اللُغة هي طريقنا إلى المعرفة ووسيلتنا إلى فهم تكوين المعنى في الخطاب، ونظراً لعلاقة التضمين بين اللُغة والتفكير فلا سبيل إلى التفكير والمعرفة والفهم دون اللُغة، إذ أنّ كل تفكير منظم يحدث داخل اللُغة. ويعرّف دي سوسير اللُغة بأنها نظام من العلامات تعبر عن أفكار ومن هذا يتضح أنّ نظام اللُغة يعبر عن شكل لا جوهر، ويتأسس هذا الشكل (النظام) بالعلاقات الرابطة بين عناصره (العلامات)، أما وظيفتها فتتحدد بكونها أداة اتصال لكي تعبر عن أفكار.
فالعلامة هي المكون الذهني الذي ينتجه سماع الصوت وهي تتكون من وجهين مرتبطين على نحو لا يمكن فيه أن نفصل بينهما من دال ومدلول، أما الدال فهو الصورة السمعية أو الصوتية للعلامة، وأما المدلول فهو الصورة الذهنية أو المكون المعنوي، وليس بالضرورة أن تكون العلامة صوتية، فالصوت من الممكن له أن يحضر بذاته، أو يرسل ما ينوب عنه، رمزاً مرسوماً يُسمى الكتابة، والكتابة تنوب عن الصوت.
فحينما نقول شجرة في حديثنا فاللفظة عبر الصوت تحاول استدعاء صورة الشجرة في ذهن المتلقي، وبالطبع لا يحضر في ذهنه إلا بعد أن كان قد حضر في ذهنك، والشجرة لا تحضر في الأذهان بجسمها، ولكنها تحضر بصورتها التي انعكست عن الطبيعة في الذهن [147].
في علم المنطق يُطلق على الصورة الذهنية للأشياء بالمفهوم، وما ينطبق عليه المفهوم في الواقع يسمى المصداق، فحينما نقول شجرة فهنا نقصد المفهوم، وحينما نقول شجرة التوت التي في منزل خالك فهنا نتحدث عن المصداق، وكذلك حينما نقول سيارة فنحن نقصد المفهوم، ولكن حينما نقول سيارة مايكل موديل BMW فنحن نقصد استدعاء صورة المصداق، وهي في عالم البرمجة مثل الفئة Class والكائن منها Object فالفئة هي القالب، والكائن هو المكون المصنوع من القالب، لدينا قالب إنسان، وخليل مصنوع من هذا القالب، وفي الحقيقة كلمة إنسان تجعل خيالك يتخيل كلمة إنسان مُجرَّد أو عدد لا نهائي من البشر، لكن خليل سليم يجعلك تتخيل شخصاً بعينه.
حين يتحدث أي منا فإنه لا يفعل أكثر من وصف العالم، ثم يطلب من المستقبِل أن يصدق وصفه كما لو أنه حقيقة مطلقة، فالمتكلم يرى شخصاً في العالم فيقول سيدة، ويريد منك أن تتصور ما رآه حينما يذكر كلمة سيدة، فإن سألته عن وصف هذه السيدة أخبرك بأنها جميلة وطويلة وصفاتها كذا وكذا، وهو يعتقد هنا أنه نقل إليك صورة السيدة التي رآها في العالم.
ولنبين الصورة في عمل العقل البشري في آلية عمل الدال والمدلول:
- رأت عينا المتكلم سيدة.
- نقلت عيناه صورة السيدة إلى دماغه، وهي بالتأكيد ليست السيدة نفسها، لأنّ ما نقلته العينان كان الصورة لا السيدة.
- أمر دماغ الشخص لسانه أن يقول سيدة فقال، فتم استبدال المصداق للسيدة بالمفهوم وهي الصورة الذهنية.
- لا شك أنّ ثمّة فرق آخر بين الصوت والصورة، فصارت الكلمة الصوتية بديلاً عن الشخص في العالم.
