وقد تنزل القرآن الكريم عبر الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم قام النبي بقراءته أمام المُسلمين لكي يحفظوه وينقلوه إلى الأجيال الأخرى في كل يوم، في كل صلاة، في كل لقاء، بل وفي حلقات مراجعة الحفظ، وقد سمعه الآلاف ونقلوه إلى الآلاف، والقرآن هو كلام الله الواجب حفظه ونقله، وطوال الـ23 عام من البعثة كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقوم بأفعاله اليومية في الحياة مثل النوم والأكل والمعاملات والحزن والغضب والزواج والإنجاب والأصدقاء، وكذلك كان يقوم بمهامه كرسول وبلّغ رسالته، وكحاكم فقد سنَّ القوانين، حصلت أحداث عديدة قام صحابته بحفظها ونقلها إلى الأمم والأجيال التالية وعُرِف ذلك بالسنة النبوية التي تحتوي على حديث النبي للناس، وفعله، وتقريره، وكأي رسول آخر قد تم نقل الكثير من أفعاله الصحيحة، لكن خالط نقلها في بعض الأحيان الخطأ والنسيان أو الدس.

حتى ينظم المُسلمون هذا الأمر اهتموا بسند الحديث المنقول، والذي هو عبارة عن سلسلة الرجال الذين نُقل الحديث عن لسانهم حتى وصل إلى القائل الأصلي وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي نراها في بداية كل حديث في صورة (قال فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا)، كذلك اهتموا بمتن الحديث، والمتن هو نص الحديث الذي يأتي بعد السند من قول أو فعل أو تقرير، فهو لب وجوهر الحديث، بعد أن ينتهي السند من حدثنا فلان عن فلان يأتي المضمون (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا وكذا).

كما واعتمد المُسلمون تقويماً يعتمد على موعد هجرة نبيهم من مكة (مدينته الأصلية) إلى المدينة هرباً من التعذيب والتنكيل، لنشر رسالته بعيداً عن الخوف والرعب، في اعتبار أنها الهجرة الأسمى والأهم في تاريخ الإسلام، وهي ما يجب أن يفعله كل مُسلم، الهجرة من عالم الدنيا، إلى عالم الإسلام.

ويُصرّح البخاري أشهر جامع للأحاديث ومنظمٍ لها في كتابه أنه قد جمع 600 ألف حديث خلال سنوات لا تزيد عن 16 سنة، والمقصود بهذه العدد من الأحاديث هو الطرق والروايات والأسانيد المُختلفة التي وصلته عن الحديث، فالحديث الواحد معدود بسنده ومتنه، فإذا تعدد السند تم عدهم كأحاديث مُختلفة، أي أنّ حديث مثل بني الإسلام على خمس، إذا قاله خليل، فهو يعد حديث، وإذا قاله خالد فهو يعد حديث، ولذلك يمكن أن يكون للحديث مائة إسناد أو أكثر، فيحسب مائة حديث، وهذا ما يقلل عدد الأحاديث بشكل دراماتيكي، ويجعل عددها في أقصى تقدير 35 ألف حديث سواء صحيح أو غيره، وقد نبه على هذا المعنى النووي وغيره من العُلماء المختصين، وهذا أمر واضح في علم الحديث لا يحتاج إلى تنبيه.

ويميّز المختصون في علم الحديث اختلاف الأسانيد بسهولة، فمثلاً حينما يسمع المختص حديث إسناده عن الحسن البصري عن النبي…، يتوقف المختص مباشرة فيقول هذا الحديث ضعيف لأن الحسن البصري لم يلقَ النبي فكيف يروي عنه، أو حينما يسمع في حديث عن الواقدي عن….، يتوقف مباشرة لأن الواقدي شخص متروك الحديث، أي إنّ بعض الأحاديث لم يستغرق الحكم عليه سوى ثانية واحدة من قبل المختص، ومن هذا يتضح أنّ 16 عام للبخاري الذي صنف كتاب (التاريخ الكبير) كافيات جداً لدحض ما كان غير ممكن.

