لو كنتَ درستَ الفيزياء الطبية في الجامعة ورسبت بها، لعلمتَ مدى أهمية الكتب التي تتحدث عن الجُزيء المُعجزة، جُزيء الماء، نعرف أنّ حالات المادة الثلاثة المشهورة هي الصلبة والسائلة والغازية، في حالة المادة الصلبة تكون ذرات المادة شبه ثابتة ولا تتحرك، وكذلك في الوسط الغازي تكون المسافات بعيدة جداً وتتحرك بطريقة لا تسمح بتكون تفاعلات كيميائية حيوية، لكن الوسط السائل هو الوسط المناسب لحدوث التفاعلات الكيميائية، حاول أن تشرب الشاي بالسكر دون سائل، لحظة! لا معنى أصلاً لكلمة تشرب دون الحالة السائلة!
الذوبان هي إحدى خواص السوائل، ذوبان الملح في الماء عملية مُدهشة جداً، فجزيئات الملح تختفي بين فراغات جزيئات الماء بطريقة كيميائية مخططة، وهذا أمرٌ يجعل التفاعلات الكيميائية مُمكنة، ولولا الذوبانية لما رأينا التفاعلات الحيوية التي تحدث بالمليارات كل ثانية داخل جسم الإنسان، تخيّل ترعاك عشتار لو أنّ الكون حينما انفجر وانطلق ليبلغ لاحقاً قد تكونت فيه حالات المادة وكانت الحالة الصلبة والسماقية والغازية، والحالة التي كنت تعرفها باسم الحالة السائلة لم تتكون فيه، أليس هذا احتمال كبير جداً في كون يسير بالصدفة كما يقول علماء الطبيعة ونظرية M!
هذا السائل الذي لا طعم ولا لون ولا رائحة له، مميزٌ عن كل السوائل الأخرى التي غالباً لها لون أو طعم أو رائحة، هذا المذيب العالمي الذي يعتبر من المواد الرخيصة على الأرض، لهو أغلى المواد في باقي الكون، يعد الماء حالة خاصة مُختلفة عن بقية السوائل؛ فالسوائل حينما تنخفض درجة حرارتها كباقي الحالات الأخرى يتقلص حجمها، وحينما تتقلص وتنكمش تزداد كثافتها، وهذا يعني أنها تصبح أثقل، وبذلك يجب أن تهبط للأسفل، إلا عزيزنا الماء، إذ يتقلص حجماً وصولاً إلى درجة حرارة 4 مئوية، ثم يبدأ حجمه بالتمدد! لذلك نرى الثلج يطفو فوق سطح الماء وليس العكس، ولتعلم مدى أهمية هذا الأمر البسيط الذي قد تقول عنه صدفة، انظر للمحيطات والبحار! وتخيل ترعاك عشتار مرة أخرى لو أنّ الماء حينما يتجمد يهبط للأسفل، أخبرني كيف ستعيش الكائنات؟ وكيف ستتحرك في مكان كله مجمد؟! إنّ تجمد سطح الماء عند درجة 4 مئوية يمنع تجمع المحيطات ويمنع وصول حرارة مياهها للصفر في عملية دقيقة ومصممة في عدة خطوات وكأنها خوارزمية برمجية كتبتها المهندسة أمل، ولعلّك تفكر هنا عن فوائد تمدد الماء حين التجمد في الصخور والمساهمة في تفتيتها ونقل المعادن المُختلفة في الكائنات الحية.
في الفيزياء هُنَاك شيء يُسمى السعة الحرارية Heat Capacity، وهي ببساطة قدرة المواد على حفظ وتخزين الحرارة، والماء من أكثر السوائل التي تحفظ الحرارة، إذ يغلي عند درجة حرارة 100 درجة مئوية، سوائل أخرى تغلي عند درجة حرارة 30 مئوية وبعضها عند 40 مئوية، الكحول مثلاً تراه يتطاير بمُجرَّد وضعه على الجلد، هذا لأن درجة غليانه ليست بعيدة عن درجة حرارة الجسم، السعة الحرارية العالية للماء تجعله يحتفظ بالحرارة لمدة طويلةً جداً مقارنة بباقي المواد، وتجعله يسخن ببطء مقارنة بباقي المواد، مثلاً مقارنة بقطعة المعدن، فنرى الغلاية تسخن بسرعة وتبرد بسرعة، أما الماء بها فيتأثر أقل من المعدن، هذه الحرارة النوعية للأجسام المليئة بالماء لها تأثيرات على الكوكب لا يمكن تخيلها.
