كثيرٌ منا يُقدّسُ تاريخنا بأكمله ويراه مُنزّلاً من السماء مع أنه ليس كذلك، لقد تقدّمت الشعوب بعد مراجعة أخطائها والاعتراف بها كي لا تُكررها، وما مِن أُمةٍ نجحت إلا وقد فتحت سجل أخطائها وبدأت في الاعتذار عما أخطأت فيه وتصحيحه، ونحن المُسلمين يجب أن نراجع تاريخنا ونعترف بأخطائنا لكي نطوي صفحته على صواب ونتعلم منه، فما يُميز الدول التي وضعت قواعد رسوها بين الأمم والحضارات هو وجود مبدأ راسخ لدى أبنائها لا يحيدون عنه يسمى النقد الذاتي، إنهم لا يخجلون من القول بأنهم كانوا هم أو أجدادهم مخطئين، أو أنّ السياسيين قد أخطأوا، بل إنهم يشعرون بالفخر ويشعرون بالنُبل حينما يمارسون النقد الذاتي، وتساعدهم في ذلك حُريّة الصحافة؛ فهي تنشر وتنتقد أخطاءهم علناً، والجميع يتصرف لإصلاح هذا الخطأ، إنهم لا يخجلون حينما يعلنون أنّ دولتهم مخطئة، أو أنّ الرئيس أو الحزب مخطئ، ويعتبرون هذا في صُلب استمرار حضارتهم.

يُعَد سجن أبو غريب مثالاً واضحاً على النقد الذاتي، فمن فضح الجيش الأمريكي هو الصحافة الأمريكية، وكذلك هم من نشروا فضيحة ووترجيت، فقد لعبت الصحافة الأمريكية دوراً كبيراً في فضح سياسة دولتهم أمام العالم لتورطها في الحرب مع فيتنام، واعتبرت الصحف أنّ جَلب الخِزي لدولتهم أمام العالم أمراً هيّناً مقارنةً بالتَستُر على هذا الجُرم وعلى فِعل الدولة المُشين، بل وأكثر من هذا، فمن فضح جرائم الأجداد في إبادة الهنود الحُمر هم الكُتّاب الأمريكيون الوطنيون أنفسهم، أما نحن فلا نتجرأ على الاعتراف بأخطائنا أو أخطاء أجدادنا، لنتعلم من هذه الأخطاء في المستقبل، بل نقوم بتأسيس بنياننا على شفا جرف هار.

ننظر إلى العالم فنرى رئيس دولة ما قد سُجن، ووزير آخر يتم التحقيق معه، وعشرات الوزراء قد وقعوا تحت طائلة المساءلة القانونية، وهذا أمرٌ واقعٌ أمامنا لسنا بحاجة إلى فتح كتب التاريخ لرؤية تاريخ الأمم، أخبرني كم من مسؤول مُسلم أو عربي تم عرضه في المحاكم منذ ألف عام، مُجرَّد حساب وليس حبس! نحن نعتبر أنّ أمر الخليفة العباسي أمرٌ ربانيٌ ولا يجوز مراجعته، لذلك يستمر في طغيانه ومن يأتي بعده يعتاد الأمر، هو الحاكم بأمر الله فلا يجوز حسابه، ويا ليتنا نتعلم ونقول أنّ الخليفة العباسي كذا كان سفاحاً ولا يجب احترامه، وأنّ الشخص الفلاني كان سارقاً فيجب عقابه وغيرها، فلننظر إلى ما قام به العباسيون حينما انتزعوا السلطة من الأمويين، لقد أبادوهم بالكامل، وبسطوا الفرش فوق جثثهم وبسطوا الطعام وجلسوا يستمتعون، في مشهد مُريع لا يتكرر في التاريخ، لقد أجرم العباسيون واعتبروا أنّ قراراهم هو قرار الله، وسلطتهم مستمدة من الله، فمن فتح ملفهم يوماً وقال هؤلاء كانوا على خطأ في هذا الأمر، وأن ما طبقه المُسلمون جراء فعلة العباسيين من بعدهم هو خطأ ولا يجب تكراره، وقد صادر المأمون بقدرته الفكر من الناس ومنعهم من استخدام عقولهم، فانزلقنا إلى القاع وما زلنا، لأننا نرى أنّ تصرف المأمون تصرفٌ دينيٌ وليس سياسياً!

