الخلود

وعودة إلى الموت للمرة الثانية، لعل الموت أحد أكبر المزايا التي نتمتع بها ولا نشعر بفضلها، ولعل في صراع الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية كما في بروميثيوس وزيوس خير دليل على سعي الإنسان الدائم للحصول على المزايا الثلاث للآلهة عند البشر وهي عمارة السماء والخلود واكتمال المعرفة، ومع تقدم العلم بدأ البشر بالوصول إلى السماء، بل واستعمارها، وبالتقدم التكنولوجي تمكن البشر بالعقل الجمعي من ردم هوة التفكير الأحادي بين الأفراد حول العالم، وظل لهم حل لغز الخلود ليمسوا بشراً غير فانين، وتتحقق أحلام البشرية منذ الأزل بالتأله التام، لقد قطع العُلماء شوطاً لا بأس به بمضاعفة أعمار البشر، ولا يزال عملهم قائماً على قدم وساق لمضاعفة هذه الأرقام، ولنستعرض بعض من الحالات التي يجب نقاشها في الموت والخلود، مثل افتراض وجود إنسان لا يشيخ ولا يكبر يعيش أبد الدهر، فيكون السؤال ما هي المتع التي سيشعر بها بعد أن ينهي كل متع الحياة؟ بعد أن يجرب كل شيء، الحب والزواج والمال والأبناء والتربية والصداقة والحرب والسلم ويكررها عشرات المرات، ماذا بعد؟ نحن في كل فترة في حياتنا نبحث عن تحدٍ جديد، حتى في أوج لحظات السعادة نبحث عن المزيد من المتع، ولو تكررت المتع لمللنا منها وبحثنا عن الجديد، ولكن ماذا بعد تجربة كل المتع؟ قرأت ذات مرة أنّ جزء ممن يتجه لتجربة الشُذُوذ هو ملله من الجنس التقليدي، فقد جربه في كل حالاته، مع حبيبته ومع زوجته وخان زوجته مراراً وجربه في البيت وعلى السطح وفي الغابة وفي منزل صديقه وغيرها من الصور حتى استنفد كل الخيارات، فبحث عن متعة جديدة قائلاً: ماذا بعد؟

والمخرج حينما يتكرر إنتاجه سلسلة أفلام ويجعل البطل يمر بكل المراحل، مرحلة الضعف ثم القوة ثم الفداء ثم الشر ثم العودة لرشده والحب والسلام والحرب والإنجاب، يقرر في الجزء الأخير أن يميته ويتخلص منه بأي وسيلة، فالجمهور يبحث عن حالات جديدة للشخصية لم تُستنفَد سابقاً، ماذا بعد استنفاد جميع الخيارات والحالات!

دعونا نرى حالة أخرى، إنسان يشيخ ويكبر لكنه لا يموت موتاً حيوياً، يموت فقط في حالة موت فيزيائي كحادث أو حريق أو غيره، ولكن ما هو طعم الحياة بالنسبة لشخص بلغ التسعين وفي حياته التالي:

  1. مات كل أو أغلب أصدقاؤه الذين يعرفهم ومعارفه ومن شكّل معهم علاقات موتاً فيزيائياً، ويجلس الآن وحيداً يبحث عن علاقات جديدة، وحتى لو بقيت العلاقات القديمة بدرجة كبيرة، فقد استُنفدت بالكامل واستهلك الحديث فيها.
  2. يعيش في زمن غير زمانه فلا طاقة لديه للتعلم أو البحث، لا يعرف ما هي الشبكات الاجتماعية، ولا يعرف أبسط الأمور التي يعلمها الأطفال في هذا الزمان، كان سبق وأن اضطر لتعلم استخدام أدوات الكهرباء، وقبلها اضطر لتعلم استخدام البيوت الحديثة بدلاً من القشية الطينية وقد ترك مهنته القديمة واضطر ليتعلم مهنة جديدة لكي يعيش … إلخ، وغيرها من التبعات لتغير الزمان والحضارة.
  3. انتهت كل طموحاته ولم يعد هُنَاك المزيد، فقد جرب كل شيء، وبنى كل شيء، ولم يتبق لديه طموح لأي شيء إضافي!

