للعلم صفحات سوداء لا يمكن تجاوزها إلا وذرف الدموع بكل ما نملك من مشاعر إنسانية، هذه الصفحات تُبين أنّ العلم المُجرَّد دون أخلاق أو مبادئ هو علمٌ يعمل ضد البشرية، ولا معنى للعلوم إن لم يكن هدفها فائدة الإنسان وتحسين حياته، وليس إنساناً بعينه، بل كل إنسان مهما كان، والظاهر أنّ العلم لا يرى البشر سواسية، وكل باب منه يصنف البشر تصنيفات تتناسب مع هواه، تحسين النسل أو اليوجينيا Eugenics إحدى هذه الصفحات السوداء التي يجب أن نذكّر أنفسنا بها دائماً، حتى لا نرفع سوط الأخلاق عن العلم ونَخُطُّ المزيد من الصفحات السوداء.
كان داروين يرى أنّ التخلّص من السود وسكان أستراليا الأصليين وأهل الأسكيمو على يد أصحاب العرق الأرقى يُشكِلُ قيمةً أخلاقيةً تحافظ على جودة الأعراق وتدفع البشرية للأمام عبر تسريع عملية التطور، وقد سلم العُلماء المُؤمِنون بالتطور من بعده أنّ الأخلاق أيضاً تتطور بدورها عبر العرق السائد.
وقد أكد داروين على أنّ الأعراق الراقية من الإنسان لن تتابع خطواتها في الارتقاء إلا من خلال الصراع، وذلك عبر إبادة الأعراق المُنحطة التي كانت تشكل حلقة وسيطة من أسلافنا ولم تندثر بعد، فقد قال: “في فترة مستقبلية ليست بعيدة، ستقوم الأجناس المتحضرة من الإنسان بإبادة واستبدال الأجناس الهمجية عبر العالم”، لاحقاً، انطلقت أفكار داروين كالنار في الهشيم لتؤسس ما يعرف بالداروينية الاجتماعية والتي كانت تنادي بقوة إلى ضرورة إنزال قوانين الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح على علم الاجتماع والسياسة، ولا أعرف في التاريخ فكرة أسوأ من هذه الفكرة! قتل الناس واعتبارهم حيوانات لأن مجموعة من الأشخاص يعتبرون أنفسهم أفضل، فلا مانع أن تقوم الأجناس التي تعتبَر نفسها أكثر تطوراً دارونياً باصطياد باقي الناس في الطرقات وتسخيرهم لمنفعتهم تماماً كما نفعل نحن بالحيوانات، فما هذا الجنس الراقي إلا حيوانات أكثر تطوراً وعليها أن تمارس ما أعطته لهم الطبيعة، وإلا لو تطورت الأجناس الأخرى، فإنها ستذيقهم الكأس نفسه، وقد تُوجت هذه الفكرة لاحقاً بإنجاب النازية للعالم.
حسناً، لربما نعتقد أنها مُجرَّد أفكار وتم تطبيقها داخل إطار ضيق، إلا أنه وبكامل الأسى استند عليها العدميون كما وصفهم نيتشه وأمسى لديهم هدفاً جديداً في عدميتهم التي تخلو من أي معنى أخلاقي، وبدؤوا بإجراء إبادات جماعية وحملات تطهير عرقي ضد الأفارقة وسكان الأمريكيتين وأستراليا الأصليين، صحيح أنّ جزء من استعباد وقتل الأفارقة كان يتم قبل هذه الأفكار، إلا أنّ وجود مبررات أخلاقية للقيام بهذه الجرائم فتح الباب على مصراعيه، وعلى سبيل المثال لا الحصر أفاد جيمس برنارد أحد الشخصيات المسؤولة في أستراليا أثناء حملات إبادة سكان أستراليا الأصليين عام 1890م بأنه قد أصبح أمراً بديهياً أنّ الأعراق الأدنى من الجنس البشري يجب أن تفسح المجال للأنواع الأعلى، وذلك وفقاً لقانون التطور والبقاء للأصلح [159]، وقد اشتملت هذه الحملات على الكثير من الفعاليات مثل القتل والاغتصاب والتعذيب والتنكيل والنهب والسطو، بل وتعدت إلى سرقة الأطفال وإرسال أعداد كبيرة منهم إلى متاحف التاريخ الطبيعي في أمريكا وبريطانيا للبحث في إمكانية كونهم يشكلون الحلقة المفقودة في طريق تطور الحيوان إلى إنسان! وحينما استيقظت البشرية من جديد ورأت ماذا فعلت بأبنائها بدأت تحاول إصلاح هذه الجرائم بمحاولات الحزن والبكاء، منها يوم الحزن الوطني National Sorry Day الذي يُقيمه سكان أستراليا الحاليون تعبيراً عن أسفهم عما قاموا به ضد سكان أستراليا الأصليين، وفي عام 2008م اعتذر رئيس وزراء أستراليا كيفين رود بشكل رسمي للأجيال المسروقة، لما لهذه الصفحة من سواد في التاريخ الحديث يجب العمل على إزالتها دائماً.
