شاع في القرنين الماضيين صراع بين معسكري المثالية والمادية، فالمعسكر الأول يرد الظواهر إلى الفكر ولربما يشكك في وجود العالم كله، أي أنّ الوعي يسبق المادة، بينما يرى المعسكر الثاني العكس، فهو يرى أنّ العقل هو نتيجة تفاعلات كيميائية ينتج عنها كل ما نراه من إدراك، أي أنّ المادة سابقة للوعي، وهذا بطبيعة الحال يتماشى مع الكون المادي الذي نعيشه.

ومن المهم التفرقة بين العقل والدماغ، فالدماغ هو المادة الحية الموجود داخل الجمجمة، أما العقل فهو الجانب غير المادي المسؤول عن الوعي والتصور والإدراك والتفكير، ولم أرَ إلا قلة قليلة تقول بأن العقل هو الدماغ والسبب في هذا يعود إلى الأبحاث الحديثة في مجال الأعصاب.

على الرغم من أنّ القرن التاسع عشر كان قرناً مادياً بامتياز كما سبق التوضيح، إلا أن طموح العُلماء لم يتوقف، فقد آمن العُلماء أنهم في القرن العشرين سيفكون لغز الدماغ بالكامل، وسيتحكمون في التفكير والوعي والإدراك والذكريات والأحلام والصور، وسيقومون بحذف وتعديل أي صورة تظهر في دماغك.

لكن ما حدث مع علماء الأعصاب لاحقاً وخصوصاً العالم ويلدر بنفيلد غيّر كلَّ شيء بالكامل، إذ قام هذا العالم بدراسته من خلال عملياته الجراحية التي أجراها على أدمغة ما يزيد عن ألف مريض وهم في حالة الوعي، ومن ثم أطلق ملاحظاته حول وظيفة الدماغ لتكون في كمالها أوضح من أدلة العمليات والتجارب التي سبقته والتي كانت قد أُجريت على أدمغة أشخاص في غير وعيهم بل وعلى حيوانات أحياناً، ويعد بنفيلد أول من قام بدمج مباحث الأعصاب وفسيولوجيا الأعصاب وجراحة الأعصاب وتوّج عمله في كتابه لغز العقل ليكون كنزاً للعلماء من بعده.

بدأت تجارب بنفيلد على مرضى الصرع في محاولة لعلاجهم باستخدام الجراحة، فقد كان بنفيلد يُخدّر مرضاه تخديراً كاملاً فيدخل المريض في حالة الغيبوبة، ثم يقوم أثناء الجراحة بإزالة جزء من جمجمة المريض، ومن ثَم يعيد المريض إلى وعيه، والجدير بالذكر أنه لا يوجد في الدماغ أعصاب حسية، لذا لا يشعر المريض بأي ألم حينما يتم لمس الدماغ والتلاعب به، واستخدم بنفيلد في تجاربه على الدماغ قطباً كهربائياً، ليحدد المناطق التي تسبب نوبات الصرع للمريض ومن ثَم يزيلها.

لاحظ بنفيلد أنه حينما يلامس القطب الكهربائي منطقة النطق الواقعة في الدماغ فإنه يحدث فقدان مؤقت (حبس) للقدرة على الكلام عند المريض، ونظراً لانعدام الإحساس في الدماغ فإنّ المريض لا يُدرك أنه مُصاب بالحبسة إلّا عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم الكلام فيعجز عن ذلك، وفي التجربة تم عرض صورة فراشة وقام بنفيلد بوضع القطب الكهربائي، إذ يُفترض وجود قشرة المخ الخاصة بالنطق، فظلّ المريض صامتاً للحظات ثم طقطق بأصابعه كما لو كان غاضباً، فقام بنفيلد بسحب القطب الكهربائي فتكلم المريض وقال: الآن أقدر على الكلام إنها فراشة لكني لم أستطع النطق بكلمة فراشة [2].