فنسيم البحر للمدن القريبة من الشاطئ أمرٌ ملحوظٌ جداً، في النهار تخزن البحار كميات كبيرة من الحرارة وتبدأ تفقدها تدريجياً في الليل بعكس رمال الشاطئ، فلو جلست على شاطئ البحر ليلاً ستجد أنّ الماء أكثر دفئاً من الرمال، وفي النهار تجد أنّ أشعة الشمس قد سخنت الرمال أسرع من ماء البحر أو ماء المحيط، لذلك في المناطق الساحلية تجد عدم تقلب شديد لدرجات الحرارة كما المناطق القارية، وذلك بسبب نسيم البحر، نسيم البحر له دور هائل في حفظ الحياة في الكوكب، ولولاه لتحولت الكرة الأرضية إلى مكان متقلب الحرارة، ولما استطاعت الكائنات من العيش بما في ذلك النباتات، إنّ حفظ المناخ وتيسير التحولات المناخية هي إحدى اللمسات الهندسية المُمكنة بسبب الماء فقط.
لنكتفي بهذا عن النسيم ونعود إلى جسم الإنسان، تخيّل لو أنّ السائل الأساسي الذي يجري في جسم الإنسان هو الكحول، وتخيّل أنك خرجت في ليلة باردة من ليالي الشتاء لشراء حاجيات للأستاذة جينا بعد أن أصرّت عليك، ماذا سيحدث لك؟ لن تتخيل! إنك ستتجمد بسرعة، ستفقد حرارة جسمك بسرعة شديدة ليست كما لو كان جسمك مكون من ماء، ولنفترض أنك عدت قبل أن تتجمد وجلست بجانب المدفئة، فحينها ستغلي مكونات جسمك بسبب غليان السائل الأساسي لو كان كحولاً، أو لنقل لو كان أي شيء غير الماء، فالماء يلعب دوراً لا يمكن وصفه في حفظ درجة حرارة الجسم وتغييرها ببطء حتى لا نفنى ونموت.
التوتر السطحي
ماذا عن التوتر السطحي للماء؟ هل هو أمرٌ مُهم؟ دعني أخبرك أنه أمر بالغ الأهمية؛ فالتوتر السطحي هو الطبقة التي تتكون على سطح السوائل نتيجة جذب الجزيئات لبعضها البعض، فتكون سطح يبدو كما لو أنه جلد، هُنَاك سوائل لديها توتر سطحي عالٍ وهُنَاك سوائل لديها توتر سطحي منخفض، والماء من السوائل ذات التوتر السطحي المرتفع، لو نظرت إلى أي كأس ماء بخط مستقيم بين عينيك وسطح الماء، ستجد أنّ هُنَاك خط ظاهر، أخبرني هل هو مُحدب أم مُقعر، لنِرَ حس المغامرة والاستكشاف لديك.
هذا الجلد له مشاهدات عديدة، فترى الحشرات تمشي على الماء مثل البعوضة بل وتضع بيضها بطريقة هندسية كأنها درست الفيزياء، ويمكنك أن تضع ورقة شجر فتطفو أو حتى إبرة، وهنالك تطبيقات عملية مثل الملابِس المضادة للماء، وهو ما يجعل كائن مثل الباسيليسق (الحقحق أو Basiliscus) لديه قدرة الجري على الماء، لا تكن بسيطاً وتخبرني أنه عرفها صدفة عبر تجريبه أن يجري فاكتشف التوتر السطحي، أرجوك، لا تجعل البيسيلسك أذكى منك، ولا تخبرني أنه رأى المسيح فتعلم منه، آآآه علمنا الآن لماذا سار على الماء يسوع المسيح، لقد كان خبيراً في الفيزياء!.
تعلم الآن لماذا الصابون يُنظف الأوساخ، لأن الصابون يخفف التوتر السطحي للماء، وهذا الأمر أدى لاحقاً إلى صناعة المؤثرات السطحية Surfactants المشهورة اليوم التي تنظف أصعب الأوساخ، وتدخل في مجالات فيزيائية كثيرة.