- وحين يقول سيدة فهو يتوقع منك أن تستقبل الكلمة ويترجمها دماغك إلى صورة سيدة كما في ذهنه.
- فهل تعتقد أنّ دماغ المتلقي قد تلقى صورة السيدة التي رأيتها أول مرة، وحاولت إيصالها؟ بالتأكيد لا.
- وإذا كنت قد كتبت على ورق ما كلمة سيدة، وحين كتبت الكلمة لم تحضر السيدة، ولم تستبدل ما كتبت بالسيدة، لأنك إنما كتبت رمزاً مرسوماً يشير إلى سيدة، وليست سيدة في الواقع.
وهكذا في متوالية لا تنتهي، يتم فيها استبدال الصورة بالعالم، ثم استبدال الصوت بالصورة، ثم استبدال الصوت مرة أخرى بالصورة الثانية، ثم استبدال الرمز الكتابي الذي أنتجه بالصورة التي أحدثها الصوت في دماغه، فكتب سيدة وهو يتصور أنّ السيدة الأولى قد حضرت، وهكذا تستمر المتوالية في تسلسل إلى ما لا نهاية، وفي كل مرة تتراجع الحقيقة أمام اللُغة، ولذلك قال أرسطو: “إنّ اللُغة قاسية ومستبدة، تريد أن تستبدل الرمز بالحقيقة، وحاصل كل هذا أنّ اللُغة ليست حضوراً حقيقياً، بل هي تمثيل للحضور أو قناع له، إنها تحاول إحضار الموجود في العالم بالأصوات”، لذلك يقول جاك لاكان ليس ثمة لُغة تستطيع قول الحقيقة عن الحقيقة، ونرى هذا في النقاشات التي تكون غالباً بين طرفين، الطرف الأول يستدعي المفهوم، والطرف الثاني يستدعي المصداق وبهذا يكون كل الخلاف لا معنى له، مثلاً يقول أحد ما: الدين لا يفيد في تحسين الخلق، فيرد عليه شخص ويسأل لماذا، فيقول له لأنّ جاري محمود متدين وسيء الخلق، ولاحظ الفرق هنا بين المفهوم والمصداق.
دور اللُغة
إنّ الصراع بين ثنائية المعرفة القبلية والمعرفة التجريبية ودور كل منهما في نظرية المعرفة قد ولى؛ لأنّ القرن العشرين قد أضاف للفلسفة معاملاً ثالثاً للقياس وهو معامل اللُغة، وقد اعتقد فيلسوف اللُغة فتجنشتاين أنّ أغلب الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، والمشكلات الفلسفية ليست تجريبية بل هي مشكلات مفهومية ومنطقية، وبينما يشيّد الفلاسفة نظريات حول المعرفة والعقل والواقع، كان الأجدر بهم العمل على توضيح طبيعة تفكيرنا في هذه الموضوعات، ويرى فتجنشتاين أنّ العالم له بنية واللُغة كذلك لها بنية، فالعالم مكون من مجموعة من الوقائع تتألف من حالات وتفاصيل الواقع وبدورها تتألف حالات الواقع من أشياء وهكذا، أما اللُغة فهي مجموع القضايا، وتتألف من قضايا أولية والتي بدورها تتألف من أسماء، وإنّ تحليل العالم سيُفضي حتماً إلى أشياء أما تحليل اللُغة فسيفضي بالضرورة إلى أسماء، والعلاقة بينهما تتمثل في كون اللُغة هي صورة للعالم، وبهذا فإن وظيفة اللُغة هي تصوير العالم الخارجي [154].