لقد تعرف عقل المريض على الصورة المعروضة على الشاشة وأرسل طلباً لمركز الكلام في دماغه لكي ينطق بالكلمة التي تقابل المفهوم الماثل في ذهنه لكن تعذرت العملية، هذه التجربة وغيرها قادت بنفيلد إلى فكرة جوهرية هي أنّ آلية النطق والكلام ليست هي عملية التفكير والإدراك، وإلا لأصبح من المفترض إذا توقفت منطقة الكلام أن تتوقف منطقة الكلمات المسؤولة عن التفكير فيها، وما الكلمات المنطوقة أو المكتوبة إلا أدوات للتعبير عن الأفكار، ولكنها ليست هي الأفكار بالمطلق.

وقد أُجريت تجارب تبين صحة هذه الفرضية وذلك حينما حصل ما هو معاكس للنظرية السائدة، إذ قام بنفيلد بوضع القطب الكهربائي في مناطق الدماغ المسؤولة عن الحركة فقام المريض بتحريك يده وكان بنفيلد يسأله مراراً عن ذلك وكان جوابه على الدوام أنا لم أُحرك يدي بل أنت الذي حركتها وحدثت التجربة نفسها في النطق فقال المريض: أنا لم أخرج هذا الصوت أنت من سحبه مني.

وهذه الحركات اللاإرادية تُشبه ردّ فعل الساق حين النقر على الركبة بمطرقة خفيفة، وهذا أيضاً يحدث مع القطب الكهربائي فهو قد يُؤَدِي إلى أحاسيس بسيطة كأن يجعل المريض يُدير رأسه أو عينيه أو يُحرك أعضاءه أو يخرج أصواتاً وقد يُعيد إلى الذاكرة إحساساً حياً بتجارب ماضية، أو يُوهمه بأن التجربة الحاضرة هي تجربة مألوفة أو أنّ الأشياء التي يراها تكبر وتدنو منه، ولكن المريض يظل بمعزل عن كل ذلك وهو يصدر أحكاماً على كل هذه الأمور.

ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة انتهى بنفيلد إلى أنّ عقل المريض الذي يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بُدّ من أن يكون شيئاً أخر يختلف كلياً عن فعل الأعصاب اللاإرادي، ومع أنّ مضمون الوعي يتوقف إلى حد كبير على النشاط فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك [2].

وباستخدام أساليب المراقبة هذه استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق والحركة وجميع الحواس، إلا أنه لم يتمكن من تحديد موقع العقل أو الإرادة في أي جزء من الدماغ، فالدماغ مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة ولكنه فيما يبدو ليس مقر العقل أو الإرادة.

وقد أوضح بنفيلد أنه ليس في قشرة الدماغ أي موضع يمكن من خلاله أن نجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئاً أو يصطنع القياس المنطقي أو يقوم بحل مسائل في الجبر، صحيح أننا يمكن أن نحرك مواضع عبر التلاعب بقشرة الدماغ، لكن لا يوجد موضع بالمطلق يمكن أن نجعل المريض يريد تحريك هذا العضو، أي لا يوجد موضع لاتخاذ إرادة تحريك أي عضو، لذلك الواضح أنّ العقل البشري والإرادة البشرية ليس لهم أعضاء جسدية، يستحضرني هنا مقطوعة من أعظم السيمفونيات في هذا العالم وهي السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، والتي كان قد ألّفها وهو مصاب بالصمم الكامل، لكنه كان يسمعها في عقله، يسمع النوتات تتطاير من أمام أذنيه في عالم اللامادة ويقوم بتلحينها على البيانو.

صورة 17 ولادة فينوس للرسام ساندرو بوتيتشيلي. فيها الآلهة فينوس تخرج من البحر كامرأة كاملة.

هذه التجارب تُبين أنّ الخواص العليا للعقل والوعي هي التي تملك زمام الأمور؛ فهي من تتحكم في العمليات الفيزيائية والكيميائية، وهي التي تحدد حركات جسم الإنسان، ويقول بنفيلد: “إنّ العقل لا الدماغ هو الذي يراقب ويوجه في آن واحد، فالعقل هو المسؤول عن الوحدة التي نحس بها في جميع أفعالنا وأفكارنا وأحاسيسنا وعواطفنا”.

