تقوم فكرة الجوهرية التي تتبناها الديانات على أن وظيفة الدين هي تبيين ما يجب أن يكون الإنسان عليه ليكون موجوداً في هذا الكون وذا فاعلية فيه ومتوافق معه، أي أنّ الجوهرية تقول إنّ الإنسان يصل إلى هذه الدنيا بتعليمات وحدود وأهداف مكتوبة مسبقاً من مصممه وعليه أن يسير عليها ليحقق المطلوب منه في الدنيا، وليكون ما هو (الماهية) في هذا العالم عليه أن يتبع التعليمات العليا، مثل أنه يجب أن يعمل الخير كما يريد الدين، ويجب عليه أن يبني ويجتهد ويساعد غيره ويخاف من الحساب والعقاب وغيرها من الأفكار التي يجب أن يسير عليها، وباختصار فإنّ معنى الإنسان يأتي مسبقاً قبل ولادته، ولا يجب أن يبحث عن معنى الحياة بشكل مبدئي لاحقاً، لأنّ الماهية سابقة للجسد.

على النقيض تماماً تعتقد الوجودية التي أسسها الفيلسوف سورين كيركغور وأكمل مسيرتها نيتشه أنّ لا جوهر للإنسان قبل وجوده، لا جوهر للإنسان وهو من عليه أن يعطي المعنى لوجوده في حياته، أي أنّ وجود الإنسان يسبق جوهره، على الإنسان أن يُوجد ثم يكون وجوده في العالم كما يشاء، فالجسد سابق الماهية والإنسان بشخصه هو محور أي عملية، وكل شخص منفرداً يجب أن يجد معنىً لحياته منفرداً وليس الدين أو المجتمع، لاحقاً أضاف الفيلسوف جان بول سارتر للوجودية فكرة أن الجسد هو المكون الأساسي للوجود الإنساني ولا شيء غيره.

تحاول الوجودية إخراج الإنسان من القولبة أو النمطية إلى حُريّة تحديد الحياة لكل إنسان، ظهرت لاحقاً محاولة للجمع بين الجوهرية والوجودية وذلك للجمع بين الفكرتين وإيجاد حل للدين واللادين وذلك بالفكرة القائلة أنّ الخالق خلق الوجود ولكن لم يعطِه معنىً مُحدداً.

العدمية

ينبع مبدأ العدمية من فكرة أنّ العالم كله بما في ذلك وجود الإنسان لا معنى أو غاية حقيقية له وكذلك المبادئ الدينية والأخلاقية لا قيمة لها ما لم يَصِغ الإنسان هدفاً ما فيها، وتحاول العدمية أن تجد حل للصراع الدائم في عقل الإنسان بين إيجاد معنىً لحياته وفشله في تحقيق ذلك المعنى، إنها بحث عن معنى في عالم اللامعنى، بحث عن جواب في عالم اللاجواب، وفيها أنّ البحث عن معنى للحياة هو عبث لا معنى له، لأنّ العالم الحالي لا معنى قاطع ونهائي له، وتخبرك العدمية بكل وضوح: لا تبحث أصلاً عن ذلك المعنى لأنك لن تجده، ونجد أنّ الأديان كما في الإسلام أجابت ببساطة عن هذا السؤال العظيم في معنى الوجود، وذلك بأنك مخلوق لكي تعبد الخالق، كيف وأين ولماذا بالضبط والمزيد من التفاصيل وماذا سأستفيد….إلخ، بعض هذه الأسئلة غير مجاب، يخبرك الدين أنك موجود للعبادة والإعمار ومحاولة العيش بسعادة، لاحقاً، عند تصحيح ورقة إجابتك ستتعرف على كل شيء، لكن الآن لن تحصل على إجابات إضافية.