ويرى فينجنشتاين أنه يمكن تمثيل اللُغة باللعبة، ويتم التفكير في القضية على أنها حركة في لعبة اللُغة تستمد معناها من اللعبة التي هي جزء منها، وتنشأ المشكلات الفلسفية نتيجة استخدام الكلمات في لعبة لُغة وفقاً لقواعد لعبة لُغة أخرى، وفاعلية اللُغة تعتمد على استعمال الكلمات بوصفها أدوات، وهذا يدفعنا إلى فهم اللُغة على أنها جزء لا يتجزأ من حياة المتحدثين بها ولغتنا مطمورة داخل أفق السُلُوك غير اللغوي، فصورة الحياة الإنسانية ذات أساس ثقافي في طبيعتها، وفهم مجموعة من الناس لصورة حياتهم يعني إجادة الألعاب اللغوية الضرورية لممارستهم اللغوية الخاصة بهم، ونحن لا نصل إلى صورة العالم لدينا عن طريق الاقتناع بصحتها، وإنما عن طريق كوننا نشأنا عليها، فمحاولة التسويغ والمحاججة لا يمكن أن تحدث إلا داخل نسق، وذلك يستلزم أنّ النسق ليس له تسويغاً [154].
كثير من الكلمات حينما تُقال من قبل شخص ما فإنها تدل على ما لا يعرفه إلا الشخص المتكلم، وهي تدل على إحساساته الخاصة المباشرة، ولذلك لن يستطيع شخص آخر أن يفهم هذه اللُغة، وهذا صحيح إلى حد ما لكن ليس في كل ما يقال، فالحجر حجر والشمس شمس، مهما اختلف المتكلم، قد يكون الاختلاف في وصف شعور ما أو دلالات كلمة ما أو فكرة ما، لكن في وصف الأشياء على الأغلب لا اختلاف، وحتى الاختلاف في وصف الشعور يتم معادلته بالمزيد من توضيح الوصف، هذا لا ينفي أن تنتمي اللُغة إلى تاريخ ثقافي لكل فرد في كل مجتمع، تاريخ تجارب وألفاظ ذات دلالات.
يرى تشومسكي أنّ الدماغ البشري مُهيَّأ حيوياً لتعلم اللُغة، لذا فإنّ ملكة تعلم اللُغة فطرية وليست سُلُوكية، ويضيف أنّ اللُغة تشبه أي قدرة يستطيع الإنسان تنميتها، وأطلق عليها مسمى القدرة اللغوية الفطرية، وهي عبارة عن الآليات والقدرات اللغوية التي تنمو من خلال التفاعل مع البيئة اللغوية المحيطة أثناء مرحلة الطفولة لتكوين قواعد اللُغة الأم على مراحل تصاعدية إلى أن تصل إلى مرحلة الاكتمال والثبات، وفيها يستطيع الطفل صياغة وفهم جمل لا متناهية لم يتكلم أو يسمع بها من قبل، وهذه درجة الإبداع، وفي الحقيقة لا مناص من أنه كلما تقدم الفكر الإنساني، تقدمت اللُغة معه أكثر، وتوسعت مداركه للتفكير بشكل أوسع، كلمات معينة تضيف حجرات جديدة في عقل الإنسان، ولكن ماذا لو لم نكتشف جميع خواص اللُغة؟ وظلت قدراتنا اللغوية حاجزاً يمنعنا الانطلاق في التفكير؟ وهنا يحضرني فيلم آخر هو The Arrival، وسأتساءل، هل هُنَاك مزايا في نظام تشغيل الإنسان لا تزال غير مكتشفة؟
كم مرة وأنت تقلب في جوالك اكتشفت ميزة جديدة كانت موجودة لكنك لم تقرأ عنها ولم تسمع عنها، كم من مرة وأنت تستخدم نظام تشغيل الويندوز اكتشفت سراً صغيراً بسيطاً كان موجوداً يجعل الأمور أسهل وأفضل، أو أنه قام شخص ما بإخبارك بهذه الميزة أو بهذه الدالة التي كانت مخفية عنك، ولو لم يخبرك عنها لبقيت على حالك دون تغيير!
