في مشهد تمثيلي وجَّه الرجل الشرير لشاب مجتهد عبارة: “ستبقى ابن خياط” وذلك رغبةً في استحقاره، فشعر الشاب بالضيق والحرج ولم تُسعفه الكلمات لأنه تذكر أصله في هذا العالم المادي، وهنا نطرق التفكير حين يكون المقياس المادي في العالم حيث المال هو القيمة العليا، فقيمة فقير حصل على القليل من المال لا تعني شيئاً فيه، وسيسعى الفقير كل السعي ليمسي غنياً، ولنتفكر بفائدة الدين هنا كمثال، فلو كان الشاب من أتباع الدين لرد على الرجل الشرير علناً أو سراً بأن الأصل ليس كل شيء، فكم من أصلٍ بسيطٍ أنتج أفضل الناس، وكم من نسلٍ نبيلٍ كما يدّعون أنتج طغاة أو منحطين أخلاقياً بلا قيم، لا تهمني مهنة أبي ما دام كان شريفاً عفيفاً، وإن كان والدي أبسط أهل الأرض، ولأردف الشاب قائلاً إنّ المهم هو العمل والأخلاق، أو لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكم من صورة في التاريخ لرسولٍ أو ملكٍ كان والده أو ابنه أو زوجه أو أقرباؤه من السيئين ولم يغير لديه شيء، وساعدته الكثير من عبارات وحكم الدين التي تُعرف الآن بـ]التنمية البشرية[.

ولكن دون الدين ماذا سيقول هذا الشاب؟ هل سيقول المهم أموالي اليوم! أم المهم الأخلاق! في عالم مادي لا قيمة للأخلاق مقارنة بما تملك من مادة!، هذه صورة بسيطة صغيرة، وهي نموذج لما يمكن تطبيقه على كل حدث أو فكرة في هذا العالم الفسيح.

وقد بدأت تنتشر مقولة فحواها أنّ الإنسان في هذا العصر لم يعُد بحاجة إلى اتباع أي دين مهما كان، وذلك لأن الديانات قد انتهى وقتها أو شارف على الانتهاء، وما هي إلا لحظات ويفيق العالم على خبر موتها، ولقد كان الناس بحاجة إلى التعاليم الدينية في أزمان سابقة حينما كانت عقولهم لم تنضج بعد ولم تبلغ سن الرشد، في تلك الأزمان كانوا بحاجة إلى من يقول لهم أنّ الصدق صفة جميلة والبِر مُفيد والإحسان مطلوب والعدل واجب وغيرها، كانوا بحاجة إلى من يعلمهم كيف يتعاملون وكيف يأكلون وكيف يتحدثون وكيف يتزوجون وكيف يدخلون المرحاض … إلخ.

لكن ذلك الاعتقاد حول أنّ الإنسان قد وصل بواسطة عقله إلى ما لم يصله أحد من العصور السابقة خطأ كبير، فدائماً كانت البشرية تعتقد أنها وصلت إلى ما لم تصل إليه الأمم التي قبلها، وهذا كان رأي هيغل إن كنتم تذكرون، فلكل زمن أفكاره المناسبة، صحيح أنّ البشرية ستتقدم بعدها، لكن أي تقدم في هذا الزمان عن الأزمان السابقة! ففي الزمن الذي نعتقد أننا وصلنا فيه إلى قمة التحضر، ما زالت اليوجينيا (تحسين النسل) قائمة ولم يمضِ عليها نصف قرن من الزمان، والتفريق بين البيض والسود لم يمضِ عليه نصف قرن في أعظم الحضارات التي نتغنى بها، ويدعم العالم الاحتلال الصهيوني ويقوم بالتغطية عليه والميل للأقوى وتزوير الحقائق والانحياز عن المبادئ وغيرها من قائمة الشرور اليومية التي تُذاع على مسمع من الجميع، ولو استمرينا بجمع نقاط مشابهة في العصر الحديث فلن ننتهي، فأين هي تلك الصورة الجميلة الكاملة حول الأفكار البشرية الناضجة!

