لعل أعقد ظاهرة بيولوجية عرفها الإنسان هي التزاوج في الكائنات الأرقى، وحينما نتكلم عن التزاوج نتكلم عن تغييرات كبيرة في الكائنات، فيجب على الكائنات أن تتمايز إلى ذكر وأنثى، الأنثى لديها الثدي للرضاعة والرحم للحمل وهرمونات الأنوثة، وآلية للطمث وآلية للولادة وحبل سري مُعقَّد ينقل الماء والدماء وينظم الحرارة ويخرج الفضلات ويُدخل المضادات ويحفظ الجنين، ولديها ملامح جمالية بسبب الهرمونات لتكون جذابة، صوت ناعم، شعر أملس، وجه أبسط، حوض مخصص للولادة، أثداء تثير الرجل ولا أعلم كيف حصل هذا تطورياً، إلية مستديرة، عظام أخف وعضلات أصغر لأنها لا تحتاجها، وغيرها من المميزات، والرجل على العكس من ذلك لديه كل هذه الصفات.

تمتلك المرأة مهبلاً بحجم القضيب خاصاً للتزاوج، ينتهي بقناتي فالوب وبويضات للتلقيح تسير في مسار مُحدد في القناة وفق آلية واضحة، وإذا لم تتم عملية التلقيح، تحدث عملية الطمث وفق آلية هندسية ليتخلص الجسم من البويضة الميتة، والرجل يمتلك قضيباً مُعَدّاً لهذه القناة، وغدة كوبر لإفراز مادة مغذية ومواد أخرى تنظف الوسط ومعادلة الحمضية، كما ويحافظ كيس الصفن على درجة حرارة الحيوانات المنوية، ومصنعاً للحيوانات المنوية لإنتاج ملايين الصواريخ الدافقة بآلية تحفظ طريقها، وتحتوي على بنك المعلومات، كما وتمتلك محركاً دافعاً لتتحرك في وسط مظلم بالاعتماد على الكيمياء ولمدة ثلاثة أيام، وللرجل قناة ليقذف الحيوانات المنوية ولديه مضخة لفعل ذلك.

البويضة مستعدة لانتظار الحيوان المنوي ومجهزة له، كأن المصمم صمم الحيوان المنوي والبويضة وقسمهم بالنصف ووضع كلٍ منهم في مكان، وحينما يصل الحيوان المنوي تبدأ العملية المُعقَّدة من التصادم والموت والذوبان من حمض الهيايولونيك وغيرها من المواد، وما إن يُفلح حيوان واحد بالدخول حتى تنغلق البويضة وتبدأ بانقسام مُعين وفق خطوات واضحة معروفة ودقيقة، لتبدأ الخلية الواحدة بالتحول إلى خلايا مُختلفة الوظيفة، بما يزيد عن 200 نوع بدقة وتسلسل دقيق، وهذا غيض من فيض من تعقيد العملية.

جديرٌ بالذكر أنّ الجسم مُهيَّأ لهذا الأمر، إذ تلتصق البويضة في جدار الرحم ويبدأ الدم بالتدفق وتبدأ الهرمونات بالعمل، فهُنَاك هرمونات تزود حجم الثدي وتهيؤه، وهرمونات توسع من البطن، وهرمونات أخرى تمنع التبويض، وغيرها الكثير من العمليات المرتبطة، ثم يبدأ الطعام بالوصول إلى الجنين عبر الحبل السري وفق آلية مُعقَّدة ومنظمة، ليبدأ الجنين بالنمو والاستعداد ويتشكل إما ذكراً أو أنثى.

انتظر! لا تقل سبحان شيء بعد، حتى لا تكون مؤمناً بالخرافة، وليس بالعلم، هذا الجنين مُهيَّأ لهذا الرحم وله وقت معلوم ودورة دموية مُختلفة وتنفس مُختلف أيضاً، فهو مجهز لهذه الرحلة الطويلة التي تنتهي بعملية المخاض والولادة، لتبدأ رحلة الرضاعة والنمو الطويلة وتغيير الجسم من دورة دموية وكبد وإنزيمات وهرمونات وملامح، حتى يصل إلى مرحلة البلوغ فيفرز الجسم هرمونات معينة لكي يرغب بالحصول على الطرف الآخر وتبدأ عمليات السعي والإغراء وغيرها لحين حصول الزواج، وإلا لما حدثت العملية الجنسية من الأساس، في الواقع تحدث تغييرات جسدية وتشريحية هائلة حين الانتقال من طور الجنين مروراً بمرحلة الرضاعة وانتهاءً بالبلوغ والكبر، وكأنّ كل فترة عمرية كائن مُختلف، وليس كما نعتقد أنها مراحل نمو جسدية في الحجم فحسب، وهذا أمرٌ يعرفه الأطباء، لذلك هُنَاك طبيب أطفال، وطبيب نساء، وطبيب كبار سن، وأدوية وجرعات وخصوصيات طبية لكل مرحلة عمرية.


رسم توضيحي 38 مراحل التبويض، ونلاحظ وجود جدول ثابت مرتبط بعمليات حيوية عديدة وفي أعضاء مختلفة.