حسناً، الموضوع غريب قليلاً، لكن دعونا نفكر بوضوح، كثيرٌ من الظواهر التي تحدث لبشر خارقين حولنا لا تزال بحاجة إلى تفسير، قد لا تكون هذه الظواهر إلا مُجرَّد مزايا في نظام التشغيل لدينا لم نكتشفها بعد، مثلاً سمعنا ورأينا الرجل الذي يتحمل الصعق الكهربائي ولا يتأثر، ورأينا الرجل الذي يحفظ كتاب بمُجرَّد النظر إليه، والسيدة التي تمتلك القدرة الخارقة على حمل الأشياء الثقيلة، والمئات غيرهم حول العالم، هذه ظواهر لا تزال بحاجة إلى تفسير، وغيرها من الظواهر حول جسم الإنسان التي لا تزال غامضة، كمُشكِلة الذاكرة، وكيفية التذكر، وعبقرية نيوتن وألمعية تيسلا، رغم أنّ التشريح الفسيولوجي لعقولهم كان طبيعياً كأي إنسان آخر.
يتحدث فيلم The Arrival عن عدة سفن فضائية هبطت فجأة إلى كوكب الأرض، وقامت الحكومات بإرسال مجموعة من العُلماء للتواصل معهم، واجهت عملية التواصل صعوبات كبيرة، فلقد كان كلا الطرفين(البشر والفضائيون) يتكلمون بطرق مُختلفة، إلى أن توصلوا إلى الكتابة كنمط للحديث سوياً، كانت كتابة الفضائيين غريبة، فقد كانت الجملة لديهم دائرية وليست مسطحة كما في (شكل 59 الكتابة غير الخطية)، اتضح لاحقاً أنّ الفضائيين لا يبدؤون الجملة وينهونها مثلنا، بل يكتبون الجملة من عدة مواضع في آن واحد، أي يمكنهم كتابة جملة طويلة في ثانية أو اثنتين، ولأن الكتابة لديهم من عدة نواحٍ في آن واحد، هذا جعلهم لا يملكون بداية أو نهاية للأحداث، وأعطاهم القدرة على تحديد سياق ما هو مكتوب بدقة متناهية باستخدام تحديد المسافات وحجم الكلمات وذلك في خطوة واحدة، وهذا كان مغزى الفكرة الجديدة.
تتسارع الأحداث في القصة، إلى أن تصل لويز –عالمة لغات– في النهاية إلى الحديث المباشر مع الفضائيين فيقول لها الفضائيون أتينا هنا لنساعدكم أيها البشر، لكي تقوموا لاحقاً بعد 3 آلاف عام بمساعدتنا، فتقول لهم لويز، كيف يمكنكم التنبؤ بالمستقبل؟ فيخبرونها أنّ مفهوم الزمن لديهم يختلف عنا، فلا يوجد لديهم بداية أو نهاية للزمن، بالضبط كما يكتبون، كل الأحداث لديهم تكون مرة واحدة ويمكنهم استيعاب الماضي والحاضر والمستقبل في دائرة واحدة، ولأجل هذه الميزة جاءوا إلى الأرض لينقلوها لنا.
بدورها تقوم العالمة لويز باستيعاب هذه الفكرة بناء على فهم كتابات الفضائيين، فتستطيع مشاهدة الحياة وأحداث ماضيها ومستقبلها في شيء يشبه الشريط الدائري، إذ لا بداية ولا نهاية لما يحدث معها، بل كله في دائرة، وتحاول منح هذه الميزة للبشر.