هل سيكون هُنَاك معنى إضافي في حياة هذا الإنسان، في شخص يشيخ ولا يموت، وغزت جسده الأمراض والآلام، سيكون حينها الخلود سرطاناً يمنعه من الموت ويبقيه حياً.

وماذا عن صيرورة الحياة، ماذا لو أتى شخصاً يعيش إلى الأبد ولا يشيخ ولا يكبر، ولا يهتم بالإنجازات، جرب كل شيء ولم يمل، يخاف من الموت فتشبث بالحياة للأبد، ماذا لو كان هذا الشخص حاكماً ظالماً أهلك الحرث والنسل، كرهه العالم وتمنى كل يوم خلاصه؟ ماذا لو كان هذا الشخص هو أب بخيل جداً وقاسٍ؟ ينتظر أبناؤه موته ليعيشوا الحياة، ماذا لو كان مدير شركة ملك العالم؟ أو أنّ الأغنياء بشكل عام عاشوا للأبد كما في مسلسل Altered Carbon وملكوا العالم، فبعد مئات السنين من سيستطيع ألا يكون عبداً لهؤلاء الأغنياء، كيف سيحدث تسليم الحياة وتتابعها من جيل إلى جيل إذا كان الجيل الكبير مُسيطراً لا يموت؟ ماذا لو كان هذا الشخص الأفضل في العالم، امتلك الحكمة والموعظة الحسنة، وعاش أبد الدهر، حينها سيُقدسه العالم باعتباره إله كما في فيلم The Man from Earth.

دعونا لا نفكر في احتمالات بعيدة، ماذا لو عاش أحدنا اليوم مئتي عام؟ لا أستطيع أن أتخيل كيف سينتظر الموت كل دقيقة، ماذا بعد أن تخوض كل التجارب ولا تعرف ماذا ستخوض غيرها، بمعنى أنك ختمت الحياة، فبعد أن يدرس الإنسان ويتزوج وينجب ويعمل ويسافر ويبني ويشتري ويصادق وينجح ويخسر ويبحث وغيرها، ماذا سيفعل؟ سيعزف الموسيقى؟ ثم ماذا؟ ما الخطوة التالية، خدمة الناس؟ لمئة عام؟ سيبحث عن حب من جديد، سينجب من جديد! ولا أعلم هل لأنّ عقلي قاصراً لا أستطيع تخيل هذا الأمر أم أنه فعلاً كما ذكرته للتو.

كُتب لكثير من الكائنات الخلود البيولوجي، كالبكتيريا، فهي تنقسم بلا نهاية وقنديل البحر الخالد Turritopsis nutricula الذي حين يصل إلى مرحلة النضوج الجنسي يقوم بإعادة جسده إلى مرحلة سابقة في السن من جديد ويكرر العملية إلى الأبد، ويستطيع تجديد خلاياه وأجزاء جسمه دائماً، أو كالسلمندر أو كنجمة البحر وغيرها من الكائنات، أما الإنسان فلم يُكتب له الخلود، إنّ حياته مصممة من قبل مصمم مبدع، صممها بطريقته الخاصة، فالإنسان يجب أن يفنى ويموت، ولكي يموت عليه أن يكبر، ولكي يكبر يجب أن تتساقط ملذات الحياة الواحدة تلو الأخرى، ولربما كان مصاباً بالأمراض، فيبدأ في انتظار الموت، حتى لو كانت الحياة خالدة لتمنى الإنسان الموت، لأنه بعد سن معين كما رأينا تصبح الحياة بلا معنى، ويمسي الرحيل هو القطار الذي ينتظر الإنسان استقلاله، يرتاح حينها الإنسان إذ يعرف الحقيقة متأخراً، وأي تأخير! فالحقيقة المتأخرة جحيم، كما يرى سيوران.


اترك تعليقاً