مما لا شك فيه أننا نرتبط بهذا العالم عبر حواسنا الخمس، فالإنسان يرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويتذوق بلسانه، ويلمس بجلده، ويستنشق الروائح بأنفه، ولا نستطيع التواصل مع العالم المحيط بنا دون استخدام هذه الحواس، ونرى أنّ شخصاً فقد حاسة البصر لا يعرف ما هي الشمس وما هو الضوء، ونرى أنه يقوم بالتمييز بين تفاحة وخوخة عن طريق حاسة اللمس أو التذوق أو الشم، ولا يستطيع أن يميّز بسهولة بين التفاح الأخضر والأحمر إلا عبر حاستي التذوق والشم، ولا مجال للإنسان لأن يميّز شيء في هذا الوجود دون هذه الحواس الخمس، يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أنّ حواسنا هي نافذتنا، وعلاقتنا مع هذا العالم تتم عبر انطباعات بسيطة ومتتالية، فعلى سبيل المثال حينما تأكل عنقوداً من العنب فأنت لا تستقبل العنقود ككل، بل تمر بسلسلة من الأحاسيس المتتالية والمُتداخلة من حاسة النظر والذوق والشم والملمس والسمع، أنت تلمس الحبات وتسمع صوت فكاكها من العنقود ثم صوت قرشها، وتشم رائحتها وتتذوق حلاوتها وحموضتها في سلسلة من الأحاسيس التي ترسخ في بالك من التكرار، فيحدث لنا رؤية تركيبية من تناول العنب.
ويكون هنا السؤال إلى الفلاسفة، هل عنقود العنب هو في الحقيقة كما رأيناه وتذوقناه، هل العالم هو فعلاً ما نراه ونعرفه؟ ماذا لو كانت أحاسيسي زائدة أو بها مُشكِلة؟ مثلاً حاسة الشم لدي قوية أو منعدمة، ماذا لو كانت حاسة البصر لدي بها مُشكِلة مثل عمى الألوان، أو أني أرى العالم بطبقة لونية واحدة، أو أنّ قدرتي على رؤية الألوان مُختلفة عن غيري، ماذا لو أنني أرى العالم دون اللون الأخضر، ولا سيما أن العالم والزمن خارج جسم الإنسان، فستختلف تأثيرات اختلاف حواسنا من إنسان لإنسان، فلو كنت لا أرى اللون الأخضر على سبيل المثال هل سيكون لحكمة ثلاثة تسر العين: الماء والخضرة والوجه الحسن أي معنى! وفي الحقيقة إنّ العالم هو ما نراه ونشعر به في حواسنا، العالم هو ما يعتقده عقلنا، ولو اعتقد عقل مريض أنّ العالم يسير بنمط ما، فالعالم حقيقةً هو ما يراه، هو يعيش ما يؤمن به عقله، ولو حصل أن فقد شخصٌ ما ذاكرته فجأة، فإنه سيفقد العالم الذي يعرفه.
يرى ديفيد هيوم أنّ أفكار الإنسان تتكون بعد الإحساس، فلو لمست كوباً من الشاي الحار فسيتكون الإحساس أولاً ثم ستفكر فيه ثانياً، وسيكون انطباع الإحساس أقوى من ذكرى الفكرة نفسها، وسار على خطاه فلاسفة المدرسة الحسية، إذ يؤمنون أنّ الإنسان يولد صفحة بيضاء دون أي معرفة قبلية، وكل معرفتنا وإدراكنا ومكوناتنا تنتج بعد تجربتنا في هذا العالم.
وبهذا المثال يتساءل الحسيّون، ماذا لو كنا في غرفة فيها شخص بالغ وقط وطفل، وفجأة تدحرجت كرة فيها، ماذا سيكون رد فعل كل من فيها؟ سنرى القط يجري وراء الكرة ويلعب فيها، أما البالغ بعد أن ينظر إلى الكرة سيفكر من أين أتت! وستحاول السببية ولربما الغائية إيجاد طريقها، وهذا لأننا مُختلفون عن القطة سنبحث عن فهم الحالة والسبب، ولكن، هل اختلافنا هذا نابع فينا أم من تجارب الدنيا؟ وفي تجربة الكرة الأمر أقرب لتجارب الدنيا، لأن الطفل لن يفكر في السبب، بل حينما يكبر سيبدأ بالتفكير في السبب، بسبب خبرته اللاحقة وتجربته في الحياة، ويرى كانط أنّ العقل يعمل بهذا الشكل لأنه مخلوق هكذا.
يعود جون لوك ويناقش فكرة أنه لا يوجد شيئاً في الوعي قبل أن تتعرف عليه الحواس، فيقول: هل نحن نعرف نوع العالم الذي نولد فيه؟ لربما ولدنا في المريخ أو في نظام آخر وبقوانين أخرى، وأي فكرة لدينا عن العالم قبل أن نراه لهي فكرة خاطئة، هذه هي النظرة الحسية للعالم، مرة أخرى نذكر أنّ الفلاسفة منقسمون حول أساس معرفة الإنسان، فهل هي التجربة وحدها، أم هو العقل، أم كليهما، ومن أسبق وغيرها من الأسئلة، ناقشنا فكرة العقل في الفصل السابق، والآن نناقش فكرة الحواس، لنبدأ! كيف تعمل الحواس؟
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.