منذ أن بدأ التاريخ رأينا أنّ البشرية تبحث عن إجاباتٍ لأسئلة كبرى، ويأتي على رأس هؤلاء الباحثون علماء البشرية بشتى مجالاتهم، وقد ارتبطت هذه الإجابات دائماً بالسؤال الأول: هل الله موجود؟ وفي محاولة إيجاد حجج دامغة على وجود الله جلب أرسطو قبل 2300 سنة دليلاً منطقياً على وجود الله وتبعه كما رأينا العديد من الفلاسفة أمثال ديكارت وسبينوزا، وكان رأي الفلاسفة بشكل عام أنه من الصعب أن يدرك الإنسان وجود الله، لأنّ الإنسان محدود بالحواس، وفي هذا السياق قال الفيلسوف الفارابي، يصعب إدراك الله بسبب ما نعانيه من نقص وضعف وبسبب ملابستنا للمادة، ويرى الفارابي أننا نقترب من إدراك الله كلما ابتعدنا عن المادة وارتفعنا فوق المحسوس وارتقينا نحو العقل، ولكن، هل هُنَاك ارتباطٌ عاطفي أو معرفيٌّ بهذا الإله؟ هل هُنَاك شيءٌ فينا دفين يجذبنا نحو الإله؟

تنوعت الأبحاث في هذا السياق فمنها من قال إنّ الإحساس بالإله هو ناتج عن منطقة دماغية لو تعدلت أو أٌزيلت لزال هذا الإحساس، وأكد بحثٌ مُعاكسٌ نشرته صحيفة التلغراف البريطانية حول نتائج بحث أكاديمي أنّ الأطفال يولدون مُؤمِنين بالله، بل ويؤكد البحث على أنّ إيمانهم ليس بحاجة إلى التلقي [162]، يذكرنا هذا البحث بقصة حي بن يقظان وهذه الدراسة وغيرها تم إجراؤها بحيادية تامة ودون تحيز للدين، ويؤكد الباحث في مركز علوم الإنسان والعقل في جامعة أوكسفورد الدكتور جاستين باريت أنّ الأطفال لديهم القابلية المسبقة للإيمان بكائن متَفُوق، وأننا لو وضعنا مجموعة منهم على جزيرة ونشؤوا وحدهم فسيؤمنون بالله، الفكرة كبيرة جداً لكن يملك المُؤمِنين أيضاً أبحاثهم الغريبة وليس الطبيعيون فحسب.

تم إجراء دراسة أخرى في جامعة أكسفورد بقيادة مجموعة من الباحثين المرموقين مثل البروفيسور روجر تريغ حول هل الإيمان بالإله شيء مكتسب أم فطري لدى الإنسان، أشارت النتائج إلى أنّ البشر لديهم ميول للإيمان الديني ولا شك بهذا لأن الدراسة استغرقت 3 سنوات، شارك فيها 57 باحثاً من 20 دولة ومن ثقافات مُختلفة [163]، بحثٌ آخر يشير إلى أنّ الملحدين أنفسهم يخشون الله، ويأملون منه الخير في اللحظات الحرجة، وبعضهم لديهم بعض الإيمان بوجوده [164].

بل إنّ الملحدين أو الماديين يحجون كما يحج أتباع باقي الأديان إلى مزارات ثابتة مثل مواقع مرتبطة بداروين وماركس ولينين وغيرهم من القادة العلميين أو السياسيين أو الأيديولوجيين، وتراهم يبكون ويخشعون بهؤلاء الأبطال، يقول البروفيسور أندرو بيري أستاذ البيولوجيا في جامعة هارفارد، والتي تنظم رحلات زيارة للمواقع التي تتعلق بداروين كل عام في إنجلترا: “إنني أتفق مع وجهة النظر بأنها مظاهر تقديس لكل ما يتعلق بداروين ووالاس ننخرط فيها نحن المهتمين بتاريخ العلوم، نحن نحترم داروين وأقرانه ونشعر بالقرب منهم حين نزور تلك الأماكن المتعلقة بهم، كما يشعر المسيحي حين يحج إلى القدس أنه قريب للمسيح، وكما يشعر المُسلم حين يحج إلى مكة أنه قريب من الرسول” وكلي أسفٌ لِما آلت إليه المادة من انتكاس، أين أنت يا ماركس لترى أتباعك!

يُذكرني هذا بعبارة لروحه السلام التي يستخدمها أتباع الفلسفة المادية لنعي شخص قد توفي، ولا أستطيع أن أفهم المغزى منها، نعرف أنّ المتدينين حينما يموت أحد منهم يقولون هُنَاك شيء اسمه رب، هُنَاك جنة ونار، وروحه ستذهب عند الرب ويتمنوا أن تنزل رحمة الرب عليه فيقولون رحمة الله عليه.

أما غير المتدينين الذين لا يؤمنون بشيء يُدعى الرب، أولى فأولى ألا يؤمنوا بشيء اسمه الروح، فلماذا لا يكون لديهم ((براند)) خاص بهم ويتركوا أدوات المتدينين ويقولون لروحه السلام.

مثلاً أن يقولوا نلعن اليوم الذي فقدناه فيه، لحظة، هذه أيضاً لا تجوز لأن اللعنة خاصة بالمتدينين، حسناً ماذا عن: نتمنى أن يكون سماداً مناسباً للتربة، أو نتمنى أن يحتوي على العديد من الماغنيسيوم ليفيد النباتات … إلخ، الأمر يبدو تهكماً، لكن صدقاً لم أجد جملة أخرى!