لنعود إلى الفائدة الأهم للتوتر السطحي، إنها الفائدة التي تجعلنا أحياء! فلولا التوتر السطحي المرتفع للماء مع المواد المحيطة به لما استطاعت النباتات نقل الماء إلى الأعلى، لعلك تنتبه كل يوم إلى الأشجار العالية التي تنقل الماء إلى أمتار طويلة بها دون مضخة مياه، وتساءلت حتماً عن السبب، لأنك تملك عقلية المستكشف والباحث، دعني أخبرك أنّ السبب يعود إلى التوتر السطحي للماء وخاصية هنا تسمى الخاصية الشعرية التي يدرسها الأطفال في المدرسة، عبر جلب أنبوبين زجاج أحدهما أرفع من الآخر فنرى الماء يرتفع في الأنبوب الرفيع أكثر من الأنبوب الآخر، ويستمتع الأطفال بفكرة الأواني المستطرقة وفكرة نقل الماء إلى المنازل في هذا الدرس الجميل، بالتأكيد للتوتر السطحي فوائد حيوية كثيرة، لا يتسع نقاشها هنا، فقط عرضنا مثالاً واحداً بالغ الأهمية.
ولكن ماذا عن انسيابية الماء؟ ماذا لو كانت انسيابيته كالعسل أو كالكحول؟ هل سيكون له تأثير على جسم الإنسان؟ هُنَاك أبحاث تخبرنا أنّ مريض السكري حينما تزداد لديه نسبة السكر في الدم، فإن الدماء تصير أقل انسيابية، مثلاً السكر في الماء يجعله كثيف وغليظ أكثر ويشبه قطر العسل، وهذا ما يُؤَدِي إلى زيادة أمراض القلب والشرايين، وسيصبح انتقال الدم في الشعيرات الدموية عملية صعبة ولها تبعات أخرى، وهذا على المستوى المرئي، أما على مستوى الخلايا والتفاعلات الكيميائية فسيصبح الأمر شبه مُستحيل؛ لأن حركة الجزيئات ستكون صعبة جداً، أي أنه لن تكون هُنَاك حياة لو كان سائل غير الماء هو الأساس، لعلك تعلم الآن لماذا أغلب جسمك مكون من الماء، ولماذا الدم وحده مكون فيما يزيد عن 95% منه من ماء.
إن انحلالية (ذوبانية) الأكسجين في الدم تعتمد على جُزيء الماء وخصائصه، ولهذه الذوبانية نسبة نادرة تكاد تكون 1 من مليون بالنسبة للغازات الأخرى، ولو كانت النسبة أقل أو أكثر لكانت هُنَاك صعوبة في حفظ الأكسجين ونقله في الدم، فحينها إما سيصل الأكسجين إلى الدم بكمية أقل وبذلك فناؤنا، أو سيصل بكمية أكبر وبذلك فناؤنا أيضاً، نحن نعلم أنّ الأكسجين يشكل عبئاً على الخلية، وهذا ما تقوم به دورة كريبس للتخلص منه دورة حمض الليمون، ولعلك سمعت بالاختناق بالأكسجين ذات مرة، سنعود إلى الماء مرة أخرى في الفصل القادم حين الحديث عن الحياة، أبحاث علمية كثيرة تتكلم عن هذه الجزئية البسيطة من العالم المحيط بك، الماء! سيُدهشك جزيء الماء المعجز إن يحق لي استخدام هذه الكلمة، جزيء الماء المعجز في كل جزء من جزئياته، مُعجَز في تفاعل جزيئاته ببعض، مُعجَز في ذوبانيته، مُعجَز في نقله للإلكترونات، مُعجَز في كل شيء.
والماء من الجوانب الجميلة التي يتفق فيها العلم مع الدين، إذ يقول الكتاب المقدس “وروح الله يرف على وجه المياه” (تك2:1)، وقال أيضاً: “لتفض المياه زحافات ذات أنفس حية، وليطر طير..“، ويقول القرآن بوضوح “وجعلنا من الماء كل شيء حي” فلا حياة لأي كائن إلا بالماء، وهذا ما يقوله العُلماء، فحينما يبحثون في أي كوكب عن حياة أو إمكانية الحياة، تراهم يبحثون عن الماء، لعلك الآن تعلم أكثر من السابق لماذا دائماً يهتمون بالماء وبالماء تحديداً، بالتأكيد أنت لا تعتقد أنّ العُلماء فجأة أصبحوا كلهم مُؤمِنين لكن هذه الحقيقة البسيطة للمتدينين كشفها العُلماء بحل لغزها الكيميائي والفيزيائي بدقة كبيرة، وإن بقينا نذكر دقة كل مادة أو كل كوكب أو كل مكون في الكون لما انتهبنا.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.