لقد جاء القرآن لكافة الناس وبلُغة سهلة واضحة إلا أنّ اجتهادات بعض المفسرين أوقعت الناس في حيرةٍ وارتباك من خلال اختلاف الآراء وكثرة المذاهب وافتراضهم أنّ القرآن صعبٌ مُستصعب لا يفهمه سوى المختصين رغم أنه من المفترض أن تكون هذه الكتب مُيَسِرة ومُبسِطة ومُوجهة لعامة الناس.

من المؤسف أنّ بعض من كتب التفسير تحيّزت إلى مذاهب المفسرين، فبدأ كل مفسر يروج لمذهبه، بل واعتمدت في أحيان كثيرة على أفكار وخُرافات وقصص الأديان السابقة التي جاء الإسلام ليمحوها، وبذلك صار القرآن تابعاً وليس متبوعاً، وقليل منا من يقرأ القرآن دون أن يكون مُشبعاً بمعانٍ وتفسيراتٍ تاريخية له، قليل منا وهو يحاول الدخول إلى القرآن، لا يدخله من بوابة التاريخ، بعكس ما هو مطلوب منا.

علاوةً على محاولات تطبيق الفيزياء على الدين مثل حسابات الجنة والنار، فهُنَاك من يحاول تفسير حجم جهنم بناء على حديث الحجر الذي يسقط في جهنم ب 70 عام ومقارنته بمساحة الجنة كعرض السماوات والأرض والخروج بنتيجة أنّ جهنم صغيرة أقل من 1% من الجنة، وغيرها من التفسيرات التي لا معنى لها [4].

نعم، هُنَاك أمور في الدين يجب العودة إلى المختصين لفهمها، لكن أن نفرض آراء الفقهاء السابقين بالكامل لفهم القرآن العربي المبين أمرٌ يُفقِده معناه، يجب فتح باب الاجتهاد دائماً، ويجب وجود مختصين أفنوا حياتهم لهذا الدور العظيم.

لكن يجب التنويه إلى أنه يُسمح بالاجتهاد لمن يملك الأدوات، أنا مبرمج يحق لي أن أجتهد في عالم البرمجة، لكن لا يحق هذا لي في عالم الطب، يجب أن أملك الأدوات اللغوية والعلمية لكي أجتهد، وهي تكلف 20 عاماً من الدراسة المتخصصة -في أقل تقدير- وكما لا يصح في الطب أن نطلق على من طالع كم كتاب فيه لفظة المفكر الطبي، ولا يصح لهذا “المفكر” أن يفتي في الطب، فإنه لا يجوز على من قرأ بضعة كتب في الفقه الإسلامي أن نطلق عليه المفكر الإسلامي أو المفسر القرآني، وإنّ القرآن رغم كونه كلام الله، إلا أنه يتم بلسان البشر، وهذا ما يخلق في كثير من الأحيان خلافات متفاوتة في فهمه، مع أنّ أغلب الآيات فيه قطعية الثبوت وبعضها ظنية الدلالة (ليست قطعية الفهم).

إنّ نصوص القرآن أزلية مُتعالية عن التاريخ، لكن فهمهما يخضع لعوامل التاريخ، هي كلام الله معبر عن صفاته بميزان البشر المتواضع.

ثم نجد محاولات التفسير التاريخية من قبل البعض معتبرين في تاريخانية النص القرآني أنه إنتاجٌ دنيوي، ومحاولات إسقاط أفكار لا داعي لها، فمثلاً في آية )وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ( يتكلم الله عن السفن الشراعية التي تسير في البحار، ويقول يمكنه أن يمسك الريح فتتوقف السفن، ويحاول البعض في زماننا هذا جعلها آية تاريخية لا تصلح لهذا العصر الحديث، عصر البواخر والغواصات، ويحاول العقلانيون عقلنتها أكثر من اللازم فيقولون ماذا عن السفن الحديثة التي لا تملك شراعاً؟