كذلك لم يقم البخاري بتأليف هذه الأحاديث بل كانت موجودة ومكتوبة ومحفوظة قبل مولده وقد جلب البخاري أغلب هذه الأحاديث من كتب أشخاص سبقوه مثل الحميدي وابن راهوية وأحمد بن حنبل ومعمر بن راشد ومالك بن أنس، فمثلاً يحتوي مُسنَد أحمد على 40 ألف حديث بالمكرر، وأحد أساتذة البخاري المسمى يحيى بن معين كان قد كتب 600 ألف حديث، وقد بدأ البخاري بقراءة الحديث بعد وفاة الرسول ب 195 عام، ولو تتبعت أسانيد البخاري لرأيت أنّ بينه وبين الصحابي الذي ينقل عنه شخصان أو ثلاثة وربما أربعة، علاوةً على أنّ هُنَاك من سبق البخاري من المسانيد كما ذكرنا، كمسند الشافعي، وموطأ مالك ومسند أبي حنيفة ومسند أحمد، فموطأ مالك دُوّن عام 158 هجري، ومسند أبي حنيفة قبله بسنوات قليلة، ومسند الشافعي بعده بسنوات قليلة، ومسند أحمد بعد مسند الشافعي، ولربما كل هذا الضجيج دار حول البخاري وحده، لأنه كان قاسياً في قٌبول الحديث، فوضع لوضع الحديث في كتابه شروطاً يصعُب على الكاذبين تجاوزها.

ولد البخاري في مدينة بخارى التي تنتمي إلى (تركستان) التي كانت جزءاً من ولاية (خراسان)، وفي زمن الأمويين والعباسيين (أزمان حكم إسلامي من 660 م إلى 1020 م) كانت قد غدت خراسان من أهم الحواضر الإسلامية، وخرج منها الكثير من الفلاسفة والفقهاء والمحدّثين من أشهرهم البخاري وابن سينا وغيرهم، وكلهم يتكلمون العربية ويؤلفون بالعربية ولهذا شكوك حول كيف قام البخاري بجمع الأحاديث وهو غير عربي الأصل غير دقيقة، لأن فكرة تعريف علماء الدين بأعراقهم هو إسقاط لمشاكل الحاضر على تاريخ رحب وشاسع، وما دام وُلد الشخص لأهل يتكلمون العربية وتعلم العربية وكانت لغته الأساسية فهو عربي اللُغة، فسيبويه إمام العربية لم يكن عربياً بالمعنى الضيق، وهو مثل قولنا لمؤلف يتكلم الألمانية يعيش في بلجيكا وكتب كتاب بالألمانية أنّ كتابك لا يصح، فهل يا ترى في هذا الوقت سيقبل أحد بهذه الفكرة الغريبة، بالإضافة إلى أننا نرى الكثير ممن يدّعون أنهم أصل العرب لا يكتبون إملاءً بشكل صحيح ولا يتقنون اللُغة أصلاً، بعكس بعض الدول الأخرى.

وقد نزل القرآن عربياً، وقد تعربت الكلمات الأعجمية فيه لمُجرَّد أنها كانت تستخدم لدى العرب، ونزل عربياً أي يفقهه العربي بكل سهولة، ويجري إطلاق لفظ الشاذ من القرآن من بعض المختصين على بعض القواعد اللغوية المُختلفة فيه، وهذا غرور منا، لأننا لم نعرف هذه القواعد بالكامل في أقوام عربية أخرى، فقلنا الشاذ، مع أنّ الصواب إطلاق لفظة على غير القياس، أو سماعاً، ويمكننا بسهولة تمييز ما ليس من القرآن مثل محاولة الزج إلى القرآن آية بعنوان: الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما البتة، فضلاً عن كونها رواية رواها شخص واحد ولا يُعتَد بها، إلا أنه من الواضح أنها ليست من بلاغة القرآن ولا من أسلوبه ولا من جماله، بالإضافة إلى أنّ أي شخص حرٌ في أن يقول إنها آية من القرآن، إلا أنّ كل الصحابة كانوا معارضين ولا يقبلوها، هم لم يسمعوها، وهم أهل البلاغة.

مُشكِلة قديمة

ومن غير الصواب الادّعاء أنّ صحيح البخاري وصحيح مُسلم (عالم آخر قام بجمع الأحاديث) ينتسب كل ما فيهما إلى رسول الله قطعاً، كما هي نسبة القرآن إلى الله، وأيضاً من الخطأ القول إنهما لا يساويان شيئاً، ولا تصح نسبة أيٍّ مما فيهما إلى رسول الله، وإنّ الأزهر في مصر والذي هو يمثل منارة المُسلمين الوسطية يرى أنّ كل ما في البخاري ومُسلم صحيح النسبة إلى رسول الله حكماً لا عقيدة مع الإقرار بأنه يمكن أن يوجد بعض مما فيهما مما يستحق النقد من المختصين، ومن المختصين فقط.

