العلم

ما دام الفلاسفة يرون أنّ هُنَاك صانع أعلى لهذا الإنسان (خالق) وأنّ الغائية أمرٌ حتميٌ في هذا الكون، فهذا يعني أنّ خلق الإنسان له غاية وليس اعتباطي، ويجب أن يكون هذا الخالق قد منحه كل ما يلزم ليكون على قدر المسؤولية، زوده بهذا العقل، وأخبره أنه المفتاح لكل الأبواب المؤصدة في حياته، وكل ما عليه فعله هو تشغيله واستنباط العلوم وفهمها، وستخضع كل مكونات الكون مستسلمة أمام قوة عقله وهذا ما نراه حاصل.

وعلى الرغم من أنّ معرفة الغيب أمرٌ خاصٌ بهذا الخالق، إلا أنه زودنا بالأدوات اللازمة لكي نحاول تَوقُع ومعرفة جزء من هذه المعرفة الخاصة، عبر العلم والعقل يعرف الإنسان المستقبل وكذلك الماضي، يتوقع صيرورة الأحداث ويعلم ما سيكون، وكيف سيكون، ولو تغير مُتغير، كيف كان سيكون.

بالعلم عرف الإنسان منازل القمر، وقدّر لمئات السنين الشهور القمرية، وتنبأ كيف سيكون المناخ لأشهر وسنين قادمة، وعلم متى سيحصد، وكمية ما سيحصده، وتوقع سير الأحداث في المستقبل، وتنبأ بموعد بشفاء غيره، بالعلم عرف الإنسان متى سينكمش هذا الكون وينتهي، ويقدّر متى ينزل المطر ولربما تحكم في إنزاله، وعلم ما في الأرحام وغيّر فيها، وبالعلم قدّر أرباحه ومكاسبه، ويُقدّر لكثير من الحالات المرضية مقدار للسنوات التي سيعيشها بناءً على الحقائق الموجودة.

وفي ظل التطور العلمي في موضوع الجينيوم البشري، فإن العلم سيتمكن في سنوات ليست بالكثيرة من معرفة متى ستموت هذه النطفة، ثمة جزء في جينات الإنسان يبين كيف ستمرض، ومتى ستمرض وكيف سيتأقلم جسدك، ومتى ستفشل أجهزتك ومتى ستموت.

وبالبوصلة عبرت أوروبا البحار وغزت العالم، وبالبارود بنت البنادق وامتلكوا القوة على سائر الجيوش، وبالمطابع انتشر العلم فيها كالنار في الهشيم، ثم انتهى مشروع النهضة في أوروبا بشطر الذرة والمشي على القمر وعملية القلب المفتوح.

مكثت البشرية 10 آلاف عام دون تطور إلى أن وصلت العجلة.

  1. ثم بعد 3500 عام تم صناعة المسمار وكان قفزة كبيرة في تقدم البشرية،
  2. ثم بعد 1500 عام تم صناعة الطباعة،
  3. ثم بعد 300 عام تم صناعة المحرك البخاري،
  4. ثم بعد 100 عام الكهرباء،
  5. ثم بعد 50 عام الحاسوب والتطور الحيوي،
  6. ثم بعد 30 عام الإنترنت،
  7. ثم بعد 15 عام الذكاء الاصطناعي،

أما الآن نحن نقفز قفزات خرافية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وعمر البشرية يختزل في سنوات قليلة، فبدلاً من قفز مئات السنين، بتنا نقفز في عشرات الشهور.

فهل بعد أن يرى الإنسان برهان مصممه وهو العلم، يعود وينتكس ويبحث عن مقومات أخرى غير المبنية على هذه الهبة، غير المبنية على العقل، هل سيبحث عن الخزعبلات والأساطير مجدداً! شخص امتلك العلم فرأى أنّ مفتاح هذا الباب هو مفتاح رقم 21، هل تراه يذهب ويستخدم مفتاح رقم 17؟ كلا، فقد عرف وتيقن، فهل سينقض غزله من بعد قوة أنكاثاً؟

على الرغم من هذا، إلا أنه هُنَاك علوم كثيرة لا ترتبط بالبحث التجريبي، فعلوم مثل الفن والجمال، الإحساس والاستمتاع بالموسيقى، السجع والشعر والنثر، بل وحتى الفلسفة وموضوعاتها المُختلفة، هي علوم لا علاقة لها عند البشر بالعلم والاكتشافات والاختراعات والنظريات الفيزيائية والمعادلات الرياضية، بل ترجع إلى ذوق كل إنسان وثقافته وحياته ومفاهيمه، يخبرنا العلم أنّ هذه اللوحة تحتوي على صورة فتاة من البرازيل على ما يبدو، لكنه لا يستطيع إخبارنا ما سر جمال اللوحة عندي أو عندك.


قد يستطيع الإنسان بناء برنامج يشعر مثل البشر، ويُميز الموسيقى، بل ويمتلك خلفيات ثقافية وعمر مثل الإنسان ليمر بالمراحل التي جعلت لهذا المقطع من الشعر معنى، لكن هذا لا يفسر طبيعة النفس البشرية التي لا تحكمها قواعد، فما هو جميلٌ الآن قد يكون قبيحاً غداً، وما هو قبيحٌ لك قد يكون جميلاً لي، وما هو جميل لي وحدي قد يكون قبيحاً لنا نحن الاثنين ونحن نجلس سوياً، وما هو جميل في الصباح قبيحٌ في الظهيرة وعاديٌّ في المساء وهكذا، إنّ هذا مرتبط بالطبيعة البشرية المُشتركة بين المادة والروح، ولكن، هل يمكن الاعتماد على العلم وحده في هذا العالم؟ هل العلم يكفي البشرية؟ بل هل العلم قبل هذا ثابت؟ دعونا نرى.