ثمة أبحاث ودراسات كثيرة تحاول إثبات وجود الله، بل إنّ علماء الرياضيات حاولوا ذلك كما في مبرهنة عدم الإكمال لعالم الرياضيات كورت غودل، وهو عالم له سمعته وله طرحه، إلا أنها تبقى محاولات لعقلنة الإيمان وإثباته منطقياً، صحيح أنّ الجزء الكبير من الإيمان لا يُعادي المنطق وفي النهاية كل الأمور المنطقية تُفضي إلى أشياء لا يمكن أن تبرهن عليها وعليك الإيمان بأنها صحيحة في علتها الأولى، إلا أنّ الإيمان كما يقول ابن رشد طريقٌ آخر، له مسار يختلف عن العلم، يجب أن يكون فيه تسليم ومع العقل أيضاً، ومع فهمنا أكثر لهذا العالم، نرى أنّ الإيمان والعلم كلاهما أساسيٌ للآخر، فلا علم دون غاية، ولا إيمان دون علم، ونجد هذا موضح أكثر في فصل الإيمان.

ولكل من الدين والعلم ميدانه الخاص، ولا يأتي التناقض إلا إذا تعدى أي منهما حدود الآخر، الدين ميدانه المحراب، والعلم ميدانه المعمل، لا يدخل الدين في المعمل، ولا يجلس العلم في المحراب، والعلم مجاله الواقع والتجربة، والدين مجاله الغيب والوجدان، العلم متغير بحسب الاكتشاف والتراكم المعرفي والدين ثابت بحسب الإيمان والاعتقاد [165]، وإنّ تجاوز الدين لحدود العلم أمرٌ مُحرجٌ للدين ومُفسدٌ للعلم، وتجاوز العلم لحدود الدين مُضرٌ للدين وغير مقنع للعلم، وكل منهما يردم جانب مهم في الحياة، هما رفيقان كالروح والجسد ولا بديل عن أي منهما.

في المختبر يقوم العالِم الحيوي بتطوير اللقاح، والعالم في السياسة يقول يجب أن نشتريه، والعالِم في العلاقات يفاوض على سعره، والعالِم في الصحة يضع خطة حفظه وحقنه، والعالِم في المواصلات يجهز آليات مناسبة لنقله، والعالِم في الأمن يحميه، والعالِم في التنظيم يوزع الأسماء، والعالِم في التكنولوجيا يصنع برنامج لحفظ الأسماء، والعالِم في الفقه يفتي بوجوب أخذ اللقاح، كل عالِم يفتي في مجاله، ليس من واجب عالِم الدين العمل في المختبر، كما هو ليس من واجب الشرطي أن يكون مبرمج حاسوب، كما هو ليس مفترض من الطبيب أن يصبح بطلاً أولمبياً!

ونتساءل كثيراً، لماذا يداهمنا الحزن الغامض في منتصف لحظات الفرح العارم؟ إحدى الإجابات تقترح أنّ الحزن عميق المنبع، بخلاف الفرح الذي هو قشرة فوق سطح بحر عميق من اللاشعور، وفي لحظة الفرح نشعر أنّ فرحاً أكبر لم يحضر، فرح الروح الأصيل حين كانت الروح قبل الحياة في عالم المُثل، إنها تحِنَّ إلى الرجوع، يذكرها فرح صغير مؤقت بالفرح الكبير هُنَاك، صورة نوبات الحنين لشيء لا نعرفهُ، لكننا نشعرُ به في صورة شوقٍ لشيء لا نعرفه، وليعمل العُلماء على تفسير هذا السُلُوك، وإذا كان هُنَاك إجابة علمية، سأقذف بالإجابة الروحية بلا رجعة.

لا شك أن الصحة هي أعظم ما يملك الإنسان، فلو أصيب أصبع الإنسان الصغير إصابة بالغة وتسببت بتهتك أعصاب الأصبع، أو أصاب الإنسان أي مرض في أصبع قدمه الكبير، لشعر بالضيق والنقص مدى حياته، إنّ مصاب القدم لا يستمتع بالنزهات ولا يستمتع بالمشي أو بالخروج أو بالرياضة أو بالملابس الجديدة وغيرها من الصور، إنّ صورة الرجل القوي الذي يتسلق جبل ما ويقف على سفحه منتشياً بعظمة ذاته يفتقدها المصاب في قدمه، ويشعر جراءها بالضيق وبضياع الصحة وبالنقص الكامن فيه، وعلى ما يبدو أن كل البشر منذ ساعة إزالة الحبل السري يفقدون الإحساس بالكمال لأنهم يفقدون شيئاً عضوياً مهماً في سياق هذا الوجود، فيشعرون للأبد بالنقص والحنين لشيء لا يعلمونه، ويأتيهم هذا الإحساس في أعلى درجات السعادة.

إنّ هذا الإحساس بالنقص في لحظات الفرح، هو نفسه الإحساس بالنقص في الحلم، هو نفسه الإحساس بالنقص والسعي في هذا العالم، ففي كل اللحظات نشعر أنّ شيئاً منقوصاً وغير مكتمل، ولمشاكل النقص هذه فينا، هل يملؤها الإيمان بالله؟ قرار مصيري، قارب على نهايته.

بَينَما قَلبِيَ يَحكي في الضُحى إِحدى الخَمائِل ….. فيهِ أَزهار وَأَطيارٌ تُغَنّي وَجَداوِل

أَقبَلَ العَصرُ فَأَمسى موحِشاً كَالقَفرِ قاحِل ….. كَيفَ صارَ القَلبُ رَوضاً ثُمَّ قَفراً

لَستُ أَدري


اترك تعليقاً