وما من دين تمت الإساءة إليه إلا وكانت الإساءة صادرة عن أتباعه بالدرجة الأولى، وإذا قرأنا تاريخ المُسلمين فإننا سنجد العجب العجاب، فالمستنصر بالله منع الاجتهاد خارج المذاهب الأربعة وهذا ما فتح أبواب الجهل والتخلف لقرون طويلة، وترى فقهاء الحاكم يدعونك إلى الصبر على هؤلاء الحكام، ويدعوك الله إلى الثورة: )وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(، وفكرة الحاكمية التي جددها سيد قطب بعد أبو الأعلى المودودي شكلت حلقة في سلسلة تغييب العقل لصالح النص، إذ تتماهى فيها الألوهية والسلطة، فما يصدر عن الحاكم المُسلم هو ما يصدر عن الله، وقد رأيتم أنّ المُسلمين اعتبروا فعل العباسيين فعلاً ربانياً مقدساً لا داعي لنقاشه، وظلت الأخطاء قائمة، وقد بدأت هذه السلسلة يوم رفع معاوية المصاحف على أسنة الرماح ونقل المسألة من دائرة الخلاف السياسي إلى دائرة الخلاف الديني للمراوغة، وبقيت المسألة معلقة إلى يومنا هذا.

أظن أننا بحاجة إلى تجديد خطابنا الديني بعد مراجعة التاريخ، لكن هذا التجديد لا يتم في النصوص الربّانية نفسها، بل في البشرية منها، أما الرؤية التي تنطلق من أنّ كل نص ديني هو نص متأثر بعوامل الإنتاج الدنيوية فهي رؤية خاطئة؛ لأنه بذلك يرى أنّ كل النصوص من إنتاج العالم، لا شك أنّ في هذه المطالبات شيئاً من الصحة، لكنه ليس الصحة كلها، فثمة نصوص متعالية على الدنيا، لا تفعل فيها عوامل الإنتاج أفاعيلها، فلئن وُجد في القرآن نصوص استجابت لمتطلبات المرحلة، فأجابت عنها بما يناسبها في زمنه، إلا أنّ هُنَاك كذلك منها ما هو فوقها وسابق عليها ويحكمها، كنصوص الأخلاق مثل تحريم الزنا، وتجريم الإساءة إلى الوالدين… إلخ، إضافةً إلى النصوص التي تتحدث عن عالم آخر لا تحكمه التجربة، كاليوم الآخر والصراط والميزان والجنة والنار وصفات الله، والنصوص التي تتكلم عن السنن الكونية في دفع الناس بعضهم ببعض كي لا تفسد الأرض، والنصوص التي تقرر عقوبة مُحددة معلومة لجريمة من الجرائم … إلخ، لكن الاعتقاد أنّ لا شيء من ذلك ثابتاً لأنه مُجرَّد خطاب مثل فكرة أنّ الزنا قد يكون متاحاً في زمن مُختلف عن زمن التنزيل، أو أنّ اليوم الآخر فزاعة تخيف بها الأديان الناس كي يطيعوا رجال الدين، وغيرها من الصور الخاطئة ولا يجب السير فيه.

إنّ الدولة التي أحلم في العيش فيها، هي الدولة التي تحترم الجميع، ويكون الجميع لديها سواسية، لا فرق بين عربي أو أعجمي فيها، ويتم اختيار أكفأ الأشخاص لنيل المناصب بها، دون النظر إلى أيِّ اعتبارات سواء كانت عنصرية أو دينية أو مالية أو قبلية أو أيٍّ كانت، ما يهم هو الكفاءة في المجال فقط، ولا شيء غيرها، أناضل أنا وجاري الذي لا يُهمني مذهبه أو هل صلّى أم لا، نناضل سوياً لخدمة المجتمع، تحت سيادة القانون وتحت سقف الدستور الذي يحفظ حقي وحقه.

ومن المُفترض أنّ هذه هي الدولة الإسلامية التي تسير وفق مفاهيم الدين وحسب ما فهمنا من سيرة الرسول والخلفاء من بعده، أن تُسمى في زماننا هذا الدولة المدنية، لأنّ المُسلمين قاموا بتشويه مُسمى الدولة الإسلامية وجعلوا لرجال الدين السلطة العليا في الحكم، بناءً على العلم الديني، وليس بناءً على الكفاءة في الميدان.

لمحاولة توضيح الفكرة، لننظر إلى هذا المستشفى، إذ يتم اختيار مدير له بناءً على أكثر العاملين ديناً وعبادةً بغض النظر عن شهاداته العلمية وخبراته العملية، ويتم اختيار الأطباء العاملين في المستشفى بناءً على معتقدهم الإسلامي أيضاً (سني شيعي إباضي سلفي جعفري.. إلخ)، وكذلك بناءً على عدد ركعات قيام الليل لا لشيء آخر، وهكذا يتم الأمر مع الطاقم، وتتم الترقيات في الدرجات بناءً على عدد ساعات الاعتكاف في رمضان، لا بناءً على الجهد في العمل والخبرة في إدارة الأقسام.

أنت لم تستطع تقبل الفكرة ورأيتها غير منطقية، ورأيت أنّ الصورة المقٌبولة لديك عكسها تماماً؟ نتفق على الصورة الأخرى المطلوبة في المستشفى هي نفسها المطلوبة في الدولة، سواء سميتها المدنية أم العلمانية أم السلوقية، لا يهم الاسم بقدر المضمون، وحديثي هنا عن الكفاءة وليس عن أحكام العدل والزواج والمبادئ المستنبطة من الدين.


اترك تعليقاً