وقد أنتجت لنا هذه الأفكار مبدأ اليوجينيا الذي حاول بطرق علمية تسريع تحسين النسل لدى البشر ودفعهم للتطور بشكل أسرع، وكله في إطار علمي لإزالة الأمراض الوراثية وغيرها من الصور المزعومة، وحصر عملية الإنجاب على الأشخاص ذوي الصفات الراقية والكاملة، وأما من لديهم أمراض أو أشكالهم لا تعجب من يرون أنفسهم الأكمل فيجب إجراء العقم القسري لهم.
تخيّل ما كان يجري في أمريكا في عشرينيات القرن الماضي، أي قبل أقل من 100 عام من كتابة هذه الصفحات، في تلك الحقبة الماضية وُضعت قوانين دستورية صارمة أنشأ جراءها المجتمع مكاتب تُدعى مكاتب التسجيل اليوجيني يتم فيها تسجيل الأسماء وتسلسل العائلات بناءً على أفضلية النسل، بل وأقام المجتمع أقساماً جامعية لدراسة علم التطهير، وقد أجرت بعض الولايات تعقيماً قسرياً لما يزيد عن 20 ألف حالة [160]، ويذكر أنّ ولاية كاليفورنيا قد عقمت أعداداً تزيد عن كل الولايات مجتمعة، وقد نتج عن هذا أعداداً مهولة لحالات تم تعقيمها دون توثيق رسمي [2].
الأمر أشبه بفيلم خيال علمي، فقد كانت هُنَاك مكاتب يتم تسجيل وتجميع المعيوبين خلقياً كما يراهم الأكفأ ويتم التخلص منهم أو خصيهم أو ما شابه، وكانت هذه المصحات تحتوي على تعذيب واغتصاب واعتداءات وتجارب متنوعة، ولم تنتهِ هذه الظاهرة إلا في خمسينات القرن العشرين في أمريكا، بل وفي السبعينات في بعض الدول كما ألبرتا في كندا! أي قبل جيل أو جيلين فقط، ويذكر أنّ ألمانيا وحدها قد أجرت 400 ألف حالة تعقيم رسمية أثناء نازيتها، ولا ننسى ملايين اليهود الذين أحرقتهم بلا رحمة، والذين قد خُدِعوا بدورهم وأُرسِلوا إلى فلسطين وقاموا بما هو أسوأ.
إنّ فكرة اليوجينيا لم تنتهِ وإن انتهت ظاهرياً بعد الحرب العالمية الثانية، وطالما استمر اعتبار الإنسان مُجرَّد حيوان ناطق، ستبقى اليوجينيا حبيسة فكرة تطويره وأفضلية النسل والسلالة النبيلة وغيرها، أوضح مركز التقارير التحقيقية في كاليفورنيا عام 2013م وجود حالات تعقيم لنساء بسجن المقاطعة دون موافقتهن، وأحياناً دون علمهن! وفي عام 2002م أظهرت التقارير الرسمية أنّ هُنَاك ما يزيد عن 200 ألف حالة رسمية جرى تعقيمها من السكان الأصليين بقرار رسمي من رئيس بيرو ألبرتو فوجيموري، لم تنتهِ اليوجينيا بالمطلق من العالم، ما زالت تُمارس بالملايين في الهند، والصين التي منعت رسمياً زواج ذوي الإعاقة الذهنية، والبوسنة والهرسك التي تم قتل الناس فيها بلا رحمة، آلاف الرجال والنساء قتلوا ونكلوا واغتصبوا، وهنا في فلسطين جرائم الصهيونية، وفي ألمانيا النازية الجديدة وغيرها، ويجب أن نؤكد أنه ليس فقط حياة السود مهمة Black Lives Matter، بل كل حياة مهمة All Lives Matter، ومن أعطاك الحق لتسلب حياتي مني أيها المغرور، هل أنت من وهبني إياها!