وللرد على أهل تاريخانية النص نتساءل ما علاقة السفن الشراعية بالزمان؟ هل لو أتينا بسفينة شراعية اليوم لن تنطبق عليها الآية؟ أيها العقلانيون ماذا تريدون من القرآن أن يقول؟ إن يشأ يمسك البنزين! فيأتينا بعد 50 عام شخص عقلاني آخر فيقول لا يوجد بنزين اليوم، هُنَاك سفن نووية، ولو قال الله إن يشأ يمسك النووي، ثم بعدها تتغير إلى هيدروجين، ماذا تريد من القرآن أن يكتب؟ ما رأيك بـ يمسك قانون نيوتن الثالث الذي يُعد أساس عمل دفع السفن، ولعلي أذكرك أنّ العُلماء يعملون على كسر قانون نيوتن الثالث، لذا فأي صيغة ستكون متغيرة، ولو كانت سابقة لزمانها فلن يفهمها الناس، العقلنة الزائدة لا معنى لها، الفكرة من الآية كما فهمتها أنّ السفن تسير بمشيئة الله.

وماذا لو أمعنا النظر أكثر في الآية، ماذا لو كان هُنَاك معنى أوسع مما نراه؟ فكلمة الريح تأتي في القرآن الكريم بمعنى القوة كما في قوله تعالى: )وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ( أي تذهب قوتكم ووحدتكم، وورد في معجم لسان العرب أنّ كلمة الريح تعني القوة، وقد تكون الريح بمعنى الغَلَبة والقوة، قالت العرب: أَتَنْظرانِ قليلاً رَيْثَ غَفْلَتِهمْ، أو تَعْدُوانِ، فإِنَّ الرِّيحَ للعادِي، ومنه قوله تعالى: )وتَذْهَبَ رِيحُكُم(، قال ابن بري: أَقْوَتْ ومَرَّ عليها عهدُ آبادِ جَرَّتْ عليها رياحُ الصيفِ أَذْيُلَها، وصَوَّبَ المُزْنُ فيها بعدَ إِصعادِ وأَرَاحَ الشيءَ إِذا وجَد رِيحَه.

حينها يصبح معنى الآية أوسع من فكرة الريح والهواء، وتصبح تنطبق على القانون الثالث لنيوتن ومتماشياً مع ما تريده عزيزي العقلاني، مع أنّ هذا السياق التفسيري لا أحبه ولا أفضله، وهو من السوء الذي تمر به البهرجة الزائدة في علوم اللغة والقرآن.

الأمر نفسه يمكن قياسه على آية )وأرسلنا الرياح لواقح( هل مع تقدم العلم لا يمكن الاعتماد على الرياح في التلقيح ويمكن اعتبار الآية من الآيات التاريخية؟ لكن مهلاً لقد كان التلقيح باليد وبواسطة الحشرات منتشراً في عصر النبوة، ولكن للتلقيح بواسطة الرياح قيمة خاصة تصلح لذلك الزمان، ولزماننا، وللأزمان التالية ولذلك ذكرها الله في كتابه.

من البديهي أن نرى القرآن الكريم في بعض آياته يتحدث عن عصر النبوة وما تلاه من العصور الماضية كقوله تعالى في سورة الزخرف عن السفر والدواب )لتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ( ما كان الله ليذكر السيارة أو القطار، والهدف هو العبرة، ولمحبي فكرة تاريخانية النص، لا يزال السفر قطعة من العذاب، رغم كل التطور، لربما حاولتم السفر إلى غزة لتروا هل هو قطعة من العذاب أم لا، وإن اختلفت درجات ونوع العذاب، يبقى السفر رحلة من العذاب، وهو نفس ذكر القرآن للخيام، كمعنى للبيت في ذلك الزمان.

