يرى فيلسوف العقل والمعرفة القبلية أفلاطون في أسطورة الكهف توضيحاً لهذه الفكرة؛ فيقول أنّ الواقع يشبه مجموعة من الناس المحبوسين في كهف مظلم فيعتقدون أنّ العالم هو الكهف، لكن لو استطاع أحد منهم الهرب خارج الكهف بطريقة أو بأخرى سيرى أنّ هُنَاك عالم آخر، عالم النور والحقيقة، ويحاول أن يوضح أفلاطون فكرته عن عالم المُثل بقوله لو أنّ شخصاً ما احترف مجالاً ما، مثلاً احترف مجال الرياضيات، فسيكتشف أنّ هُنَاك عالماً مثالياً يريد الوصول إليه، هو عالم الحقيقة التي يسعى لها ويراها الصورة الكاملة الخالصة، وعلى الأغلب سيصل إلى الحقيقة الكاملة وسيعرف أخيراً الخير بذاته وسيكون من الحراس الذين سبق ذكرهم وسيكون معهم على رأس البشرية، ونرى صورة مماثلة لهذه الفكرة في فيلم The Animatrix، إذ يحاول المبدعون كسر الحدود، ويحاول النظام منعهم من ذلك، وحينما يكسرون القيود، يرون عالماً آخر غير الكهف الذي يراه بقية العالم، لذلك أحد أسباب انتهاء اللعبة اكتشاف اللاعب أسرار صناعتها، والمبتكر الذكي لن يسمح بهذا الأمر مطلقاً، ولن يستطيع اللاعب الخروج من الكهف أبداً.

وكما رأينا فإنّ ديكارت لا يؤمن بالعالم المادي الذي نعيشه لأنه قد يكون جزء من خدعة كبيرة، وهذه الفكرة شكلت انقلاباً على الفكر السائد منذ مقولة أفلاطون الشهيرة “العالم المرئي هو انعكاس تقريبي للواقع” في كتابه تأملات في الفلسفة الأولى، فقد قسم الواقع إلى واقع تقليدي وهو ما ندركه من حولنا، وواقع تمثيلي والذي يعني استخلاص بعض السمات من الواقع التقليدي، وما دام الوجود يدرك بالحس، والإله ليس موضوعاً حسياً، فنكون أمام حقيقة دامغة هي أنّ الله لا يمكن إدراكه بالحس، إنه بحاجة إلى الإيمان فقط.

وكان ديكارت قد قسم مستويات الحقيقة إلى عدة مستويات، الصفة الأدنى هي المادة المحدودة، والصفة العليا هي غير المحدودة وهي الإله العظيم الذي خلق الكون، فالمادة غير المحدودة تستطيع أن تُوجد المادة المحدودة ولكن العكس غير صحيح، ويضيف ديكارت أنّ فكرته عن الله كامل الصفات جاءت من الله مباشرة، زرعها الله في عقله لأنه لا يمكن كمادة محدودة أن يدرك اللامحدود، وكان ديكارت يرى أنّ الشك في العقل مرفوض إذ أنّ الكمال فكرة عظيمة ووجودها في عقل بسيط دليل على وجود خالق عظيم كامل منزه عن كل عيب، خلق هذا العقل كما ناقشنا هذا من قبل في حُريّة الإرادة، وادعى أيضاً أنّ الكمال لا يمكن أن يكون فيه شر أو نقص، لذا لا يوجد شيطان وهو بذلك وضع العقل في الركيزة الأولى لأي معرفة، وتساءل ديكارت هل الرياضيات حسية، أي أننا عرفنا أنّ تفاحتين + تفاحتين = 4 تفاحات حينما رأيناها بأعيننا، أم هي قبلية سابقة للتجربة وهي راسخة في الكون دون إحساسنا؟ ورأى كانط أنّ الرياضيات هي أُم القضايا القبلية التركيبية لأنها تعطينا دائماً نتيجة دقيقة حول عمل الكون وهذا لأنها رُكّبت في عقولنا هكذا، وهذا السؤال دائماً ما نراه يُطرح هل الرياضيات اختراع أم اكتشاف؟ هل هي موجودة مسبقاً في الكون؟ أم أنّ الإنسان ابتدعها كأي شيء آخر ابتدعه في هذا الكون.

