الخلية

مقدمة

حينما أطلق تشارلز داروين نظرية التطور في القرن التاسع عشر، كان العُلماء لا يزالون يؤمنون بالتوالد التلقائي، وكانوا بعيدين 5 سنوات عن تجربة لويس باستور، وكان كل تصور العُلماء في ذلك الوقت عن الخلية أنها جسم هلامي دائري مثل الفقاعة يُؤَدِي وظيفة بسيطة، مكونات الخلية وآلية عملها أمرٌ لم يكونوا يعرفونه كما يعرفه أقل طالب في الابتدائية في أيامنا هذه، أما علوم مندل الخاصة بالوراثة فقد تم البدء بدراستها في بداية القرن العشرين، أي بعد داروين بـ50 عام بالمتوسط، لذلك كان يمكن في تلك الحقبة بناء آليات وسيناريوهات عظيمة بكل سهولة، وبعد أن نخرج سوياً في جولة بسيطة مختصرة في ملاهي الخلية، سترى كم هي الخلية أعقد من أعقد مدينة في العالم، جسور وممرات وبنايات ومؤسسات ومهام متنوعة وشرطة ومهندسون وبناؤون ومنظمون وحانوتية ومقابر وبوابات وحراس، وكل ما تتطلبه مدينة كاملة؛ لكي تستمر في العمل، وهذا كله في خلية واحدة ذات دور واحد في جسم يتكون من آلاف الخلايا المُختلفة والتي يزيد عددها عن المليارات، ولعلك يجب أن تراجع الحديث عن الرقم مليار كما أشرنا الحديث عنه.

بعيداً عن الفايروسات، تُعتبَر الخلية أصغر شيء حي نعرفه، وهي أصغر مكون في الحياة، فالحياة عبارة عن خلايا مترابطة ومتشابكة، على الأقل هذا ما يقوله العُلماء إلى هذه اللحظة، تختلف الخلايا في الشكل والحجم حسب نوعها ووظيفتها، لتناسب الشكل الذي صُنعت له، مثلاً كريات الدم الحمراء لها شكل معين ودرجة عالية من المرونة تناسب انسيابها ومرورها من الأماكن الضيقة في الأنسجة، كذلك الكائنات الحية الصغيرة وحيدة الخلية مثل البراميسيوم والتي هي كان حي متكامل مكون من خلية واحدة، لديها مواصفات خاصة بها تسمح لها مثلاً بالحركة عبر الأهداب، وتكاثرها بما يلائم حالتها الحية، ولو تطرقنا إلى شكل كل خلية في جسم الإنسان وملاءمة هذا الشكل مع وظيفتها لاحتجنا إلى نقاط حبر كثيرة، وبشكل عام فإن الخلايا الحيوانية أكبر من الخلايا البكتيرية، وبشكل عام خلايا الإنسان أكبر من خلايا الكائنات الأخرى في الحجم، مثلاً الخلايا العصبية في الإنسان أكبر من الخلايا العصبية في الفئران، لكن في بعض الأجزاء من الكبد والكلى نرى نفس حجم الخلايا في الكائنات أجمع، المُختلف هو عدد الخلايا لتكون عضواً أكبر.

الخلية هي مصنع متكامل، كائن حي وحده، يتكون هذا الكائن الحي من عناصر الأرض الأساسية الستة للحياة وهي: الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين والفسفور والكبريت، ويشكل الماء الذي هو هيدروجين وأكسجين 79% من الخلية الحية، والماء مرتبط بإتمام عمليات الخلية وليس مُجرَّد وسط عادي، كما عرضنا في الفصل السابق، وكما سنعرض في هذا الفصل.

صورة 2 الخلية من الداخل باستخدام مجموعة تقنيات تصوير مُختلفة، المصدر www.digizyme.com

يتكون الجسم البشري من مئتي نوعٍ مُختلف من الخلايا، تشكل تقريباً 37 تريليون خلية في جسمه وبعض المصادر ترجعها إلى 100 تريليون خلية [10]، وارجع مرة رابعة إلى فصل المليار لتفهم معنى العدد المذكور والتريليون هو ألف مليار أو مليون مليون، ويُسعدني أن أخبرك أنّ مقابل كل خلية في جسم الإنسان، تعيش 10 خلايا بكتيرية، أي أنّ جسم الإنسان يحتوي على 370 تريليون خلية بكتيرية على أقل تقدير، تعيش بطرق شتى ولها دور أساسي في حياته.

لو أردنا عد هذه الخلايا كلها بفرضية أنّ كل رقم يحتاج إلى ثانية في عده، فإن تريليون ثانية ستساوي 31 ألف عام، أي أنّ 37 تريليون خلية هي 31000 * 37 عام، أي 1.15 مليون عام، وأنا أعلم أنك عزيزي القارئ ستمر على هذا الرقم مرور الكرام ولن تقول واو، أو تقف للحظات لتر كم هو الإنسان كائنٌ بسيط، لأنه سيصدق لاحقاً رجل بنظارات سميكة يلبس معطفاً أبيضاً حينما يخبره أنّ هذه الأرقام مُجرَّد عشوائية مع القليل من الصدفة يمكن أن تتحقق في الواقع! ولعمري ما سلّمت بكلام عالِم مباشرة، سواء كان عالم علم أن عالم دين، وفي كل موقف أعملت عقلي قدر المستطاع لأميز بين هالة العالِم أو الشيخ وقلب المنطق، فقد يكون ما عرضه العالم أو الشيخ من تجربة صحيح، لكن استنتاجه خاطئ، والعقول تتفاوت في تفسير الحدث، ومن حقي أن أفسر بما أملك من منطق.

ويرى العُلماء أنّ أي جسم تتوافر فيه على الأقل المتطلبات الثلاثة التالية نستطيع أن نعتبره خليةٌ حية [10]: أن يكون كياناً منفصلاً يحاط بغشاء سطحي، ثم أن يتفاعل مع البيئة المحيطة ليستخلص طاقة تكفيه للبقاء والنمو، وأن يتكاثر هذا الجسم. لهذا لا يتم اعتبار الفايروسات أحياناً ككائنات حية، لأن كل الفايروسات تنقصها جزء أو أكثر من هذه الصفات المهمة [11].

قد تكون الخلية كائناً كاملاً كالكائنات أحادية الخلية، وقد تكون جزءاً من كلٍ تمارس عملية مُحددة في آلة أضخم هي النسيج، والنسيج مجموعة من الخلايا المتناسقة المشابهة تقوم بعمليات مُحددة، ومجموعة الأنسجة تكون عضو في جسم الكائن الحي، ومجموعة الأعضاء تكون أجهزة، ومجموعة الأجهزة تكون كائن حي كامل، وتتكاثر الكائنات البسيطة عبر انقسام الخلايا، ويمكن أن تنقسم بعض أنواع البكتيريا كل 20 دقيقة، أي أنها بعد 11 ساعة ستكون قد أنتجت ما يصل إلى 8 مليار عملية نسخ كاملة.


اترك تعليقاً