وهُنَاك آيات أخرى يخاطب بها الله أهل هذا الزمن وما بعده مثل ) أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما( فإذا افترضنا هنا المقصود هو الانفجار العظيم وهي النظرية التي كما رأينا يعتبرها العُلماء هي الأساس في بداية الكون، مع أني ضد التفسير العلمي بهذا الشكل، لكن هدفي هنا طرح أنّ الآية ليست للزمن الماضي، وهذه الآية لم يُعرف معناها إلا في زمننا هذا، وآية مثل )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق( التي نرى أنه قد بات لها معنىً قوياً في زماننا بعكس الزمان السابق، وذلك بسبب التقدم العلمي الرهيب والذي لم يكن أيام الرسالة ولا حتى بعدها بقرون، من كان قبل 300 عام يفهم عظمة الآفاق وبديع الكون، ومن كان يعي عظمة “أنفسهم” أي عظمة جسم الإنسان والأحياء!

ولذلك فالقرآن الكريم كتاب الله تعالى مرسل لكل الأزمان من وقت البعثة النبوية الشريفة إلى آلاف السنين للأمام، ولا غرابة أن تكون بعض آياته موجهة لأهل الماضي وبعضها موجه لنا وبعضها موجه إلى أهل المستقبل.

لا كهنوت في الإسلام كباقي الأديان، فلا توجد مؤسسة فيه تحتكر تفسير الدين ما يجعلها بوابة حصرية لله، فالإيمان واضح فيه وطلب الصلاة وفرض الصيام والمحرمات كذلك محاسن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام واضحة والتي تمثل مراد الله في البشر، ولا يعني هذا عدم وجود آيات تحتاج إلى تأمل من متخصصين آخرين أكثر قدرة على تبيانها كعلماء الدين، لكن بشكل عام كمُتَدين فإن ما هو مطلوب منك في القرآن الكريم تستطيع فهمه دون واسطة، ودون الحاجة إلى أي جهة تقول لك: لا تأخذ دينك إلا مني. لأن الله في دينه يخاطبكم مباشرة، فلا تجعلوا بينكم وبين الله حاجزاً ما أنزل الله به من سلطان، لديك كتاب الله وسنته، يمكنك أن تبحث فيهما في أمور الحياة اليومية والمعاملات بكل سهولة على ألا تنسى حدودك.

ومن الأمور التي ارتبطت بتفسير القرآن من قبل المفسرين هي الاهتمام بقضية أسباب نزول الآيات وجعلها مدخلاً لفهم آيات الله مع أنّ أحداً لم يهتم من الصحابة بهذا الأمر ذلك الاهتمام، ولم يَتَلقَفه التابعون منهم تَلَقُف غيره من العلوم، ولم يعتنِ به المحدثون ذلك الاعتناء، ولم يُفردوه باهتمام خاص به، إلا من حيث هو قرائن مساعدة في فهم الصحابة للآيات[5].

وتكثر الروايات المتضاربة، والأحاديث المتناقضة حول أسباب النزول، مما يدل على عدم العناية بها، وضبطها، وعلى اختلاف القصد باسم “السبب” إذا ذُكر، بل وأغلب ما يسمى أسباباً لا يدخل في باب الأسباب، وقد وقع تكلفٌ كبيرٌ من المتأخرين في استخراج الأسباب، حتى أصبح النص القرآني يقسم إلى مقاطع، وفقرات قد لا يمكن فهم النص معها لو تصورت ما اعتبروه متقدماً أو متأخراً لم ينزل حينها.