وحول الحواس يرى ديكارت أنه من الممكن أن نكون واثقين من حجم ووزن البرتقالة، لكن مذاقها ولونها ورائحتها أمر نسبي يختلف من إنسان لآخر، بينما يرى هيوم أنّ الرؤية ليست البرهان، فنحن متأثرون بظروف ثقافتنا السابقة التي تجعل الهروب من الأحكام المسبقة عن العالم أمراً مُستحيلاً، ولا يوجد موضوعية في أحكامنا، فمن قال لك أنّ الكرسي هذا هو كرسي؟ أنت حكمت عليه بناءً على تجاربك السابقة، ولكنه للأسف ليس كرسياً، بل هُنَاك شيء متعارف عليه أكثر في العالم اسمه كرسي، ولعلنا نستذكر نظرية المُثُل لأفلاطون.

وبالمناسبة في ذكر الحواس، نحن كائنات تمتلك خمس حواس (قد تصل إلى 20 حسب دراسات مُختلفة)، وهُنَاك كائنات أبسط منا لديها أربع حواس وهُنَاك من يمتلك ثلاث حواس، ولكن ما الذي يمنع وجود كائنات لديها سبع حواس بدلاً من خمسة، بالإضافة إلى نظرية الأبعاد المُختلفة التي تقول أنه بالنسبة لحبل يسير عليه بهلوان، فهو يسير عليه ذهاباً وإياباً في بعد واحد وهو الطول، أما بالنسبة للنملة فيمكنها أن تسير على الحبل ذهاباً وإياباً بالطول وكذلك بالعرض، فنفس الفضاء الأحادي لنا كان ثنائياً بالنسبة لحجم النملة، وبالنسبة للبكتيريا فالحبل فضاء ثلاثي الأبعاد تذهب فيه في كل الاتجاهات، وما الذي يمنع وجود كائنات لدينا تسير في أربعة أبعاد أو خمسة، فالنظريات الفيزيائية تزيد فيها الأبعاد عن ثلاثة أبعاد، وقد تصل إلى 13 بعد كما في نظرية أم M، هذه الكائنات تعيش بيننا ولكننا لا نراها بسبب قدرتنا على رؤية ثلاثة أبعاد فقط، وكما يمكننا أن نرى عالماً أقل منا مكوناً من بُعدين كما في مربع مرسوم على ورقة، أو عالم مكون من بُعد واحد كما في خط مستقيم مرسوم على ورقة، أو مكعب من ثلاثة أبعاد مرسوم على ورقة، فيمكن لكائنات من خمسة أبعاد أن ترى كائنات من ثلاثة أبعاد، أما نحن فنراهم بطريقة عجيبة أمامنا ولا نفهمها، لا يمكن الجزم بأنه قد يكون كائنات ذات أبعاد أكثر وذات حواس أكثر لأنه أمامنا كائنات ذات حواس أقل، وإن كان هُنَاك الناقص فهُنَاك الزائد أيضاً، وما دام هُنَاك الشخص المريض، فحتماً هُنَاك الشخص الخارق، وهذا مبدأ ثلاثية أفلام unbreakable.

وقد اصطدم مفهوم العقل الذي صاغته الفلسفة التجريبية بالكثير من العقبات وحسب ما يرى سبينوزا أنه لا يمكن للبشر أن يفكروا باستقلال أبداً، لأن العالم الخارجي ينعكس على الجسد أولاً قبل أن يصل للعقل، فما نراه هو ما قبلت أجسامنا أن نراه منه، لا كما هو في الحقيقة، مثال ذلك أننا نرى الشمس تشرق من المشرق، وليس هذا هو الواقع لأنه رؤية حواسنا [147]، ومن ثم كل الأفكار عن العالم ليست مستقلة، لأن العالم لم يكن هو ما قال لنا ما نراه فيه، بل أجسامنا هي ما قالت لنا عن العالم إنه كذا، لذا حقيقة العالم من حواسنا هي وهم وكذبة كبيرة لا يمكن الاعتماد عليها.

إذا كان عقل الإنسان صفحة بيضاء وما فيه من معرفة هو حصيلة تكوين بفعل التربية والتفاعل مع الواقع الطبيعي والثقافي والاجتماعي، فكيف يمكن تفسير اتفاق العقول وتطابقها في كثير من مبادئ التفكير على الرغم من اختلاف العقول والأفهام؟ وإذا كانت الحواس هي من تصوغ العقل فكيف يمكن لهذا العقل الذي دوره سلبي في عملية المعرفة أن يخطّئ الحواس ويصحّح معطياتها لاحقاً؟ وفي حالات كثيرة يتصور العقل الأشياء دون أن يحسها.


اترك تعليقاً