تحاول هذه الفلسفة أيضاً أن تقول إنّ الإنسان وُجد وله إمكانيات محدودة، فلا يجب عليه أن يصبح حالماً مجنوناً، ولا يمسي مكتئباً محبطاً، عليه أن يدرك أنّ هذه هي قدراته، هو ليس سوبرمان أو نصف إله، بوضوح عزيزي الإنسان أنت هكذا معيوب، فتعايش مع عيبك، وهذا يا عزيزي لا يتعارض بالمطلق مع العدمية، بل هو أساسي فيها لأن العدمية تحاول أن تنكر كل فكر إيجابي كالقيم الأخلاقية والمبادئ الدينية، ولو شتمتك فهذا ليس بشيءٍ ذا قيمة.

وحسب الفلسفة العدمية فإنّ معرفة حدودك وأن الحياة عدمية من المفترض أن يحفزك على أن تستغل حياتك في كل جوانبها لأن الحيوان هو من لا يدرك العدم، أما الإنسان فمن المفترض أنه يفهم العدم ويتحرك نحو الوجود هرباً منه، وبإمكانك أن تكون أي شيء تتمناه، لكن لا تتمنى السيء لأنه في النهاية ستشير إليك أفعالك، فالإنسان مُعرّفٌ بأفعاله، وأنت يا عزيزي اخترت هذه الأفعال، في منهجنا الفلسفي هذا لا شيء مكتوب في القدر، أنت من كتبت حياتك، فأنت مسؤول عنها، فإذا كنت أنانياً أو مغروراً فأنت استحققت هذا اللقب بجدارة وأنت رغبت بأن تكون كذلك وهذا خلاصة وجودية الفيلسوف إيميل سيوران.

تنقسم العدمية الوجودية إلى مدارس وتتصل فلسفتها بجوانب كثيرة أخرى مثل الأدب والموسيقى والفن وحتى الأفكار مثل الأخلاق، وبذلك أمست أقرب إلى الأيديولوجيا أو الدين، فالعدمية الأخلاقية تفترض أنّ الأخلاق لا وجود بشكل مُجرَّد من المُجرَّد من العواطف فلا فرق بين الأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة سوى في المنظور البشري والأخلاق بناء بشري وهي نسبية حسب ما يرونه أخلاقياً أو غير أخلاقي وهذا ما رآه نيتشه في أوروبا، إذ أصر على أنّ الفلسفة العدمية هي الهواء الذي يستنشقه سكان أوروبا كل يوم، وحاول نيتشه جعل الغاية من هذه الفلسفة تحرير الفكر من التفكير العدمي وذلك بتوضيح أنّ معنى الموت يضع معظم الناس في مواجهة خطر اليأس وعدم جدوى الحياة، وتتداخل العدمية والعبثية كثيراً وكذلك فلاسفتها لذلك آثرت الحديث عن الفكرة العامة وليس الميل إلى التعريف.

يتساءل البعض، لماذا يرى الفلاسفة العدميون أنه لا يوجد هدفاً أو قيمة في الحياة، رغم أنهم قاموا بكتابة كتباً قيمة وفكروا كثيراً ليتركوا أثرهم ولا يندثروا بين ثنايات التاريخ، الإجابة تكمن في أنّ اتهام العدمية بالسلبية وإشاعة روح اليأس ليس أمراً صحيحاً على الرغم من ظاهر لفظة العدم المخيفة، بل وكما رأينا فالعدمية تحاول أن تشجعك على الإنتاج وليس الفناء والاندثار خلال مسيرتك في البحث عن الحياة.

تشجعك العدمية على التشكيك في استخدام الوعي في كل ما يحيط بك، فحتى الأخلاق قد تكون مطاطة ويمكن استبدالها، وعزيزتي المرأة انتظري قليلاً لأنه عليك الحذر، فالعدميون يقولون إنكِ من جلبهم لهذا الطيش العبثي (العالم)، وهو يتمنى لو أنك لم تجلبيه للحياة من رحم الحياة، وكل الخطايا أصغر من أن يأتي طفلٌ إلى هذا العالم، لذلك يهاب العدميون من الزواج والإنجاب والفيلسوف العدمي الكبير شوبنهاور مات دون أبناء، وقد أوصى الفيلسوف أبو العلاء المعري أن يُكتب على شاهد قبره “هذا جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحدِ”.