دعونا لا ننسى حدائق الإنسان Human zoos التي أقيمت وتم فيها استبدال الحيوانات بالبشر، بي وبك وبأمك وبابنك وبصديقك، تخيّل أنه لمُجرَّد أنّ وجهك لم يُعجِب أحد ما، فسيتم زجك في حديقة يزورها الناس ويلقون إليك الموز، ولا ينتابني إلا الضحك الهستيري جراء تصور أنّ هذا قد يحصل لي أو لأحد أعرفه، فهذا أمر خيالي لا أستطيع تصوره، ولا أتخيّل مدى سوء عقول الناس الذين تقبلوا هذا الأمر، سحقاً للعلم دون أخلاق.
أو أتخيل أنّ أحد الأثرياء قد جلب جرواً بشرياً أسود البشرة لابنه لكي يتسلى به ويطعمه ويلاعبه، أو لأنني إفريقية ولديّ المزيد من الدهون في منطقة الحوض -وهو اليوم معيار للجمال – يتم الزج بي في حدائق الإنسان عارية لكي ينظر الناس للإنسان الحيوان في مرحلة التطور، وقد أقيمت هذه الحدائق في كثير من الدول مثل بلجيكا وألمانيا وفرنسا واليابان، فمثلاً حديقة فرنسا -سيدة التحضر- كان فيها أناس من مدغشقر والسودان والكونغو والمغرب وتونس، فظائع كثيرة مرعبة لا يمكن لعقل إنساني أن يرغب في قراءة
المزيد عنها.
رسم توضيحي 67 صورة من حدائق البشر في بروكسيل،بلجيكا عام 1958م.
على الرغم من تكرار الاعتذار في كثير من الدول عن اليوجينيا، إلا أنه يبقى اعتذاراً ناقصاً، فأنت تعتذر عن استخدامك السيف ضد الناس، ولكنك لا تزال تسير شاهراً هذا السيف وتتفاخر به، ولا يمكن اعتبارك صادقاً إن لم تكسر هذا السيف للأبد، ما زال التطور يرى أنّ الناس ليسوا سواسية وأنهم حيوانات متطورة بدرجات، ويدعمون الأجناس السائدة والأرقى جينياً، وفي ذلك أقاموا الحرب العالمية بشراسة فيما بينهم ولا ينكر كثيرٌ من المؤرخين أنّ الدارونية بفكرها الحيواني والتمييزي كانت أحد أهم عوامل الصراع في الحربين العالميتين، ويمكن القول أنه على الأقل هناك 120 مليون إنسان قتلوا جراء هذه الأفكار، وهذا الرقم يتجاوز أضعاف أضعاف أضعاف ما آلت إليه كل حروب الأرض مجتمعة من قتل وتنكيل فقد قُتل:
- 42.6 مليون في عهد (ماو تسي تونغ) الصين.
- 37.8 مليون إنسان في عهد (جوزيف ستالين) روسيا.
- 20 مليون في عهد (أدولف هتلر) ألمانيا.
- 10.2 مليون في عهد (شيانغ كاي شيك) الصين.
- مليون في عهد (هيديكي توجو) اليابان.
- مليون في عهد (فلاديمير لينين) روسيا.
- مليون في عهد (بول بوت) كمبوديا.
وغيرها من قائمة طويلة من الأرقام من الحروب والمآسي جراء الأفكار غير الدينية، كالقومية والأفضلية، ولا يمكن أن يكون هُنَاك من يؤمن بالتطور ويؤمن بالمساواة بين البشر، كيف سيكون هذا والتطور يُمايز بين الأجناس ويدّعي أنّ أحدها أرقى من الآخر، كيف ستقف في وجهي وتقول أنا أؤمن بالمساواة وأؤمن بالتطور على حد سواء؟ إما أنك خائنٌ لدارونيتك، أو أنك خائنٌ للإنسانية، ولا خيار آخر.