لا شك أنّ عملية التبويض من أكثر العمليات التي تحدث في جسم المرأة تعقيداً، فهي تحدث عند بلوغ المرأة سناً معيناً يكتمل فيها نمو الجسم وإفراز الهرمونات اللازمة (من سن 12 – 50)، بطريقة دقيقة مترابطة مع كل أعضاء الجسم، إذ يؤثر كل هرمون بطريقة شديدة التعقيد على عمل الجسم، متبوعاً بعملية تغذية راجعة مُعقَّدة، فالـ Hypothalamus (منطقة في الدماغ) تفرز مواداً معينة لتعمل على تحفيز الغدة النخامية التي تفرز هرمونات بشكلٍ دوري، لتقوم بإجبار الجسم على إفراز هرمونات أخرى مثل المحوصل FSH والأصفر LH فيقوم الجسم بإفراز هرمونات مثل الأستروجين والبروجيسترون بأوقات معينة وبآلية إرجاع عكسية للـ Hypothalamusعلى مدار أيام مُحددة، حتى اليوم الـ12 من بداية الدورة الشهرية، ليصل الإنتاج الهرموني إلى أوجه، ثم تقل الهرمونات ويحدث الطمث، مع العلم أنه في كل يوم من أيام الدورة الشهرية تحدث تغييرات جسدية في الرحم وباقي الجسم موضحة في الصورة مثل توسع الشرايين وتسميك الرحم .. إلخ.

رسم توضيحي 39 آلية التبويض

أتساءل، ماذا لو فشلت أي جزئية من جزئيات هذه العملية؟ وما ذكرته هو نظرة سريعة للعملية، فالعملية بحاجة إلى مجلدات لشرحها فسيولوجياً وكيميائياً وحيوياً، ماذا لو لم يكن للحيوان المنوي مادةً يُذيب بها جدار البويضة؟! ستفشل العملية ويفنى الإنسان، إلا أنّ حيواننا المنوي حيوانٌ عبقري وعرف عبر العصفورة نوع المادة وصنعها مخبرياً وانتصر.

نستطيع أن نرى هذا في حالات العقم المنتشرة، خطأ واحد يدمر كل الأجهزة ويجعلها بلا فائدة، في ظل كل هذا التكامل، ألا يحق لنا أن نتساءل عن التصميم الدقيق؟ سيخرج شخص ويخبرني أنها عملية تطورية حدثت ببساطة في الديدان وتعقدت في القرود إلى أن وصلتنا بهذا التعقيد لنضيف عليها، حتى لو أضفنا عليها، أي خطأ بسيط في أي تعديل في أي جزء من جسم القرد في مسار تطوره إلى إنسان سيُفشل كل العملية، ولاحظ أنّ التغيير يجب أن يتم في الذكر والأنثى، في المرسل والمستقبل في اللحظة نفسها وإلا لما نجحت العملية، ويا سبحان الصدفة!

لا يتوفر وصف للصورة.

صورة 10 جنين عمره ثلاثة أيام!! وهو عبارة عن 8 خلايا فقط لا غير.

ولكن، لماذا لم تتطور الكائنات إلى أربعة أجناس بدلاً من جنسين؟ أليس الموضوع مُمتِعاً أكثر ومُفيداً للتنوع؟ لماذا تسير كل الكائنات على المنوال نفسه وكأنّ الرسام واحدٌ؟ نحن نعرف لوحات فان كوخ ونُميزها عن غيرها بسهولة، لماذا لم يحدث في مسار العملية التطورية أن خرج شيء عن المألوف، خرج شيء عن مسار فان كوخ.

حينما تطرح تساؤلات كهذه تجد إجابات عجيبة، فسؤال مثل لماذا الأطفال عيونهم كبيرة ووجوههم جميلة؟ نعلم أنّ هذا أمر مصمم بهذا الشكل ليغرس الرأفة في قلوب الكبار والأهالي، لكن لو سألت عالم تطوري لأخبرك أنّ الأطفال طوروا من قدرة معينة لتغيير ملامحهم حتى يجذبوا الكبار ويحنوا عليهم، يا سلام! لماذا القمر مستدير؟ لأنه أراد أن يكون مستديراً بدلاً من المربع حتى تحبه الشمس، الإجابة نفسها ولا فرق.

كيف لجينات صمّاء أنّ تختار الشكل الجميل للوجه؟ عشرات العضلات في الوجه وملايين الأعصاب كلها تتغير دون مخطط لتلائم شكلاً ما، كيف؟ إنّ شكل الطفل بحاجة إلى مصمم فنان ليرسمه، والكيمياء ليست عاقلة لتُخرج لنا جمالاً كهذا، وسنستعرض الجمال فلسفياً في الفصل القادم.