الفكرة أساساها أنّ هذه القدرة موجودة لدى البشر مسبقاً، لكن لم يتعلموا كيفية استخدامها، هي موجودة في جيناتهم، في عقلهم، في الكود البشري –الجينيوم– لكن لم يسبق لإنسان أن تعلم كيف يستخدم هذه الميزة، وأجناس أخرى من الفضاء علمتنا كيفية استخدام هذه الميزة. السؤال الجوهري هنا، ماذا لو كان الإنسان يملك قدرات عديدة ما زلنا لم نتعلم كيف نستخدمها؟ سيكون هُنَاك أسئلة أخرى ولكن لأوضح أكثر، الإنسان يتعلم مهارات عديدة أثناء حياته، ويرى أناس بمهارات أخرى مدهشة قاموا بتطويرها خلال حياتهم، على سبيل المثال لا يستطيع الطفل الإمساك بالأشياء لكن بمرور الوقت يُنمي هذه المهارة، التلميذ في المدرسة يتعلم مهارات القراءة والكتابة، وهي مهارات لم تولد معه، لكنه يتعلمها من إنسان أكبر منه لديه هذه المهارات فينقلها له، فيصبح بدوره يستطيع الكتابة والقراءة، ولو تأملنا الكتابة بعمق فسنجد أنها مهارة غريبة، رسومات أفهمها أنا وتفهمها أنت بالمعنى نفسه، تغيير شيء بسيط فيها يغير معنى الفهم، لكن هذه المهارة لو عرضناها على إنسان في الغابة فأنّى له أن يفهمها ويعبر عنها ويتواصل بها مع غيره!
العالم مليء بالمهارات الغريبة التي ننميها بناءً على تعليم غيرنا لنا أو بناءً على تطويرنا إياها بدرجات متفاوتة، مهارة مشهورة مثل مهارة ضرب الأرقام الكبيرة، إذ نرى أشخاصاً –خارقين– كما نسميهم يقومون بضرب أرقام ضخمة من عدة خانات طويلة في ثوانٍ معدودة ويخرجون الرقم النهائي بدقة تامة، هذا ما دفع صحفي إلى متابعة هذه المسابقات، والبحث عن الكيفية التي تتم بها هذه العمليات، فتعلمها وشارك في المسابقات وفاز بالمركز الأول، هذه المهارة وصلته من غيره، فتمكن من عمل شيء جديد لم يكن يستطيع القيام به مسبقاً، كان يُعده سابقاً من الخوارق!
هذا يقودنا إلى سؤالٍ جوهري، ماذا لو كانت هُنَاك قدرات عديدة في اللُغة أو الحديث أو في عقل الإنسان ما زلنا نجهلها أو لم نعلمها لنتعلمها؟ مثلا مهارة التخاطر، وقد رأينا أناساً خارقين يمتلكون الحاسة السادسة، أو مهارة الحفظ السريع، أو التنقل السريع، أو حتى التحكم بالأشياء، أو لربما إسالة الحديد كما فعل النبي داود، أو المشي على الماء أو الحديث مع الحيوانات، أو التحكم في عمليات الأيض، والكثير من المهارات التي لم نتعلم كيف نستخدمها، وما زالت فينا مجهولة بحاجة إلى من يستكشفها ويكشفها لنا، لربما كشفها الخالق سابقاً لبعض خلقه (قد تكون المعجزات أحدها)، أو توصل بعض البشر بالصدفة إلى هذه القدرة، أي أنها كانت يوماً ما على الأرض.