لُغة العرب

للكلمات دلالات راسخة في عقولنا فمثلاً نستخدم نحن كلمة العلو وعالي ومرتفع في الدلالة على النجاح والتقدم، نقول مستوى عالٍ، لقد صعد للأعلى وهكذا، ماذا لو بعد قرن من الزمان كان الهبوط هو النجاح، أو في أمة من الأمم الهبوط للأسفل له معنى أفضل من العلو، مثلاً يسكنون جبلاً واعتادوا على العلو، فالتميز لديهم هو الهبوط أو النزول، حينها لكي تفهم النصوص الخاصة بهم يجب عليك أن تفهم آلية تفكيرهم، وجملة عامة مثل: من كان يعرف عدد النقود التي بجيبه كان مفلساً، وهي جملة تفيد أنّ الغني من كثرة نقوده يجب ألا يعرف كم يملك، أما الفقير الذي يملك القليل القليل، فهو يعد كل درهم ويعرف أين سيذهب، هذه هي اللُغة وهكذا تستخدم، هل لو استبدلنا غير هذه الصيغة لتعريف الفقر لكانت أفضل؟ أي كتبنا الشخص الفقير هو الشخص المُفلس! هكذا جمال كلمات اللُغة فتُعطي في النفس تذوقاً خاصاً، هل لو كان القرآن كتاباً مباشراً يحتوي على نواهٍ وتعليمات دون جماليات اللُغة سيكون أفضل؟ هل لو قال القرآن بشكل مباشر القتل سيء، والسرقة عيب سيكون وقعه في النفس كما لو كان يحتوي على الأساليب البديعية؟ وهل سيكون مناسباً لكل زمان؟

ما المطلوب من الدين أكثر، ما دام وصلك منه فكرة جوهر صناعة الخير وفكرة أحب لأخيك ما تحب لنفسك والغاية هي تحقيق العدل والمساواة والحُريّة وغيرها، هل تريد أن يخبرك القرآن كيف تفتح الفيسبوك ليصبح كاملاً في نظرك؟ وهل لو جاء بكلام عن المستقبل لفهمه أحد! أو لو أتى برسومات مثل كوديكس سيرافيني سيكون كتاباً خارقاً أفضل!

مثال مباشر، كشخص عربي حينما تقرأ في القرآن وما كان الله بظلام للعبيد، قد تتساءل، كيف هذا، إنه أمرٌ غير منطقي، فحينما ينفي أحدٌ عن نفسه صيغة المبالغة، هذا يعني أنه يقوم بالفعل، هو ليس بظلام (صيغة المبالغة)، أي هو ظالم عادي وليس مبالغاً، وبعد المزيد من التفكير والعودة إلى كلامنا نحن العرب، نجد أننا نقول في يومياتنا: انتظر لماذا تضع لي كل هذا الموز؟ أتراني أكّيل (أكول) موزٍ؟ وترانا نقول لماذا تتهمني بكسر الزجاج؟ أتراني كسّير زجاج؟ أتراني شرّيب خمر؟ أتعتقد أني لعيّب كرة قدم؟ وهكذا، الصيغة في القرآن هي صيغة شائعة، ولكن للوهلة للأولى أو لشخص غير متحدث بطلاقة يرى فيها مُشكِلة.

نستطيع أن نرى بوضوح أن أغلب المشكلات التي تُطرح مع آيات القران اللغوية نابعة من هذا السياق، ولذلك ما دمنا لم نبحث بعمق ولم نملك المعرفة الكاملة فلا يجوز لنا التسرع في الحكم، ومراجعة اللغة ومختصو الدين، وذلك ظاهر أيضاً في آية )وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا(، فالقرآن يحث على قطع يد المتمرس في السرقة كعقاب أو كردع للمجتمع، وليس قطع يد من سرق أول مرة رغيف خبز، فالسارق هي دلالة على وصف التصق به من تكرار الفعل فأصبح سارقاً، كما نصف أي صاحب مهنة مثل الشاعر أو الحداد أو النجار، أما لو أراد القرآن أن يصف الذي قام بفعل السرقة لأول مرة لقال “من يسرق” أو الذي يسرق، وليس السارق مكرر الفعل، ودليل هذا كم عدد الذين قطع رسول الله أيديهم في زمانه!


اترك تعليقاً