ولا يقف معيار الإنسان مهما كان حائلاً أمام الفلاسفة والعُلماء، هم لم يؤمنوا بقيمة مطلقة للإنسان وهم سبب كثير من المآسي، يقول نيتشه في أعلى كتبه، هكذا تكلم زرادشت: “تخلّص من الضمير ومن الشفقة والرحمة، تلك المشاعر التي تطغى على حياة الإنسان الباطنية، اقهر الضعفاء واصعد فوق جثثهم، لن نتمكن من بناء الإنسان الأعلى إلا إذا كفرنا بالأخلاق والعطف والرحمة” ولك أن تتخيل وقع كلمات نيتشه على عدمية أوروبا! على قارة بلا قوانين أخلاقية في ذاك الوقت، ونرى في هذا الزمان أنّ عيوب الإنسان هي سبب قوته وتميزه عن غيره، وكثير من المآسي الطبية والنفسية أنتجت إبداعاتٍ هائلة تخطت حاجز الدهشة البشرية، ألا توافقني عزيزي نيتشه[1]!
ويضيف الفيلسوف الألماني ألكسندر تيلا في كتابه من داروين لنيتشه: “إنه من الخطأ الشديد مُجرَّد محاولة منع الفقر أو مساعدة الضعفاء، إنّ مُجرَّد مساعدة هؤلاء خطأ جوهري في النظرية الداروينية، لأنه يتعارض مع الانتخاب الطبيعي”، وحتى في جانب رحمة المرضى من الموت يرى الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر أنّ فكرة تدخل الدولة في الحماية الصحية لمواطنيها وتزويدهم باللقاح تعارض أبسط بديهيات الانتخاب الطبيعي، وبذلك الدولة تساند الضعفاء وتحاول حماية المرضى والحرص على بقائهم”، ويقول كانط في سياق العنصرية والاستعلاء: “إن زنوج القارة الأفريقية بطبيعتهم لا يملكون إحساساً يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة”.
كثير من العلوم التي شيّدنا عليها أبراجاً جراء التفكير التطوري باتت على شفا جُرفٍ هارٍ، فعلوم النفس التي تدخل الناس السجون والمستشفيات وتحكم بعدم أهليتهم وتتعامل معهم بقسوة في أحيان كثيرة جراء اعتبار المريض حيوان غير متطور، كثير منها حازت على ملاحظات علمية هائلة، وهُنَاك الحركة العلمية ضد العلوم النفسية الحالية والتي تسمي نفسها بـ anti-psychiatry movement، التي أرسلت طبيباً سليماً كاختبار إلى أحد المصحات، وقد أكدت المصحة أنه مريضٌ نفسيٌ! وتكررت الحادثة هذه مرات عديدة، ومن ناحية تطورية فقد تكون الصدفة أعطتنا فكرة عشوائية مفادها أنّ اغتصاب الأطفال أمرٌ عاديٌ ولا مُشكِلة فيه، وقد تكون أعطتنا طفرة عشوائية تجعلنا نفكر أنّ قتل الأب والأم حين كبرهما أمراً أخلاقياً، بل وسمعت بأذني علماء كبار مشجعون للتطور يقولون أنّ الاغتصاب له مزايا تطورية، وقتل المواليد الجدد أمر مُفيد إذا كان لديهم إعاقة، وزنا المحارم أمر عادي ولا مُشكِلة فيه، وغيرها من الصور التي تهدم بناء البشرية طوال قرون.
أيها المنادون بأفضلية الأجناس! إنّ كل إنسان هو معركة كاملة بذاته، لديه حربه الخاصة التي يخوضها، كل إنسان قصة مجد كاملة، كل فرد منا مميز كما هو، ولا أفضلية لأحدنا على سائر البشر، أليس من النجاح في هذه الحياة أنك لم تُصَب بالجنون بعد؟ ألا يكفي لمُجرَّد هذا أن تُعتبَر ناجحاً؟ إنه أحد صور النجاح، أحد مستويات البشر الكافية ألا تعتقد نفسك أفضل، ونبقى أيها السادة بين منهجين، منهج يساوي الإنسان بالحيوان ويتعامل معه وفق هذا المنطلق، ومنهجٌ يساوي الإنسان بالإله ويتعامل معه من باب التمييز والتقدير والرفعة، أيُّ المنهجين أكثر فائدة للبشرية؟ أي المنهجين أنسب لها؟ حتماً ليس المنهج الذي يراك حيواناً ناطقاً.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.