لقد كان العالم يوافق على اليوجينيا والعقل الناضج يشجعها، وما يزال العالم مليئاً بالعبودية بل ويشجعها، وما يزال الكثير من الرجال الذين يعاملون زوجاتهم بدونية، وما زالت نساء تمارس البغاء وتفخر به، وغيرها من الصور التي تؤكد أنّ العالم بعقله الجمعي قابل للضلال وسهل الانسياق، فإذا كره الأغلبية السود في أمريكا، فكل الناس ستكرههم في أمريكا، أخبرني كيف نضج العقل واستغنى عن الأخلاق العليا، وهل كان القانون وحده كافياً! فالقانون مسيّر وفق رأي الأغلبية، ورأي الأغلبية يرى أنّ السود أقل درجاتٍ من البيض، ويرى أنّ العرق الآري يجب أن يسود فكان ما كان وتم القانون، وقد استعرضنا هذه الأفكار بشكل موسع في الباب السابق.

وهل لنا تخيل بشرية قويمة تُدخن التبغ منذ قرون، التبغ الذي يضُر ولا ينفع! ماذا لو جاء إنسان منذ ألف عام ورأى البشر اليوم عبيداً لهذه العادة الغريبة! بشر يعبدون النيكوتين! لا يستطيعون الابتعاد عنها رغم معرفتهم المسبقة بأضرارها الصحية والاجتماعية والنفسية، هل تستحق هذه البشرية أن يقال عنها بين الأكوان أنها رائدة الأخلاق والفكر السليم وأنها تقدمت إلى أعلى درجات الرُّقي الفكري!

وقد نسمع عبارات مفادها أننا لسنا بحاجة إلى من يخبرنا أنّ الصدق فضيلة، وهنا نتوقف ونسأل: ما هو الصدق؟ نرى في عصرنا هذا أنه ما دام القانون يضمن لك أن تكذب وتربح المال فيمكنك أن تكذب بسهولة وستعيّن محامياً للدفاع عنك لو تطلب الأمر، سينجح المحامي بتبرئتك بالتأكيد لأن القانون يسمح بهذا، ولو سمح لك القانون بانتهاك حقوق الأفارقة لتسرق خيراتهم وتستخرجها مقابل كسرات تعطيها لهم فأنت بطلٌ قومي وكل التقدير لك، والأمثلة كثيرة ولا تنتهي، بعكس الدين الذي يحثك على الصدق مهما كانت الظروف ولو كذب الناس كلهم، وفي الدين إذا أخبرك القانون بأن الكذب ممكناً، وقلبك أخبرك أنه أمر غير جيد، فيجب عليك ألا تكذب.

حينما يخبرك الدين أنّ الجميع سواسية وليس هُنَاك فروقات بين الناس، ثم تأتي اليوجينيا وتخبرنا أنّ هُنَاك أجناس أدنى من أخرى، ويجب أن نخصيهم حتى لا يتكاثروا، فأين في القانون مبدأ المساواة والعدل والإنسانية وغيرها، كل المبادئ على مر السنين متغيرة ولكنها في الدين ثابتة، فالكذب في الدين يبقى كذباً مهما حدث، كما أنّ غرس المفاهيم الأخلاقية في العقل عبر الدين أعمق بكثير من فصول القانون، فمثلاً أستطيع بيع معدات في السوق بسعر معين وأربح، ومن الممكن أن أتمكن من بيع المنتج نفسه بعشرين ضعفاً ولن يمنعني أحد وسيقوم الناس بشرائها مني، هذا في حال انعدام وجود الأخلاق التابعة للدين فالأمر عادي، لكن في ظل وجود الأخلاق التابعة للدين فإنني سأشعر بأن هُنَاك خلل ما، فليس من الصواب فعل هذا، هذا التكسب ليس صحيحاً، إنه ليس ربا وليس غشاً، وليس استغلالاً أيضاً، إنه أمرٌ ما بينهم لا أستطيع تحديده، الدين هو من يكمل هذا البناء لي.

وهُنَاك الكثير من المفاهيم التي يصعب أن يهتم بها القانون والمجتمع في هذا الزمان المادي كاهتمام الدين بها، فالغيبة والنميمة والحسد آفات خطيرة في المجتمع وتُسبب أضراراً كثيرة يجب مواجهتها وتحذير الناس منها وتذكيرهم دائماً بالابتعاد عنها، ولا أجد سلاحاً صلداً غير الدين لمواجهتها والحد منها، كيف سيتم تذكير الناس بين الفينة والأخرى بضرورة الابتعاد عن الغيبة والنميمة والحسد، وهي غيض من فيض من الآفات التي يحذر الدين منها، لديك كل جمعة خطبة، دروس دعوية من فترة لأخرى، تذكير حين الصلاة، تذكير حين تلاوة القرآن، تذكير من الأصدقاء في الدين، تجد دائماً محاربة لها والتذكير بها، ولا أعلم كيف لشخص غير ديني أن يتم تذكيره دائماً بآفات الأخلاق! أين سيتم ذلك، مرة في المدرسة؟ ورشة عمل يحضرها ليرتقي في وظيفته؟ هل هذا شيء يذكر أصلاً، لا معنى في الحياة المادية لهذه المفاهيم كثيراً، فضلاً عن الجانب الروحي الذي لا مجال لفصله عن الإنسان.

