يُصبِح إنساناً مُسيراً ذاتياً.
ويتكامل مفهوم الحُريّة حينها عند ديكارت كما هو عند الوجوديين، فقد أكد على أنّ الإنسان بحاجة إلى الإرادة الحرة لكي يعرف بوضوح أنه مستقل ومميز، فعلى طريق إيمانه بالحرية والاستقلال يشق المرء طريقاً خاصاً بسهولة يتوافق مع الحقيقة التي هي نتيجة معرفة الإنسان الكافية بعلة حريته (التي هي الله).
يعد ديكارت من أصحاب نظرية المعرفة القبلية التي تسبق الحواس، والتي وضعها الله في العقل عبر الفطرة وهي بصمة الله في خلقه، ومن هذه الفطرات أن يصل البشر إلى فهم صريح لإرادتهم الحرة وذلك عبر معرفة نطاق حريتهم وهي كافية لهذه الحياة، وكلما ازدادت هذه المعرفة، تقدم المرء في طريق الحُريّة.
جزء كبير من الأسئلة الوجودية العظمى تدور حول الغايات والعلل فمن أين جئنا وإلى أين المطاف هي أسئلة الإرادة المستقلة التي يطرحها العقل البشري، في محاولة لفهم وجوده وتفسيره، وهي ما يميزه عن بقية الكائنات، وإذا لم يجد العقل إجابة شافية، فإنه لا يستمر في الإنتاج بل يتوقف ويُصاب بالصدمة وقد يُصاب بالعدمية، وهذا ما يفسر ظاهرة الانتحار التي لا تصدر عن حاجة خلافاً للحيوانات التي تتقاتل لحاجات غريزية، ولعل الأسئلة الوجودية عن الغاية والخلق هي من إيداع المصمم للبحث عنه.
لدى شوبنهاور رأي مخالف قليلاً فهو كما المثال الأول عن إطار القرش المفترس ألا يفترس، والحوت الذي لا يزحف إلى اليابسة والمرأة التي لا تظهر مفاتنها والطفل الذي لا يرضع، يرى أنّ هذا نوع من الحركة ناتح عن دوافع، وهي فعل الإرادة الباطنية للطبيعة (مصطلح طويل، لكنه يساوي معنى الله)، وهُنَاك نوع آخر ناتج عن مُثيرات عبر حواسنا حينما تتعرض لمؤثر، مثل اللسان حينما يتذوق الطعام.
ويرى شوبنهاور أنّ حركات المُثيرات الحسية تحمل في باطنها حركات الإرادة الباطنية للطبيعة، وهذه هي إحدى تجليات الإرادة، فمثلاً حينما ينقبض رمش العين عند تعرضه لضوء زائد عن الحد، يحدث هذا بسبب أنها تجاوزت الحركة الطبيعية الباطنية، هذا الانقباض يعبر عن دافع للإرادة حينما تنتج حركة لكي تحمي شبكية العين من المؤثر المؤذي، هنا يرى شوبنهاور أنّ حركات وأفعال الجسد ما هي إلا تجليات للإرادة، وما ندعوه لذة أو راحة ليس سوى ما يتوافق مع الإرادة، أما الألم فهو إحساس مضاد ومؤرق لها، وعلى هذا يمكننا أن نصف اللذة والألم بالتمثلات الحسية المباشرة للإرادة، وهما الطريقة التي تعبر بها الإرادة عن رضاها أو سخطها تجاه ما تتعرض له، فنحن لا نجوع لأن لدينا معدة، وإنما لدينا معدة فقط لأنها تخدم غاية إحدى تمثلات الإرادة العمياء وهي الجوع، وكذلك كل أعضاء جسم الإنسان.
لكن إلى أين يأخذنا كل هذا الكلام؟ بتنا نعرف أنّ هُنَاك مصمم للكون وهناك صانع للإنسان، وهُنَاك عقل ودماغ، وهُنَاك إرادة غير كاملة الحُريّة حسب الفلاسفة، ولكن لم نفهم، هل نحن مخيرون أم مسيرون؟ هل لدينا حُريّة الاختيار أم لا، ولنسمع رأي الدين الآن، لعله يمتلك الحل، لأن الدين فيه عقاب وثواب، وكيف سيُعاقب الله إنساناً مسلوب الإرادة؟
في كل الأحوال لا أستطيع أن أكسر قواعدي، لأنها طريقتي المنطقية للاندماج مع جوهر الله ومعرفته وسأجيب عن هذا السؤال في الفصل القادم، في فصل الدين، فما للدين للدين، وما للفلسفة للفلسفة، وما في حسابي لزوجتي.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.