العلم والتجربة

كما ذكرنا فإنّ للاستدلال في المنطق طريقتين أساسيتين، الأولى هي القياس (الاستنباط)، والثانية هي الاستقراء وضربنا مثال السيارات ذات الأربع عجلات، وفي الاستقراء نحكم على شيءٍ كلي بناءً على وجوده في كل الجزئيات التابعة له، وكان هُنَاك الاستقراء الكلي والناقص، فالاستقراء الكلي في العلم يتم حينما نحكم على كل الجزئيات التابعة لأمر ما، فمثلاً جملة “جميع أفراد عائلة سليم يمتلكون نصف مليون دولار على الأقل”، يمكننا التحقق من أمرها بسهولة، وذلك عبر جلب جميع أبناء عائلة سليم وفحص أرصدتهم، ولو كان الرقم صحيحاً فإننا سنستقرئ أنّ القضية صحيحة، والقضية هي كل جملة خبرية تحتمل الصواب أو الخطأ نريد التحقق منها.

رسم توضيحي 64 النظرة السيئة للعلم التجريبي.

ولكن، ماذا لو لم نتمكن من حصر كل الجزئيات في أمرٍ كلي؟ كما في موضوع كل أهل السعودية مُسلمين، فنحن لم نفحص كل أهل السعودية فرداً فرداً بل رأينا مجموعة أو عيّنة (جزء من كل) وكانوا كلهم مُسلمين فأطلقنا حكمنا، وهذا ما نسميه استقراءً ناقصاً إذ نقوم بإصدار حكماً كلياً بعد أن نتتبع بعض الجزئيات وليس كلها، من المنطق أنّ القياس يفيد القطع إذا كانت القضايا المستخدمة فيه صحيحة، لكن هل يفيد الاستقراء القطع؟

كما رأينا أنّ الاستقراء التام بمقام القياس إذا كان الفحص والتحقق صحيحاً وهو حتماً يفيد القطع، أما الاستقراء الناقص فيفيد الظن عند علماء المنطق؛ وفيه استقرأنا بعض الجزئيات وليس جميعها، وبذلك حكمنا على بقية الجزئيات التي لم نرها من باب الظن [148]، وفي مثال السعودية حكمنا على الملايين بسبب مشاهدتنا 1000 شخص مُسلم فقط، لكن ألا يوجد شخص سعودي غير مُسلم؟ شخص غيّر دينه أو يحمل الجنسية وأمه غير مُسلمة مثلاً واعتنق دينها! حتماً هُنَاك شخص غير مُسلم، أو أنك دخلت عشرة مطاعم في مدينتك ووجدت أنّ ثمن فرشوحة الشاورما خمس جنيهات، فحكمت أنّ سعر فرشوحة الشاورما في كل المطاعم في مدينتك هي خمس جنيهات، ولكن ماذا عن المطاعم المتبقية؟ ماذا لو كان هُنَاك مطعماً على الأقل يبيعها بأربعة جنيهات؟! هذا ممكن لأنك لم تزر كل المطاعم وأطلقت حكماً كلياً عبر جزئيات منه.

هذا يقودنا إلى الفكرة المنطقية التي تقول أنّ عملية الاستقراء مُستحيلة في القضايا الكبرى، فلو قلنا أنّ تناول الفواكه والخضروات مُفيد لصحة الإنسان بشكل عام، وأنّ هذا تم بناء على تجارب ودراسات سريرية طويلة، إلا أنّ هذا الاستنتاج غير كافٍ، فكم عدد الأشخاص الذين تمت عليهم التجربة لنطلق هذا الحكم؟ 100، 10000، مليون؟ ماذا عن باقي البشر، ألا يمكن أن يكون أحد عكس ذلك دون سببٍ آخر؟ ولو قمنا بإجراء الدراسة على كل البشر الآن (8 مليار شخص)، ماذا عن البشر القادمون مستقبلاً وغيرها من الاحتمالات المُختلفة، حينها نعلم أنّ الاستقراء عملية غير ممكنة بهذا الشكل.

ماذا لو رأيت في مدينتي أنّ كل القطط صفراء اللون، وبحثت في كل أطراف المدينة وما تركت قطة إلا ووجدتها صفراء، هل هذا ينفي إمكانية وجود قطط رمادية أو مرقطة؟ هذه مُشكِلة أخرى فالاستقراء التام يعبر عما رأيناه ولا يعبر عن الحقيقة المطلقة، الاستقراء التام يعبر عن فحصنا لكل القطط في مدينتي فقط، لكن لا يعني أنّ الدلالة قطعية بالمطلق، وهذا استنباط يعتمد على التخمين والتوقع والاعتقاد.

صحيح أنّ علم المنطق يعتمد على الاستنباط (الاستنتاج أو القياس) دون الاستقراء، ولا يعيب العلم حالياً أنه استقرائيٌ ناقص، لكن هذا يجعله في موضع ربع إله، ليس نصف إله بل ربع إله، لا يجب تقديسه بالمطلق، لا شيء حتميٌ فيه أو نهائي، كل شيء قابل للفحص والتغيير، وهذا ما سيتضح أكثر.


اترك تعليقاً