وربما ينبغي لنا التذكير بأنه ليس هُنَاك كتاب قام البشر بتأليفه كان صحيحاً بنسبة 100%، سواء في العلوم الإنسانية، أو الإلهية أو الرياضيات، وقد أثبتت الفلسفة الحديثة المادية منها والمثالية ذلك بصورة قطعية.

ومن الصواب السؤال عن آلية جمع وحفظ القرآن والسنة وأن ننظر في آراء المشككين في آلية جمعهم بكل حيادية، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ القصائد والمعلقات قد وصلتنا من قبل ولم يقم أحد بالتشكيك فيها، ويتم قٌبول كتاب الزرادشتية ولا يتم مناقشة ما به بل ويتم التسليم بأنه قد سبق القرآن بالكامل ولا يتم التشكيك فيه! كثير من الكتب والأفكار والكلمات وصلتنا من آلاف السنين ولم يشكك فيها أحد، نقلت إلينا آلاف الوثائق والمنقوشات الفرعونية ولم يشكك أحد في البُنود المكتوبة أو المنقولة منهم، ونُقلت إلينا كتب أفلاطون منذ آلاف السنين ولم نشكك بها، ناهيك بأن العصر الجاهلي أي ما قبل الإسلام من 50 سنة ل 150 سنة كان أبو عمر الشيباني قد جمع وحده أشعار وقصائد 80 قبيلة، والمفضل جمع 126 قصيدة أي ما يقرب من 4 آلاف بيت في المفضليات، ولم يثبت أن طعن أحد في ديوان الأعشى أو ديوان للنابغة لبيد، وغيرها من الصفحات التي تَفُوق القرآن أضعافاً، لكن استكثر البعض على المُسلمين أن يحفظوا كلام رسولهم!

إنّ صحة سند الأحاديث لا تعني بالضرورة أنّ الراوي نقل الحديث بشكل كامل يوافي الحقيقة المطلقة المرجوة منه، فقد يكون الحديث خاصاً أو مجتزأً من النص، وقد يكون الحديث قيل لحالة خاصة فتم التعامل معه لاحقاً أنه عام مثلاً قد يكون حديث ألا بكر فتلاعبها وتلاعبك قد قاله الرسول لشخص معين أراد أن يتزوج فتاة لم تتزوج لأسباب خاصة به، لديه مثلاً حالة وهو بحاجة إلى فتاة أصغر سناً، وهذا يتم بعد أن نقوم بإعادة فحص وتمحيص الحديث من ناحية السند بالكامل نبدأ في فهم تفصيل الحديث ومتنه، وماذا لو قال الرسول كلاماً كثيراً وأتى الصحابي واستمع للحديث من منتصفه أو سمعه عند لحظة معينة فكان المعنى منقوصاً، يبقى هذا عمل المختصون والأحاديث في هذا السياق قليلة جداً.

لذلك لا يجب التحامُل كثيراً على أي حديث غريب، بل يجب المرور عليه في أسوأ اللحظات واعتبار أنّ هُنَاك أمراً إما لا نفهمه أو أنّ الحديث خاص أو له تبعات وظروف خاصة، والصحابة ومن تبعهم قد نقلوه مرة ثانية من باب الأمانة، فهم نقلوا كل ما يستطيعون، وهذا ما نراه في الأحاديث المتضاربة، كما في حديث الوضوء بعد أكل لحم الجمل، فقد أخرج صحابي ريحاً وكان الجميع جلوساً، وقام الصحابة لغسل أيديهم ثم للصلاة، فلم يرغب الرسول أن يحرج من أخرج ريحاً فأمر كل من أكل من لحم الجمل بالوضوء (لكي يصلي)، فتوضأ جميع الصحابة ولم يعرف أي منهم أخرج الريح ولم يُصَب بإحراج، وقراءة هذا الحديث دون معرفة سبب قوله يسبب مُشكِلة لقارئه، وغيرها من الأحداث الأخرى في رواية الأحاديث ونقلها، ولك أن تتخيل أنّ صحابياً لم يحضر حادثة وضوء الجمل منذ بدايتها سيكون لها أثر مختلف، أو لم يسمع الصحابي أول كلمة في الحديث والتي كانت لا الناهية! هذا وقد أجمع العُلماء على أنّ العقيدة تؤخذ من القرآن، والأحاديث يؤخذ منها الأخلاق والمعاملات ويجب أن نوازن فيها ولا تأخذنا الحمية إذا رأينا شخصاً يتبول واقفاً أن نطلق عليه كافر لأنه خالف حديث الرسول بالبول جالساً، في حين أنّ الحديث قيل لغرض النظافة، وحديث لا يقتل مُسلم بكافر على سبيل المثال قيل في المحارب أثناء الحرب، ولكن تم إساءة استغلاله لاحقاً.