وقد مَنحت مئات المفاهيم والأساليب الدينية الحياة معانٍ رائعة ذات بهجة، انظر إلى الحركة التقليلية MINIMALISM، وهي حركة حديثة تدعو إلى الزهد في الأشياء، والتقليل من استخدام المواد والملحقات غير اللازمة، وتدعو إلى الحياة البسيطة والهادئة بعيداً عن المادية المفرطة الجشعة، وذلك عبر التحلي بالمزيد من القناعة والاكتفاء الذاتي والرضا بالقليل، وهي بمثابة صرعة في العالم المادي ونمط جديد يحاول الجميع اللحاق به والاستمتاع به، محاولة بذلك الابتعاد عن الحضارة الاستهلاكية التي تزرع فيك الملل واللهث خلف كل جديد تُنتجه، لكن هذه المفاهيم قديمة على المتدينين، مفاهيم الزهد قديمة قدم الدين، وتَفُوق في روعتها كل المفاهيم الحديثة للحركة التقليلية، ولا نجد أجمل مما قاله عمرو بن العاص: “لا أَمَلُّ ثوبي ما وسعني، ولا أمل زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أمل دابتي ما حملتني؛ إنّ المَلال من سيئ الأخلاق”، الدين هو من وضع هذه الفكرة الجميلة وغيرها من الأفكار الرائعة التي نعيبها على الدين في لحظات الغرور البشري، الدين هو من يصنع هذه المفاهيم ويقدمها لأتباعه، في محاولة للاستمتاع المناسب في هذا العالم.

وكما رأينا فإنّ الميل إلى التحلي بالأخلاق أمرٌ متجذرٌ في النفس البشرية، على الأقل كما اعتقد الكثير من الفلاسفة، على رأسهم كانط وسبينوزا، لكن هذا لا يعني أنّ الإنسان سيكوّن الصورة المثلى للأخلاق دائماً، فالشخص القابع في فرنسا يرى في الأخلاق التي يُولد بها في مجتمعه هي الفطرة، وكذلك الشخص الصيني والأمريكي والعربي والأيسلندي وغيرهم، جميعهم يعتقدون أنّ ما هم عليه هو الفطرة، فنحن نتأثر بالمحيط والثقافة والمجتمع والعائلة والقانون والجيران والطفولة، فتتكون قناعتنا وشخصياتنا نتيجة لذلك كله، ثم نعتقد أنها الفطرة، فالنظر إلى أسود البشرة على أنه أقل من الأبيض هي فطرة سادت في أمريكا، وكان يعتقد الجميع أنها الصواب وأنّ ذلك هو الفطرة الربانية الطبيعية.

 

متى يمكننا القول أنّ هذه الأخلاق أو الصفات نتاج الفطرة وأنه ليس للدين علاقة بها أو تأثيراً عليها، حينما نأخذ مثلاً 100 طفل رضيع ونضعهم في جزيرة نائية لا يختلط ساكنيها بالعالم، ونوفر لهم الطعام والشراب ولا نعلّمهم أي شيء، ونقول لهم انطلقوا ونراقبهم، هل سيحبون بعضهم البعض، هل سيقتلون بعض، هل سيحكم قويّهم ضعيفهم، هل سيسمحون بالسفاح العلني أم سيحكمون أن رجل وامرأة زوج واحد ولا يمكن المشاركة، هل سيعودون المريض أم سيطعمونه للوحوش، هل سيعطفون على الحيوانات أم سيعذبونها، هل سيعيشون حتى النهاية أم سينتحرون باكراً، هل سيعطفون على كبيرهم أم سيأكلونه، وغيرها من السُلُوكيات التي ندّعي أنّ ليس للدين علاقة بها وأنها مُجرَّد فطرة.

لا يمكن الاعتماد على البشرية، فقد رأيناها في الحرب العالمية، رأيناها في قدر سكان أفريقيا في عيون رواد أوروبا، في الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، في مئات النماذج المخزية، بل رأيناها في الحياة اليومية فقد أظهرت بيانات قدمتها منظمة أمريكية مدنية أنّ الولايات المتحدة تشهد جريمة اعتداءٍ جنسي كل 98 ثانية، وفي كل ثماني دقائق يكون ضحية الاعتداء طفل [173]، البشرية معيوبة وستبقى كذلك، إنها بحاجة إلى من يذكرها بالاستقامة.