ونكرر لقد كانت الكائنات الدنيا مثل البكتيريا خالدة لا تفنى، فالبكتيريا تنقسم لا جنسياً إلى خلايا، وتستمر في الانقسام إلى ما لا نهاية، فالبكتيريا الحالية لكل سلالة هي نفسها قبل ملايين السنين انقسمت ولا زالت، لكن بعد أن حدثت التكاثر الجنسي بدأ للكائنات عمر مُحدد تموت بعد انتهائه، ونريد إجابة واضحة إذا كانت الكائنات تطورت، فلماذا لم تُحافظ على الخلود؟ لماذا نقصت وقلت مزاياها في التكاثر الجنسي؟ أليس هذا ضد التطور أصلاً؟

يستهلك الجنس الحالي طاقة كبيرة جداً للتكاثر، سواء في عملية إنتاج الحيوانات المنوية أو التبويض أو الدورة الشهرية أو الزواج أو العملية الجنسية أو العُقم أو نقل الصفات أو حتى تربية الأبناء غداً، وغيرها من الأمور التي لم تكن موجودة في التكاثر في البكتيريا، أين التطور من حل كل بند من هذه البُنود المعيبة والتي كانت غير موجودة سابقاً؟ ماذا عن إهدار الجهد في التصارع بين الذكور على الأنثى؟ أو ماذا عن هدر الكثير من الطاقة في إظهار الجمال الخارجي لإثارة الطرف الآخر، كما يفعل ذكر الطاووس مثلاً.

بالإضافة إلى أنّ التكاثر الجنسي في الرئيسيات ينتج أبناءً أقل، البشر مثلاً 1 كل 9 شهور، في حين أنّ التكاثر اللاجنسي ينتج المئات في ساعات، هل الميزة في تلاقح الصفات ونقل المعلومات المُفيدة؟ ألا توجد طرق أخرى أفضل لنقل الصفات بين اثنين، أو ثلاثة أو حتى عشرة مرة واحدة ودون تكلفة؟ وهل فعلياً التزاوج الجنسي ينقل المعلومات المُفيدة؟ ألم يستطع تطوير آلية أفضل لنقلها؟ ولا تخبرني أنّ الأمر يتم عبر الانتقاء الجنسي، فالصدر الكبير أو اللحية الغزيرة ليستا صفات حقيقية للبشر يجب أن ينتقوا بها، لكننا نعلم أن البشر ينتقون بناءً على هذه الصفات للأسف.

نعرف أنّ الطفرات لا تكفي لإنتاج صفات جديدة، لكن التزاوج أيضاً لا ينتج صفات جديدة، فاليد هي اليد، ولا يمكن أن ينتج عنها جناح في التزاوج، إلا إذا كنت تؤمن بتزاوج الكائنات بين الأجناس المُختلفة، فحينها أدعوك للتوقف عن مشاهدة رسوم الكرتون.

وماذا عن التزاوج بين الضعفاء، بين المشوهين جينياً، أليس من الأفضل للتطور أن يمنع هذا الأمر، ولا يخبرني أحدكم أنّ التزاوج يتم بين الأقوياء، فأقول له أنت لم ترى أم حسن جارتنا.

تخبرني أنّ التزاوج ظهر منذ 535435 ألف سنة في منطقة على جبل الزيتون في قاع الهامور، جيد! لكن أين المصدر الدقيق لهذا الكلام؟ إنّ عملية التزاوج والتلقيح والإنجاب مُعقَّدة، وأي خطأ يظهر بها يُؤَدِي إلى مشكلات جسيمة، ذكرنا بعضها فوق، ولنذكر فقط، ماذا لو دخل حيوانان منويان إلى الخلية، ماذا سيحدث في هذه الحالة؟ ماذا لو أفرز الجسم هرمون التستيرون للجنين وكان الجنين به مُشكِلة حساسية له ولم يتحول إلى ذكر، ماذا وماذا وماذا! متى ظهرت أول عملية تكاثر جنسي بين ذكر وأنثى؟ هل هي في نجم البحر الذي يملك آليتين، آلية جنسية وآلية غير جنسية؟ أم في سمكة Microbrachius dicki التي يصدع التطور رؤوسنا بها؟ أم هو طحلب Bangiomorpha pubescens.

كيف طورت الطبيعة آلية التكاثر اللاجنسي للتكاثر الجنسي؟ أو كيف تطورت الأمشاج الذكرية (الحيوانات المنوية) والأمشاج الأنثوية (البويضات)؟ وكيف تشكلت الغريزة الجنسية المقصودة؟ لم يعجبني التفسير التطوري أنّ الجنس مُمتِع عند جميع الكائنات بسبب طفرة جعلت مُمَارسة العملية مُمتِعة فازداد الإنجاب، وبهذا تكون الطبيعة قد انتقت من أصبحت العملية لديهم مُمتِعة بالانتخاب الطبيعي كون النوع استمر، لعل من كتبها لم يشعر بحياته بالشبق الجنسي، إذ يرتبط كل جسمك عصبياً وهرمونياً بهذه اللحظة، ولربما لم يشعر بالولع الجنسي والجوع للشريك الآخر، أخبرني الآن أنها مُجرَّد طفرة، أكيد فأنت لم تشعر بهذه النار التي تأكل جسمك وتهدم كل أفكارك.


اترك تعليقاً