هُنَاك علم يبحث في تلك الظواهر الغريبة يسمى علم ما وراء الوعي، فهو يعمل على تدوين القدرات الغريبة للبشر في سبيل محاولة تفسيرها مثل ظاهرة الاقتراب من الموت التي تم تسجيلها في مئات آلاف الحالات والتي لا زلت لا أرغب بتصديقها، وهذا يقودنا إلى أسئلة أكثر عمقاً، ماذا لو أننا نستخدم قدراتنا الحالية بشكل غير صحيح، ماذا لو أننا تعلمنا أن نستخدمها من غيرنا بشكل غير صحيح وتعودنا عليها بهذا الشكل، مثال بسيط، حيث عثر المستكشفون على فتى في الغابة يعيش مع الحيوانات، ويمشي على أربعة ويتسلق الأشجار، لاحظ المستكشفون أنّ هذا الفتى يجري بسرعة كبيرة جداً مُستخدماً قوائمه الأربع، ماذا لو أننا تعلمنا أن نجري على أرجلنا فقط بهذه السرعة، وكان يجب علينا أن نجري على أرجلنا وأيدينا بالوقت نفسه لكي نجري بشكل أسرع، ماذا لو علّمت البشرية نفسها مهارة الجري على الأرجل، ونسيت مهارة الجري على أربعة، أو أهملتها على مر العصور، وبقينا على هذه الحالة إلى الآن، هذا يعني أنّ مهارة كالجري الفائق قد فقدناها لأننا لم نتعلمها، ولا يعلمها البشر عامة، وهي كانت بمثابة مهارة مهمة متوفرة في قدرات البشر، لكننا أسقطناها، انظروا إلى مهارة الكتابة مثلاً، تعلمها البشر حديثاً مقارنة بعمر البشرية، ولو لم يتعلمها أحد وينقلها لنا لظلّت مطوية، لقد تقدمت البشرية بفضل هذه المهارة الفريدة.
قِس على ذلك عشرات ولربما مئات المهارات التي نملكها في جيناتنا، لكن لم نستخدمها لأننا لم نتعلمها، ونستذكر منها مهارات التفكير، مثل الوعي والانقياد، النقد والفهم، الاستيعاب وطريقة التفكير، الإبداع والابتكار، كلها مهارات يمكن أن نحصرها في دوائر ضيقة أو أن نطلقها بشكل واسع لنتخطى حدود الخيال، نحن لم نتعلم كيف نتحكم بها بعد، لقد استطاع أينشتاين بطريقة ما أن يستخدم مهارة التفكير ليصل إلى حدود جديدة، واستخدم بيتهوفن مهارة الابتكار في إنتاج موسيقى جديدة حتى بعد إصابته بالصمم، واستخدم غيرهم حول العالم القدرات المُسخرة لديهم في الوصول إلى جوانب جديدة جعلت العقل البشري يصل إلى قدراته الحقيقة، ويتخطى الأنماط الطبيعية المعروفة، السؤال كيف وصلوا؟ هل هو تحفيزٌ كيميائي، أم نفسي، أم تنمية مهارات، أم تعليم كيفية استخدام هذه القدرات؟ هذا سؤال نحن بحاجة إلى إجابته.
ماذا عن القدرة على التعايش السلمي، مهارة احترام الآخرين، تنمية مهارة تقبل الآراء وعدم الاختلاف، تعليم الإنسان مهارة أن يكون جزءاً من كل وليس كل في كل، تعزيز قدرته على حب الجميع، قدرته على خوض نقاش وليس جدال، الانفتاح على الأفكار وليس الانغلاق عنها، هذه القدرات موجودة، في دول عديدة تم تنميتها، ولكن تم إهمالها ولم يتم تنميتها، بل لم نسمع بها من قبل، هل نحن قادرون على الوصول إلى هذه القدرات بأنفسنا، باستكشاف العقل والغوص في المدفون البشري، أم نحن بحاجة إلى معجزة، لمخلوقات فضائية لكي تعلمنا مهارة استخدام هذه القدرات.
قد لم تتطور مهارات اللُغة بالشكل المطلوب بعد، لذلك نحن عالقون في المنتصف، صحيح أنّ الإنسان كان يفكر قبل صناعة اللُغة، والعقل هو من طور اللُغة، كالكثير من الأمور الأخرى التي طورها بالتجربة والتفكير، لكن هذا لا يعني أنّ اللُغة كانت تطاوع رجل الكهف وتوسع مداركه كما تُطاوع رجل الفضاء اليوم، فاللُغة مهمة في التفكير، وهذا ما سنتطرق له تالياً.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.