دعونا نعود إلى عام 1944م، تحديداً إلى الشتاء القارس في أوروبا، حينما كانت ألمانيا تحتل هولندا وتفرض عليها حصاراً شديداً في تلك الأيام، مما اضطر الناس إلى تقليل الطعام والاقتصاد فيه لأعلى المستويات وصولاً إلى مرحلة المجاعة في مناطق كثيرة، وقد اضطر الناس إلى أكل العشب ونباتات التوليب، بالإضافة إلى قيامهم بحرق الأثاث للحصول على بعض التدفئة، وعرفت هذه الفترة باسم شتاء الجوع الهولندي أو شتاء الجوع أو المجاعة الهولندية Dutch famine، جميعنا نعلم أنّ الجوع ونقص التغذية يؤثران سلباً على صحة الإنسان، ولكن ما تأثير ذلك على صحة أبناء هؤلاء الجوعى؟ وأبناء أبنائهم؟ أي كل سلالتهم من بعدهم؟

نتيجةً لدراسة السجلات الصحية الجيدة في هولندا، تمكن العُلماء من ملاحظة هذه السلسلة من التجارب الحية للمواليد وأوزانهم وصحتهم بعد عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتهاءً بنتائج مذهلة وغريبة، ما وجده العُلماء هو أنّ الأطفال الذين كانوا في أشهرهم الأولى في الحمل من هذه الفترة المليئة بالجوع كانت ولادتهم بأوزان طبيعية، لكنهم عانوا من سمنة في سنوات حياتهم اللاحقة، أما الذين عانوا من المجاعة في أشهر الحمل الأخيرة، كانت ولادتهم بوزن أقل من المتوسط، واستمروا كذلك لبقية حياتهم، وبمستوى أقل من متوسط الوزن للناس من حولهم.

العجيب أيضاً أنّ هذه الصفات تم توريثها إلى أبنائهم أيضاً، أي الأحفاد (الأجيال التالية) من الأمهات التي عانت من الجوع، مع أخذ الاعتبار أنّ طبيعة أكل الناس عادت إلى ما كانت عليه قبل الحصار، وأنه لم تعد هُنَاك مُشكِلة في التغذية، ويُشير العُلماء إلى أنّ التغييرات هذه في متوسط الأوزان عائدة إلى تأثيرات البيئة في جينات الناس وليس إلى مشكلات التغذية، وفي وصف آخر إنّ الظروف الخارجية على الجينات أدت إلى تغييرات طويلة موروثة على الأحفاد، لحظة، أليس هذا ما كنا نعتقده بأنه تطور؟

من المنطقي أيضاً أنّ التغييرات البيئية لا تملك القدر الكافي لتغير ترتيب الدنا، إذ لا يزال الأبناء قد حصلوا على جيناتهم من آبائهم وأمهاتهم في فترة قصيرة، أي أنه يجب أن يكون هُنَاك مفهوماً آخراً ما دامت الجينات هي نفسها، يجب أن يكون هُنَاك عوامل أخرى أثرت على شكل الجينات التي يجب أن تتفعل في هذه الظروف القاسية، يقول العُلماء أنهم حددوا هرمون شبيه بهرمون الأنسولين الشبيه بهرمون النمو على أنه الهرمون المسؤول عن هذا الأمر [29].

يقول الدكتور Bas Heijmans أنّ العوامل فوق الجينية هي الآلية التي يتم من خلالها مواءمة أو تطوير الأشخاص للظروف السريعة المحيطة، ومن الممكن أنها السبب الرئيسي المؤثر على أطفال شتاء الجوع الهولندي، أما عالم الأعصاب Oded Rechavi يقول أنّ هؤلاء الأطفال بدا عليهم التأثير الكبير الوراثي من خلال جوع آبائهم.