إنّ العقل الواعي من يتيح وحدة التجربة الواعية لا آلية الأعصاب، وفي هذا السياق يقول بنفيلد: “إنّ الحاسبة الإلكترونية والدماغ كذلك لا بد من أن تبرمجها وتديرهما قوى قادرة على الفهم المُستقل، وما تعلمنا أن نُسميه العقل هو الذي يركز الانتباه فيما يبدو، والعقل يعي ما يدور حوله وهو الذي يستنبط ويتخذ قرارات جديدة وهو الذي يفهم ويتصرف كما لو كانت له طاقة خاصة به، وهو يستطيع أن يتخذ القرارات وينفذها مستعيناً بمُختلف آليات الدماغ”، ولذلك إنّ توقع العثور على العقل في أحد أجزاء الدماغ، أشبه بتوقع كون المبرمج جزء من الحاسب الإلكتروني، ويؤكد عالم الأحياء أدولف بورتمان على أنّ أي كمية من البحث على النسق الفيزيائي أو الكيميائي لا يمكنها أبداً أن تقدم صورة كاملة للعمليات النفسية والروحية والفكرية [2].

وعلى ما يبدو أنّ بنفيلد قد حسم الجدل بين العقل والمادة إلى الأبد مُبيناً أنّ العقل شيء مُختلف عن المادة، فقد أكد أنّ تفسير العقل على أساس النشاط العصبي داخل الدماغ سيظل أمراً مُستحيلاً كل الاستحالة، مع العلم أنّ بنفيلد قد بدأ أبحاثه بهدف إثبات العكس كغيره من العُلماء إذ سعى جاهداً إلى إثبات أنّ الدماغ يفسر العقل، لذا بدأ أبحاثه مسلحاً بجميع افتراضات النظرة المادية إلى أن حملته الأدلة إلى الإقرار بأن العقل البشري والإرادة البشرية حقيقتان غير ماديتين، وعلى هذا آمن بنفيلد بحق بوجود الروح وأن العقل والإرادة غير ماديين، وعلى ما يبدو أنه كلما تقدم العلم سيقوم بفك المزيد من خبايا الدماغ والعقل، لكن سيبقى هُنَاك حد فاصل يصعب تجاوزه، ومع كل هذه الاكتشافات والإثباتات فإن النظرة المادية للدماغ هي أحد الأمور التي تراها في علم النفس التطوري، والذي لا يزال يستخدم في القرن الحادي والعشرين في يومنا هذا معتمداً على فكرة أن العقل نظام جسمي يعمل بمثابة حاسوب من الدارات التي تطورت كي تولد السُلُوك الملائم للبيئة [150] والوعي هو جزءٌ ضئيل من محتوى العقل وعملياته!

لقد صار بالإمكان عبر عالم الحاسوب تقريب الصورة بشكلٍ أفضل، فالحاسوب يشمل مُكونين: مُكون مادي ومُكون برمجي، وإن احتوى أي عتاد مادي على نظام داخلي ليعمل، إلا أنه يبقى بحاجة ملحة إلى نظام تشغيل يتحكم في سير كل الأجزاء سوية، وفي الحقيقة ما رأيت إلا نادراً في هذا اليوم من يقول بعدم وجود شيء غير مادي يتحكم في الإنسان، سَمِّهِ الروح، سَمّهِا النظام، سَمِّهِا شيئاً غير مكتشف، لكن العلم يسلم بهذا بكل وضوح، وعليك أن تُسلِّم به عزيزي المُؤمِن المادي، ومهما كنت مريضاً فإنّ الرقم 5 سيبقى أكبر من الرقم 3 في عقلك، فالعقل قادر على السمو فوق الحدود المادية، إذ يرى ديكارت أنّ العقل لا يشيخ لأنه الروح، والعقل لا يتجزأ حينما نفقد جزءاً من جسدنا، والعقل يستطيع فهم الأرقام واللُغة والمنطق وهذا ما لا يُمكن للمادة استيعابه، كذلك يستطيع العقل أن يستدعي صوراً ولحظاتٍ من الذاكرة، وهذا في ظل وجود الإدراك الحسي الحالي، دون أن تتداخل اللحظات والصور الزمنية بين الحاضر والماضي، وقد تخوننا الذاكرة ونضغط عليها حتى نتذكر اسم شخص قد نسيناه، ويا للعجب، نتذكر اسمه بعد أن نكون قد “عصرنا عقلنا”.

