الغريزة

إذا كانت معرفة الإنسان كلها وليدة التجربة فما هي الغرائز؟ هل هي نتاج التجربة؟ أم هي من صنف المعرفة القَبْلِيّة السابقة على كل تجربة وحس؟ لا أحد يمكنه أن يقول أنّ الغرائز تتولد مع المُمَارسة والتجربة والخطأ والصواب واستنتاج العبر! أو أنها وعي عميق يسبق التجربة! لا يستطيع التجريبيون وصفها فيقولون إنها حس داخلي، فما هو الحس الداخلي؟ من أين يأتينا هذا الحس الداخلي؟ هل يتشكل من التجربة أم هو موجود مسبقاً؟ هل يشعر الطفل بالجوع جراء التجربة أم هو شعور موجود مسبقاً ومبرمج لديه؟ حينما يحاول أن يلتقم أي شيء ليمصه كتعبير عن الجوع، هل تعلَّمَ هذه الحركة؟ أم أنه يولد إلى هذا العالم ومعه معرفة المص والرضاعة؟

لا أحد يقول إنه يتعلم، بل الجميع يتفق على أنها معرفة قبلية، هل لو جلبنا وحش وسيدة جميلة لطفل عاش في جزيرة منفصلة، هل سيميل للسيدة الجميلة أم إلى الوحش؟ أتفق معك أنه سؤال غير حاسم، ولكن ماذا لو صرخ الوحش؟ سترى الطفل يخاف وينصدم وتظهر عليه علامات شخص بالغ، من أين ظهر هذا السُلُوك، هل تعلَّمه أم وُجد فيه مُسبقاً؟ ماذا لو رأى فراشة وصرصور؟ إلى أيٍّ منهما سيميل قلبه ليلمس أولاً؟ الجمال أم القبح! وماذا عن غريزة الجنس، هل يتعلمها الإنسان أم تكون مغروسة فيه؟ الإجابات واضحة أنّ الغريزة هي معرفة قبلية.

إنّ الصدام بين التجريبيين والعقلانيين طويلٌ وشائكٌ، فبعض التجريبيين ينفون المعرفة القبلية، أما بعض العقلانيين فيتمادون في دور العقل، لا يهمنا هذا الصراع كثيراً، بل يهمنا أن نعرف أنّ هُنَاك معرفة قبلية يولد بها الإنسان، هل هي كبيرة أم صغيرة، وأين حدودها وغيرها من الأسئلة لا تهم، ما دامت هُنَاك معرفة قبلية فهُنَاك خالق قام بوضعها، والمعرفة القبلية هذه موجودة في الحيوانات، تطرقنا لها في نهاية الباب السابق، مثل بناء الطيور للأعشاش، ومهارات الحيوانات، وهُنَاك هجرة سمك السلمون مسافات طويلة من حيث أتى، وبناء بيوت النحل وتشكيل أقراص العسل وغزل العنكبوت لشبكته ذات الشكل الهندسي، وسدود القندس المعمارية المُدهشة، كذلك بيوت النمل الذكية، ولُغة التخاطب بين الكائنات المُختلفة، من البكتيريا مروراً بالنمل صعوداً إلى الكائنات الأكبر في الدماغ، وعاطفة الأمومة لدى الكائنات، كل هذه المعارف موجودة في داخل الكائنات، ولو قمت بفصل أي كائن عن القطيع أو عن أسرته، فإن هذه الملكات سيطبقها كما لو أنه كان يعيش معها، جرب أن تأخذ قطة صغيرة جداً رضيعة من أمها وابدأ بتربيتها، ستجد حركات القطة الكبيرة موجودة فيها، من آلية لعق شعرها بطريقة منظمة، وصوتها وخرخرتها حين الراحة والسعادة وحفر حفرة للتبرز وغيرها من عمليات المعرفة القبلية.

وقد رأى نيتشه أنّ الحضارة مُجرَّد كمالية شكلية للبشر والأخلاق كذلك، أما جوهر الإنسان فمصنوع من الغرائز كما في غريزة البقاء وإرادة القوة، جرب أن تقوم بوضع مجموعة من الرجال والنساء من شتى الدول والثقافات والمستويات في غرفة ضيقة وامنع عنهم الطعام، بعد عشرين يوماً، افتح نافذة صغيرة وألقِ إليهم رغيف خبز، وانظر كيف يقتل بعضهم بعضاً، جرب أن تشاهد فيلم Greenland أو The Platform لترى الصورة، والحديث عن تجربة في ظل عدم وجود دين أو رغبة بدخول الجنة وإرضاء الإله.

إنّ غريزة الجنس هي من حفظت الجنس البشري من الفناء، وغريزة البقاء هي من حفظته من هجوم الكائنات وجعلته يبني بيوتاً وغيرها، وغريزة الجوع من أطعمته، وغريزة الراحة والحب والتميز والقوة والسيطرة وباقي الغرائز هي من حفظت الإنسان، ليس الحواس بل الغرائز القبلية، أما الأخلاق وغيرها فهي كماليات بشرية، والوعي هو أخطر ما يهدد السلالة البشرية باعتبار الغرائز هي تاريخ البقاء، وهي من رجحت كفة البشر في صراعهم مع قوى الطبيعة… إلى الآن، ويقول نيتشه الذي يرى أنّ الإنسان قد تطور من حيوان: “أقول عن حيوان أو نوع أو شخص بأنه منحط عندما يكون قد افتقد غرائزه” [152]، وكانط يرى أيضاً شيئاً يقوله الدين في هذا السياق، فهو يرى أننا إذا ما اتبعنا غرائنا فإننا سنصبح عبيداً لها، وسنصبح مثل الحيوانات التي لا تعيش إلا لغرائزها ونفسها أي أنها ليست حرة لتتبع القانون الأخلاقي، ولذلك -مرة أخرى- القانون الأخلاقي يجعلنا أحراراً.

الغرائز لا تأتي بالتجربة، والانشغال في الغريزة هو الملعب الذي يبدع فيه الإنسان والحيوان، القدرات نفسها متساوية ولا تمايز، وهذا يبين أنّ هُنَاك إيداع مسبق لها من قبل مصمم واحد.


اترك تعليقاً