تكمن المُشكِلة في دراسة هذا العلم هو أنّ ملاحظة تأثيره لا تتم على الجيل الحالي، بل تتم على الأجيال اللاحقة، الأمر الذي لا يعطي نتائج واضحة ودقيقة، كذلك حداثة هذا العلم فقد بدأ تسجيل ملاحظاته منذ وقت قريب، تُشير الدراسات على عظام أبقار البيسون في منجم الذهب الكندي إلى أنّ العوامل فوق الجينية كان لها أثر كبير على التغييرات الظاهرية في أجسام هذه الأبقار لتواجه تغييرات المناخ وتتكيف معها، وهذه التغييرات أسرع بكثير من التغييرات التقليدية التي يرسمها أنموذج التطور في الانتخاب الطبيعي، وهذا ما تقوله دراسات جامعة Adelaide عبر دراسة العظام ودراسة تفعيل بعض الجينات وتعطيل أخرى في الدنا نفسه دون وجود تغيير على تسلسل الدنا نفسه، دون وجود عملية تطور كما هو التطور لقياسي الذي يفرضه التطور.

سبق وتحدثنا عن فئران الأغوطي، فقد تم تفعيل بعض الجينات في سلسلة الدنا نفسها وتعطيل أخرى، ونتج ولادة فئران مُختلفة الشكل واللون؛ مع أنها تتبع تسلسل الدنا نفسه، وذلك عبر تزويد الأم بفيتامين بي 12، يقول التطور في الدارونية الجديدة أنّ الطفرات والانتخاب الطبيعي هما السبب الأساسي للتنوع الحيوي على الأرض، وهذا ما يجعلهم يعارضون بشدة ما توصل إليه علم فوق الجينات، وما زالوا يصرون على أنّ التطور عملية بطيئة وطويلة، وأنّ الطفرات العشوائية هي المسؤولة عن هذه التغييرات الهائلة.

يضيف علماء فوق الجينات أنّ الأمر ليس له علاقة بالتطور، بل هو موجود فعلياً داخل تسلسل الدنا الحالي، هناك مجموعة كبيرة من الجينات الداخلية التي تنتظر عوامل معينة من البيئة لتتفعل أو تتعطل داخل الكائن الحي، وهو يشبه وجود صفحات مطوية في كتاب، تنتظر أن تصل إلى فصل معين لتُفتح للقارئ حسب ظروف معينة يحددها الكاتب.

وهذا ما يقود العُلماء إلى أنّ هذه جينات موجودة ومكتوبة في دليل الكائنات تتفعل أو لا تتفعل بناءً على أمر ما، وليست أموراً إضافيةً لم تكن موجودة في تسلسل الدنا وفجأة ظهرت عليه [29].

وقد أكّد الدكتور دينيس نوبل أنه بعد ما توصل إليه العلم في علم فوق الجينات، يجب على التطوريين إعادة كتابة نظريتهم بطريقة جديدة لأنها كانت تعتمد على الطفرات والانتخاب قبل معرفة تأثير العوامل فوق الجينية ودورها، بل يضيف أنه بعد فهمنا للجينات، تأكدنا أنها في الحقيقة غير ذات قيمة واقعية، وهي معلومات مجهولة Passive إلى أن يقوم جزء آخر من الجسم بتفعيلها مثل بروتين ما، كما سنوضح.

ونستذكر هنا العالم الفرنسي لامارك إذ كان يتبنى فكرة أنّ الصفات الوراثية مكتسبة من الصفات الأبوية، مثل أنّ طول عنق الزرافة مكتسب من أباء الزرافة التي أطالت رقبتها لتصل إلى الأشجار الطويلة، وهذا ما رفضه العُلماء من بعده في أماكن كثيرة، ولكن العالم دينيس نوبل يرى أنّ ما يقوله لامارك أقرب إلى الحقيقة من باقي نظريات التطوريين الجديدة، وذلك بالاعتماد على علم فوق الجينات الذي بين أيدينا.

يقول البرفسور آلان كوبر ما خلاصته أنّ التغييرات السريعة في الصفات الوراثية للتكيف مع تغييرات المناخ السريعة ليست ناتجة من عملية تطور تعتمد على الانتخاب الطبيعي والطفرات، بل هي أقرب لما يقوله علم فوق الجينات، وهذا يجيب أسئلة كثيرة كنا نطرحها وننتظر الإجابة عنها، وهذا ما يبين أن المصمم قد كتبها وكانت إحدى التقنيات التي أودعها في خلقه لمواءمة التغييرات البيئية الكبيرة [29].


اترك تعليقاً