اقترح أحد العُلماء في محاولة لتقريب تصور عمل العقل والدماغ تجربةً سُميت بتجربة ماري، افترض فيها أنّ ماري عالمة أعصاب في المستقبل القريب عاشت كل حياتها في حجرة ذات لونين فقط: أبيض وأسود، ولم ترَ لوناً آخر سواهما، لكنها خبيرة في منطقة دماغية مسؤولة عن رؤية الألوان، وتعرف كل شيء عن التفاعلات الكيميائية والفيزيائية في الدماغ وآلية عمل الدماغ وفهمه لمعلومات الصور وحفظها واسترجاعها، وتعرف الطريقة التي تقابل بها أسماء الألوان الأطوال الموجية في الطيف الضوئي في آلية عمل الدماغ، ولكن يبقى هُنَاك أمرٌ أساسي حول رؤية اللون تجهله ماري، كيف عساها أن تحدد لون ما كالأحمر؟ وهذا يعني أنّ هُنَاك حقائق عن الخبرة الواعية لا يمكن استنباطها من الحقائق الكيميائية والفيزيائية المتعلقة بعمل الدماغ.

حينما فتح بنفيلد جمجمة مرضاه لم يخَف من أن تطير فكرة في نقطة كيميائية وتقع خارج الدماغ، تعامل مع الدماغ كأي عضو حيوي مثل الكبد والكلى ولم يخف فقدان شيء ما، كما أنّ خلايا الإنسان وبروتيناته ليست من تقرأ الكتاب الآن، إنها مسؤولة عن نقل الإشارات فقط وهُنَاك شيء آخر يكون الصورة هذه، المادة غير قادرة على التصرف الحر أو التخطيط، إنها غير قادرة على بناء تصورات لمنازل وجبال ومغارات وأشخاص وغيرها، هذه القدرة الذهنية تَفُوق كل القدرات التي يمكن شرحها، وهي حتماً ليست من تفاعل الكربون مع الهيدروجين، وفي هذا السياق دعونا نتساءل من يتحكم بالآخر؟ العقل بالدماغ، أم الدماغ بالعقل، أو من هو الأسمى والأعلى درجة في مستوى التحكم!

صحيح أنّ معرفة المتحكم يعد أمراً صعباً؛ لأننا منذ بداية حياتنا حتى نهايتها لا نستطيع أن نفصل الاثنين عن بعضهما البعض، إلا أنّ بعض الشواهد تفيد بأن العقل هو المسيطر على الدماغ، فالبشر يصومون قاهرين أجسامهم المادية لتهذيب أخلاقهم غير المادية، ولو كان الجسد المسيطر لما استطعنا القيام بهذا الصيام القاسي، ولما استطعنا الاستيقاظ مضطرين أو الدراسة مكرهين رغبةً في تحقيق شيئاً أكبر، ولما ذهب الجندي متسلحاً بحب وطنه ليلقي بنفسه في مهاوي الردى.

إنّ من يتم بتر ساقه أو يده أو استبدال أي عضو من جسمه بعضوٍ آخر سواء عبر الاستبدال أو الزرع أو عبر الأطراف الصناعية يبقى كما هو، فلا ينقص ولا يتغير، يبقى تفكيره وذاته، أي تبقى الأنا كما هي، فلا يقول أنا نفسي ولكن أنايا دون يد، العقل كما هو سواء قبل أم بعد، أيضاً إذا قرأتُ كتاباً وانسابت فكرةٍ في عقلي قد تغيرني بالكامل وتجعلني أتخذ قرارات مصيرية لم أتخذها على جسدي سابقاً، وأنا نفسي وفكري لست كأنا كما كنت قبل ثلاث سنوات من الآن، أنا أختلف كلياً، مع بقاء جسدي كما هو، إلا أنّ الوعي مُتغير كما يرى بوذا؛ فتفكير الإنسان سلسلة متغير من الدورات النفسية التي تجعل الإنسان يتغير كل لحظة عن الأخرى.


اترك تعليقاً