وقد سمعت عائشة (زوجة الرسول) حديث يقول “إنّ الميت يُعَذَّب ببعض بكاء أهله عليه”، فأنكرته وقالت كيف ذلك والقرآن يقول “ولا تزر وازرة وزر أخرى” أي كيف يعذب الإنسان ببكاء إنسان آخر والقرآن يؤكد أنّ كل إنسان مسؤولٌ عن أعماله، وقالت السيدة عائشة إنّ سامع الحديث لم يسمعه جيداً فقد يكون سمع إن يعذب الميت بدلاً من لا يعذب الميت ببكاء أهله، أو أنّ الرسول قصد أنّ هذا الأمر يضايق الميت ويؤلمه في قبره، وليس بمقصد أنّ الله يعذب الميت، أو أي شيء مشابه، وهذا يعني أنّ المُشكِلة قائمة منذ السنين الأولى وهذا أمر طبيعي.

من الأحاديث التي وقفت عندها دائماً ولم أصدقها، ويتم استخدامها بكثرة للتأكيد على أنّ صحيح البخاري هو عمل بشري، هو حديث محاولة الرسول التردي من قمم الجبال، ويحاول البعض الدفاع عن الحديث وذلك بتأكيدهم على أنّ الرسول مُجرَّد بشري، يضعف ويستكين أحياناً، ولكم أن تتخيلوا مقدار الاستهتار في هذا الفكر، ورفض هذا الحديث ينبع من أسباب كثيرة منها:

  1. لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فكيف يكلف الله نفساً بالرسالة لا تتحمل وتحاول الانتحار!
  2. لو جلبنا أتعس مواطن في بلادنا فسنجد لديه من الإيمان ما يمنعه من الانتحار، فكيف نقبل فكرة أنّ الرسول حاول الانتحار.
  3. كيف يختار الله لرسالته شخصاً لديه أمراض نفسية يقبل على الانتحار! كيف سيبلغ الرسالة هذا الشخص.
  4. من المفترض أنّ الرسول قوي الشخصية، لديه جلد عالٍ لا يثنيه عن الحياة أي شيء، حتى الموت!

وغيرها من الأسباب، وغيرها من الأحاديث الواردة في قوة الرسول، إلا أننا بمراجعة الحديث في صحيح البخاري نجد أنّ السبب كان واضحاً، الحديث طويل وفيه مقدمة مُختلفة كلياً، ثم يقول الزُهري (الراوي): فَأخْبرنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ “فِيمَا بَلَغَنَا” أي أنّ هذه إضافة على الحديث الأصلي وليست جزءاً منه يرويها الزهري سمعها من كذا وكذا (بلغه)، وهذا ما يفيد أنها إضافة وليست جزءاً من الحديث الأصلي، لذلك هي بعيدة كل البعد عن كونها خطأ في نقل الحديث، ولكن البخاري نقلها كما هي من الراوي، وهذه للأمانة العلمية، ونؤكد أنه يجب ألا نمر مرور الكرام على كل شيء، ويجب التوقف والتفكير دائماً في كل كبيرة وصغيرة، ولكن (نحن) هي العلماء المختصين في هذا العلم، وليس أي طبيب جراح قرأ كتابين.

ولا شك أنه حدث تلاعب شديد في الدين، ككل الأديان، قد يكون تم دس بعض الأحاديث في البخاري لاحقاً لإفساد الدين، أو تم دس بعض الأحداث في كتابة تاريخ المُسلمين لتقوم السلطة (الحكومات اللاحقة) بقمع المعارضين، وغيرها من القصص المتداخلة، التي قد محصها المختصون، والمختصون فقط.


اترك تعليقاً