ولكن، هل قولي إننا بحاجة إلى الدين هو من باب التبرير كما عادة العقل البشري؟ التبرير ليشعر بالراحة ويبتعد عن القتال، لا أعلم حقيقة، لكن حينما فكرت بالابتعاد عن الدين تكاثفت كل العوامل في عقلي لتبرر أنّ الدين سيء، ثم حين سرت في سيناريوهات عدم وجود الدين، عدت وفكرت في الدين أكثر، وتعاضدت كل العوامل من جديد في صالح الدين بتفكير أوسع من السابق، إن شئت سمِّه تبريراً ولن أعترض، فأنا وغيري لم نحل لغز العقل البشري بعد، ولا نعلم حقيقة منبع الأفكار من الأساس لنحدد هل الفكرة أصيلة أم تبريرية.

جميعنا نفضل الراحة والنوم والكسل، لكنّ الالتزام في العمل والمواعيد والوعود أمر مهم لتحقيق أي نجاح في الحياة، والدين هو أكبر حافز لتنظيم المواعيد وتعويد الإنسان على الالتزام، لديك مواعيد مُحددة للصلاة، للصيام، للحج، لديك التزامات يومية وأسبوعية وشهرية وسنوية، لديك الكثير من البُنود لكي ترتبط بها بدرجة عالية من الانضباط والالتزام حتى تصبح عزيزي الإنسان أقرب إلى الكائن الأسمى.

إذا سمح الإنسان لنفسه أن ينتهك القوانين أو الشرائع كلما دفعته شهواته لهذا الأمر، فأي قيمة للدين أو القوانين حينها!، وإذا لم يقف الدين حائلاً أمامك إذا أردت اتباع شهوتك في السرقة أو الزنا أو المتعة أو الكذب أو القتل، وشعرت بضيق شديد من الدين لأنه منعك رغم رغبتك الشديدة للفعل، فلا قيمة للدين حينها عندك، إنّ الدين وُجد لهذا الغرض.

عندما تتمرد الرغبة على قسوة المبادئ، تظهر أهمية طاعة المبادئ: إنها بالقوة الخارجية من تعصم هذا التمرد الذي سيردي الإنسان إلى ما هو عكس مطلوب منه فيما لو استجاب له في لحظة ضعف.

كم رجل يرغب امرأة لا تحل له وكم امرأة يحثها جسدها أن تستجيب لنداء الطبيعة، فتستسلم لفكرة أنها خُلقت لشاب وحالت بينهما الأقدار! فما الذي سيمنع أياً منهما من الاستجابة لهذه الرغبة الجامحة، يظهر الدين أو المبادئ القاسية مثل أب رحيم يمسك بتلابيب ابنه، بل يصفعه إذا اقتضى الأمر، ليمنع وقوعه في حفرة لا مخرج منها.

إنّ المبادئ لم تُخلق للأوقات الميسورة فحسب، لم تُخلق للحظات التي تغيب فيها الغواية والإغراء، بل خُلقت لهذه اللحظات أيضاً، خُلقت لتقيدك فتحرمك من الاستجابة لغواية الهاوية، لم تُخلق المبادئ للإنسان الذي لا يشتهي الجنس، ولا يثور مغيظاً، ولا يغار لسبب من الأسباب، لقد خُلقت للبشر، خُلقت للمرأة الجميلة المشتهاة المشتهية، وللرجل الغضوب القادر، وللإنسان الغيور الذي يلتهب لأدنى بارقة مس بالكرامة، لم تُخلق المبادئ إلا، للبشر الحقيقيين، إنّ المبادئ تحميك أنت أولاً، ولو رغم أنفك، وتحمي المجتمع كذلك[147].

يُهوّن عليك الدين عند المصيبة فيخبرك ألا تقلق كثيراً فالمستقبل مكتوب بيد الله، ومصيبتك هذه أنت مأجورٌ عليها، ليس عليك الانتحار أو البكاء ليل نهار، بل عليك أن تسعى لحلها مع الصبر، نرى أنّ الدين يكمل الأحجية ويضع الحجر الأخير في البناء وهو لازم في كل مكان، وهذه بعض أمثلة أهمية الدين في الحياة.


اترك تعليقاً