رسم توضيحي 60 هدايا العدميون.

يأتي لاحقاً الفيلسوف ألبير كامو ليكمل بناء العبثية قائلاً في مقاله أسطورة سيزيف: إنّ المُشكِلة الفلسفية الوحيدة التي يجب أن نبحث فيها هي مُشكِلة الانتحار، وسيزيف في الميثولوجيا الإغريقية هو ابن ملك وتاجر لئيم خدع إله الموت، فعاقبه زيوس بأن جعله يحمل صخرة من أسفل الجبل سيراً إلى أعلاه، وحين يصل إلى قمة الجبل جعلها زيوس تتدحرج من جديد إلى قاع الجبل فيرفعها ليعيد العملية نفسها مراراً وتكراراً إلى الأبد.

في حين يرى ألبير كامو أن سيزيف اختار أن يضيف لحياته العابثة معنى بفعلته اليومية التي لا قيمة لها، وهذا ما تفعله كل الموجودات البشرية وبين كل هذا الجنون في العالم يتمثل أمام الإنسان ثلاث خيارات وهي:

  1. الانتحار: ولكن، لا يواجه العبثية بهذا التصرف بل يصبح عبثياً أكثر.
  2. الإيمان بالدين: ورأى كريغور أنّ هذا أمر أساسي، واعتقد ألبير كامو أنه انتحار فلسفي.
  3. قٌبول العبثية: ويرى كامو أنّ إيمان الإنسان بالعبثية يعطيه حُريّة مطلقة، فدون قوانين أخلاقية يكون الإنسان حراً ويجد لنفسه مساراً خاصاً خالصاً.

صورة 15 لوحة تجسد سيزيف للفنان فرانز فون شتوك.

وبصفتي إنسان بسيط يبحث عن أبسط الأفكار، أرى أنّ الوجودية والعدمية تنطلقان من منطلقات الدين نفسها، حيث ضرورة السعي في الحياة وعدم اليأس بل وسيفهم كلٌ من المتدين والعدمي أنّ مبادئ الأخلاق لا اختلاف فيها، مثل العدل والمساواة والصدق والأمانة وغيرها، وإنّ وجود مبدأ مثل العدمية فيه أنّ الحياة بلا قيمة يجعل تحرير مصطلح العدمية من سوئه لا فكاك منه ويخلق لدى الإنسان مفارقة، بالإضافة إلى أنّ العدمية تظهر كآلة تفرّغ الإنسان من كل ما هو إنساني، وبذلك سيتفرغ من أسباب الحياة والرغبة في استمرارها أيضاً، منطق الدين أبسط في هذه النقطة، ناهيك بأن بزوغ العدمية حركت الثقافة الأوروبية كلها متجهة نحو كارثة الحروب في بداية القرن العشرين.

إنّ وجود أفكار مثل أفكار سيوران الذي يرى أنّ مُشكِلة الحياة الأساسية هي أننا قد ولدنا فيها، أو أفكار مثل ينقصني الشجاعة ويملؤني الخوف من الله لأنهي حياتي، لكن لا خيار إلا بالاستمرار، والحياة تصعب أكثر وأكثر لآخر لحظة، والإنسان بلا هدف وحيد، وأنّ العمل والجامعة والزواج ملهيات عن الغاية الأساسية لإنسان خلق بلا معنى كامل، يحاول أن ينسى السؤال الأساسي الوجودي بالبحث عن هذه المُلهيات وغيرها لهي نقاط سلبية لا أعتقد أنّ لها أثراً جيداً على الإنسان رغم صدقها في كثير من الأحيان، فالاهتمام في حياة الإنسان يجعله مُنتِجاً وذا فاعلية وهمة عالية ودافعية في الحياة، سواء كان هذا الاهتمام حقيقياً أم كاذباً فلسفياً.


اترك تعليقاً